قال يوسف بن أسباط : دخلت على سفيان فبكى ليله أجمع فقلت بكاؤك هذا على الذنوب فحمل تبناً ، وقال : الذنوب أهون على الله تعالى من هذا إنما أخشى أن يسلبني الله الإسلام فكل الرسل والأبدال والأولياء مع كل هذا الاجتهاد في الطاعة ، والحذر عن المعصية فأي شيء تقول أما كان لهم حسن الظن بالله قال بلى فإنهم كانوا أعلم بسعة رحمة الله وأحسن ظن بجوده منك ، ولكن علموا أن ذلك دون الاجتهاد أمنية وغرور جعلنا الله وإياكم من العالمين بكتابه والواصلين إلى جنابه دون من نسي الله واتبع هواه آمين آمين ألف آمين.
{إِنَّ رَبَّكُمُ} الخطاب لكفار مكة المتخذين أرباباً.
والمعنى (بدرستى كه روردكارشما) على التحقيق.
{اللَّهِ} (خدا ييست) جامع جميع صفات كمال.
{الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} لا على مثال سبق {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي : في ستة أوقات ولو شاء لخلقها في أسرع من لحظة ولكنه علم عباده التأني في الأمور.
وفي "المثنوي" :
مكر شيطانست تعجيل وشتاب
خوى رحمانست صبر واحتساب
باتأنى كشت موجود از خدا
تابشش روز اين زمين ورخهاورنه قادر بود كز كن فيكون
صد زمين ورخ آوردى برون
اين تأني ازى تعليم تست
صبركن دركار دير آى ودرست
قالوا : لا يحسن التعجيل إلا في التوبة من الذنوب ، وقضاء الدين بعد انقضاء مدته ، وقرى الضيف ، وتزويج البكر بعد بلوغها ، ودفن الميت ، والغسل من الجنابة.
واعلم : أن الله تعالى بالقادرية والخالقية أوجد السموات والأرض وبالمدبرية والحكيمية خلقها في ستة أيام ، وإنما حصر في الستة أنواع المخلوقات الستة ، وهي الأرواح المجردة ، والثاني : الملكوتيات فمنها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات ، ومنها العقول المفردة والمركبة ، والثالث : النفوس كنفوس الكواكب ونفس الإنسان ونفس الحيوان ونفس النبات والمعادن ، والرابع : الإجرام وهي البسائط العلوية من أجسام اللطيفة كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار ، والخامس : الأجسام المفردة وهي العناصر الأربعة ، والسادس : الأجسام المركبة الكثيفة من العناصر فعبر عن خلق كل منها بيوم وإلا فالأيام الزمانية لم تكن قبل خلق السموات والأرض.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} العرش يطلق على السرير الذي يجلس عليه الملوك وعلى كل ما علاك وأظل عليك ، وهو بهذين المعنيين مستحيل في حقه تعالى فجعل الاستواء على العرش كناية عن نفس الملك والعز والسلطنة على طريق ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، فالمعنى بعد أن خلق الله عالم الملك
174
في ستة أيام كما أراد استوى على الملك وتصرف فيه كيف شاء فحرك الأفلاك وسير الكواكب وكور الليالي والأيام ودبر أمر مصنوعاته على ما تقتضته حكمته ، وهذا معنى قول القاضي استوى أمره ، أي : استقر أمر ربوبيته وجرى أمره وتدبيره ونفذ قدرته في مصنوعاته وتخصيص العرش ؛ لأنه أعظم المخلوقات فإنه الجسم المحيط بجميع الأجسام فالاستواء عليه استواء على ما عداه أيضاً من الجنة والنار والسموات والعناصر وغيرها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
وفي "التفسير الفارسي" : {ثُمَّ اسْتَوَى} (س قصد كرد على العرش بآفرينش عرش).
قال الحدادي : ويقال ثم هنا بمعنى الواو على طريق الجمع والعطف دون التراخي فإن خلق العرش كان قبل خلق السموات والأرض وقد ورد في الخبر "إن أول شيء خلق الله القلم ثم اللوح فأمر الله القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق العرش ثم خلق حملة العرش ثم خلق السموات والأرض".
قال شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة : المراد بهذا الاستواء استواؤه سبحانه ، لكن لا باعتبار نفسه وذاته تعالى علواً كبيراً عما يقول : الظالمون ، بل باعتبار أمره الإيجادي وتجليه التجلي الأحدي المعبر عنه في القرآن بالحق ، واستواء الأمر الإرادي الإيجادي على العرش بمنزلة استواء الأمر التكليفي الإرشادي على الشرع ، فكما أن كل واحد من الأمرين قلب الآخر وعكسه المستوي السوي ، فكذلك كل واحد من العرش والشرع قلب الآخر وعكسه السوي المستوي انتهى باختصار.
(3/132)
قال في "التأويلات النجمية" : لما أتم خلق المكونات من الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم ، وما فيه التدبر في أموره من العرش إلى تحت الثرى وإنما خص العرش بالاستواء ؛ لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابلة للفيض الرحماني وهذا الاستواء صفة من صفات الله تعالى لا يشبه استواء المخلوقين ، كالعلم صفة من صفاته لا يشبه علم المخلوقين ؛ إذ ليس كمثله شيء وهو السميع العليم ولو أمعنت النظر في خصوصية خلافتك الحق تعالى لعرفت نفسك فعرفت ربك وذلك أن الله تعالى لما أراد خلق شخصك من النطفة المودعة في الرحم استعمل روحك بخلافته ليتصرف في النطفة أيام الحمل فيجعلها عالماً صغيراً مناسباً للعالم الكبير ، فيكون بدنه بمثابة الأرض ورأسه بمثابة السماء وقلبه بمثابة العرش وسره بمثابة الكرسي وهذا كله بتدبير الروح وتصرفه خلافة عن ربه ، ثم استوى الروح بعد فراغه من الشخص الكامل على عرش القلب استواء مكانياً ، بل استوى ليتصرف في جميع أجزاء الشخص ويدبر أموره بإفاضة فيضه على القلب فإن القلب هو القابل لفيض الحق تعالى إلى المخلوقات كلها كما أن القلب مغتنم فيض الروح إلى القالب كله ، فإذا تأملت في هذا المثال تأملاً شافياً وجدته في نفي الشبيه عن الصفات المنزهة المقدسة كافياً وتحققت حقيقة من عرف نفسه فقد عرف ربه إن شاء الله تعالى.
ثم إنه تعالى لما ذكر استواءه على العرش وأخبر بما أخبر من نفاذ أمره واطراد تدبيره بين ذلك بطريق الاستئناف فقال : {يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ} أي : يجعل الليل غاشياً يغشي النهار بظلمته فيذهب بنور النهار ويغطيه بظلمة الليل ولم يذكر العكس اكتفاء بأحد الضدين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
وفيه إشارة إلى ليل ظلمات النفس عند استيلاء صفاتها وغلبات هواها على نهار أنوار القلب وإلى نهار القلب عند غلبات أنواره واستيلاء المحبة عليه.
{يَطْلُبُه حَثِيثًا} حال من الليل أي يجعل الليل غاشياً للنهار حال كون الليل طالباً أي : لمجيئه
175
عقيب الليل سريعاً ، وحثيثاً منصوب على أنه صفة مصدر محذوف ، أي : يطلبه طلباً حثيثاً ، أي : سريعاً ولما كان كل واحد من الليل والنهار يعقب الآخر ويجيء بعده من غير أن يفصل بينهما بشيء صار كأنه يطلب الآخر على منهاج واحد.
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِهِ} عطف على السموات أي خلق كل هذه المخلوقات حال كونها مسخرات بقضائه وتصرفه أي مذللات لما يراد منها من الطلوع والأفول والحركات المقدرة والأحوال الطارئة عليها {إِلا} تنبيه معناه اعلموا {لَهُ} أي : تعالى والتقديم للتخصيص.
{الْخَلْقُ وَالامْرُ} فإنه الموجد للكل والمتصرف فيه على الإطلاق.
وفي "التأويلات النجمية" : ما خلق بأمره تعالى من غير واسطة أمر وما خلق بواسطة خلق.
وذكر الإمام أن العالم وهو ما سوى الله تعالى منحصر في نوعين : عالم الخلق وعالم الأمر ، وأن المراد بعالم الخلق عالم الأجساد والجسمانيات وبعالم الأمر عالم الأرواح والمجردات ، وإن قوله تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ} إشارة إلى هذين العالمين عبر عن العالم الأول بعالم الخلق لأن الخلق عبارة عن التقدير وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فعبر عنه بعالم الخلق وكل ما كان مجرداً عن الحجم والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر مكونات بمجرد أمركن فخص كل واحد منهما باسم مناسب له ، وقيل ألا له الخلق والأمر انتهى كلام الإمام.
وقال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : الخلق عالم العين والكون والحدوث روحاً وجسماً والأمر عالم العلم والآلة والوجوب وعالم الخلق تابع لعالم الأمر إذ هو أصله ومبدؤه {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) والله غالب على أمره.
{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} أي : تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظيم بالتفرد في الربوبية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
(3/133)
قال ابن الشيخ : أي تعاظم الإله الواحد الموجد للكل المتصرف فيه بالربوبية رد به على الكفرة الذين كانوا يتخذون أرباباً فدعاهم إلى التوحيد بالحكمة والحجة وصدر الآية بأن ردا لإنكارهم فقال إن ربكم المستحق للربوبية ليس إلا احداً ، وهو الله الموجد للكل على الترتيب المحكم المتقن الدال على كمال العلم والحكمة والقدرة ، وهو الذي أنشأ ملكه على ما يشاهد ثم أخذ في تدبيره كالملك المتمكن في مملكته بتدبير ملكه انتهى يروى أن الصاحب ابن عباد كان يتردد في معنى الرقيم وتبارك والمتاع ويدور على قبائل العرب ، فسمع امرأة تسأل أين المتاع ويجيب ابنها الصغير بقوله جاء الرقيم أي الكلب وأخذ المتاع وتبارك الجبال فاستفسر منهم وعرف أن الرقيم هو الكلب ، وأن المتاع هو ما يبل بالماء فيمسح به القصاع ، وأن (تبارك) بمعنى صعد وتعالى وفي الحديث : "من لم يحمد الله على عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر ، وحبط عمله ومن زعم أن الله خلق للعباد من الأمر سبباً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه" لقوله تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ} قال الشاعر :
إلى الله كل الأمر في خلقه معا
وليس إلى المخلوق شيء من الأمر {ادْعُوا رَبَّكُمْ} بمعنى المربي من التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً وهو تعالى مربي الظواهر بالنعمة وهي النفوس ، ومربي البواطن بالرحمة وهي القلوب ومربي نفوس العابدين بأحكام الشريعة ، ومربي قلوب المشتاقين بآداب الطريقة ، ومربي أسرار المحبين بأنوار الحقيقة وهو أي الرب اسم الله الأعظم ولذلك كل اسم قلبته بطل معناه إلا الرب فإن مقلوبه البر
176
وهو من أسمائه تعالى وإليه يشير ما روي عن الخضر عليه السلام أنه قال الاسم الأعظم ما دعا به كل نبي وولي وعدو أشار إلى أنه مقدمة دعوات الأنبياء نحو : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) الآية ونحوه والصحابة نحو {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} (آل عمران : 191) الآيات والأعداء نحو {رَبِّ فَأَنظِرْنِى} (الحجر : 36).
{رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} (السجدة : 12) {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} التضرع (زارى كردن) كذا في "تاج المصادر" يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة من باب فتح أي خضع وذل وهما حالان من فاعل ادعوا أي متضرعين متذللين مخفين الدعاء ليكون أقرب إلى الإجابة لكون الإخفاء دليل الإخلاص والاحتراز عن الرياء روي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا في غزوة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصوتهم فقال عليه السلام لهم "اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً قريباً وإنه لمعكم" أي : بالعلم والإحاطة وفي الحديث استحباب الإخفاء في ذكر الله لكن ذكر شارح "الكشاف" إن هذا بحسب المقام ، والشيخ المرشد قد يأمر المبتدي برفع الصوت لينقلع عن قلبه الخواطر الراسخة فيه كذا في "شرح المشارق" لابن الملك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
قال حسين الكاشفي في "الرسالة العلية" : (أي درويش قومي كه كمين كاه نفس را ديدند ودانستند ذكر بجهر كفتن مناسب نديدند كه بريا انجامد ومخفى بذكر مشغول شدند وقول حق تعال راكه).
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف : 205) (كار بستند وجمعي كه بمرتبه اخلاص رسيدند وباطن خودرا از ريا اك يا فتند ذكررا بجهر كفتند وهريكى را ازين وطائفه بر عمل خود دلائل است).
وفي "المثنوي" :
كفت ادعوا الله بي زاري مباش
تا بيايد فيضهاى دوست فاش
تا ساقاهم ربهم آيد خطاب
تشنه باش الله أعلم بالصواب
وعن عمر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا رفع يديه في الدعاء لا يردهما حتى يمسح بهما وجهه" وذلك ليصل شيء من البركة الفائضة على اليد إلى الوجه كما قال تعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وذلك المسح في الحقيقة رجوع إلى الحقيقة الجامعة فإن الوجه هو الذات كما قال في "الأسرار المحمدية" : إن الإنسان حال دعائه متوجه إلى الله تعالى بظاهره وباطنه ولذا يشترط حضور القلب فيه وصحة الاستحضار فسر الرفع والمسح أن اليد الواحدة مترجمة عن توجهه بظاهره ، واليد الأخرى عن توجهه بباطنه واللسان مترجم عن جملته ومسح الوجه هو التبرك والتنبيه على الرجوع إلى الحقيقة الجامعة بين الروح والبدن ؛ لأن وجه الشيء حقيقته والوجه الظاهر مظهرها ، وقال أيضاً : السنة للداعي في طلب الحاجة له أن ينشرهما يعني : كفيه إلى السماء ، وللمكروب أن ينصب ذراعيه حتى يقابل بكفيه وجهه وإذا دعا على أحد أن يقلب كفيه ويجعل ظهرهما إلى السماء والسنة أن يخرج يديه حين الدعاء من كميه.
(3/134)
قال سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي : دعوت الله ليلة فأخرجت إحدى يدي والأخرى ما قدرت على إخراجها من شدة البر فنمت فرأيت في منامي أن يدي الظاهرة مملوءة نوراً والأخرى فارغة فقلت ولم ذاك يا رب فنوديت اليد التي خرجت للطلب ملأناها والتي توارت حرمناها ، ورفع الأيدي إلى السماء والنظر إليها وقت الدعاء بمنزلة أن يشير سائل
177
إلى الخزانة السلطانية ، ثم يطلب من السلطان أن يفيض عليه سجال العطاء من هذه الخزانة قال تعالى : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات : 22) فالسماء قبلة الدعاء ومحل نزول البركات والأفضل أن يبسط كفيه ويكون بينهما فرجة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
وإن قلت : ولا يضع إحدى يديه على الأخرى فإن كان وقت عذر أو برد فأشار بالمسبحة قام مقام بسط كفيه.
والمستحب أن يرفع يديه عند الدعاء بحذاء صدره كذا روي بن عباس رضي الله عنهما فعل النبي عليه السلام كذا في "القنية" {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق كرتبة الأنبياء والصعود إلى السماء وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل ، ثم قرأ إنه لا يحب المعتدين" فاللائق للداعي أن يدعو بأهمّ الأمور هو الفوز بالجنة والنجاة من النار كما قال النبي عليه السلام للأعرابي الذي قال إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار إني لا أعرف دندنتك ولا دندنة معاذ وقال : "حولهما ندندن" ومعناه إني لا أعرف ما تقول أنت ومعاذ يعني من الأذكار والدعوات المطولة ولكني أختصر على هذا المقدار فأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ومعنى قوله عليه السلام : "حولهما ندندن" إن القصد بهذا الذكر الطويل الفوز بهذا الأجر الجزيل {وَلا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} بالكفر والمعاصي {بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} ببعث الأنبياء وشرع الأحكام.
قال الحدادي وقيل : معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك المطر عنها ويهلك الحرث بمعاصيكم {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} مصدران في موقع الحال أي خائفين من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطامعين في إجابته تفضلاً وإحساناً لفرط رحمته {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} وتذكير قريب مع أنه مسند إلى ضمير الرحمة لتأويل الرحمة بالرحم فإن الرحم بضم الراء بمعنى الرحمة قال الله تعالى : {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (الكهف : 81) قال الكسائي : أراد أن إتيان رحمة الله قريب كقوله : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (الأحزاب : 63) أي : لعل إتيانها والمعنى إن رحمة الله قريب من الداعين بلسان ذاكر شاكر وقلب حاضر طاهر وترجيح للطمع وتغليب لجانب الرحمة وتنبيه على وسيلة الإجابة أعني الإحسان المفسر "بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وفي الحديث : "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" يعني : ليكن الداعي ربه على يقين بأن الله يجيب لأن رد الدعاء إما للعجز في إجابته أو لعدم كرم في المدعو أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي وهذه الأشياء منتفية عن الله تعالى فإنه عالم كريم قادر لا مانع له من الإجابة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
قال سهل : ما أظهر عبد فقره إلى الله تعالى في وقت الدعاء في شيء يحل به إلا قال الله تعالى لملائكته لولا أنه لا يحتمل كلامي لأجبته لبيك حكي أن موسى عليه السلام مرّ برجل يدعو ويتضرع فقال موسى لو كانت حاجته بيدي لقضيتها فأوحى الله تعالى إليه أنا أرحم به منك ولكنه يدعوني وله غنم وقلبه في غنمه وأنا لا أقبل دعوة عبد قلبه عند غيري فذكر ذلك للرجل فتوجه إلى الله بقلبه فقضيت حاجته فيلزم حضور القلب وحسن الظن بالله في إجابة الدعاء وحكي عن بعض البله وهو في طواف الوداع أنه قال له رجل وهو يمازحه
178
هل أخذت من الله براءتك من النار فقال الأبله لا وهل أخذ الناس ذلك فقال : نعم فبكى ذلك الأبله ودخل الحجر وتعلق بأستار الكعبة وجعل يبكي ويطلب من الله أن يعطيه كتابه بعتقه من النار فجعل أصحابه والناس يلومونه ويعرفونه أن فلاناً مزح معك وهو لا يصدقهم بل بقي مستقراً على حاله فبينا هو كذلك إذ سقطت عليه ورقة من جهة الميزاب فيها مكتوب عتقه من النار فسرّ بها وأوقف الناس عليها وكان من آية ذلك الكتاب أن يقرأ من كل ناحية على السواء لا يتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها فعلم الناس أنه من عند الله.
(3/135)
قيل : دعاء العامة بالأقوال.
ودعاء الزاهدين بالأفعال.
ودعاء العارفين بالأحوال وإذا وفق الله عبداً إلى نطق بأمر مّا فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته وعدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند أهل الطريقة لأنه كالمقاومة مع الله ودعوى التحمل لمشاقه كما قال الشيخ المحقق ابن الفارض قدس سره :
ويحسن إظهار التجلد للعدى
ويقبح غير العجز عند الأحبة قال الحافظ :
فقير وخسته بدركاهات آمدم رحمي
كه جزدعاى توام نيست هي دست آويز
(ودرمناجات شيخ الإسلام است كه خدايا اكر وفاداران بتواميد دارند جفا كاران نيز بغير توناهى ندارند).
والإشارة أن التضرع ما يطلع عليه الخلق والخفية ما يطلع عليه الحق أي تضرعاً بالجوارح وخفية بالقلوب والاعتداء في الدعاء طلب الغير منه والرضى بما سواه ولا تفسدوا في الأرض أي في أرض القلوب بعد إصلاحها أي بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط بينه وبين القلوب فإن فساد القلوب في رؤية غير الحق وصلاحها في رؤية الحق ويقال من إفساد القلوب بعد إصلاحها إرسالها في أودية المنى بعد إمساكها عن متابعة الهوى ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق وادعوه خوفاً من الانقطاع وطمعاً في الاصطناع أن رحمة الله وهي بذل المتمني قريب من المحسنين الذين يرون الله في الطاعات أي يعبدونه طمعاً فيه لا منه كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
{وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} كل ما كان في القرآن من ذكر الرياح فهو للرحمة ، وما كان من ذكر الريح فهو للعذاب ، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح ويقول : "اللهم اجعلها لنا رياحاً ولا تجعلها ريحاً ، اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك" ، وفي الحديث : "لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون ، فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به".
قال بعض المشايخ : لا تعتمد على الريح في استواء السفينة وسيرها وهذا شرك في توحيد الأفعال وجهل بحقائق الأمور ، ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه يعلم أن الريح لا تتحرك بنفسها بل لها محرك والمحرك له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا يتحرك هو في نفسه أيضاً ، بل هو منزه عن ذلك وعما يضاهيه سبحانه.
{بَشَرًا} تخفيف بشر بضمتين جمع بشير نحو رغيف ورغف ، أي : مبشرات.
{بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} أي : قدام رحمته التي هي المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدرّه والدبور
179
تفرقه.
الصبا : ريح تهب من موضع طلوع الشمس عند استواء الليل والنهار ، والدبور : ريح تقابل الصبا أي تهب من موضع غروب الشمس.
والشمال بالفتح : الريح التي تهب من ناحية القطب ، والجنوب : الريح التي تقابل الشمال والجنوب تدر السحاب ، أي : تستحلبه قال ابن عباس رضي الله عنهما : يرسل الله الرياح فتحمل السحاب فتمريه كما يمري الرجل الناقة والشاة حتى تدر ، وفي الآية إطلاق الرحمة على المطر ، فقول : من قال إني أفر من الرحمة محمول على المطر {حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ} غاية لقوله : يرسل
جزء : 3 رقم الصفحة : 179
{سَحَابًا} أي : حملته ورفعته باليسر والسهولة بأن وجدته خفيفاً قليلاً يقال أقللت كذا ، أي : حملته بالسهولة ومن حمل الشيء بسهولة لا شك أنه يعده قليلاً فلذلك اشتق هذا الفعل من القلة {ثِقَالا} جمع ثقيل أي بالماء جمعه مع كونه وصفاً للسحاب ، لأن السحاب اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها فيكون بمعنى الجمع ، أي : السحائب.
والسحاب : هو الغيم الجاري في السماء.
{سُقْنَـاهُ} من السوق والضمير للسحاب والإفراد باعتبار اللفظ والمعنى بالفارسية (برانيم ما آن ابررا).
{لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي : لإحياء بلد لا نبات فيه والبلد يطلق على كل موضع من الأرض سواء كان عامراً ، أي : ذا عمارة أو غير عامر خالياً أو مسكناً والطائفة منها بلدة والجمع بلاد.
{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ} أي : بالبلد والباء للإلصاق أي التصق إنزال الماء بالبلد.
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي : بسبب ذلك الماء {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي : من كل أنواعها والظاهر أن الاستغراق عرفي {كَذَالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النباتية فيه وتطريته بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأجداس ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بطرح إحدى التاءين ، أي تتذكرون فتعلمون أن من قدر على هذه من غير شبهة.
(3/136)
قال ابن عباس وأبو هريرة : إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى مطرت السماء أربعين يوماً قبل النفخة الأخيرة مثل مني الرجال فينبتون من قبورهم بذلك المطر ، كما ينبتون في بطون أمهاتهم وكما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية ، وهي نفخة البعث جاشوا وخرجوا من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم ، كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون : من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
والإشارة في الآية : أن الرياح رياح العناية ، والسحاب سحاب الهداية ، والماء ماء المحبة فيخرج الله تعالى بهذا الماء سمرات المشاهدات والمكاشفات وأنواع الكمالات ، كذلك نخرج الموتى ، أي موتى القلوب من قبور الصدور لعلكم تذكرون ، أي : تذكرون أيام حياتكم دون حياض الأنس ورياض القرب عند حظائر القدس.
جزء : 3 رقم الصفحة : 179
واعلم : أن العمدة هي العناية الأزلية ، وهي تصل إلى العباد في الخلا والملا حكي أنه قيل لولي من أولياء الله تعالى : اذهب إلى دار الشرك فإن فيها صديقاً فكان ذلك الولي يقدر على الاختفاء فذهب إلى دار المشركين فأسره مشرك وباعه لخادم كنيسة فخدم فيها زماناً بالصدق ، فجاء السلطان يوماً إلى الكنيسة فخلاها ثم صلى فاستتر الولي ثم ظهر للسلطان ، فقال : من أنت؟ قال : مسلم مثلك ، وقيل للولي
180
هو الصديق ، ثم سأل الولي ذلك السلطان الصديق عن حاله ، فقال : في أحسن الأحوال وأرغد عيش آكل الرزق الحلال ، وأعبد خالصاً عن الرياء وأقتل الكفار وأعين المسلمين بحيث لو كنت سلطانهم ما قدرت ، ثم خرج من الكنيسة وقعد عند بابها فسأل عني البطارقة والرهبان والخدام ، ثم قتل الكل ، وقال : تتكبرون عن خدمة بيت الرب بأنفسكم وتستخدمون غير أهل الملة ، ثم خلى سبيلي وفي هذه الحكاية إشارة إلى أن الله تعالى إذا أراد أهلك العدو بأدنى سبب من حيث لا يحتسب فإن له ألطافاً خفية.
قال الحافظ :
تيغى كه آسمانش ازفيض خوددهد آب
تنها جهان بكيرد بى منب ساهى
وقال أيضاً :
دلا طمع مبراز لطف بى نهايت دوست
كه ميرسد همه را لطف بى نهايت او
فنظر أهل التوحيد وأرباب البصيرة إلى المؤثر الحقيقي والفيض الأزلي لا إلى الخلق والوسائط والأسباب ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين فازوا بالسعادة الأبدية والعناية السرمدية ، ويسلك بنا مسلك الحقيقة والطريقة الأحمدية إنه هو البر الرحيم.
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} أي : الأرض الكريمة التربة.
وفي "التفسير الفارسي" : (وزمين اك ازسنك وريك كه شايسته وصالح زراعت باشد).
{يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّهِ} بمشيئته وتيسيره ما أذن الله في خروجه لا يكون إلا أحسن أكثر عزيز النفع.
{وَالَّذِى خَبُثَ} والبلد الذي خبث ترابه كالحرة والسبخة.
الحرة : أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار ، والسبخة : الأرض المالحة التي لا تنبت شيئاً.
{لا يَخْرُجُ} نباته في حال من الأحوال.
{إِلا} في حال كونه {نَكِدًا} قليلاً عديم النفع فهو مستثنى مفرغ من أعم الأحوال.
والنكد بكسر الكاف القليل الخير الممتنع عن إفادة النفع على جهة البخل والضنة والمصدر النكد بفتحتين ، يقال نكد عيشهم بكسر الكاف ينكد بالفتح نكداً إذا اشتد عيشهم وضاق.
{كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك التصريف البديع.
{نُصَرِّفُ الايَـاتِ} نرددها ونكررها {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وتخصيصهم بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها كقوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) والآية مثل لإرسال الرسل عليهم السلام بالشرائع التي هي ماء حياة القلوب إلى المكلفين المنقسمين إلى المقتبسين من أنوارها والمحرومين من مغانم آثارها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 179
وفي "التفسير الفارسي" : (هركاه كه باران مواعظ ازسحاب كلام رب الأرباب بردل مؤمن بارد أنوار طاعات وعبادات برجوارح أو ظاهر كرد ون كافر استماع سخن كند زمين دلش تخم نصيحت قبول نكند ازو هي صفت كه بكار آيددر ظهور نيايد).
قال السعدي قدس سره :
زمين شوره سنبل برنيارد
دروتخم عمل ضايع مكردان
وقال الحافظ قدس سره :
كوهر اك بيايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلى لؤلؤ ومرجان نشود
وعن عبد الله بن مهران قال : حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ، ثم أمر بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج فجلس بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به ؛
181
(3/137)
إذ أقبلت هوادج هارون فكف صبيان عن الولوع به ، فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ، فكشف هارون السجاف بيده وقال لبيك يا بهلول فقال : يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يمضي على جمل وتحته رحل رث فلم يكن ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك ، فبكى هارون حتى سقطت الدموع على الأرض وقال يا بهلول زدنا يرحمك الله فقال :
هب أنك قد ملكت الأرض طرا
وأن لك العباد فكان ما ذا
أليس غداً مصيرك جوف قبر
ويحثو الترب هذا ثم هذا فبكى هارون ثم قال : أحسنت يا بهلول هل غيره قال نعم يا أمير المؤمنين رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق في ماله وعفّ في جماله كتب في خالص ديوان الله من الأبرار ، فقال : أحسنت يا بهلول ثم أمر له بجائزة فقال : اردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها ، قال : يا بهلول إن يكن عليك دين قضيناه قال : يا أمير المؤمنين لا يقضى دين بدين.
رد الحق إلى أهله واقض دين نفسك يا أمير المؤمنين من نفسك قال : يا بهلول فنجري عليك ما يكفيك فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال : يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله تعالى فمحال أن يذكرك وينساني فأسبل هارن السجاف ومضى.
والمقصود من هذه الحكاية بيان استماع هارون الحق وقبوله وذلك لأنه كان كالمكان الزاكي وقلبه حياً بالحياة الطيبة ، فلذا لم يخرج منه إلا الأخلاق الحميدة ، وأما أرض النفس الأمارة التي هي البلد الخبيث فلا يخرج منها إلا الأخلاق الذميمة والأفعال الرديئة فمن كان قلبه حياً بنور الله انعكس نور قلبه على نفسه فتنورت النفس فتبدلت أوصافها بأوصاف القلب وتلاشت ظلمتها بنور القلب فيطمئن إلى ذكر الله وطاعته ، كما هو من أوصاف القلوب وإن كان القلب ميتاً والنفس حية فظلمات صفات النفس تطل على القلب وتبدل صفاته بصفاتها عند استيلاء صفاتها عليه فيحصل اطمئنانه بالدنيا ، وما فيها نسأل الله تعالى أن يجعل اطمئناننا إلى ذكره وفكره وشكره ويجعلنا من الذين يعرفون قدر نعمة الله وحق المنعم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 179
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} جواب قسم محذوف تقديره : والله لقد أرسلنا نوحاً وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي بن يرد بن مهلا بيل بن قينان بن أنوش بن آدم عليهم السلام ، ونوح أول نبي بعد إدريس بعد شيث ، وكان نوح نجاراً بعثه الله إلى قومه على رأس أربعين سنة وكان عمره ألفاً ومائتين وأربعين سنة.
وفي "التفسير الفارسي" : {إِلَى قَوْمِهِ} (بسوى قوم او كه ثر أولاد قابيل بودند وبت مى رستيدند) وذلك أن قابيل لما قتل أخاه هابيل طرده آدم فسكن مع أولاده وأتباعه في اليمن وهو أول من عبد الصنم.
{فَقَالَ} أي : نوح يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده فإن العبادة بالإشراك ليس من العبادة في شيء.
{مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ} أي : من مستحق للعبادة وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء ، ومن زائدة في المبتدأ والخبر لكم.
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي : إن لم تعبدوه حسبما أمرت به وهو بيان للداعي إلى عبادته.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي : عذاب يوم القيامة أو يوم الطوفان.
{قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ}
182
استئناف ، أي الرؤساء من قومه والأشراف الذين يملؤون صدور المحافل بأجرامهم والقلوب بجلالهم وهيبتهم والأبصار بجمالهم وبهجتهم.
{إِنَّا لَنَرَاـاكَ} يا نوح {فِى ضَلَـالٍ} ذهاب عن طريق الحق والصواب لمخالفتك لنا والرؤية قلبية {مُّبِينٌ} بين كونه ضلالاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 182
{قَالَ} استئناف أيضاً يا قَوْمِ} ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لقلوبهم نحو الحق.
{لَيْسَ بِى} الباء للملابسة أو للظرفية {ضَلَـالَةٌ} بالغ في النفي حيث نفى عن نفسه ملابسة ضلالة واحدة ، أي ليس بي شيء من أفراد الضلال وجزئياته فضلاً عن أن يكون بي ضلال عظيم بين كما بالغوا في الإثبات حيث جعلوه مستقراً في الضلال الواضح كونه ضلالاً.
{وَلَـاكِنِّي رَسُولٌ} أي : رسول كائن {مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} فمن لابتداء الغاية مجازاً والرسالة يلزمها الهدى التام الغير القابل للضلال فاستدرك الملزوم ليكون كالبرهان على استدارك اللازم كأنه قال : ولكني على هدى كامل في الغاية ؛ لأني رسول من رب العالمين.
(3/138)
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى} الرسالة صفة واحدة قائمة بذات الرسول متعلقة بالإضافة إلى المرسل والمرسل إليه إلا أنها جمعت نظراً إلى تعددها بحسب تنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام ، أو لأن المراد بها ما أوحى إليه وإلى الأنبياء قبله كصحف شيث وهي خمسون صحيفة وصحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة.
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} زيادة اللام مع تعدي النصح بنفسه يقال نصحتك للدلالة على إمحاض النصح لهم وإنها لمنفعتهم ومصلحتهم خاصة ، فإنه ربَّ نصيحة ينتفع بها الناصح أيضاً وليس الأمر ههنا كذلك والفرق بين تبليغ الرسالة وتقرير النصيحة أن تبليغ الرسالة معناه ، أن يعرف أنواع تكاليف الله وأحكامه والنصيحة المراد بها الترغيب في الطاعة والتحذير من المعاصي والإرشاد إلى ما فيه مصالح المعاد.
قال الحدادي : النصح إخراج الغش من القول والفعل.
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي : أعلم من قدرته القاهرة وبطشه الشديد على أعدائه ، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام بالوحي.
{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر ، أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي أو موعظة من مالك أموركم ومربيكم.
{عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ} أي : على لسان رجل من جنسكم فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون لا مناسبة بينه تعالى وبين البشر من حيث أنه تعالى في غاية التقدس والتنزه والبشر في غاية التعلق والتكدر فأنكر عليهم نوح عليه السلام ؛ لأنه لا سبيل إلى أن يكلف الله البشر بنفسه من غير واسطة لأن حجاب العظمة والكبرياء يمنع من أن يتحقق بينهم الفيض والاستفاضة فتعين أن يكون التكليف بأن يرسل بشراً ذا جهتين يستفيض من عالم الغيب بجهة تجرده وصفاء روحانيته ويفيض لبني نوعه بجهة مشاركته لهم في الحقيقة النوعية.
{لِيُنذِرَكُمْ} علة للمجيء ، أي ليحذركم عاقبة الكفر والمعاصي.
{وَلِتَتَّقُوا} منها بسبب الإنذار.
{وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي : ولتتعلق بكم الرحمة بسبب تقواكم وفائدة حرف الترجي التنبيه على عزة المطلب وأن التقوى غير موجبة للرحمة ، بل هي منوطة بفضل الله تعالى وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 182
{فَكَذَّبُوهُ}
183
واستمروا على ذلك في هذه المدة المتطاولة ؛ إذ هو الذي يعقبه الإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب روي أن نوحاً عليه السلام دعا بهلاك قومه فأمره الله تعالى بصنع الفلك فلما تم دخل فيه مع المؤمنين فأرسل الله الطوفان وأغرق الكفار وأنجى نوحاً مع المؤمنين فذلك قوله تعالى : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة.
{فِى الْفُلْكِ} متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف ، أي والذين استقروا معه في الفلك.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي : استمروا على تكذيبها وليس المراد بهم الملأ المتصدين للجواب فقط ، بل كل من أصر على التكذيب منهم ومن أعقابهم ، وتقديم ذكر الإنجاء على الإغراق للإيذان بسبق الرحمة التي هي مقتضى الذات وتقدمها على الغصب الذي يظهر أثره بمقتضى جرائمهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} أصله عميين جمع عم أصله عمى على وزن خضر فأعل كإعلال قاضضٍ.
قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصيرة وأعمى في البصر ، والمعنى عمين قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد غير مستبصرين وهذا العمى مانع عن رؤية الآيات ومشاهدة البينات.
قال الحافظ :
جمال يار ندارد نقاب ورده ولى
غبار ره بنشان تا نظر توانى كرد
بخلاف أعمى البصر إذا كان مستعداً للنظر فإنه كم من أعمى قادر على الرؤية من حيث الحقيقة.
قال الصائب :
دل و بينا ست ه غم ديده اكرنا بيناست
خانه آيينه را روشنى از روزن نيست
(3/139)
وفي الآية : إشارة ، إلى نوح الروح الذي أرسله الله إلى قومه ببلاد القالب وهو القلب وصفاته والنفس وصفاتها ، ومن صفة الروح العبودية والطاعة ودعوة القلب والنفس وصفاتهما إلى الله وعبوديته ، ومن صفات النفس وشأنها تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن قبول نصحه والروح يحذر قومه من عبادة الدنيا وزينتها لئلا يحرموا من مساعدة الرحمة فكذبه قومه من النفس وصفاتها ، فأنجينا الروح من ظلمات النفس وتمردها والذين معه وهم القلب وصفاته الذين قبلوا دعوة نوح الرسول وركبوا معه في الفلك ، وهو فلك الشريعة والدين فأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أي النفس وصفاتها في بحر الدنيا وشهواتها إنهم كانوا قوماً عمين عن رؤية الله والوصول إليه هذه حال الأنفس والآفاق وأهليهما ، ولو أصغوا إلى داعي الحق واجتنبوا عما ارتكبوا لنجوا كما حكي أن الشيخ بقا رضي الله عنه كان يوماً جالساً على شط نهر الملك فمرت به سفينة فيها جند ومعهم خمر وفواكه ونساء متبرجات وصبيان ومغاني وهم في غاية من اللهو والطغيان فقال الشيخ بقا للملاح اتق الله وقدم إلى الله ، فلم يلتفتوا إلى كلامه ، فقال : أيها النهر المسخر خذ الفجرة فنما الماء عليهم حتى طلع إلى السفينة فأشرفوا على الغرق فصاحوا بالشيخ وأعلنوا بالتوبة فعاد الماء إلى حاله وحسنت توبتهم وكانوا بعد ذلك يكثرون من زيارته.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 182
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب روان ناصح ما ازتوشاد باد
فعلى العاقل أن يقبل النصيحة ممن فوقه ودونه فإن النصيحة سهلة والمشكل قبولها ونعم ما قال السعدي قدس سره :
184
مردبايدكه كيرد اندر كوش
ورنوشت است ند برديوار
اللهم اجعلنا ممن قبل دعوتك ودخل جنتك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 182
{وَإِلَى عَادٍ} أي : وأرسلنا إلى عاد وهم قوم من أهل اليمن وكان اسم ملكهم عاداً فنسبوا إليه وهو عاد بن إرم بن سام بن نوح.
{أَخَاهُمْ} أي : واحداً منهم في النسب لا في الدين كقولهم يا أخا العرب.
{هُودًا} عطف بيان لأخاهم وهو هود بن عبد الله بن رياح بن خلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وإنما جعل الرسول من تلك القبيلة ، لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وأقرب إلى اتباعه {قَالَ} استئناف.
وفي "التفسير الفارسي" : (قبيله عاد مردم تن آور وبلند بالابودند واز ايشان درتمام روى زمين دران زمان قبيله عظيمة نبود ومردم بسيار بودند ومال فراوان داشتند وعمر در رستش بت مى كذرانيدند حق سبحانه وتعالى هودرا بديشان فرستاد س هود بميان قبيله آمد وايشانرا بحق دعوت كرد) قال : يا قَوْمِ} (أي : قوم من) {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ} غيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله وهو الابتداء ومن زائدة في المبتدأ ولكم خبره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
{أَفَلا تَتَّقُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي ألا تتفكرون فلا تتقون عذاب الله تعالى.
{قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ} استئناف كما مر وإنما وصف الملأ بالكفر إذ لم يكن كلهم على الكفر كملأ قوم نوح بل كان منهم من آمن به عليه السلام كمرثد بن سعد وكتم إيمانه ولم يظهر إلا عند مجيء وفد عاد إلى مكة يستغيثون كما سيجيء قال :
عصت عاد رسولهمو فأمسوا
عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود
يقابله صداء والبهاء
فبصرنا الرسول سبيل رشد
فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإن إله هود هو إلهي
على الله التوكل والرجاء والملأ : أشراف القوم وهو في الأصل بمعنى الجماعة.
{إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي سَفَاهَةٍ} أي : متمكناً في خفة عقل راسخاً فيها حيث فارقت دين آبائك.
والسفاهة.
في اللغة : خفة الحلم والرأي.
{وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} أي : فيما ادعيت من الرسالة ، وفيه إشارة إلى أن قلوب قوم هود وسخة خبيثة كقلوب قوم نوح لم يخرج منها الخبث إلا نكداً فلما أراد هود عليه السلام أن يبذر فيها بذر التوحيد والمعرفة ولم تكن صالحة وقلما خرج منها إلا نبت التسفيه والتكذيب سلكوا طريق سلفهم وإخوانهم وصنعوا مثل حالتهم.
وفي "المثنوي" :
در زمين كرنى شكر ورخود نى است
باز كويد باتو أنواع نبات
زانكه خاك اين زمين بإثبات
ترجمان هرزمين نبت وى است
{قَالَ} أي : هود عليه السلام سالكاً طريق حسن المجادلة مع ما سمع منهم من الكلمة الشنعاء الموجبة لتغليظ القول والمشافهة بالسوء وهكذا ينبغي لكل ناصح.
يا قَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ} أي : شيء منها ولا شائبة من شوائبها والباء للملابسة أو للظرفية.
{وَلَـاكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} أي : لكني في غاية الرشد والصدق لأني رسول رب العالمين فالاستدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه في
185
الغاية القصوى من الرشد والصدق.
والرشد هو الاهتداء لمصالح الدين والدنيا وهو إنما يكون بالعقل التام.
(3/140)
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك قد سبق في القصة المقدمة سر جمع الرسالات ومعنى النصح والفرق بين تبليغ الرسالة وتقرير النصيحة وفي قوله (وأنا لكم ناصح أمين) تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين لأن الجملة الحالية إنما يؤتى بها لبيان هيئة ذي الحال والشيء لا يوصف إلا بما يعلم المخاطب اتصافه به ، أو لأن في جعل ذكر متعلق النصح والأمانة من قبل المهجور دلالة على أنه أوحدي فيه موجد للحقيقتين كأنه صناعته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي : استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي من مالك أموركم ومربيكم.
{عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ} أي : على لسان رجل من جنسكم.
{لِيُنذِرَكُمْ} ويحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي فمن فرط الجهالة وغاية الغباوة عجبوا من كون رجل رسولاً ولم يتعجبوا من كون الصنم شريكاً.
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها ؛ وإذ منصوب باذكروا على المفعولية دون الظرفية أي اذكروا وقت استخلافكم.
قال صاحب "الفوائد" : يشكل هذا بقولهم إذ وإذا وقوعهما ظرفين لازم.
وأجيب : بأن باب الاتساع واسع.
قال المولى أبو السعود : ولعله معطوف على مقدر كأن قيل لا تعجبوا من ذلك وتدبروا في أموركم واذكروا وقت جعله تعالى إياكم خلفاء.
{مِنا بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي : في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان.
قال في "التأويلات النجمية" : جعل الله الخلق بعضهم خلفاء عن بعض وجعل الكل خلفاء في الأرض ولا يفني جنساً منهم إلا أقام قوماً خلفاء عنهم من ذلك الجنس فأهل الغفلة إذا انقرضوا أخلف عنهم قوماً وأهل الوصلة إذا انقرضوا ودرجوا أخلف عنهم قوماً.
{وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ} أي : في الإبداع والتصوير بالفارسي (وبيفزود شما) أو في الناس {بَاصْطَةً} قامة وقوة فإنه لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة الصغير ستين ذراعاً.
قال وهب : كان رأس أحدهم كالقبة العظيمة وكان عين أحدهم يفرخ فيها السباع وكذلك مناخرهم.
والإشارة كما أن الله تعالى زاد قوماً على من تقدمهم في بسطة الخلق ، زاد قوماً على من تقدمهم في بسطة الخلق فكما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.
قال الفرزدق :
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى
كثيراً ولكن فرقوا في الخلائق جمع الخليقة وهي الطبيعة وفي هذا المعنى.
قال الخاقاني :
نى همه يك رنك دارد درنيستانها وليك
ازيكى نى قند خيزد وزدكرنى بوريا
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
{فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ} جمع إلي بمعنى النعمة وهو تعميم بعد تخصيص.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي يؤديكم ذلك ، أي ذكر النعم إلى الشكر المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب ولما لم يبق للقوم جواب إلا التمسك بالتقليد.
{قَالُوا} مجيبين عن تلك النصائح الجليلة {أَجِئْتَنَا} يا هود {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} أي لنخصه بالعبادة {وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا}
186
أي : نترك الآلهة التي كان آباؤها يعبدونها ومعنى المجيء في أجئتنا إما المجيء من مكان اعتزل عن قومه يعبد فيه ربه كما كان يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحراء فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم وإما من السماء كمجيء الملك منها استهزاء به عليه السلام لأنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يرسل إلا الملك ، وإما القصد على المجاز وهو أن يكون مرادهم بالمجيء مجرد قصد الفعل ومباشرته كأنهم قالوا أتريد منا أن نعبد الله وحده وتقصد إن تكلفنا بذلك كما يقال ذهب يشتمني من غير إرادة معنى الذهاب.
{ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى : {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي : في الإخبار بنزول العذاب.
(3/141)
{قَالَ} هود عليه السلام {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم} أي : قد وجب فيكون مجازاً من باب إطلاق المسبب على السبب فإن نزول العذاب عليهم مسبب عن وجوب نزوله في علمه تعالى.
{مِّن رَّبِّكُمْ} أي : من جهته تعالى {رِجْسٌ} عقاب من الارتجاس الذي هو الاضطراب.
{وَغَضَبٌ} إرادة انتقام {أَتُجَـادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ} عارية عن السمى.
جعل المجادل فيه أسماء مجردة عن المسميات ؛ لأنهم كانوا يسمون الأصنام آلهة ويزعمون كونهم مستحقين للعبادة والحال إنهم بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة.
{سَمَّيْتُمُوهَآ} أي : سميتم بها {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أي : حجة وبرهان في عبادتها قوله سميتموها صفة للأسماء وكذا قوله ما أنزل الله ، وقوله من سلطان مفعول أنزل ومن مزيدة والمعنى أتجادلونني في مسميات لها اسم بدون ما يليق بها وتوجه الذم للتسمية الصرفة الخالية عن المعنى ، فلا يلزم أن يكون الاسم هو المسمى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
قال في "التفسير الفارسي" : (في أسماء دركار اين نامها يعني اين بتان كه هريك را نامى نهاده آيد بعضي را سائقه مى كفتند وكمان ايشان آن بودكه باران از ايشان مى بارد وبعضي را حافظه مى خواند ند بمظنه آنكه نكهبان درسفر ايشانند وهمنين رازقه وسالمه واين الفاظ اسما بودند بى مسما ه أصنام راكه جمادات بودند قدرت برينها نبوده س هود عليه السلام فرموده كه شما جدال ميكنيد بدين يزها كه ازروى جهالت شما نام نهاده آيد ايشانرا).
{فَانتَظِرُوا} مترتب على قوله تعالى قد وقع عليكم أي فانتظروا ما تطلبونه بقولكم فائتنا بما تعدنا.
{إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} لما يحل بكم من العذاب.
{فَأَنجَيْنَـاهُ} الفاء فصيحة كما في قوله تعالى : {فَانفَجَرَتْ} أي فوقع فأنجينا هوداً {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي : في الدين {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} أي : برحمة عظيمة كائنة من جهتنا عليهم وفيه إشارة أن هوداً مع رتبته في النبوة ودرجته في الرسالة إنما نجا برحمة من الله هو والذين آمنوا معه ليعلم أن النجاة لا تكون باستحقاق العلم وإنما تكون ابتداء فضل من الله ورحمة فما نجا إلا بفضل الحق سبحانه.
{وَقَطَعْنَا دَابِرَ} القوم {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ} أي : استأصلناهم أي أهلكناهم جميعاً بأن قطعنا عرقهم وأصلهم لأن دابر الشيء آخره فقطع دابر القوم إهلاكهم من أولهم إلى آخرهم.
{وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} عطف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعوا عن ذلك أبداً ، وفيه تنبيه على أن مناط النجاة هو الإيمان بالله تعالى وتصديق آياته كما أن مدار البوار هو الكفر والتكذيب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
وقصتهم : أنّ عاداً كانوا يسكنون اليمن بالأحقاف وهي رمال يقال رمل عالج ودهمان ومرين ما بين عمان إلى حضرموت ، وكانوا قد فشوا في الأرض
187
وقهروا أهلها بقوتهم التي أعطاها الله إياهم وكانت لهم أصنام يعبدونها صداء وصمود والهباء فبعث الله إليهم هوداً نبياً من أوسطهم في النسب وأفضلهم في الحسب ، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يعبدوا غيره وأن يكفروا عن ظلم الناس فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة وازدادوا عتواً وتجبراً فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك ، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء وجهد مضوا إلى البيت الحرام بمكة مسلمهم وكافرهم وسألوا الله الفرج وكان أهل مكة يومئذٍ العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان رئيس العماليق يومئذ بمكة رجلاً يقال له معاوية بن بكر وكانت أمه من عاد فلما قحط المطر من عاد وجهدوا قالوا جهزوا منكم وفداً إلى مكة يستسقوا فجهزوا قيل بن عتر ومرثد بن سعد في سبعين رجلاً ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو في خارج مكة فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة واسم الأخرى جرادة فغلبت جرادة على وردة فسميتا جرادتين فلما رأى معاوية طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال قد هلك أخوالي وأصهاري جهداً وعطشاً وهؤلاء مقيمون عندي والله ما أدري كيف أصنع بهم أستحيي أن آمرهم بالخروج إلى حاجتهم فيظنون أن ذلك لثقل مقامهم علي فشكا ذلك إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله لعل ذلك يخرجهم فقال معاوية :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عاداً
قد أمسوا ما يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس ترجو
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهمو بخير
فقد أمست نساؤهم وأيامى
وإن الوحش تأتيهم جهاراً
فلا تخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتم
نهاركمو وليلكمو التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما
(3/142)
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
فلما غنتهم الجرادتان بهذا ، قال بعضهم لبعض : يا قوم لقد أبطأتم على أصحابكم فقوموا وادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم ، فقال لهم : مرثد والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم هوداً وتبتم إلى الله سقيتم وأظهر إسلامه ، فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثداً لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقام قيل يستسقي في المسجد ، وقال : اللهم إني لم أجيء لمريض فأداويه ولا لأسير فأفاديه اللهم اسقنا فإنا قد هلكنا ، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم وقال القوم اللهم أعط قيلاً ما يسألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب ما شئت فقال : اخترت السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فنودي اخترت دماراً رمداً لا يبقى من آل عاد ولداً ولا شيوخاً إلا فصاروا همداً ثم ساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة والبلاء إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها
188
فرحوا وقالوا (هذا عارض ممطرنا) ، يقول الله تعالى : (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها) ، أي : كل شيء مرت به فجاءتهم من تلك السحابة ريح عقيم سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً أي دائماً فكانت الريح تحمل الظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة ، وكانوا قد حفروا لأرجلهم في الأرض وغيبوها إلى ركبهم فجعلت الريح تدخل أقدامهم وترفع كل اثنين وتضرب بإحدهما الآخر في الهواء ، ثم تلقيهما في الوادي والباقون ينظرون حتى رفعتهم كلهم ثم رمت بالتراب عليهم فكان يسمع أنينهم من تحت التراب فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة فما كان يصيبهم من الريح إلا ما يلين جلودهم وتلذ به أنفسهم قالوا ولما أراد الله إرسال الريح العقيم إلى عاد أوحى إلى الريح أن تخرج إلى عاد فتنتقم منهم فخرجت على قدر منخر ثور حتى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب ، فقالت الخزان ، يا رب لن نطيقها ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله تعالى اخرجي على قدر خرق الخاتم فخرجت على قدر ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
قال السدي : فلما بعث الريح إليهم ودنت منهم نظروا إلى الإبل والرحال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فتبادروا إلى البيوت ، فأخرجتهم الريح من البيوت حتى أهلكتهم على ما ذكر وسبب هلاك الإبل وغيرها من الحيوانات اتصالها بملك أهل الغضب والبلية إذا نزلت فإنما تنزل عامة ، ولله تعالى حكم ومصالح جليلة في كل ما يحكم ويريد ولما نجا هود ومن معه من المؤمنين أتوا مكة فعبدوا الله فيها إلى أن ماتوا ، وهكذا فعل كل نبي هلك قومه ونجا هو مع المؤمنين قال بعضهم بين الركن والمقام وزمزم تسعة وتسعون نبياً وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة وسبب الهجرة أن أرض أهل الكفر والمعاصي ، قد حل فيها غضب الله وذهب خيرها فاقتضى كمال الخشية من جلال الله تعالى الرحلة إلى دار الأمان ، كما قال تعالى : {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا} (آل عمران : 97) مع أن أمكنة العبادات على طبقات مختلفة متفاوتة في مراتب الثواب فعمل واحد بمكة خير من ألف عمل في غيرها إذ هي محل أنفاس الأنبياء ونفوسهم ومحط رحال الأولياء ورؤوسهم كما أن حال الأزمنة كذلك ، فطوبى لعبد هاجر من أرض أهل البدعة والهوى ونزل بأرض أهل السنة والهدى لأن نظر الله تعالى على أهل الخير والصلاح وأما من أخلد إلى أرضه مع جمود أهلها وخمود نار محبتها لمجرد غرض دنيوي من المعاش وغيره فهو ممن أهبطه الله إلى أرض طبيعته وزحزحه عن جنته وأراد خسرانه في تجارته وإلا فالمهتدي إلى سبيل السلام لا يقيم مع الضالين مع وضوح البرهان التام.
سعد يا حب وطن كره حديث است صحيح
نتوان مرد بسختى كه من اينجا زادم
يقول الفقير : اللهم إني هاجرت من أرض أهل البغي والفساد ، واخترت سلوك طريق أهل الرشاد فانتقلت من ديار الروم إلى ما يلحق بأرضك المقدسة أعني بروسة المحروسة اللهم ثبت قدمي في طريقك الحق فأنا الحق أرشدني إلى ما في الهجرة من السر المطلق آمين يا معين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
{وَإِلَى ثَمُودَ} أي : أرسلنا إلى ثمود وهي قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وثمود في كتاب
189
(3/143)
الله مصروف وغير مصروف.
قال الله تعالى : {أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ} فمن صرفه جعله اسماً للحي ومن لم يصرفه جعله اسماً للقبيلة.
{أَخَاهُمْ} من حيث النسب كهود عليه السلام كما تقدم {صَـالِحًا} عطف بيان لأخاهم وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود {قَالَ} استئناف يا قَوْمِ} بحذف ياء المتكلم {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ} فيه إشارة إلى أن الله تعالى وإن غاير بين الرسل من حيث الشرائع إلا أنه جمع بينهم في التوحيد حيث سلك كل واحد منهم في الدعوة مسلك الآخر فقال نوح وهود وصالح يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
روي أنه لما هلكت عاد عمرت ثمود بلادها وخلفوها في الأرض وكثروا في خصب وسعة فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية تكون مصداقاً لقوله فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن أستجيب لك اتبعناك وأن أستجيب لنا اتبعتنا فقال صالح نعم فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوا الاستجابة فلم تجبهم إلى سؤلهم ولم يظهر إثم الإنجاح فافتضحوا ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاتبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخدجة على خلقة الجمل في الجسامة وغلظة العظام والقوائم شبيهة بالبختي جوفاء وبراء عشراء فإن فعلت صدقناك وأجبناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله وهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع الباقين من الإيمان ذواب بن عمرو والجباب صاحب أوثانهم ورباب كاهنهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
يكى بنور عنايت ره هدايت يافت
يكى بوادى خذلان بماند سر كردان
يكى بوسوسه ديورفت سوى سقر
يكى زيروى حق كرفت ملك جنان
فمكثت الناقة مع ولدها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء فبعد ظهور هذه المعجزة ، قال لهم صالح : {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ} أي : آية ومعجزة ظاهرة وشاهدة بنبوتي {مِّن رَّبِّكُمْ} متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صفة لبينة.
قال المولى أبو السعود : وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم إثر دعوتهم إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله فلم يقبلوا كلامه وكذبوه ألا يرى إلى ما في سورة هود من قوله تعالى : {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود : 61) إلى آخر الآيات {هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً} استئناف كأنه قيل ما هذه البينة فقال هذه ناقة الله أنبهكم عليها أو أشير إليها في حال كونها آية وعلامة دالة على صحة نبوتي ، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال بيت الله أو لمجيئها من جهته تعالى بلا أسباب معهودة ووسائط معتادة ، يعني : كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأنثى ولم تكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي ولكم بيان لمن هي آية له وخصوا بذلك لأنهم هم الذين طلبوها
190
وينتفعون بها لو تركوا العناد وطلبوا الاهتداء بالدليل والبرهان.
{فَذَرُوهَا} تفريع على كونها آية من آيات الله تعالى فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي دعوها.
{تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ} جواب الأمر ، أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فاتركوها ترتع ما ترتع في أرض الحجر من العشب فليس لكم أن تحولوا بينها وبينها وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل.
{وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ} الباء للملابسة أي لا تمسوها ملتبسين بسوء ولا تتعرضوا لها بشيء مما يسوءها أصلاً من قتل أو ضرب أو مكروه إكراماً لآية الله تعالى ، والسوء : اسم جامع لأنواع الأذى ويجوز أن تكون الباء للتعدية والمعنى بالفارسية (ومرسانيد بوى هي بدى) وفيه مبالغة حيث نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة.
{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جواب للنهي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
قال في "التفسير الفارسي" : (استحقاق عذاب نه بواسطه ضرر ناقه است بلكه باقامات ايشان بركفر بعد ازشهود معجزه وعقر ناقه دليل عتو ايشانست دركفر).
(3/144)
والإشارة : أن المعجزة للعوام أن يخرج لهم من حجارة الصخرة ناقة عشراء ، والمعجزة للخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر بسقب سر السر وهو الخفي ، وناقة الله التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية فذروها تأكل في أرض الله ، أي ترتع في رياض القدس وتشرب في حياض الأنس ولا تمسوها بسوء مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فيأخذكم عذاب أليم بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ عَادٍ} أي : اذكروا وقت جعله تعالى إياكم خلفاء في أرض الحجر أو خلفاء لقوم عاد من بعد إهلاكهم فنصب إذ على المفعولية كما سبق في القصة المتقدمة {وَبَوَّأَكُمْ فِى الأرْضِ} أي أنزلكم في أرض الحجر بالفارسي (جاى داد شمارا).
قال أبو السعود : أي جعل لكم مباءة ومنزلاً في أرض الحجر بين الحجاز والشام.
{تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا} استئناف مبين لكيفية التبوئة أي تبنون في سهولها قصوراً رفيعة على أن من بمعنى في كما في قوله تعالى : {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة : 9) أو سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن والآجر.
{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ} أي : الصخور والنحت نجر الشيء الصلب وانتصاب الجبال على المفعولية.
{بُيُوتًا} حال مقدرة من الجبال كما تقول خط هذا الثوب قميصاً ، قيل : كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وقيل إنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا من الجبال بيوتاً لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم.
{فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ} أي : احفظوا نعم الله عليكم فإن حق آلائه تعالى أن تشكر ولا يغفل عنها {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} العثي : أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد حال كونكم مفسدين فالمراد بهذه الحال تعريفهم بأنهم على الفساد لا تقييد العامل ، وإلا لكان مفهومه مفيداً معنى تمادوا في الفساد حال كونكم مصلحين وهذا غير جائز ، وقيل : إنما قيد به لما أن العثي في الأصل مطلق التعدي وإن غلب في الفساد ، فقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة غير الظالم الظالم المتعدي بفعله ، وقد يكون فيه صلاح راجح كقتل الخضر عليه السلام للغلام وخرقه السفينة فيكون التقييد بالحال تقييداً للعام بالخاص.
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
{قَالَ} استئناف {الْمَلا} أي : الأشراف والرؤساء {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ} أي : تعظموا عن الإيمان به.
191
{لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} اللام للتبليغ ، أي : للذين استضعفوهم واستذلوهم.
{لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} بدل من الذين استضعفوا بدل الكل والضمير للقوم.
{أَتُعَلِّمُونَ} (اياشما ميدانيد) {أَنَّ صَـالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} قالوه بطريق الاستهزاء بهم {قَالُوا} أي : المؤمنون المستضعفون {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ} من التوحيد والعبادة {مُؤْمِنُونَ} عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى تنبيهاً على أن إرساله أمر معلوم مقرر عندهم حيث أوردوه صلة للموصول ومن المعلوم أن الصلة لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب إلى ذات الموصول فكأنهم قالوا لا كلام في إرساله لأنه أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذي رأي لما أتى به من هذا المعجز العظيم الخارق وإنما الكلام في الإيمان به فنحن مؤنمون به فهذا الجواب من أسلوب الحكيم وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِه كَـافِرُونَ} عدلوا عن الجواب المطابق ، وهو إنا بما أرسل به كافرون لدلالته على أن إرساله معلوم مسلم عندهم ، كما دل عليه قول المؤمنين فكأنهم قالوا ليس إرساله معلوماً لنا مسلماً عندنا وليس هنالك إلا دعواه وإيمانكم به ونحن بما آمنتم به كافرون فالمؤمنون فرعوا إيمانهم على الإرسال الثابت والكفار فرّعوا كفرهم على إيمان المؤمنين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
واعلم : أن الله تعالى ذم الكفار بوجهين أحدهما الاستكبار وهو رفع النفس فوق قدرها وجحود الحق والآخر أنهم استضعوا من كان يجب أن يعظموه ويبجلوه ومدح المؤمنين حيث ثبتوا على الحق وأظهروه مع ضعفهم عن مقاومة الكفار كما دل عليه قوله : {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِه مُؤْمِنُونَ} .
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} أي : نحروها وبالفارسي (س ى كردند وبكشتند ناقه را) أسند العقر إلى الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك كان برضاهم فكأنه فعله كلهم.
روي أن الناقة كانت ترد الماء غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها لا تدع قطرة واحدة ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم كلها فيشربون ويدخرون ثم تصدر من أعلى الفج الذي وردت منه لأنها لا تقدر أن تصدر من حيث ترد لضيقه.
(3/145)
قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً وكانوا إذا جاء يومهم وردوا الماء فيشربون ويسقون مواشيهم ويدخرون من الماء ما يكفيهم اليوم الثاني ، وكانت الناقة إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فيهرب منه مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان عنيزة أم غنم ، وصدقة بنت المختار لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي.
قال الحدادي : كان في ثمود امرأة يقال لها صدوق كانت جميلة الخلق غنية ذات إبل وبقر وغنم ، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح وكانت تحب عقر الناقة لأجل أنها أضرت بمواشيها فطلبت ابن عم لها يقال له مصدع بن دهر وجعلت له نفسها إن عقر الناقة ، فأجابها إلى ذلك ثم طلبت قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً يزعمون أنه ولد زنى ، ولكنه ولد على فراش سالف فقالت يا قدار أزوجك أيُّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة ، وكان منيعاً في قومه فأجابها أيضاً فانطلق قدار ومصدع فاستعووا عواة ثمود فأتاهم تسعة رهط فاجتمعوا على عقر الناقة فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون الناقة ، فقال لهم
192
صالح : بذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل ثم تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ، وقالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه فإذا رجعنا قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ، أي يعلمون أنا خرجنا في سفر لنا وكان صالح لا ينام في القرية وكان له مسجد خارج القرية يقال له مسجد صالح يبيت فيه فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فانطلقوا ودخلوا الغار فلما كان الليل سقط عليهم الغار فقتلهم فلما أصبحوا رآهم رجل فصاح في القرية ، فقال : ما رضي صالح حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
وقال ابن إسحاق : إنما اجتمع التسعة الذين عقروا الناقة فقالوا هلموا لنقتل صالحاً فإن كان صالح صادقاً منعنا قتله ، وإن كان كذباً ألحقناه بناقته فأتوا ليلاً فبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، وقال بعضهم : انطلق قدار ومصدع وأصحابهما التسعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ثم خرج قدار فعقرها بالسيف فخرت ترغو ثم طعنها في لبتها ونحرها وخرج أهل البلد واقتسموا لحمها فلما رآها سقبها كذلك رقي جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثة ودموعه تنحدر حتى أتى الصخرة التي خلق منها فانفتحت فدخلها.
فذلك قوله تعالى : {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي : استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح من الأمر بقوله : فذروها ومن النهي بقوله : ولا تمسوها أو استكبروا عن اتباع أمر الله وهو شرعه ودينه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم عن أمر ربهم كان أمر ربهم بترك الناقة كان هو السبب في عتوهم ونجوا من هذه كما في قوله : {وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِى} كذا في "الكشاف".
{وَقَالُوا} مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام يا صَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب على قتل الناقة {إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فإن كونك من جملتهم يستدعي صدق ما تقول من الوعد والوعيد.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي : الزلزلة الشديدة لكن لا إثر ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادي العذاب في الأيام الثلاثة كما سيجيء ورد في حكاية هذه القصة.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وفي موضع {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} (الحجر : 73) وفي موضع {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ولا تناقض لأن الرجفة مترتبة على الصيحة لأنه لما صيح بهم رجفت قلوبهم فماتوا فجاز أن يسند الإهلاك إلى كل واحدة منهما.
وقال الحدادي : فأخذتهم الزلزلة ثم صيحة جبريل.
وفي "التفسير الفارسي : (س فرا كرفت ايشانرا بسبب كشتن ناقه زلزله بعد ازسفيدن صيحه عظيم) وأما قوله بالطاغية فالباء فيها سببية والطاغية مصدر بمعنى الطغيان كالعاقبة والتاء للمبالغة كما في علامة ومعناه أهلكوا بسبب طغيانهم.
{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} أي : صاروا في أراضيهم وبلدهم أو في مساكنهم {جَـاثِمِينَ} أي : خامدين موتى لاحراك بهم وأصل الجثوم البروك يقال الناس جثوم أي قعود لاحراك بهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
قال أبو عبيدة : الجثوم للناس ، والطير والبروك للإبل والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب وحركية كما يكون عند الموت المعتاد ولا يخفى ما فيه من شدة الأخذ وسرعة البطش اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطك وحلول غضبك ، قيل : حيث ذكرت
193
(3/146)
الرجفة وحدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به.
روي أنهم لما عقروا الناقة هرب ولدها إلى جبل فرغا ثلاثاً وكان صالح قال لهم بعد بلوغ خبر القتل إليه أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه فانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها ، قال صالح : لكل رغوة أجل يوم.
تمتعوا في داركم أي في بلادكم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقد عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح : أبشروا بعذاب الله ونقمته ، فقالوا له : وما علامة ذلك فقال تصبحون غداة يوم الخميس وجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم الجمعة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم السبت ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب أول يوم الأحد فكان الأمر كما وصف نبيهم حيث أصبحوا يوم الخميس كأن وجوههم طليت بالزعفران صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فأيقنوا بالعذاب ، وعلموا أن صالحاً قد صدق فطلبوه ليقتلوه فهرب منهم واختفى في موضع فلم يجدوه فجعلوا يعذبون أصحابه ليدلوهم عليه ، فلما أصبحوا يوم الجمعة أصبحت وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا بأجمعهم وضجوا وبكوا وعرفوا أن العذاب قد دنا إليهم وجعل كل واحد منهم يخبر الآخر بما يرى في وجهه ، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة كأنها طليت بالقار والنيل فصاحوا جميعاً ألا قد حضر العذاب ، فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن آمن به إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما كان يوم الأحد وهو اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر لئلا يتعرض لهم السباع لمرارته وتكفنوا بالأنطاع وألقوا نفوسهم على الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض أخرى لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت كل شيء له صوت ورجفة من الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك.
فإن قلت : مشاهدة العلامات المذكورة تلجىء المكلف إلى الإيمان فهل يحتمل أن يبقى العاقل بعدها مصرّاً على كفره.
قلت : لما شاهدوا علامات نزول العذاب خرجوا عن حد التكليف فلم تقبل توبتهم بعد ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أثر ما شاهد ما جرى عليهم من الهلاك تولى مغتماً متحسراً على ما فاتهم من الإيمان متحزناً عليهم.
{وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى} (يغام روردكار من كه بأداء آن مأمور بودم) {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وقت الدعوة بالترغيب والترهيب وبذلت فيكم وسعى ، {وَلَـاكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ} صيغة المضارع حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستهزاء على بعض الناصحين لأن قول الناصح ثقيل والحق مرّ وما يفيدان البغضة كما قال قائلهم :
وكم سقت في آثاركم من نصيحة
وقد يستفيد البغضة المتنصح وذلك أيضاً من خباثة أرض النفس الخبيثة لم تقبل بذر النصح ولم ينبت فيها.
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال لما مر النبي عليه السلام بالحجر في غزوة تبوك يعني : مواضع ثمود قال لأصحابه : "لا يدخلن أحد منكم هذه القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم" ثم قال : "لا تسألوا رسولكم الآيات فإن هؤلاء
194
قوم صالح سألوا رسولهم الآية ، فبعث الله إليهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها وأراهم مرتقى الفصيل حيث ارتقى" ثم أسرع رسول الله السير حتى جاوز الوادي ، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعلي : "يا علي أتدري من أشقى الأولين"؟ قال الله ورسوله أعلم قال : "عاقر الناقة" ثم قال : "أتدري من أشقى الآخرين"؟ قال الله ورسوله أعلم قال : "قاتلك".
وفي "المثنوي" :
ناقه صالح بصورت بد شتر
ى بريدندش زجهل آن قوم مر
ناقة الله آب خورد از جوى ميغ
آب حق را داشتند از حق دريغ
شحنه قهر خدا زيشان بجست
خونبهاى اشترى شهري درست
صالح ازخلوت بسوى شهر رفت
شهر ديد اندر ميان دود وتفت
زاستخوانها شان شنيد اونالها
اشك خونازجان شان ون الها
صالح آن بشنيد وكريه سازكرد
نوحه بر نوحه كنان آغاز كرد
كفت أي قومي بباطن زيسته
واز شما من يش حق بكريسته
حق بكفته صبركن برجورشان
ندشان ده بس نماند از دورشان
من بكفته ند شد ند از جفا
شير ند از مهر جوشد وز صفا
بس كه كرديد از جفا برجاى من
شير ند افسرد در ركهاى من
حق مرا كفته ترا لطفي دهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
بر سر آن زخمها مرهم نهم
صاف كرده حق دلم را ون سما
روفته از خاطرم جور شما
در نصيحت من شده بار دكر
كفته أمثال سخنها ون شكر
شير تازه از شكر انكيخته
شير شهدي با سخن آميخته
درشما ون زهر كشته اين سخن
زانكه زهرستان بديد از بيخ وبن
ون شوم غمكين كه غم شد سر نكون
غم شما بوديد اي قوم حرون
هي كس برمرك غم نوحه كند
ريش سر ون شد كسى مو بركند
(3/147)
والإشارة أن صالح الروح أرسل بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف الرديئة السفلية الظلمانية الحيوانية إلى الأخلاق الحميدة العلوية النورانية الروحانية والنفس وصفاتها عقروا ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق والاستكبار وعتوا عن أمر ربهم من التوحيد والمعرفة فصاروا إلى الهلاك وبقوا في أودية الجهل والإنكار عصمنا الله وإياكم من كل ما يسوء الروح ويمنع الفتوح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
{وَلُوطًا} أي : وأرسلنا لوطاً وهو لوط بن هاران بن تارخ فهو ابن أخي إبراهيم كان من أرض بابل العراق فهاجر مع عمه إبراهيم إلى الشام ونزل الأردن وهو كورة بالشام فأرسله الله إلى أهل سدوم بلد بحمص.
قال في "التفسير الفارسي" : (خداى تعالى ويرا يغمبرى داد وباهل مؤتفكات فرستاد وآن ن شهر بوده سدوم أعظم مداين بود وديكر عامه وداود وصابورا وصفود كويند درهر شهري هار بارهزار هزار آدمي بوند لوط عليه السلام بسدوم آمد وخلق را بخداى تعالى دعوت كرد وبيست سال
195
درميان ايشان بود وبخيرات امر مينمود واز فواحش نهى فرمود ويكى از فواحشها لواطه بود) كما حكى الله تعالى بقوله : {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (مرقوم سدوم راكه لوط عليه السلام درميان ايشان بود) وهو ظرف لأرسلنا المضمر أي أرسلنا لوطاً إلى قومه وقت قوله لهم.
قيل : الإرسال قبل وقت القول لا فيه.
وأجيب بأن هذا من قبيل قولك في ظرف المكان زيد في أرض الروم فهو ههنا غير حقيقي فيكفي وقوع المظروف في بعض أجزائه.
{أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} إنكار وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح أي البالغة إلى غاية القبح وهي اللواطة والمعنى أتفعلونها {مَا سَبَقَكُم بِهَا} ما فعلها قبلكم على أن الباء للتعدية ، كما في قوله عليه السلام : "سبقك بها عكاشة" من قولك سبقته بالكرة أي ضربتها قبله {مِّنْ أَحَدٍ} من مزيدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق {مِّنَ الْعَـالَمِينَ} من للتبعيض والجملة استئناف نحوي أي مبتدأة جيء بها تأكيداً للإنكار السابق كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} بيان لتلك الفاحشة.
قرأ نافع وحفص إنكم بطريق الخبر والباقون ائنكم بطريق الاستفهام يقال أتى المرأة إذا غشيها وفي إيراد لفظ الرجال دون الغلمان والمردان ونحوهما مبالغة في التوبيخ.
{شَهْوَةً} مفعول له وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لا قضاء الشهوة.
{مِّن دُونِ النِّسَآءِ} أي : متجاوزين النساء اللاتي أباح الله لكم {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضراب عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثاله وهي اعتياد الإسراف في كل شيء ، يعني : إنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحد في كل شيء فمن ثمة أسرفوا في باب قضاء الشهوة وتجاوزوا عما عين لها إلى غيره.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا} استثناء مفرغ من أعم الأشياء ، أي ما كان جواباً من جهة قومه شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض {أَخْرِجُوهُم} أي : لوطاً ومن معه من المؤمنين.
{مِّن قَرْيَتِكُمْ} أي : إلا هذا القول الذي يستحيل أن يكون جواباً لكلام لوط وليس المراد لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن مقالات لوط ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما هو المتسارع إلى الأفهام ، بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمة الشنيعة ، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات حسبما حكى عنهم في سائر السور الكريمة وهذا هو الوجه في نظائره الواردة بطريق القصر ، وقوله : {مِّن قَرْيَتِكُمْ} أي : من بلدكم فإن العرب تسمي المدينة قرية والمراد بلدة سدوم.
{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي : يطلبون الطهارة من الفواحش قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية بهم.
{فَأَنجَيْنَـاهُ} أي : لوطاً {وَأَهْلَهُ} ابنتيه رعوزا وريثا وسائر من آمن به فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد وبالعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع وأهل الرجل خاصته الذين ينسبون إليه.
{إِلا امْرَأَتَهُ} وأهله فإنها تسر الكفر وتغري الكفار على إنكار لوط وهو استثناء من أهله.
{كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ} استئناف بياني كأنه قيل : فماذا كان حالها فقيل كانت من الغابرين أي الباقين في ديارهم الهالكين فيها من الغبور بالفارسي (باقي بماندن) والتذكير مع أن الظاهر أن يقال من الغابرات مبني على أنه بقي في ديارهم
196
رجال ونساء فغلب الرجال فقيل في حقها إنها كانت منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
(3/148)
{وَأَمْطَرْنَا} (بارانيديم) {عَلَيْهِمْ} (بركفا قوم لوط) {مَّطَرًا} نوعاً من المطر عجيباً وهي الحجارة ، أي : أرسلنا عليهم الحجارة إرسال المطر.
{فَانظُرْ} خطاب لكل من يتأتى من التأمل والنظر تعجيباً من حالهم وتحذيراً من أعمالهم.
{كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي : تفكر في آخر أمر الكافرين المكذبين كيف فعلنا بهم.
قيل : كان السبب في اختراعهم هذه الخصلة القبيحة ، أي اللواطة أن بلادهم وهي أرض الشام أخصبت بأنواع الثمار والحبوب فتوجه إليهم الناس من النواحي والأطراف لطلب المعروف فتأذوا من كثرة ورود الفقراء فعرض لهم إبليس في صورة شيخ ، وقال : إنْ فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا ، فلما ألح الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً صباحاً فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء.
وقال الكلبي : أول من فعل به ذلك الفعل إبليس الخبيث حيث تمثل لهم في صورة شاب جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عملوا ذلك العمل بكل من ورد عليهم من المرد قضاء لشهوتهم ودفعاً لهجوم الناس عليهم وعاشوا بذلك العمل زماناً فلما كثر فيهم عجت الأرض إلى ربها فسمعت السماء فعجت إلى ربها فسمع العرش فعج إلى ربه فأمر الله السماء أن تحصبهم والأرض أن تخسف بهم أمطروا أولاً بالحجارة ثم خسف بهم الأرض وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.
وروي أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه.
دلت الآية على أن اللواطة أفحش الفواحش وأقبحها لأن الله تعالى ما أمطر الحجارة على أهل الذنوب العظام مثل الزنى والعقوق والسرقة والقتل بغير الحق وغير ذلك من الكبائر حتى الشرك.
قال ابن سيرين : ليس شيء من الدواب يعمل هذا العمل إلا الخنزير والحمار ، فاللواطة ذنب عظيم يجب أن يحترز عنها وعن مباديها أيضاً كاللمس والقبلة.
قال الإمام : مَنْ قَبّل غلاماً بشهوة ، فكأنما زنى بأمه سبعين مرة ، ومن زنى مع أمه مرة فكأنما زنى بسبعين بكراً ، ومن زنى من البكر مرة ، فكأنما زنى مع سبعين ألف امرأة ، وضرر النظر في الأمرد أشد لامتناع الوصول في الشرع ؛ لأنه لا يحل الاستمتاع بالأمرد أبداً.
قال الشيخ سعدى قدس سره :
خرابت كند شاهد خانه كن
بروخانه آباد كردان بزن
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
نشايد هوس باختين باكلى
كه هر بامدادش بود بلبلى
مكن بد بفرزند مردم نكاه
كه فرزند خويشت بر آيد تباه
را طفل يك روزه هوشش نبرد
كه در صنع ديدن ه بالغ ه خر
محقق همي بيند اندر ابل
كه درخوب رويان ين وكل
وحكي أن سليمان بن داود عليهما السلام قال : يوماً لعفريت من الجن : ويلك أين إبليس قال : يا نبي الله هل أمرت فيه بشيء قال : لا قال : أين هو قال : انطلق يا نبي الله فانطلق ومشى العفريت بين يدي سليمان حتى هجم به على البحر فإذا إبليس على بساط على الماء فلما رأى سليمان ذعر منه وفرق فقام فتلقاه فقال يا نبي الله هل أمرت فيّ بشيء قال : لا ولكن جئت لأسألك عن أحب الأشياء إليك وأبغضها إلى الله تعالى فقال إبليس أما والله لولا ممشاك إليّ ما أخبرتك ليس شيء
197
أبغض إلى الله تعالى من أن يأتي الرجل الرجل والمرأة المرأة وفي الحديث : "سحاق النساء زنى بينهن" وفي "ملتقطة الناصري" الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحاً فحكمه حكم الرجال وإن كان صبيحاً فحكمه حكم النساء ، وهو عورة من قرنه إلى قدمه يعني لا يحل النظر إليه عن شهوة فأما السلام والنظر لا عن شهوة فلا بأس به ، ولذا لم يؤمر بالنقاب والأمرد إذا كان صبيحاً فأراد أن يخرج في طلب العلم فلأبيه أن يمنعه.
وكان محمد بن الحسن صبيحاً ، وكان أبو حنيفة يجلسه في درسه خلف ظهره أو خلف سارية المسجد حتى لا يقع عليه بصره مخافة من خيانة العين مع كمال تقواه حتى إن واحداً من العلماء مات فرؤي في المنام قد اسودّ وجهه ، فسئل عن ذلك فقال رأيت غلاماً في موضع كذا فنظرت إليه فاحترق وجهي في النار.
قال القاضي : سمعت الإمام يقول : إن مع كل امرأة شيطانين ومع كل غلام ثمانية عشر شيطاناً ، ويكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء لأنه يذهب بالمهابة ويورث التهمة.
قال الشيخ سعدي :
و خواهى كه قدرت بماند بلند
دل اي خواجه درساده رويان مبند
وكر خود نباشد غرض درميان
حذركن كه دارد بحرمت زيان
ويكره بيع الأمرد ممن يعلم أنه يفضي إليه غالباً لأنه إعانة على المعصية.
فإن قلت : سلمنا أن الغلام ليس محلاً للحرث والتولد لكنه يكون محلاً لقضاء الشهوة واستيفاء اللذة فالعقل يقتضي أن يتصرف المالك في ملكه كيف يشاء.
(3/149)
قلت : الشرع لم يأذن في هذا المحل بالتصرف لغاية قباحته ونهاية خبائثه ، ومجرد المملوكية لا يقتضي التصرف في المملوك ألا ترى أن من ملك مجوسية أو وثنية لم يجز له تصرف فيهما أصلاً ما لم تدخلا في الإسلام ، وكذا لا يجوز التصرف للسيدة في عبدها المملوك في محل لم يأذن الشرع بالتصرف فيه كالتقبيل والتفخيذ وغيرها من دواعي الوطء فلو جاز للسيد التصرف في عبده لجاز للسيدة التصرف في عبدها بطريق الأولى لكونها محلاً للحرث.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
والإتيان في دبر الذكر هو اللواطة الكبرى ، وفي دبر المرأة هو اللواطة الصغرى وفي الحديث : "ملعون من أتى امرأة في دبرها" وهل تجوز اللواطة في الجنة قيل إن كان حرمتها عقلاً وسمعاً لا تجوز وإن كان سمعاً فقط تجوز والصحيح أنها لا تجوز فيها لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال : {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ} وسماها خبيثة فقال : {كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَـائِثَ} (الأنبياء : 74) والجنة منزهة عنها.
قال المولى زيرك زاده في "حواشي الأشباه" رحمه الله تعالى رحمة واسعة قد قال الله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} (الإنسان : 19) وفي موضع آخر {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} (فصلت : 31) والآية تدل على أن في الجنة مرداً ملاحاً وبعيد أن يكونوا غير مشتهين وغير المعقول في الدنيا أن يكون خلاف الوضع والاستقذار وقطع النسل وأما في النشأة الأخروية فهذه المحذورات منتفية انتهى كلام زيرك زاده.
يقول الفقير : هذا ليس بمرضي عند القلب السليم والعقل المستقيم يأبى عنه من يعرف القبيح من الحسن ويتنفر من يميز الزيوف والنبهرج من النقد الجيد المستحسن.
فإن الطواف في الآية الأولى إنما دل على كونهم خدام أهل الجنة وإن أهل الجنة يتلذذون بالنظر إلى جمالهم وبهجتهم وهذا لا يقتضي التلذذ بالاستمتاع أيضاً كما في حق الحور ، والانتهاء في الآية الثانية وإن كان عاماً لكنه يجوز
198
أن لا تكون اللواطة مشتهاة لأهل الجنة للحكمة التي عليها مدار حرمتها في جميع الأديان كالزنى بخلاف الخمر فإنها كانت حلالاً في بعض الأديان ولذا صارت من نعيم الجنان أيضاً ومطلق ارتفاع موانع الحرمة لا يقتضي الحل والجواز ألا ترى إلى تستر أهل الجنة عند الوقاع فإن أهليهم لا يظهرن لغير المحارم كما في "الواقعات المحمودية" هذا.
وأما حكم الوطء بحسب الشرع فذهب الشافعي إلى أنه يقتل.
وذهب أحمد بن حنبل : إلى أنه يرجم وإن كان غير محصن.
قال في "شرح الوقاية" : إن من أتى دبر أجنبي أو امرأة فعند أبي حنيفة لا يحد ، بل يعزر ويودع في السجن حتى يتوب ، وعندهما يحد حد الزنى فيجلد إن لم يكن محصنا ويرجم إن كان محصناً قال : قيدنا بدبر الأجنبي لأنه لو فعل ذلك بعبده أو أمته أو بمنكوحته لا يحد اتفاقاً لهما أن الصحابة أجمعوا على حده ولكن اختلفوا في وجوهه فقال بعضهم يحبس في أنتن المواضع حتى يموت وقال بعضهم يهدم عليه الجدار انتهى.
وقد يقال : يلقى من مكان عال كالمنارة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
قال أبو بكر الوراق : يحرق بالنار صرح به في "شرح المجمع".
قال في "الزيادات" والرأي إلى الإمام إن شاء قتله إن اعتاد ذلك وإن شاء حبسه كما في "شرح الأكمل".
والظاهر أن ما ذهب إليه أبو حنيفة إنما هو استعظام لذلك الفعل فإنه ليس في القبح بحيث أن يجازي كالقتل والزنى ، وإنما التعزير لتسكين الفتنة الناجزة كما أن يقول في اليمين الغموس إنه لا يجب فيه الكفارة لأنه لعظمه لا يستتر بالكفارة.
وفي كتاب "الحظر والإباحة" : رجل وطء بهيمة.
قال أبو حنيفة : إن كانت البهيمة للواطىء يقال له : اذبحها وأحرقها إن كانت مأكولة وإن لم تكن مما تؤكل تذبح ولا تحرق.
قال في ترجمة الجلد الأخير من "الفتوحات المكية" (وازنكاح بهايم اجتناب كن نه شرع است ونه دين ونه مروت شخصي بود صالح أما قليل العلم درخانه خود منقطع بود ناكاه بهيمه خريد راردا بدان حاجني ظاهر نه بعد ازند سال كسى ازوى رسيد تواين را ه ميكنى وترابوى شغلي وحاجتي نيست كفت دين خودار باين محافظت ميكنم او خود با آن بهيمه جمع مى آمده است تا ززنا معصوم ماند اورا أعلام كردندكه آن حرامست وصاحب شرع نهى فرموده است بسيار كريست وتوبه كرد وكفت ندانستم س برتو فرض عين است كه از دين خوم باز جويى وحلال وحرام را تمييز كنى تا تصرفات تو بر طريق استقامت باشد انتهى كلام الترجمة) وفي الحديث : "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" استدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزوج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء ، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة جائز.
(3/150)
وفي رواية "الخلاصة" الصائم إذا عالج ذكره حتى أمنى يجب عليه القضاء ولا كفارة عليه ولا يحل هذا الفعل خارج رمضان إن قصد قضاء الشهوة وإن قصد تسكين شهوته أرجو أن لا يكون عليه وبال.
وفي بعض "حواشي البخاري" : والاستمناء باليد حرام بالكتاب والسنة قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ} (المؤمنون : 5) إلى قوله : {فأولئك هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون : 7) أي الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
قال البغوي في الآية : دليل على أن الاستمناء باليد حرام.
قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال سمعت أن قوماً
199
يحشرون وأيديهم حبالى وأظنهم هؤلاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
وعن سعيد بن جبير : عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم ، والواجب على فاعله التعزير كما قال ابن الملقن وغيره : نعم يباح عند أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله إذا خاف على نفسه الفتنة ، وكذلك يباح الاستمناء بيد زوجته أو جاريته لكن قال القاضي حسين مع الكراهة لأنه في معنى العزل وفي "التتارخانية" قال أبو حنيفة حسبه أن ينجو رأساً برأس كذا في "أنوار المشارق" لمفتي حلب الشهباء والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
{وَإِلَى مَدْيَنَ} أي : وأرسلنا إلى قبيلة مدين وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله عليه السلام {أَخَاهُمْ} في النسب ، أي واحداً منهم {شُعَيْبًا} عطف بيان لأخاهم وهو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين ، الذي تزوج ريثا بنت لوط فولدت له وكثر نسله فصار مدين قبيلتهم.
قال الضحاك : بكى شعيب من خشية الله حتى ذهب عيناه وصار أعمى ، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين مع كفرهم.
{قَالَ} استئناف بياني.
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ} مر تفسيره {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ} معجزة {مِّن رَّبِّكُمْ} متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صفة لفاعله مؤكدة لفخامة الذاتية المستفادة من تنكيره بفخامته الإضافية ، أي بينة عظيمة كائنة من مالك أموركم ولم يذكر معجزته في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا عليه السلام.
قال في "التفسير الفارسي" : (درقران معجزه شعيب مذكور نيست ودر أحاديث نيز بنظر فقير نرسيده أما در آيات باهرات كه ذكر معجزات أنبيا ميكنند ميكويدكه معجزه شعيب آن بودكه ون بكوه بلند برآمدى كوه سرفرود آوردى تا شعيب بآسانى بروى صعود كردى) وذكر بعض معجزاته في "الكشاف" فارجع إليه.
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ} الكيل مصدر قولك كلت الطعام كيلاً والمعنى المصدري لا يمكن إيفاؤه لأن النقص والإتمام من خواص الأعيان فحمله القاضي على حذف المضاف ، أي : آلة الكيل وفسره أبو السعود بالمكيال ويؤيده قوله : {وَالْمِيزَانَ} فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدراً كالميعاد فحمل الكيل على ما يكال به كما يطلق العيش على ما يعاش به وكان لهم ميكالان وميزانان أحدهما أكبر من الآخر ، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون بالأكبر وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون بالأصغر والمعنى أدوا حقوق الناس بالمكيال والميزان على التمام {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ} أي لا تنقصوا {أَشْيَآءَهُمْ} التي يشترونها بهما معتمدين على تمامها أي شيء كان وأي مقدار كان فإنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير فالتعبير بالأشياء دون الحقوق للتعميم فإن مفهوم الشيء أعم بالنسبة إلى مفهوم الحق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 200
واعلم : أن بخس الناس أشياءهم في المكيل والموزون من خساسة النفس ودناءة الهمة وغلبة الحرص ومتابعة الهوى والظلم وهذه الصفات الذميمة من شيم النفوس وقد ورد الشرع بتبديل هذه الصفات وتزكية النفس فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها وفي الحديث : "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف" وفي الحديث : "الصلاة أمانة والوضوء أمانة والوزن أمانة والكيل أمانة" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه : "الكيل
200
والوزن أنتم قد وليتم أمراً فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم" {وَلا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} أي : بالكفر والحيف {بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء واتباعهم بإجراء الشرائع.
{ذالِكُمْ} إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه.
{خَيْرٌ لَّكُمْ} من التطفيف والبخس والإفساد وقيل خير ههنا ليس على بابه من التفضيل ، بل بمعنى نافع عند الله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي : مصدقين بي في قولي هذا.
(3/151)
{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} الباء للإلصاق أو المصاحبة لأن القعود ملصق بالمكان وإن القاعد ملابسه ويحتمل أن تكون بمعنى في ؛ لأن القاعد يحل بمكان قعوده وأن تكون بمعنى على لاستيلاء القاعد على المكان.
{تُوعَدُونَ} حال من فاعل لا تقعدوا ولم يذكر الموعد به ليذهب الذهن كل مذهب ، والمعنى ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين موعودين أي مخوفين كالشيطان حيث قال : لأقعدن لهم صراطك المستقيم وصراط الله وإن كان وحداً لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا أحداً يسعى في شيء منها منعوه ، وقيل : كانوا يجلسون على المرصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذاب لا يفتننك عن دينك ويتوعدون من آمن به وقيل يقطعون الطريق ، {وَتَصُدُّونَ} عطف على ما توعدون أي تمنعون وتصرفون ، {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي : السبيل الذي قعدوا عليه.
{مَنْ ءَامَنَ بِهِ} أي : بكل صراط وهو مفعول تصدون.
{وَتَبْغُونَهَا} من باب الحذف والإيصال والتقدير وتبغون لها أنث ضمير السبيل لأنه يذكر ويؤنث.
والمعنى وتطلبون لسبيل الله.
{عِوَجَا} زيغاً وعدولاً عن الحق بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بأنها معوجة وهي أبعد شيء من شائبة الاعوجاج.
جزء : 3 رقم الصفحة : 200
وفيه إشارة إلى الذين قطعوا طريق الوصول إلى الله على الطالبين بأنواع الحيل بالمكايد وطلبوا الاعوجاج فيه بإظهار الباطل ، كما قطعوا على أنفسهم فإن شر المعاصي ما لا يكون لازماً لصاحبه بل يكون متعدياً عنه إلى غيره ؛ لأن ضرر التعدية عائد إلى المبتدىء بقدر الأثر في التعدي.
{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} بالبركة في النسل والمال فصار ضعفكم قوة وفقركم غنى {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} من الأمم الماضية كقوم نوح ومن بعده من عاد وثمود وإضرابهم واعتبروا بهم واحذروا من سلوك مسالكهم.
{وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ} من الشرائع والأحكام.
{وَطَآاـاِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا} أي به.
قال في "التفسير الفارسي" : (قومى از مدين بشعيب عليه السلام ايمان آوردند جمعي ديكر انكار كردند وكفتند قوت وثروت ما راست نه مؤمنارا س حق باما باشد واكر حق با يشان بودى بايستى كه توانكرى ووسعت معاش ايشانرا بودى شعيب عليه السلام فرمودكه اكره شما دوكره شده ايد).
{فَاصْبِرُوا} فتربصوا {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} أي : الفريقين بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.
{وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ} إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه وهو أعدل القاضين.
201
جزء : 3 رقم الصفحة : 200
{قَالَ الْمَلا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ} بعدما سمعوا هذه المواعظ من شعيب عليه السلام وهو استئناف بياني.
{لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} عطف على الكاف في لنخرجنك ويا شعيب اعتراض بين المتعاطفين ونسبة الإخراج إليه أولاً وإلى المؤمنين ثانياً تنبيه على أصالته في الإخراج وتبعيتهم له فيه ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : {مَعَكَ} فإنه متعلق بالإخراج لا بالإيمان.
والمعنى : واللَّهِ لنخرجنك واتباعك {مِن قَرْيَتِنَآ} بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المرتبة على المساكنة والجوار.
وفيه إشارة إلى أن من شأن المتكبرين ودأب المتجبرين الاستعلاء وأن يخرج الأعز الأذل وذلك لما فيهم من بطر النعم وطغيان الاستغناء وعمه الاستبداد ، ولمَّا كان حب الدنيا رأس كل خطيئة وفتنتها أعظم من كل بلية جعل الله تعالى أهلها في البلاد سبباً للهلاك والفساد كما قال الله تعالى : {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} (الإسراء : 16) الآية.
قال الحافظ :
ايمن مشو زعشوه دنيا كه اين عجوز
مكاره مى تشيند ومحتاله مى رود
{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} العود : هو الرجوع إلى الحالة الأولى ومن المعلوم أن شعيباً لم يكن على دينهم وملتهم قط ؛ لأن الأنبياء لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير فضلاً عن الكبائر فضلاً عن الكفر إلا أنه أسند العود إليه وإلى من معه من المؤمنين تغليباً لهم عليه ؛ لأن العود وإنما ذكر النفي والإجلاء بمحض القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام لجواب الإخراج ، كأنهم قالوا لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخلوا في ملتنا وإنما لم يقولوا أو لنعيدك على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعية حذر الإخراج باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 202
وفيه إشارة إلى أن أهل الخير كما لا يميلون إلا إلى أشكالهم فكذلك أهل الشر لا يرضون ممن رأوا إلا بأن يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم والأوحد في بابه من باين نهج أضرابه.
همه مرغان كند باجنس رواز
كبوتر باكبوتر باز باباز
(3/152)
{قَالَ} شعيب رداً لمقالتهم الباطلة وتكذيباً لهم في أيمانهم الفاجرة.
{أَوَلَوْ كُنَّا كَـارِهِينَ} تقديره أنعود فيها ولو كنا كارهين ، أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها على أن الهمزة لإنكار الوقوع نفيه لا لإنكار الواقع واستقباحه كالتي في قوله تعالى : {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍ مُّبِينٍ} (الشعراء : 30) {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} عظيماً.
{إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم} التي هي الشرك وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن عدنا في ملتكم.
202
{بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا} فقد افترينا على الله كذباً عظيماً حيث نزعم حينئذٍ أنتعالى نداً وليس كمثله شيء وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه من الإسلام باطل وأن ما كنتم عليه من الكفر حق وأي افتراء أعظم من ذلك.
{وَمَا يَكُونُ لَنَآ} أي : وما يصح وما يستقيم لنا.
{أَن نَّعُودَ فِيهَآ} في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات.
{إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أي : إلا حالة مشيئة الله تعالى لعودنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبىء عنه قوله {رَبَّنَآ} فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم مما ينبىء عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعاً ، وكذا قوله تعالى : {بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا} فإن تنجيته تعالى لهم منها من دلائل عدم مشيئته تعالى لعودهم فيها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 202
وقيل : معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله تعالى وأياً ما كان فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان وخطر الوقوع بناء على كون مشيئته تعالى كذلك بل بيان استحالة وقوعها كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وهيهات ذلك بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} علماً نصب على التمييز منقول عن الفاعلية تقديره وسع علم ربنا كل شيء كقوله : {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} والمعنى : إحاطة علمه بكل ما كان وما سيكون من الأشياء التي من جملتها أحوال عباده وعزائمهم ونياتهم وما هو اللائق بكل واحد منهم فمحال من لطفه أن يشاء عودنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصمامنا به خاصة حسبما ينطق به قوله تعالى : {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار ثم أعرض عن المعاندين وتوجه إلى مناجاة رب العالمين فقال : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} احكم بيننا وبينهم واقض بما يدل على أنّا على الحق وهم على الباطل وافصل بما يليق بحال كل من الفريقين.
{وَأَنتَ خَيْرُ الْفَـاتِحِينَ} والفاتح : هو الحاكم بلغة أهل عُمان سمي فاتحاً ؛ لأنه يفتح المشكلات ويفصل الأمور ويجوز أن يكون من فتح المشكل إذا بينه.
والمعنى أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز الحق من المبطل.
وفي "التأويلات النجمية" : {احْكُم بَيْنَهُم} بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء.
{وَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ} عطف على قوله : {قَالَ الْمَلا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي : قال أشرافهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين في الإيمان ، وخافوا أن يستتبعوا قومهم تثبيطاً لهم عن الإيمان وتنفيراً لهم منه على طريقة التوكيد القسمي ، والله {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} ودخلتم في دينه وتركتم دين آبائكم {إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} أي : في الدين لاشترائكم الضلالة بهداكم أو في الدنيا لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 202
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي : الزلزلة الشديدة وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هود : 67) أي صيحة جبريل ولعلها من مبادىء الرجفة فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى.
قال ابن عباس : رجفت بهم الأرض وأصابهم حر شديد فرفعت لهم سحابة فخرجوا إليها يطلبون الروح منها فلما كانوا تحتها سالت عليهم بالعذاب ، ومعه صيحة جبريل عليه السلام {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} أي : صاروا في مدينتهم وفي سورة هود.
{فِى دِيَـارِهِمْ} (هود : 67).
قال الحدادي : أي بقرب دارهم تحت الظلة كما قال تعالى : {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} (الشعراء : 189) أي : ميتين على وجوههم وركبهم لازمين لأماكنهم
203
لابراح لهم منها.
وروي أنهم احترقوا تحت السحابة فصاروا ميتين بمنزلة الرماد الجاثم أجساماً ملقاة على الأرض محترقة.
(3/153)
وقال ابن عباس : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم منه حراً شديداً فأخذ بأنفسهم فدخلوا جوف البيوت ، فلم ينفعهم ماء ولا ظل وأنضجهم الحر فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة ، فتنادوا عليكم بها فخرجوا نحوها فلما اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ، ورجفت بيهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً وهو عذاب يوم الظلة.
قال في "التأويلات النجمية" : من عنادهم رأوا الحق باطلاً والباطل حقاً والفلاح خسراناً والخسران فلاحاً {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} فصارت صورتهم تبعاً لمعناهم {فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ} الأرواح في ديار الأشباح.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم فيما سبق.
{لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ} وعقوبتهم بمقابلته والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ} أي : استأصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك ، وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجاً لا دخول بعده أبداً والمغنى المنزل والمغاني المنازل التي كانوا بها يقال غنينا بمكان كذا ، أي نزلنا فيه.
وفيه إشارة إلى أن المكذبين والمتكبرين وإن كانت لهم غلبة في وقتهم ولكن تنقضي أيامهم بسرعة ويسقط صيتهم ويخمل ذكرهم ويضمحل آثارهم ويكون أهل الحق مع الحق غالباً في كل أمر والباطل زاهق بكل وصف.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 202
يك مناره در ثناى منكران
كودرين عالم كه تاباشد عيان
منبري كوكه برانجا مخبري
يا دا آرد روز كار منكري
يا رغالب شوكه تاغالب شوى
يار مغلوبان مشوهين اي غوى
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَـاسِرِينَ} استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، أي : الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة ، فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا الذين اتبعوه ، وبهذا الحصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه السلام كما وقع في سورة هود من قوله تعالى : {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} (هود : 58) الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 202
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قاله عليه السلام بعدما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنه عليهم ، ثم أنكر على نفسه ذلك ، فقال : {فَكَيْفَ ءَاسَى} أي : أحزن حزناً شديداً بالفارسية (س ه كونه اندوه خورم وغمناك شوم) فهو مضارع متكلم من الأسى من باب علم وهو شدة الحزن.
{عَلَى قَوْمٍ كَـافِرِينَ} مصرين على الكفر ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم ، أو قاله اعتذاراً من عدم تصديقهم له وشدة حزنه عليهم ، والمعنى : لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي فكيف آسى عليكم.
وفي "المثنوي" :
ون شوم غمكين كه غم شدسر نكون
غم شما بوديد اي قوم حرون
كمخوان اي راست خواننده ببين
كيف آسى خلف قوم ظالمين
قال في "التأويلات النجمية" : يعني خرجت عن عهدة تكليف التبليغ فإنه ما على الرسول إلا البلاغ فإنه وإن نصحت لكم فما علي من إقراركم وإنكاركم شيء إن أحسنتم فالميراث الجميل لكم ، وإن
204
أسأتم فالضرر بالتألم عائد عليكم ومالك الأعيان أولى بها من الأعيان فالخلق خلقه والملك ملكه إن شاء هداهم ، وإن شاء أغواهم فكيف آسى على قوم كافرين فلا تأسف على نفي وفقد ولا أثر من كون ووجود لأن الكل صادر من حكيم بالغ في حكمته كامل في قدرته انتهى.
قال الله تعالى : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَاكُمْ} (الحديد : 23) وهذا إنما يحصل عند الفناء الكلي وهو للأنبياء عليهم السلام وكمل الأولياء.
واعلم : أن كل أهل ابتلاء ليس بمحل للرحمة عند نظر الحقيقة لأن الله تعالى ابتلاه بسبب جفائه إياه فقد اكتسبه بعلمه فكيف يترحم له ولذا كان أهل الحقيقة كالسيف الصارم مع كونهم رحم خلق الله تعالى ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ} (النور : 2).
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
كرا شرع فتوى دهد برهلاك
ألا تاندارى زكشتنش باك
والله تعالى غيور وعبده في غيرته فالحلم والغضب بقدر ما أذن فيه الشرع من أخلاق الأنبياء ، وهو لا يقدح في فراغ القلب عن كل وصف ؛ لأن رعاية الأحكام الظاهرة لا تنافي التوغل في الحقيقة فعلى العاقل أن يدور بالأمر الإلهي ويرفع عن لسانه وقلبه لِمَ لا ، وكيف فإن الأمر بيد الله تعالى لا بيده.
(3/154)
قال إبراهيم بن أدهم لرجل : أتحب أن تكونولياً؟ قال : نعم قال لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة وفرغ نفسكوأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك ، فعلم من هذا أن من كان إقباله إلى نفسه وإلى هواها لا يجد الحق وإقباله وموالاته في كل حالاته ومقاماته كما لا يخفى {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} (در شهري وديهي) {مِنْ} مزيدة {نَّبِىٍّ} كذبه أهلها {إِلا} قد {أَخَذْنَآ أَهْلَهَا} استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والمعنى : وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبياً من الأنبياء المكذبين في حال من الأحوال إلا لفي حال كوننا آخذين أهلها.
{بِالْبَأْسَآءِ} بالبؤس والفقر.
{وَالضَّرَّآءِ} بالضر والمرض لكن لا على معنى أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل على أنه مستتبع له غير منفك عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه.
{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} كي يتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة عن أكتافهم ، فإن الشدة خصوصاً الجوع يؤدي إلى التواضع والانقياد في حق أكثر العباد ، ومن بلاغات الزمخشري المرض والحاجة خطبان أمرّ من نقيع الخطبان وهم بضم الخاء نوع من ورق الحنظل أصفر وهو أبلغ في المرارة.
{ثُمَّ بَدَّلْنَا} عطف على أخذنا داخل في حكمه {مَكَانَ السَّيِّئَةِ} التي أصابتهم {الْحَسَنَةَ} أي : أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة الرخاء والسعة لأن ورود النعمة بعد الشدة يدعوا إلى الانقياد والاشتغال بالشكر ، إنما سميت الشدة سيئة لأنها تسوء الإنسان كما سمي الرخاء حسنة ؛ لأنه يحسن أثره على الإنسان وإلا فالسيئة هي الفعلة القبيحة والله تعالى لا يفعل القبيح والحسنة والسيئة من الألفاظ المستغنية عن ذكر موصوفاتها حالة الإفراد والجمع سواء كانتا صفتين للأعمال أو المثوبة أو الحالة من الرخا والشدة.
{حَتَّى عَفَوا} كثروا عدداً وعدداً وأبطرتهم النعمة يقال عفا النبات إذا كثر وتكاثف ومنه أعفا اللحى في الحديث وهو : "احفوا الشوارب واعفوا اللحى" قال الشاعر :
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
عفوا من بعد إقلال وكانوا
زماناً ليس عند همو بعير
205
{وَقَالُوا} غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء من الله سبحانه {قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ} كما مسنا ذلك وما هو إلا عادة الدهر يسيء تارة ويحسن أخرى فكما أن آباءنا قد ثبتوا على دينهم ولم ينتقلوا عنه مع ما أصابهم فاثبتوا أنتم على دينكم ولا تنتقلوا عنه.
{فَأَخَذْنَـاهُمْ} أثر ذلك {بَغْتَةً} فجأة أشد الأخذ وأفظعه {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بنزول العقاب وهم لا يخطرون ببالهم شيئاً من المكاره وهو أشد وحسرته أعظم لأن المرء إذا رأى مقدمات الابتلاء يوطن نفسه عليها بخلاف حال الفجأة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} أي : القرى المهلكة المدلول عليها بقوله تعالى : {مِن قَرْيَةٍ} {وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا} مكان كفرهم وعصيانهم {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من الأرض ، وأكثر أهل التفسير على أن بركات السماء هي المطر وبركات الأرض النبات والثمار.
{وَلَـاكِن كَذَّبُوا} الرسل {فَأَخَذْنَـاهُمْ} هذا الأخذ عبارة عما في قوله تعالى : {فَأَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً} (الأعراف : 95) {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من أنواع الكفر والمعاصي.
وفي الآية دلالة : على أن الكفاية والسعة في الرزق من سعادة المرء إذا كان شاكراً أو المراد بقوله لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة الكثرة التي تكون وبالاعلى من لا يشكر الله تعالى.
قال في "التفسير الفارسي" : (در حقايق سلمى فرموده كه اكر بندكان بكرديدندى بمواعد من وحذر كردندى از مخالفت يا بترسيدندى ازتهديد من دلهاء ايشانرا بنور مشاهده خود روشنى دادمى كه ببركت سما أشارت بدانست وجوارح وأعضاء ايشانرا بخدمت خود بيا راستمى كه بركت زمين عبارت ازآنست).
در زمين وآسمان درهاء جود
مى كشايند ازى اهل سجود
از زمين ر اطاعت بازكن
بر سماى معرفت رواز كن
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه لا لإنكار الوقوع ونفيه والفاء للعطف على قوله فأخذناهم بغتة ، والمعنى : أبعد ذلك الأخذ أمن أهل مكة ومن حولها من المكذبين لك يا محمد.
{أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَـاتًا} ليلاً {وَهُمْ نَآئِمُونَ} في فرشهم ومنازلهم لا يشعرون بالعذاب لغفلتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 206
(3/155)
{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} (يا ايمن شدند أهل شهرها) {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى} ضحوة النهار وبالفارسي (دروقت اشت) وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي : يلهون من فرط الغفلة بصرف الهمم فيما لا ينفع لا في أمر الدين ولا في أمر الدنيا أو يشتغلون بما لا ينفعهم من أمور الدنيا فإن من اشتغل بدنياه وأعرض عن آخرته فهو كاللاعب.
(ملخص سخن آنست كه بعد ازتكذيب رسل ازعذاب الهي ايمن نتوان بود نه بروز ونه بشب) {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} مكر الله استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب والمراد به إتيان بأسه تعالى في الوقتين المذكورين.
قال الحدادي : إنما سمي العذاب مكراً على جهة الاتساع والمجاز لأن المكر ينزل بالممكور من جهة الماكر من حيث لا يشعر وأما المكر الذي هو الاحتيال للإظهار بخلاف الإضمار فذلك لا يجوز على الله.
{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} الفاء فاء جواب شرط محذوف ، أي إذا كان استدراجه وأخذه على هذا
206
الوجه فلا يأمن مكره بهذا المعنى : {إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ} الذين ليسوا من القوم الرابحين قيل : معنى الآية ولا يأمن عذاب الله من العصاة أو لا يأمن عذاب الله من المذنبين والأنبياء عليهم السلام لا يأمنون عذاب الله على المعصية ولهذا لا يعصون بأنفسهم انتهى.
قال في "التأويلات النجمية" : مكره تعالى مع أهل القهر بالقهر ومع أهل اللطف.
باللطف {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} من أهل القهر {إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ} الذين خسروا سعادة الدارين ومن أهل اللطف إلا الخاسرون الذي خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى فعلى هذا أهل الله هم الآمنون من مكر الله ؛ لأن مكر الله في حقهم مكر باللطف دل عليه قوله : {أولئك لَهُمُ الامْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام : 82) ولهذا قال : {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} (الأنفال : 30) لأن مكرهم مكر في مستحقيه وغير مستحقيه بالقهر ومكره في مستحقيه باللطف فافهم واعتبر جداً انتهى.
واعلم : أن الأمن من مكر الله تعالى قد عد كفراً لكن هذا بالنسبة إلى أهل المكر دون أهل الكرم فإن كمل الأولياء مبشرون بالسلامة في حياتهم الدنيوية كما قال تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (يونس : 64) فلهم سلامة دنيوية وأخروية كما قال تعالى : {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لكنهم يكتمون سلامتهم لكونهم مأمورين بالكتمان وعلمهم بسلامتهم يكفي لهم ولا حاجة لهم بعلم غيرهم ، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلهم أن يخبروا بسلامتهم لكونهم شارعين فلا بد لغيرهم من العلم بسلامتهم حتى يؤمن ويقبل دعوتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 206
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ مِنا بَعْدِ أَهْلِهَآ} عدي فعل الهداية باللام لأنها بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل قوله أن لو نشاء ومعنى يرثون الأرض من بعد أهلها يخلفون من خلا قبلهم من الأمم المهلكة ويرثون ديارهم والمراد بهم أهل مكة ومن حولها ، والمعنى : أو لم يبين ويوضح لهم عاقبة أمرهم إن سلكوا طريق أسلافهم {ءَانٍ} مخففة ، أي : أن الشأن {لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَـاهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي : بجزاء ذنوبهم وسيئاتهم أو بسبب ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم.
قال سعدي لبى المفتي : ويجوز أن يضمن معنى أهلكناهم فلا حاجة إلى تقدير المضاف.
{وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} عطف على ما يفهم من قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَهْدِ} كأنه قيل لا يهتدون ونطبع على قلوبهم أي ختم عليها عقوبة لهم.
{فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي : أخبار الأمم المهلكة فضلاً عن التدبر والنظر فيها والاغتنام بما في تضاعيفها من الهدايات.
قال الكاشفي : (كوش دل ازاستماع سخن حق فائده داردنه كوش آب وكل).
اين سخن ازكوش دل بايد شنود
كوش كل اينجا ندارد هي سود
كوش سربا جمله حيوان همدم است
كوش سر مخصوص نسل آدم است
كوش سرون جانب كوينده است
كوش سر سهلت اكر آكنده است
جزء : 3 رقم الصفحة : 206
{تِلْكَ الْقُرَى} يعني : قرى الأمم المار ذكرهم فاللام للعهد.
{نَقُصُّ عَلَيْكَ} (خوانده ايم برتو) {مِنْ أَنابَآئِهَا} من للتبعيض ، أي : بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير.
{وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} الباء متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوف وقع حالاً من فاعله أي ملتبسين بالبينات.
والمعنى وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة رسولهم الخاص بهم بالمعجزات البينة المتكثرة المتواردة عليهم الواضحة الدلالة على صحة رسالته الموجبة
207
(3/156)
للإيمان حتماً.
{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي : فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام أن يؤمنوا عند مجيء الرسل بها {بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ} الباء صلة لم يؤمنوا ، أي بما كذبوه من قبل مجيء الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب فما كذبوه عبارة عن أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ، ودعوا أممهم إليها مثل ملة التوحيد ولوازمها ، ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمة التوحيد قط ، بل كانت كل أمة من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجيء رسلهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد ، ويجوز أن يكون المراد بعدم إيمانهم المذكور إصرارهم على ذلك وبما أشير بقوله تعالى بما كذبوا من قبل تكذيبهم من لدن مجيء الرسل إلى وقت الإصرار والعناد.
فالمعنى : حينئذٍ فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة فما كذبوه عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وعلى كلا التقديرين ، فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع.
وقيل ضمير كذبوا : راجع إلى أسلافهم.
والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء وحمله المولى أبو السعود على التعسف.
يقول الفقير : لو كانت الضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع أيضاً وجعل التكذيب تكذيب الآباء في الحقيقة وإنما أسند إلى الأبناء ما حقه أن ينسب إليهم من حيث الاتصال بينهم ورضي بعضهم عن بعض فيما فعله لكان معنى لا تعسف فيه أصلاً كما سبق أمثاله في البقرة في مخاطبات اليهود المعاصرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم {كَذَالِكَ} في محل النصب على أنه مفعول.
{يَطْبَعُ} أي : مثل ذلك الطبع الشديد المحكم يطبع {اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـافِرِينَ} أي : من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر ويجوز أن يكون إشارة إلى ما قبله مثل ذلك الطبع الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكفرة الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا أبداً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 207
{وَمَا وَجَدْنَا لاكْثَرِهِم} لقينا فوجدنا بمعنى صادفنا.
{مَّنْ عَـاهَدَ} من مزيدة في المفعول والمضاف محذوف ؛ إذ لا وجه لنفي نفس العهد أي ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد فإنهم نقضوا ما عاهدوا الله عليه عند مساس البأساء والضراء ، قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وتخصيص هذا الشان بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يفون بعهودهم بل لأن بعضهم كانوا لا يعاهدون ولا يفون ، ويحتمل أن يكون وجدنا بمعنى علمنا ويكون من عهد مفعوله الأول ولأكثرهم مفعوله الثاني.
{وَأَنْ} مخففة أي : أن الشأن {وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ} أي : علمنا أكثر الأمم {لَفَـاسِقِينَ} خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود.
وفي ترجمة الجلد الأخير من "الفتوحات المكية".
(حق تعالى بموسى عليه السلام وحى كرد هركه باميدتو آيد اورا بى بهره مكذار وهركه زينهار خواست اورا زينهارده موسى عليه السلام درسياحت بود ناكاه كبوترى بر كتف نشست وبازى عقب أو آمد وقصد إن كبوتر داشت بر كتف ديكر فرود آمد آن كبوتر در آستين موسى عليه السلام در آمد وزينهار ميخواست وباز بزبان فصيح بموسى آوازدادكه اي سر عمران مرا بى بهره مكذار ومياه من ورزق من جدايى ميفكن
208
موسى عليه السلام كفت ه زود مبتلا شدم ودست كرد تا ازران خود اره قطع كند براى طعمه باز تا حفظ عهد كرده باشد وبكار هردو وفانموده كفتند يا ابن عمران تعجيل مكن كه مارسولا نيم وغرض آن بودكه صحت عهد توآز مايش كنيم).
أيا سامعاً ليس السماع بنافع
إذا أنت لم تفعل فما أنت سامعإذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزاً
فما أنت في يوم القيامة صانع ولا كلام في وفاء الأنبياء بعهودهم ونقض الفاسقين لمواثيقهم وإنما الكلام فيمن ادعى الإيمان والاستسلام ثم لم يف بعهده يوماً من الإيمان.
قال الحافظ :
وفامجو زكس ورسخن نمى شنوى
بهرزه طالب سيمرغ وكيميا ميباش
(3/157)
وعن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : "ألا تبايعون رسول الله" وكنا حديثي عهد بيعته فقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال : "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتقيموا الصلوات الخمس وتطيعوا" وأسر كلمة خفية "ولا تسألوا الناس" ، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم لم يسأل أحداً يناوله" إياه يعني : خوفاً من نقض العهد واهتماماً في أمر الوفاء فانظر إلى هؤلاء الرجال ومبايعتهم ودخولهم في طريق الحق ومسارعتهم ، فإذا احترزوا عن سؤال مناولة السوط الذي سقط من أيديهم فما ظنك في الاحتراز عما فوقه من الأحوال المتواردة عليهم ، وأنت يا رجل وكلنا ذلك الرجل تجول في ميدان الخواطر الفاسدة ، ثم لا تقنع بذلك بل تطير إلى جانب مرادك من الأفعال الباطلة والأقوال الكاسدة ولعمري هذا ليس في طريق العوام ، فكيف في طريق الصوفية الذين عقدوا عقداً على أن لا يخطر بباله سوى الله ولا يسألوا منه تعالى غير الوصول إلى ذاته أين هم والله إن هذا زمان لم يُبققِ من التصوف إلا الاسم ولا من لباس التقوى إلا الرسم ، نسأل الله تعالى أن يوجهنا إلى محراب ذاته ويسلك بنا إلى طريق أفعاله وصفاته ويفيض علينا من سجال بركاته ويشرفنا بالخاصة من هداياته إنه هو الفياض من مشرع عناياته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 207
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِهِم مُّوسَى} أي : أرسلنا من بعد انقضاء وقائع الرسل المذكورين ، وهم نوح وهود ولوط وصالح وشعيب عليهم السلام ، والتصريح بذلك مع دلالة ثم على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى ، فإن الله تعالى من كمال رحمته على خلقه يبعث عند انصرام كل قرن وانقراض كل قوم نبياً بعد نبي كما يخلف قوماً بعد قوم وقرناً بعد قرن ويظهر المعجزات على يدي النبي ليخرجهم بظهور نور المعجزات من ظلمات الطبيعة إلى نور الحقيقة فإن أغلب أهل كل زمان وقرن وأكثرهم غافلون عن الدين وحقائقه مستغرقون في بحر الدنيا مستهلكون في أودية الشهوات واللذات النفسانية الحيوانية ظلمات بعضها فوق بعض.
{بآياتنا} حال من مفعول بعثنا وهو موسى ، أي بعثناه عليه السلام ملبتساً بآياتنا ، وهي الآيات التسع المفصلات التي هي : العصا واليد البيضاء والسنون ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، كما سيأتي.
{إِلَى فِرْعَوْنَ} هو لقب لكل من ملك مصر من العمالقة ، كما أن كسرى لقب لكل من ملك فارس ، وقيصر
209
لكل من ملك الروم ، وخاقان لكل من ملك الصين ، وتبع لكل من ملك اليمن.
والقيل لكل من ملك العرب ، والنجاشي لكل من ملك الحبش ، والخليفة لكل من ملك بغداد.
والسلطان لآل سلجوق واسمه قابوس وقيل الوليد بن مصعب بن ريان وكان من القبط وعمّر أكثر من أربعمائة سنة.
أي أشراف قومه وتخصيصهم مع عموم رسالته للقوم كافة لأصالتهم في تدبر الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور.
{فَظَلَمُوا بِهَا} عدّي بالباء لتضمين ظلموا معنى كفروا ، أي كفروا بالمعجزات وظلموا عليها بأن جعلوها سحراً فوضعوها في غير موضعها {فَانظُرْ} بعين عقلك يا من شأنه النظر والتأمل.
{كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} إلى كيفية ما فعلنا بهم فكيف خبر كان وعاقبة اسمها والجملة في محل النصب بنزع الخافض إذ التقدير فانظر إلى كذا ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للإفساد.
وفي "التفسير الفارسي" : (حضرت موسى عليه السلام ون از مصر فرار نمود ودرمدين بصحبت شعيب عليه السلام رسيد ودختراو صفورا بعقد در آورده عزم مراجعت بامصر نمود دراثناى طريق بوادى ايمن رسيد وخلعت يغمبرى يافت بمعجزه عصا ويد بيضا اختصاص ذيرفت حق سبحانه وتعالى فرمودكه بمصر رو وفرعون را بخداى تعالى دعوت كن موسى بيامد وبعد ازمدتى كه ملاقات فرعون دست داد آغاز دعوت كرد).
جزء : 3 رقم الصفحة : 207
قال الحدادي : نقلاً عن ابن عباس كان طول عصا موسى عشرة أذرع على طوله ، وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض ، فيخرج بها النبات ، فيلقيها فإذا هي حبة تسعى ويضرب بها الحجر فيتفجر وضرب بها باب فرعون ففزع منها فشاب رأسه فاستحيى فخضب بالسواد وأول من خضب بالسواد فرعون وهو حرام لا يجد فاعله رائحة الجنة.
قال صاحب "المحيط" : هذا في حق غير الغزاة أما من فعله من الغزاة ليكون أهيب في عين العدو لا للتزين فغير حرام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 207
{وَقَالَ مُوسَى} أي لما دخل على فرعون ومعه أخوه هارون بعثهما الله إليه بالرسالة قال يا فِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ} أي : إليك {مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} أدعوك إلى عبادة رب العالمين وأنهاك عن دعوى الربوبية فقال له فرعون كذبت ما أنت برسول فقال موسى.
(3/158)
{حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أي : جدير بأن لا أقول على الله إلا الحق فوضع على موضع الباء لإفادة التمكن ، كقولك : رميت على القوس ، وجئت على حالة حسنة ، أي : رميت بالقوس وجئت بحالة حسنة أو ضمن حقيق معنى حريص.
وفي "المدارك" : يجوز تعلق على بمعنى الفعل في الرسول أي إني رسول حقيق جدير بالرسالة أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق انتهى.
وقرأ نافع على بتشديد الياء.
ثم إن موسى لما ادعى أنه رسول من رب العالمين ذكر ما يدل على صحة دعواه فقال : {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ} أي : بمعجزة ظاهرة كائنة.
{مِّن رَّبِّكُمْ} يعني العصا واليد.
{فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي : فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وكان قد استعبدهم (وسبب آن بودكه ون يعقوب عليه السلام باأولاد وأحفاد خود بمصر آمدند همانجا قرار كرفتند ونسل ايشان بسيار شد ويعقوب ويوسف بابرادران دركذشتند وملك ريان كه فرعون زمان يوسف بود وبمرد سرش مصعب بني إسرائيل را حرمت ميداشت ومتعرض
210
إيشان نمى شد ون أو بمرد وليدكه فرعون زمان موسى بود برتخت سلطنت نشست وزبان بلاف أنا ربكم الأعلى بكشاد بني إسرائيل دعوى أو قبول نكردند كفت در شما درمخريده كسان ما بود وشما بنده زادكان ما ييد س ايشانرا ببندكى كرفت) ، وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب وبناء المنازل وأشباه ذلك فلما جاء موسى أراد أن يرجع بهم إلى موطن آبائهم الذي هو الأرض المقدسة وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام.
{قَالَ} فرعون : وهو استئناف بياني {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ} أي : من عند من أرسلك كما تدعيه.
{فَأْتِ بِهَآ} فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك فإن الإتيان والمجيء وإن كانا بمعنى واحداً لأن بينها فرقاً من حيث أن المجيء يلاحظ فيه نقل الشيء من جانب المبدأ ، والإتيان يلاحظ فيه إيصاله إلى المنتهى فإن مبدأ المجيء هو جناب المرسل ومنتهى الإتيان هو المرسل إليه.
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} في دعواك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 210
{فَأَلْقَى عَصَاهُ} من يده {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ} وهو الحية الصفراء الذكر أعظم الحيات لها عرف كعرف الفرس {مُّبِينٌ} أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعباناً ولا يختلج ببال أحد كونه من جنس العصا.
روي أنه لما ألقاها صارت ثعباناً أشعر أي كان له على ظهره شعور سود مثل الرماح الطوال فاغراً فاه ، أي فاتحاً بين لحييه ثمانون ذراعاً وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا.
والإشارة : أن الله تعالى جعل عصاه ثعباناً لأنه أضافها إلى نفسه حين قال : {هِىَ عَصَاىَ} (طه : 18) ثم جعلها محل حاجاته حيث قال : {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا} (طه : 18) ففيه إشارة إلى أن كل شيء أضفته إلى نفسك ، ورأيت محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا {قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى} (طه : 9) يعني : لا تتمسك بها ولا تتوكأ عليها ولا كان قادراً على أن يجعلها في يده ثعباناً كذا في "التأويلات النجمية".
ثم قال له فرعون : هل معك آية أخرى؟ قال نعم.
{وَنَزَعَ يَدَهُ} أي : أخرجها من جيبه أو من تحت إبطه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ} أي : بيضاء بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة ويجتمع عليها النظارة تعجباً من أمرها وذلك ما يروى أنه أرى فرعون يده وقال ما هذه فقال يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة من صوف ، ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعه شعاع الشمس وكان عليه السلام آدم شديد الأدمة.
وفيه إشارة : إلى أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء فلما تمسكت بالأشياء صارت ظلمانية فإذا نزعت عنها تصير بيضاء كما كانت فافهم جداً.
فلما شاهد فرعون هذه المعجزة تشاور مع أشراف قومه في أمر موسى.
{قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} أي : الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته {إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ} (جادويست) {عَلِيمٌ} مبالغ في علم السحر ماهر فيه ، ولما كان السحر غالباً في ذلك الزمان ولا شك أن أهل كل صنعة على طبقات مختلفة بحسب الحذاقة والمهارة زعم القوم أن موسى كان حاذقاً في علم السحر بالغاً فيه إلى أقصى الغاية ، وأنه جعل علمه وسيلة إلى طلب الملك والرسالة فلذلك قالوا.
211
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم} بسحره {مِّنْ أَرْضِكُم} مصر ويجعل الحكومة لبني إسرائيل فلما سمع فرعون هذا قال : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} بفتح النون وما في فماذا في محل النصب على أنه مفعول ثاننٍ لتأمرون بحذف الجار والأول محذوف ، والتقدير بأي شيء تأمرونني أي فإذا كان كذلك فماذا تشيرون؟
جزء : 3 رقم الصفحة : 210
(3/159)
{قَالُوا} لفرعون {أَرْجِهْ} أصله أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة والإرجاء التأخير {وَأَخَاهُ} هارون وعدم التعرض لذكره ، قيل : لظهور كونه معه حسبما تنادي به الآيات الآخر.
والمعنى آخر أمرهما ولا تعجل.
{وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ} الجار متعلق بأرسل.
والمدائن جمع مدينة وهي البقعة المسوّرة المستولي عليها ملك ، والمدائن صعيد مصر ، وكان له مدائن فيها السحرة المعدة لوقت الحاجة إليهم.
والمعنى : وابعث الشرط إلى هذه المدائن {حَـاشِرِينَ} مفعوله محذوف ، أي حاشرين السحرة.
والمعنى ليحشروا ويجمعوا إليك من فيها من السحرة.
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ} أي : ماهر في السحر.
والسحر في اللغة : لطف الحيلة في إظهار الأعجوبة ، وأصل ذلك من خفاء الأمر ومن ذلك سمي آخر الليل سحراً لخفاء الشخص ببقاء ظلمته والسحر الرئة سميت بذلك لخفاء أمرها بانتفاخها تارة وضمورها أخرى (آورده اندكه بهي قرن ندان ساحر نبوده كه در قرن موسى ورؤساء سحره بأقصى مداين صعيد بودند در تفسير دمياطى آورده كه درمداين صعيد دو برادر بودندكه ايشانرا در فن سحر وقوفى تمام بود ون فرستاده فرعون بديشان رسيد ما در خودرا كفتند مارا بسر قبر درما بر نان كرد وايشان در ودرا اواز دادندكه يا ابتا ملك مصر مارا طلبيده بجهت آنكه دوكس آمده اند بى لشكر وساه وكاربرو بد وننك آورده وايشانرا عصا ييست ون مى افكنند ادرها ميشود وهره يش او آيد مى خورد وفرعون داعيه نموده كه ايشان در خواب ميشود آن عصا همان ادرها ميشود يانه اكر ميكردد بدانيدكه جادويى نيست ه سحر ساحر وقتى كه در خواب باشد اثر ندارد ون حال بدين نموال باشد نه شما وهيكس ازعالميان را قوت معارضه با يشان نخواهد بود القصه برادران با شاكردان ومصاحبان كه دوازده هزار بودند ودرزاد المسير كويد هفتاد هزار بمصر آمدند وبنرد فرعون جمع شدند) توهموا أنهم بالتأخير وحسن التدبير وبذل الجد والتشمير يغيرون شيئاً من التقدير ولم يعلموا أن الحق غالب والحكم سابق وعند حلول الحكم فلا سلطان للعلم والفهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
{وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} بعدما أرسل إليهم الحاشرين {قَالُوا} واثقين بغلبتهم {إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـالِبِينَ} بطريق الإخبار بثبوت الأجر وإيجابه ، كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر عظيم حينئذٍ أو بطريق الاستفهام التقريري بحذف الهمزة ، وقولهم إن كنا بمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر أي إن كنا نحن الغالبين لا موسى.
{قَالَ نَعَمْ} أي : إن لكم لأجراً {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عندي في المنزلة.
قال الكلبي : قال لهم تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج منه.
وفي "التأويلات النجمية" : أجرى الله هذا على لسان فرعون حقاً
212
وصدقاً بأنهم صاروا من المقربين عند الله لا عند فرعون انتهى.
(آورده اندكه مهتراين جماعت هارتن بودند وآن دو برادركه شابور وغادور ميكفتند وديكر حطط ومصفى ودرلباب آورده كه اين هارنيز مهترى بود شمعون نام ون بمصر آمدند وشابرو وغادور واقعه سؤال وجواب در باقوم كفتند ايشان ازقصه حواب وبيدارىء موسى وادرها شدن عصا استفسار بليغ نمودند معلوم شدكه هركاه موسى درخوابست عصا ادرهاشده اسبانى ميكند ايشانرا ترددى بديد آمد ودغدغه در خاطر خطور كرد نهان ميداشتند تاوقتى كه فرعون موسى را طلبيده ومقرر شدكه جادوان مناظره كنند ومجلس معارضه انتظام يافت ساحران وعصا ورسنى ند بميدان آوردند فرعون بالا تخت بتفرج بنشست ومردم مصر بنظاره حاضر شدند هفتاد هزار ساحر بريك طرف وموسى وهاريون بريك جانب بايستادند جادوان بطريق ادب يش آمده).
{قَالُوا يا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ} أي : عصاك أولاً {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أي : حبالنا وعصينا أوّلاً خيروا موسى عليه السلام فإن كلمة إما فيها للتخيير ويطلق عليها حرف العطف مجازاً.
قال المفسرون : تأدبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم.
{قَالَ أَلْقُوْا} .
إن قيل : كيف قال ألقوا والأمر بالسحر لا يجوز.
أجيب يجوز ألقوا إن كنتم محقين على زعمكم ويجوز أن يكون أمرهم بالإلقاء لتأكيد المعجزة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
قال القاضي : قال ألقوا كرماً وتسامحاً وازدراء بهم ووثوقاً على شأنه ، يعني : ليس أمرهم بالإلقاء قبله من قبيل الإباحة للسحر والرضى بالكفر ، والمعنى ألقوا ما تلقون.
{فَلَمَّآ أَلْقَوْا} ما ألقوا {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (جادويى كردند برشمهاى مردمان) بأن خيلوا إليهم ما لا حقيقة له.
(3/160)
قال ابن الشيخ : قلبوها وصرفوها على أن تدرك الشيء على ما هو عليه بسبب ما فعلوه من التمويهات.
{وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} استفعل ههنا بمعنى أفعل والسين لتأكيد معنى الرهبة ، أي بالغوا في إرهابهم.
{وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في وقته.
روي أنهم جمعوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً كأنها حيات جسام غلاظ ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دخل تلك العصي فلما أثرت حرارة الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً تخيل الناس أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وصار الميدان كأنه مملوء بالحيات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَا فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} الفاء فصيحة ، أي : فألقاها فصارت حية فإذا هي تلقف ، أي : تلقم وتبتلع من لقف يلقف على وزن علم يعلم ، يقال لقفته ألقفه لقفاً وتلقفته أتلقفه تلقفاً إذا أخذته بسرعة فأكلته وابتلعته ويأفكون ، أي : يزورون من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه.
روي أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت وأعدم الله بقدرته القاهرة تلك الأجرام العظام أو فرقها أجزاء لطيفة ، فقالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
{فَوَقَعَ الْحَقُّ} أي : ثبت وصدق موسى عليه السلام في قوله (إني رسول من رب العالمين) حيث صدق الله تعالى بما أظهر على يده من المعجزة الباهرة.
{وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله وهو السحر.
{فَغُلِبُوا} أي : فرعون وأتباعه {هُنَالِكَ}
213
أي : في مجلسهم.
{وَانقَلَبُوا صَـاغِرِينَ} أي : صاروا أذلاء مبهوتين فالانقلاب هنا بمعنى الصيرورة.
{وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ} أي : خروا سجداً كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم كيف لا وقد بهرهم الحق واضطرهم إلى ذلك ، ففي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه حالهم في سرعة الخرور وشدته حين شاهدوا المعجزة القاهرة بحال من ألقي على وجهه فعبر عن حالهم بما يدل على حال المشبه به.
{قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
رب موسى وهارون أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أن مرادهم فرعون لأن فرعون وإن ربى موسى وهو صغير إلا أنه لم يربّ هارون قطعاً قال ابن عباس : آمنت السحرة واتبع موسى من بني إسرائيل ستمائة ألف.
{قَالَ فِرْعَوْنُ} منكراً على السحرة موبخاً لهم على ما فعلوه.
{بِه ا ءَآلَاـانَ} بهمزة واحدة إما على الإخبار المحض المتضمن للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخي بحذف الهمزة ، كما مر في (إن لنا لأجراً) {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} أي : بغير أن آذن لكم ، كما في قوله تعالى : {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى} (الكهف : 109) لا أن الأذن منه ممكن في ذلك.
{إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} يعني : إن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهوره المعجزة بل هو حيلة احتلتموها أنتم وموسى.
{فِى الْمَدِينَةِ} يعني : مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
روي أن موسى وأمير السحرة التقيا ، فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك لتؤمنن بي وتشهدن أن ما جئت به الحقّ فقال الساحر والله لئن غلبتني لأؤمنن لك وفرعون يسمعها وهو الذي نشأ عنه هذا القول.
{لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا} يعني : القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة ما فعلتم وهو تهديد مجمل تفصيله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
{لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ} أي : من كل شق طرفاً يعني أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى.
{ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} على شاطىء نهر مصر على جذوع النخل تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم.
قيل : هو أول من سنّ ذلك فشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيماً لجرمهم ولذلك سماهم تعالى محاربة الله ورسوله.
{قَالُوا} ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان وهو استئناف بياني.
{إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون ، أي : بالموت لا محالة سواء كان ذلك من قبلك أم لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابه ، منقلبون إن فعلت بنا ذلك كأنهم استطابوه شغفاً على لقاء الله تعالى.
وفي "المثنوي" :
جانهاى بسته اندر آب وكل
ون رهند ازآب وكلها شاد دلدرهواى عشق حق رقصان شوند
همو قرص بدر بي نقصان شوند
ون نقاب تن برفت ازروى روح
ازلقاى دوست دارد صد فتوحميزند جان در جهان آبكون
نعره يا ليت قومي يعلمون {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} أي : وما تنكر وما تعيب منا.
{إِلا أَنْ ءَامَنَّا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا} وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلباً لمرضاتك.
(3/161)
ثم فزعوا إلى الله تعالى فقالوا {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي : أفض علينا من الصبر على وعيد فرعون ما يغمرنا كما يغمر الماء فإفراغ الماء أي صبه من قبيل الاستعارة شبه الصبر على وعيد فرعون بالماء الغامر تشبيهاً مضمراً في النفس وجعل نسبة الإفراغ إليه تخييلاً للاستعارة بالكناية لأن الإفراغ
214
من لوازم الماء وملائماته.
{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد قيل لم يقدر عليهم لقوله تعالى : {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فأخذ فرعون السحرة فقطعهم ثم صلبهم على شاطىء نيل مصر.
وفي "المثنوي" :
ساحران ون حق او بشناختند
دست وا در جرمها در باختند
وفي القصة : إشارة إلى أن فرعون النفس أيضاً منكر على إيمان سحرة صفاتها ويقول : {بِه ا ءَآلَاانَ} أي : بموسى الروح {ءَامَنتُم بِه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} يعني : بالإيمان به {إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} يا سحرة الصفات في موافقة موسى الروح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
{فِى الْمَدِينَةِ} مدينة القالب والبدن {لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا} وهو اللذات والشهوات البدنية الجسمانية ، فإن صفات النفس إذا آمنت ووافقت الروح وصفاته خرجت من البدن لذات الدنيا وشهواتها.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حيلي ومكايدي في إبطالكم واستيفاء اللذات والشهوات.
{لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ} بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة.
{ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} في جذوع تعلقات الدنيا وزخارفها.
{قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} لا إلى الدنيا وما فيها {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} على قطع تعلقات الدنيا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} لعبوديتك.
{وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} .
روي أن فرعون بعد ما رأى من موسى عليه السلام ما رأى من معجزة العصا واليد البيضاء خافه أشد الخوف ، فلذلك لم يجب ولم يتعرض له بسوء بل خلى سبيله ، فلذلك قال له أشراف قومه : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ} أي : أتتركهم.
{لِيُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} أي : يفسدوا على الناس دينهم في أرض مصر ويصرفوهم عن متابعتك.
{وَيَذَرَكَ} عطف على يفسدوا {وَءَالِهَتَكَ} معبوداتك.
قيل : كان يعبد الكواكب والأصح كما في "التفسير الفارسي" أنه صنع لقومه أصناماً على صورته وأمرهم بأن يعبدوها تقرباً إليه ، ولذلك قال : أنا ربكم الأعلى ، {قَالَ} فرعون مجيباً لهم {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ} (زود باشدكه بكشيم سران ايشانرا).
{وَنَسْتَحْى نِسَآءَهُمْ} أي : نتركهن أحياء ولا نقتلهن بل نستخدمهن والمقصود سنعود إلى قتل أبنائهم واستخدام نسائهم كما كنا نفعل وقت ولادة موسى ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه.
{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} أي : مستعلون عليهم بالقوة كما كنا لم يتغير حالنا أصلاً ، وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} تسلية لهم وعدة لحسن العاقبة حين سمعوا قول فرعون وعجزوا عنه {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} (يا رى خواهيد ازخداى تعالى دردفع بلاى فرعون) {وَاصْبِرُوا} على ما سمعتم من أقاويله الباطلة {إِنَّ الارْضَ} أي أرض مصر.
{يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} (ميراث دهدهر كرا ميخواهد ازبندكان خود) {وَالْعَاقِبَةُ} (عاقبة نيكويانصرت وظفر يابهشت) {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين أنتم منهم ؛ لأنه روي أنه لما غلب سحرة فرعون وتبين نبوة موسى بسطوع حجته آمن بموسى من بني إسرائيل ستمائة ألف نفس واتقوا عن الشرك والعصيان ، وفيه إيذان بأن الاستعانة بالله تعالى والصبر من باب التقوى.
قال الحافظ :
آنكه يرانه سرم صحبت يوف بنواخت
اجر صبريست كه دركلبه أحزان كردم
215(3/162)
{قَالُوا} أي : بنو إسرائيل.
{أُوذِينَا} أي : من جهة فرعون.
{مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} أي : بالرسالة يعنون بذلك قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام وبعده.
{وَمِنا بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} أي : رسولاً ، يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والظلم والعذاب.
{قَالَ} أي : موسى عليه السلام لما رأى شدة جزعهم مما يشاهدونه مسلياً لهم بالتصريح بما لوّح به في قوله : {إِنَّ الارْضَ} الآية {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} أي : يرجى أن ربكم قارب إهلاك عدوكم الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بإعادته ، فعسى من العبد لطمع مضمون خبرها ، ومن الله تعالى إطماع وما أطمع الله فيه فهو واجب لأن الكريم إذا طمع ووعد وفى فيصير كأنه أوجبه على نفسه.
{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرْضِ} أي يجعلكم خلفاء في أرض مصر وفي الأرض المقدسة.
{فَيَنظُرَ} النظر قد يراد به الفكر المؤدي إلى العلم وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي ليترتب عليه الرؤية ، وكل واحد من المعنيين مستحيل في حقه تعالى فهو مجاز عن الرؤية التي هي غاية للنظر أي : فيرى {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أحسناً أم قبيحاً فيجازيكم حسبما يظهر منكم من شكر وكفران وطاعة وعصيان وفي الحديث : "إن الدنيا حلوة خضرة" يعني : حسنة في المنظر تعجب الناظر والمراد من الدنيا صورتها ومتاعها ، وإنما وصفها بالخضرة ؛ لأن العرب تسمى الشيء الناعم خضراً أو لتشبهها بالخضراوات في سرعة زوالها وفيه بيان كونها غرارة يفتتن الناس بحسنها وطعمها ، "وإن الله مستخلفكم فيها" أي : جاعلكم خلفاء في الدنيا يعني إن أموالكم ليست هي في الحقيقة لكم وإنما هيتعالى جعلكم في التصرف فيها بمنزلة الوكلاء ، "فناظر كيف تعملون" أي : تتصرفون ، قيل : معناه جاعلكم خلفاء ممن كان قبلكم ومعطى ما في أيديهم إياكم فناظر هل تعتبرون بحالهم وتتدبرون في مآلهم.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ند كبر از مصائب دكران
تا نكيرند ديكران زتوند
والإشارة : أن فرعون النفس قال له قوم الهوى والغضب والكبر {أَتَذَرُ} موسى الروح {وَقَوْمِهِ} من القلب والسر والعقل.
{لِيُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} في أرض البشرية.
{وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} من الدنيا والشيطان والطبع لا تعبد.
{قَالَ} فرعون النفس {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ} وأبناء صفات الروح والقلب والنفس أعمالها الصالحة ، أي نبطل أعمالهم بالرياء والعجب.
{وَنَسْتَحْى نِسَآءَهُمْ} أي : الصفات التي منها تتولد الأعمال {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ} بالمكر والخديعة والحيلة.
{قَالَ مُوسَى} الروح {لِقَوْمِهِ} وهم القلب والعقل والسر.
{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق {إِنَّ الارْضَ} أي : أرض البشرية {يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فيتصف بصفاته ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها.
{وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء والسعداء منهم.
{قَالُوا} يعني قوم الروح له {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} أي : قبل أن تأتينا بالواردات الروحانية قبل البلوغ كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها.
216
{وَمِنا بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ تتأذى من دواعي البشرية.
{قَالَ} يعني : الروح {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} النفس وصفاتها بالواردات الربانية ويدفع أذيته عنكم فبه يشير إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية.
{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ} يعني : إذا تجلى الرب بصفة من صفاته لا يبقى في أرض البشرية من صفات النفس صفة إلا ويبدلها بصفات الروح والقلب ويستخلفها {فِى الارْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في إقامة العبودية وأداء شكر نعم الربوبية كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
{وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ} أي : قوم فرعون وأهل دينه وآل الرجل خاصته الذين يؤول أمره إليهم وأمرهم إليه.
{بِالسِّنِينَ} جمع سنة : وهي في الأصل بمعنى العام مطلقاً إلا أنها غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به حتى صارت كالعلم له كالنجم غلب على الثريا.
{وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} بإصابة العاهات زيادة في القحط لأن الثمار قوت الناس وغذاؤهم.
وعن كعب ، يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة.
(3/163)
قال ابن عباس : أما السنون فكانت لباديتهم وأهل ماشيتهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم.
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} كي يتذكروا ويتعظوا بذلك ويتيقنوا أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجروا عما هم عليه من العتو والعناد ، فلعل علة المأخذ إما بناء على تجويز تعليل أفعاله تعالى بأغراض راجعة إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة ، وإما تنزيلاً لترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هي علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه.
دلت الآية على أن المحن والشدائد والمصيبات موجبات الانتباه والاعتبار ، ولكن لأهل السعادة وأولي الأبصار فأما أهل الشقاوة فلا ينبههم كثرة النعمة ولا يوقظهم شدة النقمة.
قال الشيخ السعدي قدس سره :
بكوشش نرويد كل از شاخ بيد
نه زنكى بكرمابه كردد سفيد
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
{فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} أي : السعة والخصب وغيرهما من الخيرات.
{قَالُوا لَنَا هَـاذِهِ} أي : لأجلنا واستحقاقنا لها ولم يروا ذلك فضلاً من الله.
{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ} أي : جدب وبلاء {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَه} أي : يتشاءموا بموسى وأصحابه ويقولوا ما أصابتنا إلا بشؤمهم وأصله يتطيروا أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجهما واشتقاق التطير من الطير كالغراب وشبهه سمي الشؤم ضد اليمن طيراً وطائراً تسمية للمدلول باسم ما يدل عليه ، فإنهم يجعلون الطير والطائر إمارة ودليلاً على شؤم الأمر وبناء التفعل فيه للتجنب أي لبعد الفاعل عن أصله كتحوب أي تجنب وتباعد من الحوب وهو الإثم وسيجيء تفصيل الطيرة.
قال سعيد بن جبير : كان ملك فرعون أربعمائة سنة فعاش ثلاثمائة سنة لا يرى مكروهاً ولو رأى في تلك المدة جوع يوم ، أو حمى يوم ، أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية ، ولما قالوا سبب ما جاءنا من الخير والحسنة هو استحقاق أنفسنا إياه وسبب ما أصابنا من السيئة والشر هو شأمة موسى ومن معه كذبهم الله تعالى في كل واحد من الحكمين بقوله : {إِلا} اعلموا {إِنَّمَا طَائرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أي : سبب ما أصابهم من الخير والشر إنما هو عند الله تعالى وصفة قائمة به ، وهي قضاؤه وتقديره ومشيئته
217
وهو الذي أيهما شاء أصابهم به وليس بيمن أحد ولا بشؤمه عبر عما عند الله تعالى بالطائر تشبيهاً له بالطائر الذي يستدل به على الخير والشر ، أو سببه شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم السيئة المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم لا ما عداها ، فالطائر عبارة عن الشؤم على طريق تسمية المدلول باسم الدليل بناء على أنهم يستدلون بالطير على الشؤم ، {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم فيقولون ما يقولون مما حكي عنهم وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك ولكن لا يعملون بمقتضاه عناداً واستكباراً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
واعلم أن الطير بمعنى التشاؤم والاسم منه الطيرة على وزن العنبة وهو ما يتشاءم به من الفأل الرديء.
والأصل في هذا : أن العرب كانوا يتفاءلون بالطير فإن خرج أحدهم إلى مقصده وأتى الطير من ناحية يمينه يتمين به ويتبرك ويسميه سانحاً ، وإن أتى من ناحية شماله يتشاءم به ويسميه بارحاً فيرجع إلى بيته ثم كثر قولهم في الطير حتى استعملوه في كل ما تشاءموا به ، وأبطل النبي عليه السلام الطيرة بقوله : "الطيرة شرك" قاله : "ثلاثاً" وإنما قال شرك لاعتقادهم أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضرراً إذا عملوا بموجبها ، فكأنهم أشركوها مع الله تعالى.
قال عبد الله : من خرج من بيته ثم رجع لم يرجعه إلا الطيرة رجع مشركاً أو عاصياً.
وذكر في "المحيط" : إذا صاحت الحمامة ، فقال رجل : يموت المريض كفر القائل عند بعض المشايخ ، وإذا خرج الرجل إلى السفر فصاح العقعق فرجع من سفره فقد كفر عند بعض المشايخ.
قال عكرمة : كنا عند ابن عمر وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فمر غراب يصيح ، فقال : رجل من القوم خير خير ، فقال ابن عباس : لا خير ولا شر ، وإنما اختص الغراب غالباً بالتشاؤم به أخذاً من الاغتراب بحيث قالوا غراب البين ؛ لأنه بان عن نوح عليه السلام لما وجهه لينظر إلى الماء فذهب ولم يرجع ، ولذا تشاءموا به واستخرجوا من اسمه الغربة.(3/164)
قال ابن مسعود : لا تضر الطيرة إلا من تطير ومعناه أن من تطير تطيراً منهياً عنه أو يراه مما يتطير به حتى يمنعه مما يريده من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه ، فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفاً ورجاء ، وقطعه عن الالتفات إلى الأسباب المخوفة وقال ما أمر به من الكلمات ومضى فإنه لا يضره فالمراد بالكلمات ما في قوله عليه السلام : "ليس عبد إلا سيدخل قلبه الطيرة ، فإذا أحس بذلك فليقل : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ولا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان لا يأتي بالحسنات إلا الله ، ولا يذهب بالسيئات إلا الله وأشهد أن الله على كل شيء قدير" ، ثم يمضي إلى حاجته أي كل ما أصاب الإنسان من الخير والشر واليمين والشؤم ليس إلا بقضائك وتقديرك وحكمك ومشيئتك وفي الحديث : "الشؤم في المرأة والفرس والدار".
فشؤم المرأة سوء خلقها أو غلاء مهرها ، وقيل أن لا تلد.
وشؤم الفرس عدم انقياده أو أنه لا يغزى عليه ، وشؤم الدار ضيقها أو سوء جارها وهذا الحكم على وجه الغلبة لا القطع خص الثلاث بالذكر لأن فيها يصل الضرر الكثير إلى صاحبها أو لأنها أقرب إلى الآفة فيما يبتلى به الإنسان فمن تشاءم بالمذكورات فليفارقها واعترض عليه بحديث : "لا طيرة" أجاب ابن قتيبة بأن هذا مخصوص منه أي لا طيرة إلا في
218
هذه الثلاث.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
وسمع فيلسوف صوت مغن بارد ، فقال : يزعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت الإنسان فإن كان ما ذكروه حقاً فصوت هذا يدل على موت البومة.
زيبقم در كوش كن تانشنوم
يا درم بكشاى تا بيرون روم
وتساقطت النجوم في أيام بعض الأمراء فخاف من ذلك وأحضر المنجمين والعلماء فما أجابوا بشيء فقال جميل الشاعر :
هذي النجوم تساقطت
لرجوم أعداء الأمير فتفاءل به وأمر له بصلة حسنة ولا بأس بأن يتفاءل بالفأل الحسن ، وكان النبي عليه السلام يحب الفأل ويكره الطيرة ، والفأل الحسن هي الكلمة الصالحة يسمعها من أخيه نحو أن يسمع أحد وهو طالب أمر يا واجد يا نجيح أو يكون في سفر فيسمع يا راشد ، يعني : يا واجد الطريق المستقيم أو مريضاً فيسمع يا سالم فالتفاؤل بالأمور المشروعة مشروع والطيرة منهي عنها.
والفرق بين الفأل والطيرة : مع أن كل واحد منهما استدلال بالأمارة على مآل الأمر وعاقبته أن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية والطيرية فالكلمة الحسنة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير وحركات البهائم فإن أرواحها ضعيفة فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال.
ويروى أن النبي عليه السلام "حول رداءه في الاستسقاء" وذكر في "الهداية" إنه كان تفاؤلاً يعني قلب علينا الحال كما قلبنا رداءنا.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه فقال : "ابسط رداءك" فبسطته ففرق بيديه ثم قال : "ضمه" فضممته فما نسيت شيئاً بعده" ، وهذا البسط والفرق والضم ليس إلا تفاؤلاً وإلا فالعلم ليس مما يسقط على الرداء ويمكن فيه الفرق والضم ولكن التفاؤل يحصل به يعني كما بسطت ردائي توقياً لما يسقط فيه فكذلك أصغيت سمعي لما يقع فيه من الكلام ، وكما أعطيت شخصاً كثيراً من الرزق يفرق بين اليدين فكذا أعطيته شيئاً كثيراً من العلم ، وكما يؤمن بالضم من سقوط ما في الرداء كذلك يؤمن من خروج ما في السمع أو نسيان ما في الخاطر فبعض الأوضاع يدل على بعض الأحوال كما أن بعض الأسماء يدل على بعض الأمور ، كما حكي أن عمر رضي الله عنه قال لرجل : ما اسمك؟ قال جمرة ، قال ابن من قال ابن شهاب ، قال من أين؟ قال : من الخرقة ، قال أين تسكن؟ قال : في الحرة وهي أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت فقال عمر : أدرك أهلك فقد احترقوا فرجع فوجدهم قد احترقوا ، وأراد عمر رضي الله عنه الاستعانة برجل فسأله عن اسمه فقال : ظالم بن سراق فقال : تظلم أنت ويسرق أبوك ولم يستعن ودل هذا على تبديل الأسماء القبيحة بالأسماء الحسنة فإن في الأسماء الحسنة التفاؤل ونظير ذلك ما يفهم من قوله عليه السلام : "لا تمارضوا فتمرضوا" يعني أن من أظهر المرض ، وقال : أنا مريض فهذا القول والفعل منه يتمر المرض ويؤاخذ به.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
كفت يغمبركه رنجورى بلاغ
برنج آرد تابميرد ون راغ
والله الهادي إلى الحسنات وهو دافع السيئات.
{وَقَالُوا} أي : فرعون وقومه بعد ما رأوا
219
(3/165)
من شأن العصا والسنين ونقص الثمرات {مَهْمَا} اسم شرط يجزم فعلين كقولك مهما تفعل أفعل كأن قائلاً قال لك لا تقدر على أن تفعل ما أفعل فتقول له مهما تفعل أفعل ومحله الرفع على الابتداء وخبره فما نحن لك بمؤمنين ، أي أيّ شيء وبالفارسية (هريزكه) {تَأْتِنَا بِهِ} تظهر لدينا وتحضره والضمير لمهما.
{مِّنْ ءَايَةٍ} بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم {لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتسكرها ، {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي : بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} .
روي أن القوم لما عالجهم موسى بالآيات الأربع العصا واليد والسنين ونقص الثمرات فكفروا ودعا وكان حديداً فقال يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه نقضوا عهدك فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم عبرة فأرسل الله عليهم عقوبة لجرائمهم {الطُّوفَانَ} أي الماء الذي طاف بهم وأحاط وغشى أماكنهم وحرثهم من مطر أو سيل {وَالْجَرَادَ} في التفسير الفارسي (ملخ رنده).
وفي "حياة الحيوان" : الجراد البري إذا خرج من بيضته يقال له : الدباء فإذا بدت فيه الألوان واصفرت الذكور واسودت الإناث يسمى جراداً حينئذٍ وفي الحديث : "لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم" وهذا إن صح أراد به إذا لم يتعرض لإفساد الزرع فإن تعرض له جاز دفعه بالقتل وغيره ، ووقعت بين يدي النبي عليه السلام ، جرادة فإذا مكتوب على جناحيها بالعبرانية نحن جند الله الأكبر ولنا تسع وتسعون بيضة ، ولو تمت لنا المائة لأكلنا الدنيا وما فيها فقال النبي عليه السلام : "اللهم أهلك الجراد اقتل كبارها وأمت صغارها وأفسد بيضها وسد أفواهها عن مزارع المسلمين وعن معايشهم إنك سميع الدعاء" فجاء جبرائيل عليه السلام فقال : إنه قد استجيب لك في بعضه.
وعن حسن بن علي : كنا على مائدة نأكل أنا وأخي محمد بن الحنفية وبنو عمي عبد الله وقثم والفضل بن العباس فوقعت جرادة على المائدة فأخذها عبد الله ، وقال لي ما مكتوب على هذه؟ فقلت سألت أبي أمير المؤمنين عن ذلك فقال سألت عنه رسول الله فقال مكتوب عليها أنا الله لا إله إلا أنا رب الجراد ورازقها وإن شئت بعثتها رزقاً لقوم وإن شئت بعثتها بلاء على قوم فقال عبد الله هذا من العلم المكنون" وليس في الحيوان أكثر فساداً لما يقتاته الإنسان من الجراد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
وأجمع المسلمون على إباحة أكله ، قال الأربعة : يحل أكله سواء مات حتف أنفه أو بذكاة أو باصطياد مجوس أو مسلم قطع منه شيء أو لا والدليل على عموم حله قوله عليه السلام : "أحلت لنا ميتتان ودمان الكبد والطحال والسمك والجراد" وإذا تبخر إنسان بالجراد البري نفعه من عسر البول.
وقال ابن سينا : إذا أخذ منها اثنا عشر ونزعت رؤوسها وأطرافها وجعل معها قليل آس يابس وشرب للاستسقاء نفعه.
وأما الجراد البحري فهو من أنواع الصدف كثير بساحل البحر ببلاد المغرب ويأكلونها كثيراً مشوياً ومطبوخاً ولحمها نافع للجذام.
{وَالْقُمَّلَ} في التفسير الفارسي (ملخ ياده) وقيل : هو كبار القردان وهو جمع قراد يقال له بالتركي "كنه" مسلط على البعير وفي الأمثال أسمع من قراد وذلك أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرك لها وقيل : هو السوس الذي يخرج من الحنطة وقيل : إنه
220
شيء يقع في الزرع ليس بجراد فيأكل السنبلة وهي غضة قبل أن تقوى فيطول الزرع ولا سنبل له وقرأ الحسن والقمل بفتح القاف وسكون الميم يريد به القمل المعروف الذي يقع في بدن الإنسان وثوبه وإذا ألقيت القملة حية أورثت النسيان.
قال الجاحظ : وفي الحديث : "أكل الحامض ، وسؤر الفار ، ونبذ القمل يورث النسيان" وإذا أردت أن تعلم هل المرأة حامل بذكر أو أنثى فخذ قملة واحلب عليها من لبنها في كف إنسان فإن خرجت من اللبن فهي جارية وإن لم تخرج فهو ذكر وإن حبس على إنسان بوله فخذ قملة من قمل بدنه واجعلها في إحليله فإنه يبول من وقته ، والقمل المعروف يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوباً أو ريشاً أو شعراً حتى يصير المكان عفناً.
قال الجاحظ : وربما كان للإنسان قمل الطباع وإن تنطف وتعطر وبدل الثياب كما عرض لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام حين استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في لباس الحرير فأذن لهما فيه ولولا أنهما كانا في حد ضرورة لما أذن لهما لما في ذلك من التشديد فيجوز لبس الثوب الحرير لدفع القمل لأنه لا يقمل بالخاصية.
قال في "أنوار المشارق" : والأصح أن الرخصة لا تختص بالسفر انتهى.
وفي "الواقعات المحمودية" : أن القمل يكون من البرودة ولذلك يكثر في الشتاء ولا يكون في الصيف.
(3/166)
قال السيوطي : ولم يقع على ثيابه عليه السلام ذباب قط ولا أذاه القمل.
{وَالضَّفَادِعَ} جمع ضفدع مثل خنصر وهو الأشهر الصحيح من حيث اللغة والأنثى ضفدعة وناس يقولون بفتح الدال كدرهم ، وأنكره الخليل حيث قال : ليس في الكلام فعلل إلا أربعة أحرف درهم وهجدم وهبلع وبلعم وهو اسم والضفادع أنواع كثيرة ويكون من سفاد وغير سفاد فالذي من سفاد يبيض في البر ويعيش في الماء والذي من غير سفاد يتولد في المياه القائمة الضعيفة الجري ومن العفونات وغب الأمطار الغزيرة حتى يظن أنه يقع من السحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة عقيب المطر والريح وليس ذلك عن ذكر وأنثى ، وإنما الله تعالى يخلقه في تلك الساعة من طباع تلك التربة وهي من الحيوانات التي لا عظام لها وفيها ما ينق وفيها مالا ينق والذي ينق منها يخرج صوته من قرب أذنه وتوصف بحدة السمع إذا تركت النقيق وكانت خارج الماء ، وإذا أرادت أن لا تنق أدخلت فكها الأسفل في الماء ومتى دخل الماء في فيها لا تنق وما أظرف قول بعض الشعراء وقد عوتب في كلامه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
قالت الضفدع قولاً
فسرته الحمكاء
في فمي ماء وهل
ينطق من في فيه ماء قال سفيان : يقال إنه ليس شيء أكثر ذكراًمنه.
قال الزمخشري : تقول في نقيقها سبحان الملك القدوس.
روي أن داود عليه السلام قال : لأسبحن الله الليلة تسبيحاً ما سبحه أحد من خلقه فنادته ضفدع من ساقية في داره يا داود أتفخر على الله تعالى بتسبيحك وإن لي لسبعين سنة ما جفّ لي لسان من ذكر الله وإن لي لعشر ليال ما طعمت خضراء ولا شربت ماء اشتغالاً بكلمتين ، قال : ما هما قالت يا مسبحاً بكل لسان ومذكوراً بكل مكان ، فقال داود في نفسه : وما عسى أن أكون أبلغ من هذا.
وعن أنس "لا تقتلوا الضفادع فإنها مرت بنار إبراهيم عليه السلام فحملت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار".
وقال ابن سينا : إذا كثرت الضفادع في سنة وزادت
221
على العادة يقع الوباء عقيبه.
وفي "الواقعات المحمودية" : تعبير الضفدع أنه نقصان خفي فإنه يذكر أنه كان في الأصل كيالاً فلأجل نقصانه في الكيل أدخل فيه ، ومن خواصه أنه إذا أخذت امرأة ضفدع الماء وفتحت فاه وبصقت فيه ثلاث مرات ورمته إلى الماء فإنها لا تحبل ودمه إذا طلي به الموضع الذي نتف شعره لم ينبت أبداً ، وشحم الضفادع الإجامية إذا وضع على الأسنان قلعها من غير وجع.
قال القزويني : ولقد كنت بالموصل ولنا صاحب في بستان بنى مجلساً وبركة فتولدت فيها الضفادع وتأذى سكان المكان بنقيقها وعجزوا عن إبطاله حتى جاء رجل وقال اجعلوا طشتاً على وجه الماء مقلوباً ففعلوا فلم يسمعوا لها نقيقاً بعد ذلك.
{وَالدَّمَ} .
روي إنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يستطيع أن يخرج واحد من بيته ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم وهي جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر ، والعاتق وهو موضع الرداء من المنكب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة مع أنها كانت مختلطة ببيوت القبط فاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام سبعة أيام ، فقالوا له عليه السلام : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فكشف عنهم فنبت من العشب والكلاء ما لم يعهد مثله فقالوا هذا كنا نتمناه وما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصباً ، فلا والله لا نؤمن بك يا موسى فنقضوا العهد وأقاموا على كفرهم شهراً فبعث الله عليهم الجراد بحيث وقع على الأرض بعضه على بعض ذراعاً فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه شيء ففزعوا إليه عليه السلام كما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها بعد أن أقام في أرضهم سبعة أيام فلم يبق جرادة واحدة ثم نظروا فإذا في بعض المواضع من نواحي مصر بقية كلاء وزرع فقالوا هذا يكيفنا بقية عامنا هذا فلا والله لا نؤمن بك فسلط الله عليهم القمل فمكث في أرضهم سبعة أيام فلم يبق لهم عوداً أخضر ولحس جميع ما في أراضيهم مما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين ثيابهم وجلودهم فيمصها وينهشهم ويأكل شعورهم وحواجبهم وأشفار عيونهم ومنعهم النوم والقرار وظهر بهم منه الجدري.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
(3/167)
قال الحدادي في "تفسيره" : هم أول من عذبوا بالجدري وبقي في الناس إلى الآن ثم فزعوا إليه عليه السلام ثالثاً فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحر قالوا وما عسى ربك أن يفعل بنا وقد أهلك كل شيء من نبات أرضنا فعلى أي شيء نؤمن بك اذهب فما استطعت أن تفعل فافعله ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلىء منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم ، وهي تغلي وإلى أفواههم عند التكلم وكان بعضهم لا يسمع كلام بعض من كثرة صراخ الضفادع ، وكانوا إذا قتلوا واحداً منها خافوا ما حول محله حتى لا يستطيعون الجلوس فيه ففزعوا إليه رابعاً وتضرعوا فأخذ عليهم العهود فدعا فكشف الله عنهم بريح عظيمة نبذتها في البحر فنقضوا العهد ، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم وآبارها وأنهارها دماً أحمر عبيطاً ، حتى كان يجتمع القبطي والإسرائيلي على إناء فيكون ما يليه دماً وما يلي الإسرائيلي ماء على حاله ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دماً فيه.
222
قوم موسى شو بخور اين آب را
صلح كن بامه ببين مهتاب را
ثم إن فرعون أجهده العطش وكانوا يأتونه بأوراق الأشجار الرطبة فيمصها فتصير دماً عبيطاً أو أجاجاً وكانوا لا يأكلون ولا يشربون سبعة أيام إلا الدم فقال فرعون أقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا هذا الدم لنؤمنن لك فدعا فعذب ماؤهم فعادوا لكفرهم إلى أن كان من أمر الغرق ما كان {مُفَصَّلَـاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا} حال من مفعول أرسلنا أي أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات وعلامات مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته ، وقيل معنى مفصلات مفرقات ومنفصلات بأن فصل بعضها عن بعض بزمان لامتحان أحوالهم هل يعتبرون أو يستمرون على المخالفة والعناد وما كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها أسبوعاً.
{فَاسْتَكْبَرُوا} أي : تعظموا عن الإيمان بها.
{وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} (كروهى مجرم يعني معاندرر كفركه باوجدو تظاهر آيات وتتابع آن ايمان نياوردند).
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي : العذاب المذكور من الطوفان وغيره ، أي كلما وقع عليهم عقوبة من تلك العقوبات.
{قَالُوا} في كل مرة يا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} الباء صلة لادع وما مصدرية ، والمراد بالعهد النبوة أي ادع لنا ربك يكشف عنا العذاب بحق ما عندك من عهد الله تعالى ، وهو النبوة فإن حق النبوة ومقتضاها أن يدعو النبي ، لأمته لدفع ما أصابهم من البلايا والمحن سميت النبوة عهداً للمبالغة في كونها معهوداً بها فإنه تعالى لما بعثه رسولاً وأوصاه بتحمل أعباء الرسالة وميثاق التبليغ فقد جعلت النبوة مما أوصى به وعهده فجعلت نفس العهد للمبالغة في كونها معهوداً بها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
وفي "التفسير الفارسي" : {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} (بآنه عهدكرده وآن عهد نزديك تست يعني خداى توباتو وعده كرده كه ون اورا بخوانى اجابت كند) فما موصولة عبر بها عما يدعو به المتضرع إلى الله تعالى في طلب حاجته والباء أيضاً صلة لأدع.
{لَئِن كَشَفْتَ} أي : (بازبرى وزائل كردانى) {عَنَّا الرِّجْزَ} الذي وقع علينا.
{لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} إلى موطن آبائهم وهو الأرض المقدسة ولنطلقنهم من التسخير والأعمال الشاقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَـالِغُوهُ} أي : إلى حد من الزمان معذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق وإلى أجل متعلق بقوله لما كشفنا وقوله هم بالغوه في محل الجر على أنه صفة لأجل.
{إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف والنكث بالفارسي (عهد شكستن) {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} الفاء لسببية النكث للانتقام والعقاب وأريد بالانتقام العقاب الواقع على مجازاة السيئة بالسيئة وإنما أسند الانتقام إلى ذاته لأن الأنبياء وكمل الأولياء كانوا فانين عما سوى الله باقين بالله فكان الله خليفتهم في أخذ الانتقام من أعدائهم.
والمعنى فأردنا الانتقام منهم أي من فرعون وقومه لما أسلفوا من المعاصي والجرائم فإن قوله تعالى : {فَأَغْرَقْنَـاهُمْ} عين الانتقام منهم فلا يصح دخول الفاء بينهما فأطلق اسم المسبب على السبب تنبيهاً على أن الانتقام لم ينفك عن الإرادة ويجوز أن يكون المراد مطلق الانتقام.
والفاء تفسيرية كما في قول تعالى : {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّه فَقَالَ رَبِّ} الخ {فِي الْيَمِّ} أي في البحر الذي لا يدرك قعره
223
أو في لجته ولجة البحر معظم مائه.
قال الحدادي : في اليم ، أي : في البحر بلسان العبرية وهي لغة اليهود.
(3/168)
وفي "التفسير الفارسي" : {فِي الْيَمِّ} (در درياى قلزم بنزديك مصر) وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فاستعار نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهم وقلن إن لنا خروجاً إلى عيد فخرج ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي فبلغ الخبر فرعون فركب ومعه ألف ألف ومائتا ألف ، فأدركهم فرعون حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر فضرب البحر فانفلق اثني عشر طريقاً ، وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً فعبر كل سبط طريقاً فأقبل فرعون ومن معه فدخلوا بعدهم من حيث دخلوا فلما صاروا جميعاً في البحر أمر الله البحر فالتطم عليهم فغرقوا.
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ} تعليل للإغراق أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات التسع التي جاء بها موسى وإعراضهم عنها وعدم تفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية ، والفاء وإن دلت على ترتيب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذاناً بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله والإعراض عنها ليكون ذلك مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم والإعراض عنها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 223
{وَأَوْرَثَنَا} (ميراث داديم) {الْقَوْمِ الَّذِينَ} يعني : بني إسرائيل والقوم مفعول أول لأورثنا {كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} أي : يستضعفهم القبط ويقهرونهم ويستذلونهم بذبح الأبناء واستخدام النساء والاستعباد {مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا} مفعول ثاني لأورثنا والأرض أرض الشام ومشارقها ومغاربها جهاتها الشرقية والغربية ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها {الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا} بالخصب وسعة الأرزاق صفة للمشارق والمغارب.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} المراد بالكلمة وعده تعالى إياهم بالنصر والتمكين وهو ما ذكره بقوله : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَاـاِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الارْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص : 5 ، 6) وتمامها مضيها وانتهاؤها إلى الإنجاز لأن العدة بالشيء التزام لإيقاعه بالعبارة واللسان وتمامها لا يكون إلا بوقوع الموعود في الخارج والعيان.
{عَلَى بَنِى إسرائيل بِمَا صَبَرُوا} أي : بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من جهة فرعون وقومه.
{وَدَمَّرْنَا} أي : خربنا وأهلكنا.
{مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العمارات والقصور ، أي : ودمرنا الذي كان فرعون يصنعه على أن فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف ، وقيل اسم كان ضمير عائد إلى ما الموصولة ويصنع مسند إلى فرعون والجملة خبر كان والعائد محذوف تقديره ودمرنا الذي كان يصنعه فرعون : {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} أي يرفعون من الجنات ، أي : الكروم والأشجار.
قال في "زبدة التفاسير" : العرش سقف في الكروم والأشجار وأشارت الآية إلى أن العزيز من أعزه الله والذليل من أذله الله ومن صبر على مقاساة الذل في الله توجه بتاج العزة وجعل له حسن العاقبة والله تعالى كما وعد لبني إسرائيل وأنجز وعده فاستخلفهم في مشارق الأرض ومغاربها كذلك وعد لهذه الأمة ، كما قال تعالى في سورة النور : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور : 55) والمراد بالأرض : أرض الكفار من العرب والعجم
224
والمراد بالذين من قبلهم بنو إسرائيل وفي الحديث : "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلع ما زوى لي منها" يقول : إن الله تعالى جمع وضم جميع هذه الأرض ليلة المعراج أو في غير ذلك الوقت ، فرأيت جميع آفاق الأرض من المشارق والمغارب ثم وعد أمته بأن الله تعالى يملأ الدنيا كلها عدلاً وقسطاً كما ملئت قبل ذلك جوراً وظلماً ويملك المؤمنين جميع الأرض هذا على تقدير حمل اللام في الأرض على الاستغراق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 223
وقيل : اللام للعهد الخارجي كما إذا قيل أغلق الباب إذا كان مشاهداً ، ومن للتبيين ولا دليل على جمع جميع الأرض ولم يبلغ ملك أمته جميع أجزائها فأي موضع من الأرض وقع نظره عليه السلام عليه كان دار الإسلام وأي مكان كان محجوباً عنه كان دار الكفر والله أعلم بحقيقة الحال ومنه الكرم والنوال وإليه الرجوع والمآل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 223
(3/169)
{وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ} فاعل بمعنى فعل يقال : جاوز وجاز بمعنى واحد ، وجاوز الوادي إذا قطعه وجاوز بغيره البحر عبر به ، فالباء هنا معدية كالهمزة والتشديد ، فكأنه قال وجزنا ببني إسرائيل البحر أي أجزناهم البحر وجوزناهم بالفارسية (وبكذرانيديم بنى إسرائيل را از دريا بسلامت) والمراد بحر القلزم وأخطأ من قال إنه نيل مصر.
قال في "القاموس" : القلزم : كقنفذ بلد بين مصر ومكة قرب جبل الطور وإليه يضاف بحر القلزم ؛ لأنه على طرفه أو لأنه يبتلع من ركبه لأن القلزمة الابتلاع.
روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء فصاموا شكراًتعالى.
{فَـاَاتُوا} أي : مروا {عَلَى قَوْم} كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم وقيل : كانوا من لخم وهو حي من اليمن ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية.
وعن الزمخشري : إنه قبيلة بمصر {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} أي : يواظبون على عبادتها ويلازمونها.
قال في "تاج المصادر" : العكوف (كرد يزى در آمدن ودر جايى مقيم شدن) يقال : عكفه حبسه وعكف عليه أقبل عليه مواظباً.
{قَالُوا} عند ما شاهدوا أحوالهم يا مُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا} مثالاً نعبده {كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ} يعبدونها ، والكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلهاً وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من ما والتقدير اجعل لنا إلهاً كائناً كالذي استقر هو لهم فالعائد محذوف وكانت أصنامهم تماثيل بقر وهو أول شأن العجل.
{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وصفهم بالجهل المطلق حيث لم يذكر المفعول لبعد ما صدر عنهم عن العقل بعد ما شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزة العظمى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 225
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ} يعني : القوم الذين يعبدون تلك التماثيل.
{مُتَبَّرٌ} اسم مفعول من باب التفعيل يقال تبره تتبيراً ، أي : كسره وأهلكه والمعنى مكسر ومهلك.
{مَّا هُمْ فِيهِ} أي من الدين الباطل.
يعني إن الله تعالى يهدم دينهم الذي هم عليه عن قريب ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضاً أي فتاتاً ، قوله : ما هم فيه مبتدأ ومتبر خبر له ويجوز أن يكون ما هم فيه فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه.
{وَبَـاطِلٌ} أي : مضمحل بالكلية {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من عبادتها وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض.
{قَالَ} موسى {أَغَيْرَ اللَّهِ} أغير المستحق للعبادة {أَبْغِيكُمْ} بحذف اللام ، أي : أبغي لكم ، أي : أطلب لكم {إِلَـاهًا} تمييز من غير
225
أو حال فإنه مفعول أبغي والهمزة فيه للإنكار والمنكر هو كون المبغي غيره تعالى.
{وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} أي : والحال أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم وهي الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة وإنما لم يحصل مثلها لأحد من العالمين.
قال الحدادي : على عالمي زمانكم من القبط وغيرهم بعدما كنتم مستعبدين أذلاء وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضلاً بأن قصدوا إلى أخس شيء من مخلوقاته تعالى فجعلوه شريكاً له تعالى.
قال الحافظ :
همايى ون توعا لى قدر حرص استخوان تاكى
دريغ آن سايه دولت كه بر نا هل افكندى
فتبا لمن لا يعرف قدره ويعلق همته بما لا ينبغي له.
خلق را نيست سيرت دران
همه برسيرت زمانه روند
ثم ذكر نعمة الإنجاء وما يتبعه فقال تعالى :
{وَإِذْ أَنجَيْنَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ} أي : واذكروا يا بني إسرائيل صنيعة الله معكم في وقت إنجائكم وتخليصكم من أيدي آل فرعون بإهلاكهم بالكلية ثم استأنف ببيان ما أنجاهم منه فقال : {يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ} أي : يبغونكم أشد العذاب وأفظعه من سام السلعة إذا طلبها ثم أبدل منه وبين فقال : {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} أي : يذبحونهم {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي : يستبقونهن للاستخدام.
{وَفِى ذَالِكُم} أي : الإنجاء أو سوء العذاب {بَلاءً} أي نعمة أو محنة ، فإن البلاء يطلق على كل واحد منهما قال تعالى : {وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} (الأعراف : 168) {مِّن رَّبِّكُمْ} من مالك أموركم فإن النعمة والنقمة كلتيهما منه سبحانه وتعالى {عَظِيمٌ} لا يقادر قدره ، تقدم الكلام على الإنجاء وفضيلة عاشوراء في سورة البقرة فليطلب ثمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 225
(3/170)
والإشارة : أن بني إسرائيل صفات القلب كانت معذبة في مصر القالب وصفاتها فلما خلصها الله تعالى من بحر الدنيا وفرعون النفس : {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ} أي : وصلوا إلى صفات الروح {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح.
{قَالُوا} لموسى الوارد الرباني الذي جاوز بهم بحر الدنيا.
يا مُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ} يشير إلى أنه لولا أن فضل الله ورحمته على العبد يثبته على قدم العبودية وصدق الطلب إلى أن يبلغه إلى المقصد الأعلى لكان العبد يركن إلى كل شيء من حسائس الدنيا فضلاً عن نفائس العقبى كقوله تعالى لسيد البشر عليه السلام : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} (الإسراء : 74) {قَالَ} لهم موسى الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانية {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} قدر الله وعنايته معكم.
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ} يعني : صفات الروح {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} من الركون والعكوف على استجلاء المعاني المعقولة والمعارف الروحانية.
{وَبَـاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الربانية.
{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـاهًا} أي : أنزلكم منزلاً غير الوصول والوصال.
{وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} من الحيوانات والجن والملك تفضيل العبور من الجسمانيات والروحانيات والوصول إلى المعارف والحقائق الإلهيات {وَإِذْ نَجَّيْنَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} يعني : من النفس وصفاتها {يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ} أي : سوء عذاب البعد {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} أي يبطلون أعمالكم الصالحة التي هي متولدات من صفات القلب بآفة الرياء
226
والعجب النفساني.
{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يعني : صفات القلب لاستخدام النفس وصفاتها {وَفِى ذَالِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} يعني : فكان في استخدام صفات القلب للنفس وصفاتها بأن تعمل الصالحات رياء وسمعة لجلب المنافع الدنيوية لحظوظ النفس بلاء عظيم من ربكم فخلصكم منه لئلا تطلبوا غيره ولا تعبدوا سواه ، فلا تركنوا إلى الروحانية وإلى المعقولات لكي تظفروا بمراتب الوصول ودرجات الوصال كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 225
وعن بعض الكبار : أول وصال العبد الحق هجرانه لنفسه ، وأول هجران الحق العبد مواصلته لنفسه ، وأول درجات القرب محو شواهد النفس وإثبات شواهد الحق ومن طلب الدلالة فإنها لا غاية لها ، ومن طلب الله عز وجل وجده بأول خطوة يقصده بها.
قال الحافظ :
غرض زمسجد وميخانه ام وصال شماست
جز اين خيال ندارم خدا كواه منست
قال بعض الصالحين : عرضت عليّ الدنيا بزينتها فأعرضت عنها ، ثم عرضت الأخرى بحورها وقصورها وزينتها فأعرضت عنها ، فقيل لي لو أقبلت على الأولى حجبناك عن الأخرى ولو أقبلت على الأخرى حجبناك عنا فها نحن لك وقسمتك في الدارين تأتيك.
وقال أحمد بن حضرويه : رأيت رب العزة في المنام فقال لي يا أحمد كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
وقال إبراهيم بن أدهم : رأيت جبريل عليه السلام في المنام وبيده قرطاس فقلت ما تصنع به قال : أكتب أسماء المحبين فقلت : اكتب تحتهم محب المحبين إبراهيم بن أدهم فنودي يا جبريل اكتبه في أولهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 225
{وَوَاعَدْنَا} الوعد عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها.
{مُوسَى} اسم أعجمي لا اشتقاق فيه وأما موسى الحديد فهو مفعل من أوسيت رأسه إذا حلقته أو فعلى من ماس يميس إذا تبختر في مشيه فسميت موسى لكثرة اضطرابها وتحركها وقت الخلق.
{ثَلَـاثِينَ لَيْلَةً} )سى شبانه روز ون مدار حساب شهور عرب برؤية هلالست وآن بشب مرئي ميشود تاريخ را بشب مقيد كرد) وثلاثين مفعول ثان لواعدنا على حذف المضاف أي تمام أو مكث ثلاثين.
(3/171)
قال ابن الشيخ : الموعود : يجب أن يكون من فعل الواعد ونفس الثلاثين ليس كذلك فكأنه قيل وواعدنا موسى ما يتعلق بثلاثين ليلة وهو منا إنزال عند إتمام صوم الثلاثين ، ومن موسى صوم تلك المدة وإتيان الطور انتهى بتغيير عبارته فواعدنا ليس بمعنى وعدنا بل على بابه بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد.
{وَأَتْمَمْنَـاهَا بِعَشْرٍ} أي : زدنا على تلك الثلاثين عشر ليال {فَتَمَّ مِيقَـاتُ رَبِّهِ} ما وقت له في الوقت الذي ضرب له والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات وقت تقدر لأن يقع فيه عمل من الأعمال وأن الوقت ما يقع فيه شيء سواء قدره مقدر لأن يقع فيه ذلك الشيء أم لا؟ {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} حال من قوله ميقات ربه ، أي : تم بالغاً هذا العدد وقيل هو مفعول تم لأنه بمعنى بلغ ـ ـ روي ـ ـ إن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين وهو ذو القعدة بتمامه ليكلمه ويوحي إليه ويكرمه بما يتم به أمر نبوته فصامهن موسى عليه السلام على طريق المواصلة بين ليلهن ونهارهن ، وإنما لم يجع في تلك المدة وصبر ولم يصبر نصف
227
يوم في سفر الخضر حيث قال : آتنا عداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ، قيل لأن سفر الخضر سفر التأدب والامتحان والابتلاء فزاد البلاء على الابتلاء حتى جاع في نصف يوم في صحبة المخلوق وحضوره الجبل وسفره إليه سفر اللقاء وصحبة الحق فأنساه هيبة الموقف الطعام والشراب وأغناه من غيره ثم لما أتم الثلاثين وانسلخ الشهر أنكر خلوف فيه أي كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتسوك بعود خرنوب وتناول شيئاً من نبات الأرض فمضغه فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
وقيل : أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ولذا كره التسوك عند الشافعي في آخر نهار الصوم بناء على أن السواك يزيل الخلوف فأمر الله تعالى بأن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة ليعود فوه إلى ما كان عليه فصام فتشرف بالوحي والكليم يوم النحر كذا قال أهل التفسير.
وفيه : أن الوحي والتكليم إذا كان يوم النحر يلزم أن لا يكون أيام الصوم أربعين كملاً ، وهو مخالف للنص اللهم إلا أن تعتبر الليالي أو كان صوم يوم النحر مشروعاً في شريعته هكذا لاح بالبال.
ثم إن موسى عليه السلام لما أراد الانطلاق إلى الجبل للمناجاة أمره الله تعالى أن يختار سبعين رجلاً من قومه من ذوي الحجى والعقل ليشهدوا له على ما يشاهدونه من كرامة الله تعالى إياه ففعل واستخلف هارون أخاه في قومه ، كما قال تعالى : {وَقَالَ مُوسَى لاخِيهِ هَـارُونَ} قبل انطلاقه إلى الجبل الذي أمر بالعبادة فيه كما في "تفسير الحدادي" وهارون عطف بيان.
{اخْلُفْنِى} كن خليفتي وقم مقامي {فِى قَوْمِى} وراقبهم فيما يأتون ويذرون {وَأَصْلَحَ} ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم وسرْفيهم السيرة الصالحة التي لا فساد فيها وثبتهم على ما أخلفهم عليه من الإيمان وإخلاص العبادة.
{وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} أي : ولا تتبع من سألك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه وذلك أن موسى عليه السلام كان يشاهد كثرة خلافهم حالاً بعد حال فأوصاه في أمرهم.
فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى في النبوة قال تعالى خبراً عن موسى.
{وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى} فكيف استخلفه.
قلنا المأموران بشيء لا ينفرد أحدهما بفعله إلا بأمر صاحبه ، فلذلك قال : اخلفني ولأن موسى كان أصلاً فيها وهارون معيناً له قال موسى : {فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِى} (القصص : 34) ولهذا كان هو المناجي على الخصوص والمعطى للألواح ولما أمر بالذهاب إلى فرعون سأل الله أن يشرك معه هارون ولما ذهب إلى الطور للمناجاة خلفه في قومه واستخلفه وهو موضع الاعتراض في الظاهر ، ولكن لا اعتراض على الأكابر لأن حركاتهم الظاهرة إنما تنبعث من دواعي قلوبهم وتلك الدواعي إلهامات واردة من الله تعالى لاصنع لهم فيها فمن عرف دورانهم بأمر إلهي هان عليه التطبيق والتوفيق وسقط عنه الاعتراض على أصحاب التحقيق مع أن درجات الأنبياء متفاضلة ، كما قال تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة : 253) فمن منع الرؤية عن موسى منع المناجاة عن هارون وكون هارون شريكه في الأمر الظاهر لا يقتضي أن يكون رديفه في الأمر الباطن فإن لكل مقام رجالاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
رموز مصلحت ملك خسروان دانند
كداى كوشه نشيني توحافظا مخروش
أنظر إن موسى عليه السلام استخلف هارون واعتمد عليه في حفظ قومه فعبدوا العجل
228
في العشر الذي زيد على الثلاثين ورسولنا صلى الله عليه وسلّم قال الله خليفتي على أمتي فثبتهم الله على الحق.
(3/172)
واعلم : أن ذا القعدة وذا الحجة من الأشهر الحرم ويكفي شرفاً لهما أن الله تعالى أمر موسى بصومهما وجعلهما محل قبول الحاجات وميقات المناجاة وفي الحديث : "صيام يوم من الأشهر الحرم يعدل شهراً وصيام يوم من غير الأشهر الحرم يعدل عشراً" وفي الحديث : "من صام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله له عبادة تسعمائة سنة" وقال كعب الأحبار : اختار الله الزمان فأحبه إليه الأشهر الحرم وذو القعدة من الأشهر الحرم بغير خلاف وسمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال احتراماً له.
فعلى السالك أن يتهيأ فيه لمناجاة ربه بالصوم الظاهري والإمساك الباطني فإن موسى روحه متشوف لنوال الوصال ومتطلب لرؤية الجمال.
والإشارة في الآية : أن الميعاد في الحقيقة كان أربعين ليلة وإنما أظهر الوعد ثلاثين ليلة لضعف البشرية ولئلا تستكثر النفس الأربعين وتسوّل له أن لا يقوى على ذلك فيداخله خوف البشرية فواعده ثلاثين ليلة ثم أتمها بالعشر ، وفيه أن للأربعين خصوصية في استحقاق استماع الكلام للأنبياء كما أن لها اختصاصاً في ظهور ينابيع الحكمة من قلوب الأولياء كقوله عليه السلام : "من أخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
قال أهل العرفان : إن سر التربيع جار في الحقائق الكلية كتربيع العرش الأعظم والعناصر الأربعة والأركان الأربعة والأربعين الموسوية وكان بين خلق آدم ونفخ روحه أربع جمع من جمع الآخرة فأكمل الأشكال تأثيراً صورة التربيع في الآحاد والأعشار والمئات والألوف كما أشار صلى الله عليه وسلّم بقوله : "خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة".
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا} أي : لوقتنا الذي وقتناه وعيناه وحددناه له وهو تمام الأربعين أي اختص مجيئه بميقاتنا كما في قولك أتيته لعشر خلون من الشهر فاللام للاختصاص وليست بمعنى عند والميقات بمعنى الوقت وقد سبق الفرق بينهما في المجلس المتقدم.
إن قيل : لِمَ وعده الله بالكلام في الجبل؟ وفوق العلى وتحت الثرى واحد عند حضرته وهو منزه عن الجهات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قيل : إن في الجبل وصف الثبات والعلو والتفرد لأن الأرض ما استقرت بغير الجبال فأثبتها الحق بها وأوتدها حكمة منه وعرض الأمانة عليها لاتصافها بصفة التثبت والتمكن والتفرد والتعلي ، ولذلك فضل الجبال في الأمكنة وشرفها بمشهد الكلام وتعلق تجلي الجمال وعرض الأمانة عليها وشرح الصدر المحمدي فيها ومناجاة موسى عليها فبدا من ذلك أن في المقامات فاضلاً ومفضولاً.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتداه أفندي البروسوي : خير الجماعة جماعة الأرواح وجماعتهم في الجبال والمواضع الخالية وعلامة مجمعهم أنه لا يذهب خضرة ذلك الموضع ونظارته في الصيف والشتاء قال ونحن إنما جئنا إلى هذا المكان في هذا الجبل بناء على مجيئهم.
يقول الفقير : عنى به موضع زاويته المنيفة في مدينة بروسة في سفح الجبل المعروف هناك وقد زرته وزرت مرقده العالي في داخل القلعة قدس الله سره.
وقال وهب : جاء إلى طور سيناء ومعه جبريل فتطهر وطهر ثوبه وأنزل الله الظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد عنه هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى
229
الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وسمع صرير القلم.
{وَكَلَّمَه رَبُّهُ} من غير واسطة وكيفية كما يكلم الملائكة وكان جبريل معه فلم يسمع ما كلمه ربه ولذا خص باسم الكليم لاختصاصه بذلك من بين البشر فإن سائر الأنبياء عليهم السلام إنما يكلمهم الله بواسطة الكتاب والملك.
فإن قيل : بأي شيء علم موسى أنه كلام الله؟.
قيل : لم ينقطع كلامه بالنفس مع الحق كما ينقطع مع المخلوق ، بل كلمه بمدد وحداني غير منقطع شاهد نفسه بمنزلة الآلة عند الصانع والآلة يحركها الأستاذ كيف يشاء لأنه ليس للآلة تصنع وتعمل.
وقيل : علم أنه كلام الحق وميزه عن غيره بأنه سمع الكلام من الجوانب الستة فصارت جميع جوارحه كسمعه فصار الوجود كله سمعاً فوجد لذة الكلام بوجوده كما وجدها بسمعه.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" كلامه تعالى صفة أزلية قائمة بذاته ليست من جنس هذه الحروف والأصوات وكما لا تبعد رؤيته تعالى مع أن ذاته ليست جسماً ولا عرضاً فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع كونه ليس من جنس الحرف والصوت انتهى.
وفي حل الرموز المؤمن في الآخرة وجه محض وعين محض وسمع محض ينظر من كل جهة وبكل جهة وعلى كل جهة وكذا يسمع بكل عضو من كل جهة بغير جهة خاصة وإذا شاهد الحق يشهده بكل وجه ليس فيه من الجهات ولا يحتجب سمعه وبصره بالجهات كما أشار سبحانه بقوله : "كنت سمعه وبصره" والكامل الواصل له حكم الآخرة في الدنيا كما قال سيد الواصلين : "موتوا قبل أن تموتوا وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا" انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
(3/173)
يقول الفقير : هذا ليس بمحل الجرح والإنكار لأن الله تعالى وإن خلق حاسة السمع لإدراك الأصوات لكن يجوز أن يدرك بحاسة ما يدرك بحاسة أخرى ، كما ذهب إليه علماء الكلام لأن ذلك الإدراك بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير للحواس ، فلا يمتنع أن يخلق عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً فثبت أن كل عضو من الأعضاء الإنسانية يجوز أن يخلق الله تعالى فيه ما خلق في السمع من إدراك الأصوات.
إن قيل : لِمَ لم يكلم الله سائر الأنبياء مشافهة إلا موسى؟.
قيل : لأنه لم يكن لهم من الأعداء ما لموسى كفرعون وهامان وقارون واليهود ولم يكن قوم أسوأ أدباً وأقسى قلباً من قومه فخصه الله بكلامه ألا ترى سحرة القبط آمنوا في أول دعوته وكفر قوم من اليهود بعد مشاهدتهم معجزات كثيرة فأيده الله بكلامه ليتحمل به ما امتحن به من البلايا في قومه.
يقول الفقير : كون عدو موسى أقوى وأشد إنما هو بالنسبة إلى أعداء الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلّم فإنه قد ثبت أن فرعون آمن عند الغرق ، وأما أبو جهل فلا بل أظهر العداوة عند النزع فاعتبر منه قوة حاله وعلو مقامه صلى الله عليه وسلّم في المكالمة والرؤية ليلة المعراج وفي الحديث : "ناجى موسى ربه بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها" كذا في "الوسيط".
وقال بعضهم : كلم الله موسى أربعين يوماً وليلة وهذا والله أعلم غير الأربعين المتقدمة على الوحي والتعليم.
وعن فضيل بن عياض : قال حدثني بعض أشياخي أن إبليس جاء إلى موسى وهو يناجي ربه فقال الملك ويلك ما ترجو منه وهو على هذه الحال يناجي ربه قال أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة.
وكذا قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج من بين يدي موسى فوسوس إليه أن مكلمك
230
شيطان.
يقول الفقير : يرده ما سبق من أن الشيطان طرد عنه وقتئذٍ وهو الصحيح لأن المقام لا يسع الشيطان وإنما سلطانه على أهل الملك دون أرباب الملكوت وفرق بينه وهو مناج في الطور وبين آدم وهو معاشر في الجنة.
فإن قلت قوله تعالى في سورة الحج : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الحج : 52) يدل على أن كل نبي مبتلى بذلك خصوصاً وقت التلاوة وهي من أنواع المناجاة.
قلت : فرق بين التلاوة الظاهرة والمناجاة الباطنة ألا ترى إلى قوله عليه السلام : "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل".
فما ظنك بالشيطان المردود إلى أسفل سافلين البعد هكذا لاح ببالي والله أعلم ولما سمع موسى كلام ربه غلب عليه الشوق إلى رؤيته وقال : هذه لذة الخبر فكيف لذة النظر مع أن الكل يعمل على شاكلته وشاكلة البشر وفطرته على طلب العلو والترقي إذا ظفر بشيء طلب ما هو أعلى منه ولا أعلى من تجلي الجمال وفيض الوصال فسأل الرؤية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
وفي "التفسير الفارسي" : (ون موسى كلام حق شنيد وازجام كلام رباني جرعه ذوق محبت شيد فراموش كردكه او دردنياست خيال بست كه درفردوس اعلاست وون جنت جاى مشاهده لقاست).
{قَالَ رَبِّ أَرِنِى} ذاتك ، أي : مكنني من رؤيتك.
{أَنظُرْ إِلَيْكَ} أرك فالنظر بمعنى الرؤية إلا أن المطلوب بقوله أرني ليس أن يخلق الله تعالى رؤية ذاته المقدسة في موسى حتى يلزم كون الشيء غاية لنفسه بأن يكون المعنى أرني نفسك حتى أراك ؛ لأنه فاسد بل المطلوب به أن يمكنه من رؤية ذته المقدسة وتمكينه تعالى إياه من الرؤية سبب لرؤية موسى إياه تعالى فأطلق عليه اسم الرؤية المسببة عنه مجازاً.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قال موسى عليه السلام : {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} كشف الحجاب وأبرز له الجبل وقال انظر فنظر فإذا أمامه مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي محرمين ملبين كلهم يقول : أرني أرني.
واعلم : أن الأجساد تنمو بنماء الأقوات كذلك الأحوال تصفو بصفاء الأوقات فقوت جسدك ما غذيته من الطيبات وقوت روحك ما ربيت به من أقوات الطاعات في أوقات الخلوات وكلما صفت الأواني جلت ما فيها من جوهر المعاني فإذا كان عين بصيرتك منطمسة وخيول همتك منحبسة فما لك والتطاول إلى منازل قوم عيون قلوبهم منبجسة ، وسرائرهم لأنوار معارفهم من جذوة الغيب مقتبسة فلا تدع بما ليس فيك وحسبك ما يعلم الله منك ويكفيك فينبغي لك أن تقف وقوف الأصاغر وتتأدب بآداب الأكابر هذا كليم الله موسى لما كان طفلاً في حجر تربية الحق سبحانه ما تجاوز حده بل قال : {رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص : 24) فلما بلغ مبلغ الرجال ما رضي بطعام الأطفال بل قال : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} وهو حجة أهل السنة والجماعة على جواز رؤية الله تعالى فإن موسى اعتقد جوازها حين سألها واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله تعالى كفر ومن جوز ذلك على موسى أو على أحد من الأنبياء فهو كافر كما في "التيسير".
(3/174)
قال حضرة الشيخ الكبير صدر الدين القنوي في فك ختم الفص الداودي : من شأن الكمل أن كل ما هو متعذر الحصول لأحد من الخلق هو عندهم وبالنسبة إلى كمال قابليتهم غير متعذر ولا يستحيل إلا أن يخبرهم الحق بأخبار مخصوص خارج من خواص المواد والوسائط فحينئذٍ يصدقون ربهم ويحكمون باستحالته
231
وحصول ذلك كحال موسى في طلب الرؤية على وجه مخصوص فلما أخبر بتعذر ذلك تاب وآمن انتهى.
{قَالَ} الله تعالى وهو استئناف بياني {لَن تَرَانِى} لم يقل لن تنظر إليّ كقوله أنظر إليك لأن المطلوب هي الرؤية التي معها إدراك لا النظر الذي هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي لأنه قد تخلف عنه الإدراك في بعض الصور.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قال في "التفسير" : {لَن تَرَانِى} (نتوانى ديد مرا در دنيا ه حكم أزلي برآن وجه واقع شده كه هربشرى كه در دنيا بمن نظر كندبميرد) وفي المدارك {لَن تَرَانِى} بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية (صاحب كشف الأسرار كويدكه مقام موسى دران ساعت كه خطاب لن تراني شنيد عالي بود ازان وقتكه كفت أرني زيرا اين سعت درعين مراد حق بود وآن وقت درعين مراد خود قائم بمراد حق بود كاملترست ارقيام بمراد خود).
لن تراني ميرسد ازطور موسى را جواب
هره آن ازدوست آيدسربنه كردن متاب
وهو دليل لنا أيضاً لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفياً للجواز ولو لم يكن مرئياً لأخبر بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان فهو لا يدل على امتناع رؤيته في نفس الأمر بل يدل على قصور الطالب عن رؤيته لتوقف الرؤية على حصول ما يستعد به الطالب لرؤيته وعدم حصول ذلك المعد فيه بعد فإنه يجوز أن يبقى فيه حينئذٍ شيء من الحجاب المانع لرؤيته إياه لم يرتفع ذلك الحجاب بعد.
يقول الفقير : هذا ما عليه أكثر أهل التفسير وهو ليس بمرضي عندي لأن إتيان الطور لم يكن في أوائل حاله عليه السلام بل كان ذلك نظير المعراج المحمدي بالنسبة إلى مرتبته والتحقيق بعيد عن درك أهل التقليد.
وقد سألت حضرة شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة عن قولهم في قوله تعالى : {لَن تَرَانِى} أي : ببشريتك ووجودك فقال إن البشرية تنافي الرؤية وموسى عليه السلام إنما سأل الرؤية بالنسبة إلى ظاهر البشرية والوجود الكوني وهي لا تمكن أبداً بل لو تعلقت الرؤية بذات الله تعالى لتعلقت حالة الفناء في الله واضمحلال حال البشرية ، فقلت يرد عليه ما وقع ليلة المعراج من الرؤية بعين الرأس ، فقال : إنه حبيب الله رأى ربه في تلك الليلة بالسر والروح في صورة الجسم ولا جسم هناك لأنه تجاوز في سيره عن عالم الأجسام كلها بل عن عالم الأرواح حتى وصل إلى عالم الأمر.
فقلت : يرد عليه أن الأنبياء والأولياء مشتركون في الرؤية بالبصيرة حالة الفناء الكلي فلا فرق بين موسى ومحمد عليهما السلام ، فأي فائدة في قوله : {لَن تَرَانِى} وأيضاً في عروجه عليه السلام إلى ما فوق العرش فإن تلك الرؤية إنما تحصل في مقام العينية الجمعية القلبية لا في مقام الغيرية الفرقية القالبية فقال إن أمر الرؤية وإن كان محتاجاً إلى الانسلاخ التام عن الأكوان مطلقاً إلا أن الانسلاخ بالقلب والقالب مختص بنبينا عليه السلام فإن موسى وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام إنما يرون بالانسلاخ حين كون قوالبهم في عالم العناصر.
وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فقد تجاوز عن عالم العناصر ثم عن عالم الطبيعة وذلك بالقلب والقالب جميعاً فأنى يكون هذا لغيره فافهم جداً انتهى ما جرى بيني وبين حضرة الشيخ من السؤال والجواب وما تحاورناه في المجلس الخاص المفتوح بابه للأحباب لا للأغيار وأهل الإنكار والارتياب وقد كان ذلك كالقطرة من البحر الزاخر بالنسبة إلى ما يحويه قلبه الحاضر قدس الله
232
سره ورزقني وجميع الأحباب شفاعته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
(3/175)
قال مرجع طريقتنا الجلوتية : بالجيم حضرة الشيخ الشهير بأفتاده البروسوي كما أن للإنسان عينين في الظاهر كذلك له عينان في قلبه فإذا انفتحتا يشاهد بهما تجلي الصفات ؛ ولهما أيضاً حدقتان لكنهما في غاية اللطافة وإنما قلنا يشاهد بهما تجلي الصفات لأن تجلي الذات لا يشاهد إلا بعين معنوية وراء عين القلب لا حدقة لها لا كما زعمت الملاحدة والعياذ بالله تعالى فإن الممكن الحقيقي غير الواجب الحقيقي كيف والسالك الواصل إذا أفنى وجوده يصير معدوماً والمعدوم لا يحكم عليه بشيء فضلاً عن الحلول والاتحاد ، بل إذا عبر بالاتحاد يراد به التقرب التام على وفق رضاه تعالى كما يراد ذلك في قولهم فلان متحد مع فلان إذ لا شك أنهما شخصان مستقلان حقيقة ومعنى كونه معدوماً إذ ذاك إنه يتلاشى ويغيب في بحر الاستغراق وأنوار التجلي بحيث يغيب عن نظره ما سوى الله تعالى حتى ينظر ولا يجد نفسه للتوجه التام إلى جنابه والإعراض الكلي عما سوى الله تعالى كمن جعل نظره إلى جانب السماء لا ترى له الأرض ومن نظر إلى المشرق لا يرى له المغرب لا أنه يعدم وجوده الخارجي ويضمحل والأنبياء عليهم السلام وإن تجلى لهم الذات إلا أن تعين نبينا فوق الكل حتى أن موسى لما سأل ربه التجلي عن تعين نبينا قال تعالى : {لَن تَرَانِى} كذا أوله بعضهم وليس بشيء لأنه عالم بمرتبة المصطفى صلى الله عليه وسلّم فكيف يطلبها فخاطب موسى {لَن تَرَانِى} لقطع طمع قومه حيث {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء : 153) لأنه إذا خوطب بذلك فهم أولى به فهذا في الحقيقة ليس بالنسبة إلى موسى عليه السلام ، فإنه قد نال سعادة التجلي مراراً واصطفاه برسالته وبكلامه إلى هنا كلام افتاده أفندي كما في "الواقعات المحمودية".
وقال الشيخ علي دده في "أسئلة الحكم".
فإن قلت : ما الحكمة الربانية في منعة الرؤية في الموطن الدنيوي؟.
قيل : لأن الرؤية غاية الكرامة في الدنيا وغاية الكرامة فيها لا كرم الخلق وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم صاحب المقام المحمود الذي شاهد ربه ليلة المعراج بعيني رأسه على هذا فابحث ، وقيل : لو أعطاه الرؤية بالسؤال لكانت الرؤية مكافأة لسؤاله والرؤية فضل لا مكافأة وهي ربانية لا مدخل للسؤال والتعمل فيها فهي امتنان محض من الله تعالى.
قال الإمام الواحدي : كون كلمة (لن) مفيدة لتأبيد النفي دعوى باطلة على أهل اللغة لا يشهد لصحتها كتاب معتبر ولا نقل صحيح ، ويدل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا} : مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة ويقولون فيه : يا مَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (الزخرف : 77).
ويا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (الحاقة : 27) أي الموت فالإخبار بأن موسى لا يرى الله لا يدل على أنه لا يراه أبداً كما ذهبت إليه المعتزلة.
قال المولى الجامي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
جهان مرآت حسن شاهدماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
قال الحافظ :
و مستعد نظر نيستى وصال مجوى
ه جام جم نكندسود وقت بى بصرى
{وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي : لا تطلب النظر إليّ فإنك لا تطيقه ولكن اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك وهو الجبل الذي بحضرتك.
قال الكلبي : هو أعظم جبل بمدين يقال له زبير ، وفي "القاموس" : زبير ، كأمير الجبل الذي كلم الله عليه موسى.
وقال ابن الجوزي في "مرآة الزمان" :
233
والأصح إنما خوطب موسى على جبل الطور الذي بقرب بحر القلزم فلما سمعت الجبال تعاظمت رجاء أن يتجلى لها وجعل زبير أو الطور يتواضع فلما رأى الله تواضعه رفعه من بينها وخصه بالتجلي كذا في عقد "الدرر واللآلى" وفي "المثنوي" :
أي خنك آنراكه ذلت نفسه
واي آن كزسر كشى شدون كه او
وقال أهل الإشارة : إن موسى علي السلام لما أراد الخروج إلى الميقات جعل بين قومه وبين ربه واسطة بقوله : {لاخِيهِ هَـارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى} (الأعراف : 142) فلما سأله الرؤية جعل الله بينه وبينها واسطة وهي الجبل فقال : {لَن تَرَانِى وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} فقال : إن لم أصلح لخلافتك دون أخيك فأنت لا تصلح لرؤيتي دون الجبل.
(3/176)
{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} أي : سكن وثبت {فَسَوْفَ تَرَانِى} فسوف تطيق أن تنظر إليّ وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق النظر إليّ فإن الجبل مع صلابته لما تأثر من التجلي ولم يطق ذلك بل اندك وتفتت وتلاشى فكيف يطيق الإنسان الذي يدهش عند مشاهدة الأمور الهائلة فكيف عند مشاهدة ذي العظمة والجلال المطلق الذي لا يوصف جلاله وكبرياؤه وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علقه بمستحيل قال : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} (الأعراف : 40) والدليل على أنه ممكن قوله : {جَعَلَه دَكًّا} ولم يقل اندك وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لأنه مختار في فعله ولأنه تعالى ما أيأسه من ذلك ولا عاتبة عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليه السلام بقوله : {إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} حين سأل إنجاء ابنه من الغرق {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره ومعنى ظهور عظمته واقتداره للجبل تعلقها به وظهور أثرها فيه وإنما حمل على هذا المعنى لأن ظهور ذاته للجماد غير معقول.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قال في "تفسير العيون" : كشف نوره من حجبه قدر ما بين الخنصر والإبهام إذا جمعتهما أي إذا وضعت الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر.
وعن سهل بن سعد الساعدي أن الله أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم.
وفي "التفسير الفارسي" : يعني (ظاهر كردانيدازنور خود يا ازنور عرش بمقدار سوفار سوزنى).
وقال الشيخ أبو منصور : معنى التجلي للجبل ما قال الأشعري أنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه ، وهذا أيضاً فيه إثبات كونه مرئياً.
{جَعَلَه دَكًّا} مصدر بمعنى المفعول أي صيره مدكوكاً مفتتاً وإذا حل بالجبل ما حل مع عظم خلقه فما ظنك بابن آدم الضعيف كما في "تفسير الكواشي".
قال بعض الكبار : جعل الله الجبل فداء لموسى ولولا أن موسى كان مدهوشاً لذاب كما ذاب الجبل قالوا عذب إذ ذاك كل ماء ، وأفاق كل مجنون ، وبرىء كل مريض ، وزال الشوك عن الأشجار واخضرت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس وخرت الأصنام لوجوههن وانقطعت أصوات الملائكة وجعل الجبل ينهدم وينهال ويضطرب من تحت موسى حتى اندق كله فصار ذرات في الهواء والذر هو الذي يرى إذا دخل الشعاع في الكوى بتلك الكوة.
وفي بعض التفاسير : صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد ورقان ورضوى وثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء.
وفي "تفسير
234
الحدادي" : فصار ثماني فرق أربع قطع منه وقعن بمكة ثور وثبير وحراء وغار ثور وأربع قطع وقعن بالمدينة أحد ورقان ورضوى والمهراس.
وقال الحسن : صار الجبل ثلاث فرق ساخت فرقة منه في الأرض وطارت فرقة في البحر وطارت فرقة فوقعت بعرفات فهو شاحب مقشعر من مخافة الله تعالى.
وفي "التفسير الفارسي" : (عجب سريست كه كوه بآن عظمت تحمل ديدار نداشت ودل انسانرا بحكم "ولكن ينظر إلى قلوبكم" طاقت آن نظر هست نكته درين آنست كه تجلى بركوه بنظر وهيبت بود وتجلى بردل بنظر رحمت آن نظر كوهرا ويران ساخت واين نظر دلرا معمور شازد).
والإشارة : أن الجبل صورة الجسم الحجابي ، والجسم غير مستعد للتجلي ما لم يندك وينحل بالرياضة والفناء وإنما التجلي للروح في مقام القلب والجبل صورة التحيز الكوني والحصر الجسماني ومشهد التجلي غير متحيز والسر فافهم وعليه فابحث كذا في "أسئلة الحكم" : {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي : سقط مغشياً عليه من هول ما رأى من عشية الخميس وهو يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
وقال قتادة : ميتاً وقول ابن عباس أظهر ؛ لأن الله تعالى قال : {فَلَمَّآ أَفَاقَ} ولا يقال للميت أفاق من موته ولكن يقال بعث من موته كما قال في حديث السبعين : {ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة : 56) وفي "المثنوي" :
جسم خاك از عشق بر افلاك شد
كوه در رقص آمد والاك شد
عشق جان طور آمد عاشقا
طور مست وخرّ موسى صعقا
قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي قدس سره : الجبل المذكور وإن احترق ظاهره ولكن له وجود معنوي كان ذلك لعلاً خالصاً بانعكاس التجلي من موسى ولذلك رآه كاللعلل وكالمه وذلك الجبل يدخل الجنة وإنك ان من الدنيا بسبب كونه مظهراً للتجلي كما أن الكعبة ومسجد المدينة وبيت المقدس تدخل الجنة.
{فَلَمَّآ أَفَاقَ} من صعقته.
(3/177)
قال المولى أبو السعود رحمه الله : الإفاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما بسبب من الأسباب.
{قَالَ} تعظيماً لما شاهده.
{سُبْحَـاـنَكَ} أي : تنزيهاً لك من أن أسألك بغير إذن منك.
{تُبْتُ إِلَيْكَ} أي : من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن أو من السؤال في الدنيا فإنك إنما وعدتها في الآخرة.
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي : بعظمتك وجلالك أو أول من آمن بإنك لا ترى في الدنيا (اي كه زيك لمعه ات كوه بصد اره شد ه عجب ازمشت كل عاجز وبياره شد).
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قال وهب بن إسحاق : لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل إليه الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق ، وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله عز وجل ملائكة السموات أن يعرضوا على موسى فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه أمثال الأسود ولهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع موسى مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء فقال له خير الملائكة ورأسهم يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه أمثال النسور لهم لجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح
235
والتقديس كجلبة الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد نفسه وأيس من الحياة ، وقال له خير الملائكة : مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة فهبطوا ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية مرتفعة بالتسبيح والتقديس لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وارتدع قلبه واشتد بكاؤه ، فقال له رئيس الملائكة : اصبر يا ابن عمران لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة فهبطوا ولهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة : يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة فهبطوا وفي يد كل ملك منهم نار مثل النخلة الطويلة أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهب النار كلهم ، يقولون : بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فجعل يسبح موسى معهم وهو يبكي ويقول رب اذكرني ولا تنس عبدك فقال كبير الملائكة يا ابن عمران اصبر لما سألت ثم أمر الله أن يحمل عرشه في السماء السابعة وقال أروه إياه فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ورفعت ملائكة السموات جميعاً أصواتهم يقولون سبحان الله القدوس رب العزة أبداً لا يموت فاندك الجبل وكل شجرة كانت فيه وخر موسى على وجهه ليس معه روح فأرسل الله برحمته الروح فتغشاه وقلب الحجر الذي عليه موسى وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ثم أقامه كما تقيم الأم جنينها إذا وضعته فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول آمنت بك رب وصدقت أنه لا يراك أحد في الدنيا فيحيا من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وملك الملوك لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء تبت إليك الحمد لك لا شريك لك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قال في "التيسير" : قد روي في هذا أحاديث فيها ذكر نزول الملائكة والتعنيف على موسى بما سأل ولكن ليس ورودها على وجه يصح ولا يجوز قبولها لأنها لا تليق بحال الأنبياء انتهى.
قال بعض المحققين من أرباب المكاشفة : إن موسى عليه السلام طلب رؤية ذاته تعالى مع هوية نفسه حيث قال : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} مشيراً إلى هويته بصيغة المتكلم فرد الله تعالى بقوله : {لَن تَرَانِى} أي مع بقاء هويتك التي تخاطب بها {وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي بذاتك وهويتك {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} ولم يكن فانياً {فَسَوْفَ تَرَانِى} بهويتك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} أي ألقى عليه من نوره فاضطرب بدنه من رهبته {جَعَلَه دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وفني عن هويته فرأى الحق بعين الحق {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـانَكَ تُبْتُ} الآن من مسألة الرؤية مع بقاء الهوية.
(3/178)
وقال في "التأويلات النجمية" : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا وَكَلَّمَه رَبُّهُ} يعني : ولما حصل على بساط القرب تتابع عليه كاسات الشراب من صفو الصفات ودارت أقداح المكالمات وأثر فيه لذاذات الكلمات فطرب واضطرب إذ سكر من شراب الواردات وتساكر من سماع الملاطفات في المخاطبات ، فطال لسان انبساطه عند التمكن على بساطه وعند استيلاء سلطان الشوق وغلبات دواعي المحبة في الذوق.
{قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} قيل : هيهات أنت في بعد الاثنينية منكوب وبحجب جبل الأنانية محجوب وإنك إذا نظرت بك إلي {لَن تَرَانِى} لأنه لا يراني إلا من كنت له بصراً فبي يبصر {وَلَـاكِنِ انْظُرْ} إلى الجبل جبل الأنانية
236
{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} عند التجلي {فَسَوْفَ تَرَانِى} ببصر أنانيتك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} جبل أنانيته {جَعَلَه دَكًّا} فانياً كأن لم يكن {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} بلا أنانية وكان ما كان بعد أن بان ما بان فأشرقت الأرض بنور ربها وجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قد كان ما كان سراً لا أبوح به
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر ولو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش ولولا القلب كان خليفته عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والرجوع إلى الوجود فافهم جداً ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي تفهم إن شاء تعالى : {فَلَمَّآ أَفَاقَ} من غشية الأنانية بسطوة تجلى الربوبية {قَالَ} موسى بلا هويته {سُبْحَـاـنَكَ} تنزيهاً لك من خلقك واتصال الخلق بك {تُبْتُ} من أنانيتي {إِلَيْكَ} إلى هويتك بك {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بأنك لا ترى بالأنانية ولا ترى إلا بنور هويتك بك انتهى.
وقال القشيري : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى} مجيء المشتاقين ومجيء المغلوبين جاء موسى بلا موسى ولم يبق من موسى لموسى وآلاف آلاف رجال قطعوا مسافات وتحملوا مخافات فلم يذكرهم أحد وهذا موسى خطا خطوات وإلى يوم القيامة يقرأ الصبيان ولما جاء موسى لميقاتنا باسطه الحق بالكلام فلم يتمالك أن {قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} فإن غلبات الوجد استنطقته بكمال الوصلة من الشهود وقالوا لا يؤاخذ المغلوب بما يقول وقالوا إنه لا يشكر ثم ينكر قال وأشد الخلق شوقاً إلى الحبيب أقربهم من الحبيب هذا موسى وقف في محل المناجاة وحفت به الكرامات وكلمه بلا واسطة ولا جهات {قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} كأنه غائب هو شاهد لكن ما ازداد القوم شرباً إلا ازدادوا عطشاً ولا ازدادوا قرباً إلا ازدادوا شوقاً وقال سأل موسى الرؤية بالكلام فأجيب {لَن تَرَانِى} بالكلام وأسر المصطفى في قلبه ما كان يرجوه من تحويل القبلة من ربه فقيل له {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا} (البقرة : 144) وقال إنه سأل الله الرؤية فقال : {لَن تَرَانِى} وقال للخضر {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} (الكهف : 66 ، 67) فصار جوابه لن من الحق ومن الخلق ليبقى موسى بلا موسى ويصفو موسى عن كل نصيب لموسى بموسى وأنشد في معناه فقيل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
أبني أبينا نحن أهل منازل
أبداً غراب البين فينا يزعق والبلاء الذي ورد عليه بقوله تعالى : {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا} أشد من قوله : {لَن تَرَانِى} لأنه صريح في الرؤية وفي اليأس راحة وقوله : {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى} هذا إطماع فيما يمنعه فلما اشتد توقعه جعل الجبل دكاً وكان قادراً على إمساك الجبل لكنه قهر الأحباب وبه سبق الكتاب وفي قوله : {انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} بلاء شديد لموسى لأنه منع عن رؤية مقصوده وأمر برؤية غيره ولو أمر بأن يغمض عينيه ولا ينظر إلى شيء بعده لكان الأمر أسهل عليه ولكنه قيل له {لَن تَرَانِى وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} ثم أشد من ذلك أن الجبل أعطي التجلي ثم أمر موسى عليه السلام بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه في هذا السؤال وهذا صعب شديد ولكن موسى رضي به وانقاد لحكمه وفي معناه أنشدوا :
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
237
وقيل : بل هو لطف به حيث لم يصرح برده بل علله عوناً له على صبره.
(3/179)
وقيل : قد دنا اصبر قليلاً قليلاً ولما منع النظر رجع إلى رأس الأمر فقال تبت إليك إن لم تكن الرؤية التي هي غاية الرتبة من رأس الأمر وهو التوبة ثم هذا إناخة لعقوق العبودية وشرطها أن لا تبرح عن محل الخدمة إن حال بينك وبيني وجود القربة لأن القربة حظ نفسك والخدمة حق ربك ولأن تكون بحق ربك أتم من أن تكون بحظ نفسك كذا في "تفسير التيسير" نقلاً عن القشيري.
ذكر بعضهم : أن رؤية الله تعالى ممكنة في الدنيا.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي : الرؤية في الآخرة موعود وأما في الدنيا وإن كانت في حيز الإمكان لكنها غير موعودة ولم تجر عادة الله عليها انتهى.
وقد ذكرنا موانع الرؤية في سورة البقرة وأنواع الرؤية في سورة الأنعام.
وفي "الواقعات المحمودية" : سأل بعض الكبار من العلماء وقال الذي لا زمان له ولا مكان في أي مكان والأدب في السؤال أن يقال المنزه ذاته عن الزمان والمكان بأي وجه يطلب وبأي طريق يوجد ويوصل إليه وكذا الأدب في الجواب أن يقال من أراد رؤية جماله فلينظر في قلوب أوليائه فإن قلوبهم مظاهر ومرايا لجماله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
واعلم : أن المعتزلة أنكروا رؤية الله تعالى حتى قال صاحب "الكشاف" تشنيعاً وتقبيحاً وتضليلاً لأهل السنة والجماعة ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من مصوبات أشياخهم والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
لجماعة سموا هواهم سنة
لكنهم حمر لعمري مؤكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا
شنع الورى فتستروا بالبلكفه وقال بعضهم جواباً عنهم :
عجباً لقوم ظالمين تلقبوا
بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه
تعطيل ذات الله مع نفي الصفه قال المولى إبراهيم الأروسقى :
رضينا كتاب الله للفصل بيننا
وقول رسول الله أوضح فاصل
وتحريف آيات الكتاب ضلالة
وليس بعدل رد نص الدلائل
وتضليل أصحاب الرسول وذمهم
وتصويب آراء النظام وواصل
ولو كان تكذيب الرسول عدالة
فأعدل خلق الله عاص بن وائل
فلولاك جار الله من فرقة الهوى
لكنت جديراً باجتماع الفضائل
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
{قَالَ} الله تعالى لموسى حين قال تبت إليك وأنا أول المؤمنين.
يا مُوسَى} إن منعتك الرؤية لصلاح حالك وبقاء ذاتك فلا تكن مغموماً محزوناً لذلك {إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ} أي : اخترتك واتخذتك قوة وآثرتك {عَلَى النَّاسِ} أي : الموجودين في زمانك وهارون وإن كان نبياً وأكبر منه سناً كان مأموراً باتباعه وما كان كليماً ولا صاحب شرع أو على الناس جميعاً لأن الرسالة مع الكلام لم يحصل هذا المجموع لغيره وإنما قال على الناس ولم يقل على الخلق لأن الملائكة قد سمعوا كلامه تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام.
{بِرِسَـالَـاتِي} جمع الرسالة وهي في الأصل مصدر بمعنى الإرسال ، والمراد به هنا الشيء المرسل به إلى الغير
238
وهو أسفار التوراة جمع سفر بمعنى الكتاب يقال سفره إذا كتبه وألواح التوراة أسفار من حيث إنها كتب فيها التوراة {وَبِكَلَـامِي} أي : وبتكلمي إياك بلا واسطة ، وقيل المضاف محذوف أي وسماع كلامي وهذا يرد قول من يقول إن السبعين الذين اختارهم موسى سمعوا كلام الله تعالى لأن في الآية بيان الاصطفاء وهو تنصيص على التخصيص.
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
(3/180)
واعلم : أن كل نبي قد اصطفاه الله على الخلق بنوع أو نوعين أو أنواع من الكمال عند خلقته وركب في ذرة طينته استعداده لظهور ذلك النوع من الكمال حين خمر طينة آدم بيده فاصطفى موسى بالرسالة والمكالمة دون نوح ، وكمال الرؤية مخصوص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته حتى استدعى موسى لنيل مقام رؤية ربه فقال اللهم اجعلني من أصحابه.
روي أنه لما كلم الله تعالى موسى عليه السلام يوم الطور كان على موسى جبة من صوف مخللة بالعيدان محزوم وسطه بشريط ليف وهو قائم على الجبل ، وقد أسند ظهره إلى صخرة من الجبل فقال الله يا موسى إني قد أقمتك مقاماً لم يقمه أحد قبلك ولا يقومه أحد بعدك وقربتك نجياً فقال موسى عليه السلام يا رب فلم أقمتني هذا المقام قال لتواضعك يا موسى فلما سمع موسى لذاذة الكلام من ربه نادى إلهي أقريب فأناجيك أم بعيد فأناديك قال يا موسى أنا جليس من ذكرني وكان موسى عليه السلام بعدما كلمه الله تعالى لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشى وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات.
ويروى أن امرأته قالت له : أنا أيم منك أي كأني بلا زوج منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها ساعة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال ذاك إن لم تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها.
وقيل : إن الرجل إذا تبكر بالمرأة تزوجها في الجنة.
وقيل : إنها تكون لأحسن أزواجها خلقاً ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلّم تحريم أزواجه اللاتي توفى عنهن على غيره أبداً.
{فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ} أي : أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} على النعمة.
وفي "التأويلات النجمية" : {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ} يعني ما ركبت فيك استعداده واصطفيتك به من الرسالة والمكالمة {وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يستدعي الزيادة لقوله تعالى : {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقال عليه السلام : "الزيادة هي الرؤية والحسنى هي الجنة" {وَكَتَبْنَا} (ونوشتيم ما يعني قلم أعلى را فرموديم كه كتابت كرد يا جبريل راك كفتيم كه بقلم ذكر امداد نهر النور نوشت) {لَهُ} (براى موسى) {فِى الالْوَاحِ} أي : في تسعة ألواح من الزمرد الأخضر وهو الأصح وفيها التوراة كنقش الخاتم طول كل لوح عشرة أذرع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
وفي "القاموس" : اللوح كل صفيحة عريضة خشباً أو عظماً جمعه ألواح.
روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة وإعطاء التوراة يوم النحر.
{مِن كُلِّ شَىْءٍ} مما يحتاجون إليه من أمور دينهم {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ} بدل من الجار والمجرور ؛ لأنه في محل النصب على أنه مفعول كتبنا ومن مزيدة لا تبعيضية أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام.
قال مقاتل : كتب في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيل ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين.
{فَخُذْهَا} على إضمار القول عطفاً على كتبنا أي فقلنا خذها أي : الألواح.
239
{بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة.
{وَأْمُرْ قَوْمَكَ} أي : على طريق الندب والحث على اختيار الأفضل {يَأْخُذُوا} أي : ليأخذوا {بِأَحْسَنِهَا} الباء زائدة في المفعول به.
الأحسن العزائم والحسن الرخص يعني : ليعلموا أن ما هو عزيمة يكون ثوابه أكثر كالجمع بين الفرائض والنوافل والصبر بالإضافة إلى الانتصار وغير ذلك.
قال قطرب : أي بحسنها وكلها حسن كقوله تعالى : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت : 45) يا بني إسرائيل {دَارَ الْفَـاسِقِينَ} دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها ومنازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا بمخالفة ما أمرتم به من العمل بأحكام التوراة أو أرض مصر وأرض الجبابرة والعمالقة بالشام ، ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث فعلى الأول يكون وعيداً وترهيباً وعلى الثاني وعداً وترغيباً.
وفي الآية : إشارة إلى أن طلب الآخرة كان أحسن من طلب الدنيا كذلك طلب الله أحسن من طلب الآخرة فعلى العاشق أن يختار الأحسن ، وقوله : {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَـاسِقِينَ} يعني : الخارجين من طلب الآخرة فدارهم الجنة ودار الخارجين من طلب الآخرة إلى طلب الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال الحافظ :
سايه طوبى ودلجويىء حورولب حوض
بهواى سركوى توبرفت ازيادم
نيست بر لوح دلم جز الف قامت دوست
ه كنم حرف دكر يا دنداد استادم(3/181)
{سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ} المراد بالآيات ما كتب في ألواح التوراة من المواعظ والأحكام وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ومعنى صرفهم عنها الطبع على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر ، والمعنى : سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون لهم على الخلق مزية وفضلاً فلا ينتفعون بآياتي التنزيلية والتكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق ولا يغتنمون بمغانم آثارها فلا تسلكوا يا بني إسرائيل مسلكهم فتكونوا أمثالهم {بِغَيْرِ الْحَقِّ} صلة للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط.
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
قال ابن الشيخ : لما كان التكبر مؤدياً إلى الحرمان من الانتفاع بالآيات المذكورة وتضييعها كان المقصود من الآية تحذير بني إسرائيل عن التكبر المفضي إلى أن يصرفهم الله عن التفكر في الآيات والاهتداء بها حتى يأخذوا أحكام التوراة بجد ورغبة انتهى ، فالآية متصلة بقصة بني إسرائيل ويحتمل أن تكون كلاماً معترضاً خلال قصتهم أخبر به رسول الله أنه حرم المتكبرين من أمته فهم معاني القرآن والتدبر فيها ، كما قيل أبى الله تعالى أن يكرم قلوب الظالمين بتمكينهم من فهم حكمة القرآن والاطلاع على عجائبه.
حيفست نين كنج دران ويرانه†
{وَإِن يَرَوْا} يشاهدوا {كُلُّ ءَايَةٍ} من الآيات كانت معجزة.
{لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي : كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هي.
{وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} أي : لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلكون سبيله أصلاً لاستيلاء الشيطنة عليهم ومطبوعيتهم على الانحراف والزيغ.
{وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} أي : يختارونه لأنفسهم مسلكاً مستمراً لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلة وإفضائه بهم إلى
240
شهواتهم.
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما ذكر من تكبرهم وعدم إيمانهم بشيء من الآيات ، وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام على سبيل الغي.
{بِأَنَّهُمْ} أي : حاصل بسبب أنهم {كَذَّبُوا بآياتنا} الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها وهي الآيات المنزلة والمعجزة.
{وَكَانُوا عَنْهَا غَـافِلِينَ} لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل فالمراد بالغفلة عنها عدم التفكر والتدبر فيها عبر عن عدم تدبر الآيات بالغفلة عنها تشبيهاً للمعرض عن الشيء بمن غفل عنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا وَلِقَآءِ الاخِرَةِ} من إضافة المصدر إلى مفعوله والفاعل محذوف ، أي : ولقائهم الدار الآخرة.
{حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} أي : ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين ونحو ذلك فلا ينتفعون بها {هَلْ يُجْزَوْنَ} استفهام بمعنى النفي والإنكار ، يعني : لا يجزون {إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : الإجزاء ما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي.
قال في "التأويلات النجمية" : يعني : لما حبطت أعمالنا عندهم من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وإظهار المعجزات لتكبرهم عنها جازيناهم بأن حبطت أعمالهم عندنا لكبريائنا وغنانا عن أهل الشرك وشركهم نظيره قوله تعالى : {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى : 40) وفي الآية ذم التكبر وإنه من أعظم أوصاف البشر حجباً لأنه يزيد في الأنانية وما لعن إبليس وطرد إلا للتكبر.
وصف بعض البلغاء متكبراً ، فقال : كأن كسرى حامل غاشيته وقارون وكيل نفقته وبلقيس إحدى داياته وكأن يوسف لم ينظر إلا بمقلته ولقمان لم ينطق إلا بحكمته كأن الخضراء له عرشت والغبراء باسمه فرشت.
وفي "المثنوي" :
اين تكبر زهر قاتل دانكه هست
ازمى رزهر شد آن كيج مست
ون مى ر زهر نوشد مدبرى
از طرب يكدم بجنباند سرى
بعد يكدم زهر بر جانش زند
زهر برجانش كند داد وستد
كر ندارى زهريش را اعتقاد
كره زهر آمد نكر در قوم عاد
ونكه شاهى دست يابد بر شهى
بكشدش يا باز دارد در هى
ور بيابد خشته افتاده را
مرهمش سازد شه وبدهد عطا
كه نه زهراست اين تكبر س را
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
كشت شه را بى كناه وبى خطا
وين دكرراى زخدمت ون نواخت
زين دو جنبش زهررا شايد شناخت
نردبان خلق اين ما ومنيست
عاقبت زين نردبان افتاد نيست
هركه بالاتر رود ابله ترست
كاستخوان أو بترخواهد شكست
اين فروعست واصولش آن بود
كه ترفع شركت يزدان بود
ون نمردى ونكشتى زنده زو
باغى باشى بشركت ملك جو
ون بدوزنده شدى آن خود ويست
وحدت محض است آن شركت كى است
(3/182)
فعلى العاقل أن يزكي نفسه عن الكبر ويأخذ التواضع في طريق الحق ويخلص العملتعالى فإن من أخلص في العمل ، وإن لم ينو ظهرت آثار بركته عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة كما قيل : إنه لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض جاءت وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره فيدعو لكل جنس بما يليق به فجاءت طائفة من الظباء ، فدعا لهن ومسح على ظهورهن فظهر فيهن نوافج
241
المسك فلما رأى بواقيها ذلك قلن من أين هذا لكن فقلن زرنا صفي الله آدم فدعا لنا ومسح على ظهورنا فمضى البواقي إليه فدعا لهن ومسح على ظهورهن فلم يظهر لهن من ذلك شيء ، فقالوا قد فعلنا كما فعلتم فلم نر شيئاً مما حصل لكنّ فقالوا أنتم كان عملكم لتنالوا كما نال إخوانكم وأولئك كان عملهممن غير شوب فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلى يوم القيامة فظهر أن الخلق لا يجزون إلا ما كانوا يعملون والجزاء لا بد وأن يكون من جنس العمل نسأل الله تعالى دفع الكسل ورفع الزلل.
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد ذهابه إلى الطور ومن لابتداء الغاية {مِنْ} للتبعيض {حُلِيِّهِمْ} جمع حلي كثدي وثدي وهو ما تزين به من الذهب والفضة وإضافة الحلى إليهم مع أنها كانت للقبط لأدنى الملابسة حيث كانوا استعاروها من أربابها حين هموا بالخروج من مصر.
{عِجْلا} مفعول أول لقوله اتخذ لأنه متعد إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول ثاني محذوف أي صيروه إلهاً والعجل ولد البقر وأبو العجل الثور والجمع العجاجيل والأنثى عجلة سمي عجلاً لاستعجال بني إسرائيل عبادته وكانت مدة عبادتهم له أربعين يوماً فعوقبوا في التيه أربعين سنة فجعل الله تعالى كل سنة في مقابلة يوم.
{جَسَدًا} بدل من عجلاً أي جثة ذا دم ولحم أو جسداً من ذهب لا روح معه فإن الجسد اسم لجسم له لحم ودم ويطلق على جثة لا روح لها.
{لَّهُ خُوَارٌ} أي : صوت البقر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
وذلك أن موسى كان وعد قومه بالانطلاق إلى الجبل ثلاثين يوماً فلما تأخر رجوعه قال لهم السامري رجل من قرية يقال لها سامرة وكان رجلاً مطاعاً من قوم موسى إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون فعاقبكم الله بتلك الجناية ومنع موسى عنكم فاجمعوا الحلي حتى أحرقها لعل الله يرد علينا موسى ، أو سألوه إلهاً يعبدونه وقد كان لهم ميل إلى عبادة البقر منذ مروا على العمالقة التي كانوا يعبدون تماثيل البقر وذلك بعد عبور النهر ، وقد مرت قصته فجعل السامر الحلي بعد جمعها في النار وصاغ لهم من ذلك عجلاً لأنه كان صاغاً وألقى في فمه تراباً من أثر فرس جبريل عليه السلام وكان ذلك الفرس فرس الحياة ما وضع حافره في موضع إلا اخضر وكان قد أخذ ذلك التراب عند فلق البحر أو عند توجهه إلى الطور فانقلب ذلك الجسد لحماً ودماً وظهر فيه خوار وحركة ومشي ، فقال السامري : هذا إلهكم وإله موسى فعبدوه إلا أثني عشر ألفاً من ستمائة ألف وقيل إنه جعل ذلك العجل مجوفاً وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وكان وضع ذلك التمثال على مهب الريح كانت الريح تدخل في تلك الأنابيب فظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل فأوهم بني إسرائيل أنه حي يخور فزفنوا حوله أي رقصوا.
نقل القرطبي عن الطرشوشي : أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان يقرؤون شيئاً من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر يرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشنانير هل الحضور معهم حلال أولا.
قال مذهب الصوفية : بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري فلما اتخذوا عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل وإنما كان يجلس النبي عليه السلام مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد
242
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين كذا في "حياة الحيوان".
قال في "نصاب الاحتساب : هل يجوز له الرقص في السماع الجواب لا يجوز ذكر في "الذخيرة" أنه كبيرة ومن أباحه من المشايخ فذلك للذي صارت حركاته كحركات المرتعش وهل يجوز السماع الجواب إن كان السماع سماع القرآن أو الموعظة يجوز وإن كان السماع الغناء فهو حرام ؛ لأن التغني واستماع الغناء حرام ومن أباحه من مشايخ الصوفية فلمن تخلى عن الهوى وتحلى بالتقوى واحتاج إلى ذلك احتياج المريض إلى الدواء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
وله شرائط.
إحداها : أن لا يكون فيهم أمرد.
والثانية : أن لا يكون جمعيتهم إلا من جنسهم ليس فيهم فاسق ولا أهل دنيا ولا امرأة.
والثالثة : أن يكون نية القوال الإخلاص لا أخذ الأجرة والطعام.
والرابعة : أن لا يجتمعوا لأجل طعام أو نظر إلى فتوح والخامسة : لا يقومون إلا مغلوبين.
والسادسة : لا يظهرون الوجد إلا صادقين.
(3/183)
قال الشيخ عمر بن الفارض في القصيدة الموسومة بنظم الدر :
إرذهام شوقاً بالنماغى وهمّ ان
يطير إلى أوطانه الأولية
يسكن بالتحريك وهو بمهده
إذا ناله أيدي المربى بهزة قال الإمام القاشاني في "شرحه" : إذا هام الولي واضطرب شوقاً إلى مركزه الأصلي ووطنه الأولي بسبب مناغاة المناغي وهم طائر روحه إلى أن يطير إلى عشه ووكره الأولي تهزه أيدي من يربيه في المهد فيسكن بسبب التحريك من قلقه وهمه بالطيران والمقصود من إيراد هذا المعنى أن يشير إلى فائدة الرقص والحركة في السماع وذلك أن روح السامع يهم عند السماع أن يرجع إلى وطنه المألوف ويفارق النفس والقالب فتحركه يد الحال وتسكنه عما يهم به بسبب التحريك إلى حلول الأجل المعلوم وذلك تقدير العزيز العليم انتهى.
قال السعدي قدس سره :
مكن عيب درويش مدهوش ومست
كه غرقست ازآن مى زند اودست
نكويم سماع اى برادر كه يست
مكر مستمع را بدانم كه كيست
كر از برج معنى رد طير او
فرشته فروماند از سير او
اكر مرد بازى ولهوست ولاغ
قوى تر شود ديوش اندر دماغ
ه مرد سماعست شهوت رست
بآواز خوش خفته خيزد نه مست
قال السروري : (ون سماع آواز خوش سبب حركت شد حركت را سماع كفتند) بطريق تسمية المسبب باسم السبب (وون كسى آوازى خوش شنود در وحالتي يداشود اين حالت را وجد كويند) ، وفي المثنوى :
س غداى عاشقان آمد سماع
كه دراو باشد خيال واجتماع
قوتي كيرد خيالات ضمير
بلكه صورت كردد ازبانك صفير
واعلم : أن الرقص والسماع حال المتلون لا حال المتمكن ولذا تاب سيد الطائفة الجنيد البغدادي قدس سره عن السماع في زمانه فمن الناس من هو متواجد ومنهم من هو أهل وجد ومنهم من هو أهل وجود.
فالأول : المبتدىء الذي له انجذاب ضعيف ، والثاني : المتوسط الذي له انجذاب قوي ، والثالث :
243
المنتهي الذي له انجذاب قوي وهو مستغن عن الدوران الصوري بالدوران المعنوي بخلاف الأولين ولا بد من العشق في القلب والصدق في الحركة حتى يصح الدوران والعلماء وإن اختلفوا في ذلك فمن مثبت ومن ناف لكن الناس متفاوتون والجواز للأهل المستجمع لشرائطه لا لغيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي قدس سره : ليس في طريقتنا رقص ولا في طريق الشيخ الحاج بيرام ولي أيضاً لأن الرقص والأصوات كلها إنما وضع لدفع الخواطر ولا شيء في دفعها أشد تأثيراً من التوحيد ونبينا عليه الصلاة والسلام لم يلقن إلا التوحيد.
ذكر أن علياً قال يوماً لا أجد لذة العبادة يا رسول الله فلقنه التوحيد ووصاه أن لا يكلم أحداً بما ظهر له من آثار التوحيد فلما امتلأ باطنه من أنوار التوحيد واضطر إلى التكلم جاء إلى بئر فتكلم فيها فنبت منها قصب فأخذه راع وعمل منه المزمار وكان ذلك مبدأ لعلم الموسيقا وقال وقد يقال أن رجلاً يقال له عبد المؤمن سمع صوت الأفلاك في دورها فأخذ منه العلم الموسيقا ولذلك كان أصله اثني عشر على عدد البروج ولكن صداها على طرز واحد فالإنسان لقابليته ألحق به زيادات كذا في "الواقعات المحمودية" فقد عرفت من هذا البيان أنه ليس في الطريقة الجلوتية بالجيم دور ورقص بل توحيد وذكر قياماً وقعوداً بشرائط وآداب وإنما يفعله الخلوتية بالخاء المعجمة ما يتوارثون من أكابر أهل الله تعالى لكن إنما يقبل منهم ويمدح إذا قارن شرائطه وآدابه كما سبق وإلا يرد ويذم وقد وجدنا في زماننا أكثر المجالس الدورية على خلاف موضوعها فالعاقل يختار الطريق الأسلم ويجتنب عن القيل والقال وينظر إلى قولهم لكل زمان رجال ولكل رجال مقام وحال.
قال الشيخ أبو العباس : من كان من فقراء هذا الزمان آكلاً لأموال الظلمة مؤثراً للسماع ففيه نزغة يهودية قال الله تعالى : {سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ} .
وقال الحاتمي : السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم ولا يفتدى بشيخ يعمل السماع وقد عرفت وشاهدت في هذا الزمان أن المجالس الدورية يحضرها المردان أن الملاح والنساء وحضورهم آفة عظيمة فإنهم والاختلاط بهم والصحبة معهم كالسم القاتل ولا شيء أسرع إهلاكاً للمرء في دينه من صحبتهم فإنهم حبائل الشيطان ونعوذ بالله من المكر بعد الكرم ومن الحور بعد الكور إنه هو الهادي إلى طريق وصاله وكاشف القناء عن ذاته وجماله والمواصل إلى كماله بعد جماله وجلاله وهو الصاحب والرفيق في كل طريق.
{أَلَمْ يَرَوْا} (آيانديدند وندانستند) {أَنَّهُ} أي : العجل {لا يُكَلِّمُهُمْ} أي : ليس فيه شيء من أحكام الألوهية حيث لا يقدر على كلام ولا أمر ولا نهي {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} أي ولا يرشدهم طريقاً إلى خير ليأتوه ولا إلى شر لينتهوا عنه.
{اتَّخَذُوهُ} إلهاً ولو كان إلهاً لكلمهم وهداهم لأن الإله لا يهمل عباده قوله اتخذوه تكرير للذم ، أي اتخذوه إلهاً وحسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر {وَكَانُوا ظَـالِمِينَ} أي : واضعين الأشياء في غير موضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم.
(3/184)
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
وفي "التفسير الفارسي" : (در لطائف قشيرى مذكورست كه ه دورست ميان أمتي كه مصنوع خودرا رستند وأمتي كه عبادت صانع خود كنند).
آنراكه توساختى نسازد كارت
سازنده توست در دو عالم يا رب
244
{وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ} كناية عن شدة ندمهم فإن الذي يشتد ندمه وتحسره يعض يده مسقوطاً فيها كأنّ فاه وقع فيها ، والمعنى ندموا على ما فعلوا من عبادة العجل غاية الندم وسقط مسند إلى في أيديهم.
{وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} باتخاذ العجل إلهاً أي تبينوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأوه بأعينهم.
{قَالُوا لئن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بإنزال التوراة المكفرة {وَيَغْفِرْ لَنَا} بالتجاوز عن الخطيئة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (از زيانكاران وهلاك شد كان) وما حكي عنهم من الندامة والرؤية والقول وإن كان بعدما رجع موسى عليه السلام إليهم كما ينطق به الآيات الوارة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى} من جبل الطور {إِلَى قَوْمِهِ} حال كونه {غَضْبَـانَ أَسِفًا} أي : شديد الغضب يقال آسفني فأسفت أي : أغضبني فغضبت ومنه قوله تعالى : {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (الزخرف : 55) وهو يدل على أنه عليه السلام كان عالماً باتخاذهم العجل إلهاً قبل مجيئه إليهم بسبب أنه تعالى أخبره في حال المكالمة بما كان من قومه من عبادة العجل.
{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنا بَعْدِى} أي : ساء ما عملتم خلفي أيها العبدة بعد غيبتي وانطلاقي إلى الجبل لأنه يقال خلفه بما يكره إذا عمل خلفه ذلك ، و(ما) نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم.
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} الهمزة للإنكار أي أتركتموه غير تام كأنه ضمن عجل معنى سبق وإلا فعجل يتعدى بعن يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونفيضه تم عليه ، والمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به إلى أن يجيء ، فالأمر واحد الأوامر أو أنه بمعنى المأمور به ، والعجلة : العمل بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة بخلاف السرعة فإنها غير مذمومة لكونها عبارة عن العمل بالشيء في أول وقته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
وفي "التأويلات النجمية" : استعجلتم يا صفات الروح بالرجوع إلى الدنيا وزينتها والتعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمر به ربكم وفيه إشارة إلى أن أرباب الطلب ، وأصحاب الملوك لا ينبغي أن يلتفتوا إلى شيء من الدنيا ولا يتعلقوا بها في أثناء الطلب والسلوك لئلا ينقطعوا عن الحق اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى ، فلهم أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق إلى المولى وتسليكهم في طريق الدنيا والعقبى.
{وَأَلْقَى الالْوَاحَ} التي كانت فيها التوراة من يده.
{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي : بشعر رأس هارون حال كونه ، أي : موسى {يَجُرُّه إِلَيْهِ} (بطرف خود كشيد اورا بطريق معاتبه نه ازروى اهانت) توهماً أنه قصر في كفّهم وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولاً ليناً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل.
{قَالَ} أي : هارون مخاطباً لموسى.
{ابْنَ أُمَّ} بحذف حرف النداء ، وأصله يا ابن أما حذفت الألف المبدلة من الياء اكتفاء بالفتحة زيادة في التخفيف لطوله باشتماله على إضافة بعد إضافة ، وكان هارون أخاه لأب وأم ولكنه ذكر الأم ليرفقه عليه أي يحمله على الرفق والشفقة وعلى هذا طريق العرب.
{إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى} إزاحة لتوهم التقصير في حقه ، والمعنى : بذلت وسعي في كفّهم حتى قهروني واستضعفوني
245
وقاربوا قتلي.
{فَلا تُشْمِتْ بِىَ الاعْدَآءَ} أي : فلا تفعل بي ما يكون سبباً لشماتتهم بي وبالفارسي (س شادمان مكردان بمن دشمنانرا ونان مكن كه آرزوى ايشان حاصل شود از اهانت من) يقال شمت به يشمت شماتة من باب علم يعلم إذا فرح ببلية أصابت عدوه ثم ينقل إلى باب الأفعال للتعدية فالشماتة (شادى كردن بمكر وهي كه دشمن رارسد) ويعدى بالباء.
والإشمات (شاد كام كردن دشمن) كما في "تاج المصادر" وشماتة العدو أشد من كل بلية فلذلك قيل والموت دون شماتة الأعداء.
{وَلا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي : معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير.
(3/185)
والإشارة : أن هارون القلب أخ موسى الروح والأعداء النفس والشيطان والهوى والقوم الظالمون هم الذين عبدوا عجل الدنيا وهم صفات القلب يشير إلى أن صفات القلب تتغير وتتلون بلون صفات النفس ورعوناتها ومن هنا يكون شنشنة الشطار من أرباب الطريقة ورعوناتهم وزلات أقدامهم ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما تتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوامية والملهمية والمطمئنية والرجوع إلى الحق ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت المشومة إلى طبعها وجبلتها سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
{قَالَ} موسى وهو استئناف بياني {رَبِّ اغْفِرْ لِى} أي : ما فعلت بأخي من غير ذنب مقرر من قبله {وَلاخِى} أي : أن فرط في كفهم استغفر عليه السلام لنفسه ليرضي أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان عليه أن يقاتلهم {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد الأنعام علينا بعد غفران ما سلف منا.
قال الحدادي : أي في جنتك.
{وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} وأنت أرحم بنا منا على أنفسنا ومن آبائنا وأمهاتنا.
حكي أنه اعتقل لسان فتى عن الشهادة حين أشرف على الموت فأخبروا النبي عليه السلام فدخل عليه وعرض الشهادة فاضطرب ولم يعمل لسانه فقال عليه السلام : "أما كان يصلي أما كان يزكى أما كان يصوم؟ قالوا : بلى قال فهل عقّ والديه؟ قالوا : نعم قال هاتوا بأمه فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام هلا عفوت عنه فقالت : لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني قال هاتوا بالحطب والنار قالت ما تصنع قال : أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل ، قالت : عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين ، فأين رحمة الأم فعند ذلك انطلق لسانه بالكلمة" والنكتة أنها كانت رحيمة لا رحمانة فللقليل من رحمتها ما جوزت إحراقه بالنار فالله الذي لا يتضرر بجناية العباد كيف يستجيز إحراق المؤمن المواظب على كلمة الشهادة سبعين سنة وهو أرحم الراحمين.
قال الحافظ :
لطف خدا بيشتر ازجرم ماست
نكته سربسته ه دانى خموش
وقال :
دلا طمع مبر از لطف بي نهايت دوست
كه ميرسد همه را لطف بى نهايت او
قال بعض أهل التفسير : إن قابيل لما قتل أخاه هابيل اشتد ذلك على آدم ، فقال الله تعالى : يا آدم
246
جعلت الأرض في أمرك مرها فلتفعل ما تهوى بمكان ابنك قابيل فقال آدم عليه السلام : يا أرض خذيه فأخذت الأرض قابيل فقال قابيل يا أرض بحق الله أن تمهليني حتى أقول قولي ففعلت فقال يا رب إن أبي قد عصاك فلم تخسف به الأرض فقال الله تعالى نعم ولكنه ترك أمراً واحداً وأنت تركت أمري وأمر أبيك وقتلت أخاك فقال آدم ثانياً يا أرض خذيه فقال قابيل بحرمة محمد عليه السلام أن تمهليني حتى أقول قولي ففعلت فقال : يا رب إن إبليس ترك أمرك وعاداك ولم تخسف به الأرض فما بالي تخسف بي الأرض فأجاب الله تعالى مثل الأولى فقال : إلهي أليس لك تسعة وتسعون اسماً فقال الله تعالى بلى فقال أليس الرحمن الرحيم من جملة ذلك قال : بلى قال : ألست سميت نفسك رحماناً رحيماً لكثرة الرحمة قال : بلى قال : يا رب إن أردت إهلاكي فأخرج هذين الاسمين من بين أسمائك ثم أهلكني لأن أخذ العبد بجريمة واحدة يكون رحمة فأمر الله الأرض حتى خلت سبيله ولم تهلكه فاعتبر إذا كانت رحمته بهذه المرتبة للكافر فما ظنك للمؤمن فينبغي للمقصر أن يرفع حاجته إلى المولى ويستغفر من ذنبه الأخفى والأجلى كي يدخل في الرحمة التي هي الفردوس الأعلى.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
سياه نامه ترازخود كسى نمى بينم
كونه ون قلمم دوددل بسر نرود
وفي قوله تعالى : {رَبِّ اغْفِرْ لِى} الآية إشارة إلى السير في الصفات لأن المغفرة والرحمة من الصفات فيشير إلى أن لموسى الروح ولأخيه هارون القلب استعداد لقبول الجذبة الإلهية التي تدخلهما في عالم الصفات.
{وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَا وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} لأن غيرك من الراحمين عاجز عن إدخال غيره في صفاته وأنت قادر على ذلك لمن تشاء ويدل عليه قوله : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} (الشورى : 8) كذا في "التأويلات النجمية".
(3/186)
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} أي : إلهاً واستمروا على عبادته كالسامري وأشياعه من الذين أشربوه في قلوبهم {سَيَنَالُهُمْ} أي : في الآخرة {غَضَبَ} عظيم كائن {مِّن رَّبِّهِمُ} أي : مالكهم لما أن جريمتم أعظم الجرائم وأقبح الجرائر والمراد بالغضب ههنا غايته وهي الانتقام والتعذيب لأن حقيقة الغضب لا تتصور في حقه تعالى {وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} هي ذلة الاغتراب والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد بالناس والابتلاء بلا مساس كما روي أن موسى عليه السلام هم بقتل السامري ، فأوحى الله إليه لا تقتل السامري فإنه سخى ولكن أخرجه من عندك فقال له موسى فاذهب من بيننا مطروداً فإن لك في الحياة أي في عمرك أن تقول لمن أراد مخالطتك جاهلاً بحالك لا مساس أي لا يمسني أحد ولا أمس أحداً وإن مسه أحدهما جميعاً في الوقت وروي أن ذلك موجود في أولاده إلى الآن وإيراد ما نالهم في حيز السين مع مضيه بطريق تغليب حال الأخلاف على حال الأسلاف.
{وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} على الله ولا فرية أعظم من فريتهم هذا إلهكم وإله موسى ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم.
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّـاَاتِ} أية سيئة كانت {ثُمَّ تَابُوا} من تلك السيئات.
{مِنا بَعْدِهَا} أي : من بعد عملها.
{وَءَامَنُوا} إيماناً صحيحاً خالصاً واشتغلوا بما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى.
{إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا} أي : من بعد تلك التوبة
247
المقرونة بالإيمان {لَغَفُورٌ} للذنوب وإن عظمت وكثرت {رَّحِيمٌ} مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
والإشارة : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} عجل الهوى إلهاً يدل عليه قوله : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} يعني عبادة الهوى موجبة لغضب الله تعالى دل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام : "ما عبد في الأرض إله أبغض على الله من الهوى" وإن عابد الهوى يكون ذليل شهوات النفس وأسير صفاتها الذميمة من الحيوانية والسبعية والشيطانية ما دام يميل إلى الحياة الدنيوية.
{وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} يعني : وكذلك نجازي بالغضب والطرد والإبعاد والذلة عباد الهوى المدعين الذين يفترون على الله أنه أعطانا قوة لا تضر بنا عبادة الهوى والدنيا ومتابعة النفس وشهواتها {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّـاَاتِ} يعني : سيئات عبادة الهوى والدنيا والافتراء على الله تعالى.
{ثُمَّ تَابُوا مِنا بَعْدِهَا وَءَامَنُوا} بعبودية الحق تعالى وطلبه بالصدق.
{إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا} أي : من بعد ترك عبادة الهوى والرجوع إلى طلب الحق {لَغَفُورٌ رَّحِيمُ} يعني يعفو عنهم تلك السيئات ويرحمهم بنيل القربات والكرامات كذا في "التأويلات النجمية".
واعلم : أن التوبة عند المعتزلة علة موجبة للمغفرة وعندنا سبب محض للمغفرة والتوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد كان المراد بها الرجوع عن المعصية وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العذاب بالمغفرة.
والتوبة على ضربين : ظاهر وباطن.
فالظاهر : هو التوبة من الذنوب الظاهرة وهي مخالفات ظواهر الشرع وتوبتها ترك المخالفات واستعمال الجوارح بالطاعات ، والباطن : هو توبة القلب من ذنوب الباطن وهي الغفلة عن الذكر حتى يتصف به بحيث لو صمت لسانه لم يصمت قلبه وتوبة النفس قطع علائق الدنيا والأخذ باليسير والتعفف ، وتوبة العقل التفكر في بواطن الآيات وآثار المصنوعات ، وتوبة الروح التحلي بالمعارف الإلهية ، وتوبة السر التوجه إلى الحضرة العليا بعد الإعراض عن الدنيا والعقبى.
قال حضرة جلال الدين الرومي قدس سره :
كرسيه كردى تونامه عمر خويش
توبه كن زانها كه كردستى تويشعمر اكر بكذشت بيخش اين دم است
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
آب توبش ده اكرا وبى نم است
ون برآرند از بشيماني انين
عرش برزد از انين المذنبين والعبد إذا رجع عن السيئة وأصلح عمله أصلح الله تعالى شأنه وأعاد عليه نعمه الفائتة.
عن إبراهيم بن أدهم : بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل ذبح عجلاً بين يدي أمه فيبست يده فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره وهو يتبصبص فأخذه ورده إلى وكره فرحمه الله تعالى لذلك ورد عليه يده بما صنع فينبغي للمؤمن أن يسارع إلى التوبة والعمل الصالح فإن الحسنات يذهبن السيئات.
(3/187)
عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يا رسول الله علمني عملاً يقربني إلى الجنة ويباعدني عن النار "قال إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة فإنها عشر أمثالها قال الله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" فقلت : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات قال : "هي أحسن الحسنات".
كار نيكوتر بدان جز ذكر نيست†
والله الهادي.
{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} أي : لما سكن عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم
248
والسكوت قطع الكلام وقطع الكلام فرع ثبوته وهو لا يتصور في الغضب فلا يتصور قطعه أيضاً فهو محمول على المعنى المجازي الذي هو السكون شبه الغضب بإنسان يغري موسى عليه السلام ويقول له إن أخاك قصر في كف قومك عن الكفر فاستحق أهانتك وعقوبتك فخذ بشعر رأسه فجره إلى نفسك ، وقل له كذا وكذا وألق ما في يدك من الألواح ثم يقطع الإغراء ويترك الكلام ففيه استعارة مكنية وسكت قرينة الاستعارة.
قال الحدادي : قيل معناه سكت موسى عن الغضب وهذا من المقلوب كما يقال أدخلت قلنسوة في رأسي يريد أدخلت رأسي في قلنسوة.
{أَخَذَ الالْوَاحَ} التي ألقاها وهو دليل على أنها لم تتكسر حين ألقاها وعلى أنه لم يرفع منها شيء كما ذهب إليه بعض المفسرين.
{وَفِى نُسْخَتِهَا} أي : والحال إنه فيما نسخ فيها وكتب نقلاً عن الأصل وهو اللوح المحفوظ فإن النسخ عبارة عن نقل أشكال الكتابة وتحويلها من الأصل المنقول عنه فإذا كتبت كتاباً من كتاب آخر حرفاً بعد حرف قلت نسخت هذا الكتاب من ذلك الكتاب أي : نقلته منه.
{هُدًى} أي : بيان للحق وهو مبتدأ وفي نسختها خبره.
{وَرَحْمَةً} للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح كائنة {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي : يخشون واللام في لربهم لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} يعني إنها دخلت جابرة للضعف العارض للفعل بسبب تأخره عن مفعوله وإنما خص أهل الرهبة بالذكر لأنهم هم المنتفعون بآيات الكتاب فالعبد إذا رغب إلى الله يصدق الطلب وإلى الجنة بحسن العمل ورهب من اليم عذاب فرقته والانقطاع ومن دخول النار فقد أخذ بالخوف والرجاء ووصل بهما إلى ما هوى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
واعلم : أن الخشية إنما تنشأ عن العلم بصفات الحق سبحانه وعلامة خشية الله تعالى ترك الدنيا والخلق ومحاربة النفس والشيطان قالوا رهبوت خير من رحوت أي لأن ترهب خير من أن ترحم وذلك لأن التخلية قبل التحلية.
ومن الترهيبات : ما حكي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه شبع مرة من خبز شعير فنام عن حزبه تلك الليلة فأوحى الله تعالى إليه يا يحيى هل وجدت داراً خيراً لك من داري؟ أو جاراً خيراً لك من جواري؟ وعزتي وجلالي لو اطلعت على الفردوس اطلاعة لذاب جسمك ولزهقت نفسك اشتياقاً إلى الفردوس الأعلى ولو اطلعت على نار جهنم اطلاعة لبكيت الصديد بعد الدموع وللبست الحديد بعد المنسوج.
قال الحسن البصري : الكلب إذا ضرب وطرد وجفى عليه وطرح له كسرة ، أجاب ولم يحقد على ما مضى وذلك من علامة الخاشعين فينبغي لكل مؤمن أن تكون فيه تلك الصفة.
قال الحافظ :
وفاكنيم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافريست رنجيدن
وفي الحديث : "من لم يخف الله خف منه" قال الإمام السخاوي معناه صحيح فإن عدم الخوف من الله تعالى يوقع صاحبه في كل محذور ومكروه.
وفي "المثنوي" :
لا تخافوا هست نزل خائقان
هست درخور ازبراى خائف آن
هركه ترسد مروراً ايمن كنند
مردل ترسنده را ساكن كنند
آنكه خوفش نيست ون كويى مترس
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
درس ه دهى نيست أو محتاج درس
249
(3/188)
{وَاخْتَارَ مُوسَى} الاختيار افتعال من لفظ الخير ، يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره.
{قَوْمِهِ} أي : من قومه بحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور وهو مفعول ثاننٍ.
{سَبْعِينَ رَجُلا} مفعول أول.
{لِّمِيقَـاتِنَا} أي : للوقت الذي وقتناه له وعيناه ليأتي فيه بسبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل ، ليعتذروا عن ما كان من القوم من عبادة العجل فهذا الميقات ميقات التوبة لا ميقات المناجاة والتكليم ، وكان قد اختار موسى عليه السلام عند الخروج إلى كل من الميقاتين سبعين رجلاً من قومه وكانوا اثني عشر سبطاً فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان ، فقال موسى : ليتخلف منكم رجلان فإني إنما أمرت بسبعين فتنازعوا فقال إن لمن قعد مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين إلى الجبل.
{فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} مما اجترأوا عليه من طلب الرؤية حيث قالوا : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) والرجفة هي الارتعاد والحركة الشديدة والمراد أخذتهم رجفة الجبل فصعقوا منها أي : ماتوا ، وأكثر المفسرين على أنهم سمعوه تعالى يكلم موسى يأمره بقتل أنفسهم توبة فطمعوا في الرؤية وقالوا ما قالوه ويرده قوله تعالى : يا مُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـالَـاتِي وَبِكَلَـامِي} (الأعراف : 144) كما ذهب إليه صاحب "التيسير" {قَالَ} موسى {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ} أي : حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها.
{وَإِيَّـاىَ} أيضاً حين طلبت منك الرؤية أي لو شئت إهلاكنا بذنوبنا لأهلكتنا حينئذٍ أراد به تذكر العفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق.
{أَتُهْلِكُنَا} الهمزة لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله تعالى ، أي : لا تهلكنا.
{بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ} حال كونهم {مِنَّآ} من العناد والتجاسر على طلب الرؤية ، وكأن ذلك قاله بعضهم ، أي : لا يليق بشأنك أن تهلك جماً غفيراً بذنب صدر عن بعضهم الذي كان سفيهاً خفيف الرأي.
{إِنْ هِىَ} أي : ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء.
{إِلا فِتْنَتُكَ} أي : محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمعوا في الرؤية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
يقول الفقير : هذا يدل على أنهم سمعوا كلامه تعالى على وجه الامتحان والابتلاء لا على وجه الكرمة والإجلال ، وذلك لا يقدح في كون موسى عليه السلام مصطفى بالرسالة والكلام مع أنه فرق كثير بين سماعهم وسماعه عليه السلام والله أعلم.
(ودر فصل الخطاب مذكورست كه حق تعالى موسى عليه السلام را در مقام بسط بداشت تابكمال حال انس رسيده وازرو دلال بدين جراءت أقدام نمود ودلال در مرتبه محبو بيت است وحضرت مولوي قدس سره فرموده كه كستاخى عاشق ترك أدب نيست بلكه عين ادبست).
كفت وكوى عاشقان دركار رب
جوشش عشقست نه ترك أدب
هركه كردازجام حق يكجرعه نوش
نه ادب ماند درونه عقل وهوش
{تُضِلُّ بِهَا} أي : بسبب تلك الفتنة {مَن تَشَآءُ} ضلاله فيتجاوز عن حده بطلب ما ليس له {وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ} هدايته إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي : القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية وناصرنا وحافظنا لا غير.
{فَاغْفِرْ لَنَا} أي : ما اقترفناه من المعاصي.
{وَارْحَمْنَآ} بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية.
قال ابن الشيخ : المغفرة هي إسقاط
250
العقوبة والرحمة إيصال الخير وقدم الأول على الثاني لأن دفع المضرة مقدم على تحصيل المنفعة.
{وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـافِرِينَ} تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
وأيضاً كل من سواك إنما يتجاوز عن الذنب إما طلباً للثناء الجميل أو للثواب الجزيل أو دفعاً للقسوة من القلب ، وأما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لأجل غرض وعوض بل بمحض الفضل والكرم فلا جرم أنت خير الغافرين وأرحم الراحمين وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم بحسب المقام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
(3/189)
{وَاكْتُبْ لَنَا} أي : أثبت وعين لنا وذكر الكتابة لأنها أدوم.
{فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} حسن معيشة وتوفيق طاعة.
{وَفِي الاخِرَةِ} أي : واكتب لنا فيها أيضاً حسنة وهي المثوبة الحسنى أو الجنة.
{إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} تعليل لطلب الغفران والرحمة من هاد يهود إذا رجع ، أي تبنا ورجعنا إليك عما صنعنا من المعصية العظيمة التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع ههنا من طلب الرؤية فبعيد من لطفك وفضلك أن لا تقبل توبة التائبين.
قيل : لما أخذتهم الرجفة ماتوا جميعاً فأخذ موسى عليه السلام يتضرع إلى الله حتى أحياهم وقد تقدم في سورة البقرة.
{قَالَ} استئناف بياني ، كأنه قيل فماذا قال الله تعالى عند دعاء موسى عليه السلام فقيل قال : {عَذَابِى} (عذاب من وصفت إو آنست كه) {أُصِيبُ بِهِ} الباء للتعدية معناه بالفارسية (ميرسانم) {مَنْ أَشَآءُ} تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.
{وَرَحْمَتِى} (ورحمت من وصفت أو آنست كه) {وَسِعْتَ} في الدنيا معناه (رسيده است) {كُلِّ شَىْءٍ} المؤمن والكافر بل المكلف وغيره من كل ما يدخل تحت الشيئية وما من مسلم ولا كافر إلا وعليه آثار رحمته ونعمته في الدنيا فبها يتعيشون وبها ينقلبون ولكنها تختص في الآخرة بالمؤمنين ، كما قال تعالى : {فَسَأَكْتُبُهَا} أي : أثبتها وأعينها في الآخرة.
{لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي.
{وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} خصها بالذكر لأنها كانت أشق عليهم {وَاكْتُبْ لَنَا فِى} جميعاً {يُؤْمِنُونَ} إيماناً مستمراً فلا يكفرون بشيء منها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أنزلت هذه الآية تطاول لها إبليس فقال : أنا شيء من الأشياء فأخرجه الله تعالى من ذلك بقوله : {فَسَأَكْتُبُهَا} إلخ فقالت اليهود والنصارى نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فأخرجهم الله تعالى منها بقوله :
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} في محل الجر على أنه صفة للذين يتقون أو بدل منه يعني : محمداً صلى الله عليه وسلّم الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به {النَّبِىُّ} أي : صاحب المعجزة.
وقال البيضاوي : إنما سماه رسولاً بالإضافة إلى الله ونبياً بالإضافة إلى العباد.
{الامِّىِّ} الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وكونه عليه السلام أمياً من جملة معجزاته فإنه عليه السلام لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً بأنه ربما طالع في كتب الأولين والآخرين ، فحصل هذه العلوم بتلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على علوم الأولين والآخرين من غير تعلم ومطالعة كان ذلك من جملة معجزاته الباهرة.
نكار من كه بمكتب نرفت وخط ننوشت
بغمزه مسأله آموز صد مدرس شد
من كان القلم الأعلى يخدمه واللوح المحفوظ مصحفه ومنظره لا يحتاج إلى تصوير الرسوم.
وقد وصف الله تعالى هذه الأمة في الإنجيل أمة محمد أناجيلهم في صدورهم ، ولو لم يكن رسم الخطوط لكانوا يحفظون شرائعه صلى الله عليه وسلّم بقلوبهم لكمال قوتهم وظهور استعداداتهم.
والأم :
251
الأصل وعنده أم الكتاب {الَّذِى يَجِدُونَه مَكْتُوبًا} باسمه وصفته {عِندَهُمُ} متعلق بيجدون أو بمكتوباً وكذا قوله {فِى التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ} الذين تعبد بهما بنو إسرائيل سابقاً ولاحقاً.
وفي "المثنوي" :
يش ازانكه نقشأحمد رونمود
نعت اوهر كبررا تعويذ بود
سجده مى كردند كارى رب بشر
درعيان آريش هره زودتر
نقش اومى كشت اندر راهشان
دردل ودر كوش درافواه شان
اين همه تعظيم وتفخيم ووداد
ون بديدندش بصورت بردباد
قلب آتش ديددردم شد سياه
قلب را در قلب كي بودست راه
فإن قيل : الرحمة المذكورة لو اختصت بهم لزم أن لا تثبت لغيرهم من المؤمنين وليس كذلك.
أجيب : بأن هذا الاختصاص بالإضافة إلى بني إسرائيل الموجودين في زمان النبي الأمي ولم يؤمنوا به لا بالإضافة إلى جميع ما عداهم.
{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} أي : بالتوحيد وشرائع الإسلام.
{وَيَنْهَـاـاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} أي : عن كل ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ} التي حرمت عليهم بشؤم ظلمهم كالشحوم.
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـائِثَ} كالدم ولحم الخنزير ، فالمراد بالطيبات : ما يستطيبه الطبع ويستلذه ، وبالخبائث ما يستخبثه الطبع ويتنفر منه ، فتكون الآية دليلاً على أن الأصل في كل ما يستطيبه الطبع الحل وكل ما يستخبثه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل ، ويجوز أن يراد بهما ما طاب في حكم الشرع ، وما خبث كالربا والرشوة ومدلول الآية حينئذٍ أن ما يحكم الشرع بحله فهو حلال وما يحكم بحرمته فهو حرام ولا حكم لاستطابة الطبع واستخباثه فيهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
(3/190)
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي : يخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وعدم الاكتفاء بغسله وإحراق الغنائم وتحريم العمل يوم السبت بالكلية شبهت هذه التكاليف الشاقة بالحمل الثقيل وبالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه من الحراك لثقله.
{فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ} أي : بنبوة الرسول النبي الأمي وأطاعوه في أوامره ونواهيه.
{وَعَزَّرُوهُ} أي : عظموه ووقروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه.
{وَنَصَرُوهُ} على أعدائه في الدين {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَه} يعني : القرآن الذي ضياؤه في القلوب كضياء النور في العيون.
قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت ما معنى قوله (أنزل معه) ، وإنما أنزل مع جبريل قلت : أنزل مع نبوته ؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به انتهى فمعه متعلق بأنزل حال من ضميره بتقدير المضاف ، أي : أنزل ذلك النور مصاحباً لنبوته.
{أولئك} المنعوتون بتلك النعوت الجلية.
{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي : الفائزون بالمطلوب الناجون من الكروب لا غيرهم من الأمم فيدخل فيهم قوم موسى دخولاً أولياً حيث لم ينجوا مما في توبتهم من المشقة الهائلة وبه يتحقق التحقيق ويتأتى التوفيق والتطبيق بين دعائه عليه السلام وبين الجواب ، وهو من قوله : (عذابي) إلى هنا فقد علم أن اتباع القرآن وتعظيم النبي عليه السلام بعد الإيمان سبب للفوز والفلاح
252
عند الرحمن ونصرته عليه السلام على العموم والخصوص ، فالعموم للعامة من أهل الشريعة ، والخصوص للخاصة من أرباب الطريقة وأصحاب الحقيقة ، وهم الواصلون إلى كمال أنوار الإيمان وأسرار التوحيد بالإخلاص والاختصاص.
واعلم : أن المقصود الإلهي من ترتيب سلسلة الأنبياء عليهم السلام هو وجود محمد صلى الله عليه وسلّم فوجود الأنبياء قبله كالمقدمة لوجوده الشريف فهو الخلاصة والنتيجة والزبدة وأشرف الأنبياء والمرسلين كما قال عليه السلام : "فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون" وكذلك المقصود من الكتب الإلهية السالفة هو القرآن الذي أنزل على النبي عليه السلام ، فهو زبدة الكتب الإلهية وأعظمها ومصدق لما بين يديه ؛ لأنه بلفظ قد أعجز البلغاء أن يأتوا بسورة من مثله وبمعناه جامع لما في الكتب السالفة من الأحكام والآداب والفضائل متضمن للحجج والبراهين والدلائل ، وكذا المقصود من الأمم السالفة هو هذه الأمة المرحومة أعني أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فهي كالنتيجة لما قبلها ، وهي الأمة الوسط كما قال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
(3/191)
{وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) وكذا المقصود من الملوك الماضية والسلاطين السالفة هو الملوك العثمانية فهم زبدة الملوك ودولتهم زبدة الدول حيث لا دولة بعدها لغيرهم إلى ظهور المهدي وعيسى ويقاتلون من هم مبادي الدجال من الكفرة الفجرة من الإفرنج والانكروس وغيرهم ولهم الجمعية الكبرى واليد الطولى والدولة العظمى في الأقاليم السبعة وأطراف البلاد من المغرب والمشرق ولم يعط هذا لواحد قبل دولتهم ويدل على هذه الجمعية كون اسم جدهم الأعلى عثمان فإن عثمان رضي الله عنه جامع القرآن فهم مظاهر لاسم الحق كما كان عمر رضي الله عنه كذلك حيث إنه لما أسلم قال : يا رسول الله ألسنا على الحق قال عليه السلام : "والذي بعثني بالحق نبياً كلنا على الحق" قال : أنا والذي بعثك بالحق نبياً لا نعبد الله بعد اليوم سراً ، فأظهر الله الدين بإيمانه فكان ظهور الدين مشروطاً بإيمانه فهذا أول الظهور ثم ، وثم إلى أن انتهى إلى زمن الدولة العثمانية ولذلك يقاتلون على الحق فالسيف الذي بيدهم قد ورثوه كابراً عن كابر ومجاهداً عن مجاهد.
حكي أن عثمان الغازي جد السلاطين العثمانية إنما وصل إلى ما وصل برعاية كلام الله تعالى وذلك أنه كان من أسخياء زمانه يبذل النعم للمترددين ، فثقل ذلك على أهل قريته وانعكس إليه ذلك وذهب ليشتكي من أهل القرية إلى الحاج بكتاش أو غيره من الرجال ، فنزل في بيت رجل قد علق فيه مصحف فسأل عنه ، فقالوا : هو كلام الله تعالى؟ فقال : ليس من الأدب أن نقعد عند كلام الله فقام وعقد يديه مستقبلاً إليه فلم تزل إلى الصبح فلما أصبح ذهب إلى طريقه فاستقبله رجل ، وقال أنا مطلبك ، ثم قال له : إن الله تعالى عظمك وأعطاك وذريتك السلطنة بسبب تعظيمك لكلامه ثم أمر بقطع شجرة وربط برأسها منديلاً وقال ليكن ذلك لواء ثم اجتمع عنده جماعة فجعل أول غزوته إلى بلاجك وفتح بعناية الله تعالى ، ثم أذن له السلطان علاء الدين في الظاهر أيضاً فصار سلطاناً ثم بعد ارتحاله صار ولده أورخان سلطاناً ففتح هو بروسة المحروسة بالعون الإلهي فالدولة العثمانية من ذلك الوقت إلى هذا الآن على الازدياد
253
بسبب تعظيم كلام الله القديم ، وكما أن الله تعالى أظهر لطفه للأولين كذلك يظهره للآخرين ، وإن كان في بعض الأوقات يظهر القهر والجلال تأديباً وتنبيهاً فتحته لطف وجمال.
قال السعدي قدس سره :
ز ظلمت مترس اي سنديده دوست
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
كه ممكن بود كاب حيوان دروست
دل از بى مرادى بفكرت مسوز
شب آبستن است اي برادر بروز
(3/192)
والإشارة في الآيات : أن الله تعالى امتحن موسى عليه السلام باختيار قومه ليعلم أن المختار من الخلق من اختاره الله لا الذي اختاره الخلق وأن الله الاختيار الحقيقي لقوله : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} (القصص : 68) وليس للخلق الاختيار الحقيقي لقوله : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص : 68) ثم استخرج من القوم المختار ما كان موجباً للرجفة والصعقة والهلاك ، وهو سوء الأدب في سؤال الرؤية جهاراً وكان ذلك مستوراً عن نظر موسى متمكناً في جبلتهم وكان الله المتولي للسرائر وحكم موسى بظاهر صلاحيتهم فأراه الله أن الذي اختاره يكون مثلك ، كقوله تعالى : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه : 13) والذي تختاره يكون كالقوم فلما تحقق لموسى أن المختار من اختاره الله حكم بسفاهة القوم وأظهر الاستكانة والتضرع والاعتذار والتوبة والاستغفار والاسترحام كما قال : {فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّـاىَا أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} وفيه إشارة أخرى إلى أن نار شوق الرؤية كما كانت متمكنة في قلب موسى بالقوة ، وإنما ظهرت بالفعل بعد أن سمع كلام الله تعالى فإن من اصطكاك زناد الكلام وحجر القلب ظهر شرر نار الشوق فاشتعل منه كبريت اللسان الصدوق وشعلت شعلة السؤال فقال : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} كذلك كانت نار الشوق متمكنة في أحجار قلوب القوم فباصطكاك زناد سمع الكلام ظهر شرر الشوق فاشتعل منه كبريت اللسان ، ولما لم يكن اللسان لسان النبوة صعد منه دخان السؤال الموجب للصعقة والرجفة والسر فيه أن يعلم موسى وغيره أن قلوب العباد مختصة بكرامة إيداع نار المحبة فيها لئلا يظن موسى أنه مخصوص به ، ويعذر غيره في تلك المسألة فإنها من غلبات الشوق تطرأ عند استماع كلام المحبوب ولذا قال عليه السلام : "ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه".
وبالأصبعين يشير إلى صفتي الجمال والجلال وليس لغير الإنسان قلب مخصوص بهذه الكرامة وإقامة القلب وإزاغته في أن يجعله مرآة صفات الجمال فيكون الغالب عليه الشوق والمحبة لطفاً ورحمة ، وفي أن يجعله مرآة صفات الجلال فيكون الغالب عليه الحرص على الدنيا والشهوة قهراً وعزة فالنكتة فيه أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصاً بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله لرؤية شعلة نار المحبة مقروناً بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
{رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} قدم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية ، فإن نار الشوق تصاعدت بسوء الأدب فقالوا : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) قدموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهاراً فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فشتان بين صعقه موسى وصعقة قومه فإن صعقته كانت صعقة اللطف مع تجلى صفة الربوبية ، وإن صعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة ولما كان موسى عليه السلام ثابتاً في مقام
254
التوحيد كان ينظر بنور الوحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله فرأى سفاهة القوم وما صدر منهم من آثار صفة قهره فتنة واختباراً لهم فلما دارت كؤوس شراب المكالمات وسكر موسى بأقداح المناجاة زل قدمه على بساط الانبساط فقال : {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} أي : تزيغ قلب من تشاء بأصبع صفة القهر {وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ} أي : تقيم قلب من تشاء بأصبع صفة اللطف {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي : المتولي لأمورنا والناصر في هدايتنا {فَاغْفِرْ لَنَا} ما صدر منا.
{وَارْحَمْنَآ} بنعمة الرؤية التي سألناكها.
{وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـافِرِينَ} أي : خير من يستر على ذنوب المذنبين يعني إنهم يسترون الذنب ولا يعطون سؤلهم ، فأنت الذي تستر الذنب وتبدله بالحسنات وتعطي سؤل أهل الزلات {وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} يعني : حسنة الرؤية كما كتبت لمحمد عليه السلام ولخواص أمته هذه الحسنة في الدنيا ، وفي الآخرة ، يعني : خصنا بهذه الفضيلة في الدنيا {وَفِي الاخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} رجعنا إليك في طلب هذه الفضيلة بالسر لا بالعلانية وأنت الذي تعلم السر والأخفى وأجابهم الله تعالى سراً بسر وإضماراً بإضمار {قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِه مَنْ أَشَآءُ} أي : بصفة قهري آخذ من أشاء وبقراءة من قرأ من أساء ، أي : من أساء في الأدب عند سؤال الرؤية حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة آخذهم على سوء أدبهم فأدبهم بتأديب عذاب الفرقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
(3/193)
{وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} نعمة وإيجاداً وتربية.
{فَسَأَكْتُبُهَا} يعني : حسنة الرؤية والرحمة بها التي أنتم تسألونها.
{لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} يعني : يتقون بالله عن غيره ويؤتون من نصاب هذا المقام الزكاة إلى طلابه.
{وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـاذِهِ} يعني : الذين هم يؤمنون بأنوار شواهد الآيات لا بالتقليد بل بالتحقيق وهم خواص هذه الأمة كما عرف أحوالهم وصرح أعمالهم بقوله : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامِّىَّ} وفيه إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعداً لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة ، وهي : مقامات الرسالة ، والنبوة التي هي مشتركة بينه وبين الرسول والأنبياء ، والمقام الأمي الذي هو مخصوص به صلى الله عليه وسلّم من بين الأنبياء والرسل عليهم السلام ، ومعنى الأمي : أنه أم الموجودات وأصل المكونات كما قال : "أول ما خلق الله روحي" وقال حكاية عن الله : "لولاك لما خلقت الكون" فلما كان هو أول الموجودات وأصلها سمي أمياً كما سميت مكة أم القرى ؛ لأنها كانت مبدأ القرى وأصلها ، وكما سمي أم الكتاب إما لأنه مبدأ الكتب وأصلها فأما اتباعه في مقام الرسالة والنبوة فبأن يأخذ ما آتاه الرسول وينتهي عما نهاه عنه كما قال تعالى : {وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر : 7) فإن الرسالة تتعلق وأحكام الظاهر والنبوة تتعلق بأحوال الباطن فللعوام شركة مع الخواص في الانتفاع من الرسالة ، وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتتح له بها أحوال النبوة في الباطن من مقام تنبئة الحق تعالى بحيث يصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهواتف الملكية ، وربما يؤول حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة ولعله يصير مأموراً بدعوة الخلق إلى الحق بالمتابعة لا بالاستقلال كما قال عليه السلام : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" يشير إلى هذا القوم وذلك أن المتقدمين من بني إسرائيل في زمن الأنبياء عليهم السلام لما وصلوا إلى مقام
255
الأنبياء أعطوا النبوة والله أعلم وكانوا مقررين لدين رسولهم حاكمين بالكتب المنزلة على رسلهم فكذلك هذا القوم كما قال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
(3/194)
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} الآية.
وأما أتباعه في مقام أميته صلى الله عليه وسلّم فذلك مخصوص بأخص الخواص من متابعيه ، وهو أنه صلى الله عليه وسلّم رجع من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى مقام الوحدة كما قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} (الكهف : 110) وكما قال : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم : 8 ، 9) فقاب قوسين عبارة عن مقام التوحيد وأدنى عن مقام الوحدة تفهم إن شاء الله تعالى فمن رجع بالسير في متابعته من مقام البشرية إلى أن بلغ مقام روحانيته ثم بجذبات النبوة أنزل في مقام التوحيد ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانيته إلى مقام الوحدة فقد حظي بمقام أميته صلى الله عليه وسلّم وبقوله تعالى : {الَّذِى يَجِدُونَه مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ} (الأعراف : 157) يشير إلى أنه مكتوب عندهم وإلا فهو مكنون عنده في مقعد صدق.
{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} وهو طلب الحق والنيل إليه.
{وَيَنْهَـاـاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو طلب ما سواه والانقطاع عنه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ} أي : القربات إلى الله أو أن الطيب هو الله {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـائِثَ} وهي الدنيا وما يباعدهم عن الله {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} يعني إصرهم من العهد الذي كان بين الله تعالى وبين حبيبه صلى الله عليه وسلّم بأن لا يصل أحد إلى مقام أميته وحبيبيته إلا أمته وأهل شفاعته بتبعيته كما قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى} (آل عمران : 31) الآية وقال عليه السلام : "الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم" فكان من هذا العهد عليهم شدة وإغلال تمنعهم من الوصول إلى هذا المقام فقد وضع النبي عليه السلام عنهم هذا الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى : {فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} (الأعراف : 157) أي : وقروه باختصاص هذا المقام فإنه مخصوص به من بين سائر الأنبياء والرسل ونصروه بالمتابعة.
{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَه} يعني : حين اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته فاستفاد نور الوحدة فلم يبق من ظلمة أنانيته شيء وكان نوراً صرفاً فلما أرسل إلى الخلق أنزل معه نور الوحدة كما قال تعالى : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} (المائدة : 15) يعني : محمداً صلى الله عليه وسلّم وكتاب مبين يعني القرآن فأمروا بمتابعة هذا النور ليقتبسوا منه نور الوحدة فيفوزوا بالسعادة الكبرى والنعمة العظمى {أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في حجب الأنانية الفائزون بنور الوحدة كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
{قُلْ} يا محمد يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الخطاب عام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مبعوثاً إلى الكافة من الثقلين إلى من وجد في عصره ، وإلى من سيوجد بعده إلى يوم القيامة بخلاف سائر الرسل فإنهم بعثوا إلى أقوامهم أهل عصرهم ولم تستمر شرائعهم إلى يوم القيامة وإليكم متعلق بقوله : (رسول) وجميعاً حال من ضمير إليكم.
قال الحدادي : إني رسول الله إليكم كافة أدعوكم إلى طاعة الله وتوحيده واتباعه فيما أؤديه إليكم.
وفي "آكام المرجان" : لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في أن الله تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلّم إلى الجن والأنس والعرب والعجم فإن قلت : في بعثة سليمان عليه السلام مشاركة له لأنه أيضاً كان مبعوثاً إلى الأنس والجن وحاكماً عليهما بل على جميع الحيوانات قلت : إن سليمان لم يبعث
256
إلى الجن بالرسالة بل بالملك والضبط والسياسة والسلطنة ؛ لأنه عليه السلام استخدمهم وقضى بينهم بالحق وما دعاهم إلى دينه لأن الشياطين والعفاريت كانوا يقومون في خدمته وينقادون له مع أنهم على كفرهم وطغيانهم كذا حققه وإلهي الأسكوبي.
قال ابن عقيل : الجن داخلون في مسمى الناس لغة وهو من ناس ينوس إذا تحرك.
(3/195)
قال الجوهري : وصاحب "القاموس" الناس يكون من الأنس ومن الجن جمع أنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل.
{الَّذِى} منصوب أو مرفوع على المدح ، أي : أعني الله الذي أو هو الذي {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (مراوراست ادشاهى آسمانها وزمينها وتدبير وتصرف دران).
{لا إله إِلا هُوَ} (هي معبودى تيست مستحق عبادت جزاو) وهو بدل من الصلة التي قبله وفيه بيان لها لأن من ملك العالم كان هو الإله المتفرد بالألوهية واسم هو ضمير غيبة وهو من أخص أسمائه تعالى إذ الغيبة الحقيقية إنما هي له إذ لا تتصوره العقول ولا تحده الأوهام ، وهو اسم لحضرة الغيب الثانية التي هي أول تعينات الذات الذي هو برزخ جامع بين حكمي الاسم الباطن والظاهر وحيث تخفى فيه الواو فهو اسم لحضرة غيب الغيب وهي الحضرة الأولى من حضرات الذات وهو فاتحة الأسماء وأم كتابها تنزل منزلة الألف من الحروف كذا في "ترويح القلوب" لعبد الرحمن البسطامي قدس سره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
واعلم : أن المقربين لا يرون موجوداً سوى الله تعالى فإذا قالوا هو أشاروا به إلى الحق سبحانه سواء تقدم له مرجع أو لا وتحقيقه في "حواشي ابن الشيخ" في سورة الإخلاص.
{لا إِلَـاهَ} زيادة تقرير للألوهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الذي لا إله إلا هو.
قال الحدادي : يحيي الخلق من النطفة ويميتهم عند انقضاء آجالهم لا يقدر على ذلك أحد سواه وقيل : معناه يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا.
{قُلْ يا اأَيُّهَا النَّاسُ} الفاء لتفريع الأمر على ما تمهد وتقرر من رسالته عليه الصلاة والسلام.
{النَّبِىِّ الامِّىِّ} مدح له عليه السلام ، ومعنى الأمي : لا يقرأ ولا يكتب فيؤمن من جهته أن يقرأ الكتب وينقل إليهم أخبار الماضين ولكن يتبع لما يوحى إليه {الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَـاتِهِ} أي : ما أنزل عليه من أخبار سائر الرسل ومن كتبه ووحيه وإنما وصف به لحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به ، والتصريح بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به.
{وَاتَّبِعُوهُ} أي : في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علة للفعلين أو حال من فاعليهما ، أي : رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له ، وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام أحكام شريعته فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي والضلالة.
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم واتبع سنته ، ولزم طريقته ؛ لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وعلى المقتفين أثره والمتابعين سنته.
قال الشيخ العارف الواصل الوارث الكامل محيي الدين بن العربي قدس سره في بيان السنة ، والسني : الإنسان لا يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة بالنظر الشرعي ، وهو إما أن يكون باطنياً محضاً ، وهو القائل بتجريد التوحيد عندنا حالاً وفعلاً ، وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرائع وقلب أعيانها وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة من قواعد الدين أو سنة من سننه ولو في العادات كالأكل والشرب والوقاع ، فهو مذموم بالإطلاق عصمنا الله وإياكم
257
من ذلك.
وإما أن يكون ظاهرياً محضاً متقلقلاً بحيث أن يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه نعوذ بالله منهما في باب الاعتقادات ، أو يكون معتمداً على مذهب فقيه من الفقهاء أصحاب علوم الأحكام المحجوبة قلوبهم بحب الدنيا عن معاينة الملكوت فتراه خائفاً من الخروج عن مذهبه فإذا سمع سنة من سنن النبي عليه السلام يحيلها على مذهب فقيه آخر فيترك العمل بها ، ولو أوردت ألف حديث مأثور في فضائلها فيتصامم عن سماعها بل يسيء الظن برواية المتقدمين من التابعين والسلف بناء على عدم إيراد ذلك الفقيه إياها في كتابه ، فمثل ذلك أيضاً ملحوق بالذم شرعاً وإلى الله نفزع ونلتجىء من أن يجعلنا وإياكم منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
وإما أن يكون جارياً مع الشريعة على فهم اللسان حيث ما مشى الشارع مشى وحيث ما وقف وقف قدماً بقدم حتى في أقل شيء من الفضائل في العبادات والعادات صارفاً جل عنايته وباذلاً كل مجهوده في أن لا يفوته شيء من الأفعال المحمدية في عباداته وعاداته على حسب ما سنح له في أثناء مطالعاته من كتب الأحاديث المعول عليها أو ألقى في أذنه من أستاذه وشيخه المعتمد عليه إن لم يكن من أهل المطالعة فهذا هو الوسط وهو السنة والآخذ به هو السني وبهذا يصح محبة الله له.
وحكي أن الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر قال : راعيت جميع ما صدر عن النبي عليه السلام سوى واحد وهو أنه عليه السلام زوج بنته علياً رضي الله عنه وكان يبيت في بيتها بلا تكلف ولم يكن لي بنت حتى أفعل كذلك.
(3/196)
وحكي عن سلطان العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال ذت يوم لأصحابه قوموا بنا حتى ننظر إلى ذلك الذي قد سهر نفسه بالولاية قال فمضينا فإذا بالرجل قد قصد المسجد فرمى بزاقه نحو القبلة فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا ليس بمأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه من مقامات الأولياء والصديقين.
وحكي عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال : كنت يوماً مع جماعة تجردوا ودخلوا الماء فعملت بالحديث وهو : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر" ولم أتجرد فرأيت تلك الليلة قائلاً يقول لي : يا أحمد أبشر فإن الله قد غفر لك باستعمالك السنة وجعلك إماماً يقتدى بك فقلت من أنت قال جبريل عليه السلام.
وعن عابس بن ربيعة قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.
واتفق المشايخ على أن من ألقى زمامه في يد كلب مثلاً حتى لا يكون تردده بحكم طبعه فنفسه أقوم لقبول الرياضة ممن جعل زمامه في حكم نفسه يسترسل بها حيث شاء كالبهائم فالواجب عليك أن تكون تابعاً لا مسترسلاً.
سك أصحاب كهف روزى ند
ى مردم كرفت ومردم شد
فإذا اتبعت فاتبع سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلّم الذي آدم ومن دونه من الأنبياء والأولياء تحت لوائه فإذا اتبعت واحداً من أمته فلا تتبعه لمجرد كونه رجلاً مشهوراً بين الناس مقبولاً عند الأمراء والسلاطين بل كان الواجب عليك أن تعرف أولاً الحق ثم تزن الرجال به ، وفيه قال باب العلم الرباني علي رضي الله عنه : من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال ، بل اعرف الحق تعرف أهله وبقدر متابعتك للنبي صلى الله عليه وسلّم تستحكم مناسبتك به وتتأكد علاقة المحبة بينك وبينه وبكل
258
ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلّم من الصلاة عليه أو زيارة قبره أو جواب المؤذن والدعاء له عقيبه كنت مستحقاً لشفاعته قالوا لو وضع شعر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو عصاه أو سوطه على قبر عاص لنجا ذلك العاصي ببركات تلك الذخيرة من العذاب وإن كانت في دار إنسان أو بلدة لا يصيب سكانها بلاء ببركاتها ، وإن لم يشعروا بها ومن هذا القبيل ماء زمزم والكفن المبلول به وبطانة أستار الكعبة والتكفن بها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
قال الإمام الغزالي رحمه الله : وإذا أردت مثالاً من خارج فاعلم أن كل من أطاع سلطاناً وعظمه فإذا دخل بلدته ورأى فيها سهماً من جعبته أو سوطاً له فإنه يعظم تلك البلدة وأهلها ، فالملائكة يعظمون النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا رأوا ذخائره في دار أو بلدة أو قبر عظموا صاحبه وخففوا عنه العذاب ولذلك السبب ينفع الموتى أن توضع المصاحف على قبورهم ويتلى عليهم القرآن ويكتب القرآن على القراطيس وتوضع في أيدي الموتى كذا في "الأسرار المحمدية".
قال في الجلد الثالث من "المثنوي" :
از انس فرزند مالك آمدست
كه بمهمانىء أو شخصي شدست
او حكايت كرد كز بعد طعام
ديد انس دستار خوانرا زردفام
رك آلوده وكفت اي خادمه
اندر افكن درتنورش يكدمه
درتنور ر زآتش درفكند
آن زمان دستار خوانرا هوشمند
جمله مهما نان دران حيران شدند
انتظار دود كندورى بدند
بعد يكاسعت بر آورد ازتنور
اك واسيدو ازان اوساخ دور
قوم كفتند اى صحابيء عزيز
ون نسوزيد ومنقا كشت نيز
كفت زانكه مصطفى دست ودهان
بس بما ليد اندرين دستار خوان
اي دل ترسنده ازنار وعذاب
بانان دست ولبى كن اقتراب
ون جمادى رانين تشريف داد
جان عاشق راها خواهد كشاد
اللهم اجعل حرفتنا محبته وارزقنا شفاعته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
(3/197)
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى} لما ذكر الله تعالى عبدة العجل ومن قالوا : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) وهم الأشقياء اتبع ذكرهم بذكر أضدادهم السعداء فالمراد بالقوم بنو إسرائيل الموجودون في زمن موسى عليه السلام.
{أُمَّةٍ} أي : جماعة.
{يَهْدُونَ} (راه مينما يندخلق را) فالمفعول محذوف {بِالْحَقِّ} ملتبسين به ، أي : محقين.
{وَبِهِ} أي : بالحق {يَعْدِلُونَ} أي : في الأحكام الجارية بينهم وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية ، والأشهر أن المراد بهذه الأمة قوم وراء الصين بأقصى المشرق ، وذلك أن بني إسرائيل لما بالغوا في العتو والطغيان بعد وفاة موسى ووفاة خليفة يوشع حتى اجترأوا على قتل أنبيائهم ، ووقع الهرج والمرج تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا ، وسألوا الله تعالى أن يفرق بينهم وبين أولئك الطاغين ففتح الله لهم وهم في بيت المقدس نفقاً في الأرض وجعل أمامهم المصابيح لتضيء لهم بالنهار ، فإذا أمسوا أظلم عليهم النفق فنزلوا فإذا أصبحوا أضاءت لهم المصابيح فساروا ومعهم نهر من ماء يجري وأجرى الله تعالى عليهم أرزاقهم فساروا فيه على هذا الوجه سنة ونصف سنة حتى خرجوا من وراء الصين إلى أرض بأقصى المشرق طاهرة طيبة ، فنزلوها وهم مختلطون بالسباع والوحوش والهوام
259
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
لا يضر بعضهم بعضاً وهم متمسكون بالتوراة مشتاقون إلى الإسلام لا يعصون الله تعالى طرفة عين تصافحهم الملائكة ، وهم في منقطع من الأرض لا يصل إليهم أحد منا ولا أحد منهم إلينا إما لأن بين الصين وبينهم وادياً جارياً من رمل فيمنع الناس من إتيانهم ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أو نهراً من شهد ، كما قال السدي : وإنهم كبني أب واحد ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويضحون بالنهار ويزرعون ويحصدون جميعاً فيضعون الحاصل في أماكن من القرية فيأخذ كل رجل منهم قدر حاجته ويدع الباقي.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لجبرائيل ليلة المعراج إني أحب أن أرى القوم الذين أثنى الله عليهم بقوله : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} الآية فقال : أن بينك وبينهم مسيرة ست سنين ذهاباً وست سنين إياباً ولكن سل ربك حتى يأذن لك فدعا النبي عليه السلام وأمن جبريل فأوحى الله تعالى إلى جبريل أنه أجيب إلى ما سأل فركب البراق فخطا خطوات فإذا هو بين أظهر القوم فسلم عليهم وردوا عليه سلامه وسألوه من أنت فقال : "أنا النبي الأمي" قالوا أنت الذي بشر بك موسى عليه السلام وأوصانا بأن قال لنا من أدرك منكم أحمد عليه الصلاة والسلام فليقرأ عليه مني السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على موسى سلامه وقالوا فمن معك قال : "أو ترون قالوا" نعم قال هو جبريل قال : "فرأيت قبورهم على أبواب دورهم فقلت فلِمَ ذلك"؟ قالوا : أجدر أن نذكر الموت صباحاً ومساء فقال : "أرى بنيانكم مستوياً" قالوا ذلك لئلا يشرف بعضنا على بعض ولئلا يسد أحد على أحد الريح والهواء قال : "فما لي لا أرى لكم قاضياً ولا سلطاناً"؟ قالوا : أنصف بعضنا بعضاً وأعطينا الحق فلم نحتج إلى قاضضٍ ينصف بيننا قال : "فما لي أرى أسواقكم خالية"؟ قالوا : نزرع جميعاً ونحصد جميعاً فيأخذ كل أحد منا ما يكفيه ويدع الباقي لأخيه فلا نحتاج إلى مراجعة الأسواق قال : "فما لي أرى هؤلاء القوم يضحكون؟ قالوا : مات لهم ميت فيضحكون سروراً بما قبضه الله على التوحيد قال : "فما لهؤلاء القوم يبكون"؟ قالوا : ولد لهم مولود فهم لا يدرون على أي دين يقبض فيغتمون لذلك قال : "فإذا ولد لكم ذكر فماذا تصنعون"؟ قالوا : نصومشكراً شهراً قال : "فالأنثى" قالوا نصومشكراً شهرين قال : "ولِمَ"؟ قالوا : لأن موسى عليه السلام أخبرنا أن الصبر على الأنثى أعظم أجراً من الصبر على الذكر قال : "أفتزنون"؟ قالوا : وهل يفعل ذلك أحد لو فعل ذلك أحد لحصبته السماء وخسفت به الأرض من تحته قال : "أفترابون"؟ قالوا : إنما يرابي من لا يؤمن برزق الله قال : "أفتمرضون"؟ قالوا : لا نمرض ولا نذنب إنما تذنب أمتك فيمرضون ليكون ذلك كفارة لذنوبهم قال : "هل في أرضكم سباع وهوام"؟ قالوا : نعم تمر بنا ونمر بها ولا تؤذينا ولا نؤذيها فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم شريعته والصلوات الخمس عليهم وعلمهم الفاتحة وسوراً من القرآن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
قال الحدادي : أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم يكن يومئذٍ نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فأمرهم بالصلاة والزكاة وأن يتركوا تحريم السبت ويجمعوا وأمرهم أن يقيموا مكانهم فهم اليوم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا.
يقول الفقير : التجميع وهو بالفارسي (نماز آذينه آمدن وكزاردن آن) إنما شرع بعد الهجرة فتناقض أول الكلام مع آخره وكذا أمر القبلة ولعل النبي عليه السلام علمهم
260
(3/198)
أولاً ما نزل بمكة من الشرائع والأحكام ، ثم أكمل لهم الدعوة بطريق آخر فإن المعراج بالروح والجسد معاً وإن حصل له عليه السلام مرة واحدة بمكة وفي ليلته فرضت الصلاة على ما عليه الكل إلا أنه عليه السلام كان يصل جسده الشريف في لمحة إلى حيث يصل إليه بصره وكان عنده القريب والبعيد على السواء هذا ما خطر بالضمير بعد ما رأيت من أهل التفسير ما يتنافى الأول منه بالأخير والله هو العليم الخبير.
والإشارة في الآية : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} يعني : خواصهم يهدون بالحق يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى عليه السلام : {وَبِه يَعْدِلُونَ} أي : به يحكمون بين العوام وشتان بين أمة أمية بلغوا أعلى مراتب الروحانية بالسير في متابعة النبي الأمي ثم اختطفوا عن أنانية روحانيتهم بجذباب أنوار المتابعة إلى مقام الوحدة ، التي هي مصدر وجودهم في بقاء الوحدة كما قال تعالى : "كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق" وبالرجوع إلى هذا المقام سموا أميين فإنهم رجعوا إلى أصلهم الذي صدروا عنه إيجاداً وبين أمة كان نبيهم محجوباً بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية بقوله : {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} فأجيب {لَن تَرَانِى} لأنك كنت بك لابي فإنه لا يراني إلا من كان بي لا به فأكون بصره الذي يبصر به وهذا مقام الأمة الأمية فلهذا قال موسى عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة أحمد شوقاً إلى لقاء ربه فافهم جداً كذا في "التأويلات النجمية" :
مصطفى را انبيا امت شدند
جمله در زيد لواء اوبدند
ايه اين امت مرحومه بين
كي يقالوا بين ارباب اليقين
رفعتش بين الأمم ون آفتاب
درميان انجم اي عالي جناب
يشه كن اي حقي شرع اين نبي
تا نباشد فوت ازتو مطلبي
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
{وَقَطَّعْنَـاهُمُ} أي : قوم موسى لا الأمة المذكورة منهم.
{اثْنَتَىْ عَشْرَةَ} ثاني مفعولي قطع لتضمنه معنى التصيير والتأنيث للحمل على الأمة أو القطعة ، أي : صيرناهم اثنتي عشرة أمة أو قطعة متميزاً بعضها من بعض.
{أَسْبَاطًا} بدل منه ولذلك جمع ؛ لأن مميز أحد عشر إلى تسعة عشر يكون مفرداً منصوباً وأسباطاً جمع فلا يصلح أن يكون مميزاً له وهي جمع سبط والسبط من ولد إسحاق كالقبيلة من ولد إسماعيل وهو في الأصل ولد الولد.
{أُمَمًا} بدل بعد بدل جمع أمة ، وهي : بمعنى الجماعة وانحصر فرق بني إسرائيل في اثنتي عشرة فرقة ؛ لأنهم تشعبوا من اثني عشر رجلاً من أولاد يعقوب فأنعم الله عليهم بهذا التقطيع والتمييز لتنتظم أحوالهم ويتيسر عيشهم وكانوا أقواماً متباغضة متعصبة.
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَـاـاهُ قَوْمُهُ} أي : طلبوا منه الماء حين استولى عليهم العطش في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعهم.
{ءَانٍ} مفسرة لفعل الإيحاء {اضْرِب بِّعَصَاكَ} كان عصاه من آس الجنة وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض فتوارثها الأنبياء صاغراً عن كابر حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى.
{الْحِجْرِ} قد سبق في البقرة على الاختلاف الواقع فيه.
وقال في "التفسير الفارسي" : (آن سنك راكه ون بتيه در آمدى باتو بسخن در آمدكه مرابرداركه ترا بكار آيم وتوبرداشتى وحالا درتوبره دارى موسى عليه السلام عصار بران سنك زد) (س شكافته شد وكشاده
261
كشت) {مِنْهُ} (از آن سنك) {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (دوازده شمه) بعدد الأسباط.
قال الحدادي : الابنجاس : خروج الماء قليلاً والانفجار خروجه واسعاً وإنما قال فانبجست لأن الماء كان يخرج من الحجر في الابتداء قليلاً ثم يتسع فاجتمع فيه صفة الانبجاس والانفجار.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط عبر عنهم بذلك إيذاناً بكثرة كل واحد من الأسباط.
{مَّشْرَبَهُمْ} أي : عينهم الخاصة بهم وكان كل سبط يشربون من عين لا يخالطهم فيها غيرهم للعصبية التي كانت بينهم.
قال ابن الشيخ : كان في ذلك الحجر اثنتا عشرة حفرة ، فكانوا إذا نزلوا وضعوا الحجر وجاء كل سبط إلى حفرته فحفروا الجداول إلى أهلهم فذلك قوله تعالى : {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي : موضع شربهم.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَـامَ} أي : جعلناها بحيث تلقي عليهم ظلها تسير في التيه بسيرهم وتسكن بإقامتهم لتقيهم حر الشمس في النهار ، وكان ينزل بالليل عمود من نار يسيرون بضوئه.
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ} الترنجبين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
قال في القاموس : المن كل طل ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ كالشير خشت والترنجبين.
{وَالسَّلْوَى} قال القزويني وابن البيطار : إنه السماني ، وقال غيرهما : طائر قريب من السماني.
قال في "التفسير الفارسي" : (مرغى بر شكل سمانى وآن طائريست در طرف يمن ازكنجشك بزركتر وازكبوتر خردتر) وإنما سمي سلوى لأن الإنسان يسلو به عن سائر الأدام.
(3/199)
وفي الحديث : "أطيب اللحم لحم الطير" وفي الحديث أيضاً : "سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم ، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء ، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية" ويدل على كون اللحم سيد الطعام أيضاً قوله صلى الله عليه وسلّم "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" قيل : كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني فيذبح الرجل منه ما يكفيه.
{كُلُوا} أي : قلنا لهم كلوا {مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} أي : مستلذاته وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى.
قال في "التفسير الفارسي" : (از اكيزها آنه بمحض عنايت روزى كرديم شمارا يعني هره روزى ميرسد بخوريد وبراى خود ذخيره منهيد س ايشان خلاف كرده وذخيره مى نهادند همه متعفن ومتغير ميشد).
{وَمَا ظَلَمُونَا} عطف على جملة محذوفة للإيجاز ، أي : فظلموا بأن كفروا بتلك النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} إذ لا يتخطاهم ضرره.
قال الحدادي : أي يضرون أنفسهم باسيتجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا كلفة ولا مشقة في الدنيا ولا حساب ولا تبعة في العقبى.
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} أي : واذكر لهم يا محمد وقت قوله تعالى لأسلافهم.
{اسْكُنُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ} منصوبة على المفعولية يقال سكنت الدار ، وقيل على الظرفية اتساعاً ، وهي بيت المقدس أو أريحاء وهي قرية الجبارين بقرب بيت المقدس وكان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة رأسهم عوج بن عنق {وَكُلُوا مِنْهَا} أي : من مطاعمها وثمارها.
{حَيْثُ شِئْتُمْ} أي : من نواحيها من غير أن يزاحمكم فيها أحد.
{وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي : مسألتنا حطة ذنوبنا عنا فعلة من الحط كالردة
262
من الرد.
والحط : وضع الشيء من أعلى إلى أسفل والمراد هنا بالحط المغفرة وحط الذنوب.
{وَادْخُلُوا الْبَابَ} أي : باب القرية {سُجَّدًا} منحنين متواضعين أو ساجدين شكراً على إخراجهم من التيه ، ثم إن كان المراد بالقرية أريحاء فقد روي أنهم دخلوها حيث سار إليها موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين ففتحها كما مر في سورة المائدة ، وإن كان بيت المقدس فقد روي أنهم لم يدخلوها في حياة موسى ، فقيل : المراد بالباب باب القبة التي كانوا يصلون فيها كذا في "الإرشاد" {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيائَـاتِكُمْ} ما سلف من ذنوبكم باستغفاركم وخضوعكم.
{سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} استئناف بياني كأنه قيل فماذا لهم بعد الغفران فقيل سنزيد المحسنين إحساناً وثواباً فالمغفرة مسببة عن الامتثال والإثابة محض تفضل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه.
{قَوْلا} آخر مما لا خير فيه.
روي أنهم دخلوا زاحفين على استاهم وقالوا مكان حطة حنطة استخفافاً بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى عليه السلام وعدولاً عن طلب عفو الله تعالى ورحمته إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا الفانية الدنية.
{غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ} نعت لقولاً صرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها قطعاً تحقيقاً للمخالفة وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} أي : على الذين ظلموا أثر ما فعلوا من غير تأخر والإرسال من فوق كالإنزال.
{رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ} عذاباً كائناً منها والمراد الطاعون.
روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً.
{بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق لا بسبب التبديل فقط ، كذا من لم يعرف قدر النعماء يقرع باب البلاء ليجري عليه أحكام القضاء فامتحن بأنواع المحن والوباء.
(3/200)
واعلم : أن الذين ظلموا من بني إسرائيل أفسدوا عليهم النعمتين نعمة الدنيا وهي المن والسلوى وغيرهما ونعمة العقبى وهي المغفرة والإثابة وبعد فوت زمان التدارك لا ينفع نفساً إيمانها ولا تحسرها وندمها حكي أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين فنزلا في ظل شجرة تحت صفاة فلما دنا الرواح خرجت لهما من تحت الصفاة حية تحمل ديناراً فألقته إليهما فقالا إن هذا لمن كنز فأقاما عليه ثلاثة أيام كل يوم تخرج لهما ديناراً ، فقال أحدهما للآخر : إلى متى ننتظر هذه الحية ألا نقتلها ونحفر عن هذا الكنز فنأخذه فنهاه أخوه فقال : ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال فأبى عليه فأخذ فأساً معه ورصد الحية حتى خرجت وضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها فبادرت الحية فقتلته ورجعت إلى حجرها فدفنه أخوه وأقام حتى إذا كان الغد خرجت الحية معصوباً رأسها ليس معها شيء ، فقال : يا هذه إني والله ما رضيت بما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فهل لك أن نجعل الله بيننا لا تضريني ولا أضرك وترجعين إلى ما كنت عليه فقالت الحية لا فقال ولم قالت لأني أعلم أن نفسك لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك ونفسي لا تطيب لك وأنا أذكر هذه الشجة كذا في "حياة الحيوان".
قال في "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
بركذشته حسرت رلأردن خطاست
باز نايد رفته ياد آن هباست
263
اللهم اجعلنا من المتيقظين قبل طلوع صبح الآخرة ولا تجعلنا غافلين عما يهمنا من الأمور الباطنة والظاهرة ووفقنا كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً وعن بواطننا خبيراً عطف على واذكر المقدر عند قوله : {وَإِذْ قِيلَ} والضمير البارز عائد إلى اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وليس المقصود من السؤال استعلام ما ليس معلوماً للسائل لأنه عليه السلام كان قد علم هذه القصة من قبل الله تعالى بالوحي ، بل المقصود منه أن يحملهم الرسول صلى الله عليه وسلّم على أن يقروا بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود الله تعالى ومخالفتهم الأنبياء على طريق التوراث من أسلافهم وتقريعهم بذلك وأن يظهر بذلك معجزة دالة على أنه نبي حق أوحى إليه ما لا يعلم إلا بتعليم أو وحي فإنه عليه السلام لما كان أمياً ولم يخالط أهل الكتب السابقة وبين هذه القصة على وجهها من غير زيادة ولا نقصان تعين أنه علم ذلك بالوحي فكان بيانها على ما وقعت معجزة ظاهرة من جملة معجزاته عليه السلام.
{عَنِ الْقَرْيَةِ} أي : عن حالها وخبرها وما جرى على أهلها من الداهية الدهياء وهي أيلة بين مدين والطور والعرب تسمي المدينة قرية.
{الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي : قريبة منه مشرفة على شاطئه.
{إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ} أي : يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة وإذ ظرف للمضاف المحذوف {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ظرف ليعدون ، والحيتان جمع حوت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كنون ونينان لفظاً ومعنى.
وكان علي بن أبي طالب يقول : سبحان من يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات وإضافتها إليهم لأن المراد بالحيتان الكائنة في تلك الناحية {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت فالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت السبت بالتجرد للعبادة.
وفي "التفسير الفارسي" : (روز شنبه ايشان) فهو اسم لليوم {شُرَّعًا} جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف وهو حال من حيتانهم أي تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل.
{وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} أي : لا يراعون أمر السبت لكن لا بمجرد عدم المراعاة مع تحقق يوم السبت ، كما هو المتبادر بل مع انتفائهما معاً ، أي : لا سبت ولا مراعاة.
{لا تَأْتِيهِمْ} كما كانت تأتيهم يوم السبت حذاراً من صيدهم فإن الله تعالى قوى دواعيها إلى الشروع في يوم السبت معجزة لنبي ذلك الوقت وابتلاء لتلك التي فصلت بين يوم السبت وغيره من الأيام.
{كَذَالِكَ نَبْلُوهُم} الكاف في موضع النصب بقوله نبلوهم ، أي مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع نعاملهم معاملة من يختبرهم ليظهر عدوانهم نؤاخذهم به.
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي : بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون وما يذرون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
{وَإِذْ قَالَتِ} عطف على إذ يعدون {أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} أي : جماعة من صلحائهم الذين ركبوا في عظتهم متن كل صعب وذلول حتى يئسوا من احتمال القبول لآخرين لا يقلعون عن التذكير رجاء للنفع والتأثير مبالغة في الأعذار وطمعاً في فائدة الإنذار.
{لِمَ تَعِظُونَ} (جراند ميدهيد) {قَوْمًا} (كروهى راكه بى شبهه).
{اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي : مستأصلهم ومطهر الأرض منهم.
{أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} دون الاستئصال بالمرة.
والمفهوم من بقية الآية كون المراد عذاب
264
(3/201)
الدنيا قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينجح فيهم لا إنكاراً لو عظهم ورضى بالمعصية منهم.
{قَالُوا} أي : الوعاظ {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} مفعول له أي نعظم معذرة إليه تعالى.
والمعذرة : اسم مصدر بمعنى العذر وهو بضم فسكون في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه بأن يقول لم أفعل أو فعلت لأجل كذا أو فعلت ولا أعود وهذا الثالث التوبة فكل توبة عذر بلا عكس وقيل المعذرة بمعنى الاعتذار يقال : اعتذرت إلى فلان من جرمي ويعدى بمن والمعتذر قد يكون محقاً وغير محق كذا في "تاج المصادر".
قال السعدي قدس سره :
كر بمحشر خطاب قهر كند
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
انييارا ه جاى معذرتست
رده از لطف كوك بردارد
كاشقيارا اميد مغعرتست
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عطف على معذرة ، أي : ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة ويتركوا المعصية لأن قبول الحق الواضح يرجى من العاقل.
واليأس لا يحصل إلا بالهلاك وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون إلخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب أي : ولعلكم.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي : تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلاً فيكون من ذكر المسبب وإرادة السبب.
{أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّواءِ} أي : خلصنا الذين ينهون عن الاصطياد وهم الفريقان المذكوران.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزل والله بالمداهن ما نزل بالمستحل.
وقال الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة وأنكر القول الذي ذكر له عن ابن عباس وقال ما هلك إلا فرقة لأنه ليس شيء أبلغ في الأمر بالمعروف والوعظ من ذكر الوعيد وقد ذكرت الفرقة الثالثة الوعيد ، فقالت : لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ، وقول الحسن أقرب إلى ظاهر الآية كذا في "تفسير الحدادي".
{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالاعتداء ومخالفة الأمر {بِعَذَابا بَئِيس} أي : شديد وزناً ومعنى {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى ، أي : أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب تماديهم في الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم والعدوان أيضاً ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصال فلم يقلعوا عما كانوا عليه ، بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
{فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ} أي : تمردوا وتكبروا وأبوا عن ترك ما نهوا عنه قدر المضاف إذ التكبر والإباء من نفس المنهي عنه لا يذم فهو كقوله تعالى : {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} (الأعراف : 77) أي : عن امتثال أمر ربهم والعاتي هو شديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل الموعظة.
{قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَـاسِئِينَ} صاغرين أذلاء بعداء عن الناس.
في "القاموس" خسأ الكلب كمنع طرده والكلب بعد.
والقردة جمع قرد بالفارسي (وزينه) والأنثى قردة وجمعها قرد مثل قربة وقرب والمراد هو الأمر التكويني لا القولي التكليفي لأنهم لا يقدرون على قلب أنفسهم قردة وتكليف العاجز غير معقول فليس ثمة قول ولا أمر ولا مأمور حقيقة وإنما هو تعلق قدرة وإرادة بمسخهم نعوذ بالله تعالى.
روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنى بقوله تعالى : {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} (النمل : 124) فابتلوا
265
(3/202)
به وحرم عليهم الصيد وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت كأنها المخاض ، والكباش البيض السمان تنتطح لا يرى وجه الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيام فكانوا على ذلك برهة من الدهر ثم جاءهم إبليس فقال لهم إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً سهلة الورود صعبة الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ، ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع على تنوره ، فقال له : إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذاب أخذ في السبت القابل حوتين فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً فكان أهل القرية أثلاثاً ، ثلث استمروا على النهي ، وثلث ملوا التذكير وشموه وقالوا للواعظين لم تعظون إلخ.
وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنكم فباعوا الدور والمساكن وخرجوا من القرية فضربوا الخيام خارجاً منها أو اقتسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم فخرجوا من أبابهم وانتشروا لمصالحهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : لعل الخمر غلبتهم أو أن لهم لشأناً من خسف أو مسخ أو رمي بالحجارة فعلوا الجدر ، فنظروا فإذا هم قردة أو صار الشبان قردة والشيوخ خنازير ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابهم من الإنس وهم لا يعرفوها فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه فيبكي ويقول له نسيبه ألم ننهكم فيقول القرد برأسه بلى ودموعهم تسيل على خدودهم ثم ماتوا عن مكث ثلاثة أيام ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يعش ممسوخ قط أكثر من ثلاثة أيام وعليه الجمهور.
وأما قوله عليه السلام : "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يُدْرَى ما فعلت ولا أُرَاها إلا الفار ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها وإذا وضع لها ألبان غيرها شربتها" وما روي أن النبي عليه السلام أتي بضب فأبى أن يأكله وقال : "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" فالجواب عنهما إن ذلك كان قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل لممسوخ نسلاً فلما أوحى إليه زال عنه ذلك المتخوف وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ فعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلّم لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ فقال : "إن الله لم يهلك قوماً ، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك وثبت" النصوص "بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكره" كذا في "حياة الحيوان".
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
وعن مجاهد وإنما مسخت قلوبهم فقط وردت أفهامهم كأفهام القردة وهذا قول تفرد به عن جميع المسلمين.
يقول الفقير : مسخ القلب مشترك بين عصاة جميع الأمم وعادة الله تعالى في النبوة الأولى تعجيل عقوبة الدنيا على أقبح وجه وأفظعه ولا عقوبة أدهى من تبديل الصورة الحسنة الإنسانية إلى صورة أخس الحيوانات ، وهي صورة القردة والخنازير القبيحة نعم مسخ القلب والمعنى سبب لمسخ القالب والصورة نعوذ بالله.
وعن الحسن : وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل ذلك موعداً والساعة أدهى وأمر.
قال أنس بن مالك : عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سئل هل في أمتك خسف؟ "قال
266
نعم" قيل : ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال : "إذا لبسوا الحرير واستباحوا الزنى وشربوا الخمور وطففوا المكيال والميزان واتخذوا القينات والمعازف وضربوا بالدفوف واستحلوا الصيد في الحرم".
والإشارة : أن القرية هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية وأهل قرية الحس الصفات الإنسانية وهي على ثلاثة أصناف.
منها صنف روحاني كصفات الروح ، وصنف قلبي كصفات القلب ، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله ، فصنف أمسك عن الصيد ونهى عنه وهو الصفات الروحانية وصنف أمسك ولم ينه وهو الصفات القلبية ، وصنف انتهك الحرمة وهو الصفات النفسانية.
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : يوم طور النفس الأمارة بالسوء يوم السبت لانقطاع أهله باتباع الطاغوت والجبت وشهره شهر المحرم لحرمانه من القربة والنيل والوصلة ونجمه القمر وفلكه فلك السماء الدنيا وآيته قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر : 18) انتهى وتتوفر الدواعي البشرية فيما حرم الله بإغراء الشيطان وتزيينه لأن الإنسان حريص على ما منع ولا يرغب فيما لم يحرم الله فمن كان الغالب عليه صفات الروح وقهر النفس وتبديل صفاتها بالتزكية والتحلية فإنه من أهل النجاة وأرباب الدرجات وأصحاب القربات ، ومن كان الغالب عليه النفس وصفاتها فإنه من أهل الهلاك وأرباب الدركات وأصحاب المباعدات.
وفي "المثنوي" :
(3/203)
نفس تو تامست وتازه است وقديد
دانكه روحت حاسه غيبي نديد
كه علاماتست زان ديدار نور
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
التجافى منك عن دار الغرور
واى آنكه عقل أو ماده بود
نفس زشتش نرو آماده بود
لا جرم مغلوب باشد عقل او
جزسوى خسران نباشد نقل او
وصف حيواني بود بر زن فزون
زانكه سوى رنك وبودارد ركون
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} بمعنى آذن مثل توعد بمعنى أوعد ، والإيذان الإعلام وبمعنى عزم لأن من عزم على الأمر وصمم نيته عليه يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله وعزم الله تعالى على الأمر عبارة عن تقرر ذلك الأمر في علمه وتعلق إرادته بوقوعه في الوقت المقدر له ، والمعنى : واذكر يا محمد لليهود وقت إيجابه تعالى على نفسه {لَيَبْعَثَنَّ} ألبتة {عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} متعلق بقوله : ليبعثن واللام فيه لام جواب القسم لأن قوله : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} جار مجرى القسم كعلم الله وشهد الله من حيث دلالته على تأكد الخبر المؤذن به {مَن يَسُومُهُمْ} السوم (رنج بخشانيدن) كذا في "تاج المصادر" فالمعنى (كسى كه بخشاند ايشانرا) {سُواءُ الْعَذَابِ} (عذابي سخت) كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك من فنون العذاب ، وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه السلام بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم ففعل مافعل ثم ضرب الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.
قال الحدادي : وفي هذه الآية دلالة على أن اليهود لا ترفع لهم راية عز إلى يوم القيامة {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} يعاقبهم في الدنيا
267
{وَإِنَّه لَغَفُورٌ رَّحِيمُ} لمن تاب وآمن منهم.
وفي الآية : إشارة إلى أن الشيطان وهو المنظر إلى يوم القيامة يبعث ليسوم الخلق سوء العذاب وهو الإبعاد من القربة والإغراء في الضلالة والإقعاد عن العبودية والإضلال عن الصراط المستقيم إن ربك لسريع العقاب يعاقبهم في الدنيا ويملي لهم ليزدادوا إثماً هذا عقوبة في الدنيا ، وهي تورث العقوبة في الآخرة وإنه لغفور يغفر ذنوب من يرجع إليه ويتوب أي الأرواح والقلوب لو رجعت عن متابعة النفس وهواها وتابت إلى الله واستغفرت لغفر لها ؛ لأنه رحيم يرحم من تاب إليه ، وفيه معنى آخر إنه لسريع العقاب ، أي : يعاقب المؤمنين في الدنيا بأنواع البلاء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ويوفقهم إلى الصبر على ذلك ليجعله كفارة لذنوبهم حتى إذا خرجوا من الدنيا خرجوا أنقياء لا يعذبون في الآخرة ، وإنه لغفور رحيم لهم في الآخرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
لقي يحيى عيسى عليهما السلام فتبسم عيسى في وجه يحيى فقال مالي أراك لاهياً كأنك آمن فقال الآخر : مالي أراك عابساً كأنك آيس فقالا لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله تعالى أحبكما إليّ أحسنكما ظناً بي.
قال السعدي :
نه يوسف كه ندان بلا ديد وبند
وحكمش روان كشت وقد رش بلند
كنه عفو كرد آل يعقوب را
كه معنى بود صورت خوب را
بكردار بدشان مقيد نكرد
بضاعات مزجات شان رد نكرد
ز لطفت همي شم داريم نيز
برين بي بضاعت ببخش اي عزيز
فينبغي للعاقل أن يحسن الظن بربه ، ولا يتكاسل في باب العبادة فإن السفينة لا تجري على اليبس.
وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال : دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت : كيف حالك وكيف أنت؟ قال : يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد ، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد ، ثم بكى بكاء شديداً ، فقلت ما يبكيك؟ قال : والله ما بكيت حرصاً على الدنيا ولا جزعاً من الموت والبلى لكن بكيت ليوم مضى من عمري لا يحسن فيه عمل أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أم إلى النار؟ فسمعت منه كلام حكمة فقلت : إن الناس يزعمون أنك مجنون ، فقال : وأنت اغتررت بما اغتر به بنو إسرائيل زعم الناس أني مجنون وما بي جنة ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي ودمي وعظامي فأنا والله من حبه هائم مشغوف ، فقلت : يا سعدون فلِمَ لا تجالس الناس وتخالطهم فأنشأ يقول :
كن من الناس جانبا
وارض بالله صاحبا
قلّببِ الناس كيف شئـ
ــت تجدهم عقاربا كذا في "روض الرياحين" لليافعي.
{وَقَطَّعْنَـاهُمُ} أي : فرقنا بني إسرائيل {فِى الأرْضِ} وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا تخلو ناحية منها منهم تتميماً لجزاء إدبارهم وإعراضهم عن الحق حتى لا يكون لهم شوكة بالاجتماع أبداً.
{أُمَمًا} حال من مفعول قطعناهم أي : حال كونهم جماعات أو مفعول ثان لقطعنا باعتبار تضمنه معنى صيرنا.
{مِّنْهُمُ الصَّـالِحُونَ} صفة لا مما وهم المتدينون بدين موسى {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَالِكَ} تقديره ومنهم ناس دون ذلك
268
(3/204)
على أن دون ذلك صفة لموصوف محذوف مرفوع على الابتداء.
وقوله : منهم خبر قدم عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
قال التفتازاني : قد شاع في الاستعمال وقوع المبتدأ والخبر ظرفين واستمر النحاة على جعل الأول خبراً والثاني مبتدأ بتقدير موصوف دون العكس وإن كان أبعد من جهة المعنى والتأخير بالخبر أولى وكأنهم يرون المصير إلى أن الحذف في أوانه أولى انتهى وذلك إشارة إلى الصلاح المدلول عليه بقوله : الصالحون بتقدير المضاف ليصح المعنى ، أي : ومنهم دون أهل ذلك الصلاح منحطون عنهم وهم كفرتهم وفسقتهم وجوز بمعنى أولئك فالإشارة إلى الصالحين وقد ذكر النحويون أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع كذا في "حواشي سعدى لبى" {وَبَلَوْنَـاهُم} أي : عاملناهم معاملة المبتلى المختبر {بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} بالنعم والنقم حيث فتحنا عليهم تارة باب الخصب والعافية وتارة باب الجدب والشدائد.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ينتهون فيرجعون عما كانوا عليه من الكفر والمعاصي فإن كل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة أما الحسنات فللترغيب فيها ، وأما السيئات فللترهيب عن المعصية.
قال الكاشفي : (ايشانرا درنعمت شكر بايست كرد بطر واستغنا ظاهر كردند وكفتند إن الله فقير ونحن أغنياء ودر محنت صبري بايست كرد آغاز ناسزا كردند وكفتند يد الله مغلولة برمحك اختبار تمام عيار بيرون نيامدند).
خوش بود كر محك تجربه آيدبميان
تاسيه روى شودهركه دروغش باشد
وفي "التأويلات النجمية" : {وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ} أي : بكثرة الطاعات ورؤيتها والعجب بها كما كان حال إبليس {وَالسَّيِّئَاتِ} أي : المعاصي ورؤيتها والندامة عليها والتوبة منها والخوف والخشية من ربهم كما كان حال آدم عليه السلام رجع إلى الله تعالى : {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
{فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ} من بعد المذكورين {خَلْفٌ} أي : بدل سوء وهم الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلّم الذين خلفوا من اليهود الذين فرقهم الله في الأرض أمماً موصوفين بأنهم منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، والخلف : مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع يقال خلف فلان فلاناً إذا كان خليفته وخلفه في قومه خلافة أي قام مقامه في تدبير أحوال قومه.
قال ابن الأعرابي : الخلف بفتح اللام الصالح وبإسكان اللام الطالح ومنه قيل لرديء الكلام خلف.
وقال محمد بن جرير : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح ، قال : وأحسبه في الذم مأخوذاً من خلف اللبن إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد ، ومنه قولهم خلف فم الصائم إذا تغيرت ريحه وفسدت فكان الرجل الفاسد مشبه به ، والحاصل أن كليهما يستعملان في الشر والخير إلا أن أكثر الاستعمال في الخير بالفتح كذا في "تفسير الحدادي" {وَرِثُوا الْكِتَـابَ} أي : التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها.
والميراث ما صار للباقي من جهة الهالك وهو في محل الرفع على أنه نعت لقوله : خلف {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـاذَا الادْنَى} استئناف ، أي : يأخذون حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا وهو من الدنو ، أي القرب سميت هذه الدار وهذه الحياة دنيا لدنوها وكونها عاجلة ، يقال : دنوت منه دنواً أي قربت والداني القريب أو من الدناءة يقال دنا الرجل دناءة أي صار
269
دنيئاً خسيساً لا خير فيه والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشى في الحكومات وعلى تحريف الكلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
قال الحدادي : سمي متاع الدنيا عرضاً لقلة بقائه كأنه يعرض فيزول قال الله تعالى : {هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} (الأحقاف : 24) يريدون بذلك السحاب {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه يقال غفر الله له ذنبه غطى عليه وعفا عنه.
قوله : سيغفر إما مسند إلى الجار والمجرور بعده وهو لنا وإما إلى ضمير الأخذ في يأخذون كقوله : {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} أي : سيغفر لنا أخذ العرض الأدنى.
(3/205)
وفي "التأويلات النجمية" : من شأن النفوس أن يجعلوا المواهب الربانية والكشوف الروحانية ذريعة العروض الدنيوية ويصرفها في تحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات والشهوات ويقولون سيغفر لنا ؛ لأنا وصلنا إلى مقام ورتبة يغفر لنا مثل الزلات والخطيئات كما هو مذهب أهل الإباحة جهالة وغروراً منهم ، وفيه معنى آخر وهو أنهم يقولون : سيغفر لنا إذا استغفرنا منها وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب.
{وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُه يَأْخُذُوهُ} حال من فاعل يقولون ، أي : يأخذون الرشى في الأحكام وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامة ، ويقولون إنه تعالى لا يؤاخذنا بأخذ ما أخذناه من عرض الدنيا ويتجاوز عنه والحال إنهم مصرون على أخذه عائدون إلى مثله غير تائبين عنه.
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَـاقُ الْكِتَـابِ} أي : العهد المذكورة في التوراة.
{أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} عطف بيان للميثاق ، أي : لا تفتروا على الله مثل القطع على المغفرة مع الإصرار على الذنب.
{وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} (وخوانده اند آنه دروست واين حكم دروى نديده اند) وهو معطوف على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقرير ، أي : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ولك أن تقول درسوا عطف على لم يؤخذ فالاستفهام التقريري متعلق بهما.
{وَالدَّارُ الاخِرَةُ} (ورستكارى سراى ديكركه عقابست {خَيْرٌ} بهترست از عرض دنيا) {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المعاصي والشرك وأكل الحرام والافتراء على الله تعالى.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} تعلمون ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
{وَالَّذِينَ} أي : وخير أيضاً للذين {يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَـابِ} أي : يتمسكون به في أمور دينهم يقال مسك بالشيء وتمسك به.
قال مجاهد : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة ، أي : وسيلة وسبباً لأكل أموال الناس.
وقال عطاء : هم أمة محمد عليه السلام فالمراد بالكتاب القرآن.
{وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ} من قبيل ذكر الخاص بعد ذكر العام للتنبيه على شرف الخاص وفضله فإن إقامة الصلاة أعظم العبادات وأفضلها بعد الإيمان فأفردت بالذكر لعلو قدرها بالنسبة إلى سائر أنواع التمسكات.
خانه دين خويش راو خدا
بر ستون نماز كردبنا
بى شكى تاستون بجاى بود
خانه دين حق باى بود
{إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أي : نعطيهم أجرهم في القول والعمل.
قال الكاشفي : (مزدكار بصلاح آرند كان كردار خودرا بلكه بتمام بديشان رسانيم).
والإصلاح : أما إصلاح الظواهر ، وإما إصلاح السرائر وذلك بالتقيد بالأعمال الظاهرة وتربية النفس إلى أن تصلح لقبول فيض
270
نور الله.
واعلم : أن الغالب في آخر الزمان ترك العمل بالقرآن ولقد خلف من بعد السعداء أشقياء اطمأنوا إلى زخارف الدنيا.
قال الحسن : رأيت سبعين بدرياً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم وكانوا بالبلاء أشد منكم فرحاً بالرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا أخياركم قالوا ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم حكموا بأنهم ما يؤمنون بيوم الحساب إذا عرض عليهم الحلال من المال تركوه خوفاً من فساد قلوبهم.
قال هرم لأويس : أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام ، فقال : هرم كيف المعيشة بها؟ قال : أويس أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها العظة قال من قال :
خانه ركندم ويك جونفر ستاده بكور
غم مركت وغم برك زمستانى نيست
وهذا الشك لا يزول إلا بالتوفيق الخاص الإلهي ولا بد من تربية المرشد الكامل فإنه أعرف بمصالح النفس ومفاسدها.
زمن اى دوست اين يك ندبذير
روفتراك صاحب دولتي كير
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
(3/206)
{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} النتق : قلع الشيء من موضع والجبل هو الطور الذي سمع موسى كلام الله وأعطى الألواح وهو عليه أو جبل من جبال فلسطين ، أو الجبل الذي كان عند بيت المقدس وفوقهم منصوب بنتقنا باعتبار تضمنه لمعنى رفعنا ، كأنه قيل رفعنا الجبل فوق بني إسرائيل بنتقه وقلعه من مكانه فالنتق من مقدمات الرفع وسبب لحصوله.
{كَأَنَّه ظُلَّةٌ} أي : سقيفة وهي كل ما أظلك بالفارسية (سايبان) {وَظَنُّوا} أي : تيقنوا {أَنَّه وَاقِعُا بِهِمْ} أي : ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به على تقدير عدم قبولهم أحكام التوراة.
روي أن موسى عليه السلام لما أتى بني إسرائيل بالتوراة وقرأها عليهم وسمعوا ما فيها من التكاليف الشاقة أبوا أن يقبلوها ويتدينوا بما فيها ، فأمر الله الجبل فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم بحيث حاذى معسكرهم جميعاً ولم يبق منهم أحد إلا والجبل فوقه وكان معسكرهم فرسخاً في فرسخ ، وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على جانبه الأيسر ، ويقولون هي السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة فقبلوها جبراً قبل كل من أتى بشيء جبراً ينكص على عقبيه حين يجد فرصة ، كذلك أهل التوراة لما قبلوها جبراً ما لبثوا حتى شرعوا في تحريفها.
{خُذُوا} على إضمار القول ، أي : قلنا خذوا {مَا فِيهِ} من الكتاب {بِقُوَّةٍ} بجد وعزم على تحمل مشاقه وهو حال من الواو.
{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} بالعمل ولا تتركوه كالمنسي.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
وفي الآية : إشارة إلى أن الإنسان لو وكل إلى نفسه وطبيعته لا يقبل شيئاً من الأمور الدينية طبعاً ولا يحمل أثقاله قطعاً إلا أن يعان على القبول والحمل بأمر ظاهر أو باطن ، فيضطر إلى القبول ، والحمل فالله تعالى أعان أرباب العناية حتى حملوا أثقال المجاهدات والرياضات وأخذوا ما آتاهم الله بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم.
وفي "المثنوي" :
جشمها وكوشهارا بسته اند
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
جزمر آنهاراكه ازخود رسته اند
271
جز عنايت كه كشايد شم را
حر محبت كه نشايد خشم را
جهد بي توفيق خودكس را مباد
درجهان الله أعلم بالرشاد
قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي قدس سره : مخاطباً لحضرة الهدايي إن كثيراً قد اجتهدوا ثلاثين سنة فلم يتيسر ما حصل لك ، فقال الهدايى : إن بابنا الذي نخدم فيه أعلى مما خدموا فينبغي أن تكون لنا العناية بهذا القدر فتبسم حضرة الشيخ يحكي أن أبا يزيد البسطامي لم يأكل البطيخ الأخضر زماناً لعدم وقوفه على أن النبي عليه السلام بأي وجه قطعه والشمس التبريزي قال إن البسطامي كان في الحجاب بسبب قصة البطيخ.
قال أفتاده أفندي : كأنه أراد أن قوة زهد البسطامي جعلته محجوباً ولكن التحقيق أن كلاً منهما على الكمال غايته أن أبا يزيد البسطامي وصل من طريق الرياضة ، والشمس التبريزي وصل من طريق المعرفة والطرق إلى الله كثيرة ولكن طريق الرياضة أحكم وأثبت فصاحب الزهد الغالب وإن لم ينفتح له الطريق زماناً ، ولكنه إذا انفتح يكون دفعة وبذلك لم يقدر الحلاج على ضبطه لكماله في الشريعة والطريقة فظهر حقيقة الحال على الأسلوب المذكور فعناية الله تعالى تهدي أولاً إلى القبول ثم إلى الزهد والرياضة ثم إلى العشق والحالة ثم إلى عالم الحقيقة ، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق فكل أحد يصل إلى الله تعالى من طريق وهي غير متعينة وليست هي كما يزعمها الناس ؛ إذ ليست على الأسلوب الظاهر قال الله تعالى : {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة : 189) فالمراد بها الطريق المناسب لكل أحد وطريق الوصول هو التقوى والذكر.
واعلم : أن الكتب الإلهية إنما جاءت رحمة من الله تعالى وعناية وكذا الأنبياء عليهم السلام فمن اتبعهم وقبل ما جاؤوا به فقد نجا من العقبات وخرج من محبس هذا العالم وطار إلى الملكوت الأعلى وللهمة تأثير عظيم.
ذكر أن في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء فيقع على وفق اهتمامهم.
ومن هذا القبيل ما ذكر أن السلطان محمود غزا بلاد الهند وكانت فيها مدينة كلما قصدها مرض فسأل عن ذلك فقيل له : إن عندهم جمعاً من الهند إذا صرفوا همتهم إلى ذلك يقع المرض على وفق ما اهتموا ، فأشار إليه بعض أصحابه بدق الطبول ونفخ البوقات الكثيرة لتشوش همتهم ففعل ذلك فزال المرض واستخلصوا المدينة فأنت أيها السالك بضرب طبول الذكر وجهره وتشوش همّ النفس وخواطرها الفاسدة تخلص مدينة القلب من يدها بعناية الله تعالى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من صلاته قال بصوته الأعلى "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
(3/207)
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
قال الشيخ أبو النجيب السهروردي المراد بقوله تعالى : {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِىَ} (البقرة : 271) الجهر بالذكر.
وقال عمر النسفي والإمام الواحدي في تفسيريهما : الذكر من جملة الفرائض وإعلان الفرائض أولى وأحب دفعاً للتهمة والجهر يوقظ قلب الذاكر ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط.
وفي "المثنوي" :
يادهان خويشتن را اك كن
روح خودرا اك والاك كن
ذكر حق اكست ون اكى رسيد
رخت بربندد برون آيد ليد
مى كريزد ضدها از ضدها
شب كريزد ون برافر وزد ضيا
272
ون در آيد نام اك اندر دهان
نى ليدى ماندو نى اندهان
قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} يتناول الذكر اللفظي والحفظ الظاهري وإن كان العمدة هي العمل كما قال سعدي قدس سره : (مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست نه ترتيل سوره مكتوب عامىء متعبد ياده رفتست وعالم متهاون سوار خفته) أيقظنا الله وإياكم من منام الغفلة والجهالة وختم عواقب أمورنا بأحسن الخاتمة والحالة آمين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} أي : واذكر يا محمد لبني إسرائيل وقت أخذ ربك {مِنا بَنِى ءَادَمَ} أي : آدم وأولاده كأنه صار اسماً للنوع كالإنسان والبشر والمراد بهم الذين ولد لهم كائناً من كان نسلاً بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب كالعقم وعدم التزوج والموت صغيراً.
{مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من بني آدم بدل البعض ، أي من أصلابهم وفيه تنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات {ذُرِّيَّتُهُم} مفعول أخذ ، أي : نسلهم قرناً بعد قرن ، يعني : أخرج بعضهم من بعض كما يتوالدون في الدنيا بحسب الأصلاب والأرحام والأدوار والأطوار إلى آخر ولد يولد {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي : أشهد كل واحد من أولئك الذريات المخصوصين المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسه لا على غيره تقريراً لهم بربوبيته التامة وما تستتبعه من العبودية على الاختصاص وغير ذلك من أحكامها.
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على إرادة القول ، أي : قائلاً ألست بربكم ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم {قَالُوا} استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قالوا فقيل قالوا : {بَلَى شَهِدْنَآ} أي : على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك والفرق بين بلى ونعم أن بلى إثبات لما بعد النفي ، أي : أنت ربنا فيكون إيماناً ونعم لتقرير ما سبق من النفي ، أي لست بربنا فيكون كفراً وهذا تمثيل وتخييل نزل تمكينهم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل الآفاقية والأنفسية وخلق الاستعداد فيهم منزلة الإشهاد وتمكينهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الاعتراف ، فلم يكن هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب وباب التمثيل باب واسع وارد في القرآن والحديث وكلام البلغاء قال الله تعالى : {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} {أَن تَقُولُوا} مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد ، أي فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا {يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} عند ظهور الأمر {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا} أي : عن وحدانية الربوبية وأحكامها {غَـافِلِينَ} لم ننبه عليه بدليل فإنهم حيث جبلوا على الفطرة ومعرفة الحق في القوة القريبة من الفعل صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك ولو لم تكن الآية على طريقة التمثيل ، بل لو أريد حقيقة الإشهاد والاعتراف وقد أنسى الله تعالى بحكمته تلك الحال لم يصح قوله أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين كما في "حواشي سعدى لبى" المفتي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا} عطف على أن تقولوا واو لمنع الخلو دون الجمع أي : اخترعوا الإشراك وهم سنوه.
{مِن قَبْلُ} من قبل زماننا.
{وَكُنَّا} نحن {ذُرِّيَّةً مِّنا بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدر على الاستدلال بالدليل فاقتديناهم.
{أَفَتُهْلِكُنَا} أي : أتؤاخذنا فتهلكنا {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} من آبائنا المضلين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التدبر والاستبداد بالرأي ، فإن ما ذكر من
273
استعدادهم الكامل يسد عليهم باب الاعتذار بهذا أيضاً فإن التقليد بعد قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ له أصلاً.
(3/208)
{وَكَذالِكَ} إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده ومحله النصب على المصدرية ، أي مثل ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة.
{نُفَصِّلُ الايَـاتِ} المذكورة لا غير ذلك.
{وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وليرجعوا عماهم عليه من الإصرار على الباطل وتقليد الآباء نفعل التفصيل المذكور.
فالواوان ابتدائيتان ، ويجوز أن تكون الثانية عاطفة على مقدر مرتب على التفصيل ، أي : وكذلك نفصل الآيات ليقفوا على ما فيها ومن المرغبات والزواجر وليرجعوا إلخ هذا والأكثر على أن المقاولة المذكورة في الآية حقيقة لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما : "من أنه لما خلق الله آدم عليه السلام مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فقال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى فنودي يومئذٍ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الآية الكريمة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عنها فقال : "إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون".
فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار" وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكل من ظهره عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام أبناءه الصلبية ومن ظهورهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان الظهر الأصلي ظهره عليه السلام ، وكان مساق الحديثين الشريفين بيان حال الفريقين إجمالاً من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض علمي نسب إخراج الكل إليه وأما الآية الكريمة حيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لإخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعاً كذا في "الإرشاد".
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
وقال الحدادي : فإن قيل كيف يكون الميثاق حجة على الكفار منهم وهم لا يذكرون ذلك حين أخرجهم من صلب آدم قيل : لما أرسل الله الرسل فأخبروهم بذلك الميثاق صار قول الرسل حجة عليهم وإن لم يذكروا ألا ترى أن من ترك من صلاته ركعة ونسي ذلك فذكرت له ذلك الثقات كان قولهم حجة عليه.
قال المولى أبو السعود : على القول الثاني وهو ما ذهب إليه الأكثر من حقيقة المقاولة أن قوله تعالى : {أَن تَقُولُوا} إلخ ليس مفعولاً له لقوله تعالى : {وَأَشْهَدَهُمْ} وما يتفرع عليه من قولهم : {بَلَى شَهِدْنَآ} حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظاً لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب الكلام عليه والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه انتهى.
274
وقال الكاشفي : (اي درويش اين آيت مركز عهد ازلست بى خبران سركوه غفلت را متنبه سازد وإلا هو شمندان بيداردل ازان سؤال وجواب غافل نيستند).
أليست ازازل همنانش بكوش
بفرياد قالوا بلى در خروش
(در نفحات مذكور ست كه على سهل اصفهاني را كفتندكه روز بلى را ياد دارى كفت ون ندارم كوئى دى بود شيخ الإسلام خواجه أنصاري فرمود كه درين سخن نقض است صوفى را دى وفردا ه بود آنروزرا هنز شب در نيامده وصوفي در همان روزست).
روز امروزاست اي صوفي وشان
كى بود ازدى واز فردا نشان
آنكه از حق نيست غافل يكنفس
ماضي ومستقبل وحالست وبس
وسئل ذو النون رضي الله عنه : عن سر ميثاق مقام ألست بربكم هل تذكره؟ فقال : كأنه الآن في أذني.
واعلم : أن لبعض أرواح الكمل تحقق الاتصاف بالعلم قبل تعينه بهذا المزاج الجزئي العنصري في مرتبة العين والخارج من جهة كلية الروحانية المتعينة قبله في مرتبة النفس الكلي بنفس تعين الروح الإلهي الأصلي فالروح الكلي الوصف ، والذات من أرواح الكمل يعين في كل مرتبة وعالم من المراتب ، والعوالم التي يمر عليها عند النزول والهبوط إلى مرتبة الحس الظاهر وعالم المزاج العنصري إلى حين اتصاله بهذه النشأة العنصرية تعيناً يقتضيه حكم الروح الأصلي في ذلك العالم وفي تلك المرتبة فيعلم حالتئذٍ أي حالة إذ تعين حين الاتصال بهذه النشأة العنصرية مما يعلم الروح الإلهي الأصلي ما شاء الله أن يعلمه من علومه ومتى كشفت هذا السر عرفت سر قوله عليه السلام : "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" وسر قول ذي النون كما سبق وإن شئت زيادة تحقيق هذا المقام فارجع إلى مطالعة "مفتاح الغيب" للصدر القنوي قدس سره.
(3/209)
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
وقال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن أخذ المخلوقين يكون أخذ الشيء الموجود من الشيء الموجود وأن أخذ الخالق تارة هو أخذ الشيء المعدوم من العدم كقوله : {خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) وتارة هو أخذ الشيء المعدوم من الشيء المعدوم كقوله : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنا بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الأعراف : 172) فكان بنو آدم معدومين وظهورهم معدومين وذرياتهم معدومين فأخذ بكمال قدرته ذرياتهم المعدومة إلى يوم القيامة من ظهورهم المعدومة من بني آدم المعدومين ، فأوجدهم الله في تلك الحالة وأعطاهم وجوداً مناسباً لتلك الحالة فلما استخرج الله من ظهر آدم ذرات بنيه ، واستخرج من ظهورهم ذرات ذرياتهم المودعة فيها إلى يوم القيامة والأرواح في تلك الحالة جنود مجندة في ثلاثة صفوف : الصف الأول : أرواح السابقين ، والصف الثاني : أرواح أصحاب الميمنة ، والصف الثالث : أرواح أصحاب المشأمة تنورت الذرات بأنوار أرواحها ولبست تلك الذرات الموجودة بالوجود الرباني لباس الوجود الروحاني ولبست الأسماع والأبصار والأفئدة لباساً روحانياً ، ثم خاطبهم الحق بخطاب ألست بربكم فسمع السابقون بسمع نوراني روحاني خطابه وشاهدوا بأبصار نورانية جماله وأحبوه بأفئدة روحانية ربانية نورانية بنور المحبة للقائه ، فأجابوه على المحبة فقالوا : بلى أنت ربنا المحبوب والمعبود شهدنا ، أي : شاهدنا محبوبيتك وربوبيتك فأخذ مواثيقهم أن لا يحبوا ولا يعبدوا إلا إياه ، وسمع أصحاب الميمنة بسمع روحاني خطابه وطالعوا بأبصار
275
روحانية جلاله وآمنوا بأفئدة ربانية إلهية ، فأجابوه على العبودية وقالوا : بلى أنت ربنا المعبود سمعنا وأطعنا فأخذ مواثيقهم أن لا يعبدوا إلا إياه ، وسمع أصحاب المشأمة خطابه بسمع روحاني من وراء حجاب العزة ، وفي آذانهم وقر الغرة وعلى أبصارهم غشاوة الشقاوة وعلى أفئتدهم ختم المحنة ، فأجابوه على الكلفة ، وقالوا : بلى أنت ربنا سمعنا كرهاً فأخذ مواثيقهم على العبودية ، فالآن يرجع التفاوت بين الخليقة في الكفر والإيمان إلى تفاوت الاستعدادات الروحانية والربانية فافهم جداً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
ثم اعلم : أنا لا نجد أن الله تعالى ذكر أنه كلم أحداً وهو بعد في العدم إلا بني آدم فإنه كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود فهذا بدايتهم ، وإلى هذا تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى هو سمعهم وأبصارهم وألسنتهم كما قال : "كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق" وإلى هذا أشار الجنيد حين سئل ما النهاية؟ قال : الرجوع إلى البداية انتهى كلام "التأويلات النجمية" باختصار وقد عرفت من هذا أن أهل الحقيقة جار في هذا المسلك على حقيقته ؛ لأن من غلب روحانيته على جسمانيته يرى الأمر سهلاً ولا يصعب عليه شيء خلافاً لأهل الظاهر ، والمعتزلة : أنكروا هذه الرواية وقالوا إن البينة شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فتلك الذريات المأخوذة من ظهور بني آدم لا يكون أحد منهم عالماً فاهماً عاقلاً إلا إذا حصل له قدر من الجسامة والبنية اللحمية والدموية وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى قيام الساعة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنهم حصلوا بأسرهم دفعة واحدة في صلب آدم فانظر إلى هذا القول الضعيف والرأي السخيف ، ولو قلت لهم هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرضين والجبال والشجر والماء في بيضة من غير أن يزيد في البيضة شيئاً ومن غير أن ينقص من هذا شيئاً؟ لقالوا : لا والعياذ بالله فعليك برعاية عهد ألست حتى ينكشف لك ما هو مستور عنك وعن أمثالك وينجلي الغيب كالشمس في مرآة بالك فتنظر كيف الصورة والمعنى والظهور والخفاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
{وَاتْلُ} اقرأ يا محمد {عَلَيْهِمْ} أي : على اليهود {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى} أي : خبره الذي له شأن وخطر فإن النبأ خبر عن أمر عظيم ومعنى آتيناه آياتنا ، أي علمناه دلائل ألوهيتنا ووحدانيتنا وفهمناه تلك الدلائل وفيه أقوال ، والأنسب بمقام توبيخ اليهود ببهتانهم أنه أحد علماء بني إسرائيل كما في "الإرشاد" أو هو بلعم بن باعورا كما في "منهاج العابدين" للإمام الغزالي وقولهم إنه من الكنعانين الجبارين إنما هو لكونه ساكناً في دارهم والمرء ينسب إلى منشئه ومولده كما هو اللائح فافهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
(3/210)
والأسلم في تقرير القصة ما ذكره الحدادي في "تفسيره" : نقلاً عن ابن عباس وابن مسعود حيث قال كان عابداً من عباد بني إسرائيل وكان في المدينة التي قصدها موسى عليه السلام وكان أهل تلك المدينة كفاراً ، وكان عنده اسم الله الأعظم فسأله ملكهم أن يدعو على موسى بالاسم الأعظم ليدفعه عن تلك المدينة ، فقال لهم : دينه وديني واحد وهذا شيء لا يكون وكيف أدعو عليه وهو نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، وأنا أعلم من الله ما أعلم ، وإني إن فعلت ذلك أذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به يفتنونه بالمال والهدايا حتى فتنوه
276
فافتتن ، قيل : كان لبلعم امرأة يحبها ويطيعها فجمع قومه هدايا عظيمة فأتوا بها إليها وقبلتها ، فقالوا لها قد نزل بنا ما ترين فكلمي بلعم في هذا ، فقالت لبلعم : إن لهؤلاء القوم حقاً وجواراً عليك وليس مثلك يخذل جيرانه عند الشدائد وقد كانوا محسنين إليك وأنت جدير أن تكافئهم وتهتم بأمرهم ، فقال لها : لولا أني أعلم أن هذا الأمر من عند الله لأجبتهم فلم تزل به حتى صرفته عن رأيه ، فركب أتاناً له متوجهاً إلى الجبل ليدعو على موسى فما سار على الأتان إلا قليلاً فربضت فنزل عنها فضربها حتى كاد يهلكها فقامت فركبها فربضت فضربها فأنطقها الله تعالى ، فقالت : يا بلعم ويحك أين تذهب ألا ترى إلى هؤلاء الملائكة أمامي يردونني عن وجهي ، فكيف أريد أن تذهب لتدعو على نبي الله وعلى المؤمنين فخلى سبيلها وانطلق حتى وصل إلى الجبل وجعل يدعو فكان لا يدعو بسوء إلا صرف الله به لسانه على قومه ولا يدعو بخير إلا صرف الله به لسانه إلى موسى ، فقال له قومه : يا بلعم إنما أنت تدعو علينا وتدعو له ، فقال هذا والله الذي أملكه وأنطق الله به لساني ثم امتد لسانه حتى بلغ صدره ، فقال لهم قد ذهبت والله مني الآن الدنيا والآخرة فلِمَ يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم واحتال ، حَلّوا النساء وزينوهن وأعطوهن الطيب وأرسلوهن إلى العسكر ، وائمروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخلت النساء المعسكر مرت امرأة منهم برجل من عظماء بني إسرائيل ، فقام إليها وأخذ بيدها حين أعجبته بحسنها ، ثم أقبل بها إلى موسى ، وقال له : إني لأظنك أن تقول هذه حرام قال : نعم هي حرام عليك لا تقربها ، قال فوالله لا نطيعك في هذا ثم دخل بها قبة فوقع عليها فأرسل الله على بني إسرائيل الطاعون في الوقت وكان فخاض بن العيزار صاحب أمر موسى رجلاً له بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائباً حين صنع ذلك الرجل بالمرأة ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل ، فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل على القبة فوجدهما متضاجعين فدفهما بحربته حتى انتظمهما بها جميعاً فخرج بهما يحملهما بالحربة رافعاً بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه وأسند الحربة إلى لحيته وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون من حينئذٍ عنهم فحسب من هلك من بني إسرائيل في ذلك الطاعون فوجدهم سبعين ألفاً في ساعة من نهار وهو ما بين أن زنى ذلك الرجل بها إلى أن قتل ثم إن موسى عليه السلام أفتاه يوشع بن نون حاربوا أهل تلك البلدة وغلبوهم وقتلوا منهم وأسروا وأتوا ببلعم أسيراً فقتل فجاؤوا بما قبل من العطايا الكثيرة وغنموها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
{فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي : من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة والحية ولم يخطرها بباله أصلاً.
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ} أتبع وتبع بمعنى واحد كاردف وردف.
والمعنى : أن الشيطان كان وراءه طالباً لإضلاله وهو يسبقه بالإيمان والطاعة لا يدركه الشيطان ثم لما انسلخ من الآيات لحقه وأدركه.
{فَكَانَ} (س كشت آن داننده آيات) أي : فصار {مِنَ الْغَاوِينَ} من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان من المهتدين.
والغي يذكر بمعنى الهلاك ويذكر بمعنى الخيبة وفي "القاموس" غوى ضل.
قال الإمام الغزالي : كان بلعم بن باعورا بحيث إذا
277
(3/211)
نظر رأى العرش ولم يكن له إلا زلة واحدة مال إلى الدنيا وأهلها ميلة واحدة ولم يترك لولي من أوليائه حرمة واحدة فسلبه معرفته وكان في أول أمره بحيث يكون في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه ثم صار بحيث كان أول من صنف كتاباً أن ليس للعالم صانع نعوذ بالله من سخطه انتهى ، فلا يأمن السالك المحق مكر الله ، ولو بلغ أقصى مقامات الأنبياء والمرسلين فلا يغلق على نفسه أبواب المجاهدات والرياضات ومخالفات النفس وهواها في كل حال كما كان حال النبي عليه السلام والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين وأئمة السلف والمشايخ المتقدمين ولا يفتح على نفسه التنعم والتمتع الدنيوي في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمسكن لأنه كماتعالى في مكامن الغيب للسعداء ألطافاً خفية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كذلك له فيها بلايا لهم ، فليحترز السالك الصادق بل البالغ الواصل والكامل الحاذق من أن يتعرض لتلك البلايا بالتوسع في الدنيا والتبسط في الأحوال وتتبع الهوى كما في "التأويلات النجمية".
قال الكاشفي (شيخ الإسلام فرمود تاباد تقدير ازكجا برآيد وه بوالعجبي نما يدا كراز جانب فضل وزد زنار بهرام كبر راكمر عشقبازى راه دين كرداند واكراز طرف عدل وزد توحيد بلعم را برانداخته باسك خسيس برابرى دهدى).
انرا برى از صومعه بردير كبران افكني
وين راكشى ازبتكده سر حلقه مردان كنى
ون ورا دركا توعقل زبونراكى رسد
فرمان ده مطلق تويى حكمي كه خواهى آن كنى
{وَلَوْ شِئْنَا} رفعه {لَرَفَعْنَـاهُ} إلى منازل الأبرار من العلماء ، {بِهَآ} أي : بسبب تلك الآيات وملازمتها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
وقال بعضهم : هي صحف إبراهيم عليه السلام وكان بلعم قد قرأها أو اللمات التي اشتملت على الاسم الأعظم.
{وَلَـاكِنَّه أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ} أي : مال إلى الدنيا فلم نشأ رفعه لمباشرته لسبب نقيضه ، والإخلاد إلى الشيء الميل إليه مع الاطمئنان عبر عن الدنيا بالأرض لأن ما فيها من العقار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض والإخلاد إلى الأرض كناية عن الإعراض عن ملازمة الآيات والعمل بمقتضاها ، والكناية أبلغ من التصريح.
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في إيثار الدنيا واسترضاه قومه فانحط أبلغ انحطاط وارتد أسفل سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى : {فَمَثَلُهُ} أي : فصفته التي هي مثل في الخسة والرذالة ، والمثل لفظ مشترك بين الوصف وبين ما يضرب مثلاً والمراد ههنا الوصف كذا في "البحر" {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} أي : كصفته في أخس أحواله وهو {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} (اكر حمله كنى برو وبراني اورا) والخطاب لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله {يَلْهَثْ} اللهث ادلاع اللسان أي إخراجه بالنفس الشديد.
{أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي : يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له فإن في الكلاب طبعاً لا تقدر على نفض الهواء السخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادها بخلاف سائر الحيوانات ، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء ، فكما أن الكلب دائم اللهث ضيق الحال فكذا هذا الكافر إن زجرته
278
ووعظته لم ينزجر ولم يتعظ ، وإن تركته لم يهتد ولم يعقل فهو متردد إلى ما لا غاية وراءه في الحسة والدناءة فانظر حب الدنيا وشؤمها ماذا يجلب للعلماء خاصة ، وفي الحديث : "من ازداد علماً ولم يزدد هدىً ، لم يزدد من الله تعالى إلا بعداً" والنعمة إنما تسلب ممن لا يعرف قدرها وهو الكفور الذي لا يؤدي شكراً ، وكما أن الكلب لا يعرف الإكرام من الإهانة والرفعة والشرف من الحقارة ، وإنما الكرامة كلها عنده في كسرة يطعمها أو عراق مائدة يرمى إليه سواء تقعده على سرير معك ، أو في التراب والقذر فكذا العبد السوء لا يعرف قدر الكرامة ويجهل حق النعمة فينسلخ عن لباس الفضل والكرم ويرتدي برداء القهر والمكر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
قال في "التأويلات النجمية" : فلا يغترن جاهل مفتون بأن اتباع الهوى لا يضره فإن الله تعالى حذر الأنبياء عن اتباع الهوى وأوعدهم عليه بالضلال كقوله : {يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص : 26) قال الحافظ :
مباش عره بعلم وعمل فقيه مدام
كه هيكس زقضاى خداى جان نبرد
(3/212)
{ذَالِكَ} أي : ذلك المثل السيىء {مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} وهم اليهود وكما أن بلعم بعدما أوتي آيات الله انسلخ منها ومال إلى الدنيا حتى صار كالكلب ، كذلك اليهود بعدما أوتوا التوراة المشتملة على نعت الرسول صلى الله عليه وسلّم وذكر القرآن المعجز وبشرى الناس باقتراب مبعثه ، وكانوا يستفتحون به انسخلوا مما اعتقدوا في حقه وكذبوه وحرفوا اسمه.
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} (س بخوان برايشان اين خبررا) والقصص : مصدر سمي به المفعول كالسلب واللام للعهد.
{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} راجياً تفكرهم تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ.
{سَآءَ مَثَلا} ساء بمعنى بئس ومثلاً تمييز من الفاعل المضمر في ساء مفسر له.
{الْقَوْمَ} مخصوص بالذم بتقدير المضاف لوجوب التصادف بينه وبين الفاعل والتمييز أي ساء مثلاً مثل القوم وبئس الوصف وصف القوم.
قال الحدادي : وهذا السوء إنما يرجع إلى فعلهم لا إلى نفس المثل كأنه قال ساء فعلهم الذي جلب إليهم الوصف القبيح ، فأما المثل فهو من الله حكم وصواب.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ} بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها.
{وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي : ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها.
{مَن يَهْدِ اللَّهُ} أي : يخلق فيه الاهتداء {فَهُوَ الْمُهْتَدِى} لا غير كائناً من كان وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله.
{وَمَن يُضْلِلِ} بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق الله فيه الضلالة لصرف اختياره نحوها.
{فأولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي : الكاملون في الخسران لا غير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
وفيه إشارة إلى أن من أدركته العناية ولحقته الهداية اليوم لم ينزل عن المراتب العلوية إلى المدارك السفلية ، فهم الذين أصابهم رشاش النور الذي رش عليهم من نوره ومن خذله حتى اتبع هواه فأضله الهوى عن سبيل الله فهم الذين أخطأهم ذلك النور ، ولم يصبهم فوقعوا في الضلالة والخسران.
وكان سفيان الثوري يقول : اللهم سلم سلم كأنه في سفينة يخشى الغرق.
ولما قدم البشير على يعقوب عليه السلام ،
279
قال : على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة.
وقيل : ما من كلمة أحب إلى الله تعالى ولا أبلغ عنده في الشكر من أن يقول العبد : الحمدالذي أنعم علينا وهدانا إلى الإسلام ، وإياك أن تغفل عن الشكر وتغتر بما أنت عليه في الحال من الإسلام والمعرفة والتوفيق والعصمة ، فإنه مع ذلك لا موضع للأمن والغفلة فإن الأمور بالعواقب.
قال بعض العارفين : إن بعض الأنبياء عليهم السلام سأل الله تعالى عن أمر بلعم وطرده بعد تلك الآيات والكرامات؟ فقال الله تعالى : لم يشكرني يوماً من الأيام على ما أعطيته ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته ، فمن كان له جوهر نفيس يمكنه أن يأخذ في ثمنه ألف ألف دينار فباعه بفلس أليس يكون ذلك خسراناً عظيماً وغبناً فظيعاً ودليلاً بينا على خسة الهمة وقصور العلم وضعف الرأي وقلة العقل ، فتيقظ حتى لا تذهب عنك الدنيا والآخرة وتنبه فإن الأمر خطير والعمر قصير وفي العمل تقصير والناقد بصير فإن ختم الله بالخير أعمالنا وأقال عثراتنا فما ذلك عليه بعسير اللهم حقق رجاء عبدك الفقير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي : وبالله قد خلقنا.
(3/213)
قال في "القاموس" : ذرأ كجعل خلق والشيء كثر ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين.
{لِجَهَنَّمَ} أي : لدخولها والتعذيب بها وهي سجن الله في الآخرة سميت جهنم لبعد قعرها ، يقال : بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر وهي تحتوي على حرور وزمهرير ففيها الحر والبرد على أقصى درجاتهما وبين أعلاها وقعرها خمس وسبعون مائة من السنين.
{كَثِيرًا} كائناً {مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} يعني : المصرين على الكفر في علم الله تعالى ، فاللام في لجهنم للعاقبة لأن من علم الله أن يصر على الكفر باختياره فهو يصير من أهل النار.
والجن : أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة لها عقول وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة وهي خلاف الإنس سميت بذلك لاستجنانهم واستتارهم عن العيون ، يقال : جنه الليل ستره.
والإنس : البشر كالإنسان من آنس الشيء أبصره وقدم الجن على الإنس لأنهم أكثر عدداً وأقدم خلقاً ، ولأن لفظ الإنس أخف بمكان النون الخفيفة والسين المهموسة فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وراحته والإجماع على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة على الخصوص وإن نبينا صلى الله عليه وسلّم مبعوث إلى الثقلين ولا شك أنهم مكلفون في الأمم الماضية ، كما هم مكلفون في هذه الأمة لقوله تعالى : {أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} (الأحقاف : 18) وجمع الفريقين إنما هو باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة والسعادة والألم يصح التكليف عليهم.
فإن قلت : ما الحكمة في أن الله تعالى جعل الكفار أكثر من المؤمنين؟.
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
قلت ليريهم أنه مستغننٍ عن طاعتهم وليظهر عز المؤمنين فيما بين ذلك لأن الأشياء تعرف بأضدادها والشيء إذا قل وجوده عز.
فإن قلت : إن رحمته غلبت غضبه فيقتضي الأمر أن يكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب ، وأهل الغضب تسع وتسعون وتسعمائة من كل ألف وواحد يؤخذ للجنة.
قلت : هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وأما بالنسبة إلى الملائكة وأهل الجنة فكثير لأن بني آدم قليل بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب ، وقيل : أكثر الكفار بشارة للأخيار بكثرة الفداء لأنه ورد في الخبر الصحيح : "إن كل مؤمن يأخذ كافراً بناصيته ويرميه إلى النار فداء عن نفسه" وفي الحديث : "إن الله لما ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنى ممن
280
ذرأ لجهنم".
قال في "المقاصد" حديث : "لا يدخل الجنة ولد زنية" إن صح فمعناه إذا عمل بمثل عمل أبويه واتفقوا على أنه لا يحمل على ظاهره.
وقيل في تأويله أيضاً : إن المراد به من يواظب الزنى كما يقال للشهود بنو الصحف وللشجعان بنو الحرب ولأولاد المسلمين بنو الإسلام واتفق المشايخ من أهل الوصول أن ولد الزنى لا يكون أهلاً للولاية الخاصة.
{لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثيراً.
{لا يَفْقَهُونَ بِهَا} في محل الرفع على أنه صفة لقلوب أي لا يعقلون بها إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله والقلب كالمرآة يصدأ من الإنكار والغفلة وجلاؤه التصديق والإنابة.
قال السعدي قدس سره :
غبار هوا شم عقلت بدوخت
سمون هوا كشت عمرت بسوخت
بكن سرمه غفلت از شم اك
كه فردا شوى سرمه درشم خاك
{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} أي : لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار.
دوشم ازى صنع بارى نكوست
زعيب برادر فروكيرو دوست
{وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ} الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر.
كذر كاه قرآن وبندست كوش
بهبهتان وباطل شنيدن مكوش
{أولئك} الموصوفون بالأوصاف المذكورة {كَالانْعَـامِ} (ما نندها راينند) في عدم الفقه والأبصار للاعتبار والاستماع للتدبر أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها ، والأنعام : جمع نعم بالتحريك وقد يسكن عينه وهي الإبل والشاة أو خاص بالإبل كذا في "القاموس" : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} بل للإضراب وليس إبطالاً ، بل هو انتقال من حكم وهو التشبيه بالأنعام إلى حكم آخر وهو كونهم أضل من الأنعام طريقاً ، فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار وتجهد في جلبها ودفعها غاية جهدها وهم ليسوا كذلك وهي بمعزل من الخلود وهم يتركون النعيم المقيم ويقدمون على العذاب الخالد ، وقيل : لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه وفي الخبر : "كل شيء أطوعمن بني آدم".
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
دربغ آدمي زاده رمحل
كه باشد و انعام بل هم اضل
(3/214)
{أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ} عن أمر الآخرة وما أعد فيها للعصاة ، وفي الإنسان جهة روحانية وجهة جسمانية وقد ركب فيه عقل وشهوة ، فإن كان عقله غالباً على هواه كان أفضل من الملائكة وإن كان مغلوباً للنفس والهوى كان أخس وأرذل من البهائم.
كما قيل في هذا المعنى :
بهره از ملكت هست ونصيبي ازديو
ترك ديويى كن وبكذر بفضيلت زملك
واعلم : أن الله تعالى خلق الخلق أطواراً ، فخلق طوراً : منها للقرب والمحبة وهم أهل الله وخاصته إظهاراً للحسن والجمال وكانوا به يسمعون كلامه وبه يبصرون جماله وبه يعرفون كماله ، وخلق طوراً منها : للجنة ونعميها إظهاراً للطف والرحمة فجعل لهم قلوباً يفقهون بها دلائل التوحيد والمعرفة وأعيناً يبصرون بها آيات الحق ، وخلق طوراً منها للنار وجحيمها وهم أهل النار إظهاراً للقهر والعزة أولئك كالأنعام لا يحبون الله ولا يطلبونه بل هم أضل لأنه لم يكن للأنعام
281
استعداد المعرفة والطلب وإنهم كانوا مستعدين للمعرفة والطلب فأبطلوا الاستعداد الفطري للمعرفة والطلب بالركون إلى شهوات الدنيا وزينتها واتباع الهوى فباعوا الآخرة بالأولى والدين بالدنيا وتركوا طلب المولى فصاروا أضل من الأنعام لإفساد الاستعداد أولئك هم الغافلون عن الله وكمالات أهل المعرفة وعزتهم كما قال في "التأويلات النجمية" قدس الله سره.
{وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} تأنيث الأحسن أي الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لأنها دالة على معاني هي أحسن المعاني وأشرفها والمراد بها الألفاظ الدالة الموضوعة على المعاني المختلفة دل على أن الاسم غير المسمى ولو كان هو المسمى لكان المسمى عدد الأسماء وهو محال.
قال الإمام الغزالي : الحق أن الاسم غير التسمية وغير المسمى فإن هذه ثلاثة أسماء متباينة غير مترادفة {فَادْعُوا وَمَا دُعَاؤُا الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} فسموه بتلك الأسماء واذكروه بها وفي الحديث : "إنتسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة" ، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن ، الرحيم الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصى ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك ، الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغنى ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور".
واستحسن المشايخ المتقدمون أن يبدأ أولاً ويقول اللهم إني أسألك يا رحمن يا رحيم إلى آخره فيجيء بجميع الأسماء بحرف النداء ثم يقول في آخر الكل أن تصلي على محمد وآله وأن ترزقني.
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
وجميع من يتعلق بي بتمام نعمك ودوام عافيتك يا أرحم الراحمين كما في "الأسرار المحمدية" قال عبد الرحمن البسطامي في "ترويح القلوب" : إن العارفين يلاحظون في الأسماء آلة التعريف وأصل الكلمة.
والملامية يطرحون منها آلة التعريف لأنها زائدة على أصل الكلمة ومن السر المكنون في الدعاء أن تأخذ حروف الأسماء التي تذكر بها مثل قولك الكبير المتعال ولا تأخذ الألف واللام ، بل تأخذ كبير متعال وتنظر كم لها من الأعداد بالجمل الكبير فتذكر ذلك العدد في موضع خال من الأصوات بالشرائط المعتبرة عند أهل الخلوات لا تزيد على العدد ولا تنقص منه ، فإنه يستجلب لك للوقت وهو الكبريت الأحمر بإذن الله تعالى فإن الزيادة على العدد المطلوب إسراف والنقص منه إخلال والعدد في الذكر بالأسماء كأسنان المفتاح لأنها إن زادت أو نقصت لا تفتح باب الإجابة البتة فافهم السر وحسن الدر.
واعلم : أنه لما كانت المقامات الدنية ثلاثة ، مقام الإسلام ومقام الإيمان ، ومقام الإحسان ، ومراتب الجنان
282(3/215)
المرتبة على الإحصاء لأهل الدين ثلاثاً ، جنة الأعمال.
وجنة الميراث ، وجنة الامتنان لا جرم كانت أنواع الإحصاء ثلاثة.
التعلق في مقام الإسلام ، والتخلق في مقام الإيمان ، والتحقق في مقام الإحسان ، فإحصاؤها بالتعلق في مقام الإسلام هو أن يتطلب السالك آثار كل اسم منها في نفسه وبدنه وجميع فواه وأعضائه وأجزائه وجزئياته في جميع حالاته وهيئاته النفسانية والجسمانية وفي جملة تطوراته وأنواع ظهوراته ، فيرى جميع ذلك من أحكام هذه الأسماء وآثارها فيقابل كل أثر بما يليق به كمقابلة الأنعام بالشكر والبلاء بالصبر وغير ذلك فبمثل هذا الإحصاء يدخل جنة الأعمال التي هي محل ستر الأغراض الزائلة بالأعيان الثابتة الباقية ، وهي التي أخبر عنها إبراهيم الخليل عليه السلام بأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد ، وإحصاؤها بالتخلق في مقام الإيمان يكون بتطلع الروح الروحانية إلى حقائق هذه الأسماء ومعانيها ومفهوماتها ، والتخلق بكل اسم منها على نحو ما أمر به من قوله عليه السلام : "تخلقوا بأخلاق الله" بحيث يكون المتخلق هو عين ذلك الاسم أي ينفعل عنه ما ينفعل عن ذلك الاسم فبمثل هذا الإحصاء يدخل هذا المتخلق جنة الميراث التي هي أعلى من الجنة الأولى بل هي باطنها المنزل منها بمنزلة عالم الملكوت من عالم الملك وهي المشار إليها بقوله عليه السلام : "ما منكم من أحد إلا وله منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فإذا مات ودخل النار ورث منزله أهل الجنة وإن شئتم فاقرؤوا أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" وإحصاؤها بالتحقق في مقام الإحسان يكون بالتقوى والانخلاع عما قام بك أو ظهر فيك من الصور والمعاني المتسمة بسمة الحدوث والاستتار بسبحات الخضرة الحقية والاحتجاب بسجف أستارها وأعيانها.
كما قال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
تسترت عن دهري بظل جناحه
بحيث أرى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما أسمى ما درت
وأين مكاني ما درين مكاني
فبمثل هذا الإحصاء يدخل المتحقق جنة الامتنان التي هي محل سرغيب الغيب المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام : "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وإليها الإشارة أيضاً بقوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} (القمر : 54 ، 55) قال ابن ملك : من أحصاها أي من أطاق القيام بحق هذه الأسماء وعمل بمقتضاها بأن وثق بالرزق إذا قال الرزاق وعلم أن الخير والشر من الله تعالى إذا قال الضار النافع فشكر على المنفعة وصبر على المضرة وعلى هذا سائر الأسماء وقيل معناه من عقل معانيها وصدقها وقيل معناه من عدها كلمة كلمة تبركاً وإخلاصاً.
وقال البخاري : المراد به حفظها وهذا هو الأظهر لأنه جاء في الرواية الأخرى من حفظها مكان من أحصاها انتهى ولا يظن أن أسماء الله تعالى منحصرة في هذا المقدار بل هي أشهر الأسماء ويجوز أن تتفاوت فضيلة أسماء الله تعالى بتفاوت معانيها كالجلال والشرف ويكون التسعة والتسعون منها تجمع أنواعاً للمعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها فتختص بزيادة شرف ويدل على أن أسماء الله تعالى كثيرة قوله عليه السلام : "ما أصاب أحداً همّ ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماضضٍ فيّ حكمك أسألك
283
بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عنه كل همه وحزنه وأبدل مكانه فرج" وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال صلى الله عليه وسلّم "دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطي وإذا دعى به أجاب".
واعلم : أن اسم الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ، ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازاً وسائر الأسماء قد يسمى بها غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيرها وقد جعل العلماء من خصائص هذا الاسم أنه ينسب جميع أسماء الحق إليه ، كما قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} (الأعراف : 180).
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
(3/216)
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة في بعض تحريراته : واعلم أن الهوية الإلهية السارية في جميع المراتب تعينت أولاً في مرتبة الحياة تعين تلك المرتبة بالأولية الكبرى فتعينت نسبة عالم الغيب ، ثم في مرتبة العلم تعينت تلك المرتبة ثانياً بالآخرية العظمى فتعينت نسبة عالم المعاني ، ثم في مرتبة الإرادة بصورة تلك المرتبة تعينت ثالثاً بالظاهرية الأولى فتعينت نسبة عالم الأرواح ، ثم في مرتبة القدرة تعينت تلك المرتبة رابعاً بالباطنية الأولى فتعينت نسبة عالم الشهادة هو الحي العليم المريد القدير وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وبذلك السريان ظهرت الحقائق الأربع التي هي أمهات جميع الحقائق ، والأسماء الإلهية الكلية التي هي تسعة وتسعون أو ألف وواحد وتلك الحقائق الكلية تعينت من دوران تعين الأمهات الأربع في عوالمها الأربعة فبضرب الأربعة في الأربعة كانت ستة عشر ، ثم باعتبار الظهور والبطون صارت اثنين وثلاثين ، ثم باعتبار أحدية جمع الجميع كانت ثلاثاً وثلاثين ثم باعتبار دوران تعينها بعالم السمع ورتبة البصر ورتبة الكلام فيها صارت تسعة وتسعين ، ثم باعتبار أحدية جمع الجميع كانت مائة لذلك سن رسول الله عليه السلام في "دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين تسبيحة وثلاثاً وثلاثين تحميدة وثلاثاً وثلاثين تكبيرة ثم تمم المائة بقوله : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" ثم كانت ألفاً باعتبار تعيناتها في الحضرات الخمس من جهة الظهور والبطون حاصلة من ضرب المائة في العشرة الكائنة من تلك الحضرات الخمس باعتبار ظواهرها وبواطنها ثم باعتبار أحدية جمع الجميع كانت ألفاً وواحداً فأمهات الأسماء والحقائق سبع وكلياتها تسع وتسعون أو ألف وواحد وجزئيات تلك الأسماء الحسنى لا تعد ولا تحصى انتهى باختصار.
{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَِاءه} الإلحاد : واللحد : الميل والانحراف عن القصد ، أي : واتركوا الذين يميلون في شأنها عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لم يسم به نفسه ولم ينطق به كتاب سماوي ولا ورد فيه نص نبوي أو بما يوهم معنى فاسداً ، وإن كان له محمل شرعي كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم يا أبيض الوجه فإن أبا المكارم وإن كان عبارة عن المستجمع لصفات الكمال إلا أنه يوهم معنى لا يصح في شأنه تعالى ، وكذا
284
أبيض الوجه وإن كان عبارة عن تقدس ذاته عن النقائص المكدرة إلا أنه يوهم معنى فاسداً ، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه حقيقة وإما بأن يعدلوا عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا وما الرحمن ما تعرف سوى رحمان اليمامة.
فالمراد بالترك الاجتناب أيضاً ، وبالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة فالمعنى سموه تعالى بجميع الأسماء الحسنى واجتنبوا إخراج بعضها من البعض.
روي أن رجلاً من الصحابة دعا الله تعالى في صلاته باسم الله وباسم الرحمن فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا الرجل يدعو ربين اثنين فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" رغماً لأنوف المشركين فإن تعدد الاسم لا يستلزم تعدد المسمى
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
{سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما أصابهم فإنه سينزل بهم عقوبة إلحادهم فقوله : {وَذَرُوا الَّذِينَ} إلخ معناه واتركوا تسمية الزائغين فيها بتقدير المضاف إذ لا معنى لترك نفس الملحدين.
وقال بعض العلماء : المراد بالأسماء الحسنى الصفات العلى فإن لفظ الاسم قد يطلق على ما يسمونه الذات من صفاتها العظام يقال طار اسمه في الآفاق أي انتشرت صفته ونعته فكأنه قيل ولله الأوصاف.
(3/217)
قال في "التأويلات النجمية" : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} يشير إلى أن اسم الله له بمثابة اسم العلم للخلق وهو اسم ذاته تبارك وتعالى والباقي من الأسماء هو أسماء الصفات لأنه قال ولله الأسماء الحسنى فأضاف الأسماء إلى اسم الله وأسماؤه كلها مشتقة من صفاته إلا اسم الله فإنه غير مشتق عندنا وعند الأكثرين لأنه اسم الذات فكما أن ذاته تعالى غير مخلوق من شيء كذلك اسمه غير مشتق من شيء فإن الأشياء مخلوقة فأسماء صفاته تعالى بعضها مشتق من الصفات الذاتية فهو غير مخلوق وبعضها مشتق من صفات الفعل فهو مخلوق ؛ لأن صفات الذات كالحياة والسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة والإرادة والبقاء قديمة غير مخلوقة ، وصفات الفعل مخلوقة تضاف إليه عند الإيجاد فلما أوجد الخلق وأعطاهم الرزق سمي خالقاً ورازقاً إلا أنه تعالى كان في الأزل قادراً على الخالقية والرازقية فقوله ، ولله الأسماء الحسنى ، أي : الصفات الحسنى.
{فَادْعُوهُ بِهَا} أي : فادعوا الله بكل اسم مشتق من صفة من صفاته بأن تتصفوا وتتخلقوا بتلك الصفة فالاتصاف بها بالأعمال والنيات الصالحة كصفة الخالقية ، فإن الاتصاف بها بأن تكون مناكحته للتوالد والتناسل بخلاف الخالق كما قيل لحكيم وهو يواقع زوجته ما تعمل قال : إن تم فإنسان.
والاتصاف بصفة الرازقية بأن ينفق ما رزقه الله على المحتاجين ولا يدخر منه شيئاً وعلى هذا فقس البواقي.
وأما التخلق بها فبالأحوال وذلك بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله والتوجه إليه ليتجلى له بتلك الصفات فيتخلق بها وهذا تحقيق قوله : "كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر" {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَاءِهِ} أي : يميلون في صفاته أي لا يتصفون بها وتسميته تعالى باسم لم يسم به نفسه أيضاً من الإلحاد كما يسمونه الفلاسفة بالعلة الأولى والموجب بالذات يعنون به أنه تعالى غير مختار في فعله وخلقه وإيجاده تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، ومن وصفه تعالى بوصف أو بصفة لم يرد بها النص فأيضاً إلحاد
285
{سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني : سيجزون الخذلان ليعملوا بالطبع والهوى ما كانوا يعملون بالإلحاد في الأسماء والصفات انتهى كلام "التأويلات" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
يده شود باى هركس عملش
قال الحافظ :
دهقان سالخورده ه خوش كفت باسر
اى نور شم من بجزاز كشته ندروى
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ} اعلم أن الله تعالى كما جعل من قوم موسى أئمة هادين مهديين كما قال : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} (الأعراف : 159) جعل من هذه الأمة المرحومة أيضاً كذلك فقال : وممن خلقنا ومحل الظرف الرفع على أنه مبتدأ إما باعتبار مضمونه أو تقدير الموصوف وما بعده خبره ، أي : وبعض ما خلقنا أو وبعض ممن خلقنا.
{أُمَّةٍ} أي : طائفة كثيرة {يَهْدُونَ} الناس ملتبسين {بِالْحَقِّ} أي : محقين أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة.
{وَبِهِ} أي : وبالحق {يَعْدِلُونَ} أي : يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها.
وعنه عليه الصلاة والسلام : "إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى" والمراد لا يخلو الزمان منهم ، وفي الحديث : "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله".
قال الشيخ الكبير صدر الدين القنوي قدس سره : أكده بالتكرار ولا شك أن لا يذكر الله ذكراً حقيقياً وخصوصاً بهذا الاسم الأعظم الجامع المنعوت بجميع الأسماء إلا الذي يعرف الحق بالمعرفة التامة ، وأتم الخلق معرفة بالله في كل عصر خليفة الله وهو كامل ذلك العصر فكأن يقول صلى الله عليه وسلّم لا تقوم الساعة وفي الأرض إنسان كامل وهو المشار إليه بأنه العمد المعنوي الماسك وإن شئت.
قلت : الممسك لأجله فإذا انتقل انشقت السماء وكورت الشمس وانكدرت النجوم ونشرت الصحف وسيرت الجبال وزلزلت الأرض وجاءت القيامة انتهى كلامه في "الفكوك".
ورووا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إنفي الأرض ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم ، وله أربعون قلوبهم على قلب موسى ، وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم ، وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل ، وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل ، وله واحد قلبه على قلب إسرافيل ، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة وإذا مات من الخمسة ، أبدل الله مكانه من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه من العامة يدفع الله بهم البلاء عن هذه الأمة" والواحد المذكور في هذا الحديث هو القطب وهو الغوث ومكانه ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 280(3/218)
ورووا عن أبي الدرداء أنه قال : "إنعباداً يقال لهم الأبدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية ، ولكن بلغوا بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدور والرحمة لجميع المسلمين اصطفاهم الله بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم أربعون رجلاً على مثل قلب إبراهيم لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه".
واعلم : أنهم لا يسبون شيئاً ولا يلعنونه ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدون من فوقهم أطيب الناس خبراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً لا تدركهم الخيل المجراة ولا الرياح العواصف فيما بينهم وبين ربهم إنما قلوبهم
286
تصعد في السقوف العلى ارتياحاً إلى الله تعالى في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون انتهى كلامه في "روض الرياحين" للإمام اليافعي رحمه الله تعالى.
واعلم : أن أهل الحق إنما نالوا ما نالوا بهدايتهم للناس وعدلهم فيما بين الخلق بعد ما كانوا مهديين وعادلين في أنفسهم.
وروي عن عبد الله بن المبارك أنه كان يتجر ويقول : لولا خمسة ما اتجرت السفيانان ، وفضيل ، وابن السماك ، وابن علية ليصلهم فقدم سنة فقيل له قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بشيء فأتاه ابن علية فلم يرفع رأسه إليه ثم كتب إليه ابن المبارك :
يا جاعل العلم له بازياً
يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها
بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما
كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها
لترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطل
زلّ حمار العلم في الطين فلما وقف إسماعيل بن علية على الأبيات ذهب إلى الرشيد ولم يزل به إلى أن استعفاه من القضاء فأعفاه ، ونعم ما قيل :
أبو حنيفة قضا نكرد وبمرد
تو بميرى اكر قضا نكنى
وقيل :
اعدل تكن من صروف الدهر ممتنعاً
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
فالصرف ممتنع للعدل في عمر والعدل : من أسماء الله تعالى ومعناه العادل ، وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله وحظ العبد من العدل لا يخفى وأول ما عليه من العدل في صفات نفسه هو أن يجعل الشهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدين ومهما جعل العقل خادماً للشهوة والغضب فقد ظلم نفسه هذا جملة عدله في نفسه وتفصيله مراعاة حدود الشرع كله وعدله في كل عضو أن يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه.
وأما عدله في أهله وذويه ، ثم في رعيته إن كان من أهل الولاية فلا يخفى وربما ظن أن الظلم هو الإيذاء والعدل هو إيصال النفع إلى الناس وليس كذلك بل لو فتح الملك خزائنه المشتملة على الأسلحة والكتب وفنون الأموال ولكن فرق الأموال على الأغنياء ووهب الأسلحة للعلماء وسلم إليهم القلاع ووهب الكتب للأجناد وأهل القتال وسلم إليهم المساجد والمدارس فقد نفع ولكنه قد ظلم وعدل عن العدل إذ وضع كل شيء في غير موضعه اللائق به ولو آذى المريض بسقي الأدوية والحجامة والفصد بالإجبار عليه وآذى الجناة بالعقوبة قتلاً وقطعاً وضرباً كان عادلاً لأنه وضعها في موضعها وحظ العبد ديناً من هذا الوصف أنه لا يعترض على الله تعالى في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله وافق مراده أو لم يوافق لأن كل ذلك عدل وهو كما ينبغي وعلى ما ينبغي ولو لم يفعل ما فعله لحصل منه أمر آخر هو أعظم ضرراً مما حصل كما أن المريض لو لم يحتجم أبصر ضرراً يزيد على ألم الحجامة وبهذا يكون الله تعالى عدلاً والإيمان يقطع الإنكار والاعتراض ظاهراً وباطناً.
وتمامه أن لا يسب الدهر ولا ينسب الأشياء إلى الفلك ولا يعترض عليه كما جرت به العادة بل يعلم أن كل ذلك أسباب مسخرة وأنها رتبت ووجهت
287
إلى المسببات أحسن ترتيب وتوجيه بأقصى وجوه العدل واللطف كذا في "المقصد الأقصى في شرح معاني أسماء الله الحسنى" للإمام الغزالي عليه رحمة الملك المتعالي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} إضافة الآيات إلى نون العظمة لتشريفها واستعظام الأقدام على تكذيبها أي بآياتنا التي هي معيار الحق ومصداق الصدق والعدل.
{سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي : سنقربهم البتة إلى الهلاك على التدريج وأصل الاستدراج إما الاستصعاد وهو النقل من سفل إلى علو درجة درجة.
وإما الاستنزال وهو النقل من علو إلى سفل كذلك والأنسب هو النقل إلى أعلى درجات المهالك ليبلغ أقصى مراتب العقوبة والعذاب.
{مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} صفة لمصدر الفعل المذكور ، أي : سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك ، بل يحسبون أنه إكرام من الله تعالى وتقريب منه أو لا يعلمون ما نريد بهم وذلك أن يتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغي إلى أن تحق عليهم كلمة العذاب على أفظع حال وأشنعها.
مده خودرا فريب ازرنك وبويم
كه هست از خنده من كريه آميز
قال الحافظ :
بمهلتي كه سهرت دهد ز راه مرو
(3/219)
تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كفت
{وَأَمْلَى لَهُمْ} الإملاء : إطالة مدة أحدهم بإبقائه على ما هو عليه وعدم الاستعجال في مؤاخذته.
قال المولى أبو السعود : عطف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الإملاء وهو عبارة عن الإمهال والإطالة وليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصل في نفسه شيئاً فشيئاً بل هو فعل يحصل دفعة ، وإنما الحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه لا نفسه كما يلوّح به تغيير التعبير بتوحيد الضمير.
{إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} أي : إن أخذي شديد وإنما سماه كيداً لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
قال سعدي لبى المفتي : الأولى أن يقول : سماه كيداً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون ، والكيد : الأخذ بخفية.
وقال الحدادي : الكيد هو الإضرار بالشيء من حيث لا يشعر به.
قال في "الحكم العطائية" خف من وجود إحسانه إليك ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجاً لك قال الله تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} .
قال سهل رضي الله عنه في معنى هذه الآية : نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخذوا.
وقال أبو العباس بن عطاء : يعني : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة.
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله : الاستدراج تواتر المنة بغير خوف الفتنة الاستدراج انتشار الذكر دون خوف المكر ، الاستدراج : التمكن من المنية والصرف عن البغية.
الاستدراج تعليل برجاء وتأميل بغير وفاء ، الاستدراج : ظاهر مضبوط وسر بالأغيار منوط انتهى.
ومن وجوه الاستدراج أن يجهل المريد بنفسه وبحق ربه فيسيء الأدب بإظهار دعوى أو تورط في بلوى فتؤخر العقوبة عنه إمهالاً له فيظنه إهمالاً فيقول لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن من قطع المدد عنه من حيث لا يشعر إلا منع المزيد لكان قطعاً لأن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه
288
يوصي بعض أصحابه ويقول : خف من سطوة العدل وارج رقة الفضل ، ولا تأمن مكره ولو أدخلك الجنة وقع لأبيك آدم ما وقع.
فإن قلت : ما الحكمة في إمهال الله العصاة في الدنيا؟.
قلت : ليرى العباد أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام ، وليعلموا شفقته وبره وكرمه وأن رحمته سبقت غضبه وإمهاله تعالى من أخلاق كرمه وجوده.
وقيل يمهل من يشاء حكمة ليأخذ الظالم أخذ عزيز مقتدر ويعجل عقوبة من يشاء رحمة منه وتخفيفاً بالنسبة إلى عذاب الآخرة.
فعلى العاقل أن يخاف من المكر الإلهي ويرى الفقر والانكسار نعمة وإكراماً فإن الله تعالى يحب الفقراء وهو عند المنكسرة قلوبهم ، وحال الدنيا ليس على القرار تسلب كما تهب وتهب كما تسلب.
ونعم ما قيل :
زمانه به نيك وبد آبستن است
ستاره كهى دوست وكه دشمن است
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} .
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يحذر قريشاً عقوبة الله تعالى ووقائعه النازلة في الأمم الماضية فقام ليلاً على الصفا وجعل يدعوهم إلى عبادة الله تعالى قبيلة قبيلة يا بني فلان يا بني فلان إلى الصباح يحذرهم بأس الله فقال قائليهم : إن صاحبكم هذا يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم لمجنون بات يهوت إلى الصباح فنزلت.
والهمزة للإنكار والتعجب والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدر وما إما استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم ، وأما نافية اسمها جنة وخبرها بصاحبهم والجملة معلقة لفعل التفكر لكونه من أفعال القلوب ومحلها على الوجهين النصب على نزع الجار والجنة بناء نوع من الجنون ودخول من يدل على أنه ليس به نوع من أنواع الجنون.
والمعنى : أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم؟ أو في أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبهم وارد على شاكلة كلامهم مع ما فيه من الإيذان بأن طول مصاحبتهم له عليه السلام مما يطلعهم على نزاهته عليه السلام عن شائبة الجنة وقد كانوا يسمونه قبل إظهار النبوة محمداً الأمين صلى الله عليه وسلّم {إِنْ هُوَ} أي : ما هو عليه السلام.
{إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي : مبالغ في الإنذار مظهر له غاية الإظهار إبرازاً لكمال الرأفة ومبالغة في الأعذار.
{أَوَلَمْ يَنظُرُوا} الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر أي أكذبوا بها ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال {فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} فيما تدل عليه السموات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة فيعلموا أنه لم يخلقهما عبثاً ولم يترك عباده سدى.
(3/220)
قال بعضهم : ملكوت السموات النجوم والشمس والقمر وملكوت الأرض البحور والجبال والشجر والملكوت الملك العظيم من الملك كالرهبوت من الرهب زيدت التاء للمبالغة يقال له ملكوت العراق ، أي : الملك الأعظم متعلق.
به {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} عطف على ملكوت ، أي : وفيما خلق الله.
{مِن شَىْءٍ} بيان لما خلق مفيد لعدم اختصاص الدلالة المذكورة بجلائل المصنوعات دون دقائقها أي من جليل ودقيق مما يقع عليه اسم الشيء
289
من الأجناس التي لا يمكن حصرها ، أي أن كل فرد فرد من الموجودات محل للنظر والاعتبار والاستدلال على الصانع ووحدانيته كما قيل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
وفي كل شيء له آية
تدل على إنه واحد {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} عطف على ملكوت وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشان والخبر قد اقترب أجلهم.
والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشان عسى أن يكون الشأن قد اقترب أجلهم لعلهم يموتون عن قريب فما لهم لا يسارعون إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مجيء الموت ونزول العذاب.
زان يش كأجل فرا رسد تنك
وأيام عنان ستاند ازنك
برمركب فكر خويش نه زين
مردانه در آى درره دين
{فَبِأَىِّ حَدِيث} هو في اللغة الجديد ، وفي عرف العامة الكلام {بَعْدِهِ} أي : بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في البيان وليس بعده كتاب منزل ولا نبي مرسل وهو قطع لاحتمال إيمانهم ونفي له بالكلية والباء متعلقة بيؤمنون.
{مَن يُضْلِلِ اللَّهُ} (هركرا كمراه كرداند خداى تعالى وبقرآن نكرود) {فَلا هَادِيَ لَهُ} (س هي راه نماينده نيست كه اورابراه آرد) {وَيَذَرُهُمْ} بالياء والرفع على الاستئناف ، أي وهو تعالى يتركهم.
{فِي طُغْيَـانِهِمْ} في مجاوزتهم الحد في كفرهم.
{يَعْمَهُونَ} حال من مفعول يذرهم أي حال كونهم مترددين ومتحيرين في "القاموس" العمه محركة التردد في الضلال والتحير في منازعة أو طريق أو أن لا يعرف الحجة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
وفي الآية حث على التفكر ودلالة على أن العاقل لو تفكر بالعقل السليم من آفات الوهم والخيال والتقليد والهوى في حال النبي صلى الله عليه وسلّم وأخلاقه وسيره فضلاً عن معجزاته لتحقق عنده أنه النبي الصادق وأن ما يدعوه إليه كله حق وصدق وإنه لينجو بهذا التفكر من النار كما أخبر الله تعالى عن حال أهل النار بقوله : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} (الملك : 10) وفي قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا} إلخ إشارة إلى أن المكونات على نوعين نوع منها ما خلق من غير شيء وهو الملكوت الذي هو باطن الكون والكون به قائم وهو قائم بيد القدرة كقوله تعالى : {فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} (يس : 83) ونوع منها ما خلق من شيء وهو الملك الذي هو ظاهر الكون فكما أن النظر إلى الملك بحسن البصر فالنظر إلى الملكوت بالعقل والقلب فنظر أرباب العقول فيه يفيد رؤية الآيات والاستدلال بها على معرفة الخالق وإثبات الصانع ونظر أصحاب القلوب فيه يفيد شهود شواهد الغيب بالولوج ليصير إيمانه إيقاناً بل عياناً كقوله : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام : 75) وهذه الإراءة سنة إلهية قديمة للحق سبحانه يري بها كل من جعله نبياً أو ولياً ناسوت العالم وملكوته وجبروته ولاهوته سواء كان عالماً صغيراً أو عالماً كبيراً ولا تزال تلك السنة باقية إلى يوم القيامة ما دام لم ينقطع السير والسلوك إلى الحق سبحانه فلولاها لنوع الإنسان لكان كسائر الحيوان إلا أن الله الرحمن منّ بها على نوع الإنسان وسار وسلك بها من شاء من أهل عنايته إلى قبل الملك المنان حتى ترقى عن جميع الأكوان ونال
290(3/221)
الشهود والعيان ووصل إلى الحق المحسان وأتاه كمال الإيقان وتمام الإحسان ثم جاء نبياً أو ولياً لإرشاد الإخوان فقام بالحكمة والبيان وبين الإسلام والإيمان ودعا إلى الله الحليم الجنان وبشر بالجنان وأنذر بالنيران فمن أجاب نال اللطف والإحسان ومن لم يجب خسر خسراناً مبيناً وقال عليه الصلاة والسلام عن عيسى "لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين" فالولوج لأصحاب القلوب والمشاهدة والنظر لأرباب العقول والاستدلال كذا في "التأويلات النجمية" مع مزج من كلام شيخنا العلامة أحياه الله بالسلامة (روزى إمام أبي حنيفة رحمه الله در مسجد نشسته بود جماعتي ازد زنادقه در آمدند وقصد هلاك أو كردند إمام كفت يك سؤال را جواب دهيد بعد ازان تيغ ظلم را آب دهيد كفتند مسأله يست كفت من سفينه ديدم ربار كران برورى دريا روان بى آنكه هي ملاحى محافظت ميكرد كفتند اين محالست زيراكه كشتى بى ملاح بريك نسق رفتن محال باشد كفت سبحان الله سبر جمله أفلاك وكاكب ونظام عالم علوي وسفلي ازسيريك سفينه عجبترست همه ساكت كشمد واكثر مسلمان شدند) قال الحافظ الشيرازي :
در حشمت سليمان هركس كه شك نمايد
برعقل ودانش اوخندند مرغ وماهى
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
{يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} أي : عن القيامة وهي من الأسماء الغالبة فيها كالنجم في الثريا ، وسميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لكون الحساب الواقع فيها يتم وينقضي في ساعة يسيرة ؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، أو لأنها على طولها عند الله تعالى كساعة من الساعة عند الخلق وأصلها ساعة قيام الناس من الأجداث فلما غلبت تعينت فاستغنت عن الإضافة.
روي أن قوماً من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي وكان ذلك امتحاناً منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها فنزلت {أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا} أيان ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام محله الرفع على أنه خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر أي متى إرساؤها أي إثباتها وتقريرها فإنه مصدر ميمي من أرساه إذا أثبته وأقره ولا يكاد يستعمل إلا في الشيء الثقيل ، كما في قوله تعالى : {وَالْجِبَالَ أَرْسَـاـاهَا} (النازعات : 32) ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء ومحل الجملة النصب بنزع الخافض فإنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط ، كأنه قيل : يسألونك عن الساعة عن أيان مرسيها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} لم يقل إنما علم وقت إرسائها لأن المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها المعين لا وقتها باعتبار كونه محلاً لها ، ولذلك أضاف العلم المطلوب بالسؤال إلى ضميرها.
{عِندَ رَبِّى} خاصة قد استأثر به لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
{لا يُجَلِّيهَا} أي : لا يظهر أمرها من التجلية وهو إظهار الشيء والتجلي ظهوره {لِوَقْتِهَآ} أي : في وقتها فاللام للتأقيت كاللام في قوله : {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (الإسراء : 78) {إِلا هُوَ} والمعنى إنه تعالى يخفيها على غيره إخفاء مستمراً إلى وقت وقوعها ولا يظهرها إلا في ذلك الوقت الذي وقعت فيه بغتة بنفس الوقوع لا بالإخبار عنها لكون إخفائها أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كإخفاء الأجل الخاص الذي هو وقت الموت كتم الله تعالى وقت قيام الساعة عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة والطاعة في جميع الأوقات فإنه لو علم وقت
291
قيام الساعة لتقاصر الخلق عنها وأخروها.
وكذلك أخفى ليلة القدر ليجتهد المكلف في العبادة في ليالي الشهر كلها وأخفى ساعة الإجابة من يوم الجمعة ليكون المكلف مجداً في الدعاء في جميع ساعاته {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : كبرت وشقت على أهلهما من الملائكة والثقلين كل منهم أهمه خفاؤها وخروجها عن دائرة العقول.
جزء : 3 رقم الصفحة : 291
(3/222)
وقيل : عظمت على أهلهما خوفاً من شدائدهما وما فيها من الأهوال ومن جملة أهوالها فناء من في السموات والأرض وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب.
{لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} إلا فجأة على غفلة فتقوم والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه والرجل يهوي لقمة في فمه فما يدرك أن يضعها في فمه.
{يَسْـاَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} أي : عالم بها من حفي عن الشيء إذا بالغ في السؤال عنه ، ومن استقصى في تعلم الشيء وبالغ في السؤال عنه لزمه أن يستحكم علمه به ويعلمه بأقصى ما يمكن ويكون ماهراً في العلم ، فلذلك كنى بقوله تعالى : {كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} عن كونه عليه السلام عالماً بها بأقصى ما يمكن والتعدية بعن مع كونه بمعنى العالم ، وهو يتعدى بالباء لكونه متمضناً لمعنى بليغ في السؤال عنها حتى أحكمت علمها والجملة التشبيهية في محل النصب على أنها حال من الكاف أي يسألونك مشبهاً حالك عندهم بحال من هو حفي عنها ، أي : مبالغ في العلم بها.
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} الفائدة في إعادته رد المعلومات كلها إلى الله تعالى ، فيكون التكرار على وجه التأكيد والتمهيد للتعريض بجهلهم بقوله : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرونها رأساً وبعضهم يعلمون أنها واقعة البتة ويزعمون أنك واقف على وقت وقوعها فيسألونك جهلاً وبعضهم يدعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالة فيتخذون السؤال عنها ذريعة إلى القدح في رسالتك.
{قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي : جلب نفع ولا دفع ضر فمن لا يعلم أن نفعه في أي الأشياء ومضرته في أيها كيف يعلم وقت قيام الساعة واللام متعلق بأملك.
قال سعدي لي المفتي : والظاهر إنه متعلق بنفعاً ولا ضراً {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} أن أملكه من ذلك بأن يلهمنيه فيمكنني منه ويقدرني عليه فالاستثناء متصل أو لكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فالاستثناء منقطع وهذا أبلغ في إظهار العجز عن علمها.
{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي : جنس الغيب {اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي : لجعلت المال والمنافع كثيراً على أن يكون بناء استفعل للتعدية كما في نحو استذله.
{وَمَا مَسَّنِىَ السُّواءُ} من كيد العدو والفقر والضر وغيرها.
{إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي : ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار ، والبشارة شأني ما يتعلق بهما من العلوم الدينية والدنيوية لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها ، وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إما متعلق بهما جميعاً لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة ، وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذير للكافرين أي الباقين على الكفر وبشير لقوم يؤمنون أي في أي وقت كان ففيه ترغيب للكفرة في أحداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 291
قال الحدادي في "تفسيره" : في الآية دلالة على بطلان قول
292
من يدعي العلم بمدة الدنيا ويستدل بما روي أن الدنيا سبعة آلاف سنة لأنه لو كان كذلك كان وقت قيام الساعة معلوماً وأما قوله صلى الله عليه وسلّم "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار إلى السبابة والوسطى فمعناه تقريب الوقت لا تحديده كما قال تعالى : {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} (محمد : 18) أي : مبعث النبي عليه السلام من أشراطها انتهى.
يقول الفقير : رواية عمر الدنيا وردت من طرق شتى صحاح لكنها لا تدل على التحديد حقيقة فلا يلزم أن يكون وقت قيام الساعة معلوماً لأحد أياً من كان من ملك أو بشر.
وقد ذهب بعض المشايخ إلى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعرف وقت الساعة بإعلام الله تعالى وهو لا ينافي الحصر في الآية كما لا يخفى.
وفي "صحيح مسلم" عن حذيفة قال : "أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة" وفي الحديث : "إنديكاً جناحاه موشيان بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت جناح له بالمشرق ، وجناح له بالمغرب ، وقوائمه في الأرض السفلى ، ورأسه مثني تحت العرش فإذا كان السحر الأعلى خفق بجناحيه ، ثم قال : سبوح قدوس ربنا الله لا إله غيره فعند ذلك تضرب الديكة أجنحتها ، وتصيح فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى ضم جناحك وغض صوتك فيعلم أهل السموات والأرض أن الساعة قد اقتربت".
(3/223)
ومن أشراط الساعة : كثرة السبي والتسري وذلك دليل على استعلاء الدين واستيلاء المسلمين الدال على التراجع والانحطاط إذا بلغ الأمر كماله ، ومنها كون الغنم دولاً يعني إذا كان الأغنياء وأصحاب المناصب يتداولون بأموال الغنيمة ويمنعون عنها مستحقيها وكون الزكاة مغرماً يعني يشق عليهم أداء الزكاة ويعدونها غرامة وكون الأمانة مغنماً ، يعني : إذا اتخذ الناس الامانات الموضوعة عندهم مغانم يغتنمونها ومن الأمانة الفتوى والقضاء والأمارة والوزارة وغيرها فإذا آتوها إلى غير أهاليها كما ترى في زماننا فانتظر الساعة.
وفي رواية عن أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى يكون الزهد رواية والورع تصنعاً ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق".
فإن قيل : قد ورد في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة".
قيل : معناه إلى قريب قيام الساعة لأن قريب الشيء في حكمه.
واعلم : أن القيامة ثلاث حشر الأجساد والسوق إلى المحشر للجزاء وهي القيامة الكبرى وموت جميع الخلائق وهي الوسطى ولا يعلم وقته يقيناً إلا الله تعالى وإنما يعلم بالعلامات المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم كما ذكرنا بعضاً منها وموت كل أحد وهي الصغرى ، وفي الحديث : "من مات فقد قامت قيامته" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم ذكر يوماً أحوال جهنم ، فقال واحد من الأصحاب رضي الله عنه : ادع لي يا رسول الله أن أدخل فيها فتعجبوا من قوله ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إنه يريد أن يكون صاحب القيامة الكبرى" قال حضرة الشيخ الشهير أفتاده أفندي قدس سره نحن لا نعرف حقيقة مراده عليه السلام إلا أنا نوجهه بأن يريد أن يشاهد القيامة الكبرى بأن يصل إلى مرتبة يتجلى فيها معنى قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88) فإن السالك إذا جاوز عن مرتبة الطبيعة والنفس والروح والسر يغيب عنه ما سوى الله تعالى فلا يرى له غير الله تعالى فاضمحلال ما سواه وفناؤه هو القيامة الكبرى وهذه مرتبة عظمى لا يصل إليها إلا أهل العناية.
قال الحافظ :
293
عنقا شكاركس نشوددام بازين
جزء : 3 رقم الصفحة : 291
كانجا هميشه باد بدستست دام را
فعلى العاقل الاجتهاد وبذل المجهود ليترقى إلى ما ترقى إليه أهل الخير والجود.
بال بكشا وصفير ازشجر طوبى زن
حيف باشدو تومرغى كه اسير قفسى
كاروان رفت وتودرراه كمين كاه بخواب
وه كه بس بيخبرى زين همه بانك جرسى
ونعم ما قيل :
عاشق شورانه روزى كارجهان سرآيد
تاخوانده نقش مقصوداز كاركاه هستى
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويداوي هذه القلوب المرضى وهو المعين على كل حال وفي كل حين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 291
{هُوَ} أي : الله تعالى.
{الَّذِى} أي : العظيم الشأن الذي {خَلَقَكُمْ} جميعاً وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك بوجه من الوجوه {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هو آدم عليه السلام فكما أن النفوس خلقت من نفس واحدة هي نفس آدم فكذا الأرواح خلقت من روح واحد هو روح محمد صلى الله عليه وسلّم فكان هو أبا الأرواح كما كان آدم أبا البشر لقوله عليه السلام : "إنما أنا لكم كالوالد لولده" وقوله : "أول ما خلق الله روحي" فإن أول كل نوع هو المنشأ منه ذلك النوع من الحيوان والنبات.
كر بصورت من زآدم زاده ام
من بمعنى جد جد افتاده ام
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
(3/224)
{وَجَعَلَ} أنشأ {مِنْهَآ} أي : من جنس تلك النفس الواحدة.
{زَوْجَهَا} حواء أو من جسدها لما يروى أن الله تعالى خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم عليه الصلاة والسلام والأول هو الأنسب إذ الجنسية هي المؤدية إلى الغاية الآتية لا الجزئية.
{لِيَسْكُنَ} تلك النفس والتذكير باعتبار المعنى يعني : آدم {إِلَيْهَا} أي : إلى الزوج وهي حواء أي ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئناناً مصححاً للازدواج.
{فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا} لم يقل تغشتها باعتبار آدم أيضاً.
والتغشي والتغشية التغطية بالفارسي (يزى بركسى وشانيدن) كنى به عن الجماع لأن الرجل يغطى المرأة ويسترها حال الوقاع لاستعلائه عليها {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} في مبادي الأمر فإنه عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب فانتصاب حملاً على المصدرية أو حملت محمولاً خفيفاً وهو ما في البطن من النطفة ونفس الجنين فانتصابه على المفعول به كقوله حملت زيداً وهو الظاهر والمشهور أن الحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر وبالكسر ما كان على ظهر إنسان أو على الدابة.
{فَمَرَّتْ بِهِ} أي : فاستمرت به كما كان قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت ولم تكترث بحملها فمرت من المرور بمعنى الذهاب والمضي لا من المرّ بمعنى الاجتياز والوصول يقال مرّ عليه وبه يمر مراً أي اجتاز ومر يمر مراً ومروراً ، أي : ذهب واستمر مثله والسين فيه للطلب التقديري كما في استخرجته {فَلَمَّآ أَثْقَلَت} أي : صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها {دَّعَوَا اللَّهَ} أي : آدم وحواء عليهما السلام لما دهمهما أمر لم يعهداه ولم يعرفا مآله فاهتماماً به وتضرعا إليه تعالى {رَبُّهُمَآ} أي : مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء ومتعلق الدعاء محذوف أي دعواه تعالى في أن يؤتيهما ولداً صالحاً ووعداً بمقابلته الشكر وقالا {لَـاـاِنْ ءَاتَيْتَنَا صَـالِحًا} أي : ولداً سويّ الأعضاء أو صالحاً في أمر الدين.
294
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} لك على هذه النعمة المجددة ووجه دعائهما بذلك أن آدم رأى حين أخذ الميثاق على ذريته أن منهم سويّ الأعضاء وغير السويّ وأن منهم التقي وغير التقي فسألا أن يكون هذا الولد سويّ الأعضاء أو تقياً نقياً عن المعصية فلما أعطاهما صالحاً شكرا لأنهما ليسا بحيث يعدان من أنفسهما بذلك ثم لا يفعلان ذلك يقال إن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ويقال ولدت لآدم في خمسمائة بطن ألف ولد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
ثم شرع في توبيخ المسلمين بقوله :
{فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا} أي : فلما أعطى أولادهما المشركين البالغين مبلغ الوالد ولداً صالحاً سويّ الأعضاء {جَعَلا} أي : جعل هذان الأبوان {لَهُ} أي : تعالى {شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا} بأن سميا أولادهما بعبد العزى وعبد مناف ونحو ذلك وسجدا للأصنام شكراً على هذه النعمة والأظهر تقرير أبي السعود حيث قال في "تفسيره" : {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا} أي : لما آتاهما ما طلباه أصالة واستتباعاً من الولد وولد الولد ما تناسلوا جعلا أي جعل أولادهما له تعالى : {شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا} أي : فيما أتى أولادهما من الأولاد ففي الكلام حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وإلا لزم نسبتهما أي آدم وحواء إلى الشرك وهما بريئان منه بالاتفاق ويدل على الحذف المذكور صيغة الجمع في قوله تعالى : {فَتَعَـالَى اللَّهُ} (س بزركست خداى تعالى واك) {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي : عن إشراكهم وهو تسميتهم المذكورة ولو كان المراد بالآية آدم وحواء لقال عما يشركان.
{أَيُشْرِكُونَ} به تعالى {مَا لا يَخْلُقُ شَيْـاًا} أي : لا يقدر على أن يخلق شيئاً من الأشياء أصلاً ومن حق المعبود أن يكون خالقاً لعابده.
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} عطف على ما لا يخلق يعني الأصنام وإيراد الضميرين بجمع العقلاء مبني على اعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء وكانوا يصورونها على صورة من يعقل ووصفها بالمخلوقية بعد وصفها بنفي الخالقية لإبانة كمال منافاة حالها لما اعتقدوه في حقها.
{وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي : لعبدتهم إذا حزبهم أمر مهم {نَصْرًا} أي : نصر إما بجلب منفعة أو دفع مضرة {وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كما إذا أراد أحد أن يكسرها أو يلطخها بالألواث والأرواث.
قال الحدادي : وكانوا يلطخون أفواه الأصنام بالخلوف والعسل وكان الذباب يجتمع عليها فلا تقدر على دفع الذباب عن أنفسها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
(3/225)
{وَإِن تَدْعُوهُمْ} أيها المشركون {إِلَى الْهُدَى} إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم {لا يَتَّبِعُوكُمْ} إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} أيها المشركون {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} أي : الأصنام {أَمْ أَنتُمْ صَـامِتُونَ} ساكتون أي مستوي عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم ، فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية ولم يقل أم صمتم لرعاية رؤوس الآي.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي : تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة.
{عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي : مماثلة لكم من حيث إنها مملوكةتعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر.
وقال الحدادي : سماها عباداً لأنهم صوروها على صورة الإنسان.
{فَادْعُوهُمْ} في جلب نفع وكشف ضر.
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} صيغته صيغة الأمر ومعناه التعجيز {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 295
{أَلَهُمْ} أي : للأصنام {أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} حتى يمكن استجابتهم لكم والاستجابة من
295
الهياكل الجسمانية إنما تتصور إذا كان لها محرك حياة وقوى محركة ومدركة وما ليس له شيء من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة ووصف الأرجل بالمشي بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف.
{أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والبطش الأخذ بقوة.
والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أخذه وبل للإضراب المفيد للانتقال من فن من التبكيت بعد تمامه إلى فن آخر منه {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} قدم المشي لأنه حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير.
وأما تقديمه على قوله : {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ} إلخ مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل.
وأما تقديم الأعين فلما أنها أشهر من الآذان وأظهر عيناً وأثراً ثم إن الكفار كانوا يخوفونه عليه السلام بآلهتهم قائلين نخاف أن يصيبكم بعض آلهتنا بسوء فقال الله تعالى : {قُلِ ادْعُوا} أيها المشركون {شُرَكَآءَكُمُ} واستعينوا بهم في عدواتي {ثُمَّ كِيدُونِ} فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر ، وهي أنتم وشركاؤكم فالخطاب في كيدون للأصنام وعبدتها {فَلا تُنظِرُونِ} فلا تمهلون ساعة فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله وحفظه.
اكر هر دو جهانم خصم كردند
نترسم ون نكهبا نم تو باشى
{إِنَّ وَلِـاِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَـابَ} تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاماً جلياً قوله : {وَلِـاِّىَ} بثلاث ياءات.
الأولى فاء فعيل وهي ساكنة.
والثانية لام الفعل وهي مكسورة أدغمت فيها الياء الأولى.
والثالثة ياء الإضافة وهي مفتوحة.
والولي هنا بمعنى الناصر والحافظ أضيف إلى ياء المتكلم.
والمعنى أن الذي يتولى نصرتي وحفظي هو الذي أكرمني بتنزيل القرآن وإيحائه إليّ وإيحاء الكتاب إليه يستلزم رسالته لا محالة {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـالِحِينَ} أي : ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده وينصرهم لا يخذلهم فضلاً عن أنبيائه {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} يا عبدة الأصنام {مِن دُونِهِ} أي : متجاوزين الله تعالى ودعاءه ومضمون هذه الآية ذكر أوّلاً لتقريع عبدة الأصنام وذكر ههنا إتماماً لتعليل عدم مبالاته بهم فلا تكرار {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} في أمر من الأمور {وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا نابتهم ناثبة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 295
{وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي : الأصنام {إِلَى الْهُدَى} إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم من الكيد وغيره {لا يَسْمَعُوا} أي : دعاءم فضلاً عن المساعدة والإمداد وهذا بخلاف التوجه إلى روحانية الأنبياء والأولياء وإن كانوا مخلوقين فإن الاستمداد منهم والتوسل بهم والانتساب إليهم من حيث إنهم مظاهر الحق ومجالي أنواره ومرائي كمالاته وشفعاؤه في الأمور الظاهرة والباطنة له غايات جليلة وليس ذلك بشرك أصلاً بل هو عين التوحيد ومطالعة الأنوار من مطالعها ومكاشفة الأسرار من مصاحفها.
قال الصائب :
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
الرؤية بصرية والخطاب لكل واحد من المشركين ، أي : وترى الأصنام أيها الرائي رأى العين.
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} حال من المفعول أي يشبهون الناظرين إليك ويخيل إليك أنهم يبصرونك لما إنهم صنعوا لها أعيناً مركبة بالجواهر المضيئة المتلالئة وصوروها تصوير من
296
(3/226)
قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه.
{وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} حال من فاعل ينظرون ، أي : والحال إنهم غير قادرين على الأبصار وهو بيان عجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع وقيل ضمير الفاعل في تراهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وضمير المفعول للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى : {لا يَسْمَعُوا} أي : وترى المشركين يا محمد ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرونك ببصائرهم أي كما أنت عليه فهم غائبون عنك في الحقيقة إلا أن يقروا بالتوحيد وصدق الرسالة.
ذكر أن السطر الأول من خاتم سليمان عليه الصلاة والسلام كان بسم الله الرحمن الرحيم.
والسطر الثاني : لا إله إلا الله.
والسطر الثالث محمد رسول الله فلما أدخله جبريل في أصبعه لم يقدر أصحابه أن يروه فتضرعوا فقال قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما قالوه رأوه.
وسره أنه أحاطه المهابة فلما اشتغلوا بالتوحيد حصل لهم الاستعداد والقدرة.
وحكى أن السلطان محمود الغازي دخل على الشيخ الرباني أبي الحسن الخرقاني قدس سره لزيارته وجلس ساعة ثم قال يا شيخ ما تقول في حق أبي يزيد البسطامي فقال الشيخ هو رجل من رآه اهتدى واتصل بسعادة لا تخفى فقال محمود وكيف ذلك وأبو جهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يتصل بالسعادة ولم يتخلص من الشقاوة ، فقال الشيخ في جوابه إن أبا جهل ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنما رأى محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب حتى لو كان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخرج من الشقاوة ودخل في السعادة ثم قال الشيخ ومصداق ذلك قول الله تعالى : {وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} فالنظر بعين الرأس لا يوجب هذه السعادة بل النظر بعين السر والقلب يورث ذلك فمن رأى أبا يزيد بهذه العين فاز بالسعادة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 295
براى ديدن روى تو شم ديكرم باشد
كه اين شم كه من دارم جمالت را نمى شايد
وفي الحديث : "طوبى لمن رآني ، ولمن رأى من رآني ، ولمن رأى من رأى من رآني ، ولمن رأى من رأى من رأى من رآني" كما في "الرسالة العلية" للكاشفي.
وفي "المثنوي" :
كفت طوبى من رآني مصطفى
والذي يبصر لمن وجهي رأى
ون راغى نور شمعي راكشيد
هركه ديد آنرا يقين آن شمع ديد
همنين تاصد راغ ازنقل شد
ديدن آخر لقاى اصل شد
خواه نور از واسين بستان بجان
هي فرقى نيست خواه ازشمع دان
وظهر من هنا أن رؤية الأولياء أيضاً إنما تفيد إذا كانت بالبصيرة ثم إن الرؤية تتناول ما في اليقظة وما في المنام قال بعضهم في قوله عليه السلام : "من رآني فقد رأى الحق" من رآني مطلقاً أي : سواء كانت الرؤية في اليقظة أو في المنام فقد رأى الرسول الحق.
وقال بعضهم من رآني في المنام فقد رأى الرؤيا الصادقة لا الرؤيا التي يلعب بها الشيطان.
قال الشيخ الأكمل في "شرح المشارق" : المنام الحق هو الذي يريه الملك الموكل على الرؤيا فإن الله تعالى قد وكل بالرؤيا ملكاً يضرب من الحكمة والأمثال ، وقد اطلعه الله سبحانه على قصص ولد آدم من اللوح المحفوظ فهو ينسخ منها ويضرب لكل قصة مثلاً ، فإذا نام يمثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون بشارة له أو نذارة أو معاتبة ليكونوا على بصيرة من أمرهم كذا قيل
297
انتهى.
واعلم : أن جميع الأنبياء معصومون من أن يظهر شيطان بصورهم في النوم واليقظة لئلا يشتبه الحق بالباطل.
يقول الفقير : أصلحه الله القدير سمعت من حضرة شيخي المتفرد في زمانه بعلمه وعرفانه أن الشيطان لا يتمثل أيضاً بصور الكمل من الأولياء الكرام كقطب الوجود في كل عصر فإنه مظهر تام للهدى سار في سره سر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلّم تسليماً كثيراً.
فعلى العاقل أن يترك القيل والقال ويدع الاعتراض بالمقال والحال ويستسلم لأمر الله الملك المتعال إلى أن يبلغ مبلغ الرجال ، ويتخلص من مكر الشيطان البعيد عن ساحة العز والإجلال ويكون هادياً بعد كونه مهدياً إن كان ذلك أمراً مقضياً اللهم اهدنا إلى رؤية الحق وأرنا الأشياء كما هي وخلصنا من الإشغال بالمناهي والملاهي إنك أنت الجواد لكل صنف من العباد منك المبدأ وإليك المعاد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 295
{خُذِ الْعَفْوَ} .
روي أنه صلى الله عليه وسلّم سأل جبريل "ما الأخذ بالعفو" فقال : لا أدري حتى أسأل؟ ثم رجع فقال يا محمد إن ربك أمرك أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وأن تحسن إلى من أساء إليك".
هركه زهرت دهد بدوده قند
وآنكه ازتو برد بدويوند
والعفو من أخلاقه تعالى.
(3/227)
قال سعيد بن هشام : دخلت على عائشة فسألتها عن أخلاق النبي عليه السلام قالت أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى قالت كان خلق رسول الله القرآن وإنما أدبه بالقرآن بمثل قوله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} وبقوله : {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَا إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} (لقمان : 17) وبقوله : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (المائدة : 13) وغير ذلك من الآيات الدالة على مكارم أخلاقه {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} بالجميل المستحسن من الأفعال لأنها قريبة من قبول الناس من غير نكير.
قال في "التيسير" : قالوا في العرف : تقوى الله صلة الأرحام وصون اللسان عن الكذب ونحوه وغض البصر عن المحارم وكف الجوارح عن المآثم.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} ولا تكافىء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عنهم واغضض عما يسوءك منهم ، وذلك لأنه ربما أقدم بعض الجاهلين عند الترغيب والترهيب على السفاهة والأذى والضحك والاستهزاء ، فلهذا السبب أمر الله تعالى حبيبه في آخر الآية بتحمل الأذى والحلم عمن جفا فظهر بهذا أن الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الناس معه ولم يكن صلى الله عليه وسلّم فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح كذا في "الكواشي".
روى أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كيف يا رب والغضب" فنزل قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
{وَأَمَّآ} كلمتان إن التي هي للشرط وما التي هي صلة زائدة {يَنزَغَنَّكَ} النزغ والنخس الغرز يقال نزغه طعن فيه ونزغ بينهم سد وأغرى ووسوس ونخس الدابة غرز مؤخرها أو جنبها بعود ونحوه {مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ} أي : نازغ كرجل عدل بمعنى عادل وشبهت وسوسته للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغرز السائق لما يسوقه.
والمعنى وإما يحملنك من جهته وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فالتجىء إليه تعالى من شره واعتصم {أَنَّهُ} تعالى {سَمِيعُ} يسمع استعاذتك به قولاً {عَلِيمٌ} يعلم تضرعك إليه قلباً في ضمن القول
298
أو بدونه فيعصمك من شره.
قال في "البحر" : وختم بهاتين الصفتين ؛ لأن الاستعاذة التي تكون باللسان لا تجدي إلا باستحضار معناها.
فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر واختلفوا هل المراد الشيطان أو القرين فقط والظاهر أنه في حقنا القرين قال الله تعالى : {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} (الزخرف : 36) وفي حق رسول الله صلى الله عليه وسلّم إبليس إما نحن فلأن الإنسان لا يؤذيه من الشياطين إلا ما قرن به وما بعده فلا يضر شيئاً والعاقل لا يستعيذ ممن لا يؤذيه وأما الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن قرينه قد أسلم فلا يستعيذ منه فالاستعاذة حينئذٍ من غيره وغيره يتعين أن يكون إبليس أو أكابر جنوده لأنه قد ورد في الحديث : "إن عرش إبليس على البحر الأخضر وجنوده حوله وأقربهم إليه أشدهم بأساً ويسأل كلاً منهم عن عمله وإغوائه ولا يمشي هو إلا في الأمور العظام" والظاهر أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أهم المهمات عنده فلا يؤثر به غيره من ذريته كما ورد "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي ، فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ، ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة" والدعوة قوله : {رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} وإنما لم يشده ولم يأخذه لأن التسخير التام مختص بسليمان عليه السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
فإن قلت : لم لم يمنع إبليس عن النبي صلى الله عليه وسلّم كما منع به عن السماء الشياطين.
قلت : إن الله تعالى جعل أكثر الأشياء كذلك يمنع بها ولا يمنع عنها ألا ترى أن الليل يمنع النهار والنهار يمنع الليل ولا يمنع عنهما النور والظلمة وكذلك إحياء الموتى لعيسى عليه السلام ولم يمنع عنه الموت وأيضاً لما منع الشياطين عن السماء ظنوا أنهم لا يقدرون على محمد صلى الله عليه وسلّم فسلطهم عليه ثم عصمه منهم ليعلموا أنه ليس بأيديهم شيء.
وقال النيسابوري : أراد أن يظهر لخلقه أن غيره مقهور غير معصوم ولا قاهر إلا الله تعالى.
وعن بعض العلماء إن الخطاب في قوله : "وإما ينزغنك" وإن كان للنبي عليه السلام إلا أن المراد أمته وتشريع الاستعاذة لهم.
(3/228)
يقول الفقير حفظه الله القدير : يعضده ما قال بعض الأولياء من أمته وهو أبو سليمان الداراني قدس سره ما خلق الله خلقاً أهون علي من إبليس لولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً ، وما قال البعض الآخر حين قيل له : كيف مجاهدتك للشيطان؟ وما الشيطان نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا من دونه فإذا كان هذا حال الولي فما ظنك بحال النبي ويدل عليه أيضاً كلمة إن الدالة على عد الجزم.
واعلم : أن الغضب لغير الله من نزغات الشيطان وإنه بالاستعاذة يسكن.
روي أنه صلى الله عليه وسلّم رأى رجلاً يخاصم أخاه قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه من الغضب فقال عليه السلام : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان لذهب عنه ما يجده" وفي الحديث : "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" وفي "المثنوي" :
ون زخشم آتش تودر دلها زدى
مايه نار جهنم آمدى
آتشت اينجاه آدم سوز بود
آنه ازوى زاد مرد افروز بود
299
آتش توقصد مردم ميكند
نار كزوى زاد برمدم زند
اين سخنهاى ومار وكدست
مار وكدم كشت وميكردد دمت
خشم تو تخم سعير ودوزخست
هين بكش اين دوزخت راكين فخست
وفي الحديث : "لما أراد الله أن يخلق لإبليس نسلاً وزوجة ألقى عليه الغضب فطارت منه شظية من نار فخلق منها امرأته" كذا في "حياة الحيوان".
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
والإشارة {خُذِ الْعَفْوَ} أي : تخلق بخلق الله فإن العفو من أخلاقه تبارك وتعالى : {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي : بالمعروف وهو طلب الحق تعالى لأنه معروف العارفين.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} يعني عن كل ما يدعوك إلى غير الله وعمن يطلب ما سوى الله فإن الجاهل هو الذي لا يعرف الله ولا يطلبه والعالم من يطلبه ويعرفه.
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ} في طلب غير الله {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من غير الله بأن تفر إلى الله وتترك ما سواه.
{إِنَّه سَمِيعٌ} يسمع القول والإجابة لما تدعوه إليه {عَلِيمٌ} بما ينفعك ويضرك فيسمع ما ينفعك دون ما يضرك كذا في "التأويلات النجمية".
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي : اتصفوا بوقاية أنفسهم عما يضرها.
{إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ} أدنى لمة منه وهي الوسوسة والمس ، والطائف اسم فاعل من طاف يطوف إذا دار حول الشيء كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقع بهم أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً ، أي ألمّ فالطائف بمعنى الجائي والنازل.
وفي "الصحاح" : طيف الخيال مجيئه في النوم وطيف من الشيطان وطائف منه لمم منه والخيال في الأصل اسم بمعنى التخيل وارتسام الصورة في محل القوة المتخيلة ويطلق على نفس تلك الصورة وطيفه نزوله في محل المتخيلة.
{تَذَكَّرُوا} أي : ما أمر به ونهى عنه.
وقال المولى أبو السعود : أي : الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه.
{فَإِذَا هُم} بسبب ذلك التذكر {مُّبْصِرُونَ} مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها.
{وَإِخْوَانِهِمْ} أي : إخوان الشياطين وهم المنهمكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسهم عن المضار فضمير إخوانهم للشيطان والجمع لكون المراد به الجنس.
{يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ} أي : يكون الشياطين مدداً لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحمل عليه والغي الضلال.
{ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} أي : لا يمسكون عن الإغواء حتى يردونهم بالكلية يقال أقصر عن الشيء إذا كف عنه وانتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
فعلى العاقل مباعدة أهل الطغيان ومجانبة وسوسة الشيطان.
حكي أن بعض الأولياء سأل الله تعالى أن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه الحق تعالى هيكل الإنسان في صورة بلور وبين كتفيه خال أسود كالعش والوكر فجاء الخناس يتحسس من جميع جوانبه وهو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل فجاء من بين الكتفين فأدخل خرطومه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر الله تعالى فخنس وراءه ولذلك سمي بالخناس لأنه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب ولهذا السر الإلهي احتجم صلى الله عليه وسلّم بين كتفيه وأمر بذلك ووصاه جبريل بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري وسوسته مجرى الدم ولذلك كان خاتم النبوة بين كتفيه عليه السلام إشارة إلى عصمته عليه السلام من وسوسته لقوله عليه السلام : "أعانني الله عليه فأسلم" أي بالختم الإلهي أيده به وخصه وشرفه وفضله بالعصمة الكلية فأسلم قرينه وما أسلم قرين آدم فوسوس إليه لذلك.
واعلم : أن أصل الخواطر اثنان ما يكون بإلقاء الملك وما يكون
300
بإلقاء الشيطان والفرق أن كل ما يكون سبباً للخير بحيث يكون مأمون الغائلة أي الآفة في العاقبة ولا يكون سريع الانتقال إلى غيره ويحصل بعده توجه تام إلى الحق ولذة عظيمة مرغبة في العبادة فهو ملكي وبالعكس شيطاني.(3/229)
قال بعضهم قد يلبس الشيطان ويري الباطل في صورة الحق فأجمع المشايخ على أن ما كان قوته من الحرام لا يفرق بين الخواطر الملكية والشيطانية بل منهم من قال من كان قوته غير معلوم لا يفرق بينهما.
وفي "المثنوي" :
طفل جان ازشير شيطان بازكن
بعد ازانش باملك انباز كن
تاتو تارك وملول وتيره
دانكه باديو لعين همشيره
لقمه كان نور افزود وكمال
آن بود آورده از كسب حلال
ون زلقمه توحسد بيني ودام
جهل وغفلت زايد آنرادان حرام
زابد ازلقمه حلال اندر دهان
ميل خدمت عزم رفتن آن جهان
قال حضرة شيخنا الفريد أمده الله بالمزيد في كتاب "اللائحات البرقيات" : الملك الموكل بأمر الله على قلوب أهل الحق يلقي إليهم الحق دائماً فإذا مسهم طائف من الشيطان فيذكرهم بذلك الطائف الشيطاني فهم يتذكرون ويبصرون ويمحون والشيطان المتسلط بخذلان الله على صدور أهل الباطل يلقي إليهم الباطل دائماً فإذا مسهم طائف من الرحمن فينسيهم ذلك فهم لا يتذكرون ولا يبصرون ولا يمحون فالشان الرحماني دائماً إراءة الحق حقاً والباطل باطلاً والشان الشيطاني إراءة الحق باطلاً والباطل حقاً وهذا هو السر والحكمة في كون عباد الرحمن هادين ومهديين وعباد الشيطان ضالين ومضلين لأن الإراءة الأولى هي الهداية بعينها والثانية هي الإضلال بعينه والإضلال لا بد من أنه يستلزم الضلال كما أن الهداية لا بد من أنها تستلزم الاهتداء انتهى كلامه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
قال في "التأويلات النجمية" : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} هم أرباب القلوب والتقوى من شان القلب كما قال عليه الصلاة والسلام : "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره والتقوى نور يبصرون به الحق حقاً والباطل باطلاً فلذا قال : {إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ} أي : إذا طاف حول القلب التقي النقي نوع طيف من عمل الشيطان يراه القلب بنور التقوى ويعرفه فيتذكر أنه يفسده ويكدر صفاءه ويقسيه فيجتنبه ويحترز منه فذلك قوله : {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ} يعني النفوس إخوان القلب فإن النفس والقلب توءمان ولدا من ازدواج الروح والقالب فالقلب يمد النفس في الطاعة ولولا ذلك ما صدر من القلب معصية لأنه جبل على الاطمئنان بذكر الله وطاعته.
{ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} لا يسأم كل واحد منهما من فعله ولا يدع ما جبل عليه لئلا يأمن أرباب القلوب من كيد النفوس أبداً ولا يقنط أرباب النفوس المسرفين على أنفسهم من رحمة الله من إصلاح أحوال قلوبهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم} أي : أهل مكة.
{بِـاَايَةٍ} من القرآن عند تراخي الوحي أو بآية مما اقترحوه ، كقولهم أحي لنا فلاناً الميت يكلمنا ويصدقك فيما تدعونا إليه ونحو ذلك.
{قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه ، أي : جمعه.
فالمعنى هلاّ جمعتها من تلقاء نفسك تقوّلاً كسائر ما تقرأه من القرآن فإنهم يقولون كله إفك أو هلا ميزتها واصطفيتها عن سائر مهماتك وطلبتها من الله
301
تعالى فيكون الاجتباء بمعنى الاصطفاء.
{قُلْ} رداً عليهم.
{إِنَّمَآ أَتَّبِعُ} أي : ما أفعل إلا اتباع {مَا يُوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى} لست بمختلق للآيات ولست بمقترح لها {هَـاذَآ} القرآن {بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب أخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات.
{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ؛ إذ هم المقتبسون من أنواره والمغتنمون من آثاره والجملة من تمام القول المأمور به.
وفي الآية : إشارة إلى أنه كما أن النبي يتبع الوحي الإلهي كذلك الولي يتبع الإلهام الرباني فلا قدرة على تزكية النفوس إلا بالوحي والإلهام وأيضاً لو لم يتبع الهدى لكان أهل هوى غير صالح للإرشاد وخائناً والخائن لا يكون أميناً على أسرار النبوة والولاية.(3/230)
وعن بعض أهل العلم قال : كنت بالمصطبة وإذا برجلين يتكلمان في الخلوة مع الله تعالى فلما أراد أن ينصرفا قال أحدهما للآخر تعال نجعل لهذا العلم ثمرة ولا يكون حجة علينا فقال له اعزم على ما شئت فقال عزمت على أن لا آكل ما للمخلوق فيه صنع قال فتبعتهما فقلت أنا معكما فقالا على الشرط قلت على أي شرط شرطتما فصعدا جبل لكام ودلاني على كهف وقالا تعبد فيه فدخلت فيه وجعل كل واحد منهما يأتيني بما قسم الله تعالى وبقيت مدة ثم قلت إلى متى أقيم ههنا أسير إلى طرطوس وآكل من الحلال وأعلم الناس العلم وأقرأ القرآن فخرجت ودخلت طرسوس وأقمت بها سنة وإذا أنا برجل منهما قد وقف عليّ وقال يا فلان خنت في عهدك ونقضت الميثاق أما إنك لو صبرت كما صبرنا لوهب لك ما وهب لنا قلت ما الذي وهب لكما قال ثلاثة أشياء طي الأرض من المشرق إلى المغرب بقدم واحد والمشي على الماء والحجبة إذا شئنا ثم احتجب عني فقلت بالذي وهب لكما هذا الحال ألا ما ظهرت لي فقد شويت قلبي فظهر وقال سل فقلت هل لي إلى ذلك الحال عودة فقال هيهات لا يؤمن الخائن.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
وفامجوى زكس ورسخن نمى شنوى
بهرزه طالب سيمرغ وكيميا ميباش
وفي الحكاية إشارة إلى أن الله تعالى يمن على من يشاء.
حكي أن الشيخ جوهر المدفون في عدن كان مملوكاً فعتق وكان يبيع ويشتري في السوق ويحضر مجالس الفقراء ويعتقدهم وهو أمي فلما حضرت وفاة الشيخ الكبير سعد الحداد المدفون في عدن ، قالت له الفقراء : من يكون الشيخ بعدك ، قال الذي يقع على رأسه الطائر الأخضر في اليوم الثالث من موتي عند ما يجتمع الفقراء فلما توفي اجتمع الفقراء عند قبره ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث وفرغوا من الذكر والقرآن قعدوا ينتظرون ما وعدهم الشيخ ، وإذا بطائر أخضر وقع قريباً منه فبقي كل واحد من كبار الفقراء يترجى ذلك ويتمناه فبينما هم كذلك إذا بالطائر قد طار ووقع على رأس الشيخ جوهر ولم يكن يخطر له ولا لأحد من الفقراء ذلك فقام إليه الفقراء ليزفوه إلى زاوية الشيخ وينزلوه منزلة الشميخة فبكى ، وقال كيف أصلح للمشيخة وأنا رجل سوقي وأنا لا أعرف طريق الفقراء وآدابهم وعلي تبعات وبيني وبين الناس معاملات فقالوا له هذا أمر سماوي ولا بد لك منه والله يتولى تعليمك فقال أمهلوني حتى أمضي إلى السوق وأبرأ من حقوق الخلق فأمهلوه فذهب إلى دكانه ووفى كل ذي حق حقه ، ثم ترك السوق ولزم الزاوية ولازمه الفقراء فصار جوهراً كاسمه.
قال الحافظ :
302
طالب لعل وكهر نيست وكرنه خورشيد
همنان در عمل معدن وكانست كه بود
وقال :
كوهر اك ببايد كه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلى لؤلؤ ومرجان نشود
ولما عظم سبحانه وتعالى شأن القرآن.
بقوله : {هَـاذَا بَصَائرُ لِلنَّاسِ} (الجاثية : 20) أردفه بقوله :
{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ} الذي ذكرت شؤونه العظيمة.
{فَاسْتَمِعُوا لَه} استماع قبول وعمل بما فيه فإن شأنه يوجب الاستماع مطلقاً ولما في الافتعال من التصرف والسعي والاعتمال في ذلك الفعل فرقوا بين المستمع والسامع بأن المستمع من كان قاصداً للسماع مصغياً إليه والسامع من اتفق سماعه من غير قصد إليه فكل مستمع سامع من غير عكس.
{وَأَنصِتُوا} أي : واسكتوا في خلال القراءة وراعوها إلى انقضائها تعظيماً له وتكميلاً للاستماع والفرق بين الإنصات والسكوت أن الإنصات مأخوذ في مفهومه الاستماع والسكوت فلا يقتصر في معناه على السكوت بخلاف السكوت {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي : تفوزون بالرحمة التي هي أقصى ثمراته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلمون في الصلاة ويأمرون بحوائجهم ويأتي الرجل الجماعة وهم يصلون فيسألهم كم صليتم وكم بقي فيقولون كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم بالإنصات عند الصلاة بقراءة القرآن لكونها أعظم أركانها.
استدل الإمام أبو حنيفة بهذه الآية على أن إنصات المقتدي واجب وأن قراءة الإمام قراءة المأموم فلا يقرأ خلف الإمام سواء أسر الإمام أم جهر لأنه تعالى أوجب عليه أمرين الاستماع والإنصات فإذا فات الاستماع بقي الإنصات واجباً.
وجه الاستدلال أن المراد بالإنصات المأمور به وإن كان هو النهي عن الكلام لا عن القراءة لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب على أن جماعة من المفسرين قالوا إن الآية نزلت في الصلاة خاصة حين كانوا يقرؤون القرآن خلفه عليه السلام وجعله الحدادي في "تفسيره" أصح.
قال في "الأشباه" أسقط أبو حنيفة القراءة عن المأموم بل منعه منها شفعة على الإمام دفعاً للتخليط عليه كما يشاهد بالجامع الأزهر انتهى فقراءة المأموم مكروهة كراهة التحريم وهو الأصح كما في "شرح المجمع" لابن ملك.(3/231)
قال علي رضي الله عنه : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة ، أي السنة.
يحكى أن جماعة من أهل السنة جاؤوا إلى أبي حنيفة رضي الله عنه ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويشنعوا عليه فقال لهم لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره فأشاروا إلى واحد فقال هذا أعلمكم فقالوا نعم قال والمناظرة معه مناظرة لكم قالوا نعم قال والإلزام عليه كالإلزام عليكم قالوا : نعم قال وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة قالوا : نعم قال : وكيف قالوا : لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولنا فقال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام.
قال الفقهاء : المطلوب من القراءة التدبر والتفكر والعمل به ولا يحصل ذلك إلا بالاستماع والإنصات فيجب على المؤتم ذلك وهو كالخطبة يوم الجمعة لما شرعت وعظاً وتذكيراً وجب الاستماع ليحصل فائدتها لا أن يخطب كل لنفسه بخلاف سائر الأركان لأنها شرعت للخشوع ولا يحصل لهم
303
الخشوع إلا بالسجود معه والركوع.
اعلم : أن ظهر النظم الكريم يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وعامة العلماء على استحبابها خارج الصلاة كما في التفاسير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
قال الحدادي : ولا يجب على القوم الإنصات لقراءة كل من يقرأ في غير الصلاة.
وقال الحلبي : رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن ولا يمكن للكاتب الاستماع فالإثم على القارىء لقراءته جهراً في مواضع اشتغال الناس بأعمالهم وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهراً والناس نيام يأثم كذا في "الخلاصة".
صبي يقرأ في البيت وأهله مشغولون بالعمل يعذرون في ترك الاستماع إن افتتحوا العمل قبل القراءة وإلا فلا.
وكذا قراءة الفقه عند قراءة القرآن ولو كان القارىء في المكتب واحداً يجب على المارين الاستماع وإن أكثر ويقع الخلل في الاستماع لا يجب عليهم.
ويكره للقوم أن يقرؤوا القرآن جملة لتضمنها ترك الاستماع والإنصات.
وقيل : لا بأس به والأصل فيه أن الإنصات والاستماع للقرآن فرض كفاية على ما حققه الحلبي في "الشرح الكبير".
قال في "القنية" : ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهراً عند ختم القرآن ولو قرأ واحد واستمع الباقون فهو أولى.
ورجل يكتب من الفقه أو يكرر منه وغيره يقرأ القرآن لا يلزمه الاستماع لأن النبي عليه السلام دخل على أصحابه وهم في المسجد حلقتان حلقة في مذاكرة الفقه وحلقة في قراءة القرآن وجلس في حلقة مذاكرة الفقه ولو لزم الاستماع لما فعل ذلك وفيه إشارة فضيلة الفقه ومذاكرته.
علم دين فقهست وتفسير وحديث
هركه خواند غيرازين كردد خبيث
قال في "نصاب الاحتساب" : قراءة القرآن في القبور تكره عند أبي حنيفة وعند محمد لا تكره ومشايخنا أخذوا بقول محمد لكن لا يقرأ جهراً إذا كان أهل المصيبة مشتغلين بالناس فإن القراءة جهراً عند قوم مشاغيل مكروهة.
ثم اعلم أنه يدخل في الآية الخطبة لأنها ملتبسة بقراءة القرآن فنعمل بظاهره في حق قراءة القرآن وفي حق الخطبة بطريق الاحتياط إثباتاً للحرمة بدليل فيه شبهة فيسمع الخطبة وينصت وإن صلى الخطيب على النبي صلى الله عليه وسلّم لأن ذلك جزء من الخطبة فنعمل فيه ما نعمل في الباقي إلا إذا قرأ صلوا عليه فيصلي المستمع سراً أي في نفسه وقلبه ولا يحرك لسانه لأنه توجه عليه أمران صلوا عليه وقوله أنصتوا فيصلي في نفسه وينصت بلسانه حتى يكون آتياً بهما.
واختلفوا في البعيد عن المنبر والأحوط السكوت إقامة لفرض الإنصات وإن تعذر الاستماع ولأن فيه تشبهاً بالمستمعين ولأن صوت كلامه قد يبلغ الصفوف التي أمامه فيشغلهم ويمنعهم عن استماع الخطبة.
قال في "التتارخانية" : إذا شرع الخطيب في الدعاء لا يجوز للقوم رفع الأيادي ولا أن يكون بلسانه وكذا الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام باللسان جهراً فإن فعلوا أثموا ويجوز بالقلب ويجب على العلماء منعهم فإن لم يمنعوا أثموا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
وقال في "نصاب الاحتساب" : ولا يتكلم حال الخطبة وإن كان أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر ولو لم يتكلم لكن أشار بيده أو بعينه حين رأى منكراً الصحيح أنه لا بأس به وفي الحديث : "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" أي : تكلمت بما لا ينبغي.
قال النووي : فيه نهي عن جميع أنواع الكلام لأن قوله أنصت إذا كان لغواً مع أنه أمر
304
(3/232)
بمعروف فغيره من الكلام أولى وإنما طريق النهي هنا الإنكار بالإشارة.
وفي قوله والإمام يخطب إشعار بأن هذا النهي إنما هو في حال الخطبة وهو مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يجب الإنصات بخروج الإمام لقوله عليه السلام : "إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام" أي مطلقاً سواء خطب أو لم يخطب والترجيح للمحرم وقال لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب وإذا فرغ قبل أن يشتغل بالصلاة لأن التكلم بما لا إثم فيه إنما كره للاستماع إذ الكلام يخل بفرض استماعها ليقصر على حال الخطبة إذ لا استماع قبلها وبعدها.
وفي "القنية" الكلام في خطبة العيدين غير مكروه لأن خطبة العيدين سنة فخطبة الجمعة شرط لصحة الصلاة بخلاف خطبة العيدين لقوله عليه السلام : "يوم العيد من شاء منكم أن يخرج فليخرج" والحاصل أنه إذا خرج الامام حرم كلام الناس والنافلة أما الفائتة فلا كراهة في قضائها وقت الخطبة نص عليه في "النهاية" وكذا التسبيح ونحوه جائز بالاتفاق.
قال في "الأشباه" : خرج الخطيب بعد شروعه متنفلاً قطع على رأس الركعتين يعني إن صلى ركعة ضم إليها أخرى وسلم كما في "الكافي" وإن كان شرع في الشفع الثاني أتمه كما في "الاختيار" ولو كان شرع في سنة الجمعة يتمها أربعاً على الصحيح كما في "الأشباه" وغيره وعبارة الخروج واردة على عادة العرب لأنهم يتخذون للإمام مكاناً خالياً تعظيماً لشأنه فيخرج منه حين أراد الصعود إلى المنبر وأما القاطع عن الصلاة والكلام في ديارنا فهو قيام الإمام للصعود.
قال في "التأويلات النجمية" : الإنصات شرط في حسن الاستماع وحسن الإستماع شرط في الإسماع والإشارة {أَنصِتُوا} بألسنتكم الظاهرة لتستمعوا له بآذانكم الظاهرة وأنصتوا بألسنتكم الباطنة لتستمعوا بأذانكم الباطنة {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بالاستماع بالسمع الحقيقي وهو قوله : "كنت له سمعاً فبي يسمع" فمن سمع القرآن بسمع بارئه فقد سمع من قارئه وهذا سر {الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 1 ، 2).
قال المولى الجامي مربنده سنائي غزنوى است :
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
عجب نبودكه ازقر آن نصيبت نيست جز حرفي
كه ازخرشيد جز كرمى نبيند شم نابينا
{وَاذْكُرْ} يا محمد.
{رَبَّكَ} ويجوز أن يكون المراد جميع الخلق والذكر طرد الغفلة ولذا لا يكون في الجنة لأنها مقام الحضور الدائم.
{فِى نَفْسِكَ} وهو الذكر بالكلام الخفي فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من الإجابة وهذا الذكر يعم الأذكار كلها من القراءة والدعاء وغيرها كما قال في "الأسرار المحمدية" ليس فضل الذكر منحصراً في التهليل والتسبيح والتكبير والدعاء بل كل مطيعفي عمل فهو ذاكر.
{تَضَرُّعًا} مصدر واقع موقع الحال من فاعل اذكر أي متضرعاً ومتذللاً.
والضراعة الخضوع والذل والاستكانة يقال تضرع إلى الله أي ابتهل وتذلل والابتهال الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه.
قال بعض العارفين ، بالله : الصلاة أفضل الحركات ، والصوم أفضل السكنات ، والتضرع في هياكل العبادات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات.
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه
من فضل جودك ما علمتني الطلبا {وَخِيفَةً} بكسر الخاء أصلها خوفة قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها أي وحال كونك خائفاً.
قال ابن الشيخ : وهذا الخوف يتناول خوف التقصير في الأعمال وخوف الخاتمة
305
وخوف السابقة فإن ما يكون في الخاتمة ليس إلا ما سبق به الحكم في الفاتحة ولذلك قال عليه السلام : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" انتهى.
يقول الفقير : هذا بالنسبة إلى أن يكون المراد بالخطاب في الآية هو الأمة وإلا فالأنبياء بل وكمل الأولياء آمنون به من خوف الخاتمة والفاتحة نعم لهم خوف لكن من نوع آخر يناسب مقامهم ولما كان أكمل أحوال الإنسان أن يظهر عزة ربوبية الله وذلة عبودية نفسه أمر الله بالذكر ليتم المقصود الأول وقيده بالتضرع والخيفة ليتم المقصود الثاني.
اي خنك آنراكه ذلت نفسه
واي آنكسى راكه بردى رفسه
{وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} صفة لمحذوف هو الحال أي ومتكلماً كلاماً هو دون الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر فمن أمّ في صلاة الجهر ينبغي له أن لا يجهر جهراً شديداً بل يقتصر على قدر ما يسمعه من خلفه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
(3/233)
قال في "الكشف" : لا يجهر فوق حاجة الناس وإلا فهو مسيء.
والفرق بين الكراهة والإساءة هو أن الكراهة أفحش من الإساءة ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر رضي الله عنه يقرأ رافعاً صوته فسأله فقال أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان قال عليه السلام : "اخفض من صوتك قليلاً" وأتى أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ خافضاً صوته فسأله فقال قد أسمعت من ناجيت فقال عليه السلام : "ارفع من صوتك قليلاً" وقد جمع النووي بين الأحاديث الواردة في استحباب الجهر بالذكر والواردة في استحباب الإسرار به بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى المصلون أو النائمون والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ولأنه يوقظ قلب الذاكر ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط وبالجملة إن المختار عند الاخيار أن المبالغة والاستقصاء في رفع الصوت بالتكبير في الصلاة ونحوه مكروه والحالة الوسطى بين الجهر والإخفاء مع التضرع والتذلل والاستكانة الخالية عن الرياء جائز غير مكروه باتفاق العلماء كذا في "أنوار المشارق" وقد سبق من شارح "الكشاف" أن الشيخ المرشد قد يأمر المبتدي برفع الصوت لتنقلع من قلبه الخواطر الراسخة فيه.
{بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ} متعلق باذكر ، أي : اذكره في هذين الوقتين وهما البكرات والعشيات فإن الغدو جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والآصال : جمع أصيل وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب والعشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة وخص هذان الوقتان لأن فيهما تتغير أحوال العالم تغيراً عجيباً يدل على أن المؤثر فيه هو الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة القاهرة فكل من شاهد هذه التغيرات ينبغي له أن يذكر المؤثر فيها بالتضرع والابتهال والخوف من تحويل حاله إلى سوء الحال ، وقيل : الغدو والآصال عبارتان عن الليل والنهار اكتفى عن ذكرهما بذكر طرفيهما والمراد بذكره تعالى فيهما المواظبة عليه بقدر الإمكان.
{وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ} عن ذكر الله تعالى أمر أولاً بأن يذكر ربه على وجه يستحضر في نفسه معاني الأذكار التي يقولها بلسانه فإن المراد بذكر الله في نفسه أن يذكره تعالى عارفاً بمعاني ما يقول من الأذكار ثم أتبعه بقوله : {وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ} للدلالة على أن الإنسان ينبغي له أن لا يغفل قلبه عن استحضار جلال الله
306
تعالى وكبريائه وفي الحديث : "ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر الله" أي : ما هو خير لكم مما ذكر ذكر الله سبحانه ؛ لأن ثواب الغزو والشهادة في سبيل الله حصول الجنة ، والذاكر جليس الحق تعالى كما قال : "أنا جليس من ذكرني" والجليس لا بد أن يكون مشهوداً فالحق مشهود الذاكر وشهود الحق أفضل من حصول الجنة ولذلك كانت الرؤية بعد حصول الجنة وكمال تلك النعمة ، والذكر المطلوب من العبد ، أن يذكر الله باللسان ويكون حاضراً بقلبه وروحه وجميع قواه بحيث يكون بالكلية متوجهاً إلى ربه فتنتفي الخواطر وتنقطع أحاديث النفس عنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
ثم إذا داوم عليه ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه ولا يزال يذكر بذلك حتى يتجلى له الحق من وراء أستاء غيوبه فينور باطن العبد بحكم ، {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ويعده إلى التجليات الصفاتية والاسمائية ثم الذاتية فيفنى العبد في الحق فيذكر الحق نفسه بما يليق بجلاله وجماله فيكون الحق ذاكراً ومذكوراً وذلك بارتفاع الثنوية وانكشاف الحقيقة الأحدية كذا في "شرح الفصوص" لداود القيصري في الكلمة اليونسية :
ون تجلى كرد أوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث راكليم
(3/234)
واعلم : أن من اشتغل باسم من الأسماء وداوم فيه فلا ريب أن يحصل بينه وبين سر هذا الاسم المشتغل به وروحه بعناية الله تعالى وفضله مناسبة ما بقدر الاشتغال ومتى قويت تلك المناسبة وكملت بحسب قوة الاشتغال وكماله يحصل بينه وبين مدلوله من الأسماء الحقية بواسطة هذه المناسبة الحاصلة مناسبة بقدرها قوة وكمالاً ومتى بلغت إلى حد الكمال أيضاً هذه المناسبة الثانية الحاصلة بينه وبين هذا الاسم بجود الحق سبحانه وعطائه يحصل بينه وبين مسماه الحق تعالى مناسبة بمقدار المناسبة الثانية من جهة القوة والكمال لأن العبد بسبب هذه المناسبة يغلب قدسه على دنسه ويصير مناسباً لعالم القدس بقدر ارتفاع حكم الدنس فحينئذٍ يتجلى الحق سبحانه له من مرتبة ذلك الاسم بحسبها وبقدر استعداده ويفيض عليه ما شاء من العلوم والمعارف والأسرار الإلهية والكونية حسبما يقتضيه الوقت ويسعه الموطن وتستدعيه القابلية فيطلع بعد ذلك على ما يطلع عليه قبله فيحصل له العلم والمعرفة بعد الجهل والغفلة كذا في "حواشي تفسير الفاتحة" لحضرة شيخنا الأجل أمدنا الله بمدده إلى حلول الأجل ، واتفق المشايخ والعلماء بالله على أن من لا ورد له لا وارد له ، وانقطاعه عن بعض ورده بسبب من الأسباب سوى السفر والمرض والهرم والموت علامة البعد من الله تعالى والخذلان ، فينبغي لمن كان له ورد ففاته ذلك أن يتداركه ويأتي به ولو بعد أسبوع ومن هنا تقضي الصوفية التهجد مع أنه ليس من الفرائض والسر في هذا أن المراد من الأوراد بل من سائر العبادات تغيير صفات الباطن وقمع رذائل القلب وآحاد الأعمال يقال آثارها بل لا يحس بآثارها وإنما يترتب الأثر على المجموع وإذا لم يكن يعقب العمل الواحد أثراً محسوساً ولم يردف بثان وثالث على القرب والتوالي انمحى الأثر الأول أيضاً ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلّم "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" أي العمل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
قال ابن ملك : وإنما كان العمل الذي يداوم عليه أحب لأن النفس تألف به ويدوم بسببه الإقبال على الله تعالى ولهذا ينكر أهل التصوف ترك الأوراد كما ينكرون
307
ترك الفرائض انتهى.
قال بعض العلماء بالله : لا يستحقر الورد إلا جهول ، يعني : بحق ربه وحظ نفسه ووجه وصوله إليهما أن الوارد يوجد في الدار الآخرة على حسب الورد إذ جاء في الحديث : "إن الله تعالى يقول ادخلوا الجنة برحمتي وتقاسموها بأعمالكم" والورد ينطوي بانطواء هذه الدار فيفوت ثوابه بحسب فواته إذ هو مرتب عليه.
وأولى ما يعتني به عند العقلاء الأكياس ما لا يخلف وجوده ؛ إذ تذهب فائدته بذهابه فإذا تعللت نفسك بعدم طلب الثواب فقل لها الورد هو طالب ذكره منك إذ هو حق العبودية وإن ركنت إلى طلب العوض فقل والوارد أنت تطلبينه منه لا من حظ نفسك وأين ما هو طالبه منك من واجب حقه مما هو مطلبك منه من غرضك وحظك فطب نفساً بالعمل لمولاك وسلم له فيما به يتولاك فقد قالوا كن طالب الاستقامة ولا تكن طالب الكرامة فإن نفسك تهتز وتطلب الكرامة ومولاك يطالبك بالاستقامة ولأن تكون بحق ربك أولى لك من أن تكون بحظ نفسك.
قال الحافظ :
صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور
باخيال تواكر با دكرى ردازم
قال في "التأويلات النجمية" : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي : اذكره بالأفعال والأخلاق والذات في نفسك بأن تبدل أفعال نفسك بالأعمال التي أمر الله بها وتبدل أخلاقها بأخلاق الله وتفني ذاتها في ذات الله وهذا كما قال : "وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" وهو سر قوله {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 52) ألا ترى أن الفراش لما ذكر الشمعة في نفسه بإفناء ذاته في ذاتها كيف ذكرته الشمعة بإبقائه ببقائها على أن تلك الحضرة منزهة عن المثل والمثال {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} التضرع من باب التكلف أي بداية هذا الذكر بتبديل أفعال النفس بأعمال الشريعة تكون بالتكلف ظاهرة ووسطه بالتخلف بأخلاق الله وبآداب الطريقة يكون مخفياً باطناً ونهايته بإفناء ذاتها في ذاته بأنوار الحقيقة تكون منهياً عن جهر القول بها وهذا حقيقة قوله عليه السلام : "إفشاء سر الربوبية كفر" {بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ} يشير إلى غدو الأزل وآصال الأبد فإن الذكر الحقيقي والمذكور الحقيقي هو الذاكر الحقيقي والذكر والمذكور في الحقيقة هو الله الأزلي الأبدي لأنه تعالى قال في الأزل : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 52) ففي الأزل ذكرهم لما خاطبهم وكان هو الذاكر والمذكور على الحقيقة على أنا نقول ما ذكره إلا هو وهذا حقيقة قول يوسف بن حسين الرازي ما ذكر أحد الله إلا الله ولهذا قال تعالى : {وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ} الذين لا يعلمون أن الذاكر والمذكور هو الله في الحقيقة انتهى ما في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
(3/235)
{إِنَّ الَّذِينَ} قال الكاشفي : (آورده اندكه كفار مكة تعظم ميكردند از سجده نمودن مر خدايرا وتنفر نموده ميكفتند {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (الفرقان : 60) (حق سبحانه وتعالى ميفر مايد اي محمد اكركفاران ازسجود من سركشى ميكنند بدرستى آنانكه).
{عِندَ رَبِّكَ} أي : الملائكة المقربين لديه قرب الشرف والمكانة لاقرب المسافة والمكان.
{لا يَسْتَكْبِرُونَ} (كردن نمى كشند) {عَنْ عِبَادَتِهِ} بل يؤدونها حسبما أمروا به.
{وَيُسَبِّحُونَهُ} أي : ينزهونه عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه {وَلَهُ} تقديم الجار على الفعل للحصر.
{يَسْجُدُونَ} أي : يخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به شيئاً وهو تعريض بسائر المكلفين ولذلك
308
شرع السجود عند قراءتها.
واعلم أن السجدة نهاية الخضوع وإنما شرعت في موضع جبراً للنقصان كسجود السهو وفي موضع لمخالفة الكفار والموافقة للمسلمين.
قال الكاشفي : (سجده تلاوت هارده موضع است در قرآن واختلاف درد وموضع است يكى در آخر سوره حج بمذهب امام شافعي وإمام أحمد سجده هست وبمذهب امام أعظم نيست ودوم درسوره ص بمذهب إمام أعظم هست لأن النبي عليه السلام قرأ سورة ص وسجد وبمذهب باقي ائمه نه) لأن المذكور فيها ركوع لا سجود واختلف في موضع السجود في فصلت فعند علي رضي الله عنه هو قوله : {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وبه أخذ الشافعي وعند عمر وابن مسعود رضي الله عنهما هو قوله : {لا يَسْـاَمُونَ} فأخذنا به احتياطاً فإن تأخير السجدة لازم لا تقديمها (ونزد امام أعظم سجده تلاوت برخواننده وشنونده درنماز وغير نماز واجبست درحال واكر فوت شود قضا لازمست وبمذهب أئمة ديكر سنت وقضا لازم نه) ويكره تأخير السجدة من غير ضرورة ويستحب أن يقوم القاعد فيكبر ويسبح تسبيح الصلاة ويكبر ويقوم ثم يقعد لكون الخرورو فيه أكمل.
قوله تسبيح الصلاة أي يقول "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً وهو الأصح وقيل يقول : "خضعت للرحمن فاغفر لي يا رحمن" وقيل يقول : "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك" وهو مختار صاحب "الأسرار المحمدية" ويروي فيه عن نفسه سماع هاتف يأمره بالدعاء بذلك وكان صلى الله عليه وسلّم يقول في سجود التلاوة "سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صورته وشق سمعه وبصره بحوله وقوته" يقولها مراراً ثم يقول : "فتبارك الله أحسن الخالقين اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود عليه الصلاة والسلام" قال ابن فخر الدين الرومي إن قرأ سجدة سبحان ضم إليها ما ذكره سبحانه وتعالى عن الطائفة الساجدين واستحسن عنهم بقوله : {سُبْحَـانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} (الإسراء : 108) وإن قرأ آية التنزيل أو الأعراف قال : "اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك" وإن قرأ ألم السجدة قال : "اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة كتابك" وإن قرأ سجدة والنجم قال : "اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك" وكذا في غيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
قال المولى أخي لبى وإن لم يذكر فيها شيئاً أجزأه لأنها لا تكون أقوى من السجدة الصلاتية ويستحب للسامع أن يسجد مع التالي ولا يرفع رأسه قبله لأنه بمنزلة إمامه ويشترط نية السجود للتلاوة لا التعيين حتى لو كان عليه سجدات متعددة فعليه أن يسجد عددها وليس له أن يعين أن هذه السجدة لآية كذا وهذه لآية كذا ويستحب للتالي إخفاؤها إذا لم يكن السامع متهيئاً للسجود تحرزاً عن تأثيمه وإذا كان متهيئاً يستحب له أن يجهل حثّاً له على العبادة.
قال الإمام الخبازي في "حواشي الهداية" : يستحب أن يصلي على النبي عليه السلام كلما ذكر ولا تستحب السجدة كلما تليت تلك الآية إذا كان المجلس واحداً والفرق أن الرسول عليه السلام محتاج والرب عزّ وجل غير محتاج.
قال الإمام محمد بن العربي قدس سره في روح القدس له : اعلم أن لا شيء أنكأ على إبليس من ابن آدم في جميع أحواله في صلاته من سجوده لأنه خطيئته فكثرة السجود وتطويله يحزن الشيطان
309
وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده لأنه حينئذٍ يذكر الشيطان معصيته فيحزن فيشتغل بنفسه عنك ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" فالعبد في سجوده معصوم من الشيطان غير معصوم من النفس فخواطر السجود كلها إما ربانية أو ملكية أو نفسية وليس للشيطان عليه من سبيل فإذا قام من سجوده غابت تلك الصفة عن إبليس فزال حزنه فاشتغل بك انتهى كلامه.
(3/236)
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن الشيطان إنما أبى عن السجود لاستكباره فكل من استكبر عنه كالكفار كان الشيطان قرينه في جميع أحواله وكل من تواضع فسجد كالمؤمنين اعتزل عنه الشيطان في تلك الحال لا في جميع الأحوال إلا أن يزكي نفسه عن رذيلة الكبر فحينئذٍ يتخلص في جميع أحواله ويكون من العباد المخلصين :
زينت تو س كمر بند كى
تاج تودر سجده سر افكند كى
شرم توبادا كه ببالاو بست
سجده طاعت بردش هره هست
توكنى از سجده او سر كشى
به كه ازين شيوه قدم در كشى
(وحشرت شيخ الإسلام قدس سره فرموده سرى كه دروسجودي نيست سفه به ازدست وكفى كه دروجودى نيست كفه به ازدست) ونعم ما قال :
شرف نفس بجودست وكرامت بسجود
هركه اين هردوندارد عدمش به زوجود
قال في "التأويلات النجمة" : {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} يعني : الذين أفنوا أفعالهم وأخلاقهم وذواتهم في أوامر الله وأخلاقه وذاته فما بقوا عند أنفسهم وإنما بقوا ببقاء الله عنده.
{لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لأن الاستكبار من أخلاقهم وقد أفنوها في أخلاقه فما بقي لهم الاستكبار فكيف يستكبرون عن عبادته وقد أفنوا أفعاله في أوامر الله وهي عبادته فأعمالهم قائمة بالعبادة لا بالفعل وهم في حال الفناء عن أنفسهم والبقاء بالله.
{وَيُسَبِّحُونَهُ} أي : ينزهونه عن الحلول والاتصال والاتحاد وعن أن يكون هو العبد والعبد إياه بل هو هو كما كان في الأزل لم يكن شيئاً مذكوراً.
{وَلَه يَسْجُدُونَ} في الوجود والعدم من الأزل والأبد سجدوا له من الأزل في العدم منقادين مسخرين قابلين لأحكام القدرة في الإيجاد للوجود وسجدوا له إلى الأبد في الوجود ببذل الموجود منقادين مسخرين قابلين لأحكام القدرة في تصاريف الإعدام والإيجاد والإبقاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
تمت سورة الأعراف بالرحم والراف مع ما يتعلق بها من التفسير والتأويل على وجه عديل سويّ من غير تطويل وذلك في العشر الأول من صفر الخير المنتظم في سلك شهور سنة إحدى ومائة وألف من هجرة من له العز والشرف ويتلوها سورة الأنفال وقد حان الاغتنام بغنائمها بعون الله الملك العزيز القوي المتعال.
310
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
سورة الأنفال
مدنية وآيها ست وسبعون وقيل مكية
جزء : 3 رقم الصفحة : 310
{يَسْاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ} أي : عن حكم الغنائم فالسؤال استفتائي ، ولهذا عُدَّي بكلمة عن لا استعطائي ، كما يقال سألته درهماً لأن السؤال قد يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول فيتعدى ؛ إذ ذاك بعن كما قال :
سلي إن جهلت الناس عني وعنهمو
وقد يكون لاقتضاء مال ونحوه فيتعدى ؛ إذ ذاك إلى المفعولين كالمثال المذكور.
والنفل الزيادة وسميت الغنيمة به ؛ لأنها عطية من الله زائدة على ما هو الأجر في الجهاد من الثواب الأخروي وعلى ما أعطاه لسائر الأمم حيث لم يحل لهم الغنائم وكانت تنزل نار من السماء فتأكلها ، والنافلة من الصلاة : ما زاد على الفرض ويقال لولد الولد نافلة لأنه زيادة على الولد ويطلق على ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه من الغنم.
روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف تقسم وإلى أين تصرف ومن الذين يتولون قسمتها أهم المهاجرون أم الأنصار أم هم جميعاً فنزلت فضمير يسألون لأصحاب بدر لتعينهم حال نزول الآية فلا حاجة إلى سبق الذكر صريحاً.
والمعنى يستفتونك في حكم الأنفال.
{قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي : أمرها وحكمها مختص به تعالى يقسمها الرسول كيفما أمر به من غير أن يدخل فيه رأي أحد.
قال الحدادي : إضافة الغنائم إلى الله على جهة التشريف لها وإضافتها إلى الرسول لأنه كان بيان حكمها وتدبيرها إليه.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي : إذا كان أمر الغنائمورسوله فاتقوا الله تعالى واجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لسخطه تعالى.
{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ذات البين هي الأحوال التي تقع بين الناس كما ذات الصدور هي المضمرات الكائنة فيها وذات الإناء هي ما حل فيه من الطعام والشراب ، ولما كان ما حل في الشيء ملابساً له قيل إنه صاحب محله وذوه ، مثل أن يقال : اسقني ذا إنائك ، أي الماء الذي فيه أي واصلحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم وذلك لأن المقاتلة قالوا لنا الغنائم وأرادوا أن لا يواسوا الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311(3/237)
قال عبادة بن الصامت : نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بتسليم أمره ونهيه.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلق بالأوامر الثلاثة ، والمراد بالإيمان كماله فإن أصل الإيمان لا يتوقف على التحلي بمجموع تلك الأمور كلها ، بل يتحقق بمجرد الطاعة بقبول ما حكم الله ورسوله به والاعتقاد بحقيته ، والمعنى : إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على هذه الخصال الثلاث.
واعلم : أن كثرة السؤال توجب الملال ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، والمنع وهات ، وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال" ففي الحديث فوائد.
منها النهي عن عقوق الوالدين لأنه من الكبائر وإنما اقتصر على الأم اكتفاء بذكر أحدهما كقوله تعالى : {وَاللَّهُ وَرَسُولُه أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} (التوبة : 62) أو لأن حقها أكثر وخدمتها أوفر.
وفيه نهي عن وأد البنات وهو فعل الجاهلية كان الواحد منهم إذا ولد له ابن تركه ، وإذا ولد له بنت دفنها حية وإنما حملهم على ذلك خوف الإملاق ودفع العار والأنفة عن أنفسهم وأراد بالمنع الامتناع عن أداء ما يجب ويستحب.
وبهات الإقدام على أخذ ما يكره ويحرم.
وفيه نهي عن المقاولة
311
بلا ضرورة وقصد ثواب فإنها تقسى القلوب.
وفيه نهي عن كثرة السؤال.
قال ابن ملك : يجوز أن يراد به سؤال أموال الناس وأن يراد به سؤال الإنسان عما لا يعنيه.
وفيه نهي عن إضاعة المال : وهي إنفاقه في المعاصي والإسراف به في غيرها كالإسراف في النفقة والبناء والملبوس والمفروش وتمويه الأواني والسيوف بالذهب.
قال في "التأويلات النجمية" : فلما أكثروا السؤال قال عليه السلام : "ذروني ما تركتكم فإنه إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" ومن كثرة سؤالهم قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ} وإنما سألوا ليكون الأنفال لهم فقال على خلاف ما تمنوا {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} يعملان فيها ما شاءا لا كما شئتم لتتأدبوا ولا تعترضوا على الله والرسول بطريق السؤال وتكونوا مستسلمين لأحكامهما في دينكم ودنياكم ، ولا تحرصوا على الدنيا لئلا تشوبوا أعمالكم الدينية بالأعراض الدنيوية.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي : اتقوا بالله عن غير الله وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الرديئة والهمم الدنيئة ، وهي الحرص على الدنيا والحسد على الإخوان وغيرهما من الصفات الذميمة التي يحجب بها نور الإيمان عن القلوب.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالتسليم لأحكامهما والائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نواهيهما.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تحقيقاً لا تقليداً فإن المؤمن الحقيقي هو الذي كتب الله بقلم العناية في قلبه الإيمان وأيده بروح منه فهو على نور من ربه.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
بود كبرى در زمان با يزيد
كفت او را يك مسلمان سعيد
كه ه باشد كرتواسلام آورى
تا بيابى صد نجات وسروري
كفت اين ايمان اكرهست اي مريد
آنكه دارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن
كان فزون آمدزكو ششهاى جان
كره درايمان ودين نا موقنم
ليك در ايمان أو بس مؤمنم
مؤمن ايمان أو يم در نهان
كره مهرم هست محكم بردهان
باز ايمان كرخود ايمان شماست
نى بدان ميلستم ونى اشتهاست
آنكه صد مبلش سوى ايمان بود
ون شمارا ديد آن باطل شود
زانكه نامى بيند ومغنيش نى
ون بيابان را مفازه كفتنى
اللهم اجعلنا متحققين بحقائق الإيمان وأوصلنا إلى درجات العرفان والإحسان.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي : إنما الكاملون في الإيمان المخلصون فيه {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} عندهم {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} من هيبة الجلال وتصور عظمة المولى الذي لا يزال وهذا الخوف لازم لأهل كمال الإيمان سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو مؤمناً تقياً نقياً ، وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه لا يحصل بمجرد ذكر الله بل بملاحظة المعصية وذكر عقاب الله انتقاماً من العصاة وأين من يهم بمعصية فيقال له : اتققِ الله ، فينزع عنها خوفاً من عقابه ممن ينزع بمجرد ذكره من غير أن يذكر هناك ما يوجب النزع من صفاته وأفعاله استعظاماً لشأنه الجليل وتهيباً منه.
واعلم : أن شأن نور الإيمان أن يرق القلب ويصفيه عن كدورات صفات النفس وظلماتها ويلين قسوته فيلين إلى ذكر الله ويجد شوقاً إلى الله وهذا حال أهل البدايات ، وأما حال أهل النهايات فالطمأنينة والسكون
312
(3/238)
بالذكر ولما جاء قوم حديثو عهد بالإسلام فسمعوا القرآن كانوا يبكون ويتأوّهون ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : هكذا كنا في بداية الإسلام ثم قست قلوبنا يشير بذلك إلى نهايته في الاطمئنان.
{وَإِذَا تُلِيَتْ} قرئت {عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُهُ} أي : آيات الله يعني القرآن أمراً ونهياً وغير ذلك.
{زَادَتْهُمْ} أي : تلك الآيات والإسناد مجازي.
{إِيمَـانًا} أي : يقيناً وطمأنينة نفس فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج والبراهين موجب لزيادة الاطمئنان وقوة اليقين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
قال الفاضل التفتازاني ، وتبعه المولى أبو السعود في "تفسيره" : إن نفس التصديق مما يقبل الزيادة والنقصان للفرق الظاهر بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات وبين يقين الأمة ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه "ولو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" وكذا بين ما قام عليه دليل واحد من التصديقات وما قامت عليه أدلة كثيرة.
قال الكاشفي : (در حقايق سلمى مذكورست كه ببركت تلاوت نور يقين در باطن ايشان ظاهر كردد وزيادتي طاعت بر ظاهر ايشان هو يدا شود.
ودر بحر الحقايق فرموده كه ايمان حقيقي نوريست كه بقدر سعت روزنه دل دروى مى تابد س ون قرآن برارباب قلوب خوانند روزنه دل ايشان ببركت قرائت كشادة تركردد ونور ايمان بيشتر دروى افتد س درنور جمال مستغرق كردند) {وَعَلَى رَبِّهِمْ} مالكهم ومدبر أمورهم خاصة.
{يَتَوَكَّلُونَ} يفوضون أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
قال في "التأويلات النجمية" : {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على الدنيا وأهلها فإن من شاهد بنور الإيمان جمال الحق وجلاله ، فقد استغرق في بحر لجي من شهود الحق بحيث لا يتفرغ لغيره ويرى الأشياء مضمحلة تحت سطوات جلاله فيكون توكلهم عليه لا على غيره :
هركه او در بحر مستغرق شود
فارغ از كشتى واز زورق شود
غرقه دريا بجز دريا نديد
غير دريا هست بروى نا ديد
ولما ذكر أولاً من الأعمال الحسنة أعمال القلوب من الخشية والوجل عند ملاحظة عظمة الله تعالى وجلاله والإخلاص والتوكل عقب بأفعال الجوارح التي هي العيار عليها كالصلاة والصدقة فقال :
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} بوضوئها وركوعها وسجودها في مواقيتها وهو مرفوع على أنه نعت للموصول الأول {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} أعطيناهم من الأموال.
{يُنفِقُونَ} في طاعة الله وإنما خص الله الصلاة والزكاة لعظم شأنهما وتأكيد أمرهما.
{أولئك} الجامعون لأعمال القلب والقالب.
{هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} إيماناً {حَقًّا} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه الأعمال الصالحة {لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ} كائنة {عِندَ رَبِّهِمْ} أي : كرامة وزلفى وعلو مرتبة وقيل درجات عالية في الجنة على قدر أعمالهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
قال في "أنوار المشارق" : الدرجة إن كانت بمعنى المرقاة فجمعهما درج وإن كانت بمعنى المرتبة والطبقة فجمعهما درجات.
{وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (وروزى بزرك صافى باشد ازكدّ اكتساب وخالى ازخوف حساب) لا ينتهي ولا ينقطع كأرزاق الدنيا.
قال في "القاموس" : رزقاً كريماً كثيراً وقولاً كريماً سهلاً ليناً وأكرمه وكرمه عظمه ونزهه (امام قشيرى قدس سره فرموده كه رزق كريم آنست كه
313
مرزوق را ازشهود رازق باز ندارد).
تو زروزى ده بروزى واممان
از سبب بكذر مسبب بين عيان
از مسبب ميرسد هر خير وشر
نيست زاسباب وسائط اي در
اصل بيند ديده ون اكمل بود
(3/239)
فرعبيند ديده ون احول بود قال في "المجالس المحمودية" : اعلم أن الصلاة أعظم الأعمال القالبية والصدقة خير العبادات المالية.
وروي أن فاطمة أعطت قميصها علياً ليشتري لها ما اشتهاه الحسن ، فباعه بستة دراهم فسأله سائل فأعطاه إياها فاستقبله رجل ومعه ناقة فاشتراها على المدة بستين ديناراً ثم استقبله رجل فاشترى منه الناقة بستين ديناراً وستة دراهم ، ثم طلب بائع الناقة ليدفع له ثمنها فلم يجده فعرض القصة على النبي عليه السلام فقال عليه السلام : "أما السائل فرضوان ، وأما البائع فميكائيل وأما المشتري فجبرائيل" وفي الحديث : "يأتي يوم القيامة أربعة على باب الجنة بغير حساب ، الحاج الذي حج البيت بغير إفساد ، والشهيد الذي قتل في المعركة ، والسخي الذي لم يلتمس بسخاوته رياء ، والعالم الذي علم بعلمه فيتنازعون في دخول الجنة أولاً ، فيرسل الله جبرائيل ليحكم بينهم بالعدل ، فيقول للشهيد : ما فعلت في الدنيا حتى تريد أن تدخل الجنة أولاً؟ فيقول قتلت في المعركة لرضى الله تعالى ، فيقول : ممن سمعت أن من قتل في سبيل الله يدخل الجنة ، فيقول من العلماء فيقول احفظ الأدب ولا تتقدم على معلمك ، ثم يسأل الحاج والسخي كذلك ثم يقول لهما احفظا الأدب ولا تتقدما على معلمكما ، ثم يقول العالم إلهي أنت تعلم أني ما حصلت العلم إلا بسخاوة السخي وأنت لا تضيع أجر المحسنين ، فيقول الله : صدق العالم يا رضوان افتح الباب وأدخل السخي أولاً" وفي ذلك إشارة إلى أن المراد بالعالم هو الذي يعمل بعلمه فإن الإنصاف من شأنه إذ الإنصاف لا يحصل إلا بصلاح النفس ، ولا يمكن ذلك إلا بالعمل فلا يغترّ أهل الهوى من علماء الظاهر بذلك فإن كون العلم المجرد منجياً مذهب فاسد ، فإن العالم الفاجر أشد عذاباً من الجاهل بل العالم هو الذي يعمل بعلمه ويصل إلى العرفان بتصفية القلب ولا شك أن كون المذكورين في الآية مؤمنين حقاً بسبب خدمتهمتعالى بأنفسهم وأموالهم تجردهم عن العلائق البدنية والمالية وبقائهم مع الله تعالى وإيثارهم له على جميع ما سواه حتى على أنفسهم فمن آثر الحق على ما سواه ، فقد وصل إلى أقصى مراداته فلا بد أن الله تعالى يدبر أمره ويقضي حاجاته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} المراد بإخراج الله تعالى إياه كونه سبباً آمراً له بالخروج وداعياً إليه فإن جبرائيل عليه السلام أتاه وأمره بالخروج.
{مِنا بَيْتِكَ} في المدينة {بِالْحَقِّ} حال من مفعول أخرجك أي أخرجك ملتبساً بالحق ، وهو إظهار دين الله وقهر أعداء الله والكاف في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال ، وهي قسمة غنائم بدر بين الغزاة على السواء من غير تفرقة بين الشبان المقاتلين وبين الشيوخ الثابتين تحت الرايات كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهتهم لما رأيت فإن في طبع المقاتلة شيئاً من الكراهة لهذه القسمة مع كونها حقاً كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حق.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ} أي : والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبع عن القتال أو لعدم الاستعداد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
قال سعدى لبى المفتي : الظاهر أن المراد هي الكراهة الطبيعية التي لا تدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد أنها لا تليق بمنصب
314
(3/240)
الصحابة رضي الله عنهم.
روي أن عير قريش أي : قافلتهم أقبلت من الشام ، وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل ، وكان في السنة الثانية من الهجرة فأخبر جبريل رسول الله بإقبالها فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال ، فلما خرجوا سمعه أبو سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستفزهم ويخبرهم أن محمداً قد اعترض لعيركم فأدركوها ، فلما بلغ أهل مكة هذا الخبر نادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم وأموالكم ، أي : تداركوها إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً وفد رأت عاتكة أخت العباس بن عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا ، فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها أي رمى بها إلى فوق فلم يبقَ بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة فحدث بها العباس صديقاً له ، يقال له : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وذكرها عتبة لابنته ففشا الحديث : فقال أبو جهل : للعباس يا أبا الفضل ما يرضى رجالكم أن يتنبؤوا حتى تنبأت نساؤكم ، فخرج أبو جهل بأهل مكة وهم النفير ، فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداًحتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فتتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير ، وأنا قد أغضضناه فمضى بهم إلى بدر وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزل جبريل فقال يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشاً فاستشار النبي عليه السلام أصحابه فقال : "ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير" فقالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم ردد عليهم فقال : "إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل" يريد صلى الله عليه وسلّم بذلك أن تلقي النفير وجهاد المشركين آثر عنده وأنفع للمؤمنين من الظفر بالعير لما في تلقي النفير من كسر شوكة المشركين ، وإظهار الدين الحق على الأديان كلها ، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فقام عند ما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام في اتباع مراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قام سيد الخزرج سعد بن عبادة فقال انظر في أمرك وامضضِ فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امضضِ لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف فتبسم رسول الله ثم قال : "أشيروا علي أيها الناس" وهو يريد الأنصار ، أي : بينوا لي ما في ضميركم في حق نصرتي ومعاونتي في هذه المعركة وذلك لأن الأنصار كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة أن ينصروه ما دام في المدينة ، وإذا خرج منها لا يكون عليهم معاونة ونصرة فأراد عليه السلام أن يعاهدهم على النصرة ، في تلك المعركة أيضاً فقال سعد بن معاذ : فكأنك تريدنا يا رسول الله قال : "أجل" قال قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا
315
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
ومواثيقنا على السمع والطاعة فامضضِ يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل وما نكره أن تلقى بنا عدونا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونشطه قول سعد ثم قال : "سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" فالمعنى أخرجك ربك من بيتك لأن تترك التوجه إلى العير وتؤثر عليه مقاتلة النفير في حال كراهة فريق من أصحابك ما آثرته من محاربة النفير.
(3/241)
{يُجَـادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} الذي هو تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير.
{بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} منصوب بيجادلونك وما مصدرية ، أي : يخاصمونك بعد تبين الحق وظهوره لهم بإعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير وهلا قلت لنا إن الخروج لمقاتلة النفير لنستعد ونتأهب فمن قال ذلك إنما قال كراهة لإخراجه عليه الصلاة والسلام من المدينة وكراهتهم القتال.
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} الكاف في محل النصب على الحالية من الضمير في لكارهون أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل.
{وَهُمْ يَنظُرُونَ} حال من ضمير يساقون أي والحال إنهم ينظرون إلى أسباب الموت ويشاهدونها عياناً وما كانت هذه المرتبة من الخوف والجزع إلا لقلة عددهم وعدم تأهبهم وكونه رجالة.
وروي أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ليس فيهم إلا فارسان الزبير والمقداد ولهم سبعون بعيراً وست أدرع وثمانية أسياف وكان المشركون أكثر عدداً وعدداً بالأضعاف.
والإشارة : أن الله تعالى أخرج المؤمنين الذين هم المؤمنون حقاً من أوطان البشرية إلى مقام العندية بجذبات العناية.
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ} أي : من وطن وجودك بالحق أي بمجيء الحق من تجلى صفات جماله وجلاله.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ} أي : القلب والروح يعني للفناء عند التجلي فإن البقاء محبوب والفناء مكروه على كل ذي وجود يجادلونك أي الروح والقلب في الحق أي مجيء الحق من بعد ما تبين مجيئه لكراهة الفناء كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يعني كأنهم ينظرون إلى الفناء ولا يزول البقاء بعد الفناء كمن يساق إلى الموت كذا في "التأويلات النجمية".
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
شير دنيا جويد اشكارى وبرك
شير مولى جويد آزادى ومركونكه اندر مرك بيند صد وجود
همو روانه بسوزاند وجود
كل شيء هالك جز وجه او
ون نه در وجه اوهستى مجوهركه اندر وجه ما باشد فنا
كل شيء هالك نبود جزا
زانكه در "الا" ست اواز "لا" كذشت
هركه در "الا" ست أو فاني نكشت
واعلم : أنه كما لا اعتراض على الأنبياء في وحيهم وعباراتهم كذلك لا اعتراض على الأولياء في إلهامهم وإشاراتهم وأن السعادة في العمل والأخذ بآياتهم والوجود وإن كان محبوباً لأهل الوجود لكن الفناء محبوب لأهل الشهود.
فعلى السالك أن ينقطع عن جميع اللذات الدنيوية ويطهر نفسه عن لوث الأغراض الدنية ويكون الرسول وأمره أحب إليه من نفسه إلى
316
أن ينفد عمره.
روى البخاري عن عبد الله بن هشام أنه قال : كنا مع النبي عليه السلام وهو آخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال صلى الله عليه وسلّم "لا والذي نفس محمد بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" أي : لا يكون إيمانك كاملاً حتى تؤثر رضاي على رضى نفسك وإن كان فيه هلاكك فقال عمر الآن والله أنت أحب إلي من نفسي فقال : "الآن يا عمر" يعني صار إيمانك كاملاً.
قال ابن ملك : والمراد من هذه المحبة محبة الاختيار لا محبة الطبع لأن كل أحد مجبول على حب نفسه أشد من غيرها انتهى.
قوله محبة الاختيار وهو أن يختار رضى النبي عليه السلام على رضى نفسه فالمراد هو الإيثار ، كما قال تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر : 9) فكما أن هذا الإيثار لا يقتضي عدم احتياج المؤثر فكذلك إيثار رضى الغير لا يستدعي أن تكون المحبة له أشد من كل وجه هذا ولكن فوق هذا كلام فإن من فني عن طبيعته ونفسه بل عن قالبه وقلبه فقد فني عن محبتها أيضاً وتخلص من الاثنينية ووصل إلى مقام المحبوبية الذي لا غاية وراءه رزقنا الله وإياكم ذلك بفضله وكرمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314(3/242)
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} أي : اذكروا أيها المؤمنون وقت وعد الله تعالى إياكم.
{إِحْدَى الطَّآاـاِفَتَيْنِ} أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير.
{أَنَّهَا لَكُمْ} بدل اشتمال من إحدى الطائفتين مبين لكيفية الوعد أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم مسخرة لكم تتسلطون عليها تسلط الملاك على أملاكهم وتتصرفون فيها كيف شئتم.
{وَتَوَدُّونَ} عطف على يعدكم داخل تحت الأمر بالذكر أي : تحبون.
{أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} من الطائفتين لا ذات الشوكة وهي النفير ورئيسهم أبو جهل وهم ألف مقاتل وغير ذات الشوكة هي العير ؛ إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ورئيسهم أبو سفيان ولذلك يتمنونها.
والشوكة : الحدة ، أي السلاح الذي له حدة كسنان الرمح والسيف ونصل السهم مستعار من واحدة الشوك والشوك نبت في طرفه حدة كحدة الإبرة.
{وَيُرِيدُ اللَّهُ} عطف على تودون منتظم معه في سلك التذكير أي اذكروا وقت وعده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتكم لأدناهما ، وقوله تعالى : {أَن يُحِقَّ الْحَقَّ} أي : يثبته ويعليه {بِكَلِمَـاتِهِ} بأمره لكم بالقتال.
{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَـافِرِينَ} أي : آخرهم ويستأصلهم بالمرة.
والمعنى إنكم تريدون أن تصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين.
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ} اللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها ، أي : لهذه الغاية الجليلة وهي إظهار الدين الحق وإبطال الكفر فعل ما فعل لا لشيء آخر وليس فيه تكرار ؛ إذ الأول مذكور لبيان تفاوت ما بين الإرادتين إرادة الله وإرادة المؤمنين ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلى الله عليه وسلّم على اختيار التوجه إلى ذات الشوكة ونصره عليها وقطع دابر المشركين ومعنى إحقاق الحق إظهار حقيته لا جعله حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} أي : المشركون ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} أي : اذكروا وقت استغاثتكم وهي طلب الفوز والنصر والعون وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله
317
تعالى قائلين أي رب انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا.
وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو "اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه ، وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز ما وعدك فهذه الاستغاثة كانت من النبي عليه السلام ومن المؤمنين وإسناد الفعل إلى الجماعة لا ينافي كونه من النبي عليه السلام لأنه دعا وتضرع والمؤمنون كانوا يؤمنون.
{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} أي : أجاب عطف على تستغيثون داخل معه في حكم التذكير.
{إِنِّي} بأني {مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} أي : جاعلين غيرهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد رؤساؤهم المستتبعون لغيرهم حتى صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} عطف على مقدر أي فأمدكم الله بإنزال الملائكة عياناً وما جعل ذلك الإمداد لشيء من الأشياء.
{إِلا بُشْرَى} أي : إلا للبشارة لكم بأنكم تنصرون فهو استثناء مفرغ من أعم العلل.
{وَلِتَطْمَـاـاِنَّ بِهِ} أي : بالإمداد {قُلُوبِكُمْ} فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم وفي قصر الإمداد عليها إشعار بعدم مباشرة الملائكة للقتال وإنما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين وتكثير سواده ونحوه ولو بعثهم الله بالمحاربة لكان يكفي ملك واحد فإن جبريل أهلك بريشة واحدة من جناحه سبعاً من مدائن قوم لوط وأهلك بصيحة واحدة جميع بلاد ثمود.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
قال الحدادي : وهذا القول أقرب إلى ظاهر الآية وقيل : نزل جبرائيل في خمسمائة من الملائكة على الميمنة ، وفيها أبو بكر رضي الله عنه ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقاتلوا وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.
وروي أن رجلاً قال تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي {وَمَا النَّصْرُ} أي : حقيقة النصر على الإطلاق.
{إِلا} كائن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} من غير أن يكون فيه شركة من جهة الأسباب فإن إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوهما وسائط لا تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها ونعم ما قيل :
النصر ليس بأجناد مجندة(3/243)
لكنه بسعادات وتوفيق {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يغالب في حكمه ولا ينازع في أقضيته.
{حَكِيمٌ} يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
واعلم أن للملائكة أمداداً في كل جيش حق ، وإن لم يكونوا مرئيين ومشاهدين بحسب أبصارنا وهم في الحقيقة إشارة إلى القوى الروحانية الغالبة ، فإنها إذا ظهرت في وجود المجاهر بالجهاد الأكبر لا يقابلها شيء من القوى الأنفسية الشريرة المغلوبة وكذا ما كان مظاهرها من كفار الظاهر وإنما العمدة هي اليقين والاطمئنان.
روي أن بني إسرائيل أعطوا السكينة وهي ريح ساكنة تخلع قلب العدو بصوتها رعباً إذا التقى الصفان وهي معجزة لأنبيائهم وكرامة لملوكهم وللسكينة معنيان آخران : أحدهما شيء من لطائف صنع الحق يلقى على لسان محدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء مع ترويح
318
الأسرار وكشف السر ، وثانيهما ما أنزل على قلب النبي عليه السلام وقلوب المؤمنين وهو وشيء يجمع نوراً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين وقد ورثه المجاهدون في سبيل الله بعدهم إلى قيام الساعة وإنما لا يظهر في بعض الأحيان والوقائع لحكمة أخفاها الله عن الغافلين.
هر خلل كاندر عمل بيني زنقصان دلست
رخنه كاندر قصر بيني ازقصور قيصر ست
وكل عصر على التنزل بالنسبة إلى ما قبله ولذا لا يظهر النصر في بعض السرايا بل يقال يا أيها الكفرة اقتلوا الفجرة.
قيل لعلي رضي الله عنه : ما بال خلافة عثمان مع خلافتك كانت متكدرة بخلاف خلافة الشيخين قال : كنت أنا وعثمان من أعوانهما وأنت وأمثالك من أعواننا فعلى المجاهدين أن يستغيثوا ربهم ويتضرعوا إليه كما تضرع الأصحاب رضي الله عنهم ومن يليهم لعل الله تعالى يظهر نصره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
دعاى ضعيفان اميدواره
ز بازوى مردى به آيد بكار
ألا يا أيها المرء الذي في عسره أصبح
إذا اشتد بك الأمر فلا تنس ألم نشر
واعلم : أن أصدق المقال قول الله تعالى وقول رسوله وقد وعد وأمد فعليك بقوة الإيمان واليقين.
قال الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره في وصايا "الفتوحات" : ولقد ابتلى عندنا رجل من أعيان الناس بالجذام نعوذ بالله منه ، وقال الأطباء بأسرهم لما أبصروه : وقد تمكنت العلة فيه ما لهذا المرض دواء فرأه شيخ من أهل الحديث يقال له سعد السعود ، وكان عنده إيمان بالحديث عظيم ، فقال له : يا هذا لِمَ لا تطيب نفسك فقال له الرجل إن الأطباء قالوا ليس لهذه العلة دواء ، فقال سعد السعود كذبت الأطباء والنبي عليه السلام أحذق منهم وقد قال في الحبة السوداء "إنها شفاء من كل داء" وهذا الداء الذي نزل بك من جملة ذلك ، ثم قال عليّ بالحبة السوداء والعسل فخلط هذا بهذا وطلى بهما بدنه كله ووجهه ورأسه إلى رجليه وألعقه من ذلك وتركه ساعة ، ثم إنه غسل فانسلخ من جلده ونبت له جلد آخر ونبت ما كان قد سقط من شعره وبرىء وعاد إلى ما كان عليه في حال عافيته ، فتعجب الأطباء والناس من قوة إيمانه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان رحمه الله يستعمل الحبة السوداء في كل داء يصيبه ، حتى في الرمد إذا رمدت عينه اكتحل بها فبرىء من ساعته انتهى كلام الشيخ فقد عرفت أن الاطمئنان وقوة الإيمان يجلب للمرء ما يهواه بعناية الملك المنان لكنه قليل أهله خصوصاً في هذا الزمان والله المعين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} قال جماعة من المفسرين : لما أمر الله النبي عليه السلام بالمسير إلى الكفار سار بمن معه حتى إذا كان قريباً من بدر لقي رجلين في الطريق فسألهما هل مرت بكما العير؟ قالا : نعم مرت بنا ليلاً وكان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشرة من المسلمين فأخذوا الرجلين وكان أحدهما عبداً للعباس بن عبد المطلب ، يقال له أبو رافع ، والآخر عبداً لعقبة بن أبي معيط ، يقال له : أسلم كانا يسقيان الماء فدفع أسلم إلى أصحابه يسألونه ، وأخذ هو يسأل أبا رافع عمن خرج من أهل مكة فقال ما بقي بها أحد إلا وقد خرج ، فقال عليه السلام "تأتي مكة اليوم بأفلاذ كبدها" ثم قال : "هل رجع منهم أحد" قال نعم أبيّ بن سريق في ثلاثمائة من بني زهرة وكان خرج لمكان العير فلما أقبلت العير رجع فسماه النبي عليه السلام الأخنس حين خنس بقومه ، ثم أقبل على
319
(3/244)
أصحابه وهم يسألون أسلم وكان يقول لهم خرج فلان وفلان وأبو بكر يضربه بالعصا ، ويقول له كذبت أتجبن الناس فقال عليه السلام : "إن صدقكم ضربتموه وإن كذبكم تركتموه" فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد عرف أمرهم فساروا حتى نزلوا في كثيب أعفر ، أي : في تل من الرمل الأحمر تسوخ فيه الأقدام أي تدخل وتغيب على غير ماء بالجانب الأقرب من المدينة من الوادي ، ونزل المشركون بجانبه الأبعد من المدينة الأقرب إلى مكة والوادي بينهما ثم باتوا ليلتم تلك وناموا ، ثم استيقظوا وقد أجنب أكثرهم وغلب المشركون على ماء بدر وليس معهم ماء فتمثل لهم الشيطان فوسوس إليهم وقال : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم أولياء الله وفيكم رسوله وإنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق ما سبقكم المشركون إلى الماء وغلبوكم عليه وما ينتظرون إلا أن يضعفكم العطش ، فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة فحزنوا حزناً شديداً فأشفقوا فأنزل الله عليهم المطر ليلاً حتى سال الوادي وامتلأ من الماء فاغتسل المسلمون وتوضؤوا وشربوا وسقوا دوابهم وبنوا على عدوته أي جانبه حياضاً واشتد الرمل وتلبدت بذلك أرضهم وأوحل أرض عدوهم حتى ثبتت عليها الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس وقويت القلوب وتهيؤوا للقتال من الغد فذلك قوله تعالى : {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} أي : اذكروا أيها المؤمنون وقت جعل الله النعاس وهو أول النوم قبل أن يثقل غاشياً لكم ومحيطاً وملقى عليكم.
{أَمَنَةً مِّنْهُ} منصوب على العلية بفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كلاً لا وإعياء فيتحد الفاعلان لأن الأمن فعل النعاس.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن النعاس في المعركة عند مواجهة العدو والأمن منه بدل الخوف إنما هو من تقليب الحال إلى ضده بأمر التكوين ، كما قال تعالى للنار : يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : 69) فكانت كذلك قال للخوف كن أمناً على محمد وأصحابه فكان انتهى.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : "النعاس عند القتال أمن من الله تعالى وهو في الصلاة من الشيطان".
قال الحسن : إن للشيطان ملعقة ومكحلة فملعقته الكذب ومكحلته النوم عند الذكر.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} أي : بذلك الماء يعني المطر من الحدث والجنابة.
{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ} أي : وسوسته وتخويفه إياكم من العطش ، ويقال أراد بالرجز الجنابة التي أصابتهم بالاحتلام فإن الاحتلام إنما يكون من رجز الشيطان ، أي : تخييله ووسوسته ولذلك قال بعضهم من كتب اسم عمر على صدره لم يحتلم فإن الشيطان كان يفر منه ويسلك فجاً غير الفج الذي أقبل هو منه.
{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} الربط الشد والتقوية وعلى صلة.
والمعنى وليربط قلوبكم ويشدها ويقويها بجعلها واثقة بلطف الله تعالى وكرمه وجيء بكلمة على للإيذان بأن قلوبهم امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
{وَيُثَبِّتَ بِهِ} أي : بذلك الماء {الاقْدَامَ} حتى لا تسوخ في الرمل ، ويجوز أن يكون الضمير للربط فإن الأقدام إنما تثبت في الحرب بقوة القلب وتمكن الصبر والجراءة فيه.
دلا در عاشقي ثابت قدم باش
كه در اين ره نباشد كار بى اجر
320
وبمثل الصدق والصبر وارتباط القلب وثبات الأقدام سادت الصحابة الكرام من عداهم إلى يوم القيام ولا فضل لأحد على أحد إلا بالديانة والتقوى.
(3/245)
قال الزهري : قدمت على عبد الملك بن مروان ، قال من أين قدمت يا زهري؟ قلت : من مكة ، قال فمن خلفت فيها يسود أهلها؟ قال : قلت عطاء بن رباح ، قال : فمن العرب أم من الموالي؟ قلت : من الموالي قال : بِمَ سادهم قلت بالديانة والرواية قال : إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس ، قال : فمن يسود أهل اليمن؟ قلت : طاووس بن كيسان قال : فمن العرب أم من الموالي؟ قلت : من الموالي ، قال : فبِمَ سادهم؟ قلت : بما ساد به عطاء ، قال من كان كذلك ينبغي أن يسود الناس قال : فمن يسود أهل مصر؟ قلت يزيد بن أبي حبيب.
قال : فمن العرب أم من الموالي؟ قلت : من الموالي ؛ فقال : كما قال في الأولين ثم قال فمن يسود أهل الشام؟ قلت : مكحول الدمشقي ، فقال : من العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل ، فقال : كما قال ثم قال فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت : ميمون بن مهران ، قال : فمن العرب أم من الموالي؟ قلت : من الموالي ، فقال : كما قال ، ثم قال فمن يسود أهل حرمنا؟ قلت الضحاك بن مزاحم ، فقال من العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي ، فقال : كما قال ، ثم قال فمن يسود أهل البصرة؟ قلت : الحسن بن أبي الحسن ، قال من العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي ، قال ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت : إبراهيم النخعي ، قال من العرب أم من الموالي؟ قلت من العرب قال ويلك يا زهري فرجت عني والله ليسودن الموالي على الأكابر حتى يخطب لها على المنابر ، وإن العرب تحتها قال قلت يا أمير المؤمنين إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
وفي الآية : بيان نعمة الماء وأن الخوف من العطش وكذا من الجوع من الشيطان ووسوسته فإن المرء إذا كان قوي التوكل يستوي عنده الفقد والوجود والله تعالى من اسمه الخالق والرازق قالوا وللأسد من الصبر على الجوع وقلة الحاجة إلى الماء ما ليس لغيره من السباع ولا يأكل من فريسة تركها ولم يعد إليها وإذا امتلأ بالطعام ارتاض ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب فينبغي للمؤمن أن لا يكون أدون من الأسد في هذه الصفات.
على المرء أن يسعى لتحسين حاله
وليس عليه أن يساعده الدهر والله تعالى قد سنّ الإعانة بإعانته للمؤمنين فالمؤمن الكامل يساعد المؤمن حسب الطاقة.
وحكي أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام من آل ساسان لما ملك عدل وأنصف ولما مضى سبع سنين من ملكه ولم ينزل من السماء مطر أرسل إلى كل بلد بأن يقسم طعام كل بلد بين الأغنياء والفقراء وإذا مات فقير من الجوع قتل من الأغنياء رجلاً بدلاً منه.
قال الحافظ :
توانكرا دل درويش خود بدست آور
كه مخزن زر وكنج درم نخواهد ماند
اللهم احفظنا من البخل والكسل إلى حلول الأجل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
{إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة} الوحي إلقاء المعنى إلى النفس من وجه خفي ، والمعنى : اذكر يا محمد وقت إيحائه تعالى إلى الملائكة {أَنِّي مَعَكُمْ} مفعول يوحى ، أي : بالإمداد والتوفيق في أمر التثبيت فليس القصد إزالة الخوف كما في {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة : 40) ؛ إذ لا خوف للملائكة من الكفار حتى يقال لهم إني معكم
321
فلا تخافوهم وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية الملائكة إنما هو من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورة فلهم الأصالة من تلك الحيثية ، كما في أمثال قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالبشارة وتكثير السواد ونحوها مما تقوى به قلوبهم والتثبيت عبارة عن الحمل على الثبات في مواطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال.
{سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أي : سأقذف في قلوبهم المخافة من المؤمنين وهو تلقين للملائكة ما يثبتونهم به كأنه قيل قولوا لهم قولي سألقي إلخ {فَاضْرِبُوا} أيها المؤمنون فلا دلالة في الآية على قتال الملائكة {فَوْقَ الاعْنَاقِ} أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس.
قال الحدادي : وإنما أمر الله بضرب الأعناق لأن أعلى جلدة العنق هو المقتل.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} البنان في اللغة : هو الأصابع وغيرها من الأعضاء التي بها يكون قوام الإنسان وحياته ، والمقصود اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها.
وقيل : الوجه أن يراد بها المدافعة والمقاتلة ، وكذا قال التفتازاني.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
{ذَالِكَ} الضرب والقتل والعقاب واقع عليهم.
{بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب أنهم {شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي : خالفوا وغالبوا من لا سبيل إلى مغالبته أصلاً.
قال ابن الشيخ : معنى شاقوا الله شاقوا أولياء الله واشتقاق المشاقة من الشق لما أن كلاً من المشاقين في شق خلاف شق الآخر كما أن المحادة أن يصير أحدهما في حد غير حد الآخر.(3/246)
وفي الآية : إشارة إلى أن كل سعادة وشقاوة تحصل للعبد في الدنيا والآخرة يكون للعبد فيها مدخل بالكسب.
{وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي : ومن يخالف أولياء الله ورسوله {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} له.
قال الحدادي : أما إظهار التضعيف في موضع الجزم في قوله : {يُشَاقِقِ اللَّهَ} فهو لغة أهل الحجار وغيرهم يدغم أحد الحرفين في الآخر لاجتماعهما من جنس واحد ، كما قال تعالى في سورة الحشر {وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ} (الحشر : 4) بقاف واحدة.
{ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} قوله ذلكم خبر مبتدأ محذوف وقوله وأن إلخ معطوف عليه ، وقوله : (فذوقوه) اعتراض والضمير لما في ضمن المشار إليه من العقاب ، والتقدير حكم الله ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلاً وثبوت عذاب النار آجلاً ، وإنما قال في عذاب الدنيا فذوقوه لأن الذوق يتناول اليسير من الشيء فكل ما يلقى الكفار من ضرب أو قتل أو أسر أو غيرها في الدنيا فهو بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة بمنزلة ذوق المطعوم بالنسبة إلى آكله.
قال في "التأويلات النجمية" : {فَذُوقُوهُ} أي : ذوقوا العاجل منه صورة ومعنى أما صورة فبالقتل والأسر والمصائب والمكروهات ، وأما معنى فبالبعد والطرد عن الحضرة وتراكم الحجب وموت القلب وعمى البصيرة وضعف الروح وقوة النفس واستيلاء صفاتها وغلبة هواها وما يبعده عن الحق ويقربه إلى الباطل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال سوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم صفوفهم وقدموا راياتهم فوضعوها مواضعها فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بعير له يدعو الله ويستغيث فهبط جبريل عليه السلام في خمسمائة على ميمنتهم وميكائيل عليه السلام في خمسمائة على ميسرتهم فكان الملك يأتي الرجل من المسلمين على صورة رجل ، ويقول له دنوت من عسكر المشركين فسمعتهم يقولون ، والله لئن حملوا علينا
322
لا نثبت لهم أبداً وألقى الله في قلوب الكفرة الرعب بعد قيامهم للصف ، فقال عتبة بن ربيعة : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش نقاتلهم فقام إليهم بنو عفراء من الأنصار عوذ ومعوذ أمّهم عفراء وأبوهم الحارث ، فمشوا إليهم ، فقالوا لهم : ارجعوا وأرسلوا إلينا أكفاءنا من بني هاشم ، فخرج عليهم حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، فقال علي : مشيت إلى الوليد بن عتبة ومشى إلي فضربته بالسيف أطرت يده ثم بركت عليه فقتلته ، فقام شيبة بن ربيعة إلى عبيدة بن الحارث فاختلفا بضربتين ثم ضرب عبيدة ضربة أخرى فقطع ساق شيبة ، ثم قام حمزة إلى عتبة ، فقال : أنا أسد الله وأسد رسوله ، ثم ضربه حمزة فقتله فقام أبو جهل في أصحابه يحرضهم يقول : لا يهولنكم ما لقي هؤلاء فإنهم عجلوا فاستحقوا ثم حمل هو بنفسه ثم حمل المسلمون كلهم على المشركين فهزموهم بإذن الله تعالى" وفي حق هؤلاء السادات ورد "اطلع الله على أهل بدر" يعني نظر إليهم بنظر الرحمة والمغفرة "فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" المراد به إظهار العناية بهم وإعلاء رتبتهم لا الترخيص لهم في كل فعل كما يقال للمحبوب اصنع ما شئت.
فعلى العاقل أن يقتفي بأثرهم في باب المجاهدة مطلقاً.
قال الحافظ :
درره نفس كزوسينه ما بتكده شد
تير آهى بكشاييم وغزايى بكنيم
وقال في حق أهل الجزع :
ترسم كزين من نبرى آستين كل
كز كلشنش تحمل حارى نميكنى
اللهم اجعلنا من الصابرين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لقيه أي رآه {زَحْفًا} الزحف الدبيب يقال زحف الصبي زحفاً من باب فتح إذا دب على استه قليلاً قليلاً سمي به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو ؛ لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف وذلك لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فيحس حركته بالقياس إليه في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة ونصبه على حال من مفعول لقيتم بمعنى زاحفين نحوكم ، والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل.
{فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ} فلا تولوهم أدباركم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد وتساووهم ، عدل عن لفظ الظهور إلى لفظ الأدبار تقبيحاً لفعل الفار وتشنيعاً لانهزامه والتولية جعل الشيء يلي غيره وهو متعد إلى مفعولين وولاه دبره إذا جعله إليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
(3/247)
{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَهُ} أي : ومن يجعل ظهره إليهم وقت اللقاء والقتال فضلاً عن الفرار فيومئذٍ هنا بمعنى حينئذٍ ؛ لأن اليوم وإن كان اسماً لبياض النهار إذا أطلق لكنه إذا قرن به فعل لا يمتد يراد به مطلق الوقت.
{إِلا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء ، وإما بالفر للكر بأن يخيل لعدوه أنه منهزم ليغره ويخرجه من بين أعوانه ثم يعطف عليه وحده أو مع من في المكمن من أصحابه وهو باب من خدع الحرب ومكايدها ، يقال : انحرف وتحرف إذا مال من جانب إلى جانب آخر والحرف الطرف والجانب وانتصابه على الحالية والتقدير ومن يولهم ملتبساً بحال من الأحوال أية حال كانت إلا في حال كذا.
{أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي : منحازاً إلى جماعة أخرى من المؤمنين قريبة أو بعيدة لينضم إليهم ، ثم يقاتل معهم العدو فالانهزام حرام
323
إلا في هاتين الحالتين فإن كل واحدة منهما ليست انهزاماً في الحقيقة بل من قبيل التهيؤ والتقوى للحرب فمن ولى ظهره لغير أحد هذين الغرضين.
{فَقَدْ بَآءَ} أي : رجع {بِغَضَبٍ} عظيم كائن {مِّنَ اللَّهِ} تعالى في الآخرة {جَهَنَّمَ} أي : بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه من مأوى ينجيه من القتل والمأوى المكان الذي يأوي إليه الإنسان أي يأتيه.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي : المرجع جهنم وهذا الوعيد وإن كان بحسب الظاهر متناولاً لكل من يولي دبره وقت ملاقاة الكفار إلا أنه مخصوص بما إذا لم يزد العدو على ضعف المسلمين لقوله تعالى في آخر هذه السورة : {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِا وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (الأنفال : 66).
قال ابن عباس رضي الله عنه : من فر من ثلاثة لم يفر ومن فرّ من اثنين فقد فر أي ارتكب المحرم وهو كبيرة الفرار من الزحف.
وفي "المثنوي" :
اين نين هوشى كه ازموشى ريد
اندر آن صف تيغ ون خواهد كشيد
الش است آن حمزه خوردن نيست اين
تاتو بر مالى بخوردن آستين
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
نيست حمزه خودن اينجا تيغ بين
حمزه بايد درين صف آهنين
كار هر نازك دلى نبود قتال
كه كر يزد از خيالي ون خيال
كار تركانست نى تركان برو
جاى تركان هست خانه خانه شو
وعد بعض العلماء الكبائر إلى سبعين منها : الفرار من الجيش في الغزو إذا كان مثلاً أو ضعفاً ، وكل ما كان شنيعاً بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله والدين فهي كبيرة تسقط العدالة في الشهادة ، فعلى العاقل أن يقدم على الحرب بقلب جريء ويعلم أن الجبن لا يؤخر أجله وأن الإقدام على القتال لا يعجل موته ويتشبه الغازي في أوان المقاتلة بأصناف من الخلق فيكون كقلب الأسد لا يجبن ولا يفر كما أن الأسد مقدام غير جبان وكرار غير فرار وفي كبر النمر بالفارسية (لنك) لا يتواضع للعدو وفي شجاعة الدب يقاتل بجميع جوارحه وفي جملة الخنزير لا يولي دبره إذا حمل أي لا يعرض وجهه عما توجه إليه وفي إغارة الذئب إذا يئس من وجه أغار من وجه آخر والإغارة بالفارسية (يغما كردن) ، وفي حمل السلاح الثقيل كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه وفي الصبر كالحمار وفي الوفاء كالكلب لو دخل سيده النار يتبعه ، وفي التماس الفرصة والظفر كالديك ويكون في الصف ساكناً كالمصلي الخاشع ، ويكون في متابعة أمير العسكر كمتابعة المأموم إمامه في الصلاة أي لا يخالفه أصلاً ويغطي نفسه بالسلاح كتغطية البكر نفسها بالثياب إذا زفت أي أرسلت إلى الزوج وفي تكثير قليل سلاحه وماله كالمرائي إذا قل ماله وعبادته ويكون في المكر والحيلة إذا هزمه العدو أي غلب عليه كالثعلب إذا اضطره الكلب فإن مدار الحرب على الخداع وفي التبختر والخيلاء بين الصفين كالعروس وفي الخفة في تحريف القتال من جانب إلى آخر كالصبي وفي صياحه إذا صاح بالعدو كالرعد وهو اسم ملك على قول وفي سوء ظنه أي في الحذر عما يهلكه في جميع أحواله كالغراب الأبقع وهو الذي فيه سواد وبياض وفي حراسته والاحتراز عن المكاره كالكركي وهو طير معروف لازوردي اللون يشابه اللقلق في الهيئة بالفارسية (كلتك) ومن الحيوان الذي لا يصلح إلا برئيس لأن في طبعه الحرس والتحارس بالنوبة والذي يحرس يهتف بصوت خفي كأنه يندر بأنه حارس
324
فإذا قضى نوبته قام الذي كان نائماً يحرس مكانه حتى يقضي كل ما يلزمه من الحراسة.
قال القزويني والكركي : لا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه ويعلق الأخرى وإن وضعها وضعها خفيفاً مخافة أن تخسف به الأرض كذا في "حياة الحيوان".
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
(3/248)
والإشارة : أيها القلوب المؤمنة إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا من سطوات النفوس وغلبات صفاتها بل اثبتوا بالصبر عند صدمات النفوس فإن الصبر عند الصدمة الأولى كما روي أن النبي عليه السلام أتى على امرأة تبكي على صبي ميت لها فقال : "اتقي الله واصبري" فقالت وما تبالي على مصيبتي فلما ذهب عليه السلام قيل لها إنه رسول الله فأخذها مصيبة مثل موت صبيها فجاءت بابه تستعذره وتقول لم أعرفك يا رسول الله فقال عليه السلام : "الصبر عند الصدمة الأولى" الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله والصدمة مرة منه ، يعني : الصبر المأجور عليه صاحبه ما كان عند فجأة المصيبة وحدتها لأنه إذا طالت الأيام عليه صار الصبر أيسر له {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه إِلا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} يعني : إلا قلباً ينحرف ليهيىء أسباب القتال مع النفس أو راجعاً إلى الاستمداد من الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ يستمد منها إلى الحضرة الربانية في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة والرياضة.
{فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} يعني : بطرد وإبعاد منه {وَمَأْوَاـاهُ جَهَنَّمُا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي : مرجعه جهنم البعد عن الحضرة ونار القطيعة وبئس المرجع والمعاد.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} أي : إن افتخرتم بقتل الكفار يوم بدر فاعلموا أنكم لم تقتلوهم بقوتكم وقدرتكم.
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.
روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي قال عليه السلام : "هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني" فأتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلي رضي الله عنه "أعطني من حصباء الوادي" فرمى بها في وجوههم وقال : "شاهت الوجوه" أي : قبحت فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا على التفاخر يقولون قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت والظاهر أن قوله : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} رجوع إلى بيان بقية قصة بدر والفاء جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم كما هو محتار المولى أبي السعود في "تفسيره" {وَمَا رَمَيْتَ} يا محمد حقيقة {إِذْ رَمَيْتَ} صورة وإلا لكان أثر الرمي من جنس آثار الأفاعيل البشرية.
5
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أتى بما هو غاية الرمي فأوصل أجزاء تلك القبضة إلى عيون جميع المشركين حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم فصورة الرمي صدرت منه عليه السلام إلا أن أثرها إنما صدر من الله تعالى إذ ليس في وسع البشر أن يرمي كفاً من الحصباء في وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء.
واللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه كإطلاق المؤمن على المؤمن الكامل.
قال في "التأويلات النجمية" : إن الله نفى عن الصحابة القتل بالكلية وأحاله إلى نفسه لأنه تعالى كان مسبب أسباب القتل من إمداد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكفار وتقوية
325
قلوب المؤمنين وغير ذلك فالفعل يحال إلى السبب ، كقولهم القلم يكتب مليحاً والكاتب يكتب مليحاً وهو المسبب للكتابة.
قال في "المثنوي" :
هر ه خواهد آن مسبب آورد
قدرت مطلق سببها بر درد
از مسبب ميرسد هر خير وشر
نيست أسباب ووسائط را اثر
اين سببها بر نظرها ردهاست
كه نه هرديدار صنعش راسزاست
ديده بايد سبب سوارخ كن
تا حجب رابر كند از بيخ وبن
تامسبب بيند اندر لامكان
هرزه بيند جهدوا ساب ودكان
والفرق فيما بين النبي عليه السلام وبين الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى نفى القتل عن الصحابة بالكلية وأحاله إلى نفسه ، فجعلهم سبباً للقتل وهو المسبب وما نفى الرمي عن النبي عليه السلام بالكلية بل أسند إليه الرمي ولكن نفى وجوده بالكلية في الرمي ، وأثبته لنفسه تعالى ، أي : وما رميت بك إذ رميت ، ولكن رميت بالله وذلك في مقام التجلي فإذا تجلى الله لعبد بصفة من صفاته يظهر على العبد منه فعلاً يناسب تلك الصفة ، كما كان من حال عيسى عليه السلام لما تجلى الله له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى بإذنه أي به وهذا كقوله تعالى : "كنت له سمعاً وبصراً" الحديث فلما تجلى الله للنبي عليه السلام بصفة القدرة كان قد رمى به حين رمى وكان يده يد الله في ذلك كما كشف القناع عن هذه الحقيقة في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح : 10).
(3/249)
واعلم : أن الله أسند القتل إلى داود عليه السلام في قوله : {وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ} (البقرة : 251) وفرق كثير بين عبد أضيف فعله إلى نفسه والعبد محل الآفات والحوادث وبين عبد أضيف فعله إلى الله تعالى والله منزه عن الآفات والحوادث.
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
ما رميت اذرميت كفت حق
كارحق بركارها دارد سبقكر برانيم تيران نى زماست
ما كمان وتير اندازش خداستتانشد مغلوب كس اين سر نيافت
كرتوخواهى آن طرف بايد شتافت
{وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ} أي : ليعطيهم من عنده تعالى وينعم عليهم.
{بَلاءً حَسَنًا} أي : عطاء جميلاً ونعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات غير مشوبة بمقاساة الشدائد والمكاره.
والبلاء : يطلق على النعمة وعلى المحنة ؛ لأن أصله الاختيار وهو كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر يكون بالنعمة أيضاً لإظهار الشكر ، والاختبار من الله تعالى إظهار ما علم كما علم لا تحصيل علم ما لم يعلم لأنه تعالى منزه عنه.
واللام : متعلقة بمحذوف مؤخر أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة والأجر العظيم فعل ما فعل لا لشيء غير ذلك مما لا يجديهم نفعاً.
وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين.
قال ابن الشيخ : والظاهر أن بلاء اسم مصدر ليبلي أي ليبليهم إبلاء حسناً والمتبادر من عبارة القاضي أنه حمله على نفس الشيء المبلوّ به على طريق إطلاق المصدر على المفعول حيث قال ولينعم عليهم نعمة عظيمة قال الكاشفي : (در حقائق سلمى از امام جعفر صادق رضي الله عنه نقل ميكندكه بلاء حسن آنست كه ايشانرا از نفوس ايشان فإني
326
كرداند وبعد از فنا بهويت خود شان باقي سازد امام.
قشيري كويد بلاء حسن آنست كه مبتلى مشاهده كندميلى را در عين بلا).
ودانستى كه اين درد تواز كيست
زرنج خويشتن مى باش خرم
كر او زهرت دهد بهتر زشكر
وراوزحمت زندخوشتر زمرهم
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لاستغاثتهم ودعائهم {عَلِيمٌ} بنياتهم وأحوالهم الداعية إلى الإجابة.
{ذَالِكُمْ} إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وقوله تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَـافِرِينَ} معطوف على ذلكم ، أي : المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
والإيهان (سست كردن) والنعت موهون كذا في "تاج المصادر".
والوهن الضعف والكيد المكر والحيلة والحرب.
وفي الآية : إشارة إلى أن التأثير من الله تعالى والعبد آلهة في البين فينبغي للمرء أن لا يعجب بنفسه وعمله ، ولذا قال الله تعالى : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} وأظهر منته عليهم والعجب استعظام العمل الصالح من غير ذكر التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
قال المسيح عليه السلام : يا معشر الحواريين كم من سراج قد أطفأته الريح ، وكم من عابد قد أفسده العجب.
واعلم : أن الناس في العجب ثلاثة أصناف : صنف ، هم معجبون بكل حال وهم المعتزلة والقدرية الذين لا يرونتعالى عليهم منة في أفعالهم وينكرون العون والتوفيق الخاص واللطف وتلك الشبهة استولت عليهم.
وصنف هم الذاكرون المنة بكل حال وهم المستقيمون لا يعجبون بشيء من الأعمال وذلك لبصيرة أكرموا بها وتأييد خصوا به.
والصنف الثالث المخلطون وهم عامة أهل السنة تارة يتنبهون فيذكرون منة الله تعالى وتارة يغفلون فيعجبون وذلك لمكان الغفلة العارضة والفترة في الاجتهاد والنقص في البصيرة فحق للعاقل أن يرى حقارة عمله وقلة مقداره من حيث هو وأن يرى أن منة الله عليه أشرف من قدر عمله وأعظم من جزائه وأن يحذر على فعله من أن يقع على وجه لا يصلحتعالى ولا يقع منه موقع الرضى ، فتذهب عنه القيمة التي حصلت له ، ويعود إلى ما كان في الأصل من الثمن الحقير من دراهم أو دوانق ومثاله أن العنقود من العنب أو الإضبارة من الريحان تكون قيمته في السوق دانقاً ، فإذا أهداه واحد إلى الملك دستجة فوقع منه موقع الرضى يهب له على ذلك ألف دينار فصار ما قيمته حبة بألف دينار فإذا لم يرضه الملك أو رده عليه رجع إلى قيمته الخسيسة من حبة أو دانق فكذلك ما نحن فيه.
قال وهب : كان فيمن قبلكم رجل عبد الله سبعين سنة يفطر من سبت إلى سبت فطلب من الله حاجة فلم يقض فأقبل على نفسه وقال لو كان عندك خير قضيت حاجتك فأنزل الله تعالى ملكاً فقال يا ابن آدم ساعتك التي أزريت بنفسك فيها خير من عبادتك التي مضت.
ونعم ما قال الحافظ الشيرازي :
در راه ما شكسته دلى ميخرند وبس
بازار خودفر وشى ازان سوى ديكرست
اللهم اجعلنا من أهل التوفيق ومن المساكين بطريق التحقيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
{إِن تَسْتَفْتِحُوا} الخطاب لأهل مكة على سبيل التهكم بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروج إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدين.
وروي أن أبا جهل
327
(3/250)
قال يوم بدر : اللهم انصر أفضل الفريقين وأحقهما بالنصر ، اللهم أينا أقطع للرحم وأفسد للجماعة فأهلكه دعا على نفسه لغاية حماقته فاستجاب الله دعائه حيث ضربه ابنا عفراء عوذ ومعاذ وأجهز عليه ابن مسعود رضي الله عنه.
فالمعنى إن تستنصروا يا أهل مكة لا على الجندين.
{فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} حيث نصر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمة والقهر والخزي فالتكهم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله.
{وَإِن تَنتَهُوا} عن الكفر ومعاداة الرسول.
{فَهُوَ} أي : الانتهاء {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي : من الحراب الذي ذقتم غائلته لما فيه من السلامة من القتل والأسر ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو ألتكهم.
{وَإِن تَعُودُوا} لمحاربته.
{نَعُدْ} لنصره.
{وَلَن تُغْنِىَ} أي : لن تدفع أبداً {عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} أي : جماعتكم التي تجمعونهم وتستغيثون بهم.
{شَيْـاًا} أي : من الإغناء فنصب شيئاً على المصدر أو من المضار فنصبه على المفعولية.
{وَلَوْ كَثُرَتْ} فئتكم في العدد {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي : ولأن الله مع المؤمنين بالنصر والمعونة فعل ذلك.
وفي الآية : إشارة إلى أن النجاة في الإيمان والإسلام ، والتسليم لأمر الله الملك العلام وأن غاية الباطل هو الزوال والاضمحلال وإن ساعده الإمهال.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 327
اسم أعظم بكندكار خوداى دل خوش باش
كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود
واعلم : أن المحاربة مع الأولياء الكرام كالمحاربة مع الأنبياء العظام وكل منهم منصور على أعدائه لأن الله معهم وهو لا ينساهم ولا يتركهم بحال.
حكي أن دانيال عليه السلام طرح في الجب ، وألقيت عليه السباع فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه فأتاه رسول فقال : يا دانيال فقال : من أنت ، قال : أنا رسول ربك إليك أرسلني إليك بطعام فقال : الحمدالذي لا ينسى من ذكره.
وإذا السعادة لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة
واقتد بها الجوزاء فهي عنان وحكي الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين" أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوماً في المصحف فخرج له قوله تعالى : {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} فمزق المصحف وأنشأ يقول :
أتوعد كل جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب مزقني الوليد فلم يلبث أياماً حتى قتل شرّ قتلة وصلب رأسه على قصره ثم على سور بلده.
جزم القاضي أبو بكر في الأحكام في سورة المائدة بتحريم أخذ الفأل من المصحف.
ونقله القرافي عن الطرطوشي وأقره وأباحه ابن بطة من الحنابلة.
وقال بعضهم : بكراهته كذا في "حياة الحيوان" للإمام الدميري.
والإشارة في الآية : {إِن تَسْتَفْتِحُوا} أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله تعالى في طلب التجلي.
{فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} بالتجلي فإن الله تعالى متجل في ذاته أزلاً وأبداً فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق فإنهم عند انغلاق أبواب قلوبهم إلى الله محرومون من التجلي وعند
328
انفتاح أبوابها محفوفون به.
{وَإِن تَنتَهُوا} أي : عن غير الله في طلب الله فهو خير لكم مما سواه {وَإِن تَعُودُوا} إلى الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها وزخارفها وإلى ما سوى الله تعالى {نَعُدْ} إلى خذلانكم إلى أنفسكم وهواها ودواعيها وغلبات صفاتها.
{وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـاًا} أي : تقوم لكم الدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء من مواهب الله وألطافه ولو كثرت ، يعني : وإن كثرت نعم الله من الدنيوية والأخروية فلا توازي شيئاً مما أنعم الله على أهل الله وخاصته وإن الله بأصناف الطافه مع المؤمنين بهذه المقامات ، وطالبيها ليبلغهم إليها بفضله ورحمته لا بحولهم وقوتهم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 327
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه وَلا تَوَلَّوْا} بحذف إحدى التاءين ، أي : لا تتولوا والتولي الإعراض.
وبالفارسية (روى بكر دانيدن).
{عَنْهُ} أي : عن الرسول ولم يقل عنهما لأن طاعة الله إنما تكون بطاعة رسوله.
{وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} أي : والحال إنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وتصديق {وَلا تَكُونُوا} بمخالفة الأمر والنهي.
{كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} على جهة القبول {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} للقبول ، وإنما سمعوا به للرد والإعراض عنه ، كالكفار الذين قالوا سمعنا وعصينا وكالمنافقين الذين يدعون السماع والقبول بألسنتهم ويضمرون الكفر والتكذيب.
قال في "المثنوي" :
نبست راه خوانده ه ناخوانده
هست اى أو بكل در مانده
كرسرش جنبد بسير باد رو
تو بسر جنبانيش غره مشو
آن سرش كويد سمعنا اي صبا
اى أو كويد عصينا خلنا
جزء : 3 رقم الصفحة : 327
(3/251)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه وَلا تَوَلَّوْا} بحذف إحدى التاءين ، أي : لا تتولوا والتولي الإعراض.
وبالفارسية (روى بكر دانيدن).
{عَنْهُ} أي : عن الرسول ولم يقل عنهما لأن طاعة الله إنما تكون بطاعة رسوله.
{وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} أي : والحال إنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وتصديق {وَلا تَكُونُوا} بمخالفة الأمر والنهي.
{كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} على جهة القبول {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} للقبول ، وإنما سمعوا به للرد والإعراض عنه ، كالكفار الذين قالوا سمعنا وعصينا وكالمنافقين الذين يدعون السماع والقبول بألسنتهم ويضمرون الكفر والتكذيب.
قال في "المثنوي" :
نبست راه خوانده ه ناخوانده
هست اى أو بكل در مانده
كرسرش جنبد بسير باد رو
تو بسر جنبانيش غره مشو
آن سرش كويد سمعنا اي صبا
اى أو كويد عصينا خلنا
جزء : 3 رقم الصفحة : 327
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ} أي : شر ما يدب على الأرض ، فلفظ الدابة محمول على معناه اللغوي أو شر البهائم فهو محمول على معناه العرفي والبهيمة ، كل ذات أربع من حيوانات البر والبحر.
{عِندَ اللَّهِ} أي : في حكم قضائه {الصُّمُّ} الذين لا يسمعون الحق.
{الْبُكْمُ} الذين لا ينطقون به.
{الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الحق عدهم من البهائم ، ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله.
وإنما وصفهم بعدم العقل ؛ لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبه ، وأما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فهو الغاية في الشرية وسوء الحال.
قال السعدي :
بهائم خموشند وكويا بشر
راكنده كوى از بهائم بتر
بنطق است وعقل آدمي زاده فاش
وطوطى سخن كوى ونادان مباش
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} شيئاً من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى.
{لاسْمَعَهُمْ} سماع تفهم وتدبر ولوقفوا على حقيقة الرسول وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئاً من ذلك لخلوهم عنه بالمرة فلم يسمعهم لذلك لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة.
قال ابن الشيخ : عبر عن عدم استقرار الخير فيهم بعدم علم الله تعالى بوجوده فيهم لأن كل ما وقع واستقر يجب أن يعلم الله تعالى بحصوله ووجوده ، فعدم علم الله تعالى بوجود الشيء من لوازم عدمه في نفسه فعبر باللازم عن الملزوم فقيل : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ} مقام أن يقال لو كان فيهم خيراً لأسمعهم لكونه أبلغ في الدلالة على انعدام الخير فيهم ،
329
لأن نفي لازم الشيء نفي لنفس ذلك الشيء بينة فيكون أبلغ من نفي نفس ذلك الشيء.
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} سماع تفهم وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية.
{لَتَوَلَّوا} عما سمعوه من الحق ولم ينتفعوا به قط أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا ، كأن لم يسمعوه أصلاً.
{وَّهُم مُّعْرِضُونَ} أي : لتولوا على أدبارهم والحال إنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم لعنادهم ، وفيه إشارة إلى أن من قدر له الشقاوة فإنه يتولى عن المتابعة في أثناء السلوك ويعرض عن الله وطلبه ويقبل على الدنيا وزخارفها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
واعلم : أن الإنسان خلق في أحسن تقويم قابلاً للتربية والترقي مستعداً لكمال لا يبلغه الملك المقرب فهو في بدء الخلقة دون الملك وفوق الحيوان فبتربية الشريعة يصير فوق الملك.
فيكون خير البرية وبمخالفة الشريعة ومتابعة الهوى يصير دون الحيوان فيكون شر البرية فيؤول حال من يكون خيراً من الملك إلى أن يكون شر الدواب.
(3/252)
فعلى العاقل أن لا يخالف أمر الرسول وشريعته فإن الحيوان يستسلم لأمره فكيف بالإنسان.
حكي أنه جاء رجل في بعض أسفاره صلى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي ولي فيه ناضخان والناضخ البعير الذي يستسقى عليه فمنعاني أنفسهما وحائطي وما فيه فلا نقدر أن ندنو منهما فنهض النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حتى أتى الحائط فقال لصاحبه : "افتح" قال أمرهما عظيم قال : "افتح" فلما حرك الباب أتيا ولهما جلبة فلما انفرج الباب نظرا إلى النبي عليه السلام وبركا ثم سجدا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رؤوسهما ثم دفعهما إلى صاحبهما وقال : "استعملهما وأحسن إليهما" فقال القوم تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا في السجود لك فقال صلى الله عليه وسلّم "إن السجود ليس إلا للحي القيوم ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" وكل ما أمر به النبي عليه السلام أو نهى عنه ففيه حكمة ومصلحة ولست بمأمور بالتفتيش عنها ، وإنما يلزم عليك الإطاعة والانقياد فقط.
أفترضى لنفسك أن تصدق ابن البيطار فيما ذكره في العقاقير والأحجار فتبادر إلى امتثال ما أمرك به ولا تصدق سيد البشر صلى الله عليه وسلّم فيما يخبر عنه وتتواني بحكم الكسل عن الإتيان بما أمر به أو فعل وأنت تحقق أنه عليه السلام مكاشف من العالم بجميع الأسرار والحكم كما أخبر عن نفسه وقال : "فعلمت علم الأولين والآخرين" ولما أخرجك الله من صلب آدم في مقام ألست رددت إلى أسفل السافلين ثم منه دعيت لترتفع بسعيك وكسبك إلى أعلى عليين حيث ما قدر لك على حسب قابليتك ولا يمكنك ذلك إلا بأمرين : أحدهما : بمحبته صلى الله عليه وسلّم وبأن تؤثر حبه على نفسك وأهلك ومالك.
والثاني : بمتابعته صلى الله عليه وسلّم في جميع ما أمر به ونهى عنه وبذلك تستحكم مناسبتك به وبكمال متابعتك يحصل لك الارتفاع إلى أوج الكمال ومن علامات المحبة حب القرآن وحب تلاوته وإلا كان من المعرضين عن سلوك طريقته صلى الله عليه وسلّم ومن تمام محبته إيثار الفقر والزهد في الدنيا.
كين جهان جيفه است ومردار ورخيص
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
بر نين مردار ون باشم حريص
اللهم اعصمنا من المهالك واجعلنا من السالكين إلى خير المسالك.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي : أجيبوا الله ورسوله بأن تطيعوهما.
{إِذَا دَعَاكُمْ} أي : الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى ودعاؤه بأمر الله فهو دعاء الله تعالى ولذا وحد الفعل {لِمَا يُحْيِيكُمْ} اللام بمعنى إلى أي الذي يحييكم وهو أنواع منها العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته.
قال :
لا تعجبن الجهول حلته
فذاك ميت وثوبه كفن وقال :
جاهلي كان بعلم زنده نشت
ميتش دان ومسكنش مدفن
از جنازه نشان جمازه او
جامهاى تنش بجاي كفن
وفي الخبر : إن الله تعالى ليحيي القلب الميت بالعلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر والعلوم الدينية الشرعية هي التفسير والحديث والأصول والفقه والفرائض.
علم دين فقهست وتفسير وحديث
هركه خواند غيرازين كردد خبيث ومنها العقائد ، والأعمال فإنها تورث الحياة الأبدية في النعيم الدائم.
ومنها الجهاد فإنه سبب البقاء إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم كما في قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} (البقرة : 179).
ومنها الشهادة فإن الشهداء أحياء عند ربهم سواء كانوا مقتولين بسيف الكفار أو بسيف الرياضات الشاقة والمجاهدات القوية.
دانه مردن مراشيرين شداست
بل هم أحياء ي من آمده استاقتلوني يا ثقاتي لائما
إن في قتلي حياتي دائما
فالموت هو الفناء عن الكل والحياة هو البقاء بنور الله تعالى.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال في "القاموس" : كل ما حجز بين شيئين فقد حال بينهما وهو تمثيل لغاية قربه من العبد وهو أقرب إلى قلبه منه لأن ما حال بينك وبين الشيء فهو أقرب إلى الشيء منك وتنبيه على أنه مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى يغفل عنه صاحبها.
(3/253)
قال علي رضي الله عنه : اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين القلب بالموت أو غيره من الآفات ، كأنه قيل : بادر إلى تكميل النفوس وتصفية القلوب بإجابة الرسول المبعوث من علام الغيوب قبل فوات الفرصة ، فإنها قد تفوت بأن يحدث الله أسباباً لا يتمكن العبد معها من تصريف القلب فيما يشاؤه من إصلاح أمره ، فيموت غير مستجيبورسوله ، ويحتمل أن يكون المراد بالحيلولة تصوير تملكه تعالى قلب العبد وغلبته عليه فيفسخ عزائمه ويغير نياته ومقاصده ولا يمكنه من إمضائها على حسب إرادته فيحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته وكان عليه السلام يقول كثيراً : "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" ويبدل بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور المعترضة المفوّتة للفرصة (در كشف الأسرار فرموده كه علما دلرا ايند ولمن كان له قلب أشارت بدانست وعرفادلراكم كنند يحول بين المرء وقلبه عبارت از آنست در بدايت از دل نا رست ودر نهايت حجاب ديدارست).
331
زيد يش همي ديدمش اندر دل خويش
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
دل نيز حجاب بود بر داشت زيش
فالله تعالى يحول بتجلي صفاته بين المرء وقلبه يعني إذا تجلى الله على قلب المرء يحول بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصافه.
{وَأَنَّهُ} أي : واعلموا أيضاً أن الله تعالى {إِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره.
{تُحْشَرُونَ} تبعثون وتجمعون فيجازيكم على حسب أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر فسارعوا إلى طاعة الله وطاعة رسوله وبالغوا في الاستجابة لهما.
واعلم : أن الاستجابةبالسرائر وللرسول بالظواهر وأيضاً الاستجابةإجابة الأرواح للشهود واستجابة القلوب للشواهد وإجابة الأسرار للمشاهدة وإجابة الخفي للفناء في الله والاستجابة للرسول بالمتابعة في الأقوال والأحوال والأفعال.
وروي أنه عليه السلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال عليه السلام : "ما منعك عن إجابتي" قال كنت أصلي "قال ألم تخبر فيما أوحي إلي استجيبواوللرسول".
واختلف العلماء في جواز قطع الصلاة لإجابة الداعي.
فقال بعضهم إنه مختص باستجابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يجوز قطع الصلاة لإجابة غيره لأن قطعها إبطال لها وإبطال العمل حرام.
وقال بعضهم : يجوز لكل مصل أن يقطع صلاته لأمر لا يحتمل التأخير كما إذا خاف أن يسقط أحد من سطح أو تحرقه النار أو يغرق في الماء وجب عليه أن يقطع الصلاة وإن كان في الفريضة كذا في "غنية الفتاوى".
ويجيب في صلاة النافلة دعاء أمه دون نداء أبيه ، أي : يقطع الصلاة ويقول لبيك مثلاً وذلك لأن مشقة الأم وتحملها التعب من الولد أكثر ولذا ورد "الجنة تحت أقدام الأمهات" معناه أن التواضع للأمهات سبب دخول الجنة.
وقال بعض المشايخ : الأب يقدم على الأم في الاحترام والأم في الخدمة حتى لو دخلا عليه يقوم للأب وإجابة الدعوة من قبيل الخدمة غالباً.
قال الطحاوي : مصلي النافلة إذا ناداه أحد أبويه إن علم أنه في الصلاة وناداه لا بأس بأن لا يجيبه وإن لم يعلم يجيب وأما مصلى الفريضة إذا دعاه أحد أبويه فلا يجيب ما لم يفرغ من صلاته إلا أن يستغيثه لشيء فإن قطع الصلاة لا يجوز إلا لضرورة وكذا الإفطار في صوم النفل فإنه إذا ألح عليه أحد بالإفطار يجوز قبل الزوال وأما إذا كان بعده فلا يفطر إلا إذا كان في ترك الإفطار عقوق الوالدين أو أحدهما كذا في "شرح التحفة" و"الوقاية".
وأما في صوم القضاء فيكره الإفطار مطلقاً كذا في "الزاهدي".
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
ثم اعلم : أن استجابة الرسول يدخل فيها بطريق الإشارة استجابة الأولياء العلماء الأدباء الأمناء لأنهم الورثة وطريقتهم طريقة النبي عليه السلام ولا بد لمن أراد الوصول إلى الله تعالى من صحبة مرشد كامل عارف بالمقامات والمراتب وقبول ما دعا إليه سواء كان محبوباً له أولا فإن هذا ليس طريق العقل بل طريق الكشف والإلهام.
كردر سرت هواي وصالست حافظاً
بايدكه خاك دركه أهل نظر شوى
وأهل الطريقة ثلاثة : عباد ، ومريدون ، وعارفون.
فطريق العباد : كثرة الأعمال والتجنب من الزنى والضلال.
وطريق المريدين : تخليص الباطن من الشوائب ، والنفور عن المشغلات ، وطريق العارفين : تخليص القلبوبذل الدنيا والآخرة في طلب رضاه اللهم اجعلنا من المستجيبين للدعوة الحقة وأذقنا من حلاوة الأسرار المحققة آمين.
332
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً} .
(3/254)
قال الحدادي في "تفسيره" : نزلت في عثمان وعلي رضي الله عنهما أخبر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلّم بالفتنة التي تكون بسببهما أنها ستكون بعدك تلقاها أصحابك تصيب الظالم والمظلوم ولا تكون للظلمة وحدهم خاصة ولكنها عامة فأخبر النبي عليه السلام بذلك أصحابه فكان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم من الفتن بسبب علي وعثمان رضي الله عنهما ما لا يخفى على أحد انتهى.
والمعنى لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره كإقرار المنكر بين أظهرهم والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه وفيه تحذير من شدة العقوبة لمن أهاج الفتن وفي الحديث : "الفتنة راتعة في بلاد الله واضعة خطامها فالويل لمن أهاجها" وفي بعض الأخبار "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
قال السعدي :
ازان همنشين تاتوانى كريز
كه مرفتنه خفته را كفت خيز
قال القرطبي : فإن قيل قال الله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام : 164).
{كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر : 38).
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة : 286) وهذا يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب غيره وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب ، فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على من رآه أن يغيره فإن سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله في حكمه وحكمة الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة قاله ابن العربي انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوى قدّس سره في "شرح الأربعين حديثاً" وأحياناً تظهر سلطنة العمل الفاسد فيسري حكمها في حال ذي العمل الصالح فيتضرر بذلك وإن لم يتعد الضرر إلى أعماله ، والإشارة إلى ذلك قوله تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية.
وليس هذا بمخالف للأصل المترجم عنه بقوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن هذا الأثر لا يقع ولا يسري بحكم ما به امتاز الصالح من الطالح بل بموجب ما به يثبت الاتحاد والاشتراك بينهما وقوله : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لسان غلبته حكم ما به الامتياز وأيضاً ففعل الحق من حيث صدوره من جنابه وحداني كلي شامل لا تخصيص فيه بل التخصيص من القوابل المتأثرة وهذا عام في الشر والخير ففي الشر ما ذكر في قوله تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} الآية.
وفي الخير ما أشار إليه عليه السلام في الحديث المذكور في حق الذين يجتمعون لذكر الله وكون الحق يباهي بهم الملائكة ويقول "أشهدكم أني قد غفرت لهم" وقول بعض الملائكة إن فيهم فلاناً ليس منهم وإنما أتاهم لحاجة فيقول الحق سبحانه وتعالى : "وله قد غفرت هم القوم لا يشقى جليسهم" فهذا أثر عموم الحكم من جهة الحق وكليته وأثر صلاح الحال الفاسد بمجاورة ذي الحال والعمل الصالح والحضور معه فتذكر انتهى كلام القنوي.
وفي "المثنوي" :
اي خنك آن مرده كزخودرسته شد
درو جود زنده يوسته شدواي آن زنده كه بامرده نست
مرده كشت وزندكى ازوى بجست
حق ذات اك الله الصمد
كه بود به ماربد از يار بدماربد جاني ستاند ازسليم
يا ربد آرد سوى نار مقيم
333
والإشارة في الآية : {وَاتَّقُوا} يا أيها الواصلون.
{فِتْنَةٌ} يعني : ابتلاء النفوس بشيء من حظوظها الدنيوية والأخروية.
{لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً} يعني : لا تصيب تلك الفتنة النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الأنس كما قال تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف : 182) {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عند الالتفات إلى ما سواه كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
{وَاذْكُرُوا} أيها المهاجرون {إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} أي : وقت كونكم قليلاً في العدد.
{مُّسْتَضْعَفُونَ} خبر ثاننٍ ، أي : مقهورون تحت أيدي قريش {فِى الأرْضِ} أي : أرض مكة.
{تَخَافُونَ} خبر ثالث {أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} التخطف الأخذ والاستلاب بسرعة وهم كانوا يخافون أن يخرجوا من مكة حذراً من أن يستلبهم كفار قريش ويذهبوا بهم.
أي : جعل لكم مأوى ترجعون إليه وهو المدينة دار الهجرة.
{وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} على الكفار {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} من الغنائم التي لم تكن حلالاً للأمم السالفة.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم.
(3/255)
قال الجنيد قدس سره : كنت عند السري وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي يا غلام ما الشكر فقلت أن لا تعصي الله بنعمه فقال يوشك أن يكون حظك من الله لسانك فلا أزال أبكي على هذه الكلمة.
واعلم أن الدولة العثمانية التي هي آخر الدول الإسلامية كانت على الضعف في الأوائل وأهلها قليلون مستضعفون تحت أيدي فارس والروم حتى قوّاهم الله بالعَدَدِ والعُدَدِ ونصرهم على أعدائهم فكانوا يستفتحون من مشارق الأرض ومغاربها ويأوون إلى الأماكن في الأقطار إلى أن آل الأمر إلى ما آل ، فكل ذلك نعم جسيمة وستعود هذه الحال إلى ما كانت عليه في الابتداء فإن الإسلام بدا غريباً وسيعود غريباً وما ذلك إلا بالغرور والكفران وادعاء الاستحقاق من غير برهان قال السعدي قدس سره :
ترا آنكه شم ودهان داد وكوش
اكر عاقلي درخلافش مكوش
مكن كردن ازشكر منعم مي
كه روزي سين سربر آرى بهي
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
ثم اعلم : أن الروح والقلب في بدء الخلقة وتعلقهما بالقالب وكذا صفاتهما مستضعفون من غلبات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة وانعدام جريان أحكام الشريعة عليهم إلى أوان البلوغ والتربية في هذه المدة للنفس وصفاتها لاستحكام القالب لحمل أعباء تكاليف الشريعة وهما أعني الروح والقلب يخافون أن تستلبهم النفس وصفاتها ويغتالهم الشيطان وأعوانه فآواكم إلى حظائر القدس وأيديكم بنصره بالواردات الربانية.
{وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} أي : من المواهب الطاهرة من لوث الحدوث.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فتستحقون المزيد.
شكر نعمت نعمتت افزون كند
كفر نعمت ازكفت بيرون كند
والعمدة قلة الأكل وكثرة الشكر والطاعة.
ويقال : أربع في الطعام فريضة : أن لا يأكل إلا من الحلال ، وأن يعلم أنه من الله تعالى ، وأن يكون راضياً ، وأن لا يعصي الله ما دامت قوة ذلك الطعام فيه.
وأربع سنّة : أن يسمي الله في الابتداء ، وأن يحمد الله في الانتهاء ، وأن يغسل يديه قبل الطعام
334
وبعده ، وأن يثنى رجله اليسرى وينصب اليمنى على الجلوس.
وأربع آداب : أن يأكل مما يليه ، وأن يصغر اللقمة ، وأن يمضغها مضغاً ناعماً ، وأن لا ينظر إلى لقمة غيره.
واثنان دواء ، أن يأكل ما سقط من المائدة ، وأن يلعق القصعة.
واثنان مكروهان : أن يشم الطعام ، وأن ينفخ فيه ولا يأكل حاراً حتى يبرد فإن اللذة في الحار والبركة في البارد.
فعلى العاقل الساعي في طلب مرضاة الله تعالى تحصيل القوت الحلال وكثرة شكر المنعم المفضال ولله على العبد نعم ظاهرة وباطنة وألطاف جليلة وخفية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أصل الخون : النقص ، كما أن أصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإنك إذا خنت الرجل فقد أدخلت عليه النقصان.
روي أنه عليه السلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر ، وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله كانت في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا : ما ترى هل ننزل على حكم سعد فأشار إلى حلقه بالذبح ، أي : إن حكم سعد فيكم أن تقتلوا صبراً ، فلا تنزلوا على حكمه يقال فلان مقتول صبراً إذا صار محبوساً على القتل حتى يقتل قال أبو لبابة فما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله وذلك لأنه عليه السلام أراد منهم أن ينزلوا على حكم سعد ويرضوا بما حكم فيهم وهو صرفهم عنه فنزلت هذه الآية فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه ، فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك فقال لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني فجاءه عليه السلام فحله فقال : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال عليه السلام : "يجزئك الثلث أن تتصدق به" {وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} فيما بينكم ، أي : لا تخونوها فهو مجزوم معطوف على الأول.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم تخونون ، يعني : أن الخيانة توجد منكم عن عمد لا عن سهو ولما نهى عن الخيانة نبه على أن الداعي إليها إنما هو حب المال والأولاد ألا يرى أن أبا لبابة إنما حمله على ما فعل ماله وأهله وولده الذين كانوا في بني قريظة ؛ لأنه إنما ناصحهم لأجلهم وخان المسلمين بسببهم ، فقال :
(3/256)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ} الفتنة قد تطلق على الآفة والبلاء وقد تطلق على الابتلاء والامتحان ، فالمعنى على الأول إنما أموالكم وأولادكم أسباب مؤدية إلى الوقوع في الآفة التي هي ارتكاب المعصية في الدنيا والوقوع في عقاب الآخرة ، وعلى الثاني : إنها أسباب لوقوع العبد في محن الله تعالى واختباراته حيث يظهر من اتبع الهوى ممن آثر رضى المولى.
{وَأَنَّ اللَّهَ عِندَه أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثر رضي الله وراعى حدوده فيهم فأنيطوا ، أي : علقوا هممكم بما يؤديكم إليه ولا يحملنكم حبهما على الخيانة (أحمد أنطاكي فرموده كه حق سبحانه وتعالى مال وفرزندانرا فتنه كفت تا ازفتنه بيكسو رويم وما يوسته بخلاف حكم خداوند آن فتنه را زيادت ميخواهيم).
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
جوان ويركه دربند مال وفرزندند
نه عاقلندكه طفلان ناخرد مندند
335
قال بعض السلف : كل ما شغلك عن الله سبحانه من مال وولد فهو مشؤوم عليك ، وأما ما كان من الدنيا يقرب من الله ويعين على عبادته فهو المحمود بكل لسان المحبوب لكل إنسان.
قال في "المثنوي" :
يست دنيا از خدا غافل بدن
نى قماش ونقره وميزان وزن
مال راكز بهر دين باشى حمول
نعم مال صالح خواندش رسول
آب دركشتى هلاك كشتى است
آب اندر زير كشتى شتى است
ونكه مال وملك را ازدل براند
زان سليمان خويش جز مسكين نخواند
وفي الحديث : "إن العبد إذا قال لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله من عصى ربه" فعلى العاقل أن لا يشتغل بسبب الدنيا ولعنها بل يلوم نفسه ولعنها في حب الدنيا.
قال أبو يزيد قدس سره : جمعت فكري وأحضرت ضميري ومثلت نفسي واقفاً بين يدي ربي فقال لي يا أبا يزيد بأي شيء جئتني قلت يا رب بالزهد في الدنيا.
قال : يا أبا يزيد إنما كان مقدار الدنيا عندي مثل جناح بعوضة ففيم زهدت منها فقلت إلهي وسيدي أستغفرك من هذه الحالة جئت بالتوكل عليك قال : يا أبا يزيد ألم أكن ثقة فيما ضمنت لك حتى توكلت عليّ قلت إلهي وسيدي أستغفرك من هاتين الحالتين جئتك بالافتقار إليك فقال عند ذلك قبلناك فهذه حال العارفين بالله تعالى وفوا عهودهم في طلبه فجعلهم الله أمناء لأسراره.
واعلم : أن الخيانة على أنواع فالفرائض والسنن أعمال ائتمن الله تعالى عليها عباده ليحافظوا على أدائها في أوقاتها برعاية حدودها وحقوقها فمن ضيعها فقد خان الله تعالى فيها.
والوجود وما يتبعه من الأعضاء والقوى أمانات والأهل والأولاد والأموال أمانات والإماء والعبيد وسائر الخدم أمانات والسلطنة والوزارة والإمارة والقضاء والفتوى وما يلحقها أمانات وفي الحديث : "من قلد إنساناً عملاً وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين".
قال السعدي قدس سره :
كسى راكه باخواجه تست جنك
بد ستش را ميدهى وب وسنك
سك آخر كه باشدكه خوانش نهند
بفرماى تا استخوانش دهند
وفي الحديث : "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان خرجت من بينهما وجاء الشيطان" ففي كل ذلك يلزم العبد أن يكون أميناً غير خائن وإلا فقد تعرض لسخط الله تعالى ونعوذ بالله منه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما كلب أمين خير من صاحب خائن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
وكان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم وكان شديد المحبة لهم ، فخرج في بعض منتزهاته ومعه ندماؤه فتخلف منهم واحد فدخل على زوجته فأكلا وشربا ثم اضطجعا فوثب الكلب عليهما فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر فأنشد يقول :
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني
ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجباً للخل تحليل حرمتي
ويا عجباً للكلب كيف يصون والإشارة في الآية : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : يا أيها الأرواح والقلوب المنورة بنور الإيمان المستعدة بسعادات العرفان.
{لا تَخُونُوا اللَّهَ} فيما آتاكم من المواهب فتجعلوها شبكة الدنيا واصطياد
336
(3/257)
أهلها.
{وَالرَّسُولِ} بترك السنة والقيام بالبدعة.
{وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} فالأمانة هي محبة الله وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات يشير إلى أن أرباب القلوب وأصحاب السلوك إذا بلغوا إلى أعلى مراتب الطاعات والقربات ، ثم التفتوا إلى شيء من الدنيا وزينتها وخانوا الله بنوع من التصنع وخانوا الرسول بالتبدع وترك التتبع بتعدي الخيانة وآفاتها إلى الأمانة التي هي المحبة فتسلب منهم بالتدريج فيكون لهم ركونهم إلى الدنيا وسكونهم إلى جمع الأموال حرصاً على الأولاد.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ} التي تعرضون عن الله لها {فِتْنَةٌ} يختبركم الله بها لكي يتميز الموافق من المنافق والصديق من الزنديق فمن أعرض عن الدنيا وما فيها صدق في طلب المولى {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَه أَجْرٌ عَظِيمٌ} فمن ترك ما عنده في طلب ما عند الله يجده عنده أو أن الله عنده أجر عظيم والعظيم هو الله في الحقيقة فيجد الله تعالى كذا في "التأويلات النجمية" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} أي : في كل ما تأتون وتذرون.
{يَجْعَل لَّكُمْ} بسبب ذلك {فُرْقَانًا} هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال تعالى : {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الأنفال : 41) وأراد به يوم عز المؤمنين وخذلان الكافرين.
{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي : يسترها والفرق بين السيئة والخطيئة أن السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بالعفو والتجاوز عنها.
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي : عظيم الفضل على عباده وهو تعليل لما قبله وتنبيه على أن وعد الله لهم على التقوى تفضل وإحسان لا أنه مما توجب التقوى كما إذا وعد السيد عبده إتماماً على عمل.
وفي الآية أمور :
الأول : التقوى وهو في مرتبة الشريعة ما أشير إليه بقوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن : 16) وفي مرتبة الحقيقة ما أشير إليه بقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران : 102) (متقى آنست كه حق سبحانه وتعالى را وقايه خود كرفته باشد در ذات وصفات وأفعال فعل أو در أفعال حق فإني شده باشد وصفت اودر صفات حق مستهلك كشته)
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
كم شده ون سايه نور آفتاب
يا و بوى كل در أجزاي كلاب
قال ابن المبارك : سألت الثوري من الناس؟ فقال العلماء ، قلت : من الأشراف؟ قال : المتقون ، قلت من الملوك؟ قال : الزهاد : قلت : من الغوغاء؟ قال القصاص ، الذين يستأكلون أموال الناس بالكلام قلت من السفلة قال الظلمة.
الثاني : أن التقوى أسندت إلى المخاطبين وجعل الفرقان إلى الله تعالى فالله تعالى إذا أراد بالعبد خيراً اصطفاه لنفسه وجعل في قلبه سراجاً من نور قدسه يفرق به بين الحق والباطل والوجود والعدم والحدوث والقدم ويتبصر به عيوب نفسه كما حكي عن أحمد بن عبد الله المقدسي قال صحبت إبراهيم بن أدهم فسألته عن بداية أمره وما كان سبب انتقاله من الملك الفاني إلى الملك الباقي فقال لي يا أخي كنت جالساً يوماً في أعلى قصر ملكي والخواص قيام على رأسي فأشرفت من الطاق فرأيت رجلاً من الفقراء جالساً بفناء القصر وبيده رغيف يابس فبله بالماء وأكله بالملح الجريش وأنا أنظر إليه إلى أن فرغ من أكله ثم شرب شيئاً من الماء وحمد الله تعالى وأثنى عليه ونام في فناء القصر فألهمني الله سبحانه وتعالى
337
الفكر فيه فقلت لبعض مماليكي إذا قام ذلك الفقير فائتني به فلما استيقظ من نومه قال له الغلام يا فقير إن صاحب هذا القصر يريد أن يكلمك قال بسم الله وبالله وتوكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقام معه ودخل علي فلما نظر إليّ سلم عليّ فرددت عليه السلام وأمرته بالجلوس فجلس فلما اطمأن قلت له يا فقير أكلت الرغيف وأنت جائع فشبعت قال نعم قلت وشربت الماء على شهوة فرويت قال نعم قلت ثم نمت طيباً بلا هم وغم فاسترحت قال نعم فقلت في نفسي وأنا أعاتبها يا نفس ما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بما رأيت وسمعت فعقدت التوبة مع الله تعالى فلما انصرم النهار وأقبل الليل لبست مسحاً من صوف وقلنسوة من صوف وخرجت حافياً سائحاً إلى الله تعالى وهذه إحدى الروايتين في بداية أمره.
والثالث : أن المغفرة فضل عظيم من الله تعالى فلا بد للمرء من حسن الظن بالله تعالى فإنها ليست بمقطوعة.
قيل : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : "إني أعلمك خمس كلمات هن عماد الدين ما لم تعلم أن قد زال ملكي فلا تترك طاعتي".
همه تحت وملكي ذيرد زوال
بجز ملك فرمانده لا يزال
(3/258)
"وما لم تعلم أن خزائني قد نفدت فلا تهتم برزقك".
در دائره قسمت ما نقطه تسليم
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
لطف آنه توانديشى وحكم آنه توفرمايى
"وما لم تعلم أن عدوك قد مات يعني إبليس فلا تأمن مفاجأته ولا تدع محاربته".
كاسر بر آريم ازين عاروننك
كه يا او بصلحيم وباقح بجنك
"وما لم تعلم أني قد غفرت لك فلا تعب المذنبين".
مكن بنامه سياهى ملامت من مست
كه آكه است كه تقدير برسش ه نوشت
"وما لم تدخل جنتي فلا تأمن مكري".
زاهد ايمن مشو از بارىء غيرت زنهار
كه ره از صومعه تادير مغان ايه همه نيست
فعلى العاقل أن يجتهد إلى آخر العمر كي يكفر الله عنه سيئات وجوده الفاني ويستره بأنوار جماله وجلاله والله ذو الفضل العظيم لمن تجاوز عما عنده راغباً فيما عند الله والفضل العظيم هو البقاء بالله بعد الفناء فيه كما في "التأويلات النجمية".
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} تذكير لمكر قريش حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه من مكرهم واستيلائه عليهم.
قال ابن إسحاق لما رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا سعة فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في الدار الندوة وهي ادار التي بناها قصيّ بن كلاب بمكة وكانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها وسميت دار الندوة لأنهم ينتدون فيها أي يجتمعون للمشاورة والنديّ والندوة والنادي مجلس القوم ومتحدثهم فإن تفرق القوم عنه لا يسمى ندياً كما لا يسمى الظرف كأساً إذا لم يكن فيه شراب فتشاوروا في أمر النبي عليه السلام منهم عتبة وشيبة ابنا أبي ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود وغيرهم
338
من الرؤساء والأكابر فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ كبير عليه ثياب اطمار فجلس بينهم فقالوا مالك يا شيخ دخلت في حلوتنا بغير إذننا فقال أنا رجل من أهل نجد قدمت مكة فاراكم حسنة وجوهكم طيبة روائحكم فاحببت أن أسمع حديثكم فاقتبس منكم خيراً فدخلت وأن كرهتم مجلسي خرجت وما جئتكم إلا أني سمعت باجتماعكم فاردت أن أحضر معكم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا فقالوا هذا رجل لا بأس عليكم منه فتكلموا فيما بينهم فبدأ عمرو بن هشام فقال أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً فتجعلوه في بيت تسدون عليه بابه وتشدون عليه وثاقه وتجعلون له كوة تدخلون عليه طعامه وشرابه فيكون محبوباً عندكم إلى أن يموت فقال إبليس بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم فقالوا صدق والله الشيخ ثم تكلم أبو البختري فقال أرى أن تحملوه على بعير فتشدوا وثاقه عليه ، ثم تخرجوه من أرضكم حتى يموت أو يذهب حيث شاء فقال إبليس بئس الرأي تعمدون إلى رجل افسد جماعتكم ومعه منكم طائفة فتخرجوه إلى غيركم فيأتيهم فيفسد منهم أيضاً جماعة بما يرون من حلاوة كلامه وطلاقة لسانه وتجتمع إليه العرب وتستمع إلى حسن حديثه ثم ليأتينكم بهم فيخرجكم من دياركم.
ويقتل أشرافكم فقالوا صدق والله الشيخ فتكلم أبو جهل فقال : أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل ، ويأخذون السيوف فيضربونه جميعاً ضربة رجل واحد فيفرق دمه في القبائل فلا يدري قومه من يأخذونه لا يقومون على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا فقال إبليس صدق والله هذا الشاب وهو أجودكم رأياً القول قوله لا أرى غيره فتفرقوا على رأيه فنزل جبرائيل عليه السلام ، فاخبر النبي بذلك وامره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه.
وأمره بالهجرة إلى المدينة فبيت علياً رضي الله عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى الغار.
والمكر حيلة وتدبير في إهلاك أحد وأفساد أمره بطريق الخفية بحيث لا يعلم المرء ذلك إلا عند وقوعه.
والمعنى اذكر يا محمد وقت مكرهم بك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
{لِيُثْبِتُوكَ} بالوثاق والحبس فإن إثبات الشيء وتثبيته عبارة عن الزامه بموضع ومن شد فقد أثبت لأنه لا يقدر على الحركة والمراد ما قال عمرو بن هشام.
{أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي : من مكة من بين اظهرهم إلى غيرهم وهو ما قال أبو البختري.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} أي : يرد مكرهم عليهم والمكر وأمثاله لا يسند إليه تعالى إلا على طريق المقابلة والمشاكلة ولا يحسن ابتداء لتضمنه معنى الحيلة والخدعة وهي لا تليق بعظمة الله تعالى.
{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} لا يعبأ بمكرهم عند مكره.
قال الحدادي : لأنه لا يمكر إلا بحق وصواب ومكرهم باطل وظلم.
واعلم أن للخلق مكراً وللحق مكراً فمكر الخلق من الحيلة والعجز ومكر الخالق من الحكمة والقدرة فمكر الخلق مع مكر الحق باطل زاهق ومكر الحق حق ثابت : قال الحافظ :
سحر بامعجزه هلو نزند ايمن باش
سامرى كيست دست از يد بيضا ببرد
وقال آخر :
صعوه كو با عقاب سازد جنك
(3/259)
دهد ازخون خود رش را رنك
339
قال أبو العيناء كانت لي خصماء ظلمة فشكوتهم إلى أحمد بن أبي دؤاد وقلت قد تظاهروا فصاروا يداً واحدة فقال : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فقلت لهم مكر فقال : {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} فقلت هم كثير فقال : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
هر كرا اقبال باشد رهنمون
دشمنش كردد بزودى سرنكون
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
وجد في وقائع الاسكندر مكتوباً بالذهب إذا كان الله هو غاية الغايات فالمعرفة به أجل العبادات.
وإذا كان الموت حقاً فالركون إلى الدنيا غرور.
وإذا كان القدر حقاً فالحرص على الدنيا باطل.
وإذا كان الغدر في النفوس طبعاً فالثقة بكل أحد عجز.
وإذا كان الله عدلاً في أحكامه فعقوبات الخلق بما كسبت أيديهم.
ولما قصد أبو جهل اضرار النبي عليه السلام بالقتل قتله الله في بدر وازان من جهة النبي عليه السلام فما زادوا إلا كفراً وعناداً وعداوة فهم أشد الناس في ذلك.
ولو رأى اليوم واحد من الكفرة كرامة لولى أمسك عن الأذى بل سارع إلى التبجيل كما حكى أن بعض سلاطين الكفار استولى على بعض المسلمين بسفك دمائهم ونهب أموالهم وأراد أن يقتل فقراء بعض المشايخ فاجتمع به الشيخ ونهاه عن ذلك فقال لهم السلطان أن كنتم على الحق فاظهروا لي آية فاشار الشيخ إلى بعر الجمال هناك فإذا هي جواهر تضىء وأشار إلى كيزان الأرض فارغة عن الماء فتعلقت في الهواء وامتلأت ماء وأفواهها منكسة إلى الأرض ولا يقطر منها قطرة فدهش السلطان من ذلك فقال له بعض جلسائه لا يكبر هذا في عينك فإنه سحر فقال له السلطان أرني غير هذا فأمر الشيخ بالنار ، وأمر الفقراء بالسماع فلما عمل فيهم الوجد دخل بهم الشيخ إلى النار وكانت ناراً عظيمة ثم خطف الشيخ ولد السلطان ودار به في النار ثم غاب به ولم يدر أين ذهبا.
والسلطان حاضر فبقي متفجعاً على ولده فلما كان بعد ساعة ظهراً وفي إحدى يدي ابن السلطان تفاحة وفي الأخرى رمانة فقال له السلطان : أين كنت فقال كنت في بستان فأخذت منه هاتين الحبتين وخرجت فتحير السلطان من ذلك فقال له جلساء السوء وهذا عمل بصنعة باطلة فقال السلطان عند ذلك كل ما تظهره لا أصدق به حتى تشرب من هذه الكأس وأخرج له كأساً مملوءة سماً تقتل القطرة منه في الحال فأمر الشيخ بالسماع حتى وصل إليه الحال فأخذ الكأس حينئذ وشرب جميع ما فيها فتمزقت ثيابه التي عليه فالقوا إليه ثياباً أخرى فتمزقت كذلك ثم أخرى مراراً عديدة ثم ترشح عرقاً وبقيت الثياب بعد ذلك ولم تتقطع فاعتقه السلطان وعظمه وبجله ورجع عن ذلك القتل والإفساد ولعله اسلم والله أعلم.
{وَإِذَا تُتْلَى} .
روي أن النضر بن الحارث من بني عبد الدار كان يختلف تاجراً إلى فارس والروم والحيرة فيسمع أخبار رستم واسفنديار وأحاديث العجم واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يمر باليهود والنصارى فيراهم يقرأون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون فجاء مكة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي ويقرأ القرآن فطفق يقعد مع السمتهزئين وهو منهم ويقرأ عليهم أساطير الأولين أي ما سطروه في كتبهم من أخبار الأمم الماضية وأسمائهم وكان يزعم أنها مثل ما يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قصص الأولين فقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
{وَإِذَا تُتْلَى} {عَلَيْهِمْ}
340
أي على النضر ومتابعيه.
{ءَايَـاتُنَا} القرآنية {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} هذا الكلام.
{لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ} وهذا كما ترى غاية المكابرة ونهاية العناد وكيف لا ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تحدّاهم عشر سنين فما استطاعوا معارضته مع فرط أستنكافهم أن يغلبوا خصوصاً في باب ما يتعلق بالفصاحة والبيان فما تحقق أفحامهم دعتهم شدة المكابرة والعناد إلى ن علقوا معارضته بمشيئتهم.
{إِنَّ} ما {هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أي : ما سطره الأولون من القصص جمع أسطورة وهي المسطورة المكتوبة.
وفي "التأويلات النجمية" : قالوا قد سمعنا وما سمعوا على الحقيقة فإنها قرآن يهدي إلى الرشد كما سمعت الجن وأنهم سمعوا أساطير الأولين ولهذا قالوا ما قالوا فإنهم يقدرون على أن يقولوا أساطير الأولين ولكن لا يقدرون على أن يقولوا مثل القرآن لأن القرآن كلام الله وصفته القديمة وما يقولون هو كلام المحدث المخلوق فلا يكون مثل القرآن في الصورة والمعنى والحقيقة والأسرار والأنوار ولا يقدر على مثله الخلائق كلهم كما قال : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} : وفي "المثنوي" :
ون كتاب اللَّه برآمد هم بران
أين نين طعنه زدند آن كافران
كه اساطير است وافسائه نند
نيست تعميقي وتحقيقي بلند
(3/260)
كو دكان خرد فهمش ميكند
نيست جز امر سند وناسند
ذكر يوسف ذكر زلف رخمش
ذكر يعقوب وزليخا وغمش
ظاهر است وهركسى ي ميبرد
كوبيان كه كم شود در روى خرد
كفت اكر آسان نمايد اين بتو
ايننين يك سوره كو أي سخت رو
جنيان وانسيان وأهل كار
تو يكى آيت ازين آسان بيار
{وَإِذْ قَالُوا} أي واذكر وقت قول النضر ومتابعيه ـ ـ روي أنه لما قال {إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} (بار خدايا) {إِن كَانَ هَـاذَا} القرآن {هُوَ} ضمير فصل لا محل له من الإعراب {الْحَقِّ} المنزل {مِنْ عِندِكَ} ومعنى الحق بالفارسية (راست ودرست) {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} نازلة {مِّنَ السَّمَآءِ} عقوبة علينا كما أمطرتها على قوم لوط وأصحاب الفيل {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سواه مما عذب به الأمم والمراد به التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلاً وحاشاه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
قيل : نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر فإنه عليه السلام قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبراً ، وهم : طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث وكان قد أسره المقداد بن الأسود فانظر أنه من غاية ضلالته وجهالته قال ما قال ولم يقل بدلاً عنه : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ومتعنا به واجعله شفاء قلوبنا ونور به صدورنا وأمثال هذا فكيف بمن يكون هذا حاله أن يكون مثل القرآن مقاله.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ} مريداً {لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} لأن العذاب إذا نزل عمّ ولم يعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها وفيه تعظيم للنبي عليه السلام وحفظ لحرمته ، وقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين والرحمة والعذاب
341
ضدان والضدان لا يجتمعان قيل إن الرسول عليه السلام هو الأمان الأعظم ما عاش ودامت سنّته باقية ، والآية دليل على شرفه عليه السلام واحترامه عند الله حيث جعله سبباً لأمان العباد وعدم نزول العذاب وفي ذلك إيماء إلى أن الله تعالى يرفع عذاب قوم لاقترانهم بأهل الصلاح والتقى.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي قدس سره : جميع الانتظام بوجوده الشريف فإنه مظهر الذات وطلسم العوالم حتى قيل في وجه عدم ارتحال جسده الشريف من الدنيا مع أن عيسى عليه السلام قد عرج إلى السماء بجسده إنه إنما بقي جسمه الطاهر هنا لإصلاح عالم الأجساد وانتظامه.
قال الشيخ العطار قدس سره :
خويشتن را خواجه عرصات كفت
إنما أنا رحمة مهداة كفت
رزقناشفاعته {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} المراد استغفار من بقي فيهم من المؤمنين المستضعفين الذين لا يستطيعون المهاجرة عنهم.
وقيل : معناه وفي أصلابهم من يستغفر وقيل معناه وفيهم من يؤول أمره إلى الاستغفار من الكفر.
قال أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله عنه : كان في الأرض أمانان فرفع أحدهما وبقي الآخر.
فأما الذي رفع فهو رسول الله.
أما الذي بقي فالاستغفار وقرأ بعده هذه الآية.
وفي "نفائس المجالس" : المؤمن الصادق في إيمانه لا يعذبه الله في الآخرة لأن نبيه يكون فيهم يوم القيامة وأقسم الله سبحانه أن لا يعذب أمته ما دام هو بينهم والصدق في التوبة يؤدي إلى النجاة وهو الندم مع الإقلاع لا باللسان فقط واستغفار العوام من الذنوب واستغفار الخواص من رؤية الأعمال دون رؤية المنة والفضل واستغفار الأكابر من رؤية شيء سوى الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
كفت حق كآمرزش ازمن مى طلب
كان طلب مر عفورا باشد سبب
ازى زهر كناه ار بشنوى
هست استغفار ترياق قوى
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي : أي شيء حصل لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لاحظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة بعد زوال المانع والموجب لإمهالهم هما الأمران المذكوران وكيف لا يعذبون {وَهُم} أي : والحال إنهم {يَصُدُّونَ} يمنعون الرسول والمؤمنين.
{عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي : عن طواف الكعبة شرفها الله كما وقع عام الحديبية ومن صدهم عنه ألجأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الهجرة وكانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فرد الله عليهم بقوله : {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَه} أي : مستحقين ولاية أمر المسجد الحرام مع شركهم.
{إِنْ أَوْلِيَآؤُه إِلا الْمُتَّقُونَ} من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن لا ولاية لهم عليه ، وفيه إشعار بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند وقيل أريد بأكثرهم كلهم كما يراد بالقلة العدم.
وفي "التأويلات" : {إِنْ أَوْلِيَآؤُه إِلا الْمُتَّقُونَ} أي دعاء المشركين {عِندَ الْبَيْتِ} أي بيت الله وهو الكعبة {إِلا مُكَآءً}
342
صفيراً من مكا يمكو مكواً ومكاء إذا صفر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
(3/261)
وقال الحدادي : المكاء طائر أبيض يكون في الحجاز يصفر فسمي تصويته باسمه {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً وهو تصويت اليدين إحداهما على الأخرى وأصلها إحداث الصدى وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة يقال صدي يصدى تصدية وكان تقرب المشركين إلى الله بالصفير والتصفيق يفعلونهما عند البيت مكان الدعاء والتسبيح ويعدونهما نوعاً من العبادة والدعاء لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كانت قريش يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون فمساق الآية لتقرير استحقاقهم العذاب وعدم ولايتهم المسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته.
وقال مقاتل : كان النبي عليه السلام إذا صلى في المسجد قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه ورجلان عن يساره فيصفرون كما يصفر المكاء ويصفقون بأيديهم ليخلطوا على النبي عليه السلام صلاته وقراءته وكانوا يفعلون كذلك بصلاة من آمن به ويريدون أنهم يصلون أيضاً فالمراد بالصلاة على هذا التقدير هي المأمور بها {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} أي عذاب القتل والأسر يوم بدر ويقال أراد بهذا أنه يقال لهم يوم القيامة فذوقوا العذاب.
{بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} اعتقاداً وعملاً فالكفر والمعصية سبب للوقوع في العذاب والتوبة والاستغفار وسيلة إلى فيض الرحمة من الوهاب وهي صابون الأوزار فحيث لا توبة ولا طهارة كان كل مسلم لا يصلح لأن يلي أمر مسجد القلب وإنما يليق بولايته من كان فارغاً من الشواغل معرضاً عن العلائق طاهراً من العيوب والله تعالى لا يعذب أولياءه بعد إدخالهم جنات التجليات العالية والأذواق والحالات المتوالية فإنهم تخلصوا من الوجود المضاف إلى النار المشابه للحطب وما بقي فيهم غير النور الإلهي المضيء في بيت القلب الحقاني وإنما يعذب بعدله من لم يستعد للرحمة أو من خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً ليخلصه من ذلك اللوث فالاقتداء بالنبي عليه السلام قبول ما جاء به من الأحكام والشرائع مؤد إلى الخلاص وسبب للتصفية فعليك بالاختيار والاجتناب فإنهما فرضان وحقيقة التقوى عبارة عن كليهما وبالاحتماء يصح المريض ومعالجة القلوب المرضى أولى من كل أمر وأهمّ من كل شيء للعبد العاقل وذلك بالتقوى وإحياء سنة خير الورى وفي الحديث : "من أحيا سنتي فقد أحياني ومن أحياني فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة يوم القيامة" وفي الحديث أيضاً : "من حفظ سنتي أكرمه الله بأربع خصال : المحبة في قلوب البررة ، والهيبة في قلوب الفجرة ، والسعة في الرزق والثقة بالدين" فإن فاتت صحبة الرسول فقد تيسرت صحبة سنته ، وصحبة من أحب سنته وذلك ماضضٍ إلى يوم القيامة ولصحبة الكبار واقتران المتقين تأثير عظيم ولاستماع كلام الحق والرسول نفع تام ولكن العمدة توفيق الله وهدايته ، نسأل الله تعالى أن يصحح أغراضنا ويكثر صالحات أعمالنا وأعواضنا ويؤيدنا بنور الكتاب والسنة ويشرفنا بالمقامات العالية في الجنة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} نزلت في المطعمين يوم ، بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من أشراف قريش يطعم كل واحد منهم عسكر الكفار كل يوم عشر جزر ، وهو جمع جزور وهو البعير ذكراً كان أو أنثى إلا أن لفظه مؤنث تقول هذه الجزور وإن أردت ذكراً.
{يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلّم {لِيَصُدُّوا} أي
343
يمنعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي : دين الله وأتباع رسوله لأنه طريق ثوابه والخلود في جنته لمن سلكه على أمر به واللام في ليصدوا لام الصيرورة وهي لام العاقبة والمآل.
{فَسَيُنفِقُونَهَا} بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم وهو إنفاق بدر والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد ، ويحتمل أن يراد بهما واحد بأن يكون ينفقون للاستمرار التجددي ، ويكون السين في قوله.
(فسينفقونها) للتأكيد لا للتسويف فيتحد الإنفاقان إلا أن مساق الأول لبيان غرضهم من الإنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته.
{ثُمَّ تَكُونُ} تلك الأموال {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصود ، ولما كانت عاقبة إنفاقها حسرة في قلوبهم جعلت ذوات الأموال كأنها عين الحسرة للمبالغة.
قال الحدادي : والحسرة مأخوذة من الكشف يقال حسر رأسه إذا كشفه والحاسر كاشف الرأس فيكون المعنى ثم يكشف لهم عن ذلك ما يكون حسرة عليهم {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وأصروا على الكفر {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها.
(3/262)
{لِيَمِيزَ اللَّهُ} اللام متعلقة بيحشرون أو يغلبون والميز بالفارسية (جدا كردن).
{الْخَبِيثَ} فريق الكفار {مِنَ الطَّيِّبِ} فريق المؤمنين {وَيَجْعَلَ} الفريق {الْخَبِيثَ بَعْضَه عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَه جَمِيعًا} أي يجمعهم ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا ويتزاحموا فالركم ليس عبارة عن الجمع مطلقاً بل هو الجمع بين أشياء بحيث يتراكب بعضها فوق بعض ومنه السحاب المركوم {فَيَجْعَلَه فِى جَهَنَّمَ} كله {أولئك} الفريق الخبيث {هُمُ الْخَـاسِرُونَ} الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أموالهم وأنفسهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
والإشارة : أن الله تعالى خلق الروح نورانياً علوياً وخلق النفس ظلمانية سفلية ثم أشرك بينهما وجعل رأس مالهما الاستعداد الفطري القابل للترقي ، والكمال في القربة والمعرفة والخسارة والنقصان فمن اتجر فآمن وجاهد بنفسه وماله في سبيل الله وطلبه وبلغ مبلغ الرجال البالغين فقد ربح روحه ونفسه جميعاً ومن آمن بالله ورسوله ، لكن وجد منه العصيان ومخالفة الشريعة فقد ربح روحه وخسر نفسه ومن لم يؤمن بالله ورسوله وكفر بهما فقد خسر روحه ونفسه جميعاً.
قيل : دخل على الشبلي قدس سره في وقت وفاته ، وهو يقول : يجوز يجوز ، فقيل له ما معنى قولك يجوز؟ فقال : خلق الله الروح والنفس وأشرك بين الروح والنفس فعملا واتجرا سنين كثيرة فحوسبا فإذا هما قد خسرا وليس معهما ربح ، فقد عزما على الافتراق ، وأنا أقول شركة لا ربح فيها يجوز أن يقع بين الشريكين افتراق.
قال السعدي :
كوس رحلت بكوفت دست اجل
اي دو شم وداع سر بكنيد
اي كف ودست وساعد وبازو
همه توديع يكد كر بكنيد
بر من افتاده مرك دشمن كام
آخراى دوستان حذر بكنيد
روز كارم بشد بناداني
من نكردم شما حذر بكنيد
فعلى العاقل أن يجتهد قبل مجيء الفوت ويربح في تجارته ببذل النفس والمال والطيب من الأموال ما يبذل في طلب الله على الطالبين والخبيث ما يلتفت إليه الطالب من غير حاجة ضرورية فيشغله عن الله وطلبه فيكون قاطع طريقه.
ويروى أن الله تعالى يضم الأموال
344
الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذب أربابها كقوله تعالى : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم} وروى أن أبا سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب على محاربة الرسول سوى من استجاش من العرب أي : صار جيشاً وأنفق عليهم أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً.
وفي القاموس سبعة مثاقيل فانظر إلى الكفار وجسارتهم على الإنفاق لغرض فاسد وهو الصد عن سبيل الله وأقل من القليل من المسلمين من يبذل ماله ولو قليلاً لجذب القلوب والوصول إلى رضى المحبوب فلا بد للمرء من قطع النفس عن مألوفها وهو حب المال.
ومن كلمات الجنيد قدس سره : ما أخذنا التصوف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل يا رسول الله ، أيَّ الناس أفضل؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال : ثم من؟ قال : رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره وفيه دليل على فضل العزلة وهي مستحبة عند فساد الزمان وتغير الإخوان وتقلب الأحوال ووقوع الفتن وتراكم المحن كما فعله جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقد كان النبي عليه السلام عند تقلب الأحوال واختلاف الرجال وكثرة القيل والقال يأمر بالاعتزال وملازمة البيوت وكسر السيوف واتخاذها من العراجين والخشب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
قال الإمام الغزالي : إن السلف الصالح أجمعوا على التحذير من زمانهم وأهله : وآثروا العزلة وأمروا بذلك وتواصوا بها ولا شك أنهم كانوا بصدد النصح وأن الزمان لم يصر بعدهم خيراً مما كان بل أدهى وأمر.
قال الحافظ :
توعمر حواه وصبوري كه رخ شعبدباز
هزار بازى ازين طرفه تربرانكيزد
ان دام هذا ولم يحدث له غير
لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
اللهم اجعلنا من الصابرين.
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} اللام للتعليل ، أي : لأجلهم ، والمراد أبو سفيان وأصحابه.
{إِن يَنتَهُوا} عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام.
{يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} من ذنوبهم قبل الإسلام {وَإِن يَعُودُوا} إلى قتاله انتقمنا منهم وأهلكناهم {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاوَّلِينَ} الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك وأنشد بعضهم :
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله قل للذين كفروا
(3/263)
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف {وَقَـاتِلُوهُمْ} (وكار زا كنيداى مؤمنان بأهل كفر) {حَتَّى} إلى أن {لا تَكُونَ} توجد منهم {فِتْنَةٌ} أي شرك يعني (مشرك نماندا زوثنى وأهل كتاب) {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} وتضمحل الأديان الباطلة إما بإهلاك أهلها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل {فَإِنِ انتَهَوْا} عن الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم.
{وَإِن تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن قبول الحق.
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَـاـاكُمْ} ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم {نِعْمَ الْمَوْلَى} لا يضيع من تولاه {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لا يغلب من نصره.
وفي الآية :
345
حث على الجهاد ، وفي الحديث : "موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود" وعن معاذ بن جبل قال عهد إلينا رسول الله في خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله تعالى : "من عاد مريضاً ، أو خرج مع جنازة ، أو خرج غازياً في سبيل الله ، أو دخل على إمام يريد بذلك تعزيره وتوقيره ، أو قعد في بيته فسلم وسلم الناس منه" وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من خرج حاجّاً فمات كتب الله له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمراً فمات كتب الله له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازياً فمات كتب الله له أجر الغازي إلى يوم القيامة" فعلى العاقل أن يجتهد في إحياء الدين بما أمكن له من الأسباب ويتوقع النصرة الموعودة من رب الأرباب ولا يلتفت إلى مخلوق مثله فإنهما سيان في باب العجز خصوصاً إذا كان استمداده من الفسقة كما يفعل ولاة الزمان فإنه لا يجيء خير لأهل الخير من أهل الشر والعدوان ونعم ما قيل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 345
دركار دين زمردم بى دين مدد مخواه
ازماه منخسف مطلب نور صبحكاه
ثم إن حقيقة النصرة أن ينصرك الله تعالى على نفسك التي هي أعدى عدوك بقهر هواها وقمع مشتهاها فإن انفتاح باب الملك في الأنفس سبب وطريق لانفتاح باب الملك في الآفاق وكذا الملكوت :
دوستى نفس را بكذار وبكذار ازهوس
همو مردان طالب حق باش بى جوياى نفس
والإشارة : {وَقَـاتِلُوهُمْ} في الهداية وناصركم على قهر النفوس وقمع الهوى {نِعْمَ الْمَوْلَى} .
وفي "شرح الحكم العطائية" : نسأل الله سبحانه أن يمدنا بما أمد به أخياره ويفيض علينا من سجال فيضه أنواره.
346
جزء : 3 رقم الصفحة : 345
{وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون {إِنَّمَا} حق ما هذه أن تكتب منفصلة عن أن لكونها موصولة ، كما في قوله تعالى : {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لاتٍ} أخذتموه وأصبتموه من الكفر قهراً وغلبة ، والغنم : الفوز بالشيء وأصل الغنيمة إصابة الغنم من العدو ثم اتسع وأطلق على كل ما أصيب منهم كائناً ما كان ، قالوا إذا دخل الواحد والاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئاً لم يخمس ؛ لأن الغنيمة هو المأخوذ قهراً وغلبة لا اختلاساً وسرقة هذا عند أبي حنيفة ويخمس عند الشافعي.
{مِّن شَىْءٍ} حال من عائد الموصول أي ما غنمتموه كائناً مما وقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول للقاتل إذا نفله الإمام وأن الأسارى يخير فيها الإمام وكذا الأراضي المغنومة.
والآية نزلت ببدر.
وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة.
مبتدأ خبره محذوف أي حكمه ثابت فيما شرعه الله وبينه لعباده أن خمسهأو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم أنخمسه والخمس بالفارسية (نج يك).
{وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى} أعاد اللام في لذي القربى دون غيرهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلّم لمزيد اتصالهم به عليه الصلاة والسلام وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
(3/264)
واعلم : أنه عليه السلام : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وكان لعبد مناف أربعة بنين : هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل ، وكان لهاشم ولدان عبد المطلب وأسد ، وكان لعبد المطلب عشرة بنين منهم : عبد الله وأبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب والحارث وزبير ، فكلهم وما يتفرع منهم هاشميون لكونهم من أولاد هاشم وعبد مناف هو ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، وكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون ولد كنانة ومن فوقه فقريش قبيلة أبوهم النضر وإنما خص ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببني هاشم وبني المطلب ؛ لأنهم لم يفارقوه عليه السلام في جاهلية ولا في إسلام فكانت قرابتم قرابة كاملة ، وهي القرابة نسباً وتواصلاً في حال العسر واليسر فأعطوا الخمس ، وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل فمع مساواتهما بني المطلب في القرب حرموا الخمس ، لأن قرابة نوفل بالتواصل والتناصر لم تنضم إلى قرابتهم النسبية.
{وَالْيَتَـامَى} جمع يتيم وهو الصغير المسلم الذي مات أبوه يصرف إليه سهم من الخمس إذا كان فقيراً {وَالْمَسَـاكِينِ} جمع مسكين وهو الذي أسكنه الضعف عن النهوض لحاجته ، أي : أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} أي : المسافر
347
البعيد عن ماله.
قال الكاشفي : (ومسافران مسلمانان يا قومي كه بر مسلمانان نزول كنند).
واعلم : أن اللام في الآية لام الاستحقاق لخمس الغنيمة ، فاقتضى الظاهر أن تكون المصارف ستة أقسام ، لكن الجمهور على أن ذكر الله تعالى للتعظيم وافتتاح الكلام باسمه تعالى على طريق التبرك ، لا لأننصيباً من الخمس فإن الدنيا والآخرة كلها له سبحانه فلا يسدس خمس الغنيمة بأن يصرف سهم منها إلى الله تعالى بصرفه إلى عمارة الكعبة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس ، كما ذهب إليه البعض أو بضمه إلى سهم الرسول كما ذهب إليه الآخر وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم سقط بوفاته ، لأن الأنبياء لا يورثون.
قال ابن الشيخ لأنه عليه السلام لم يخلفه أحد في الرسالة فلا يخلفه في سهمه هذا عند الإمام الأعظم ، وأما الشافعي فيصرف سهمه عليه السلام ، إلى مصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام وكذا سقط سهم ذوي القربى بوفاته عليه السلام فلا يعطى لهم لأجل قرابتهم ، بل يعطى لفقرهم ، وكان عليه السلام يعطيهم غنيهم وفقيرهم لقرابتهم لا لفقرهم حتى كان يعطي العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله.
والحاصل : أن ذوي القربى أسوة لسائر الفقراء أي يدخلون فيهم ويقدمون على غيرهم ولا يعطى أغنياؤهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
وفي شرح الآثار : عن أبي حنيفة إن الصدقات كلها ، أي : فرضها ونفلها جائزة على بني هاشم والحرمة كانت في عهد النبي عليه السلام لوصول خمس الخمس إليهم فلما سقط ذلك بموته حلت لهم الصدقة.
قال الطحاوي : وبالجواز نأخذ ولما سقط السهمان وهما سهم الرسول وسهم ذوي القربى فخمس الغنيمة اليوم يجعل ثلاثة أقسام ، ويصرف إلى ثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، وتقسم الأخماس الأربعة بين الغانمين للفارس سهمان وللراجل سهم.
وفي "حياة الحيوان" إن الفيل يقاتل به وراكبه يرضخ له أكثر من راكب البغل.
وفي "التحفة" : هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرفت إلى صنف واحد منهم جاز {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ} متعلق بمحذوف دل عليه واعلموا ، أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقطعوا أطماعكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ووجه دلالته عليه أنه تعالى إنما أمر بالعلم بهذا الحكم ليعمل به لأن العلم بمثل هذا المعلوم ليس مما يقصد لنفسه بل إنما يقصد للعمل به.
{وَمَآ أَنزَلْنَا} أي : وبما أنزلناه.
{عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلّم من الآيات والنصر على أن المراد بالإنزال مجرد الإيصال والتيسير فينتظم الكل انتظاماً حقيقياً.
{يَوْمَ الْفُرْقَانِ} ظرف لأنزلنا ، أي : يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل بنصر المؤمنين وكبت الكافرين.
{يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي : المسلمون والكفار ، وهو بدل من الظرف الأول (وآن روز جمعه بود هفد هم رمضان درسنه ثانيه از هجرت) ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقتال المشركين لإعلاء الحق والدين.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على نصر القليل على الكثير والذليل على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
{إِذْ أَنتُم} نازلون {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي : شفير الوادي الأدنى من المدينة وهو بدل ثان من يوم الفرقان.
{وَهُم} أي : وعدوكم نازلون.
{بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي : في جانبها الأبعد منها وهو الجانب الذي يلي مكة ، والعدوة : شط الوادي أي جانبه وشفيره ،
348
(3/265)
وسميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء عن أن يتجاوز ، أي : منعته والدنيا من دنا يدنو دنواً والقصوى من قصا المكان يقصو قصواً إذا بعد ، والقياس القصيا بقلب الواو ياء كالدنيا إلا أن واوها بقيت على حالها كواو القود.
{وَالرَّكْبُ} جمع راكب مثل صحب وصاحب ، والراكب هو راكب البعير خاصة كما أن الفارس من على الفرس والمراد بالركب ههنا العير ، أي : القافلة المقبلة المتوجهة من الشام أو قوادها وهم أبو سفيان وأصحابه وكانوا جميعاً على البعير.
{أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي : نازل في مكان أسفل من مكانكم وكانوا بقرب ساحل البحر بينهم وبين المسلمين ثلاثة أميال.
وأسفل ، وإن كان منصوباً على الظرفية واقعاً موقع خبر المبتدأ إلا أنه في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف والجملة حال من الظرف قبله ، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وضعف حال المسلمين ولهذه الفائدة ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ، ولم يكن فيها ماء بخلاف العدوة القصوى فورد النظم على هذا الوجه الدال على القوة والضعف ؛ ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعاً من الله خارقاً للعادة فيزدادوا إيماناً وشكراً.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم.
{اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَـادِ} (در وعده خودرا) هيبة منهم ويأساً من الظفر عليهم {وَلَـاكِنَّ} ما اختلفتم وما تخلفتم عن القتال بل جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد.
{لِّيَقْضِيَ اللَّهُ} ليتم الله {أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} حقيقياً بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه جعل ما اقتضت الحكمة أن يفعل مفعولاً لقوة ما يستدعى أن يفعل {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ} بدل من ليقضي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
قال سعدي لبى المفتي : الظاهر والله أعلم أن عن هنا بمعنى بعد ، كقوله تعالى : {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَـادِمِينَ} أي : يعيش من يعيش عن حجة شاهدها حتى يقوى يقينه ويكمل إيمانه ، فإن وقعة بدر كانت من الآيات الواضحة الدالة على حقيقة الإسلام فمن كفر بعد مشاهدتها كان مكابراً معانداً عادلاً عن الحق الذي وضحت حقيته والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة.
قال سعدى لبى : المراد هو الاستمرار على الحياة بعد وقعة بدر فيظهر صحة اعتبار معنى المشارفة في الحياة أيضاً.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي : بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه.
ولعل الجمع بين وصفي السميع والعليم لاشتمال كل واحد من الكفر والإيمان على القول والاعتقاد (نقلست كه حضرت يغمبر صلى الله عليه وسلّم دران شب كه روزش جنك بدر واقع شده بود در واقعه ديد لشكر قريش را درغايت قلت وذلت تأويل فرمودكه دوستان غالب ودشمنان مغلوب خواهند شد مؤمنان بعد از استماع اين رؤيا وتعبير آن بغايت مسرور وفرحان شدند وحق سبحانه وتعالى تذكار آن نعمت ميفرمايد وميكويد).
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} أي : اذكر يا محمد وقت إراءة الله المشركين إياك.
{فِى مَنَامِكَ} مصدر ميمي بمعنى النوم.
{قَلِيلا} حال من المفعول الثاني ، أي : حال كونهم قليلاً والإراءة بصرية
349
تتعدى إلى اثنين ـ ـ روي عن مجاهد أنه قال : أرى الله تعالى كفار قريش لنبيه صلى الله عليه وسلّم في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه ، فقالوا : رؤيا النبي حق والقوم قليل فكان ذلك سبباً لقوة قلوبهم {وَلَوْ أَرَاـاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ} أي لجبنتم وتأخرتم عن الصف.
قال الحدادي : الفشل هو الضعف مع الوجل {وَلَتَنَـازَعْتُمْ فِى الامْرِ} أي : أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار ، والتنازع أن يحاول كل واحد من الاثنين أن ينزع صاحبه مما هو عليه {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع.
{إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
(3/266)
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} الضميران مفعولا يرى وفاعل الإراءة هو الله تعالى.
والمعنى بالفارسية (وآنراياد كنيداى صحابه كه بنمود خداي تعالى دشمنانرا بشما).
{إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ} حال كونهم {قَلِيلا} وإنما قللهم في أعين المسلمين ، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة مع أنهم كانوا ألفاً وتسعمائة وخمسين تثبيتاً لهم وتقوية لقلوبهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلّم فإنها وحي لا خلف فيه أصلاً.
{وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل : إن محمداً وأصحابه أكلة جزور ، وهو مثل يضرب في القلة ، أي : قلتهم بحيث يشبعهم جزور واحد قللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترئوا عليهم ولا يبالغوا في الاجتهاد والاستعداد والتأهب والحذر ، ثم كثرهم حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم.
قال في "التأويلات النجمية" : {وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} كرره لاختلاف الفعل المعلل به وهو الجمع بين الفريقين على الحالة المذكورة في الأول وتقليل كل واحد من الفريقين في عين الآخر في الثاني.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} كلها يصرفها كيف يريد لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه.
وفيه تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها وإنما المراد منها ما يكون وسيلة إلى سعادة الآخرة ومؤدياً إلى مرضاة الرحمن.
وفي الآيات إشارات : منها أن أركان الإسلام خمسة.
وهي غنائم دينية لكن التوحيد أعلى من الكل ولذا كان خمساً راجعاً إلى الله تعالى وباقي الأخماس حظ الجوارح فعلى العاقل أن يحرز غنائم العبادات وما يتعلق بالمعارف والكمالات التي تحقق بها السادات ليكون الروح والجوارح كلاهما محفوظين غير محرومين.
وفي "التأويلات النجمية" : ما غنمتم عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماس تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار.
داند ووشد بامر ذو الجلال
كه نباشد كشف راز حق حلال
ولا تنفقون أكثر من خمسها في الله مخلصاً وللرسول متابعاً ولذي القربى يعني الإخوان في الله مواصلاً واليتامى ، يعني : أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال والمساكين ، يعني : الطالبين الصادقين إذا أمسكوا بأيدي الإرادة أذيال إرشادكم وابن السبيل
350
يعني الصادر الوارد من أهل الصدق والإرادة من أغيار جانب كل طائفة منهم على حسب صدقهم وإرادتهم وطلبهم واستعدادهم واستحقاقهم مؤدياً حقوقهموفي الله وبالله في متابعة رسول الله وقانون سيرته وسنته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
ومنها : أن الله تعالى كما جمع بين الفريقين بحيث لو تركهم على حالهم لما اجتمعوا ليظهر عز الإسلام ويذل الكفر ، كذلك جمع بين الأرواح والنفوس في هذه الهياكل والقوالب بحيث لو تركهما على حالهما وهما على تلك الضدية واختلاف الطبيعة لما اجتمعت ليحصل الأرواح في مقعد صدق والنفوس مع الملائكة المقربين كما قال : {فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى} (الفجر : 29) بعدما كانت محبوسة في سجن الدنيا والأجساد في جنات النعيم وأعلى عليين بعد ما كانت في أسفل سافلين ، هذا بالنسبة إلى السعداء المخلوقين للتحيات والقربات ، وأما الأشقياء المذروؤون لجهنم فعلى خلاف ذلك وقد خلق الله الاستعداد للترقي والتنزل ولله على الناس الحجة البالغة.
قال الكاشفي : (در ترجمة شفا مذكور ست كه كوهر شب آنكه فروز عقل را همنانه درحقه سينه دوستان مى سارند دراستين دشمنان تر دامن نيز مى نهند "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة" يعني : بارقة نور عقل اكر ازجانب عنايت وتوفيق لامع شود دوستان بدان مهتدى كردند واكر ازطرف قهر وخذلان استضاءت ذيرد سبب اختطاف أبصار بصائر دشمنان شود "يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً").
كرت صورت حال بد يانكوست
نكاريده دست تتدير اوست
(3/267)
ومنها : أن من سنة الله أن يرى النبي عليه السلام حقائق الأشياء حقاً وصدقاً ، وهو يخبر بها ثم يراها أرباب الصورة في الظاهر بضدها ابتلاء واختباراً للمؤمن والمنافق ، فالمؤمن يثبت على إيمانه بتصديق النبي عليه السلام وتسليمه في أقواله وأعماله وأحواله من غير اعتراض ، فيزيده الله إيماناً مع إيمانه ، والمنافق تزل قدمه وتشوش حاله بالاعتراض ويزيد نفاقه على النفاق وعماه على العمى وإلى الله ترجع الأمور فحال المؤمن وأمره يرجع إلى رضاه وحال المنافق وأمره يرجع إلى سخطه والرضى والسخط من آثار لطفه وقهره يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وقس على هذا إلهامات الأولياء وأحوالهم مع معتقديهم ومنكريهم ، فإن الاختبار والابتلاء سنة قديمة وكم ترى من الصوفية من يزعم أنه يحب فلاناً ويعتقده وطريقته حقاً فإذا جاء سطوة القهر بإراءة ما هو غير ملائم لطبعه نكص على عقبيه واتخذه غرضاً لطعنه وتشنيعه وأين هو من المحبة وهو مقام عال يجتمع عنده اللطف والقهر والجمال والجلال فلا يتشوش صاحبه من الأحوال العارضة المرئية في صورة التنزل والتدلي ، ولذا كثر أرباب الصورة وقل أصحاب المعنى ويكفي لكل مرشد كامل واحد ممن يلزم طريقته وينبع هداه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي : حاربتم جماعة كافرة لأن اللقاء مما غلب في الحرب والقتال وهم ما كانوا يحاربون إلا الكفار.
{فَاثْبُتُوا} وقت لقائهم وقتالهم ولا تنهزموا وفي الحديث : "لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا" وإنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والوثوق بالقوة ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو وتحقيرهم وهذا يخالف الاحتياط ، كما قالوا في آداب المناظرة إنه ينبغي أن لا يحسب المناظر الخصم حقيراً ،
351
أي : صغيراً ذليلاً لأن استحقار الخصم ربما يؤدي إلى صدور الكلام الضعيف من المناظر لعدم المبالاة فيكون سبباً لغلبة الخصم الضعيف عليه فيكون الضعيف قوياً والقوي ضعيفاً والشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أعم.
فعلى العاقل أن يسأل العفو والعافية فإنه لا يدري ما يفعل به.
أول شكسته باش كه اوج سرير ملك
يوسف س ازمجاورت قعر اه افت
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي في تضاعيف القتال ومواطن الشدة بالتكبير والتهليل وغيرهما ، وادعوه بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين كالذين {قَالُوا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 250) {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي : تفوزون بمرامكم وتظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله وأن يلتجىء إليه عند الشدائد ويقبل إليه بالكلية فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال ، وعلى أن ذكر الله تعالى له تأثير عظيم في دفع المضار وجلب المنافع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
توبهر حالي كه باشى روز وشب
يك نفس غافل مباش ازذكررب
درخوشى ذكرتوشكر نعمتست
در بلاها التجا باحضر تست
قال بعض الحكماء : إنجنة في الدنيا من دخلها يطيب عيشه وهي مجالس الذكر ، وفي الحديث : "إنسيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ثم بعثوا رائدهم إلى السماء إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقولون ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم ويسألونك لآخرتهم ودنياهم فيقول الله تبارك وتعالى غشوهم رحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
قال في "أنوار المشارق" : وكما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله والعادة جرت في حلق الذكر بالعلانية إذ لم يعرف في كرّ الدهور حلقة ذكر اجتمع عليها قوم ذاكرون في أنفسهم فالذكر برفع الصوت أشد تأثيراً في قمع الخواطر الراسخة على قلب المبتدىء ، وأيضاً يغتنم الناس بإظهار الدين بركة الذكر من السامعين في الدور والبيوت ويشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته خصوصاً في مواضع الازدحام بين الغافلين من العوام لتنبيه الغافلين وتوفيق الفاسقين.
(3/268)
وفي بعض الفتاوى لو ذكر الله في مجلس الفسق ناوياً أنهم يشتغلون بالفسق وأنا أشتغل بالذكر فهو أفضل كالذكر في السوق أفضل من الذكر في غيره وحضور مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس السوء وقد نهي عن أن يجلس الإنسان مجلساً لا يذكر الله فيه ولا يصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم ويكون ذلك المجلس حسرة عليه يوم القيامة وفي الحديث : "من جلس مجلساً كثر فيه لغطه ، فقال : قبل أن يقوم من مجلسه ذلك ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك" فعلى العاقل أن يكون رطب اللسان بالذكر والدعاء والاستغفار دائماً خصوصاً في الأوقات المباركة روي أن النبي عليه السلام بعث بعثاً إلى نجد فغنموا وأسرعوا ، وقال رجل : ما رأينا بعثاً أفضل غنيمة وأسرع رجعة فقال النبي عليه السلام : "ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة وأسرع رجعة الذين شهدوا صلاة الصبح ثم جلسوا يذكرون الله حتى تطلع الشمس ،
352
ثم يصلون ركعتين ثم يرجعون إلى أهاليهم وهي صلاة الإشراق وهو أول وقت الضحى وذلك بعد أن تطلع الشمس ويصلي ركعتين كانت كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة".
ذكر في "شرح المصابيح" أن في قوله : "ثم قعد يذكر الله تعالى" دلالة على أن المستحب في هذا الوقت إنما هو ذكر الله تعالى لا القراءة ؛ لأن هذا وقت شريف وأن للمواظبة للذكر فيه تأثيراً عظيماً في النفوس.
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
وقال في "المنية" : ناقلاً عن جمع العلوم ومن وقت الفجر إلى طلوع الشمس ذكر الله تعالى أولى من القراءة ، ويؤيده ما ذكره في "القنية" من أن الصلاة على النبي عليه السلام والدعاء والتسبيح أفضل من قراءة القرآن في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "ألا أدلكم على ساعة من ساعات الجنة الظل فيها ممدود ، والرزق فيها مقسوم ، والرحمة فيها مبسوطة ، والدعاء مستجاب؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس" قال علي المرتضى رضي الله عنه مر النبي عليه السلام بعائشة رضي الله عنها قبل طلوع الشمس وهي نائمة فحركها برجله فقال : "قومي لتشاهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين إن الله يقسم أرزاق العباد بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس" واختلف في أن التهليل والتسبيح ونحوهما بمجرد القلب أفضل أو باللسان مع حضور القلب.
احتج من رجح الأول بأن عمل السر أفضل واحتج من رجح الثاني بأن العمل فيه أكثر فافتضى زيادة والصحيح هو الثاني ذكره النووي في "شرح مسلم" والذكر الكثير ما كان بصفاء القلب فصفاء القلب جنة العارف في الدنيا ، فإنه يجاوز بذكر الله تعالى عن جحيم النفس الأمارة وهاويتها فيترقى إلى نعيم الحضور.
قال أبو بكر الفرغاني : كنت أسقط في بعض الأيام عن القافلة ، فقلت : يا رب لو علمتني الاسم الأعظم فدخل على رجلان ، وقال : أحدهما للآخر الاسم الأعظم أن تقول : يا الله ففرحت به ، فقال ليس كما تقول بل بصدق اللجأ ، أي : الالتجاء والاضطرار كما يقول من كان في لجة البحر ليس ملجأ غير الله.
واعلم : أن الجهاد من أعظم الطاعات ولذلك لا يجتمع غبار المجاهد مع دخان جهنم وبخطوة من المجاهد يغفر ذنب وبأخرى تكتب حسنة ، ولكن ينبغي للمجاهد أن يصحح نيته ويثبت في مواطن الحرب فإن بثبات القلب والقدم يتبين أقدار الرجال ، كما كان للصديق رضي الله عنه حين صدمته الوجيعة بوفاة رسول الله حين قال "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت" ويجتنب عن الظلم وارتكاب المعاصي فإن الغلبة على الأعداء بالقوة القدسية والتأييد الإلهي لا بالقوة الجسمانية وكثرة العدد والعدد ، ألا يرى إلى الله تعالى كيف أيد المؤمنين بالملائكة في غزوة بدر مع قلتهم وكثرة الكافرين فالذين جاهدوا في سبيل الله بالتقى والصبر والثبات فقد غلبوا على الأعداء ووصلوا إلى الدرجات.
كه شتاب و صرصر كه قرار وكوه
كه نشيب كبوتركه فراز عقاب
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
واستعرض الاسكندر جنده فتقدم إليه رجل بفرس أعرج فأمر بإسقاطه فضحك الرجل فاستعظم ضحكه في ذلك المقام ، فقال له ما أضحكك؟ وقد أسقطتك؟ قال : العجب منك قال كيف قال تحتك آلة الهرب وتحتي آلة الثبات ثم تسقطني فأعجب بقوله وأثبته.
ثم اعلم أن الفئة الباغية ظاهرة كالطائفة الكافرة والجماعة الفاجرة وباطنة كطائفة القوى النفسانية وجماعة النفس الأمارة ، فكما أن المؤمن مأمور بالثبات عند ظهور الفئة الباغية الظاهرة فكذلك مأمور بالثبات عند ظهور الفئة الباغية
353
(3/269)
الباطنة بالمجاهدات والجهاد مع الكفار جهاد أصغر والجهاد مع النفس جهاد أكبر والأكبر أفضل من الأصغر ولذلك يكون القتيل في الأكبر صديقاً وفي الأصغر شهيداً فالصديق فوق الشهيد ، كما قال تعالى : {فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ} والخلاص من ظلمات الخلقية والفوز بأنوار الذكر الذي الاشتغال به من أكبر أنواع الجهاد وأسرع قدم في الوصول إلى رب العباد نسأل الله تعالى أن يحققنا بحقائق الذكر والتوحيد.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في كل ما تأتون وما تذرون خصوصاً في أمر الجهاد وثبات القدم في معركة القتال {وَلا تَنَـازَعُوا} باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأُحد {فَتَفْشَلُوا} جواب للنهي يقال فشل أي كسل وضعف وتراخى وجبن {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالنصب عطف على جواب النهي أي تذهب دولتكم وشوكتكم فإنها مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها وجريانها.
وقيل : المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى ويقال لها ريح النصرة.
وروي أنه حاصر المدينة قريش غطفان وبنو قريظة وبنو النضير يوم الخندق فهبت ريح الصبا شديداً فقلعت خيامهم وأراقت قدورهم وهربوا فقال عليه السلام : "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" والصبا بفتح الصاد وبالقصر ريح تهب من المشرق ، والدبور : هي ما يقابل الصبا في الهبوب يعني الريح مأمورة تجيء تارة للنصرة وتارة للإهلاك ، وفي "المثنوي" :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حقند كاه امتحان
بادرا ديديكه باعادان ه كرد
ابرا ديديكه باطوفان ه كرد
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
{وَاصْبِرُوا} على شدائد الحرب وقتال المشركين ولا تولوهم الأدبار.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} بالنصرة والكلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية ومعيته تعالى إنما هي من حيث الإمداد والإعانة {وَلا تَكُونُوا} أيها المؤمنون {كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِم} يعني : أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير أي القافلة المقبلة من الشام.
{بَطَرًا} مفعول له.
أي : افتخاراً بمآثر الأصول من الآباء والأمهات وأشراً وهو مقابلة النعمة بالتكبر والخيلاء.
{وَرِئَآءَ النَّاسِ} ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسول أبي سفيان ، وقال : ارجعوا فقد سلمت عيركم من أصحاب محمد ومن نهبهم ، فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ، أي أتوا بدراً ولكن سقوا كأس المنايا بدل كأس الخمور وناحت عليهم النوائح مكان تغني القيان ، فنهى المؤمنون أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين وأمرهم بالتقوى والإخلاص لأن النهي عن الشيء مستلزم للأمر بضده {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عطف على بطراً بتأويل المصدر أي وصداً ومنعاً للناس عن دين الله المؤدي إلى الجنة والثواب.
{وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم عليه.
وفيه تهديد على الأعمال القبيحة خصوصاً ما ذكر في هذه الآية من البطر.
والرئاء : هو إظهار الجميل وإبطان القبيح وهو من الصفات المذمومة للنفس.
354
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال : كنت ليلة في وقت السحر في غرفة لي على الطريق أقرأ سورة طه فلما ختمتها غفوت غفوة فرأيت شخصاً نزل من السماء بيده صحيفة فنشرها بين يدي فإذا فيها سورة طه ، وإذا تحت كل كلمة عشر حسنات مثبتة إلا كلمة واحدة فإني رأيت مكانها محواً ولم أرَ تحتها شيئاً ، فقلت : والله لقد قرأت هذه الكلمة ولا أرى ثواباً ولا أراها أثبتت فقال الشخص صدقت قد قرأتها وكتبناها إلا أنا قد سمعنا منادياً ينادي من قبل العرش امحوها وأسقطوا ثوابها فمحوناها ، قال فبكيت في منامي فقلت لم فعلتم ذلك فقال مر رجل فرفعت بها صوتك لأجله فذهب ثوابها وفي الحديث : "إن النار وأهلها يعجون من أهل الرياء" أي : يتضرعون ويرفعون الصوت قيل يا رسول الله وكيف تعج النار قال : "من ضر الناس الذين يعذبون بها" فويل للمرائي في عمله ، ومن الرياء التزيي بزي القوم تصنعاً ودوران البلاد تفرجاً ليتباهى بذلك على الإخوان ، كما يفعله أكثر المتسمين بالصوفية في هذا الزمان فإن مقصودهم ليس التقليد بلباس القوم تبركاً مع التحقق بمعانيهم فهم محرومون من أنوار المعرفة وأسرار الحقيقة خارجون عن دائرة الطريقة.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
مدعى خواست كه آيد بتماشا كه راز
دست غيب آمد وبر سينه نا محرم زد
فعلى العاقل إخلاص العمل وهو إرادة التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته سواء كان من العبادات المالية أو البدنية.
(3/270)
وفي "التتارخانية" : لو افتتح الصلاة خالصاًتعالى ثم دخل في قلبه الرياء فهو على ما افتتح والرباء إنه لو خلا عن الناس لا يصلي ، ولو كان مع الناس يصلي فأما لو صلى مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب أصل الصلاة دون الإحسان ولا رياء في الصوم إلا أن يكون مراده من الرياضة اصفرار الوجه وهزال البدن ليظنه الناس رجلاً صالحاً متقياً مريداً للآخرة فانظر إلى تعبه لأجل الناس ولو كان له عقل صحيح وفكر ثاقب لما فعل هذا وفي مثل هذا قالوا أخف حلماً من عصفور قال حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه :
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصافير وما الدنيا حتى يطلبها العاقل بعمله ويضيع عمره إلى حلول أجله وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي عليه السلام مر بدمنة قوم فيها سخلة ميتة فقال ما لأهلها ، فيها حاجة؟ قالوا : يا نبي الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها قال : "فوالله الدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها".
قال السعدي قدس سره :
وكرسيم اندوده باشد نحاس
توان خرج كردن برناشناس
منه آب زرجان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
ه قدر آورد بنده خوردييس
كه زير قبادارد اندام يس
نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل في مسالك الدين ويوصلنا إلى رضاه في كل قول وعمل وهو المعين آمين بجاه النبي الأمين.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} (آورده اندكه ون قريش از مكه برون آمده بحوالي منزل بني كنانه رسيدند بجهت كيفيت قد يمى كه
355
ميان ايشان بود انديشه ناك شده خواستند باز كردند إبليس بصورة سراقة بن مالك مهتر كنانه بود برآمد برايشان ملاقات نمودو كفت شمانيكو حمايتي ميكنيد برويد من ضامن كه از بنى كنانه ضرر بشمانرسد ومن نيز طريق رفاقه مرعى دارم س إبليس باجمعي از شياطين همراه ايشان روى ببدر آوردند حق سبحانه وتعالى ازين قصه خبر ميد هد) والمعنى : واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان أعمال كفار مكة في معاداة المؤمنين وغيرها (ودر حقائق سلمى فرموده كه قوة ايشانرا بنظر ايشان درآورد تا اعتماد بدان كردند) {وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} فإنكم كثير وهم قليل.
قوله : (لكم) خبر لا غالب ، أي : لا غالب كائن لكم واليوم منصوب بما تعلق به الخبر ومن الناس حال من الضمير فيه ، والمراد من الناس المؤمنون.
{وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجيركم من بني كنانة ومعين لكم فمعنى الجار المجير الحافظ الذي يدفع عن صاحبه أنواع الضر كما يدفع الجار عن جاره تقول العرب أنا جار لك من فلان ، أي حافظ لك من مضرته فلا يصل إليك منه مكروه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
وقال في "القاموس" : الجار المجاور : الذي أجرته من أنه يظلم والمجير وأجاره أنقذه {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} أي تلافى الفريقان يوم بدر.
قال الكاشفي : (س آن هنكام كه بديدند هر دو كروه لشكر يكديكررا) {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} رجع القهقهرى وهو أصل معنى النكوص لأن الغالب فيمن يفر عن موضع القتال أن يرجع قهقرى لخوفه من جهة العدو.
وقوله على عقبيه حال مؤكدة لأن رجوع القهقرى إنما يكون على العقبين (واين عبارتست از هزيمت كردن بمكر وحيله آورده اندكه ون روز بدر ملاكئة فرود آمدند إبليس ايشانرا ديد روى بفرار نهاد درآن محل دست بردست حارث بن هاشم بود حارث كفت أي سراقه در نين حال مارا فروميكذارى إبليس دست برسينه اوزد) {وَقَالَ إِنِّي بَرِىاءٌ مِّنكُمْ} (من بيزارم از زنهار شما) {إِنِّيا أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} من نزول الملائكة للإمداد فقال الحارث وما نرى إلا جعاشيش أهل يثرب والجعشوش الرجل القصير.
{إِنِّيا أَخَافُ اللَّهَ} من أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني على أن يكون الوقت هو الوقت المعلوم الذي أنظر إليه.
{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن يخاف منه وقد صدق الكذاب إنه يخاف من شدة عذاب الله فإن عقابه لو وقع عليه لتلاشى ولذلك كان يفر من ظل عمر رضي الله عنه "وما سلك فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر" لئلا يقع عليه عكس نور ولاية عمر فيحرقه وقد علم الشيطان أنه من المعذبين المعاقبين وإنما خوفه من الله من شدة عقابه لأنه يعلم أنه لا نهاية لشدة عقابه والله قادر على أن يعاقبه بعقوبة أشد من الأخرى.
وفيه إشارة إلى أن خوفه من الله يدل على أنه غير منقطع الرجاء منه كذا في "التأويلات النجمية".
(نقلست كه منهزمان بدر بعد از رجوع بمكه سراقه را يغام فرستادندكه لشكر ماراتو منهزم ساختى سراقه سوكند يا دكردكه تا هزيمت شمانشنيدم ازعزيمت شما وقوف نيافتم س همه را معلوم شدكه آن شيطان بودكه خودرا برصورت سراقه نموده).
فإن قيل : كيف يجوز أن يتمكن إبليس من أن يخلع صورة نفسه ويلبس صورة سراقة ولو كان قادراً على أن يجعل نفسه في مثل صورة إنسان لكان قادراً على أن يجعل غيره إنساناً.
356
(3/271)
قيل : إذا صحت هذه الرواية فالجواب أن الله خلق إبليس في صورة سراقة والله تعالى قادر على خلق إنسان في مثل صورة سراقة ابتداء فكان قادراً على أن يصور إبليس في مثل صورة سراقة كما في "التفسير الحدادي".
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
وقال القاضي أبو يعلى : ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلمهم الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله أو تكلم بها نقله الله تعالى من صورة إلى صورة فيقال إنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو فعل إذا فعله نقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة وأما أن يصور نفسه فذاك محال ؛ لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقضت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل بالجملة فكيف بنقل نفسها قال والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة بن مالك وأن جبريل تمثل في صورة دحية وقوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم : 17) محمول على ما ذكرنا وهو إنه قدره الله تعالى على قول قاله فنقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى كذا في "آكام المرجان" ونظر فيه والهي الأسكوبي بأن من قال تمثل جبريل عليه السلام وتصور إبليس عليه ما يستحق ليس مراده أنهما أحدثا تلك الصورة والمثال من قدرتهما نفسهما بل بإقدار الله لهما على التصور والتمثل كيف شاءا فلا منافاة بين القولين غاية ما في الباب أن العمل من طريق ما أقدره الله به من الأسباب المخصوصة انتهى.
يقول الفقير : إن الملائكة والشياطين من قبيل الأرواح اللطيفة وللأرواح التصور بأنواع الصور كما أن للأجسام التلون بألوان الألبسة وكل ذلك بأقدار الله تعالى في الحقيقة لكن هذا المعنى صعب المسلك فلا يهتدي إلى دركه إلا الأنبياء والأولياء المكاشفون عن حقيقة الأمر والله أعلم.
ثم إن من عادة الشيطان أن يقحم من أطاعه ورطة الهلاك ثم يتبرأ منه.
حكي أن عابداً عبد الله في صومعته دهراً طويلاً فولدت لملكهم ابنة فأنف الملك أن يمسها الرجال فأخرجها إلى صومعته وأسكنها معه كيلا يعرف أحد مكانها ويستخطبها منه فكبرت الابنة فحضر إبليس على صورة شيخ وخدعه بها حتى واقعها الزاهد وأحبلها ، فلما ظهر بها الحبل رجع إليه فقال له إنك زاهدنا وإنها لو ولدت يظهر زناك فتصير فضيحة فاقتلها قبل الولادة ، وأعلم والدها أنها قد ماتت فيصدقك فتنجو من العذاب والشين فقتلها الزاهد فجاء الشيطان إلى الملك في زيّ العلماء فأخبره بصنع الزاهد بابنته من الإحبال والقتل ، وقال : إن أردت أن تعرف حقيقة ما أخبرتك فانبش قبرها وشق بطنها فإن خرج منها ولد فهو مصداق مقالتي وإن لم يخرج فاقتلني ففعل الملك ذلك فإذا الأمر كما قال : فأخذ الزاهد وأركبه الإبل وحمله إلى بلده فصلبه فجاءه الشيطان وهو مصلوب فقال له إنك زنيت بأمري وقتلت نفساً بأمري فآمن بي أنجك من عذاب الملك فأدركته الشقاوة فآمن به فهرب الشيطان منه ووقف من بعيد فقال الزاهد نجني فقال الشيطان إني أخاف الله رب العالمين.
فعلى العاقل الحذر من كيده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
وفي "المثنوي" :
آدمى را دشمن نهان بسيست
آدمىء باحذر عاقل كسيست
واعلم أن الشيطان إذا ظفر بالسالك يغره بالقوة والكمال والبلوغ إلى مرتبة الرجال وإنه
357
لا يضره التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات ، بل ينفعه في نفي الرياء والعجب كما هو طريقة أهل الملامة.
قال بعض أرباب الحقيقة : يجوز أن تظهر لنفسك ما يوجب نفي دعواها من مباح مستبشع أو مكروه لم يمنع دواء لعلة العجب لا محرماً متفقاً عليه انتهى ، فليكن هذا على ذكر منك فإن صوفية الزمان قد تجاوزوا الحلال إلى الحرام وتركوا العهود بينهم وبين المشايخ الكرام ولم يعرفوا أن السلامة في الأخذ بالكتاب وسنة النبي عليه السلام والتأدب بآداب وضعها الخواص من الأنام لمن يطلب الدخول إلى حرم أسرار الله الملك العلام.
قال الحافظ :
در راه عشق وسوسه اهر من بسيست
هش دار وكوش دل بيام سروش كن
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
(3/272)
{إِذِ} منصوب باذكر {يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ} من أهل المدينة من الأوس والخزرج.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} من قريش كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا لعدم قوة إسلامهم ، ولمنع أقربائهم إياهم من الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم معهم كرهاً ، ولما رأوا قلة عدد المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا لأهل مكة : {غَرَّ هَـاؤُلاءِ} يعنون المؤمنون {دِينُهُمْ} ؛ إذ خرجوا مع قلة عددهم وعددهم لحرب قريش مع كثرتهم وشوكتهم ولم يشكوا ، بل قطعوا بأن قريشاً تغلبهم لأنهم زهاء الألف والمؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر ، فقال الله تعالى : جواباً لهم {وَمَنِ} (هركه) {يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي : ومن يسلم أمره إلى الله تعالى ويثق به وبقضائه ، {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب لا يذل من توكل عليه واستجار به وإن قل {حَكِيمٌ} يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول وتحار في فهمه ألباب الفحول.
روي أن الحجاج بن يوسف سمع ملبياً يلبي حول البيت رافعاً صوته بالتلبية ، وكان إذ ذاك بمكة فقال عليّ بالرجل فأتي به إليه ، فقال : ممن الرجل؟ قال من المسلمين ، فقال : ليس عن الإسلام سألتك قال فعم سألت؟ قال : سألتك عن البلد قال من أهل اليمن ، قال كيف تركت محمد بن يوسف؟ يعني : أخاه قال تركته عظيماً جسيماً لباساً ركاباً خراجاً ولاجاً ، قال : ليس عن هذا سألتك قال : فعم سألت؟ قال : سألتك عن سيرته قال تركته ظلوماً غشوماً مطيعاً للمخلوق عاصياً للخالق ، فقال له الحجاج : ما حملك على هذا الكلام وأنت تعلم مكانه مني ، قال الرجل : أترى مكانه منك أعز مني بمكاني من الله ، وأنا وافد بيته وزائر نبيه وقاضي دينه ومتبع دينه فسكت الحجاج ولم يجر جواباً وانصرف الرجل من غير إذن ، فتعلق بأستار الكعبة ، وقال : اللهم بك أعوذ وبك ألوذ ، اللهم فرجك القريب ومعروفك القديم وعادتك الحسنة ، فانظر إلى هذا الرجل كيف أظهر الحق ولم يخف من المخلوق خصوصاً من الحجاج الذي كان أظلم خلق الله في زمانه حتى كسر الأعراض وسفك الدماء ، وفعل ما فعل إلى حيث يضيق نطاق البيان عنه فلما توكل على الله واستجار به نصره الله وهو بانفراده على الحجاج وهو مع جمعه لأن الصحيح السالم وهو المؤمن غالب على السقيم المبتلى ، وهو المنافق والحجاج كان من منافقي هذه الأمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 358
واعلم : أن مرض القلوب على نوعين : نوع منه الشك في الإيمان والدين وحقيقته فذلك مرض قلوب الكفار والمنافقين.
والثاني : ميلها إلى الدنيا وشهواتها وملاحظة الحظوظ النفسانية وهو مرض قلوب المسلمين.
والإشارة فيه : أن المعالجة لما يكون في قلوب الكفار والمنافقين بالإيمان والتصديق واليقين وإن ماتوا في مرضهم فهم من الهالكين ، ومعالجة
358
مرض قلوب المسلمين بالتوبة والاستغفار والزهد والطاعة والورع والتقوى وإن ماتوا في مرضهم فهم من أهل النجاة من النار بعد العذاب وشفاعة الأنبياء ، وربما يؤدي مرضهم بترك المعالجة والاحتماء إلى الهلاك وهو الكفر ألا ترى إلى حال بعض المسلمين من أهل مكة لما تركوا العلاج ، وانقطعوا عن الطبيب وهو النبي عليه السلام وما احتموا عن الغذاء المخالف وهو قولهم غر هؤلاء دينهم هلكوا مع الهالكين ظاهراً وباطناً.
فعلى العاقل تحصيل حسن الحال قبل حلول الأجل وهو إنما يكون بصحبة واصل إلى الله عز وجل والله تعالى يجود على الخلق عامة فكيف على العقلاء والعشاق.
قال الحافظ :
عاشق كه شدكه يار بحالش نظر نكرد
أي خواجه دردنيست وكرنه طبيب هست
وقال آخر :
مكو أصحاب دل رفتند وشهر عشق شد خالي
جهان ر شمس تبر يزاست ومردى كوو مولانا
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وسهل علينا مداواة هذه القلوب المرضى.
{وَلَوْ تَرَى} يا محمد حال الكفرة ، أي لو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً عكس إن {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملائكة} أي حين تقبض أعوان ملك الموت أرواح الكفار ببدر فالملائكة فاعل يتوفى {يَضْرِبُونَ} أي حال كون الملائكة يضربون بمقامع من حديد كلما ضربوا التهب النار منها {وُجُوهَهُمْ} أي : ما أقبل من أعضائهم {وَأَدْبَـارَهُمْ} أي ما أدبر منها {وَذُوقُوا} أي يضربون ويقولون ذوقوا بعد السيف في الدنيا.
{عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي : العذاب المحرق الذي هو مقدمة عذاب الآخرة فهو فعيل بمعنى مفعل يقال حرقه بالنار وأحرقه وحرقه فاحترق وتحرق وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن حدود البيان أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف.
(3/273)
{ذَالِكَ} المذكور من الضرب والعذاب واقع.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي : بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي ، فاليد عبارة عن النفس الدراكة عبر عنها باسم أغلب آلاتها في اكتساب الأفعال.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها ، أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم فلا يجازي أهل الإيمان بجهنم وعذابها وإنما يجازي أهل الكفر والنفاق والارتداد بظلمهم على أنفسهم وسر التعبير عن نفي التعذيب بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعاً عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً قد مر في سورة آل عمران.
جزء : 3 رقم الصفحة : 358
فإن قلت ظلام أخص من ظالم لأنه للمبالغة المقتضية للتكثير ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.
قلت : المراد بكثرة الظلم كثرته باعتبار كثرة متعلقه فإن لفظ العبيد يدل على الكثرة فيكون ما أصابهم من الظلم كثيراً نظراً إلى كثرتهم فالمنفي عن كل واحد منهم أصل الظلم ، فالمعنى : أنه تعالى لا يظلم أحداً من عبيده وأيضاً إنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى القليل لأن الذي يظلم إنما ظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه اترك.
وأيضاً إن الظلام للنسبة كما في بزاز وعطار أي لا ينسب إليه ظلم البتة {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي : عادة كفار قريش في كفرهم وعنادهم كعادة آل فرعون المشهورين بقباحة
359
الأعمال ، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه فيه ، ثم سميت العادة دأباً ؛ لأن الإنسان يداوم على عادته وآل الرجل الذين يرجعون إليه بأوكد الأسباب ولهذا لا يقال لقرابة الرجل آل الرجل ولا يقال لأصحابه آله والمقصود هنا كدأب فرعون وآله أي : أتباعه.
{وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي : من قبل آل فرعون كقوم نوح وثمود وعاد وغيرهم من أهل الكفر والعناد.
{كَفَرُوا بآيات اللَّهِ} تفسير للدأب ، والآية هي دلائل التوحيد المنصوبة في الأنفس والآفاق أو معجزات الأنبياء على الإطلاق {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي : عاقبهم الله تعالى بسبب كفرهم وسائر معاصيهم.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لا يغلبه في دفعه شيء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 358
{ذَالِكَ} أي : ترتب العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداء مع قدرته تعالى على ذلك.
{بِأَنَّ اللَّهَ} أي : بسبب أنه تعالى.
{لَمْ يَكُ} في حد ذاته.
وأصله يكن فحذفت النون تخفيفاً لشبهها بحرف اللين من حيث كونها حرف غنة فكما يحذف حرف اللين حال الجزم حذفت النون الساكنة أيضاً للتخفيف لكثرة استعمال فعل الكون ، ولم يحذف في نحو لم يصن ولم يخن لقلة استعمالهما بالنسبة إلى لم يكن وكثرة الاستعمال تستدعي التخفيف.
{مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا} أي : لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أنعم بها {عَلَى قَوْم} من الأقوام ، أي : نعمة كانت جلت أو هانت.
{حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة ، أو قريبة من الصلاح بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاء الكفرة حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة الأصنام مستمرين على حالة مصححة لإفاضة نعمة الإمهال وسائر النعم الدنيوية عليهم ، فلما بعث إليهم النبي عليه السلام بالبينات غيروها إلى أسوأ منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم يبغونهم الغوائل فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال.
وقال الحدادي : أطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف وأرسل إليهم رسولاً منهم وأنزل عليهم كتاباً بألسنتهم ثم إنهم غيروا هذه النعم ولم يشكروها ولم يعرفوها من الله فغير الله ما بهم وأهلكهم وعاقبهم ببدر.
{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي : وبسبب أن الله تعالى يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
{كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} تكرير للتأكيد {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَا وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ} وعطف قوله تعالى : {وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ} على (أهلكنا) مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته كعطف جبرائيل على الملائكة {وَكُلٌّ} من غرقى القبط وقتلى قريش {كَانُوا ظَـالِمِينَ} أنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرّضوها للهلاك أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان التصديق.
(3/274)
والإشارة : أن فرعون وقومه اختصوا بالاستغراق في بحر الهلاك عن غيرهم لادعاء فرعون الربوبية وإقرار قومه وتصديقهم إياه بها وهذا غاية فساد جوهر الروحانية باستيلاء الصفات النفسانية ، وكل ممن كفر بالله وكذب بآياته كانوا
360
ظالمي أنفسهم لإفساد استعدادهم وإن لم يبلغوا في الظلم والكفر ما بلغ فرعون وقومه فعليك بمحافظة الاستعداد الفطري وإكثار الشكر عليه وإياك وشؤم المعاملات السيئة المؤدية إلى الإفساد والإهلاك ولا يحملك العناد على مخالفة الحق وعدم قبوله فإنه لا ينبغي لأحد خصوصاً للسلاك.
كسى راكه ندار درسربود
مندار هركزكه حق بشنود
قال الإمام الغزالي قدس سره : إن النعمة إنما تسلب ممن لا يعرف قدرها وأقنع في هذا الباب بمثال ملك يكرم عبداً له فيخلع عليه خاصة ثيابه ويقربه منه ويجعله فوق سائر حجابه وخدامه ويأمره بملازمة بابه ثم يأمر أن يبتنى له في موضع آخر القصور وتوضع له الأسرة وتنصب له الموائد وتزين له الجواري ويقام له الغلمان حتى إذا رجع من الخدمة أجلس هنالك ملكاً مخدوماً مكرّماً وما بين حال خدمته إلى ملكه وولايته إلا ساعة من نهار أو أقل فإن أبصر هذا العبد بجانب باب الملك سائساً للدواب يأكل رغيفاً أو كلباً يمضع عظماً فجعل يشتغل عن خدمة الملك بنظره إليه وإقباله عليه ولا يلتفت إلى ما له من الخلع والكرامة فيسعى إلى ذلك السائس ويمد يده ويسأله كسرة من رغيفه أو يزاحم الكلب على العظم ويعظمهما ويعظم ما هما فيه أليس الملك إذا نظر إليه على مثل هذه الحالة ، يقول هذا السفيه لم يعرف حق كرامتنا ولم ير قدر إعزازنا إياه بخلعنا والتقرب إلى حضرتنا مع صرفنا إليه من عنايتنا وأمرنا له من الذخائر وضروب الأيادي ما هذا إلا ساقط عظيم الجهل قليل التمييز اسلبوه الخلع واطردوه عن بابنا ، فهذا حال العالم إذا مال إلى الدنيا والعابد إذا اتبع الهوى فعليك أيها الرجل ببذل المجهود حتى تعرف نعم الله تعالى عليك واحذر من أن تكون النعمة نقمة والولاء بلاء والعز ذلاً والإقبال إدباراً واليمين يساراً فإن الله تعالى غيور.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
هركه شد مرششاه را او جامه وار
هست خسران بهر حشاهش اتجار
هركه باسلطان شود او همنشين
بر درش شستن بود حيف وغبين
دست وسش ون رسيد از ادشاه
كر كزيند بوس اباشد كناه
كره سر برانهادن خدمتست
يش آن خدمت خطا وزلتست
شاه را غيرت بود بر هركه او
بو كزيند بعد ازانكه ديدرو
والمقصود : أن من عرف الله وعرف قدر نعمته عليه ترك الالتفات إلى الدنيا بل إلى الكونين فإن الله أجل من كل شيء وذكره أفضل من كل ذكر وكلام.
وحكي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والدواب من الوحوش والأنعام والجن والإنس وسائر الحيوانات عن يمينه ويساره فمر بعابد من عباد بني إسرائيل ، فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً فسمع ذلك سليمان فقال لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود فإن ما أعطي ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى فهذا إرشاد عظيم لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وتوجه إلى الحضرة العليا فارغاً عن شواغل الدنيا.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ}
361
أي : شر ما يدب على الأرض ويتحرك من الحيوانات.
{عِندَ اللَّهِ} أي : في حكمه وقضائه.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : أصروا على الكفر ورسخوا فيه.
{فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فلا يتوقع منهم إيمان لكونهم من أهل الطبع وجعلوا شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل عن مجانستهم وإنما هم من جنس الدواب ومع ذلك هم شر من جيمع أفرادها كما قال تعالى : {{إِنْ هُمْ إِلا كَالانْعَـامِا بَلْ هُمْ أَضَلُّ} .
دريغ آدمى زاده رمحل
كه باشد وانعام بل هم اضل
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(3/275)
{الَّذِينَ عَـاهَدتَّ مِنْهُمْ} بدل من الموصول الأول بدل البعض للبيان أو للتخصيص ، أي : الذين أخذت منهم عهدهم فمن لابتداء الغاية.
{ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} الذي أخذته منهم عطف على عاهدت.
{فِي كُلِّ مَرَّةٍ} من مرات المعاهدة.
{وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} أي : يستمرون على النقض والحال إنهم لا يتقون سيئة الغدر ولا يبالون فيه من العار والنار وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أن لا يعينوا عليه عدواً فنقضوا العهد وأعانوا أهل مكة يوم بدر بالسلاح ثم قالوا نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم مرة أخرى فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق أي ساعدوا وعاونوا وذلك إنهم لما رأوا غلبة المسلمين على المشركين يوم بدر قالوا إنه هو النبي الموعود بعثه في آخر الزمان فلا جرم يتم أمره ولا يقدر أحد على محاربته ثم إنهم لما رأوا يوم أحد ما وقع من نوع ضعف المسلمين شكوا وقد كان احترق كبدهم بنار الحسد من ظهور دينه وقوة أمره فركب كعب بن أسد سيد بني قريظة مع أصحابه إلى مكة وواثقوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأدى ذلك إلى غزوة الخندق ، وفيه ذم بطريق الإشارة للذين عاهدوا الله على ترك المعاصي والمنكرات ثم نقضوا العهد مرة بعد أخرى.
نه مارا درميان سهد وفابود
جفا كردى وبد عهدي نمودى
هنوزت ارسر صلحست باز آي
كزان محبوبتر باشى كه بودى
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} ثقفه كسمعه صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه كما في "القاموس" وإما مركبة من إن للشرط وما للتأكيد ، أي : فإذا كان حالهم كما ذكر فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم.
{فِى الْحَرْبِ} أي : في تضاعيفها.
{فَشَرِّدْ} فرق.
قال الكاشفي : (س رميده كردان ومتفرق ساز) {بِهِم} أي بسبب قتلهم {مَّنْ خَلْفَهُمْ} مفعول شرد أي من وراءهم من الكفرة من أعدائك ، والتشريد : الطرد وتفريق الشمل وتبديد الجمع ، يعني : إن صادفت هؤلاء الناقضين في الحرب افعل بهم وأوقع فيهم من النكاية والقهر ما يضطرب به حالهم ويخاف منك أمثالهم بحيث يذهب عنهم بالكلية ما يخطر ببالهم من مناصبتك ، أي : معاداتك ومحاربتك {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي : لعل المشردين وهم من خلفهم يتعظون بما شاهدوا مما نزل بالمنافقين فيرتدعون عن النقض أو عن الكفر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 362
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ند كيراز مصائب دكران
تانكيرند ديكران زتوند
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} تعلمن فالخوف مستعار للعلم.
{مِن قَوْمٍ} من المعاهدين {خِيَانَةً} نقض
362
عهد فيما سيأتي بما لاح لك منهم من علامات الغدر.
{فَانابِذْ إِلَيْهِمْ} أي : فاطرح إليهم عهدهم حال كونك.
{عَلَى سَوَآءٍ} أي : ثابتاً على طريق سويّ في العداوة بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم أخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، فلا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلاً فالجار متعلق بمحذوف وهو حال من النابذ أو على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وأدناهم فهو حال من المنبوذ إليهم أو تستوي فيه أنت وهم فهو حال من الجانبين.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَا ـاِنِينَ} تعليل للأمر بالنبذ على طريقة الاستئناف كأنه قيل : لِمَ أمرتنا بذلك ونهيتنا عن المحاربة قبل نبذ العهد فأجيب بذلك ويحتمل أن يكون طعناً على الخائنين الذين عاهدهم الرسول عليه السلام كأنه قيل : وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم.
(إن الله لا يحب الخائنين) وهم من جملتهم لما علمت حالهم.
واعلم أن النبذ إنما يجب على الإمام إذا ظهرت خيانة المعاهدين بأمارات ظنية وأما إذا ظهر أنهم نقضوا العهد ظهوراً مقطوعا به فلا حاجة إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي عليه السلام ، ولما أمر الله بنبذ العهد والتصريح به قبل المحاربة خطر بالبال أن يقال : كيف نوقظ العدو ونعلمهم بطرح العهد إليهم قبل المحاربة مع أنهم إن علموا ذلك إما أن يتأهبوا للقتال ويستجمعوا أقصى ما يمكن لهم من أسباب التقوى والغلبة أو يفروا ويتخلصوا وعلى التقديرين يفوت المقصود وهو الانتقام منهم أما يكفي لصحة المحاربة معهم بغير نبذ العهد إليهم وإعلامهم به ظهور أمارات الخيانة منهم فأزاح الله تعالى هذا المحذور بقوله :
(3/276)
{وَلا يَحْسَبَنَّ} أي : لا يظن {الَّذِينَ كَفَرُوا} وهو فاعل والمفعول الأول محذوف أي أنفسهم حذف هرباً من تكرار ذكرهم.
{سَبَقُوا} مفعول ثاننٍ ، أي : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم ويدخل فيه من لم يظفر به يوم بدر وغيره من معارك القتال من الذين آذوه عليه السلام وبالغوا في عصيانه.
{إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} تعليل للنهي على سبيل الاستئناف المبني على تقدير السؤال ، أي : لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم على أن همزة أعجز لوجود المفعول على فاعلية أصل الفعل وهو العجز ، كما تقول أبخلته إذا وجدته بخيلاً يقال أعجزه الشيء إذا فاته وأعجزت الرجل إذا وجدته عاجزاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 362
وفي الآية : تهديد للنفوس التي اجترأت على المعاصي وهي في الحقيقة مجترئة على الله تعالى.
وعن السري السقطي رضي الله عنه قال : كنت يوماً أتكلم بجامع المدينة فوقف عليّ شاب حسن الشباب ، فأخر الثياب ومعه أصحابه فسمعني أقول في وعظي عجباً لضعيف يعصي قوياً فتغير لونه.
وانصرف فلما كان الغد جلست في مجلسي ، وإذا به قد أقبل فسلم وصلى ركعتين وقال يا سري : سمعتك بالأمس تقول عجباً لضعيف كيف يعصي قوياً فما معناه؟ قلت : لا أقوى من الله ولا أضعف من العبد وهو يعصيه.
كره شاطر بود حروس بجنك
ه زند يش باز رويين نك
فنهض وخرج ثم أقبل من الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد ، فقال : ياسري كيف الطريق إلى الله فقلت : إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل ، وإن أردت الله فاترك
363
كل شيء سواه تصل إليه وليس إلا المساجد والخراب والمقابر ، فقام وهو يقول والله لاسلكت إلا أصعب الطرق وولى خارجاً ، فلما كان بعد أيام أقبل إليّ غلمان كثير فقالوا ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب؟ فقلت : لا أعرف إلا رجلاً جاءني من صفته كذا وكذا وجرى لي معه كذا وكذا ولا أعلم حاله ، فقالوا : بالله عليك متى عرفت حاله فعرفنا ودلنا على داره فبقيت سنة لا أعرف حاله ولا أعرف له خبراً ، فبينا أنا ذات ليلة بعد العشاء الأخيرة جالس في بيتي إذا بطارق يطرق الباب ، فأذنت له في الدخول فإذا بالفتى عليه قطعة من كساء في وسطه وأخرى على عاتقه ومعه زنبيل فيه نوى فقبل بين عيني ، وقال يا سري أعتقك الله من النار كما أعتقتني من رق الدنيا فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم فمضى فإذا زوجته قد جاءت ومعها ولده وغلمانه فدخلت وألقت الولد في حجره وعليه حلي وحلل ، وقالت له يا سيدي أرملتني وأنت حي وأيتمت ولدك وأنت حي ، قال السري : فنظر إليّ فقال يا سري ما هذا وفاء ثم أقبل عليها وقال والله إنك لثمرة فؤادي وحبيبة قلبي وإن هذا ولدي لأعز الخلق عليّ غير أن هذا السري أخبرني أن من أراد الله قطع كل ما سواه ثم نزع ما على الصبي وقال ضعي هذا في الأكباد الجائعة والأجساد العارية وقطع قطعة من كسائه فلف فيها الصبي فقالت المرأة لا أرى ولدي في هذه الحالة وانتزعته منه فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال ضيعتم عليّ ليلتي بيني وبينكم الله ، وولى خارجاً وضجت الدار بالبكاء ، فقالت : إن عاد يا سري وسمعت له خبراً فأعلمني ، فقلت إن شاء الله فلما كان بعد أيام أتتني عجوز فقالت يا سري بالشونيزية غلام يسألك الحضور فمضيت فإذا به مطروح تحت رأسه لبنة فسلمت عليه ففتح عينيه ، وقال لمثل هذا فليعمل العاملون ثم مات فأخذت الدراهم فاشتريت ما يحتاج إليه ثم سرت نحوه ، فإذا الناس يهرعون فقلت : ما الخبر فقيل مات ولي من أولياء الله نريد أن نصلي عليه.
فجئت فغسلته ودفناه فلما كان بعد مدة وفد أهله يستعلمون خبره فأخبرتهم بموته فأقبلت امرأته باكية فأخبرتها بحاله فسألتني أن أريها قبره ، قلت أخاف أن تغيروا أكفانه قالت لا والله ، فأريتها القبر فبكت وأمرت بإحضار شاهدين فأحضرا فأعتقت جواريها ووقفت عقارها وتصدقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت رحمة الله عليهما.
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
جزء : 3 رقم الصفحة : 362
{وَأَعِدُّوا} (وآماده سازيد اي مؤمنان) {لَهُمْ} أي لقتال الكفار وهيئوا لحرابهم.
{مَّا اسْتَطَعْتُم} أي : ما استطعتموه حال كونه.
{مِّن قُوَّةٍ} من كل ما يتقوى به في الحرب كائناً ما كان من خيل وسلاح وقسي وغيرها.
الحصر المستفاد من تعريف الطرفين في قوله عليه السلام : "ألا إن القوة الرمي" من قبيل حصر الكمال لأن الرمي أكمل أفراد ما يتقوى به في الحرب.
روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رمى يوم أحد ألف سهم ما منها
364
سهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "فداك أبي وأمي يا سعد".
كره بعض العلماء تفدية المسلم بأبويه المسلمين قالوا إنما فداه عليه السلام بأبويه لأنهما كانا كافرين.
(3/277)
قال النووي : الصحيح أنه جائز مطلقاً لأنه ليس فيه حقيقة الفداء وإنما هو تلطف في الكلام وإعلام بمحبته وفي الحديث فضيلة الرمي والدعاء لمن فعل خيراً وجاء في الحديث : "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير ، والمهدى له والرامي به" وفي الحديث : "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة" ومن رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدو أو لم يبلغ كان له : كعتق رقبة مؤمنة كانت له فداء من النار عضواً بعضو" وفي الحديث : "من مشى بين الغرضين كان له بكل خطوة حسنة" والغرض بفتح الغين المعجمة والراء بعدهما الضاد المعجمة هو ما يقصده الرماة بالإصابة وفي الحديث : "كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لهو إلا أربع خصال مشى الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبة أهله وتعليم السباحة" (رمى برسه كونه است.
رمى ظاهر به تيروكمان.
ورمى باطن به تيرآه درصبحكاه ازكمان خضوع.
ورمى سهام حظوظ ازدل وتوجه بحق وفراغت ازماسوى).
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
نيست برلوح دلم جز الف قامت دوست
ه كنم حرف دكر يا دنداد استادم
واعلم أن صاحب المجاهدة الباطنة يتقوى على قتال النفس وهواها بذكر الله تعالى فهو القوة في حقه.
{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس.
فرباط الخيل بمعنى خيل مربوطة كما قيل جرد قطيفة بمعنى قطيفة جرد أضيف العام إلى الخاص للبيان أو التخصيص كخاتم فضة وعطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة.
ويقال إن الجن لا تدخل بيتاً فيه فرس ولا سلاح وفي الحديث : "من نقى شعيراً لفرسه ثم جاء به حتى يعلفه كتب الله له بكل شعيرة حسنة" والفرس يرى المنامات كبني آدم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الفرس يقول : إذا التقت الفئتان سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح ولذلك كان لهم في الغنيمة سهمان وفي الحديث : "عليكم بإناث الخيل فإن ظهورها حرز وبطونها كنز" وفي الحديث : "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً به وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" يعني : كفة حسناته.
قال موسى : للخضر ، أي الدواب أحب إليك؟ قال : الفرس والحمار والبعير ، لأن الفرس مركب أولي العزم من الرسل والبعير مركب هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام والحمار مركب عيسى وعزير عليهما السلام وكيف لا أحب شيئاً أحياه الله تعالى بعد موته قبل الحشر.
واعلم أن الخيل ثلاثة : فرس للرحمن وهو ما اتخذ في سبيل الله وقتل عليه أعداء الله.
وفرس للإنسان : وهو ما يلتمس بطنه وهو ستر من الفقر ، وفرس للشيطان : وهو ما يقامر عليه ويراهن.
{تُرْهِبُونَ بِهِ} حال من فاعل أعدوا ، أي حال : كونكم مرهبين مخوفين بالأعداد.
{عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهم كفار مكة خصوا بذلك من بين الكفار مع كون الكل كذلك لغاية عتوهم ومجاوزتهم الحد في العداوة ، وفيه إشارة إلى أن المجاهد الباطني يرهب بالذكر والمراقبة أعدى العدو وهو النفس والشيطان.
{وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي : ترهبون به أيضاً عدواً آخرين من غيرهم من الكفرة
365
كاليهود والمنافقين والفرس ومنهم كفار الجن فإن صهيل الفرس يخوفهم.
{لا تَعْلَمُونَهُمُ} العلم بمعنى المعرفة لتعديته إلى مفعول واحد ومتعلق المعرفة هو الذات ، أي : لا تعرفونهم بأعيانهم ولو كان النسب كالعلم لكان المعنى لا تعرفونهم من حيث كونهم أعداء {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} أي : يعرفهم لا غيره تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
فإن قلت المعرفة تستدعي سبق الجهل فلا يجوز إسنادها إلى الله تعالى؟.
قلت : المراد بالمعرفة في حقه تعالى مجرد تعلق علمه بالذوات دون النسب مع قطع النظر عن كونها مجهولة قبل تعلقه بها ودلت الآية على أن الإنسان لا يعرف كل عدو له.
آدمى را دشمن نهان بسيست
آدميّ باحذر عاقل كسيست
(3/278)
{وَمَا} شرطية {تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ} لإعداد العتاد قلّ أو جلّ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الذي أوضحه الجهاد.
{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي جزاؤه كاملاً.
{وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} بترك الإثابة أو بنقص الثواب والتعبير عن تركها بالظلم مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلماً لبيان كمال نزاهته سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بفرس يجعل كل خطوة منه أقصى بصره ، فسار وسار معه جبريل عليه السلام فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا شيئاً عاد كما كان فقال : "يا جبريل من هؤلاء" قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه" وفي الحديث : "من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".
قال الحافظ :
أحوال كنج قارون كأيام داد برباد
باغنه بازكوييد نازا نهان ندارد
وقال أيضاً :
ه وزخى ه هشتى ه آدمى ه ملك
بمذهب همه كفر طريقتست امساك
{وَإِن جَنَحُوا} الجنوح الميل ومنه الجناح لأن الطائر يميل به إلى أي جهة شاء ويعدى باللام وإلى ، أي : مال الكفار.
{لِلسَّلْمِ} للصلح والاستسلام بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما لكم من الاستعداد واعتاد العتاد.
{فَاجْنَحْ لَهَا} أي : للسلم والتأنيث لحمله على نقيضه الذي هو الحرب وهي مؤنثة أو لكونه بمعنى المسالمة أي : مصالحة {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي : لا تخف من إبطان مكرهم في الصلح فإن الله يعصمك.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع.
{الْعَلِيمُ} فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم ، والآية : عامة لأهل الكتاب وغيرهم.
والأمر في قوله : (فاجنح) للإباحة والأمر فيه مفوض لرأي الإمام وليس يجب عليه أن يقاتلهم أبداً ولا أن يسعفهم إلى الصلح عند طلبهم ذلك أبداً ، بل يبنى الأمر على ما فيه صلاح المسلمين فإذا كان للمسلمين قوة فلا ينبغي أن يصالحهم وينبغي أن يحاربهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وإن رأى المصلحة في المصالحة ومال إليها لا يجوز أن يصالحهم سنة كاملة إلا إذا كانت القوة والغلبة للمشركين فحينئذٍ جاز له أن يصالحهم عشر سنين ولا تجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه عليه السلام فعل كذلك ثم
366
إنهم نقضوا العهد قبل تمام المدة وكان ذلك سبباً لفتح مكة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
{وَإِن يُرِيدُوا} أي : الذين يطلبون منك الصلح.
{أَن يَخْدَعُوكَ} بإظهار الصلح لتكف عنهم.
{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} فإن محسبك الله وكافيك من شرورهم وناصرك عليهم يقال أحسبني فلان أي أعطاني حتى أقول : حسبي {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي : قواك بإمداد من عنده بلا واسطة سبب معلوم مشاهد.
{وَبِالْمُؤْمِنِينَ} من المهاجرين والأنصار ثم إنه تعالى بيّن كيف أيده بالمؤمنين فقال.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (ويوند افكند بدوستى ميان دلهاي ايشان) مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان وكان إذا لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنها قبيلته حتى يدركوا ثاره فكان دأبهم الخصومة الدائمة والمحاربة ، ولا تتوقع بينهم الألفة والاتفاق أبداً فصاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة هذا من أبهر معجزاته عليه السلام.
قال الكاشفي : (أوس وخزرج صد وبيست سال درميان ايشان تعصب وستيزه بود همواره بقتل وغارت هم اشتغال مي نمودند حق تعالى ببركت تودلهاى ايشانرا الفت داد).
يك حرف صوفيانه بكويم اجازتست
اي نور ديده صلح به ازجنك آورى
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا} أي : التأليف ما بينهم.
{مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي : تناهت عدواتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم جميع ما في الأرض من الأموال والذخائر لم يقدر على التأليف والإصلاح.
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قلباً وقالباً بقدرته الباهرة فإنه المالك للقلوب فيقلبها كيف يشاء.
{إِنَّه عَزِيزٌ} كامل القدرة والغلبة لا يستعصى عليه شيء مما يريده {حَكِيمٌ} يعلم كيفية تسخير ما يريده.
واعلم : أن التودد والتألف والموافقة مع الإخوان من ائتلاف الأرواح وفي الحديث : "المؤمن ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" وفي الحديث : "مثل المؤمنين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وما التقى المؤمنان إلا استفاد أحدهما من صاحبه خيراً".
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
(3/279)
وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ إني أحبك في الله فقال : أبشر ثم أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "تنصب لطائفه من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
فقيل من هؤلاء؟ يا رسول الله؟ فقال : "المتحابون في الله" قيل : لو تحاب الناس وتعاطوا المحبة لاستغنوا بها عن العدالة ، فالعدالة خليفة المحبة تستعمل حيث لا توجد المحبة.
وقيل : طاعة المحبة أفضل من طاعة الرهبة فإن طاعة المحبة من داخل وطاعة الرهبة من خارج ولهذا المعنى كانت صحبة الصوفية مؤثرة من البعض في البعض لأنهم لما تحابوا في الله تواصوا بمحاسن الأخلاق ووقع القبول لوجود المحبة فانتفع لذلك المريد بالشيخ والأخ بالأخ ، ولهذا المعنى أمر الله تعالى باجتماع الناس في كل يوم خمس مرات في المساجد من أهل كل درب وكل محلة ، وفي الجامع في الأسبوع مرة من أهل كل بلد وانضمام أهل السواد إلى البلدان في الأعياد في جميع السنة مرتين وأهل الأقطار من البلدان في العمر مرة للحج كل ذلك لحكم بالغة منها تأكيد الألفة والمودة بين المؤمنين وفي الحديث : "ألا إن
367
مثل المؤمنين في توادهم وتحابهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى".
قال السعدي قدس سره :
بنى آدم أعضاي يكديكرند
كه در آفرينش زيك جوهرند
و عضوي بدرد آوردروزكار
دكر عضو هارا نماند قرار
والتألف والتودد يؤكد الصحبة مع الأخيار مؤثرة جداً بل مجرد النظر إلى أهل الصلاح يؤثر صلاحاً والنظر في الصور يؤثر أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه كدوام النظر إلى المحزون يحزن ودوام النظر إلى المسرور يسر.
وقد قيل من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه والجمل الشرود يصير ذلولاً بمقارنة الجمل الذلول فالمقارنة لها تأثير في الحيوان والنبات والجماد والماء والهواء يفسدان بمقارنة الجيف والزروع تنقى من أنواع العروق في الأرض والنبات لموضع الإفساد بالمقارنة وإذا كانت المقارنة مؤثرة في هذه الأشياء ففي الصور الشريفة البشرية أكثر تأثيراً.
وقيل : سمي الإنسان إنساناً لأنه يأنس بما يراه من خير أو شر والتألف والتودد مستجلبان للمزيد وإنما العزلة والوحدة تحمد بالنسبة إلى أراذل الناس وأهل الشر فأما أهل العلم والصفاء والوفاء والأخلاق الحميدة فتغتنم مقارنتهم والاستئناس بهم استئناس بالله تعالى كما أن محبتهم من محبة الله تعالى والجامع معهم رابطة الحق ومع غيرهم رابطة الطبع فالصوفي مع غير الجنس كائن بائن ومع الجنس كائن معاين والمؤمن مرآة المؤمن إذا التقى مع أخيه يستشف من وراء أقواله وأعماله وأحواله تجليات إلهية وتعريفات وتلويحات من الله الكريم خفية غابت عن الأغيار وأدركها أهل الأنوار كذا في "عوارف المعارف".
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
يقول الفقير ، أصلحه الله القدير : سمعت من بعض العلماء المتورعين والمشايخ المتزهدين ممن له زوجتان متباغضتان أنه قال قرأت هذه الآية وهي قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ} (الأنفال : 62) إلى آخرها على ماء في كوز ونفخت فيه ثم أشربته إياهما فوقع التودد والألفة بينهما بإذن الله تعالى وزال التباغض والتنافر إلى الآن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} المخبر عن الله تعالى المرتفع شأنه {حَسْبَكَ اللَّهُ} أي كافيك في جميع أمورك {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الواو بمعنى مع ، أي : كفاك وكفى أتباعك ناصراً كقولك حسبك وزيداً درهم أو عطف على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون والكافي الحقيقي هو الله تعالى وإسناد الكفاية إلى المؤمنين لكونهم أسباباً ظاهرة لكفاية الله تعالى.
والآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال تقوية للحضرة النبوية وتسلية للصحابة رضي الله عنهم فالمراد بالمؤمنين الأنصار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه فتكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم روي أنه أسلم مع النبي عليه السلام ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر رضي الله عنه فكمل الله الأربعين بإسلامه فنزلت وكان صلى الله عليه وسلّم يدعو ويقول : "اللهم أعز الإسلام" وفي رواية "أيد الإسلام بأحد الرجلين إما بأبي جهل بن هشام وإما بعمر بن الخطاب" وكان دعاؤه بذلك يوم الأربعاء فأسلم عمر رضي الله عنه يوم الخميس وكان وقتئذٍ ابن ست وعشرين سنة وسبقه حمزة بن عبد المطلب بالإسلام بثلاثة أيام أو بثلاثة أشهر.
روي أنه لما نزل
368
(3/280)
قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء : 98) قام أبو جهل بن هشام : وكان يكنى في الجاهلية بأبي الحكم لأنهم يزعمون أنه عالم ذو حكمة ثم كناه النبي عليه السلام بأبي جهل وغلبت عليه كنيته ، وكان خال عمر ؛ لأن أم عمر أخت أبي جهل لأن أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبي جهل فأبو جهل خال عمر أو لأن أم عمر بنت عم أبي جهل وعصبة الأم أخوال الابن ، فلما قام خطب فقال : يا معشر قريش إن محمداً قد شتم آلهتكم وسفه أحلامكم وزعم أنكم وآباءكم وآلهتكم في النار ؛ فهل من رجل يقتل محمداً وله عليّ مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة ، فقام عمر بن الخطاب : وقال أتضمن ذلك يا أبا الحكم؟ فقال : نعم يا عمر فأخذ عمر بيد أبي جهل ودخلا الكعبة وكان عندها صنم عظيم يسمونه هبل فتحالفا عنده وأشهدا على أنفسهما هبل ، فإنهم كانوا إذا أرادوا أمراً من سفر أو حرب أو سلم أو نكاح لم يفعلوا شيئاً حتى يستأمروا هبل ويشهدوه عليه ، وتلك الأصنام التي كانت حوله كانت ألف صنم وخمسمائة صنم ثم خرج عمر متقلداً سيفه منتكباً كنانته ، أي : واضعاً له في منكبه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان النبي عليه السلام مختفياً مع المؤمنين في دار الأرقم رضي الله عنه تحت الصفا يعبدون الله تعالى فيها ويقرؤون القرآن ، فلما أتى إلى البيت الذي هم فيه قرع الباب فنظر إليه رجل من خلال الباب فرآه متوشحاً سيفه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو فزع فقال يا رسول الله : هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه ولم يرد إلا سفك الدم وهتك العرض ، فقال حمزة : فائذن له فإن جاء يريد خيراً بذلنا له ، وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه فأذن له في الدخول فلما رآه النبي عليه السلام قال : "ما أنت منتهي يا عمر حتى ينزل الله بك قارعة" ثم أخذ بساعده أو بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وانتهره فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وجلس ، فقال : اعرض عليّ الإسلام الذي تدعو إليه فقال النبي عليه السلام : "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله" فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة وضرب النبي عليه السلام صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول : "اللهم أخرج ما في صدر عمر من غلّ وأبدله إيماناً" ونزل جبرائيل عليه السلام فقال يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر ولما أسلم قال المشركون لقد انتصف القوم منا ، وقيل له رضي الله عنه ما تسمية النبي عليه السلام لك بالفاروق قال لما أسلمت والنبي عليه السلام وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا قال : "بلى" فقلت ففيم الاختفاء والذي بعثك بالحق ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإسلام غير هائب ولا خائف والله لا نعبد الله سراً بعد اليوم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه المسلمون وعمر رضي الله عنه أمامهم معه سيف ينادي لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد ثم صاح مسمعاً لقريش كل من تحرك منكم لأمكنن سيفي منه ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يطوف والمسلمون ثم صلوا حول الكعبة وقرؤوا القرآن جهراً وكانوا قبل ذلك لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن فسماه النبي عليه السلام الفاروق
369
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
لأنه فرق الله به الحق والباطل.
وجاء بسند حسن "إن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب" وكان عمر شديداً من حيث مظهريته للاسم الحق وجاء "ما ترك الحق لعمر من صديق".
لما لزمت النصح والتحقيقا
لم يتركا لي في الوجود صديقاً
قال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة كان لنا جار طحان رافضيّ ملعون وكان له بغلان سمى أحدهما أبا بكر والآخر عمر فرمحه ذات ليلة أحد البغلين فقتله فأخبر جدي أبو حنيفة فقال : انظروا فإني أخال أن البغل الذي اسمه عمر هو الذي رمحه فنظروا فكان كما قال.
(3/281)
واستأذن عمر رضي الله عنه في العمرة ، فأذن له عليه السلام وقال : "يا أخي لا تنسنا من دعائك" قال : ما أحب أن دعاني بقوله : ياأخي ما طلعت عليه الشمس وجاء : "أول من يصافحه الحق عز وجل عمر بن الخطاب وأول من يسلم عليه" وجاء "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" وجاء "إن الله تعالى أيدني بأربعة.
وزراء : اثنين من أهل السماء جبرائيل وميكائيل عليهما السلام واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر رضي الله عنهما" فكانا بمنزلة الوزيرين من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان عليه الصلاة والسلام يشاورهما في الأمور كلها وفيهما نزل {وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ} وجاء "إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون" المحدث بفتح الدال المشددة وهو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به فراسة ويكون كما قال وكأنه حدثه الملا الأعلى وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء "فإنه إن كان في أمتي هذه فهو عمر بن الخطاب" لم يرد النبي عليه السلام بقوله : إن كان في أمتي التردد في ذلك فإن أمته أفضل الأمم فإذا وجد في غيرها محدثون ففيها أولى بل أراد به التأكيد لفضل عمر كما يقال إن يكن له صديق فهو فلان يريد بذلك اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي سائر الأصدقاء وقد قيل في فضيلة عمر.
له فضائل لا تخفى على أحد
إلا على أحد لا يعرف القمرا وجاء "إنه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك" والفج طريق واسع.
وفيه دليل على علو درجة عمر رضي الله عنه حيث لا يقدر الشيطان أن يسلك طريقاً فيه عمر والطريق واسع فكيف يتصور أن يجري منه مجرى الدم كما يجرى في سائر الخلق.
وفيه تنبيه على صلابته في الدين واستمرار حاله على الحق المحض.
وكان نقش خاتم أبي بكر نعم القادر الله وكان نقش خاتم عمر كفى بالموت واعظاً يا عمر.
وكان نقش خاتم عثمان آمنت بالله مخلصاً.
وكان نقش خاتم علي رضي الله عنه الملك .
وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الحمدهذا هو النقش الظاهر المضاف إلى البدن وأما نقش الوجود فنفسه فقد قيل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
كرت صورت حال بد يانكوست
نكار يده دست تقدير اوست
وقيل :
نقش مستورى ومستى نه بدست من وتست
آنه سلطان ازل كفت بكن آن كردم
نسأل الله تعالى أن يحفظ نقش إيماننا في لوح القلب من مس يد الشك والريب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، واجعلنا من أهل الإيقان الذي قلت فيهم : {أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) فما نقشه قبضة جمالك لا يطرأ عليه محو
370
من جلالك وإن تطاول الزمان وامتد عمر الإنسان.
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} يا رفيع القدر {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي بالغ في حثهم على قتال الكفار ورغبهم فيه بوعد الثواب أو التنفيل عليه.
والتحريض على الشيء أن يحث الإنسان غيره ويحمله على شيء حتى يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضاً أي قريباً من الهلاك فتكون الآية إشارة إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي عليه السلام إياهم على القتال لكانوا حارضين مشرفين على الهلاك والحث إنما يكون بعد الإقدام بنفسه ليقتدي القوم به ولهذا كان النبي عليه السلام إذا اشتدت الحرب أقرب إلى العدو منهم كما قال علي رضي الله عنه كنا إذا أحر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلّم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه".
قال السلطان سليم فاتح مصر :
كر لشكر عدو بود از قاف تابقاف
با كه هي روى نمى تابم ازمضاف
ون آفتاب ظلمت كفر ازجهان برم
كاهى و صبح تغ برون آرم ازغلاف
وفي الآية : بيان فضيلة الجهاد وإلا لما وقع الترغيب عليه ، وفي الحديث : "ما جميع أعمال العباد عند المجاهدين في سبيل الله إلا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحَر" {إِن يَكُن مِّنكُمْ} أيها المؤمنون {عِشْرُونَ صَـابِرُونَ} في معارك القتال {يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِا وَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّا ئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بيان للألف وهذا القيد معتبر في المائتين أيضاً كما أن قيد الصبر معتبر في كل من المقامين.
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} متعلق بيغلبوا ، أي : بسبب أنهم قوم جهلة بالله وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً لأمر الله وإعلاء لكلمته وابتغاء لمرضاته وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع الشهوات وخطوات الشيطان وإثارة نائرة البغي والعدوان فيستحقون القهر والخذلان وهذا القول وعد كريم منه تعالى متضمن لإيجاب مقاومة الواحد للعشرة وثباته لهم.
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم حمزة في ثلاثين راكباً ، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب فهزمهم فثقل عليهم ذلك وضجوا منه بعد مدة فنسخ الله هذا الحكم بقوله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
{الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} ففرض على الواحد أن يثبت لرجلين.
(3/282)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من فر من ثلاثة لم يفر ومن فر من اثنين فقد فر أَي ارتكب المحرم وهو كبيرة الفرار من الزحف.
قال الحدادي : هذا إذا كان للواحد المسلم من السلاح والقوة ما لكل واحد من الرجلين الكافرين كان فاراً.
وأما إذا لم يكن لم يثبت حكم الفرار {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} أي ضعف البدن.
قال التفتازاني : تقييد التخفيف بقوله : (الآن) ظاهر الاستقامة لكن في تقييد العلم به إشكال توهم انتفاء العلم بالحادث قبل وقوعه.
والجواب إن العلم متعلق به أبداً أما قبل الوقوع فبأنه سيقع وحال الوقوع بأنه يقع وبعد الوقوع بأنه وقع.
وقال الحدادي وعلم في الأزل أن في الواحد منكم ضعفاً عن قتال العشرة والعشرة عن قتال المائة والمائة عن قتال الألف {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِا وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} بتيسيره وتسهيله وهذا القيد معتبر فيما سبق أيضاً ترك ذكره تعويلاً على ذكره ههنا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ} بالنصر والتأييد فكيف لا يغلبون وما تشعر به كلمة مع من متبوعية مدخولها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر دلت الآية على أن من صبر ظفر فإن الصبر مطية الظفر.
371
صبر وظفر هر دو دوستان قديمند
صبر كن اي دل كه بعد زان ظفر آيد
از من صبر رخ متاب كه روزى
باغ شود سبز وشاخ كل ببرآيد
قال السلطان سليم الأول :
سليمى خصم سيه دل ه دند اين حالت
كه ازظهور آلهيست فتح لشكر ما
قال في "التأويلات النجمية" : في قوله تعالى : {بِإِذْنِ اللَّهِ} (الفتح : 29) لقوة توكلهم ويقينهم وفقه قلوبهم لا يفر واحد منهم من مائة من العدو كما كان حال النبي عليه السلام ومن معه من أهل القوة على ما قال عباس بن عبد المطلب شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم حنين فلم أفارقه ورسول الله على بغلة بيضاء فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق النبي عليه السلام يركض بغلته قِبَل الكفار وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها إرادة أن لا يسرع ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله فلما كان رسول الله ومن معه صابرين أولي قوة لم يفروا مع القوم.
قال السلطان سليم :
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
سيمرغ جان ما كه رميدست ازدوكون
منت خدا يراكه بجان رام مصطفاست
وفي ترجمة وصايا "الفتوحات المكية" (آدمى از جهت انسانيت مخلوقست برهلع وردلى وأما از روى ايمان مخلوقست برقوت وشجاعت واقدام ودر روايت آمده است ازبعضى ازصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلّم رسول اوراخبر داده بود كه تو والى شوى در مصر وحكم كنى وقتى قلعه را حصار كرده بودند وآن صحابي نيز درميان بود سائر اصحابرا كفت مرا دركفه منجنيق نهيد وسوى كفار در قلعه انداز يد ون من آنجا رسم قتال كنم ودر حصار بكشايم ون از سبب اين جرأت رسيدند كفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرا خبرداده است كه در مصر والى شوم وهنوز نشدم يقين ميدانم كه نميرم تاوالى نشوم فهم كن كه قوت ايمان اينست والا زروى عرف معلومست كه ون كسى را در كفه منجنيق نهند وبيندازند حال اوه باشد س دل مؤمن قوى ترين دلهاست) ألا إنما الإنسان غمد لقلبه ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل وجاء في دعاء النبي عليه السلام : "اللهم إني أعوذ بك من الشك في الحق بعد اليقين ، وأعوذ بك من الشيطان الرجيم ، وأعوذ بك من شر يوم الدين" قال بعضهم : العمل سعي الأركان إلى الله ، والنية سعي القلوب إلى الله تعالى القلب ملك والأركان جنوده ولا يحارب الملك إلا بالجنود ولا الجنود إلا بالملك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
{مَا كَانَ} ما صح وما استقام.
{لِنَبِىٍّ} من الأنبياء عليهم السلام.
{أَن يَكُونَ لَه أَسْرَى} أي : يثبت له فكان هذه تامة.
وأسرى جمع أسير كجرحى جمع جريح وأسارى جمع الجمع.
روي أنه عليه السلام أتي يوم بدر بسبعين أسيراً فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم ، فقال أبو بكر : هم قومك وأهلك استبقهم لعل الله يهديهم إلى الإسلام ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ، وقال عمر : كذبوك وأخرجوك من ديارك وقاتلوك فاضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر مكّني من فلان لنسيب له ، ومكّن علياً من عقيل وحمزة من العباس فلنضرب أعناقهم فلم يهوَ ذلك رسول الله صلى الله عليه
372
(3/283)
وسلّم وقال : "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب الرجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" فخير أصحابه بأن قال لهم : "إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم أطلقتموهم بأن تأخذوا من كل أسير عشرين أوقية" والأوقية أربعون درهماً في الدراهم وستة دنانير في الدنانير "إلا أن يستشهد منكم بعدتهم" فقالوا : بل نأخذ الفداء ويدخل منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم فاستشهدوا يوم أحد بسبب قولهم هذا وأخذهم الفداء فنزلت الآية في فداء أسارى بدر فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني فإن أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال : "أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة منه.
قال في "السيرة الحلبية" : أسرى بدر منهم من فدي ومنهم من خلي سبيله من غير فداء وهو أبو العاص ووهب بن عمير ومنهم من مات ومنهم من قتل وهو النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معط.
{حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله وحتى لانتهاء الغاية ، فدل الكلام على أن له أن يقدم على الأسر والشد بعد حصول الإثخان وهو مشتق من الثخانة وهي الغلظة والكثافة في الأجسام ثم استعير في كثرة القتل والمبالغة فيه لأن الإمام إذا بالغ في القتل يكون العدو كشيء ثقيل يثبت في مكانه ولا يقدر على الحركة يقال أثخنه المرض إذا أضعفه وأثقله وسلب اقتداره على الحركة.
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} استئناف مسوق للعتاب ، أي : تريدون حطامها بأحذكم الفداء وسمي المال عرضاً لقلة لبثه فمنافع الدنيا وما يتعلق بها لاثبات لها ولا دوام فصارت كأنها تعرض ثم تزول والخطاب لهم لا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأجلة أصحابه فإن مراد أبي بكر كان إعزاز الدين وهداية أسارى ، وفيه إشارة إلى أن أخذ الفداء من أسارى المشركين ما كان شيمة للنبي عليه السلام ولا لسائر الأنبياء فإنه رغبة في الدنيا ومن شيمة النبي عليه السلام أنه قال : "مالي وللدنيا".
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
كين جهان جيفه است ومردار ورخيص
بر نين مردار ون باشم حريص
وإنما رغب فيها بعضهم بعد أن شاورهم بأمر الله تعالى إذ أمره بقوله وشاورهم في الأمر {وَاللَّهُ يُرِيدُ الاخِرَةَ} يريد لكم ثواب الآخرة الذي لا مقدار عنده للدنيا وما فيها.
قال سعدي لبي المفتي : لعل المراد والله أعلم والله يرضى فأطلق الإرادة على الرضى على سبيل المشاكلة فلا يرد أن الآية تدل على عدم وقوع مراد الله تعالى خلاف مذهب أهل السنة.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} يغلب أولياؤه على أعدائه {حَكِيمٌ} يعلم بما يليق بكل حال ويخصها به كما أمر بالإثخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المنّ بقوله تعالى : {فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
373
لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعاقب المخطىء في اجتهاده وأن لا يعذب أهل بدر أو قوماً لم يصرح لهم بالنهي.
وفي "التأويلات النجمية" : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لأصابكم {فِيمَآ أَخَذْتُمْ} أي لأجل ما أخذتم من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يقادر قدره.
روي أنه عليه السلام قال : "لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ" وذلك لأنه أيضاً أشار بالإتخان.
وفيه دليل على أنه لم يكن أحد من المؤمنين ممن حضر بدراً إلا أحب أخذ الفداء وغيرهما.
قال عبد الله بن عمر : ما نزل بالناس أمر فقال الناس وقال عمر إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر وفي الحديث : "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" وقد وافق الوحي في مواضع منها ما في هذه القصة ومنها أنه قال يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمعن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغيرة فقال لهن عمر عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن.
(3/284)
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} ـ ـ روي ـ ـ أنهم أمسكوا عن الغنائم فقال تعالى قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتموه (از آنه غنيمت كرفتيد وفديه ازان جمله است) {حَلَـالا} حال من المغنوم وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم من عدم حل المغنوم بسبب تلك المعاتبة فإن من سمع العتاب المذكور وقع في قلبه اشتباه في أمر حله {طَيِّبًا} الطيب المستلذ ويوصف الحلال بذلك على التشبيه فإن المستلذ ما لا يكون فيه كراهية في الطبع وكذا الحلال ما لا يكون فيه كراهية في الدين.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي : في مخالفة أمره ونهيه {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن فيه ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
قال الكاشفي : (رحيم مهر بانست كه غنيمت برشما حلال كرده وبرامم ديكر حرام بوده) كما قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت الغنائم حراماً على الأنبياء فكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان فكانت تنزل نار من السماء فتأكله ولله تعالى عنايات لهذه الأمة لا تحصى.
روي عن النبي عليه السلام أنه قال لآدم ليلة المعراج "أنت خير الناس لأن الله تعالى قد فعل معك ستة أشياء : خلقك بيده.
وأكرمك بالعلم.
وأسجد لك ملائكته.
ولعن من لم يسجد لك.
وكرمك بامرأة منك حواء.
وأباح لك الجنة بحذافيرها" فقال : لا بل أنت خير الناس لأنه أعطاك ستة أشياء لم يعطها أحداً غيرك : جعل شيطانك مسلماً.
وقهر عدوك.
وأعطاك زوجة مثل عائشة تكون سيدة نساء الجنة.
وأحيا جميع الأنبياء لأجلك.
وجعلك مطلعاً على سرائر أمتك.
وعامل أمتك بستة أشياء : أولها أخرجني من الجنة بمعصية واحدة ولا يخرج أمتك من المسجد بالمعصية.
ونزع مني الحلة ولم ينزع الستر من أمتك.
وفرق عني زوجتي ولا يفرق عن أمتك أزواجهم.
ونقص من قامتي ولا ينقص من قامتهم وفضحني بقوله وعصى آدم وستر على أمتك.
وبكيت مائتي سنة حتى غفر لي ويغفر لأمتك بعذر واحد".
قال السعدي قدس سره :
محالست اكر سر برين درنهى
كه بازآيدت دست حاجت نهى
بضاعت نياوردم الا اميد
خدايا زعفوم مكن نا اميد
374
وينبغي للمؤمن أن يأخذ الحذر فإن عتاب الله تعالى إذا كان بهذه المرتبة في صورة الخطأ في الأمور الاجتهادية فما ظنك في عتابه بل بعقابه في الأمور العمدية المخالفة لكتاب الله تعالى ، ألا ترى أن الهدهد لما خالف سليمان في الغيبة استحق التهديد والزجر والعقوبة ، فإنك إن خالفت أمر سلطانك تستحق العقوبة ، فإن أنت واظبت على الخدمة والطاعة أقمت عذرك وفي القصة بيان لزوم البكاء عند وقوع الخطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر رضي الله عنه بكيا.
قيل : إن النار تقرب يوم القيامة فيشفع النبي صلى الله عليه وسلّم بالانصراف فلا تنصرف حتى يأتي جبريل بقدح من الماء ويقول اضربه على وجهها فيضربه فتفر النار فيقول : "يا جبرائيل من أين هذا الماء" فيقول إنه من دموع العصاة.
وفي "المثنوي" :
تانكريد ابر كى خندد من
تانكريد طفل كي جوشد لبنطفل يك روزه همي داند طريق
كه بكريم تارسد دايه شفيق
تونمى دانى كه دايه دايكان
كم دهد بى كريه شير اورا يكان
ون بر آرند ازشيماني انين
عرش لرزد ازانين المذنبين
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} من الألقاب المشرفة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي يا أيها المخبر عن الله وعن أحكامه.
{قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مِّنَ الاسْرَى} جمع أسير.
روي أنها نزلت في العباس بن عبد المطلب عم النبي عليه السلام وكان أسر يوم بدر وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام من خرج من مكة لحماية العير ، وكان يوم بدر قد خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الكفار فوقع القتال قبل أن يطعم بها وبقيت العشرون أوقية معه فأخذت منه في الحرب فكلم النبي عليه السلام في أن يحتسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال : "أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك" فكلفه أن يفدي نفسه بمائة أوقية زائداً على فداء غيره لقطع الرحم وكلفه أن يفدي أيضاً ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث كل واحد بأربعين أوقية ، فقال يا محمد تركتني أي صيرتني أتكفف قريشاً ما بقيت.
والتكفف : هو أن يمد كفه يسأل الناس يعني غنم المسلمون مالي وما بقي لي شيء حتى أفدي نفسي وابني أخوي فقال : "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل" يعني : زوجته "وقت خروجك من مكة ، وقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم" وهم أبناؤه فقال العباس : وما يدريك قال : "أخبرني به ربي" قال أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب.
والآية وإن نزلت في حق العباس خاصة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أي قل للعباس وعقيل وغيرهما من الأسارى
(3/285)
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
{إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} إيماناً وإخلاصاً هذا الشك بالنسبة إلينا كما في قوله عليه السلام "إن كنت تعلم" في دعاء الاستخارة فإن معناه إن تعلق علمك وإرادتك فلما كان تعلق هذا العلم مشكوكاً بالنسبة إلى العبد عبر عن هذا المعنى بما ترى هكذا سمعته من حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال العباس
375
فأبدلني الله خيراً مما أخذ مني لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب ، أي : يتجر في عشرين ألف درهم وأعطاني سقاية زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة أنجز لي أحد الوعدين ، وأنا أرجو أن ينجز لي الوعد الثاني أي انتظر المغفرة من ربي فإنه لا خلاف في وعد الكريم.
خلاف وعده محالست كز كريم آيد
لئيم اكر نكند وعده وفاشايد
{وَإِن يُرِيدُوا} يعني : الأسرى {خِيَانَتَكَ} أي : نقض ما عاهدوك عليه من الإسلام بالارتداد على دين آبائهم.
{فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ} بكفرهم ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه في الأزل.
{فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي : أقدر عليهم كما فعل يوم بدر فإن أعادوا الخيانة فيمكنك منهم أيضاً ، يقال : مكنه من الشيء وأمكنه منه ، أي : أقدره عليه فتمكن منه.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب.
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
{حَكِيمٌ} يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته البالغة.
وفي بعض الروايات : إن العباس كان قد أسلم قبل وقعة بدر ولكن لم يظهر إسلامه لأنه كان له ديون متفرقة في قريش وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضياعها عندهم وإنما كلفه النبي عليه السلام الفداء لأنه كان عليه ظاهراً لا له ولما كان يوم فتح مكة وقهرهم الإسلام أظهر إسلامه ولم يظهر النبي عليه السلام إسلام العباس رفقاً به كيلا يضيع ماله عند قريش وكان قد استأذن النبي عليه السلام في الهجرة فكتب إليه : "يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه فإن الله تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة" فكان كذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
وفي الآية : بيان قدرة الله تعالى وأن مريد الخلاص من يد قهره في الدنيا والآخرة لا يجد إليه سبيلاً إلا بالإيمان والإخلاص فهو القادر القوي الخالق وما سواه العاجز الضعيف المخلوق.
وفي الخبر أن النبي عليه السلام قال : "إن الله تعالى قال : قل للقوي لا يعجبنك قوتك ، فإن أعجبتك قوتك ادفع الموت عن نفسك ، وقل للعالم لا يعجبنك علمك فإن أعجبك فأخبرني متى أجلك وقل للغني لا يعجبنك غناك فإن أعجبك فأطعم خلقي غداء واحداً".
وفي الآية : إشارة إلى النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذكر عليها والظفر بها إن اطمأنت إلى ذكر الله والعبودية والانقياد تحت أحكامه يؤتها الله نعيم الجنة ودرجاتها وهي خير من شهوات الدنيا ونعيمها وزينتها فإن الدنيا ونعيمها فانية والجنة ونعيمها باقية وخيانة النفس التجاوز عن حد الشريعة والطريقة.
يقال : إن متابعة سبعة أصناف أورثت سبعة أشياء.
الأول : إن متابعة النفس أورثت الندامة كما قال تعالى في قتل قابيل هابيل {فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُه قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (المائدة : 30).
والثاني : إن متابعة الهوى أورثت البعد كما قال لبلعام {وَاتَّبَعَ هَوَاه فَمَثَلُه كَمَثَلِ الْكَلْبِ} (الأعراف : 176) يعني في البعد والخساسة.
والثالث : إن متابعة الشهوات أورثت الكفر كما قال تعالى : {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِا فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم : 59) يعني الكفر.
والرابع : أن متابعة فرعون أورثت الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة كما قال تعالى : {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} (هود : 97) إلى قوله : {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} (هود : 98).
والخامس : إن متابعة القادة الضالة أورثت الحسرة كما قال تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} (البقرة : 166)إلى قوله : {كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة : 167).
والسادس : إن محبة النبي عليه السلام أورثت المحبة كما قال تعالى :
376
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
والسابع : إن متابعة الشيطان أورثت جهنم كما قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 42 ـ ـ 43).
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
(3/286)
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله تعالى وبمحمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن.
{وَهَاجَرُوا} أوطانهم وهي مكة حباًولرسوله {وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ} بأن صرفوها إلى الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج.
{وَأَنفُسِهِمْ} بمباشرة القتال واقتحام المعارك والخوض في المهالك ولعل تقديم الأموال على الأنفس ؛ لأن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً وأتم دفعاً للحاجة حيث لا تتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال هكذا في "تفسير الإرشاد".
يقول الفقير أصلحه الله القدير : وجه التقديم عندي أن المال من توابع النفس والوجود وتوابعها أقدم منها في البذل.
وفي الآية : أسلوب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ولذا قال سادات الصوفية قدس الله أسرارهم بذل المال في مقابلة توحيد الأفعال وبذل الوجود في مقابلة توحيد ذات المعبود.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد والمراد بسبيل الله الطريق الموصل إلى ثوابه وجناته ودرجاته وقرباته وهو إنما يكون موصلاً بالإخلاص فبذل المال والنفس بطريق الرياء لا يوصل إلى رضى الله ذي العظمة والكبرياء اللهم اجعلنا من الذين جاهدوا في سبيلك لا في سبيل غيرك.
قال الشيخ المغربي قدس سره :
كل توحيد نرويد ززمينى كه درو
خار شرك وحسد وكبر ورياو وكين است
{وَالَّذِينَ ءَاوَوا} النبي والمهاجرين معه أي أعطوهم المأوى وأنزلوهم ديارهم بالمدينة والإيواء الضم.
{وَّنَصَرُوا} أي : نصروهم على أعدائهم وأعانوهم بالسيف على الكفار فالأول في حق المهاجرين والثاني في حق الأنصار والأنصار كالعلم للقبيلتين الأوس والخزرج ، ولهذا جازت النسبة إلى لفظ الجمع حيث قالوا الأنصاري نسبة إلى الأنصار وسموا الأنصار لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وواحد الأنصار نصير كشريف وأشراف.
قال السلطان سليم الأول :
شاهنشه آن كدا كه بودخاك راه او
آزاد بنده كه كرفتار مصطفاست
آن سينه شادكزغم اوساخت دل حزين
وآن جان عزيز كزى ايثار مصطفاست
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من النعوت الفاضلة {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} في الميراث وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (الأنفال : 75) أي : أولى بميراث بعض من الأجانب.
والحاصل إن التوارث في الابتداء بالهجرة والنصرة لا بمجرد القرابة فكان المهاجر يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري ، واستمر أمرهم كذلك إلى أن فتحت مكة فسقطت فرضية الهجرة ثم توارثوا بالقرابة ، فالأولياء : جمع ولي كصديق وأصدقاء والولي من الولي بمعنى القرب والدنو فكأنه قيل بعضهم أقرباء بعض لا قرابة بينهم وبين من لم يؤمن ولا بين من آمن ولم يهاجر كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} كسائر المؤمنين {مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ} أي : من توليهم في الميراث وإن كانوا من أقرب
377
أقاربكم {حَتَّى يُهَاجِرُوا} ولما بين تعالى أن حكم المؤمن الذي لم يهاجر انقطاع الولاية بينه وبين المؤمنين وتوهم أنه يجب أن يتحقق بينهم التقاطع التام لتحققه بينه وبين الكفار أزال هذا الوهم بقوله : {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ} أي : إن طلب منكم المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة.
{فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي : فوجب عليكم نصرهم على من يعاديهم في الدين.
{إِلا عَلَى قَوْم} منهم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أي : إلا إذا كان من يعاديهم ويحاربهم من الكفار بينهم وبينكم عهد موثق فحينئذٍ يجب عليكم الوفاء بالعهد وترك المحاربة معهم ولا يلزمكم نصر الذين آمنوا ولم يهاجروا عليهم بل الإصلاح بينهم على وجه غير القتال.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمره كيلا يحل بكم عقابه.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} آخر في الميراث منطوق الآية إثبات الموالاة بين الكفار والكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الإيمان ، فالمراد منه بطريق المفهوم المخالف نهي المسلمين عن موالاتهم وموارثتهم وإيجاب المباعدة بينهم إن وجد بينهم قرابة نسبية لأن الموالاة بين الكفار مبنية على التناسب في الكفر ، كما أنها بين المؤمنين مبنية على التناسب في الإيمان فكما لا مناسبة بين الكفر والإيمان من حيث إن الأول ظلمة والثاني نور ، فكذا لا مناسبة بين أهلهما فإن الكافر عدو الله والمؤمن ولي الله فوجب التقاطع وإزالة الوصلة من غير الجنس.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
نخست موعظه ير صحبت اين ندست
كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد
(3/287)
{إِلا} أي : إن لا {إِلا تَفْعَلُوهُ} أي : ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم بعضاً حتى في التوارث ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار.
{تَكُن} تامة {فِتْنَةٌ فِى الأرْضِ} أي : تحصل فتنة عظيمة فيها وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر.
{وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} في الدارين وفيه إشارة إلى مساعدة طالب النصرة بأي وجه كان فإن تركها يؤدي إلى الخسران وارتفاع الأمان ، وفي الحديث : "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ونصرة الظالم بنهيه عن الظلم.
وفي "فتاوى ضيخان" : إذا وقع النفير من قبل الروم فعلى كل من يقدر على القتال أن يخرج إلى الغزو إذا ملك الزاد والراحلة ولا يجوز له التخلف إلا بعذر بين انتهى.
وكما أنه لا كلام في فضيلة الإعانة والإمداد كذلك لا كلام في الهجرة إلى ما يقوم به دين المرء من البلاد.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى ما نزل بالمسلمين من توالي الأذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على إنقاذهم مما هم فيه قال لهم : "تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم" قالوا إلى أين تذهب قال : "ههنا" وأشار بيده إلى جهة الحبشة وفي رواية قال لهم : "اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً عظيماً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه".
يقول الفقير ، أصلحه الله القدير : سمعت من حضرة شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة أنه قال : لو كان لي مال لهاجرت من قسطنطينية إلى أرض الهند لأنه لا فائدة في الإقامة مع سلطان لا غيرة له أصلاً من جهة الدين ، ثم ذكر تورع سلطان الهند وهذا الكلام مطابق للشريعة والطريقة.
وقد قال بعض الكبار : إن الأولياء لا يقيمون في بلاد الظلم وجاء في الحديث : "من فر بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة ، وكان رفيق أبيه خليل الله إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام"
378
فهاجر إلى الحبشة ناس من مخافة الفتنة وفراراً إلى الله تعالى بدينهم منهم من هاجر إلى الله بأهله ، ومنهم من هاجر بنفسه وهي الهجرة الأولى فمن آمن بأن طلب الله تعالى حق واجب هاجر من غير الله فهاجر من أفعاله القبيحة الطبيعية إلى الأفعال الحسنة الشرعية ومن الأوصاف الذميمة إلى الأخلاق الحميدة ومن الوجود المجازي إلى الوجود الحقيقي ، وبذل ماله ونفسه في طلب الحق وترك كل باطل هو غير الحق.
قال السيد البخاري قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
هست تاج عارفان اندرجهان ازار ترك
ترك دنيا ترك عقبا ترك هستي ترك ترك
وفي الحديث : "كان فيما كان قبلكم رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعاً وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال : لا فقتله فكمل به المائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال : نعم ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا بلغ نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكماً ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو لها فقاسوه فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة".
وفي رواية : "فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي".
فإن قلت : الظاهر من الحديث أنه قبلت توبة ذلك الرجل وهذا مخالف لما ثبت في الشرع من أن حقوق العباد لا تسقط بالتوبة.
قلنا إذا تاب ظالم لغيره وقبل الله توبته يغفر له ذنب مخالفة أمر الله وما بقي عليه من حق العبد فهو في مشيئة الله إن شاء أرضى خصمه وإن شاء أخذ حقه منه والحديث من القسم الأول وعلى تقدير الإرضاء لا يكون ساقطاً أيضاً لأخذه عوضه من الله وفي الحديث استحباب أن يفارق التائب موضع الذنب والمساعدين ويستبدل منهم صحبة أهل الصلاح اللهم اجعلنا من المهاجرين وألحقنا بعبادك الصالحين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
(3/288)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بجميع ما يجب أن يؤمن به إجمالاً وتفصيلاً.
{وَهَاجَرُوا} أوطانهم تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلّم وطلباً لمرضاة الله.
{وَجَاهَدُوا} الكفار والمجاهدة.
والجهاد (باكسى كار زاركردن درراه خداى) {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هو دين الإسلام والإخلاص الموصلان إلى الجنة ودرجاتها.
{وَالَّذِينَ ءَاوَوا} أي ضموا المؤمنين إلى أنفسهم في مساكنهم ومنازلهم وواسوهم يقال أويت منزلي وإليه أوياً نزلته بنفسي وسكنته وأويته وآويته أنزلته والمأوى المكان فالإيواء بالفارسية (جايكاه دادن).
{وَّنَصَرُوا} أي : أعانوهم على أعدائهم فالموصول الأول عبارة عن المهاجرين الأولين والثاني عن الأنصار كما سبق.
{أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} إيماناً {حَقًّا} لأنهم حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق.
فالآية الأولى : مذكورة لبيان حكمهم وهو أنهم يتوارثون ويتولى بعضهم بعضاً في الميراث.
وهذه الآية مذكورة لبيان أن الكاملين في الإيمان منهم هم المهاجرون الأولون والأنصار لا غيرهم فلا تكرار.
{لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي : واسع كثير يطعمهم الله تعالى
379
في الجنة طعاماً يصير كالمسك رشحاً ولا يستحيل في أجوافهم نجواً وهو ما يخرج من البطن من ريح أو غائط ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم ويتسم بسمتهم فقال.
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنا بَعْدُ} أي : من بعد الهجرة الأولى.
{وَهَاجَرُوا} بعد هجرتكم {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} في بعض مغازيكم.
{فأولئك مِنكُمْ} أي : من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار وهم الذين جاؤوا من بعضهم.
{يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَانِ} (الحشر : 10) ألحقهم الله بالسابقين وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً في الإيمان والهجرة.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم آخى بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجر يرثه أخوه الأنصاري دون قريبه الغير المهاجر وإن كان مسلماً فنسخ الله تعالى ذلك الحكم بقوله : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} آخر منهم في التوارث من الأجانب {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي : في حكمه.
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ} ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولاً وبالقرابة النسبية آخراً من الحكم البالغة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 379
نه در أحكام اوست ون ورا
نه در افعال او كونه وند
اعلم : أن المهاجرين الأولين من حيث إنهم أسسوا قاعدة الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلّم أفضل من الأنصار يدل عليه قوله عليه السلام : "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" فإن المراد منه إكرام الأنصار بأن لا رتبة بعد الهجرة أعلى من نصرة الدين.
والمهاجرون على طبقات.
منهم من هاجر معه عليه السلام أو بعد هجرته قبل صلح الحديبية وهو في سنة ثنتين من الهجرة وهم المهاجرون الأولون.
ومنهم من هاجر بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة وهم أهل الهجرة الثانية.
ومنهم ذو هجرتين هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة وكانت الهجرة إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرضاً على المؤمن المستطيع ليكون في سعة أمر دينه ولينصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في إعلاء كلمة الله فلما فتح مكة أعلمهم بأن الهجرة المفروضة قد انقطعت وإنه ليس لأحد بعد ذلك أن ينال فضيلة الهجرة وأن ينازع المهاجرين في مراتبهم.
وأما الهجرة التي تكون من المسلم لصلاح دينه إلى مكة أو إلى غيرها فإنها باقية أبد الدهر غير منقطعة وفي الحديث : "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" وفي الحديث : "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة".
وروى الإمام في "الإحياء" : أن النبي عليه الصلاة والسلام لما عاد إلى مكة استقبل الكعبة وقال : "إنككِ خير أرض الله وأحب بلاد الله إليّ ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" فما هو محبوب للنبي عليه السلام محبوب لأمته أيضاً فالإقامة بمكة مع الوفاء بحق المقام أفضل كيف لا والنظر إلى البيت عبادة والحسنات فيها مضاعفة وللقاصر عن القيام بحق الموضع ترك الإقامة فإن بعض العلماء كرهها لمثله.
حكي أن عمر بن عبد العزيز وأمثاله من الأمراء كان يضرب فسطاطين فسطاطاً في الحل وفسطاطاً في الحرم ، فإذا أراد أن يصلي أو يعمل شيئاً من الطاعات دخل فسطاط الحرم رعاية لفضل المسجد الحرام ، وإذا أراد أن يأكل أو يتكلم أو غير ذلك خرج إلى فسطاط الحل ومقدار الحرم من قبل المشرق ستة أميال ومن الجانب الثاني اثني عشر
380
ميلاً ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلاً ومن الجانب الرابع أربعة وعشرون ميلاً هكذا قال الفقيه أبو جعفر.
وكما أن للأماكن الشريفة والبقاع المنيفة قدراً وحرمة عند الله تعالى وعند الناس فكذا القلوب الصافية لأهل الكمالات الوافية بل خطرها أعظم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 379
مسجدي كواندرون اولياست
سجده كاه جمله است آنجا خداست
آن مجازاست اين حقيقت اي خران
نيست مسجد جزدرون سروران
وفي قوله تعالى : {فأولئك مِنكُمْ} إشارة إلى أن كل سالك صادق سلك طريق الحق من المتأخرين على قدم الإيمان والهجرة والجهاد الحقيقي فهو من المتقدمين لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء فالواصلون كلهم كنفس واحدة وهم متبرئون من الزمان والمكان استوى عندهم الأمس واليوم والغد والقرب والبعد والعلو والسفل ولهذا قال عليه السلام : "أمتي كالمطر لا يدري أولهم خير أم آخرهم" وعد المتأخرين من إخوانه وقال : "واشوقاه إلى لقاء إخواني" هذا.
وكان الحسن : إذا قرأ سورة الأنفال قال طوبى لجيش قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومبارزهم أسد الله وجهادهم طاعة الله ومددهم ملائكة الله وثوابهم رضوان الله نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصالحات الأعمال وحسنات الأقوال والأحوال وأن يجعلنا مشغولين بطاعة الله في كل آن وحال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 379(3/289)
سورة التوبة
مائة وثلاثون آية وهي مدنية
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
إنما تركت التسمية أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة والتبري الذي يدل عليه أول براءة.
ورده في "الفتوحات" بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال وأين الرحمة من الويل.
وقال في "التأويلات النجمية" : الحكمة في ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في أول سورة براءة وكتابتها في سورة النمل ليعلم أنها آية مكررة في القرآن ، وأكثر ما أنزلت في أوائل السور لتكون فاصلة بين السورتين ولتكون كل سورة متوجّة بتاج اسم الله تعالى وصفة جماله وجلاله فحيث نزلت كتبت ، وحيث لم تنزل لم تكتب فلمَّا لم تنزل في أول براءة ما كتبت في أولها ونزلت في أول النمل وأثنائها فكتبت في الموضعين جميعاً اهـ.
(در ترجمه أسباب نزول از بستان فقيه أبو الليث نقلى ميكندكه ثقات مشايخ بعنعنه از ذي النورين رضي الله عنه روايت كردكه كاتب خاتمه يسألونك عن الأنفال وفاتحه براءة من الله من بودم حضرت مصطفى عليه الصلاة والسلام ميان اين دوسوره املاء بسم الله نفر مودند) كذا في "تفسير الكاشفي" وهو مؤيد لكلام "التأويلات".
وقال حضرة الشيخ الأكبر : والمسك الأذفر قدس سره الأطهر.
اعلم أن بسملة سورة براءة هي التي في سورة النمل ، فإن الحق سبحانه إذا وهب شيئاً لم يرجع فيه ولا يرده إلى العدم فلما خرجت رحمة براءة ، وهي البسملة وحكم التبري من أهلها برفع الرحمة الاختصاصية عنهم ووقف الملك بها لا يدري أين يضعها فإن كل
381
أمة من الأمم الإنسانية أخذت رحمتها بإيمانها قال تعالى أعطوا هذه البسملة للبهائم التي آمنت بسليمان عليه السلام وهي لا يلزمها إيمان إلا برسولها فلما عرفت قدر سليمان وآمنت به أعطيت من الرحمة الإنسانية حظاً وهو بسم الله الرحمن الرحيم الذي سلب من المشركين فلما وسعت الرحمة الرحمانية كل شيء في الوجود الكوني أقيمت الباء في براءة مقامها لأنها من حروف آية الرحمة والأمان لأن كل شيء في الوجود الكوني لا يخلو من رحمة الله عامة أو خاصة انتهى.
واعلم : أن الاستعاذة واجبة على كل من شرع في قراءة القرآن سواء بدأ من أوائل السور أو من أجزائها مطلقاً وإن أراد بها افتتاح الكتب والدرس كما يقرأ التلميذ على الأستاذ لا يتعوذ ثم إن البسملة لا بد منها في أول الفاتحة مطلقاً وفي أول كل سورة ابتدأت بها سوى براءة فإنها لا تسمية في أولها إجماعاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 381
والقارىء مخير في التسمية وعدمها فيما بين أجزاء السور سوى أجزاء براءة فإنه لا بسملة في أجزائها أيضاً كذا في "شرح الشاطبية" للجعبري.
جزء : 3 رقم الصفحة : 381(3/290)
{بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي : هذه براءة مبتدأه من جهة الله ورسوله واصلة.
{إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم} أيها المسلمون {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فمن لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية متعلقان بمحذوف كما تقول هذا كتاب من فلان إلى فلان أي واصل منه إليه وليست كلمة من صلة براءة ، كما في قولك : برئت من فلان ، والبراءة من الله : انقطاع العصمة ونقض العهد ولم يذكر ما تعلق به البراءة كما في إن الله بريء من المشركين اكتفاء بما في حيز الصلة واحترازاً عن تكرير لفظة من ولما كانت المعاهدة غير واجبة بل مباحة مأذونة وكان الاتفاق للعهد من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم نسب إليهم مع أن مباشرة أمرها إنما تتصور من المسلمين لا من الله تعالى وإن كانت بإذن الله تعالى ، بخلاف البراءة فإنها واجبة أوجبها الله تعالى وأمر منوط بجناب الله تعالى كسائر الأوامر غير متوقفة على رأي المخاطبين.
والمعنى : أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين فإنه منبوذ إليهم والعهد العقد الموثق باليمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله واتفاق الرسول فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة فأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر كما قال تعالى : {فَسِيحُوا} أي : فقولوا لهم سيحوا وسيروا {فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
مقبلين مدبرين آمنين من القتال غير خائفين من النهب والغارة.
والسيح والسياحة الذهاب في الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشيئة كسيح الماء على موجب الطبيعة ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة في الأرض لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها ، والمراد إباحة ذلك لهم وتخليتهم وشأنهم للحرب أو تحصين الأهل والمال أو تحصيل الحرب أو غير ذلك لا تكليفهم بالسياحة فيها ، والمراد بالأشهر الأربعة : هي الأشهر الحرم التي علق القتال بانسلاخها هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ؛ لأن السورة نزلت في شوال سنة تسع من الهجرة بعد فتح مكة فإنه كان في السنة الثامنة منها أمروا بأن لا يتعرضوا للكفار بتلك المدة صيانة للأشهر الحرم عن القتال فيها ، ثم نسخ وجوبها ليتفكروا ويعلموا أن ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو السيف فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام ولئلا ينسبوا المسلمين إلى الخيانة ونقض العهد على غفلة المعاهدين ، وقيل هي عشرون
382
من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولي سنة الفتح عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم واجتمع في تلك السنة في الوقوف المسلمون والمشركون فلما كانت سنة تسع بعث أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الموسم فلما خرج منطلقاً نحو مكة أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأ هذه السورة على أهل الموسم فقيل له عليه السلام لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : "لا يؤدي عني إلا رجل مني" وذلك ؛ لأن عادة العرب أن لا يتولى أمر العهد والنقض على القبيلة إلا رجل منها سيدهم أو واحد من رهطه وعترته فبعث علياً إزاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه فينا في العهد والنقض ، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء ، وهو صوت ذوات الحوافر ، فوقف وقال هذا : رغاء ناقة رسول الله فلما لحقه قال أمير أم مأمور قال مأمور فمضيا فلما كان قبل يوم التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مساكنهم وقام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : "يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من أول هذه السورة ، ثم قال : أمرت بأربع "أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك.
ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده".
وقال الحدادي : كان الحج في السنة التي قرأ علي رضي الله عنه فيها هذه السورة في العاشر من ذي القعدة ثم صار الحج في السنة الثانية في ذي الحجة وكان السبب في تقديم الحج في سنة العهد ما كان يفعله بنو كنانة في النسيء وهو التأخير انتهى فعلى هذا كان المراد بالأشهر الأربعة من عشر ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأول كما ذهب إليه البعض {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ} بسياحتكم في أقطار الأرض في العرض والطول وإن ركبتم متن كل صعب وذلول {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي : لا تفوتونه بالهرب والتحصين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
قال في "ربيع الأبرار" : غير معجزي الله سابقي الله وكل معجز في القرآن سابق بلغة كنانة.
{وَأَنَّ اللَّهَ} أي : واعلموا أنه تعالى.
{مُخْزِى الْكَـافِرِينَ} أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وما يحصل لكم من الافتضاح.
والإخزاء هو الإذلال بما فيه فضيحة وعار.
(3/291)
قال القشيري : قطع لهم مدة على وجه المهلة على أنهم إن أقلعوا عن الضلال وجدوا في المال ما فقدوا من الوصال وإن أبوا إلا التمادي في الحرمة والجريمة انقطع ما بينهم وبينه من العصمة ثم ختم الآية بما معناه إن أصررتم على قبيح آثاركم مشيتم إلى هلاككم بقدمكم وسعيتم في عاجلكم في إراقة دمكم وحصلتم في آجلكم على ندمكم فما خسرتم إلا في صفقتكم.
تبدلت وتبدلنا واخسرنا
من ابتغى عوضاً يسعى فلم يجد ففي الآية دعوة إلى الصلح والإيمان بعد الحراب والكفران فمن كفر وعصى فقد خاصم ربه فجاء الندم في تأخيره التوبة والاستغفار وعدم مبالاته بمباغتة قهر الملك الجبار.
قال بعض العرفاء : إن شئت أن تصير من الأبدال فحول خلقك إلى بعض خلق الأطفال ففيهم خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالاً لا يهتمون للرزق.
قال الصائب :
فكر آب ودانه در كنج قفس بى حاصلست
زير رخ انديشه روزى را باشد مرا
383
ولا يشكون من خالقهم إذا مرضوا.
حافظ ازجور توحاشاك بنالد روزى
كه ازان روز كه دربند توام دلشادم
ويأكلون الطعام مجتمعين.
اكر خواهى كه يابى ملك ودولت
بخور شاها بدرويشان نعمت
وإذا تخاصموا تسارعوا إلى الصلح.
قال السلطان سليم الأول :
خواهى كه كنج عشق كنى لوح سينه را
ازدل بشوى آينه سان كرد كينه را
وإذا خافوا جرت عيونهم بالدموع.
وفي "المثنوي" :
سوز مهر وكريه ابر جهان
ون همى داردجهانرا خوش دهان
آفتاب عقل را در سوز دار
شم را ون ابر اشك افروز دار
جشم كريان بايدت ون طفل خرد
كم خوراين نانراكه ناب آب توبرد
وأشارت الآية الكريمة إلى النفوس المتمردة المشركة التي اتخذت الهوى إلهاً ، وعبدت صنم الدنيا فهادنها الروح والقلب في أوان الطفولية وعاهداها على أن لا يجاهداها ولا يقاتلاها إلى حد البلوغ ، وهي أيضاً لا تتعرض لهما إلى استكمال القالب واستواء القوى البشرية التي بها تتحمل حمل الأمانة وأعباء أركان الشريعة وظهور كمال العقل الذي به يستعد لقبول الدعوة وإجابتها ، وبه يعرف الرسل ومعجزاتهم ، وبه يثبت الصانع ويرى تعبده واجبا لأداء شكر نعمة الله وإن الله ورسوله بريء من تلك المعاهدة بعد البلوغ ، فإنه أوان نقض عهد النفوس مع القلوب والأرواح لأن النفس قبل البلوغ كانت تتصرف في المأكول والمشروب والملبوس لتربية القالب ودفع الحاجة الماسة غالباً ، وذلك لم يكن مضراً جداً للقلب والروح ، فأما بعد البلوغ فزادت في تلك التربية بالمأكول والمشروب والملبوس الضروري لأجل الشهوة ، ولما ظهرت الشهوة شملت آفتها المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح واشتعلت نيرانها يوماً فيوماً وفيها مرض القلب والروح وبعثت الأنبياء لدفع هذا المرض وعلاجه كما قال عليه السلام : "بعثت لدفع العادات وترك الشهوات" وفي قوله : {فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الأذان بمعنى الإيذان كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أي : هذا إعلام واصل منهما {إِلَى النَّاسِ} كافة المؤمنين والكافرين ناكثين أو غيرهم فالأذان عام والبراءة خاصة بالناكثين من المعاهدين والجملة عطف على قوله براءة.
{يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ} منصوب بما يتعلق
384
به إلى الناس.
(3/292)
وفيه قولان : أحدهما : أنه يوم العيد فإنه يتم فيه أركان الحج كطواف الزيارة وغيره ويتم فيه معظم أفعاله كالنحر والرمي وغيرهما وإعلام البراءة كان فيه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : "هذا يوم الحج الأكبر" وروي أن علياً رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء إلى الجبانة ، فجاء رجل فأخذ بلجامها وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : "هو يومك هذا خللِ سبيلها".
والثاني أنه يوم عرفة لقوله عليه الصلاة والسلام : "الحج عرفة" حصر النبي عليه السلام أفعال الحج في الوقوف بعرفة لأنه معظم أفعاله من حيث أن من أدرك الوقوف بعرفة فقد أدرك الحج ومن فاته الوقوف فاته الحج ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ولاجتماع المسملين والمشركين في ذلك اليوم ، وموافقته لأعياد أهل الكتاب ولم يتفق ذلك قبله وبعده فعظم ذلك اليوم في قلوب جميع الطوائف والملل وورد "إن الوقفة يوم الجمعة تعدل سبعين حجة" وهو الحج الأكبر {إِنَّ اللَّهَ} أي : بأن الله والباء صلة الأذان حذفت تخفيفاً {بَرِىاءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} أي من عهدهم الذي نقضوه فالمراد بالمشركين المعاهدون الناكثون {وَرَسُولَهُ} قال المفسرون هو مرفوع معطوف على المستكن في بريء أو منصوب على أن الواو بمعنى مع أي بريء معه منهم أو مجرور على القسم ولا تكرير في ذكر بريء لأن قوله براءة إخبار بثبوت البراءة وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين كما قال أولاً : {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَـافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىاءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه فَإِن تُبْتُمْ} من الكفر والغدر {فَهُوَ} أي : فالتوبة.
{خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدارين من الإقامة على الكفر والغدر.
{وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي : أعرضتم عن التوبة.
{فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ} غير سابقين ولا فائتين أي لا تفوتونه طلباً ولا تعجزونه هرباً في الدنيا.
وبالفارسية (شما نه عاجز كند كانيد خدا يرا يعني توانيد كه ازوبكر يزيد يا با او ستيزيد) {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخرة والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكر التبشير في مقام الإنذار تهكم بهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه رسول الله بالبراءة إلى مكة ، فقيل لأبي هريرة بماذا كنتم تنادون؟ قال : كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يحجن هذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر فإن الله بريء من عهد المشركين ورسوله.
{إِلا الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} استدراك ، أي استثناء منقطع من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر كأنه قيل : لا تمهلوا الناكثين فوق أربعة أشهر لكن الذين لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتلهم بل أتموا إليهم عهدهم.
{ثُمَّ} للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة.
{لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْـاًا} من شروط العهد ولم ينكثوا وينقص يتعدى إلى اثنين فكم مفعول أول وشيئاً مفعول ثان وإلى واحد فشيئاً منصوب على المصدرية أي شيئاً من النقصان.
قال الكاشفي : (س ايشان كم نكردند يزى از عهدهاء شما يعني نشكستند يمان شمارا) {وَلَمْ يُظَـاهِرُوا} لم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة حلفاء النبي عليه السلام فظاهرتهم قريش بالسلاح.
{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} عدي أتموا بإلى
385
لتضمنه معنى فأدوا أي فأدوه إليهم تاماً كاملاً {إِلَى مُدَّتِهِمْ} ولا تفاجئوهم بالقتال عند مضي الأجل المضروب للناكثين ولا تعاملوهم معاملتهم.
روي أن بني ضمرة وهم حي من بني كنانة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الحديبية عند البيت ، وكان بقي لهم من عهدهم تسعة أشهر فأتم عليه الصلاة والسلام إليهم عهدهم.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة حقوق العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الوفي والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركاً.
قال الحافظ :
وفا وعهد نكو باشد را بياموزى
وكرنه هركه تو بيني ستمكرى داند
قال الشيخ نصر آبادي : للمتقي علامات أربع : حفظ الحدود ، وبذل المجهود ، والوفاء بالعهود ، والقناعة بالموجود.
قيل في الترجمة :
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
متقى را بود هار نشان
حفظ أحكام شرع أول آن
(3/293)
ثانياً آنه دست رس باشد
بر فقيران وبى كسان باشد
عهدرا با وفا كند يوند
هره باشد بدان شود خرسند
واعلم : أن الحج الأكبر يوم الوصول إلى كعبة الوصال والحج الأصغر يوم الوصول إلى كعبة القلب.
وزيارة كعبة الوصال وطوافها حرام على مشركي الصفات الناسوتية لأنها تميل إلى غير الله وتركن إلى ما سواه ، فلا تطوف الناسوتية حول كعبة اللاهوتية إلا بعد فنائها وفناؤها إنما يكون بالجذبات الإلهية فإذا تداركت العناية الأزلية العبد يخاطب {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} إما في حال الحياة وإما في وقت الوفاة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد : 38) أما ترى إلى سحرة فرعون كيف قالوا {وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (الزخرف : 14) وفي حديث المعراج "ثم ذهبت إلى الجنة فرأيت رضوان خازنها ، فلما رآني فرح بي ورحب بي ، وأدخلني الجنة وأراني فيها من العجائب ما وعد الله فيها لأوليائه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ورأيت فيها درجات أصحابي ورأيت فيها الأنهار والعيون وسمعت فيها صوتاً وهو يقول آمنا برب العالمين فقلت ما هذا الصوت يا رضوان قال هم سحرة فرعون وسمعت صوتاً آخر ، وهو يقول : لبيك اللهم فقلت من هو قال أرواح الحجاج وسمعت التكبير فقال : هؤلاء الغزاة فسمعت التسبيح فقال هؤلاء الأنبياء ورأيت قصور الصالحين ثم بلغت إلى سدرة المنتهى" وسميت المنتهى لأن علم الخلائق ينتهي إليها "ثم تخلف عني جبريل فقلت له أتتركني وحيداً فقال يا أكرم الخلق على الله ما جاوز هذا المكان أحد قبلك ولا يجاوز بعدك فإذا ناداني ربي فقال لي ادن مني يا محمد فلم أزل أدنو وهو يقول ادن ألف كرة حتى قربت منه كما قال تعالى : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم : 9) وما من مرة أدنو من ربي إلا قضى لي فيها حاجة ثم وقفت فقطرت على لساني قطرة كانت أحلى من العسل وأبرد من الثلج فعلمت علم الأولين والآخرين وقال لي يا محمد قد جعلت الإسلام حلواً في قلوب أمتك حتى أحبوه وجعلت الكفر مرّاً في قلوبهم حتى أبغضوه".
يقول الفقير : ومنه يعرف أن الله تعالى جعل الإيمان حلواً في قلوب أمة الدعوة حتى أحبوه وجعل الكفر مراً في قلوبهم حتى أبغضوه فحب الإيمان من الجذبة الإلهية والعناية الأزلية وبه اتقى المؤمن من الكفر ثم من
386
العصيان ، ثم من الجهل ثم من رؤية ما سوى الله والميل إليه.
فيا أهل الإيمان أدركتكم العناية العامة.
ويا أهل العرفان جذبتكم الهداية الخاصة فقوموا واشكروا الله تعالى على ما أنعم عليكم وأوصله من كمال كرمه إليكم وقد نص على أنه يحب المتقين فتارة تكون محباً وهو محبوب وتارة تكون محبوباً وهو محب ومقام المحبوبية أعلى المقامات ولو كان فوقه ما هو أعلى منه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حبيب الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
فعليك أيها العاقل بالرجوع إلى المولى قبل تمام المدة وهو حلول الأجل وقبل أن تكتنفك الموانع من الجبن والكسل وطريق الاختيار مقبولة دون طريق الاضطرار فإن أقبلت فلك سعادة الوقت ، وإن أعرضت فلك الشقاوة والمقت نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى طريق الرضى ويقبل عثرتنا فيما مضى آمين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
{فَإِذَا انسَلَخَ} أي : انقضى استعير له من الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده {الاشْهُرُ الْحُرُمُ} وانفصلت عما كانت مشتملة عليه ساترة له انفصال الجلد عن الشاة وانكشفت عنه انكشاف الحجاب عما وراءه وتحقيقه أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد للحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة من الأيام والشهور والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه ووصفت الأشهر بالحرم وهي جمع حرام ؛ لأن الله تعالى حرم فيها القتال وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها لا الأشهر الدائرة في كل سنة وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ؛ لأن نظم الآية يقتضي توالي الأشهر المذكورة وهذه ليست كذلك لأن ثلاثة منها سرد وواحد فرد.
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الناكثين أبد الآباد.
فهذه الآية ناسخة لكل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على إيذائهم على وفق ما أجمع عليه جمهور العلماء.
{حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أدركتموهم في حل أو حرم {وَخُذُوهُمْ} أي : ائسروهم والأخيذ الأسير.
{وَاحْصُرُوهُمْ} الحصر المنع والمراد إما حبسهم ومنعهم عن التبسط والتقلب في البلاد أو منعهم عن المسجد الحرام.
{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي : كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم وانتصابه على أنه ظرف لاقعدوا أي أرصدوهم في كل مكان يرصد فيه وارقبوهم حتى لا يمروا به وهذا أمر لتضييق السبيل عليهم فليس معناه حقيقة القعود.
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
(3/294)
قال الكاشفي : (بسته كردانيد برايشان راها تا منتشر نشوند در بلاد وقرى).
{فَإِن تَابُوا} عن الشرك بالإيمان حسبما اضطروا بما ذكر من القتل والأسر والحصر.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم واكتفى بذكرهما عن بقية العبادات لكونهما رئيسي العبادات البدنية والمالية.
{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فدعوهم وشأنهم لا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر.
قال القاضي في تفسيره : فيه دليل على أن تاركي الصلاة ومانعي الزكاة لا يخلى سبيلهم انتهى.
وعن أبي حنيفة رحمه الله : أن من ترك الصلاة ثلاثة أيام فقد استحق القتل.
قال الفقهاء : الكافر إذا أكره على الإسلام فأجرى كلمة الإسلام على لسانه يكون مسلماً ، فإذا عاد إلى الكفر لا يقتل ويجبر على الإسلام كما في "هدية المهديين" للمولى أخي لبي.
وفيه أيضاً : كافر لم يقر بالإسلام إلا أنه إذا صلى مع المسلمين بجماعة يحكم بإسلامه وبلا جماعة لا وإن صام أو حج أو أدى الزكاة لا يحكم بإسلامه في ظاهر الرواية وفي أخرى إنه إن حج على وجه الذي
387
يفعله المسلمون في الإتيان بجميع الأحكام والتلبية وشهود كل المناسك يصير مسلماً.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليل للأمر بتخلية السبيل أي فخلوهم فإن الله يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر لأن الإيمان يجب ما قبله أي يقطعه كالحج ويثيبهم بإيمانهم وطاعتهم.
واعلم أن الله تعالى أمر في هذه الآية بالجهاد وهو أربعة أنواع : جهاد الأولياء بالقلب بتحليته بالأخلاق الحميدة.
وجهاد الزهاد بالنفس بتزكيتها عن الأوصاف الرذيلة ، وجهاد العلماء : بإظهار الحق خصوصاً عند سلطان جائر وإمام ظالم ، وجهاد الغزاة : ببذل الروح.
بهر روز مرك اين دم مرده باش
تاشوى باعشق سر مد خواجه تاش
كشته ومرده به يشت أي قمر
به كه شاه زند كان جاى دكر فالقتل إما قتل النفوس المشركة بالسيف الظاهر وإما قتل النفوس العاصية بالسيف الباطن وقتلها في نهيها عن هواها ومنعها عن مشتهاها واستعمالها على خلاف طبعها وضد طبيعتها.
قيل : يا بنيّ اعصصِ هواك والنساء واصنع ما شئت ، وقوله تعالى : {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ورجعوا إلى الله ، أي : رجعت النفوس عن هواها إلى طلب الحق تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} وداومت على العبودية والتوجه إلى الحق.
{وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} أي : تزكت عن أوصافها الذميمة.
{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} عن مقاساة الشدائد بالرياضات والمجاهدات ليعملوا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
يقول الفقير : ظهر من هذا أن السالك وإن بلغ إلى غاية المراتب ، ونهاية المطالب فهو متقيد في إطلاقه بمرتبة الشريعة والعمل بأحكامها بحيث لو انخلع عن الأحكام والآداب كان ملحداً سيء الأدب مطروداً عن الباب مهجوراً عن حريم قرب رب الأرباب ، فالشريعة الشريفة محك لكل سالك مبتدىء ولكل واصل منتهى يظهر بها صدق الطلب وخدمة الشكر.
وفي الكتب الكلامية : ولا يصل العبد ما دام عاقلاً بالغاً إلى حيث يسقط الأمر والنهي لعموم الخطابات الواردة في التكاليف وإجماع المجتهدين على ذلك اللهم اجعلنا من المتقيدين بوثاق عبوديتك والمراعين لحقوق ربوبيتك.
{وَإِنْ أَحَدٌ} رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل.
{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرتك بقتلهم.
{اسْتَجَارَكَ} أي : طلب منك الأمان والجوار بعد انسلاخ الأشهر الحرم.
{فَأَجِرْهُ} فآمنه ولا تسارع إلى قتله.
{حَتَّى يَسْمَعَ} أي : إلى أن يسمع أو ليسمع.
{كَلَـامَ اللَّهِ} أي : القرآن فيما له وما عليه من الثواب والعقاب.
استدل الأشعري بهذه الآية إلى أنه يجوز أن يسمع
388
الكلام القديم الذي هو صفة الله تعالى ومنعه الشيخ أبو منصور.
فمعنى حتى يسمع كلام الله يسمع ما يدل عليه كما يقال سمعت علم فلان فإن حقيقة العلم لا تسمع بل سمعت خبراً دالاً على علمه وكما يقال انظر إلى قدرته تعالى أي إلى ما يدل على قدرته تعالى والتفصيل في كتب الكلام.
{ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد استماعه له إن لم يؤمن {مَأْمَنَهُ} أي : مسكنه الذي يأمن فيه وهو دار قومه (وبعد ازان باو مقاتله نماى).
{ذَالِكَ} يعني : الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن.
{بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} ما الإسلام وما حقيقته أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة أصلاً.
ومن ههنا قال الفقهاء : حربي أسلم في دار الحرب ولا يعلم بالشرائع من الصوم والصلاة ونحوهما ثم دخل دار الإسلام لم يكن عليه قضاؤها ولا يعاقب عليه إذا مات ، ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بالشرائع يلزمه القضاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
(3/295)
واعلم كما أن الكفار قوم لا يعلمون أحكام الله فكذا النفس وصفاتها قوم لا يعلمون الله وألطافه فلا يقبلون إليه ويعملون الدنيا وشهواتها فيرغبون فيها ، وقد أمهل الله تعالى بفضله ليرجع العبد إليه وإلى طاعته.
روي أنه كان في بني إسرائيل شاب قد عبد الله عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال إلهي أطعتك عشرين سنة وعصيتك عشرين سنة فإن رجعت إليك تقبلني فسمع هاتفاً من وراء البيت ولم ير شخصاً وهو يقول أحببتنا فأحببناك وتركتنا فتركناك وعصيتنا فأمهلناك فإن رجعت إلينا قبلناك.
وينبغي للعبد أن يسارع إلى التوبة والاستغفار فإن توبة الشاب أحسن من توبة الشيخ فإن الشاب ترك الشهوة مع قوة الداعي إليها والشيخ قد ضعفت شهوته وقل داعيه فلا يستويان.
قال السعدي قدس سره :
(قحبه يراز نا بكارى ه كندتوبه نكند) لأنه لا رغبة في مجامعتها فإنها تؤدي إلى موت الفجأة : (وشخنة معزول ازمردم ازاري) لأنه لا ولاية له على الناس.
جوان كوشه تشين شير مردراه خداست
كه يرخود نتواندز كوشة برخاست
شيخ كبير له ذنوب
تعجز عن حملها المطايا
قد بيضت شعره الليالي
وسودت قلبه الخطايا
يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا وهام.
يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور ويسمع الآيات والسور ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور اللهم اجعلنا من المتلذذين بحسن خطابك والمستسعدين بقرب جنابك والمتصفين بمعرفة آيات صفاتك والواصلين إلى أسرار ذاتك إنك أنت الفياض.
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
{كَيْفَ} في محل النصب على التشبيه بالحال والظرف والاستفهام إنكاري لا بمعنى إنكار الواقع كما في قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} (البقرة : 28) بل بمعنى إنكار الوقوع.
{يَكُونَ} من الكون التام {لِّلْمُشْرِكِينَ} هم الناكثون.
والمعنى : على أي حال يوجد لهم {عَـاهَدَ} معتد به {عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} يستحق أن يراعى حقوقه ويحافظ عليه إلى تمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلاً وأخذاً ، أي : مستنكر مستبعد أن يكون لهم عهد يجب الوفاء به.
389
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
{إِلا الَّذِينَ} استدراك من النفي المفهوم من الاستفهام المتبادر شموله لجميع المعاهدين أي لكن الذين {عَـاهَدتُّمْ} يعني : بني ضمرة وبني كنانة {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (نزديك مسجد حرام يعني درحديبيه كه قريبست بمكه معظمه) ، والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرم لزيادة بيان أصحابها والإشعار بسبب وكادتها ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبر قوله تعالى : {فَمَا اسْتَقَـامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} والفاء لتضمنه معنى الشرط ، وما إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير المضاف ، أي فاستقيموا لهم بوفاء أجلهم مدة استقامتهم لكم في وفاء العهد فلم ينقضوه كما نقض غيرهم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم في عهدهم فاستقيموا لهم فيه.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} لنقض العهد تعليل للأمر بالاستقامة وإشعار بأن المحافظة على العهد من لوازم التقوى وفي الحديث : "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع بقدر غدره" قال في "شرح الشهاب" : المراد باللواء التشهير ، يعني : يفتضح الغدّار يوم القيامة بقدر غدره.
وفي "المثنوي" :
سوى لطف بيوفايان هين مرو
كان ل ويران بود نيكوشنو
نقض ميثاق وعهود از احمقيست
حفظ ايمان ووفاكار تقيست
{كَيْفَ} يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله سبحانه وعند رسوله عليه الصلاة والسلام {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي : وحالهم إنهم إن يظفروا بكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ} أي : لا يراعوا في شأنكم ، وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية.
ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية {إِلا} أي : حلفاً أو قرابة.
وقيل : الإل اسم عبري بمعنى الإله.
(3/296)
قال الأزهري : أيل من أسماء الله تعالى بالعبرانية فجاز أن يكون معرب أل ، أي : لا يراعوا حق الله تعالى.
{وَلا ذِمَّةً} أي : عهداً حقاً يعاقب على إغفاله وإضاعته مع ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق يعني أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروطة بمراعاة الآخر لها فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها.
{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} استئناف بياني كأنه قيل بأي وجه لا يراعون الحلف أو القرابة فكيف يقدمون على عدم المراعاة فأجيب بأنهم يرضونكم بأفواههم حيث يظهرون الوفاء والمصافاة ويعدون لكم بالأيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالإيمان الفاجرة ويتعللون عند ظهور خلافه بالمعاذير الكاذبة ونسبة الإرضاء للأفواه للإيذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم.
{وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} ما تتفّوه به أفواههم يعني أن ألسنتهم تخالف قلوبهم وما في بطونهم من الضغائن ينافي ما أظهروه بألسنتهم من وعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد فهم إما يقولون كلاماً حلواً مكراً وخديعة ، وفي الحديث : "المكر والخديعة في النار" يعني : أربابهما وفي الحديث "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع" وهي : جمع بلقعة وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها وامرأة بلقعة إذا كانت خالية من كل خير والمعنى يفتقر الحالف ويذهب ماله وجاهه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
فينبغي للعاقل أن لا يجعل عادته أن يحلف في كل صغير وكبير فإنه ربما يحلف كاذباً فيستحق العقوبة.
ورد أنّ البياع الحلاف إذ كان كاذباً
390
في يمينه يكون ثمن ما باعه أشد حرمة من لحم الخنزير.
{وَأَكْثَرُهُمُ} أي : أكثر المشركين {فَـاسِقُونَ} خارجون عن الطاعة فإن مراعاة حقوق العهد من باب الطاعة متمردون في الكفر ليست لهم عقيدة تمنعهم ولا مروءة تردعهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء والأحدوثة ما يتحدث الناس في حقه من المثال والمعائب.
يفول الفقير : ذكر عند حضرة شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة مروءة بعض أهل الذمة فقال : إنه من آثار السعادة الأزلية ويرجى أن ذلك يدعوه إلى الإيمان والتوحيد ويصير عاقبته إلى النجاة والفلاح.
وفي "المثنوي" :
من نديدم در هان جست وجو
هي اهليت به از خوى نكو
درى خوباش وباخوشخو نشين
خو ذيرى روغن وكل رابين
س يقين دان صورت خوب ونكو
با خصال بد نيرزد يك طسو
ور بود صورت حقير وناذير
ون بود خلقش نكو دراش مير
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلّم معاذاً بوصية جامعة لمحاسن الأخلاق فقال : "يا معاذ أوصيك بتقوى الله ، وصدق الحديث ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، وحفظ الجوار ، ورحمة اليتيم ولين الكلام ، وبذل السلام ، وحسن العمل ، وقصر الأمل ، ولزوم الإيمان ، والتفقه في القرآن ، وحب الآخرة ، والجزع من الحساب ، وخفض الجناح ، وإياك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً ، أو تطيع آثماً ، أو تعصي إماماً عادلاً ، أو تفسد أرضاً.
أوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر ، وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية بذلك أدب الله عباده ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب" كذا في "العوارف".
اعلم أن النفس خلقت من السفليات وجبلت ميالة إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها وإلى الجفاء والغدر والرياء والنفاق وقد عاهدها الله يوم الميثاق على الصدق والإخلاص فهي ما دامت حية باقية على صفاتها الذميمة لا يمكنها العبودية الخالصة من شوب الطمع في المقاصد الدنيوية والأخروية ، فإذا تنورت بالأنوار المنعكسة من تجلي صفات الجمال والجلال لمراءة القلب تفنى عن أوصافها المخلوقة وتبقى بالأنوار الخالقية فيثبتها الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فتسلم من نقض العهد والمسجد الحرام إشارة إلى مقام الوصول الذي هو حرام على أهل الدنيا والآخرة وهو مقام أهل الله وخاصته نسأل الله الوصول إلى هذا المقام المكين والدخول في هذا الحرم الأمين.
قال بعضهم :
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
الزم الصدق والتقى
واترك العجب والريا
واغلب النفس والهوى
ترزق السؤل والمنى
فعلى العاقل المجاهدة مع النفس ورعاية العهود والحقوق ومجانبة الفسوق والعقوق.
قال الشبلي قدس سره : عقدت وقتاً أن لا آكل إلا من الحلال فكنت أدور في البراري ، فرأيت شجرة تين فمددت يدي إليها لآكل فنادتني الشجرة احفظ عليك عقدك لا تأكل مني فإني ليهودي.
يقول الفقير في هذه الحكاية شيئان : الأول : ظهور الكرامة وهو تكلم الشجرة.
والثاني :
391
(3/297)
تذكير الله تعالى إياه عقده وذلك بسبب صدقه في إرادته وإخلاصه في طلبه فمن أراد أن يصل إلى هذه الرتبة فليحافظ وقته وليراقب فإن في المراقبة حصول المطالب عصمنا الله وإياكم من تجاوز الحد والخروج عن الطريق وشرفنا بالوقوف في حد الحق والثبات في طريق التحقيق {اشْتَرَوْا بآيات اللَّهِ} يعني : المشركين الناقضين تركوا الآيات الآمرة بالإيفاء بالعهود والاستقامة في كل أمر وأخذوا بدلها.
{ثَمَنًا قَلِيلا} أي : شيئاً حقيراً من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها {فَصَدُّوا} أي : عدلوا وأعرضوا من صد صدوداً فيكون لازماً أو منعوا وصرفوا غيرهم من صده عن الأمر صداً فيكون متعدياً.
{عَن سَبِيلِهِ} أي : دينه الموصل إليه أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه ويحصرونهم.
{إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : بئس العمل عملهم المستمر فما المصدرية مع ما في حيزها في محل الرفع على إنها فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف.
وقيل : إن أبا سفيان بن حرب جمع الأعراب وأطعمهم ليصدهم بذلك عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وليحملهم على نقض العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله فنقضوه بسبب تلك الأكلة ففاعل اشتروا الأعراب والثمن القليل هو ما أطعمهم أبو سفيان.
يقول الفقير : هذا جار إلى الآن فإن بعض أهل الهوى والظلم يضيف بعض أهل الطمع والمداهنة ممن يعد من أعيان القوم ليشهدوا له عند السلطان أو القاضي بالحق والعدل فيشترون بآيات الله ثمناً قليلاً هو الضيافة لهم.
{لا يَرْقُبُونَ} أي : لا يراعون ولا يحفظون.
{فِى مُؤْمِنٍ} أي : في شأنه وحقه.
{إِلا} أي : حلفاً أو حق قرابة.
{وَلا ذِمَّةً} أي : عهداً هذا ناعى عليهم عدم مراعاة حقوق عهد المؤمنين على الإطلاق فلا تكرار.
{وَأُوالَـائِكَ} الموصوفون بما عدّ من الصفات السيئة.
{هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المجاوزون الغاية القصوى من الظلم والشرارة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
{فَإِن تَابُوا} عن الكفر وسائر العظائم.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} أي : التزموا إقامتهما واعتقدوا فرضيتهما.
{فَإِخوَانُكُمْ} أي : فهم إخوانكم {فِى الدِّينِ} متعلق بإخوانكم لما فيه من معنى الفعل ، أي : لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فعاملوهم معاملة الإخوان ومتى لم توجد هذه الثلاثة لا تحصل الأخوة في الدين ولا عصمة الدماء والأموال.
{وَنُفَصِّلُ الايَـاتِ} أي : نبين الآيات المتعلقة بأحوال المشركين الناكثين وغيرهم وأحكامهم حالتي الكفر والإيمان.
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي : ما فيها من الأحكام ويتفكرونها ويحافظون عليها.
{وَإِن نَّكَثُوا} عطف على قوله تعالى : {فَإِن تَابُوا} أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا {أَيْمَـانَهُم مِّنا بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل.
{وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ} عابوه وقدحوا فيه بتصريح التكذيب وتقبيح الأحكام {فَقَـاتِلُوا} (س بكشيد) {أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ} أي : فقاتلوهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علة وجوب مقاتلتهم أي للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسة وتقدم في الكفر أحقاء بالقتل وقيل المراد بأئمتهم رؤساؤهم كأبي سفيان والحرث بن هشام وأبي جهل بن هشام وسهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأشباههم ، وتخصيصهم بالذكر ليس لنفي الحكم عما عداهم بل لأن قتلهم أهم من حيث أنهم هم المعتدون في الشرارة
392
ويدعون أتباعهم إلى الأفعال الباطلة كأنه قيل فقاتلوا من نكث الوفاء بالعهود لا سيما أئمتهم والرؤساء منهم.
وأصل أئمة أاممة جمع إمام نحو مثال وأمثلة {إِنَّهُمْ لا أَيْمَـانَ لَهُمْ} أي : على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يعدون نفضها محذوراً وإن أجروها على ألسنتهم فالمراد بالأيمان المثبتة لهم بقوله تعالى : {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـانَهُم} ما أظهروه من الأيمان وبالمنفية ما هو أيمان على الحقيقة ، فإنهم إذا لم يراعوها فلا وجود لها في الحقيقة ولا اعتبار بها لأن ما لم يترتب عليه أحكامه ولوازمه فهو في حكم المعدوم ، وهو تعليل لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من سياق الكلام ، كأنه قيل : فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا لأنهم لا أيمان لهم حتى تعقدوا معهم عقداً آخر.
{لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلق بقوله فقاتلوا ، أي : قاتلوهم إرادة أن ينتهوا ، أي : ليكن غرضكم من القتال انتهاءهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم التي يرتكبونها لا إيصال الأذية كما هو ديدن المؤذين والأذية ، هو المكروه اليسير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
(3/298)
أقول : فيه إشارة إلى أن الفاعل ينبغي أن يكون له غرض صحيح شرعي في فعله كدفع المضرة في قتل القملة والنملة وأشباههما ، لا إرادة التشفي والانتقام وإيصال الأذى والآلام للقرص أو لغيره ، وليكن هذا على ذكر من الصوفية المحتاطين في كل الأمور والساعين في طريق الفناء إلى يوم ينفخ في الصور.
قال الحدادي : في الآية بيان أن أهل العهد متى خالفوا شيئاً مما عاهدوهم عليه فقد نقضوا العهد وأما إذا طعن واحد منهم في الإسلام فإن كان شرط في عهودهم أن لا يذكروا كتاب الله ولا يذكروا محمداً صلى الله عليه وسلّم بما لا يجوز ، ولا يفتنوا مسلماً عن دينه ، ولا يقطعوا عليه طريقاً ولا يعينوا أهل الحرب بدلالة على المسلمين فإنهم إذا فعلوا ذلك فقد برئت منهم ذمة الله ، وذمة رسول الله فإن فعلوا شيئاً من هذه الأشياء حل دمهم ، وإن كان لم يشرط ذلك عليهم في عهودهم وطعنوا في القرآن وشتموا النبي عليه الصلاة والسلام ففيه خلاف من الفقهاء ، قال أصحابنا : يعزرون ولا يقتلون واستدلوا بما روى أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت النبي عليه السلام بشاة مسمومة ليأكل منها فجيء بها ، وقيل له أنقتلها فقال : لا" ولحديث عائشة رضي الله عنها "فإن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله" فقالت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا فقال : "بلى قد قلت عليكم" ولم يقتلهم النبي عليه السلام بذلك وذهب مالك إلى أن من شتم النبي عليه السلام من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم انتهى ما في "تفسير الحدادي".
قال ابن الشيخ في الآية : دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام ، أي عابه وازدراه جاز قتله لأنه عوهد على أن لا يطعن في الدين فإذا طعن فقد خرج عن الذمة وعند أبي حنيفة يستتاب الذمي بطعنه في الدين ولا ينقض عهده بمجرد طعنه ما لم يصرح بالنكث انتهى.
قال المولى أخي لبى في "هدية المهديين" : الذمي إذا صرح بسبه عليه السلام أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فلا خلاف عند الشافعي في قتله إن لم يسلم ؛ لأنه لم يعط له الذمة أو العهد على هذا وهو قول عامة العلماء إلا أن أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة قالوا لا يقتل لأن ما هو عليه من الشرك أعظم لكن يعزر ويؤدب.
وقيل لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله لأنه حق النبي عليه السلام وجب عليه لهتكه حرمته وقصده لحاق النقيصة والمعرة به عليه السلام فلم يكن
393
رجوعه إلى الإسلام مسقطاً له كما لم يسقط سائر حقوق المسلمين من قبل إسلامه من قتل أو قذف وإذا كنا لا نقبل توبة المسلم فلأن لا نقبل توبة الكافر أولى كما في "الأسرار" و"الحاوي" فالمختار أن من صدر منه ما يدل على تخفيفه عليه السلام بعمد وقصد من عامة المسلمين يجب قتله ولا تقبل توبته بمعنى الخلاص من القتل وإن أتى بكلمتي الشهادة والرجوع والتوبة لكن لو مات بعد التوبة أو قتل حدّاً مات ميتة الإسلام في غسله وصلاته ودفنه ولو أصر على السب وتمادى عليه وأبى التوبة منه فقتل على ذلك كان كافراً وميراثه للمسلمين ولا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن بل تستر عورته ويواري كما يفعل بالكفار.
والفرق بين من سب الرسول وبين من سب الله على مشهور القول باستتابته أن النبي عليه السلام بشر والبشر من جنس تلحقهم المعرة إلا من أكرمه الله تعالى بنبوته والباري منزه عن جميع المعائب قطعاً وليس من جنس تلحقهم المعرة بجنسه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
واعلم أنه قد اجتمعت الأمة على أن الاستخفاف بنبينا وبأي نبي كان من الأنبياء كفر سواء فعله فاعل ذلك استحلالاً أم فعله معتقداً بحرمته ليس بين العلماء خلاف في ذلك والقصد للسب وعدم القصد سواء إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان إذا كان عقله في فطرته سليماً.
فمن قال أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان أسود أو يتيم أبي طالب أو زعم أن زهده لم يكن قصداً بل لكمال فقره ولو قدر على الطيبات أكلها ونحو ذلك يكفر وكذا من عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر أو بالميل إلى نسائه أو قال لشعره شعير بطريق الإهانة وإن أراد بالتصغير التعظيم لا يكفر ومن قال جن النبي ساعة يكفر ومن قال أغمى عليه لا يكفر.
(3/299)
وحكي عن أبي يوسف أنه كان جالساً مع هارون الرشيد على المائدة فروى عن النبي عليه السلام أنه كان يحب القرع فقال حاجب من حجابه أنا لا أحبه فقال لهارون : إنه كفر فإن تاب وأسلم فبها وإلا فاضرب عنقه فتاب واستغفر حتى أمن من القتل ذكره في "الظهيرية" قالوا هذا إذا قال ذلك على وجه الإهانة أما بدونها فلا كما في "الخاقانية" ولو قال رجل إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أكل يلحس أصابعه الثلاث فقال الآخر (اين بى ادبيست) فهذا كفر والحاصل أنه إذا استخف سنة أو حديثاً من أحاديثه عليه السلام يكفر ولو قال لو كانت الصلاة زائدة على الأوقات الخمسة أو الزكاة على خمسة دراهم والصوم على شهر لا أفعل منها شيئاً يكفر ولو قال لآخر صل فقال الآخر إن الصلاة عمل شديد الثقل يكفر ولو صلى رجل في رمضان لا في غيره فقال (اين خود بسيارست) يكفر ولو ترك الصلاة متعمداً ولم ينو القضاء ولم يخف عقاب الله فإنه يكفر ولو قال عند مجيء شهر رمضان (آمد آن ماه كران) أو جاء الضيف الثقيل يكفر.
ومن إشارات الآية : أن الطعن في الدين هو الإنكار على مذهب السلوك والطلب وأئمة الكفر هم النفوس كما أن أئمة الإيمان هم القلوب والأرواح والنفوس لا وفاء لهم بالعهد على طلب الحق تعالى وترك ما سواه فلا بد من جهادهم حق جهادهم كي ينتهوا عن طبيعتهم وعما جبلوا عليه من الأمارية بالسوء.
{أَلا تُقَـاتِلُونَ قَوْمًا} (آيا كارزار نميكنيد باكروهى كه) {نَّكَثُوا} (بشكنند) {أَيْمَـانِهِمْ} التي حلفوها مع الرسول والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر
394
على خزاعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
قال الكاشفي : (ديكر از عهدها ميان يغمبر وقريش آن بودكه حلفا يكديكررا نرنجانند وبرقتال ايشان بايكديكر مظاهره نكنند قريش ببني بكررا كه حلفاء ايشان بودند بسلاح ومردمدد داندند بابني خزاعة كه حلفاي رسول بودند جنك كردند).
{وَهَمُّوا} (وقصد كردند مشركان) {بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} حين تشاوروا في أمره بدار الندوة فيكون نعياً عليهم جنايتهم القديمة وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة.
{وَهُم بَدَءُوكُمْ} أي : بدؤوا نقض العهد بالمعاداة والمقاتلة {أَوَّلَ مَرَّةٍ} لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحداهم به فعدلوا عن المحاجة لعجزهم عنها إلى المقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم.
{أَتَخْشَوْنَهُمْ} أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم.
{فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} فقاتلوا أعداءه ولا تتركوا أمره.
قوله : (فالله) مبتدأ خبره أحق وأن تخشوه بدل من الله أي أي خشية أحق من خشيتهم فإن تخشوه في موضع رفع ويجوز أن يكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر وتقديره بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه.
قال في "التأويلات النجمية" أتخشون فوات حظوظ النفس في اجتهادها وخشية فوات حقوق الله والوصول إليه أولى إن كنتم مؤمنين بالوصول إليه.
{قَـاتِلُوهُمْ} (كارزار كنيد بامشركان).
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} يعني : (بشمشير هاى شما مقتول شوند) {وَيُخْزِهِمْ} (ورسواسازد شان بمقهوريت ومغلوبيت).
{وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي : يجعلكم جميعاً غالبين عليهم أجمعين ولذلك أخر عن التعذيب.
{وَيَشْفِ} (شفا بخشد) {صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ممن لم يشهد القتال وهم خزاعة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم بطن من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشكون إليه فقال عليه السلام : "أبشروا فإن الفرج قريب".
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
آنكه يرانه سرم صحبت وسف بنو اخت
اجر صبريست كه در كلبه احزان كردم
{وَيُذْهِبَ} (وببرد خداى تعالى بنصرت شما بركفار) {غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (اندوه دلهاء آنا نراكه بواسطه أذاء كفار ملول بودند) ولقد أنجز الله ما وعدهم به على أجمل ما يكون.
{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ} كلام مستأنف ينبىء عما سيكون من بعض أهل مكة من التوبة المقبولة فكان كذلك حيث أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهل بن عمر وغيرهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما كان وما سيكون.
{حَكِيمٌ} لا يفعل ولا يأمر إلا على وفق الحكمة.
{أَمْ حَسِبْتُمْ} (آيا مى ندار يداي مؤمنان) وأم منقطعة.
والمعنى بل أحسبتم ومعنى بل الإضراب عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم على الحسبان.
{أَن تُتْرَكُوا} مهملين غير مأمورين بالجهاد {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ} أي : والحال أنه لم يتبين الخلص وهم الذين جاهدوا من غيرهم وفائدة التعبير عن عدم التبين بعدم علم الله تعالى أن المقصود هو التبين من حيث كونه متعلقاً للعلم ومداراً للثواب.
قال
395
(3/300)
الحدادي : وكان الله تعالى قد علم قبل أمرهم بالقتال من لا يقاتل ممن يقاتل ولكنه يعلم ذلك غيباً وأراد العلم الذي يجازي عليه ، وهو علم المشاهدة لأنه يجازيهم على علمهم لا على علمه فيهم انتهى وعدم التعرض لحال المقصرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين.
{وَلَمْ يَتَّخِذُوا} عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة أي ولما يعلم الله الذين لم يتخذوا {مِن دُونِ اللَّهِ} متعلق بالاتخاذ إن أبقي على حاله أو مفعول ثاننٍ له إن جعل بمعنى التصيير.
{وَلا رَسُولِه وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي : بطانة وصاحب سر وهو الذي تطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفية من الولوج وهو الدخول.
قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة تكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد.
{وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} أي : بجميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها فيعلم غرضكم من الجهاد هل فيه إخلاص أو هو مشوب بالعلل كإحراز الغنيمة أو جلب الثناء أو نحو ذلك.
قال السعدي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
منه آب زرجان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
زراند ودكانرا بآتش برند
بديد آيد آنكه كه مس يازرند
وفي الآية : حث على الجهاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لرباط يوم في سبيل الله محتسباً من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أفضل عند الله ، وأعظم أجراً من عبادة ألفي سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالماً لم يكتب عليه سيئة ألف سنة ويكتب له الحسنات ويُجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة" وفي الحديث : "من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخل الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا أفلا نبشر الناس قال : "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى النة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة" وفي الحديث : "المجاهد من جاهد نفسهتعالى" جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم أشجع الناس أقهرهم لهواه" كم عاقل أسير هواه عليه أمير عبد الشهوات أذل من عبد الرق إن المرآة لا تريك خدوش وجهك مع صداها وكذلك نفسك لا تريك عيوب نفسك مع هواها.
وفي الآية بيان أن المؤمن المخلص يجتنب عن الكافر والمنافق ولا يتخذهما صاحبي سر.
روي عن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت قالا بينما كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ قال : "هل فيكم غريب" يعني : أهل الكتاب قلنا لا يا رسول الله فأمر بغلق الباب فقال : "ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا الله" فرفعنا أيدينا ساعة ثم وضع رسول الله يده ثم قال : "الحمداللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد" ثم قال : "أبشروا فإن الله قد غفر لكم" أقول : هذا التلقين تلقين خاص قد توارثه الخواص من لدنه عليه السلام إلى هذا اليوم ولم يطلعوا عليه العوام ولم يفشوا أسرارهم إلى الأجانب فإن ذلك من الخيانة وكذا ولاية المؤمن للكافر ومحبته له من الخيانة وما الاختلاط إلا من محبة الكفر والعياذ بالله تعالى من ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} نزلت الآية في جماعة من رؤساء قريش
396
أسروا يوم بدر فيهم العباس عم النبي عليه السلام فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله فعيروهم بالشرك وجعل علي رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقطع رحمه وعون المشركين عليه وأغلظ القول له فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال له علي وهل لكم من محاسن قال : نعم نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فقال الله تعالى رداً : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي ما صح وما استقام على معنى نفي الوجود والتحقق لا نفي الجواز كما في قوله تعالى : {أُوالَـائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ} (البقرة : 114) أي : ما وقع وما تحقق لهم {أَن يَعْمُرُوا} عمارة معتداً بها {مَسَـاجِدَ اللَّهِ} أي : المسجد الحرام وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامرها أو لأن كل ناحية من نواحيه المختلفة الجهات مسجد على حاله بخلاف سائر المساجد إذ ليس في نواحيها اختلاف الجهة قيل لعكرمة لم تقرأ مساجد وإنما هو مسجد واحد قال : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} (البقرة : 158) أي : شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام الذي هو أفضل أفراد الجنس على أن تعريف الجمع بالإضافة للجنس فالآية على هذا الوجه كناية عن عمارة المسجد على وجه آكد من التصريح بذلك.
(3/301)
ذكر في "القنية" أن أعظم المساجد حرمة المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم مسجد بيت المقدس ثم الجوامع ثم مساجد الشوارع فإنها أخف مرتبة حتى لا يعتكف فيها إذا لم يكن لها إمام معلوم ومؤذن ثم مساجد البيوت فإنه لا يجوز الاعتكاف فيها إلا للنساء انتهى وهذه المساجد هي المساجد المجازية ، وأما المساجد الحقيقية فهي القلوب الطاهرة عن لوث الشرك مطلقاً كما قال من قال :
مسجدي كو اندرون اولياست
سجد كاه جمله است آنجا خداست
آن منجازست اين حقيقت اي خران
نيست مسجد جز درون سروران
ولهذا يعبر عن هدم المسجد بهدم قلب المؤمن {شَـاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} أي بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت للعبادة فإن ذلك شهادة صريحة على أنفسهم بالكفر وإن أبوا أن يقولوا نحن كفار كما نقل عن الحسن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر أن اليهودي لو قيل له ما أنت قال يهودي ويقول النصراني هو نصراني ويقول المجوسي هو مجوسي أو قولهم نعبد الأصنام ليقربونا إلى الله زلفى وهو حال من الضمير في يعمروا أي محال أن يكون ما سموه عمارة عمارة بيت الله مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره تعالى فإنها ليست من العمارة في شيء.
{أولئك} الذين يدعون عمارة المسجد وما يضاهيها من أعمال البر مع ما بهم من الكفر.
{حَبِطَتْ} (تباه وباطل شده است بواسطه كفر) {أَعْمَـالَهُمْ} التي يفتخرون بها وإن كانت من جنس طاعة المسلمين {وَفِى النَّارِ هُمْ خَـالِدُونَ} لكفرهم ومعاصيهم.
قال القاضي عياض انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا بتخفيف عذاب لكن بعضهم يكون أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم.
وذكر الإمام الفقيه أبو بكر البيهقي : أنه يجوز أن يراد مما ورد في الآيات والأخبار في بطلان خيرات الكفار أنهم لا يتخلصون بها من النار ولكن يخفف عنهم ما يستوجبونه بجنايات ارتكبوها سوى الكفر
397
ووافقه المازري.
قال الواحدي : دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ولو أوصى لم تقبل وصيته وهو مجمع عليه بين الحنفية ويمنع من دخول المساجد فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذنه لم يعزر والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ} شامل للمسجد الحرام وغيره.
{مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} وحده والإيمان بالرسول داخل في الإيمان بالله لما علم من تقارنهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر في مثل الشهادة والأذان والإقامة {وَالْيَوْمِ الاخِرِ} بما فيه من البعث والحساب والجزاء {وَأَقَامَ الصَّلَواةَ} مع الجماعة وأكثر المشايخ على أنها واجبة وفي الحديث : "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً" والجماعة في التراويح أفضل وكل ما شرع فيه الجماعة فالمسجد فيه أفضل فثواب المصلين في البيت بالجماعة دون ثواب المصلين في المسجد بالجماعة.
{وَءَاتَى الزَّكَواةَ} أي : الصدقة المفروضة عن طيب نفس وقرن الزكاة بالصلاة في الذكر لما إن إحداهما لا تقبل إلا بالأخرى أي إنما تستقيم عمارتها ممن جمع هذه الكمالات العلمية والعملية.
{وَلَمْ يَخْشَ} في أمور الدين {إِلا اللَّهُ} فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله لومة لائم ولا خشية ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال ونحو ذلك ، وأما الخوف الجبلي من الأمور المخوفة كالظلمة والسباع المهلكة والدواهي العظيمة فهو لا يقدح في الخشية من الله إذ الخشية من الله إرادة ناشئة من تصور عظمة الله وإحاطة علمه بجميع المعلومات وكمال قدرته على مجازاة الأعمال مطلقاً وهذا الخوف الجبلي لا يدخل تحت القصد والإرادة {فَعَسَى أُولَئكَ} (س آن كروه شايد) {أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالب العلية وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية في معرض التوقع لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم لها محسنون ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالات إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى فما بال الكفرة وهم هم وأعمالهم أعمالهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
جايى كه شير مردان در معرض عتابند
روباه سيرتانرا آنجا ه تاب باشد
(وديكر منع مؤمنا نست ازاغترار بأعمال خويش وبران اعماد نمودن) كما قال الحدادي كلمة عسى من الله واجبة والفائدة في ذكرها في آخر هذه الآية ليكون الإنسان على حذر من فعل ما يحبط ثواب عمله (كه هر كه بعمل مغرورست ازفيض ازل مهجورست)
مباش غره بعلم وعملك ه شد ابليس
بدين سبب زدر باركاه عزت دور(3/302)
واعلم أن عمارة المساجد تعم أنواعاً منها البناء وتجديد ما انهدم منها وفي الحديث : "سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من علَّم علماً أو كرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته" وفي الحديث : "من بنى مسجداًتعالى أعطاه الله بكل شبر أو بكل ذراع أربعين ألف ألف مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ في الجنة في كل مدينة ألف ألف بيت في كل بيت ألف ألف سرير على كل
398
سرير زوجة من الحور العين في كل بيت أربعون ألف مائدة على كل مائدة أربعون ألف قصعة في كل قصعة أربعون ألف ألف لون من طعام ويعطى الله له من القوة حتى يأتي على تلك الأزواج وعلى ذلك الطعام والشراب" ذكره الزند وستى في "الروضة".
فإن خرب المسجد وتعطل أو خربت المحلة ولا يصلي يه أحد صار المسجد ميراثاً لورثة الباني عند محمد.
وقال أبو يوسف هو على حاله مسجد وإن تعطل ولو أرادوا أن يجعلوا المسجد مستغلاً والمستغل مسجداً لم يجز.
يقول الفقير : من الناس من جعل المسجد اصطبل الدواب أو مطمورة الغلة أو نحوه وكذا الكتاب ونحوه من محال العلم والعبادات وقد شاهدناه في ديار الروم والعياذ بالله تعالى.
قال علي رضي الله عنه : ست من المروءة ثلاث في الحضر وثلاث في السفر.
فأما اللاتي في الحضر فتلاوة كتاب الله وعمارة مسجد الله واتخاذ الإخوان في الله.
وأما اللاتي في السفر فبذل الزاد وحسن الخلق والمزاح في غير معاصي الله ذكره الخطيب في "الروضة".
ومنها قمها أي كنسها وتنظيفها.
قال الحسن : مهور الحور العين كنس المساجد وعمارتها وفي الحديث : "نظفوا أفنيتكم ولا تتشبهوا باليهود بجمع الأكباء" أي الكناسات في دورها وفي الحديث "غسل الإنا وطهارة الفناء يورثان الغنى" فإذا كان الأمر في طهارة الفناء وهو فناء البيت والدكان ونحوهما هكذا فما ظنك في تنظيف المسجد والكتاب ونحوهما.
ومنها تزيينها بالفرش.
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
قال بعضهم : أول من فرش الحصير في المساجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت قبل ذلك مفروشة بالحصى ، وهو بالفارسية (سنك ريزه) أي في زمنه صلى الله عليه وسلّم وذلك أن المطر جاء ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة فجعل الرجل يأتي بالحصباء في ثوبه فيبسطها تحته ليصلي عليها فلما قضى رسول الله الصلاة قال ما أحسن هذا البساط ثم أمر أن يحصب جميع المسجد فمات قبل ذلك فحصبه عمر رضي الله عنه.
وفي "الإحياء" : أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة ؛ إذ من عد المعروف في زماننا من فرش المساجد بالبسط الرقيقة وقد كان يعد فرش البواري في المسجد بدعة كانوا لا يرون أن يكون بينهم وبين الأرض حائل انتهى.
قال الفقهاء : يستحب له أن يصلي على الأرض بلا حائل أو ما تنبته كالحصير والبوريا لأنه أقرب إلى التواضع وفيه خروج عن خلاف الإمام مالك فإن عنده يكره السجود على ما ليس من جنس الأرض ولا بأس بأن يصلي على اللبود وسائر الفرش إذا كان المفروش رقيقاً بحيث يجد الساجد تمكنه من الأرض وقد روي أنه عليه السلام سجد على فروة مدبوغة ولا بأس بتبيض المسجد بالجص أو بالتراب الأبيض.
ذكر أن الوليد بن عبد الملك أنفق على عمارة مسجد دمشق في تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات.
وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه حتى نصب الكبريت الأحمر على رأس القبة وكان ذلك أعز ما يوجد في ذلك الوقت وكان يضيء من ميل وكانت الغزالات يغزلن في ضوئه من مسافة اثني عشر ميلاً وكان على حاله حتى خربه بخت نصر ونقل جميع ما فيه من الذهب والفضة والجواهر والآنية إلى أرض بابل وحمل مائة ألف وسبعين عجلة.
ومنها تعليق القناديل في المساجد وإسراج المصابيح والشموع وفي الحديث : "من علق
399
(3/303)
قنديلاً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى ينكسر ذلك القنديل" كما في "الكشف" وقال أنس رضي الله عنه : "من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه".
وكان سليمان عليه السلام أمر باتخاذ ألف وسبعمائة قنديل من الذهب في سلاسل الفضة.
ذكر أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا جاءت العتمة يوقد فيه سعف النخل فلما قدم تميم الداري المدينة صحب معه قناديل وحبالاً وزيتاً وعلق تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت فقال صلى الله عليه وسلّم "نورت مسجدنا نور الله عليك أما والله لو كان لي بنت لأنكحتها هذا" وفي كلام بعضهم أول من جعل في المسجد المصابيح عمر بن الخطاب ويوافقه قول بعضهم والمستحب من بدع الأفعال تعليق القناديل فيها يعني المساجد وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب فإنه لما جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه في صلاة التراويح علق القناديل فلما رأها علي كرم الله وجهه تزهر قال : "نورت مسجدنا نور الله قبرك يا ابن الخطاب" ولعل المراد تعليق ذلك بكثرة فلا يخالف ما تقدم عن تميم الداري.
وعن بعضهم قال : أمرنا المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح في المساجد فلم أدر ما أكتب لأنه شيء لم أسبق إليه فرأيت في المنام اكتب فإن فيه أنساً للمتهجدين ونفياً لبيوت الله تعالى عن وحشة الظلم فانتبهت وكتبت بذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
قال بعضهم : لكن زيادة الوقود كالواقع ليلة النصف من شعبان ويقال لها ليلة الوقود ينبغي أن يكون ذلك كتزيين المساجد ونقشها وقد كرهه بعضهم والله أعلم الكل من "إنسان العيون في سيرة النبي المأمون".
قال الشيخ عبد الغنى النابلسي في "كشف النور عن أصحاب القبور" : ما خلاصته أن البدعة الحسنة الموافقة لمقصود الشرع تسمى سنة فبناء القباب على قبور العلماء والأولياء والصلحاء ووضع الستور والعمائم والثياب على قبورهم أمر جائز إذا كان القصد بذلك التعظيم في أعين العامة حتى لا يحتقروا صاحب هذا القبر ، وكذا إيقاد القناديل والشمع عند قبور الأولياء والصلحاء من باب التعظيم والإجلال أيضاً للأولياء فالمقصد فيها مقصد حسن.
ونذر الزيت والشمع للأولياء يوقد عند قبورهم تعظيماً لهم ومحبة فيهم جائز أيضاً لا ينبغي النهي عنه.
ومنها : الدخول والقعود فيها والمكث والعبادة والذكر ودراسة العلوم ونحو ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ألا أدلكم على ما هو خير لكم من الجهاد قالوا بلى قال أن تبنوا مسجداً فيتعلم فيه القرآن والفقه في الدين أو السنة كما في "الأسرار المحمدية".
ومنها صيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" ويقال حديث الدنيا في المسجد وفي مجلس العلم وعند الميت وفي المقابر وعند الآذان وعند تلاوة القرآن يحبط ثواب عمل ثلاثين سنة وفي الحديث : "قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره".
قال الإمام القشيري قدس سره عمارة المساجد التي هي مواقف العبودية لا تتأتى إلا بتخريب أوطان البشرية فالعابد يعمر المسجد بتخريب أوطان شهوته والزاهد يعمره بتخريب أوطان ملاحظته ولكل منهم
400
صنف مخصوص وكذلك رتبهم بالإيمان مختلفة فإيمان من حيث البرهان وإيمان من حيث البيان وإيمان من حيث العيان وشتان ما بينهم انتهى كلامه نسأل الله الغفار أن يجعلنا من العمار والزوار.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} روي أن المشركين قالوا القيام على السقاية وعمارة المسجد الحرام خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفتخرون بالحرم ويستكثرون به من أجل أنهم أهله وعماره فأنزل الله هذه الآية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
(3/304)
قال الكاشفي : (آورده اندكه بعض از اهل حرم در جاهليت زمره حاج را نبيذ زبيب باعسل وسويق ميدادند ودرزمان آنحضرت رسالت ناه صلى الله عليه وسلّم آن منصب سقايت بعباس تعلق داشت ومتصدىء عمارة مسجد الحرام شيبة بن طلحة بود روزى اين هر دو ما مرتضى على بمقام مفاخرت در آمده عباس بسقايت وشيبه بعمارت مباهات مى نمودند وعلى بإسلام وجهاد مفتخرمي بود حق سبحانه وتعالى بتصديق على آيت فرستاد) ـ ـ وروي النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل بعد أن أسقي الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا عمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى أجعلتم أيها المشركون أو المؤمنون المؤثرون للسقاية والعمارة ونحوهما على الهجرة والجهاد ونظائرهما سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في الفضيلة وعلو الدرجة.
{كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَجَـاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيهما بالجثث فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين ، أي : أجعلتم أهلهما كمن آمن أو أجعلتموها كإيمان من آمن فإن السقاية والعمارة وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما بمعزل عن صلاحية أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو شبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله تعالى : {لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} أي : لا يساوي الفريق الأول الثاني من حيث اتصاف كل واحد منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدم التساوي بين الوصفين الأولين وبين الآخرين لأن المدار في التفاوت بين الموصوفين.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} أي : الكفرة الظلمة بالشرك ومعاداة الرسول منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب.
{الَّذِينَ ءَامَنُوا} استئناف لبيان مراتب فضلهم أثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم.
{وَهَاجَرُوا} من أوطانهم إلى رسول الله.
{وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} العدو في طاعة الله {بِأَمْوَالِهِمْ} (ببذل كردن ما لهاى خود بمجاهدان وتهيه أسباب قتال ايشان) {وَأَنفُسِهِمْ} (در باختن نفسهاى خود در معارك حرب) أي هم باعتبار اتصافهم بهذه الأوصاف الجليلة.
{أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} أي أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائناً من كان وإن حاز جميع ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقاية والعمارة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
قال الحدادي : وإنما قال أعظم وإن لم يكن للكفار درجة عند الله لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم درجة عند الله ، وهذا كقوله تعالى : {أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا}
401
المنعوتون بتلك النعوت {هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز من نسبة إلى فوزهم وأما على الثاني فهو لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} في الدنيا على ألسنة الرسل {بِرَحْمَةٍ} عظيمة {مِنْهُ} هي النجاة من العذاب في الآخرة.
{وَرِضْوَانٍ} (خشنودى كامل ازيشان) {وَجَنَّـاتٍ} أي : بساتين عالية {لَّهُمْ فِيهَآ} أي : في تلك الجنات {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} نعم لا نفاد لها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي : في الجنات.
{أَبَدًا} تأكيد للخلود لزيادة توضيح المراد إذ قد يراد به المكث الطويل.
{إِنَّ اللَّهَ عِندَه أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي : ثواب كثير في الجنة لا قدر عنده لأجور الدنيا (در كشف الأسرار فرمود كه رحمت براى عاصياً نست ورضوان براى مطيعان وجنت براى كافه مؤمنان رحمت را تقديم كردتا أهل عصيان رقم نا اميدى بر صفحات أحوال خود نكشند كه هرند كناه عظيم بود رحمت ازان أعظم است).
كنه ما فزون بود زشمار
عفوت افزونتر ازكناه همه
قطره زآب رحمت توبس است
شستن نامه سياه همه
اعلم أنه كما أن الكفار بالكفر الجلي لا يساوون المؤمنين في أعمالهم وطاعاتهم كذلك المشركون بالشرك الخفي لا يساوون المخلصين في أحوالهم ومقاماتهم فالزهد والتصوف والتعرف والتعبد المشوبة بالرياء والهوى والأغراض لا ثمرة لها عند أهل الطلب لأنها خدمة فاسدة كبذر فاسد.
دنا داري وآخرت مى طلبي
اين ناز بخانه در بايد كرد
قيل : لا تطمع في المنزلة عند الله وأنت تريد المنزلة عند الناس وفرقوا بين الخادم والمتخادم بأن المتخادم من كانت خدمته مشوبة بهواه فلا يراعي واجب الخدمة في طرفي الرضى والغضب لانحراف مزاج قلبه بوجود الهوى وبحب المحمدة والثناء من الخلق والخادم من ليس كذلك.
(3/305)
قال السري : الزهد ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا ويجمع هذه الحظوظ المالية والجاهية حب المنزلة عند الناس وحب المحمدة والثناء.
وجاء في الأثر "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن العباد سخط الله ما لم يبالوا بما نقص من دنياهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا لا إله إلا الله قال الله تعالى كذبتم لستم بها صادقين".
روي أن عابداً من بني إسرائيل راودته ملكة عن نفسه فقال اجعلوا لي ماء في الخلاء أتنظف به ثم صعد أعلى موضع في القصر فرمى بنفسه فأوحى الله تعالى إلى ملك الهواء أن الزم عبدي قال فلزمه ووضعه على الأرض وضعاً رفيقاً فقيل لإبليس ألا أغويته قال ليس لي سلطان على من خالف هواه وبذل نفسهفهذا هو الجهاد في الله وثمرته الخلاص من الهلاك مطلقاً.
قال العلماء.
بالله : ينبغي للمريد أن يكون له في كل شيء نيةتعالى حتى في أكله وشربه وملبوسه فلا يلبس إلا الله ولا يأكل إلا ، ولا ينام إلاوقد ورد في الخبر "من تطيبجاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك الأذفر ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه انتن من الجيفة" فالمراد ينبغي أن يتفقد جميع أقواله وأفعاله ولا يسامح نفسه أن تتحرك بحركة أو تتكلم بكلمة إلاتعالى.
وفي الأخير من الآيات إشارة إلى من جاهد النفس وبذل الوجود والموجود جميعاً فإنه
402
أعظم قربة في مقام العندية من النفوس المتمردة ومن وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره أي يجده في مقام العندية فافهم واسأل ولا تغفل عن حقيقة الحال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} سبب نزولها أنه لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه بالهجرة إلى المدينة كان من الناس من يتعلق به زوجته وولده وأقاربه ، فيقولون : ننشدك الله أن لا تروح وتدعنا إلى غير شيء فنضيع بعدك فيرق لهم ويدع الهجرة ، فقال الله تعالى أيها المؤمنون.
{لا تَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} الكفرة بمكة {أَوْلِيَآءُ} يعني (اين كروه بدوستى مكيريد).
{إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} أي : اختاروه.
{عَلَى الايمَـانِ} عدي استحب بعلى لتضمنه معنى اختار وحرص.
{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} (وهر كرا ازشما ايشانرا دوست دارد يعني اين عمل ازيشان سندد) ومن للجنس لا للتبعيض.
فأولئك المتولون {هُمُ الظَّـالِمُونَ} بوضعهم الموالاة في غير موضعها كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم.
قال الإمام : الصحيح إن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية على إيجاب الهجرة والحال أن الهجرة إنما كانت واجبة قبل فتح مكة.
والأقرب أن تكون هذه الآية محمولة على إيجاب التبري من أقربائهم المشركين وترك الموالاة معهم باتخاذهم بطانة وأصدقاء بحيث يفشون إليهم أسرارهم ويؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام ويدل عليه قوله تعالى : {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} أي : المشركون مثلهم.
قال الحدادي : إنما جعلوا ظالمين لموالاة الكفار لأن الراضي بالكفر يكون كافراً.
قال الكاشفي : (واين آيت آمد متخلفان اهجرت كفتندكه حالا ما درميان قبائل وعشائر خوديم وبمعاملات وبحارات اشتغال نموده أوقات ميكذرانيم ون عزيمت هجرت كنيم بالضرورة قطع در وفرزند بايد كرد تجارت ازدست برود وما بي كسبي وبي مالي بمانيم آيت ديكر آمدكه).
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
{قُلِ} يا محمد للذين تركوا الهجرة {قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي أقرباؤكم من المعاشرة وهي المخالطة {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي : اكتسبتموها وأصبتموها بمكة وإنما وصفت بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكدّ اليمين.
{وَتِجَـارَةٌ} أي : أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح.
{تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام الموسم.
{وَمَسَـاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} أي : منازل تعجبكم الإقامة فيها لكمال نزاهتها من الدور والبساتين.
{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي : من طاعة الله وطاعة رسوله بالهجرة إلى المدينة {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي : وأحب إليكم من الجهاد في طاعة الله والمراد الحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدم المفارقة لا الحب الجبلي الذي لا يخلو عنه البشر فإنه غير داخل تحت التكليف الدائر على الطاقة.
{فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا جواب للشرط.
{حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ} (تابيارد خداي تعالى) {بِأَمْرِهِ} هي عقوبة عاجلة أو آجلة وهو وعيد لمن آثر حظوظ نفسه على مصلحة دينه {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أي لا يرشدهم إلى ما هو خير لهم.
(3/306)
وفي الآية الكريمة : وعيد شديد لا يتخلص منه إلا أقل قليل فإنك لو تتبعت إخوان زماننا من الزهاد الورعين لوجدتهم يتحيرون ويتحزنون بفوات أحقر شيء من الأمور الدنيوية ولا يبالون بفوات أجلّ حظ
403
من الحظوظ الدينية فإن محصول الآية إن من أثر هذه المشتهيات الدنيوية على طاعة الرحمن فليستعد لنزول عقوبة آجلة وعاجلة ولينظر أن ما آثره من الحظوظ العاجلة هل يخلص من الأهوال والدواهي النازلة اللهم عفوك وغفرانك يا أرحم الراحمين.
قال الكاشفي : (اي عزيز مردى بايدكه إبراهيم وار روى ازكون بكرداند {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} مال رابذل مهمان.
وفرزندرا قصد قربان وخودرا فداى آتش سوزان كند تادرو دعوى دوستى صادق باشد)
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
آنكس كه تراشنا خت جانرا ه كند
فرزند وعيال وخانما نراه كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى
ديوانه توهر دوجها نراه كند
(آورده نماندكه حضرت صلى الله عليه وسلّم فرموده است كه) "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين".
قال ابن ملك المراد به نفي كمال الإيمان وبالحب الحب الاختياري مثلاً لو أمر رسول الله مؤمناً بأن يقاتل الكافر حتى يكون شهيداً أو أمر بقتل أبويه وأولاده الكافرين لأحب أن يختار ذلك لعلمه أن السلامة في امتثال أمره عليه السلام وأن لا يخير كما أن المريض ينفر بطبعه عن الدواء ولكن يميل إليه ويفعله لظنه صلاحه فيه كيف ونبينا عليه السلام أعطف علينا منا ومن آبائنا وأولادنا لأنه عليه السلام يسعى لنا لا لغرض.
قال القاضي ومن محبته عليه السلام نصرة سنته والذب أي المنع والدفع عن شريعته (ازحضرت شيخ الإسلام قدس سره منقولست كه أحمد بن يحيى دمشقي روزي يش مادر ودر نشسته بود قصه قربان كردن حضرت إسماعيل ازقرآن بريشان ميخواند كفتند اي أحمد ازيش ما برخيز وبروكه ما ترادركار بيست وهار موقف ايستاده بود قصد زيارت والدين كردون بدمشق آمد وبدر سراى خود رسيد حلقه دربجنبانيد ما درش آوازدادكه من على الباب جواب دادكه أنا أحمد ابنك ما درش كفت يش ازين مارا فرزندى بود اورا دركار خدا كرديم احمد ومحمود درا باماه كار.
ما هره داشتبم فداى توكرده ايم
جانرا اسيربند هواى توكرده ايم
ما كرده ايم ترك خود وهردوكون نيز
وينهاكه كردا ايم براى تو كرده ايم
وهذا لما أن المهاجرين كانوا يكرهون الموت في بلدة هاجروا منها وتركوهاتعالى لئلا ينقص ثواب الهجرة إذ في العود نقض العمل إلا أن يكون لضرورة دون اختيار.
قال في "التأويلات" أصل الدين هو محبة الله تعالى وإن صرف استعداد محبة الله في هذه الأشياء المذكورة فيه فسق وهو الخروج من محبة الخالق إلى محبة المخلوق وإن من آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي واستوجب الحرمان وأدركه القهر والخذلان.
{فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي : بقهره {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} الخارجين عن حسن الاستعداد يعني لا يهديهم إلى حضرة جلاله وقبول فيض جماله بعد إبطال حسن الاستعداد.
وعن بشر بن الحارث رضي الله عنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي يا بشر أتدري لِمَ رفعك الله تعالى على أقرانك؟ قلت : لا يا رسول الله قال باتباعك لسنتي وخدمتك الصالحين ونصحك لإخوانك ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار.
404
أقول : المحبة الخالصة باب عظيم لا يفتح إلا لأهل القلب السليم وتأثيرها غريب وأمرها عجيب ، نسأل الله تعالى سبحانه أن يجعلنا من الذين آثروا حب الله وحب رسوله على حب ما سواهما آمين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
(3/307)
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} أي : بالله قد أعانكم يا أصحاب محمد على عدوكم وأعلامكم عليهم مع ضعفكم وقلة عددكم وعددكم.
{فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} من الحروب وهي مواقعها ومقاماتها.
جمع موطن ، وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر والمراد بها واقعات بدر والأحزاب وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة.
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطف على محل في مواطن بحذف المضاف في أحدهما ، أي : وموطن يوم حنين ليكون من عطف المكان على المكان ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ليكون من عطف الزمان على الزمان ، وأضيف اليوم إلى حنين لوقوع الحرب يومئذٍ بها فيوم حنين هي غزوة حنين ، ويقال لها : غزوة هوازن ، ويقال لها غزوة أوطاس باسم الموضع الذي كانت به الواقعة في آخر الأمر وحنين واد بين مكة والطائف.
{إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} (ون بشكفت آوردشمارا) أي : سرتكم كثرة عددكم ووفور عددكم والإعجاب هو السرور بالتعجب وهو بدل من يوم حنين ، وكانت الواقعة في حنين بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً عشرة آلاف منهم ممن شهد فتح مكة من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وهم أهل مكة سموا بذلك ، لأنه عليه السلام أطلقهم يوم فتح مكة عنوة ولم يقيدهم بالإسار وبين هوازن وثقيف وكانوا أربعة آلاف سوى الجم الغفير من أمداد سائر العرب.
روي أنه عليه السلام فتح مكة في أواخر رمضان وقد بقيت منه ثلاثة أيام ، وقيل : فتحها لثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان ومكث فيها إلى أن دخل شوال فغدا يوم السبت السادس منه خارجاً إلى غزوة حنين ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد يصلي بهم ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه وحين فتحت مكة أطاعه عليه الصلاة والسلام قبائل العرب إلا هوازن وثقيفاً ، فإن أهلهما كانوا طغاة مردة فخافوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وظنوا أنه عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام فثقل ذلك عليهم فحشدوا وبغوا وقالوا إن محمداً لاقى قوماً لا يحسنون القتال فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فأخرجوا معهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ، ثم جاؤوا بالإبل والغنم والذراري وراء ذلك كي يقاتل كل منهم عن أهله وماله ولا يفر أحد بزعمهم فساروا كذلك حتى نزلوا بأوطاس ، وقد كان عليه السلام بعث إليهم عيناً ليتجسس عن حالهم وهو عبد الله بن أبي حذر من بني سليم فوصل إليهم فسمع مالك بن عوف أمير هوازن يقول لأصحابه تم اليوم أربعة آلاف رجل فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد ، واكسروا جفون سيوفكم فوالله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئاً إلا فرج فأقبل العين إلى النبي عليه السلام فأخبره بما سمع من مقالتهم فقال سلمة بن سلامة الوقسي الأنصاري يا رسول الله : "لن نغلب اليوم من قلة" معناه بالفارسية (ما امروز ازقلت لشكر مغلوب نخواهم شد) فساءت رسول الله كلمته وقيل : إن هذه الكلمة قالها أبو بكر رضي الله عنه وقيل : قالها رسول الله صلى الله عليه وسلّم
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
قال الإمام صاحب "التفسير الكبير" : وهو بعيد لأنه عليه السلام كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها.
405
قال ابن الشيخ في "حواشيه" : الظاهر القول بها لا ينافي التوكل على الله ولا يستلزم الاعتماد على الأسباب الظاهرة ، فإن قوله : لن نغلب اليوم من قلة نفي للقلة وإعجاب بالكثرة.
والمعنى إن وقعت مغلوبية فلأمر آخر غير القلة فركب صلى الله عليه وسلّم بغلته دلدل ولبس درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جالوت ، ووضع الألوية والرايات مع المهاجرين والأنصار فلما كان بحنين وانحدروا في الوادي وذلك عند غبش الصبح يوم الثلاثاء خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه وكانوا رماة فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فانهزم المشركون وخلوا الذراري فأكب المسلمون فتنادى المشركون يا حماة السوء اذكروا الفضائح فتراجعوا وحملوا عليهم فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب ، أي : لحقهم شؤم كلمة الإعجاب فانكشفوا ولم يقوموا لهم مقدار حلب شاة وذلك قوله تعالى : {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـاًا} أي : رحبها وسعتها على أن ما مصدرية والباء بمعنى مع ، أي : لا تجدون فيها مقراً تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة
(3/308)
على الخائف المطلوب كفة حابل أي : حبالة صيد {ثُمَّ وَلَّيْتُم} الكفار ظهوركم.
{مُّدْبِرِينَ} أي : منهزمين لا تلوون على أحد يقال ولى هارباً ، أي أدبر ، فالإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.
روي أنه بلغ فلهم أي منهزمهم مكة وسر بذلك قوم من أهل مكة وأظهروا الشماتة حتى قال أخو صفوان ابن أمية لأمه ألا قد أبطل الله السحر اليوم فقال له صفوان وهو يومئذٍ مشرك اسكت فض الله فاك أي أسقط أسنانك والله لأن يربني من الربوبية أي يملكني ويدبر أمري رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن ولما انهزموا بقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده وليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام بغلته وابن عمه أبو سفيان بن حرب بن عبد المطلب آخذاً بركابه وهو يركض البغلة نحو المشركين ويقول :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب وهذا ليس بشعر لأنه لم يقع عن قصد وإنما قال : أنا ابن عبد المطلب ، ولم يقل أنا ابن عبد الله لأن العرب كانت تنسبه صلى الله عليه وسلّم إلى جده عبد المطلب لشهرته ولموت عبد الله في حياته فليس من الافتخار بالآباء الذي هو من عمل الجاهلية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
وقال الخطابي : إنه عليه السلام إنما قال أنا ابن عبد المطلب لا على سبيل الافتخار ولكن ذكرهم عليه السلام بذلك رؤيا رآها عبد المطلب أيام حياته ، وكانت القصة مشهورة عندهم فعرفهم بها وذكرهم إياها وهي إحدى دلائل نبوته عليه السلام.
وقصة الرؤيا على ما في "عقد الدرر واللآلى" : أن عبد المطلب جد النبي عليه السلام بينا هو نائم في الحجر انتبه مذعوراً ، قال العباس : فتبعته وأنا يومئذٍ غلام أعقل ما يقال فأتى كهنة قريش فقال : رأيت كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهري ، ولها أربعة أطراف طرف قد بلغ مشارق الأرض ، وطرف قد بلغ مغاربها ، وطرف قد بلغ عنان السماء ، وطرف قد جاوز الثرى فبينا أنا أنظر عادت شجرة خضراء لها نور ، فبينا أنا كذلك قام عليّ شيخان فقلت لأحدهما : من أنت؟ قال :
406
أنا نوح نبي رب العالمين ، وقلت للآخر : من أنت؟ قال أنا إبراهيم خليل رب العالمين ، ثم انتبهت قالوا إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك نبي يؤم به أهل السموات وأهل الأرض ، ودلت السلسلة على كثرة أتباعه وأنصاره لتداخل حلق السلسلة ورجوعها شجرة يدل على ثبات أمره وعلو ذكره وسيهلك من لم يؤمن به ، كما هلك قوم نوح وستظهر به ملة إبراهيم وإلى هذا وقعت إشارة النبي صلى الله عليه وسلّم يوم حنين قال :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
كأنه يقول : أنا ابن صاحب تلك الرؤيا مفتخراً بها لما فيها من علم نبوته وعلو كلمته انتهى.
روي أنه عليه السلام كان يحمل على الكفار فيفرون ثم يحملون عليه ، فيقف لهم فعل ذلك بضع عشرة مرة قال العباس : كنت أكف البغلة لئلا تسرع به نحو المشركين وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته حيث لم يخف اسمه في تلك الحال ولم يخف الكفار على نفسه ما ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال : "يا رب ائتني بما وعدتني" وقال للعباس وكان صيتاً جهوريّ الصوت "صح بالناس" يروى من شدة صوته أنه أغير يوماً على مكة فنادى واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته وكان صوته يسمع من ثمانية أميال فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ثم نادى يا أصحاب الشجرة وهم أهل بيعة الرضوان يا أصحاب سورة البقرة وهم المذكورون في قوله : {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ} (البقرة : 285) وكانوا يحفظون سورة البقرة ويقولون من حفظ سورة البقرة وآل عمران فقد جد فينا فكروا عنقاً واحداً ، أي : جماعة واحدة ، يعني : دفعة وهم يقولون : لبيك لبيك ، وذلك قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
(3/309)
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِهِ} أي : رحمته التي تسكن بسببها القلوب وتطمئن إليها اطمئناناً كلياً مستتبعاً للنصر القريب ، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له عليه السلام قبل ذلك أيضاً.
{وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} شامل للمنهزمين وغيرهم فعاد المنهزمون وظفروا.
{وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} أي : بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضاً ، وهم الملائكة عليهم البياض على خيول بلق وكان يراهم الكفار دون المؤمنين ، فنظر النبي عليه السلام إلى قتال المشركين فقال : "هذا حين حمى الوطيس" : والوطيس حجارة توقد العرب تحتها النار يشوون عليها اللحم وهو في الأصل التنور وهذه من الكلمات التي لم تسمع إلا منه صلى الله عليه وسلّم وحمي الوطيس كناية عن شدة الحرب ثم نزل عن بغلته وقيل لم ينزل بل قال : "يا عباس ناولني من الحصباء" أو انخفضت بغلته حتى كادت بطنها تمس الأرض ثم قبض قبضة من تراب فرمى به نحو المشركين وقال : "شاهت الوجوه" فلم يبق منهم أحد إلا امتلأت به عيناه ثم قال عليه السلام : "انهزموا ورب الكعبة" وهو أعظم من انقلاب العصا حية لأن ابتلاعها لحبالهم وعصيهم لم يقهر العدو ولم يشتت شمله بل زاد بعدها طغيانه وعتوه على موسى بخلاف هذا الحصى فإنه أهلك العدو وشتت شمله وكان من دعائه عليه السلام يومئذٍ "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان" فقال له جبريل عليه السلام : لقد لقنت الكلمات التي لقنها الله موسى يوم فلق البحر.
واختلفوا في عدد الملائكة يومئذٍ فقيل خمسة آلاف وقيل ثمانية آلاف وقيل ستة عشر ألفاً.
وفي قتالهم أيضاً فقيل قاتلوا وقيل لم يقاتلوا إلا يوم بدر وإنما كان نزولهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطرالحسنة وتأييدهم
407
بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين.
{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقتل والأسر والسبي {وَذَالِكَ} أي : ما فعل بهم مما ذكر {جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ} في الدنيا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
ولما هزم الله المشركين بوادي حنين ولوا مدبرين ونزلوا بأوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله رجلاً من الأشعريين ، يقال له : أبو عامر وأمره على جيش إلى أوطاس فسار إليهم فاقتتلوا وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيالهم وهرب أميرهم مالك بن عوف فأتى الطائف وتحصن بها وأخذوا أهله وماله فيمن أخذ ، وقتل أمير المؤمنين أبو عامر ثم إنه عليه السلام أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم فأتى الجعرانة وهو موضع بين مكة والطائف سمي المحل باسم امرأة وهي ريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة وهي المرادة في قوله تعالى : {كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} (النمل : 92) فأحرم منها بعمرة بعد أن قام بها ثلاث عشرة ليلة وقال اعتمر منها سبعون نبياً وقسم بها غنائم حنين وأوطاس وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفاً والغنم أكثر من أربعين وأربعة آلاف أوقية فضة وتألف أناساً فجعل يعطي الرجل الخمسين والمائة من الإبل ولما قسم ما بقي خص كل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة فقال طائفة من الأنصار يا للعجب إن أسيافنا تقطر من دمائهم وغنائمنا ترد عليهم فبلغ ذلك النبي عليه السلام فجمعهم فقال : "يا معشر الأنصار ما هذا الذي بلغني عنكم" فقالوا هو الذي بلغك وكانوا لا يكذبون فقال : "ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم أذلة فأعزكم الله بي وكنتم وكنتم أما ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والإبل وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم" فقالوا بلى رضينا يا رسول الله والله ما قلنا ذلك إلا محبةولرسوله فقال صلى الله عليه وسلّم "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
(3/310)
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} (از س اين جنك) {عَلَى مَن يَشَآءُ} أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه ، أي : يوفقه للإسلام.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم.
روي أن ناساً منهم جاؤوا رسول الله وبايعوه على الإسلام ، وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، فقال عليه السلام : "إن عندي ما ترون أن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم" قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً هو جمع حسب وهو ما يعد من المفاخر كنوا بهذا القول عن اختيار ما سبي منهم من الذراري والنسوان على استرجاع الأموال فإن ترك الذراري والنسوان في ذل الأسر واختيار استرجاع الأموال عليها يفضي إلى الطعن في أحسابهم وينافي المروءة فقام النبي عليه السلام فقال : "إن هؤلاء جاؤونا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرد فشأنه" أي فيلزم شأنه "وليفعل ما طاب له ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه" قالوا رضينا وسلمنا فقال عليه السلام : "إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا" فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ثم قال صلى الله عليه وسلّم "لوفد هوازن ما فعل مالك بن عوف" قالوا يا رسول الله هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف فقال صلى الله عليه وسلّم "أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله
408
وماله وأعطيته مائة من الإبل" فلما بلغه هذا الخبر نزل من الحصن مستخفياً خوفاً أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال وركب فرسه وركضه حتى أتى الدهناء محلاً معروفاً وركب راحلته ولحق برسول الله فأدركه بالجعرانة وأسلم فرد عليه أهله وماله واستعمله عليه السلام على من أسلم من هوازن وكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن افتتح عامة الشأم.
ثم في القصة إشارات.
منها أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تلك الواقعة كانوا في غاية الكثرة والقوة فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين فلما تضرعوا في حال الانهزام إلى الله تعالى قواهم حتى هزموا عسكر الكفار وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه.
وكما أن أكثر الأسباب الصورية وإن كان مداراً للفتح الصوري لكنه في الحقيقة لا يحصل إلا بمحض فضل الله.
فكذا كثرة الأعمال والطاعات وإن كانت سبباً للفتح المعنوي لكنه في الحقيقة أيضاً لا يحصل إلا بخصوص هداية الله تعالى فلا بد من العجز والافتقار والتضرع إلى الله الغفار.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
تكيه بر تقوى ودانش در طريقت كافريست
راهرو كرصد هنر دارد توكل بايدش
ومنها : أن المؤمن لا يخرج من الإيمان وإن عمل الكبيرة لأنهم قد ارتكبوا الكبيرة حيث هربوا وكان عددهم أكثر من عدد المشركين فسماهم الله تعالى مؤمنين في قوله : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وكذا قال صاحب "الروضة" وفي السنة التاسعة حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس.
وفي العاشرة كانت حجة الوداع ولم يحج النبي عليه السلام بعد الهجرة سواها وحج قبل النبوة وبعدها حجات لم يتفق على عددها واعتمر بعد الهجرة أربع عمر وفي هذه السنة مات إبراهيم ابن النبي عليه السلام.
وفي الحادية عشرة فاته صلى الله عليه وسلّم انتهى اللهم اختم لنا بالخير واجعل لنا في رياض أنسك مبوأ ومنزلاً وفي حظائر قدسك مستقراً ومقاماً وموئلاً.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} النجس بفتحتين مصدر بمعنى النجاسة وصفوا بالمصدر مبالغة كأنهم عين النجاسة يجب الاجتناب عنهم والتبري منهم وقطع مودتهم.
قال الحدادي : سمي المشرك نجساً لأن الشرك يجري مجرى القذر في أنه يجب تجنبه كما يجب تجنب النجاسات أو لأنهم لا يتطهرون من الجنابة والحدث ولا يجتنبون عن النجاسة الحقيقية فهم ملابسون لها غالباً فحكم عليهم بأنهم نجس بمعنى ذوي نجاسة حكمية وحقيقية في أعضائهم الظاهرة أو أنهم نجس بمعنى ذوي نجاسة في باطنهم حيث تنجسوا بالشرك والاعتقاد الباطل ، فعلى هذا يحتمل أن يكون نجس صفة مشبهة كحسن فيجوز ترك تقدير المضاف.
{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الفاء سببية ، أي : فلا يقربوه بسبب أنهم عين النجاسة فضلاً عن أن يدخلوه فإن نهيهم عن اقترابه للمبالغة في نهيهم عن دخوله.
(3/311)
قال في "التبيان" أي لا يدخلوا الحرم كله وحدود الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على تسعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال انتهى.
{بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا} وهو السنة التاسعة من الهجرة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه أميراً وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة هو الظاهر الذي عليه الإمام الشافعي وأما على مذهب الإمام الأعظم ، فالمراد من الآية المنع من الدخول حاجاً أو معتمراً ، فالمعنى لا يحجوا ولا يعتمروا بعد هذا العام ويدل عليه قول علي رضي الله عنه حين نادى ببراءة "ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك" فلا يمنع المشرك عنده من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
قال في "الأشباه" : في أحكام الذمي ولا يمنع من دخول المسجد جنباً بخلاف المسلم ولا يتوقف دخوله على إذن مسلم عندنا ولو كان المسجد الحرام.
ثم قال في أحكام الحرم ولا يسكن فيه كافر وله الدخول فيه انتهى.
يقول الفقير : لعل الحكمة في أن الجنب المسلم يمنع من دخول المسجد دون الجنب الكافر أن ما هو عليه الكافر من الشرك أو الخبث القلبي والجنابة المعنوية أعظم من حدثه الصوري فلا فائدة في منعه نعم إذا كان عليه نجاسة حقيقية يمنع ؛ لأنا مأمورون بتطهير المساجد عن القاذورات ولذا قالوا بحرمة إدخال الصبيان والمجانين في المساجد حيث غلب تنجيسهم وإلا فيكره كما في "الأشباه" هذا فلما منعوا من قربان المسجد الحرام.
قال أناس من تجار بكر بن وائل وغيرهم من المشركين بعد قراءة علي هذه الآية ستعلمون يا أهل
410
مكة إذا فعلتم هذا ماذا تلقون من الشدة ومن أين تأكلون أما والله لنقطعن سبلكم ولا نحمل إليكم شيئاً فوقع ذلك في أنفس أهل مكة وشق عليهم وألقى الشيطان في قلوب المسلمين الحزن ، وقال لهم : من أين تعيشون وقد نفي المشركون وانقطعت عنكم الميرة فقال المسلمون قد كنا نصيب من تجاراتهم فالآن تنقطع عنا الأسواق والتجارات ويذهب عنا الذي كنا نصيبه فيها فأنزل الله تعالى قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي : فقرا بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب.
{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من عطائه أو من تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليكم مدراراً أكثر من خيرهم وميرهم ووفق أهل تبالة وجرش وأسلموا وامتاروا لهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض.
{إِن شَآءَ} أن يغنيكم قيده بالمشيئة مع أن التقييد بها ينافي ما هو المقصود من الآية وهو إزالة خوفهم من العيلة بفوائد :
الفائدة الأولى : أن لا يتعلق القلب بتحقق الموعود بل يتعلق بكرم من وعد به ويتضرع إليه في نيل جميع المهمات ودفع جميع الآفات والبليات.
والثانية : التنبيه على أن الإغناء الموعود ليس يجب على الله تعالى بل هو متفضل في ذلك لا يتفضل به إلا عن مشيئته وإرادته.
والثالثة : التنبيه على أن الموعود ليس بموعود بالنسبة إلى جميع الأشخاص ولا بالنسبة إلى جميع الأمكنة والأزمان {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ} بمصالحكم {حَكِيمٌ} فيما يعطي ويمنع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
قال الكاشفي : (حكم كننده است بتحقيق آمال ايشان اكردرى دربندد ديكرى بكشايد).
كمان مدار اكر ضايعم توبكذارى
كه ضايعم نكذارد مسبب الأسباب
براى من دراحسان اكر تودربندى
در دكر بكشايد مفتح الأبواب
روي عن الشيخ أبي يعقوب البصري رضي الله عنه ، قال : جعت مرة في الحرم عشرة أيام فوجد ضعفاً ، فحدثتني نفسي أن أخرج إلى الوادي لعلي أجد شيئاً ليسكن به ضعفي فخرجت فوجدت سلجمة مطروحة فأخذتها فوجدت في قلبي منها وحشة ، وكأن قائلاً يقول : لي جعت عشرة أيام فآخرها يكون حظك سلجمة مطروحة متغيرة فرميت بها فدخلت المسجد فقعدت فإذا برجل جاء فجلس بين يدي ووضع قمطرة وقال هذه لك ، قلت كيف خصصتني بها؟ فقال : اعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة أيام فأشرفت السفينة على الغرق فنذر كل واحد منا نذراً إن خلصنا الله أن يتصدق بشيء ونذرت أنا إن خلصني الله أن أتصدق بهذه على أول من يقع عليه بصري من المجاورين وأنت أول من لقيته قلت : افتحها فإذا فيها كعك سميذ ممصر ولوزمقشر وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت رد الباقي إلى صبيانك هدية مني إليهم وقد قبلتها ثم قلت في نفسي رزقك يسير إليك منذ عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي.
قال الصائب :
فكر آب ودانه دركنج قفس بي حاصلست
زير رخ انديشه روزى را باشد مرا
وفي الآية : إشارة إلى أن الله تعالى قد رفع قلم التكليف عن الإنسان إلى أن يبلغ استكمال القالب ففي تلك المدة كانت النفس وصفاتها يطفن حول كعبة القلب مستمدة من القوى
411
(3/312)
العقلية والروحانية وبهذا يظفرن بمشتهياتهن من الدنيا ونعيمها حتى صار تعبد الدنيا دأبهن والإشراك بالله طبعهن وبذلك تكامل القالب واستوت أوصاف البشرية الحيوانية عند ظهور الشهوة بالبلوغ ثم أجرى الله عليهم قلم التكليف ونهى القلب عن اتباع النفوس وأمره بقتالها ونهاها عن تطوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس والأوصاف الذميمة فلما منعت النفس عن تطوافها بحوالي القلب خاف القلب من فوات حظوظه من الشهوات بتبعية النفس فأغناه الله عن تلك الحظوظ بما يفتح عليه من فضل مواهبه من الواردات الربانية والشواهد والكشوف الرحمانية وفي قوله : {إِن شَآءَ} .
قال الحافظ :
سكندررا نمى بخشند آبى
بزورو زر ميسر نيست اين كار
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
{قَـاتَلُوا} (بكشيدى اي مؤمنان وكارزار كنيد) {الَّذِينَ} (با آنا نكه) {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} كما ينبغي فإن اليهود مثنية والنصارى مثلثة فإيمانهم بالله كلا إيمان {وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ} كما ينبغي فإن اليهود ذهبوا إلى نفي الأكل والشرب في الجنة والنصارى إلى إثبات المعاد الروحاني فعلمهم بأحوال الآخرة كلا علم ، فكذا إيمانهم المبني عليه ليس بإيمان والمؤمن الكامل هو الذي يصف الله تعالى بما يليق به فيوحده وينزهه ويثبت المعاد الجسماني والروحاني كليهما ، والنعيم الصوري والمعنوي أيضاً فإن لكل من الجسم والروح حظاً من النعيم يليق بحاله ويناسب لمقامه.
{وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي : ما ثبت تحريمه بالوحي المتلو هو الكتاب أو غير المتلو وهو السنة وذلك مثل الدم الميتة ولحم الخنزير والخمر ونظائرها.
{وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} يجوز أن يكون مصدر يدينون وأن يكون مفعولاً به ويدينون بمعنى يعتقدون ويقبلون ، والحق صفة مشبهة بمعنى الثابت وإضافة الدين إليه من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته وأصل الكلام ولا يدينون الدين الحق وهو دين الإسلام فإنه دين ثابت نسخ جميع ما سواه من الأديان.
وعن قتادة أن الحق هو الله تعالى.
والمعنى ولا يدينون دين الله الذي هو الإسلام فإن الدين عند الله الإسلام.
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} من التوراة والإنجيل وهو بيان للذين لا يؤمنون.
{حَتَّى} للغاية {يُعْطُوا} أي : يقبلوا أن يعطوا فإن غاية القتال ليست نفس هذا الإعطاء بل قبوله {الْجِزْيَةَ} فعلة من جزى دينه إذا قضاه سمي ما يعطيه المعاهد مما تقرر عليه بمقتضى عهده جزية لوجوب قضائه عليه أو لأنها تجزي عن الذمي ، أي : تقضي وتكفي عن القتل فإنه إذا قبلها يسقط عنه القتل.
{عَن يَدٍ} حال من الضمير في يعطوا ، أي : عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه أو عن يد مطيعة غير ممتنعة ، أي : منقادين مطعين فإذا احتيج في أخذها منهم إلى الجبر والإكراه لا يبقى عقد الذمة بل يعود حكم القتل والقتال فالإعطاء عن يد كناية عن الانقياد والطوع يقال أعطى فلان بيده إذا استسلم وانقاد ، وعلاقة المجاز أن من أبى وامتنع لا يعطي بيده بخلاف المطيع أو عن غنى ، ولذلك قيل : لم تجب الجزية على الفقير العاجز عن الكسب أو عن إنعام عليه ، فإن إبقاء مهجتهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة عليهم أو عن يد قاهرة مستولية عليهم وهي
412
يد الآخذ فعن سببية كما في قولك يسمنون عن الأكل والشرب أي يبلغون إلى غاية السمن وحسن الهيئة بسبب الأكل والشرب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
{وَهُمْ صَـاغِرُونَ} أي : إذلاء وذلك بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بتلبيبه أي بجيبه ويجر ويقال له أد الجزية يا ذمي أو يا عدو الله وإن كانوا يؤدونها.
واعلم أن الكفار ثلاثة أنواع.
نوع منهم يقاتلون حتى يسلموا ؛ إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام وهم مشركو العرب والمرتدون ، أما مشركو العرب : فلأن النبي عليه السلام بعث منهم فظهرت المعجزات لديهم فكفرهم يكون أفحش ، وأما المرتدون : فلأنهم عدلوا عن دين الحق بعد اطلاعهم على محاسنه فيكون كفرهم أقبح فالعقوبة على قدر الجناية وفي وضع الجزية تخفيف لهم فلم يستحقوه.
ونوع آخر يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم اليهود والنصارى والمجوس.
أما اليهود والنصارى فبهذه الآية.
وأما المجوس فبقوله عليه السلام : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم وآكلي ذبحائهم".
(3/313)
والنوع الثالث : منهم الكفرة الذين ليسوا مجوساً ولا أهل كتاب ولا من مشركي العرب كعبدة الأوثان من الترك والهند ذهب أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله إلى جواز أخذ الجزية منهم لجواز اجتماع الدينين في غير جزيرة العرب وهم من غير العرب ومقدارها على الفقير المعتمل اثنا عشر درهماً في كل شهر درهم هذا إذا كان في أكثر الحول صحيحاً أما إذا كان في أكثره أو نصفه مريضاً فلا جزية عليه وعلى المتوسط الحال أربعة وعشرون درهماً في كل شهر درهمان وعلى الغني ثمانية وأربعون درهماً في كل شهر أربعة دراهم ولا شيء على فقير عاجز عن الكسب ولا على شيخ فاننٍ أو زمن أو مقعد أو أعمى أو صبي أو امرأة أو راهب لا يخالط الناس وإنما لم توضع عليهم الجزية لأن الجزية شرعت زجراً عن الكفر وحملاً له على الإسلام فيجري مجرى القتل فمن لا يعاقب بالقتل وهم هؤلاء لا يؤاخذ بالجزية لأن الجزية خلف من القتال وهم ليسوا بأهله فإذا حصل الزاجر في حق المقاتلة وهم الأصل انزجر التبع.
قال الحدادي : أما طعن الملحدة كيف يجوز إقدار الكفار على كفرهم بأداء الجزية بدلاً من الإسلام.
فالجواب إنه لا يجوز أن يكون أخذ الجزية منهم رضى بكفرهم وإنما الجزية عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر وإذا جاز إمهالهم بغير الجزية للاستدعاء إلى الإيمان كان إمهالهم بالجزية أولى انتهى.
فعلى الولاة والمتسلمين أن لا يتعدوا ما حد الله تعالى في كتابه فإن الظلم لا يجوز مطلقاً ويعود وباله على الظالم بل يسري إلى غيره أيضاً وفي الحديث "خمس بخمس إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة ، وإذا جار الحكام قحط المطر ، وإذا ظهر الزنى كثر الموت ، وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية ، وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة لهم" كذا في "الأسرار المحمدية" لابن فخر الدين الرومي.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
جمله دانند اين اكر تونكروى
هره مى كاريش روزى بدروى
يقول : الفقير رأينا من السنة الرابعة والتسعين بعد الألف إلى هذا الآن وهي السنة الأولى بعد المائة والألف من استيلاء الكفار على البلاد الرومية ، وعلى البحر الأسود والأبيض ما لم يره أحد قبلنا ولا يدري أحد ماذا يكون غداً والأمر بيد الله تعالى وذلك بسبب الظلم
413
المفرط على أهل الإسلام وأهل الذمة الساكنين في تلك الديار فعاد الصغار ، والذل من الكفار إلى المسلمين الكاذبين فصاروا هم صاغرين والعياذ بالله تعالى وليس الخبر كالمعاينة نسأل الله تعالى اللحوق بأهل الحق والدخول في الأرض المقدسة.
ثم إن مما حرم الله على أهل الحق الدنيا ومحبتها فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة والكفار لما قصروا أنظارهم على الدنيا وأخذوها بدلاً من الآخرة وضعت عليهم الجزية وجزية النفس الأمارة معاملاتها على خلاف طبعها لتكون صاغرة ذليلة تحت أحكام الشرع وآداب الطريقة فلا بد من جهادها وتذليلها ليعود العز والدولة إلى طرف الروح.
وفي "المثنوي" :
آنه در فرعون بود اندر توهست
ليك ادرهات محبوس هست
آتشت هيزم فرعون نيست
زانكه ون فرعون اوراعون نيست
فهذه حال النفس فلا بد من قهرها إلى أن تفنى عن دعواها وإسناد العز إليها وعند ذلك تكون فانية مطمئنة مستسلمة لأمر الله منقادة مسخرة تحت حكمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} يقرأ بالتنوين على أن عزير مبتدأ وابن خبره ولم يحذف التنوين إيذاناً بأن الأول مبتدأ وأن ما بعده خبره وليس بصفة (وعزير بن شرحيا ازنسل يعقوبست ازسبط لاوى وبهارده شت هارون بن عمران ميرسد) وهو قول قدمائهم ثم انقطع فحكى الله تعالى عنهم ذلك ولا عبرة بإنكار اليهود.
(3/314)
وفي "البحر" : وتذم طائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم.
روي أن بخت نصر البابلي لما ظهر على بني إسرائيل قتل علماءهم ولم يبق فيهم أحد يعرف التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيراً فاستصغره فلم يقتله وذهب به إلى بابل مع جملة من أخذه من سبايا بني إسرائيل فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل بدير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاكها ، قال : {أَنَّى يُحْى هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة : 259) قالها تعجباً لا شكاً في البعث فألقى الله تعالى عليه النوم ونزع منه الروح وبقي ميتاً مائة عام وأمات حماره وعصيره وتينه عنده وأعمى الله تعالى عنه العيون فلم يره أحد ثم إنه تعالى أحياه بعدما أماته مائة سنة وأحيا حماره أيضاً فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر هو أيضاً الناس ومنازله فتتبع أهله وقومه فوجد ابناً له شيخاً ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ فوجد من دونهم عجوزاً عمياء مقعدة أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم وقد كان خرج عزير عنهم هي بنت عشرين سنة ، فقال لهم : أنا عيزر كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت العجوز إن عزيراً كان مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية فادع الله يرد إليّ بصري حتى أراك فإن كنت عزيراً عرفتك فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحت وأخذ بيدها وقال لها قومي بإذن الله تعالى فأطلق رجلها فقامت صحيحة فنظرت فقالت أشهد أنك عزير وقال ابنه كان لأبي شامة مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 414
قال السدي والكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بخت نصر التوراة
414
ولم يكن من الله عهد بين الخلق بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره ، فقال : لبني إسرائيل ، يا قوم إن الله بعثني إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا فأملها علينا فأملاها عليهم من ظهر قلبه ثم إن رجلاً قال إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم كذا فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفاً فقالوا إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا إنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود المتقدمون عزير ابن الله.
{وَقَالَتِ النَّصَـارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} هو أيضاً قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة ؛ لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلهاً.
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين {قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي : ليس فيه رهان ولا حجة وإنما هو قول بالفم فقط كالمهمل.
قال الحدادي : معناه إنهم لا يتجاوزون في هذا القول عن العبارة إلى المعنى : إذ لا برهان لهم لأنهم يعترفون أن الله لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولداً.
{يُضَـاهِاُونَ} أي يضاهي ويشابه قولهم في الكفر والشناعة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً.
{قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ} أي : من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون الملائكة بنات الله أو اللات والعزى بنات الله.
{قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم جميعاً بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك ، فهو من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم لتعذر إرادة الحقيقة ، ويجوز أن يكون تعجباً من شناعة قولهم من قطع النظر عن العلاقة المصحصة للانتقال من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون من الحق إلى الباطل والحال إنه لا سبيل إليه أصلاً والاستفهام بطريق التعجب.
{اتَّخَذُوا} أي : اليهود {أَحْبَارَهُمْ} أي : علماءهم هم جمع حبر بالكسر وهو أفصح وسمي العالم حبراً لكثرة كتابته بالحبر أو لتحبره المعاني أو بالبيان الحسن وغلب في علماء اليهود من أولاد هارون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 414
(3/315)
{وَرُهْبَـانَهُمْ} أي : اتخذوا النصارى علماءهم جمع راهب وهو الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثارها في وجهه ولسانه وهيئته وغلب في عباد النصارى وأصحاب الصوامع منهم.
{أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} أي : كالأرباب فهو من باب التشبيه البليغ.
والمعنى أطاعوا علماءهم وعبادهم فيما أمروهم به طاعة العبيد للأرباب فحرموا ما أحل الله وحللوا ما حرم الله ، وفي الحديث : "إن محرم الحلال كمحلل الحرام" أي : أن عقوبة محرم الحلال كعقوبة محلل الحرام وذلك كفر محض ومثاله أن من اعتقد أن اللبن حرام يكون كمن اعتقد أن الخمر حلال ومن اعتقد أن لحم الغنم حرام يكون كمن اعتقد أن لحم الخنزير حلال.
{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} عطف على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابن الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وجمع اليهود والنصارى في ضمير اتخذوا لأمن اللبس {وَمَآ أُمِرُوا} أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في التوراة والإنجيل وبادىء العقل.
{إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا} عظيم الشأن هو الله تعالى ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مخل بعبادته فإن جميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة ، وأما إطاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة الله تعالى.
{لا إله إِلا هُوَ} صفة ثانية لا لها {سُبْحَـانَه عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما مصدرية ، أي :
415
تنزيهاً عن الإشراك به في العبادة والطاعة.
{يُرِيدُونَ} أي : يريد أهل الكتابين ، {أَن يُطْفِـاُوا} يخمدوا {نُورَ اللَّهِ} أي : يردوا القرآن ويكذبوه فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد والشرائع التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحل والحرمة.
{بِأَفْوَاهِهِم} بأقاويلهم الباطلة الخارجة منها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه وأصل تستند إليه حسبما حكي عنهم.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَهُ} إنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب لكونه بمعنى النفي أي لا يريد الله شيئاً من الأشياء إلا إتمام نوره بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} جواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة كلتاهما في موقع الحال ، أي : لا يريد الله إلا إتمام نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك بل ولو كرهوا أي على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة لأن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 414
راغى راكه ايزد بر فروزد
كسى كش ف كند سبلت بسوزد
{هُوَ الَّذِى} أي : الذي لا يريد شيئاً إلا إتمام نوره ودينه هو الذي {أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ملتبساً {بِالْهُدَى} أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين.
{وَدِينِ الْحَقِّ} أي : الدين الحق وهو دين الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} أي : ليغلب الرسول.
{عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي : على أهل الأديان كلهم فالمضاف محذوف أو ليظهر الدين الحق على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحكمة واللام في ليظهره لإثبات السبب الموجب للإرسال ، فهذه اللام لام الحكمة ، والسبب شرعاً ولام العلة عقلاً لأن أفعال الله تعالى ليست بمعللة بالأغراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة ، فنزل ترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ذلك الإظهار ووصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله.
قال ابن الشيخ : وغلبة دين الحق على سائر الأديان تكون على التزايد أبداً وتتم عند نزول عيسى عليه السلام لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في نزول عيسى "ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام" وقيل ذلك عند خروج المهدي فإنه حينئذٍ لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام والتزم أداء الخراج ، وفي الحديث : "لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدباراً ولا الناس إلا شحاً ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ولا مهدي إلا عيسى بن مريم" ومعناه لا يكون أحد صاحب المهدي إلا عيسى بن مريم فإنه ينزل لنصرته وصحبته والمهدي الذي من عترة النبي عليه السلام إمام عادل ليس بنبي ولا رسول ، والفرق بينهما أن عيسى هو المهدي المرسل الموحى إليه والمهدي ليس بنبي موحى إليه وأيضاً أن عيسى خاتم الولاية المطلقة والمهدي خاتم الخلافة المطلقة وكل منهما يخدم هذا الدين الذي هو خير الأديان وأحبها إلى الله تعالى.
وعن بعض الروم ، قال : كان سبب إسلامي أنه غزانا المسلمون فكنت أساير جيشهم فوجدت غزاة في الساقة فأسرت نحو عشرة نفر وحملتهم على البغال بعد أن قيدتهم وجعلت مع كل واحد منهم رجلاً موكلاً به ، فرأيت في بعض الأيام رجلاً من الأسرى يصلي فقلت للموكل به
416
(3/316)
في ذلك ، فقال لي : إنه في كل وقت صلاة يدفع إليّ ديناراً ، فقلت : وهل معه شيء؟ قال : لا ولكنه إذا فرغ من صلاته ضرب بيده إلى الأرض ودفع لي ذلك ، فلما كان الغد لبست ثوباً خلقاً وركبت فرساً دوناً وسرت مع الموكل لأتعرف صحة ذلك ، فلما دنا وقت صلاة الظهر أومى إلي أن يدفع لي ديناراً حتى أتركه يصلي فأشرت إليه إني لا آخذ إلا دينارين ، فأومى برأسه نعم فلما فرغ من صلاته رأيته قد ضرب بيده إلى الأرض فدفع إليّ منها دينارين ، فلما كان وقت العصر أشار كالمرة الأولى فأشرت إليه إني لا آخذ إلا خمسة دنانير ، فأشار إليّ بالإجابة فلما فرغ من صلاته فعل كفعله الأول فدفع إليّ خمسة دنانير ، فلما كان وقت المغرب أشار كذلك فقلت لا آخذ إلا عشرة فأجابني ، فلما صلى فعل كما تقدم فدفع إليّ عشرة فلما نزلنا وأصبحنا دعوت به وسألته عن خبره وخيرته في رجوعه إلى بلاد الإسلام فاختار الرجوع فأركبته بغلاً ودفعت له زاداً وحملته بنفسي على البغل ، فقال : أماتك الله تعالى على أحب الأديان إليه ، فوقع في قلبي من ذلك الوقت الإسلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 414
فعلى المؤمن المخلص أن يعظم الرسول الذي أرسله الله بهذا الدين الحق ، وقد عظمه الله ورفع ذكره وكتب اسمه على صفحات الكون.
قال بعض الشيوخ : دخلت بلاد الهند فوصلت إلى مدينة رأيت فيها شجرة تحمل ثمراً يشبه اللوز له قشرة فإذا كسرت خرجت منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة لا إله إلا الله محمد رسول الله كتابة هندية ، وأهل الهند يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا الغيث ويتضرعون عندها ، فحدثت بهذا الحديث أبا يعقوب الصياد ، فقال لي : ما أستعظم هذا كنت بالأيلة فاصطدت سمكة مكتوب على أذنها اليمنى لا إله إلا الله ، وعلى اليسرى محمد رسول الله ، فقذفت بها إلى الماء وإنما قذف بها احتراماً لها لما عليها من اسم الله تعالى واسم رسوله عليه السلام.
شهباز هواي قاب قوسين
رشد زتو آشيان كونين
وفي الحديث : "لا تجعلوني كقدح الراكب" أي لا تنسوني في حالة الشدة والرخاء "ولا تذكروني كصنيع الراكب مع قدحه المعلق في مؤخر رحله ، إذا احتاج إليه من العطش استعمله وإذا لم يحتج إليه تركه" وقيل لا تجعلوني في آخر الدعاء فإن اللائق أن يذكر اسمه الشريف أولاً وآخراً ويجعل الدعاء له عنوان الأدعية.
هر ند شد آخرين مقدم
شد بر همه نورتو مقدم
جعلنا الله وإياكم من خدام عتبة بابه والمتقربين بكل وسيلة إلى عالي جنابه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 414
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الاحْبَارِ} أي : علماء اليهود وهم من ولد هارون.
{وَالرُّهْبَانِ} وهم : أصحاب الصوامع من النصارى جمع راهب وقد سبق.
{لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ} يأخذونها بطريق الرشوة لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها ويوهمون الناس أنهم حذاق مهرة في تأويل الآية وبيان مراد الله تعالى منها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
يقول الفقير : وهكذا يفعل المفتون الماجنون والقضاة الجائرون في هذا الزمان يفتون على مراد المستفتي طمعاً لماله ويقضون بمرجوح الأقوال بل على خلاف الشرح ويرون أن لهم في ذلك سنداً
417
(3/317)
قوياً قاتلهم الله ، وإنما عبر عن الأخذ بالأكل مع أن المذموم منهم مجرد أخذها بالباطل أي بطريق الارتشاء سواء أكلوا ما أخذوه ، أو لم يأكلوا بناء على أن الأكل معظم الغرض من الأخذ.
{وَيَصُدُّونَ} أي : يمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الإسلام أو يعرضون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموال بالباطل.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} أي : يجمعونهما ويحفظونهما سواء كان ذلك بالدفن أو بوجه آخر والكنز في كلام العرب هو الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء ، وسمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى وسميت فضة لأنها تنفض ، أي : تتفرق ولا تبقى وحسبك بالاسمين دلالة على فنائهما وأنه لا بقاء لهما.
يقال لما خرج آدم عليه السلام من الجنة بكى له كل شيء فيها إلا شجرة العود والذهب والفضة فقال الله تعالى لو كان في قلوبكم رأفة لبكيتم من خوفي ولكن من قسا قلبه أحرقته بالنار وعزتي وجلالي لا يصاغ منكم حلقة ولا دينار ولا درهم ولا سوار إلا بتوقد النار وأنت يا شجرة العود لا تبرحي في النار والأحزان إلى يوم القيامة.
ثم المراد بالموصول ما يعم الكثير من الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين الكانزين الغير المنفقين وهو مبتدأ خبره فبشرهم.
{وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي : لا ينفقون منها ، أي يؤدون زكاتها ولا يخرجون حق الله منها فحذف من وأريد إثباتها بدليل قوله تعالى في آية أخرى.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة : 103) وقال عليه السلام : "في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين مثقالاً من الذهب نصف مثقال" ولو كان الواجب إنفاق جميع المال لم يكن لهذا التقدير وجه كما في "تفسير الحدادي".
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
وإنما قيل : (ولا ينفقونها) مع أن المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وقيل الضمير يعود على الأموال أو على الكنوز المدلول عليها بالفعل أو على الفضة لكونها أقرب فاكتفى ببيان أحدهما عن بيان الآخر ليعلم بذلك ، كقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَـارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} وكذا الكلام في قوله : {عَلَيْهَآ} الآتي.
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وضع الوعيد لهم بالعذاب موضع البشارة بالتنعم لغيرهم.
{يَوْمَ} منصوب بعذاب.
{يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} يقال : حميت النار أي اشتدت حرارتها أي يوم توقد النار الحامية أي الشديدة الحرارة على تلك الدنانير والدراهم وعليها في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل.
{فَتُكْوَى} (س داغ كرده شود) {بِهَآ} (بدان دينارها ودرمهاى سوزان) {جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم} وإنما تكوى هذه الأعضاء دون غيرها لأن الغني إذا رأى الفقير الطالب للزكاة كان يعبس جبهته ، وإذا بالغ في السؤال يعرض عنه بجنبه ، وإذا بالغ يقوم من موضعه ويولي ظهره ولم يعطه شيئاً غالباً ، أو لأن مقصود الكانز من جميع المال لما كان طلب الوجاهة بالغنى تعلق الكي بأعلى وجهه وهو الجبهة ولما قصد به أيضاً التنعم بالمطاعم الشهية التي ينتفخ بسببها جنباه وبالملابس البهية التي يلقيها على ظهره تعلق الكي بالجنوب والظهور أيضاً.
{هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ} أي : يقال لهم حين الكي في ذلك اليوم هذا ما جمعتم في دار الدنيا.
{لانفُسِكُمْ} أي : لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها.
418
{فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي : وبال كنزكم فما مصدرية والمضاف محذوف لأن المعنى المصدري ليس بمذوق وإنما يذاق وباله وعذابه وإنما ذاقوه في الآخرة ؛ لأنهم في الدنيا في منام الغفلة عن الآخرة والنائم لا يذوق ألم الكي في النوم وإنما يذوقه عند الانتباه والناس نيام فإذا ماتوا انتهبوا.
مردمان غافلند از عقبى
همه كويا بخفتكان مانند
ضرر غفلتي كه مى ورزند
ون بميرند آنكهى دانند
(
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
درا مالى امام ظهير الدين ولو اجى مذكور راست كه.
اكرديكران خزينه مال كنند توخزانه اعمال كن.
واكر ديكران كنوز أعراض فانية جويند تو رموز أسرار باقيه جوى).
يكدرم كان دهى بدرويشى
بهتراز كنجهاى مدخرست
زانه دارى تمتعي بر دار
كان دكر روزى كسى دكرست
(3/318)
وفي الحديث : "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليها في نار جهنم ، فتجعل صفائح فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر تستن عليه بقوائمها وأخفافها" أي ترفع يديها "وتطرحهما معاً على صاحبها كلما مضى عليه آخرها رد عليه أولها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقرتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها جماع ولا منكسر قرنها كلما مضى عليه آخرها رد عليه أولها حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار".
وعلم : أن الزكاة شكر لنعمة المال كما أن الصوم والصلاة ، والحج شكر لنعمة الأعضاء ، ولذا صارت صلاة الضحى شكراً لنعمة ثلاثمائة وستين مفصلاً في البدن ، وهي ، أي : الزكاة تمليك خمسة دراهم في مائتين للفقير المسلمتعالى ولرضاه ، فالتمليك رجاء للعوض ليس بزكاة وعائل يتيم لو أطعمه من زكاته صح خلافاً لمحمد لوجود الركن وهو التمليك وهذا إذا سلم الطعام إليه وأما إذا لم يدفع إليه فلا يجوز لعدم التمليك ، وهذا أيضاً إذا لم يستخدمه فلو دفع شيئاً من زكاته إلى خادمه الغير المملوك وجاء للعوض وهو خدمته لم يكنتعالى وهذا غافل عنه أكثر الناس ولو أنفق على أقاربه بنية الزكاة جاز إلا إذا حكم عليه بنفقتهم ، قالوا : الأفضل في صرف الزكاة أن يصرفها إلى إخوته ثم أعمامه ثم أخواله ثم ذوي الأرحام ثم جيرانه ثم أهل سكنه ثم أهل مصره.
والفرق بين الزكاة وصدقة الفطر : أنه لا يجوز دفع الزكاة لذمي بخلاف صدقة الفطر ولا وقت لها ولصدقة الفطر وقت محدود يأثم بالتأخير عن اليوم الأول.
قال الفقهاء : افتراض الزكاة عمري وقيل فوري وعليه الفتوى فيأثم بتأخيرها وترد شهادته.
أيّ رجل يستحب له إخفاؤها؟ فقل : الخائف من الظلمة حتى لا يعلموا كثرة ماله.
أي رجل غني عند الإمام فلا تحل له فقير عند محمد فتحل له فقل من له دور يستغلها ولا يملك نصاباً فمن
419
كان له دار لا تكون للسكنى ولا للتجارة وقيمتها تبلغ النصاب يجب بها صدقة الفطر دون الزكاة ولو اشترى زعفراناً ليجعله على كعك التجارة لا زكاة فيه ولو كان سمسماً وجبت والفرق أن الأول مستهلك دون الثاني والملح والحطب للطباخ والحرض والصابون للقصار والشب والقرظ للدباغ كالزعفران والعصفر والزعفران للصباغ كالسمسم كذا في "الأشباه" ثم المعتبر في الذهب والفضة الوزن وجوباً وأداء لا الذي يروج بين الناس من ضرب الأمير وجاز دفع القيمة في زكاة وكفارة غير الإعتاق وعشر ونذر وإذا قال الناذر على أن أتصدق اليوم بهذا الدرهم على هذا الفقير فتصدق غداً بدرهم آخر على غيره يجزئه عندنا ولا تؤخذ الزكاة من تركته بغير وصية وإن أوصى اعتبرت من الثلث والمريض إذا خاف من ورثته يخرجها سراً عنهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} العدة مصدر بمعنى العدد ، أي : إن عدد الشهور التي تتعلق بها الأحكام الشرعية من الحج والعمرة والصوم والزكاة والأعياد وغيرها ، وهي الشهور العربية القمرية التي تعتبر من الهلال إلى الهلال وهي تكون مرة ثلاثين يوماً ومرة تسعة وعشرين ، ومدة السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثلث يوم دون الشهور الرومية والفارسية التي تكون تارة ثلاثين يوماً وتارة أحداً وثلاثين ، ومدة السنة الشمسية : ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم ، وللشمس اثنا عشر برجاً : تسير في كلها في سنة والقمر في كل شهر وهي : حمل ثور ، جوزاء ، سرطان ، أسد ، سنبلة ، ميزان ، عقرب ، قوس ، جدي ، دلو ، حوت.
(3/319)
واصطلحوا على أن جعلوا ابتداء السنة الشمسية من حين حلول مركز الشمس نقطة رأس الحمل إلى عودها إلى تلك النقطة ؛ لأن الشمس إذا حلت هناك ظهر في النبات قوة ونشو ونماء وتغير الزمان من رثاثة الشتاء إلى نضارة الربيع واعتدل الزمان في كيفيتي الحر والبرد.
ولما كانت السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمرية ، وكانت السنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل كان الحج والصوم والفطر يقع تارة في الصيف وأخرى في الشتاء.
ولما كانت عند سائر الطوائف عبارة عن مدة تدور فيها الشمس دورة تامة كانت أعيادهم وصومهم تقع في موسم واحد أبداً.
{عِندَ اللَّهِ} أي في حكمه وهو ظرف لقوله : عدة.
{اثْنَا عَشَرَ} خبر لأن {شَهْرًا} تمييز مؤكد كما في قولك عندي من الدنانير عشرون ديناراً.
{فِي كِتَـابِ اللَّهِ} صفة لاثنا عشر والتقدير اثنا عشر شهراً مثبتة في كتابه وهو اللوح المحفوظ ، وإنما قال : في كتاب الله لأن كثيراً من الأشياء توصف بأنها عند الله ولا يقال إنها في كتاب الله.
{يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ظرف منصوب بما تعلق به قوله في كتاب الله ، أي : مثبتة في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، أي : منذ خلق الأجرام اللطيفة والكثيفة ، وإنما قال : ذلك لأن الله تعالى أجرى الشمس والقمر في السموات يوم خلق الله السموات والأرض فمبلغ عدد الشهور اثنا عشر من غير زيادة أولها المحرم وآخرها ذو الحجة وإنما خصت باثني عشر لأنهم كانوا ربما جعلوها ثلاثة عشر وذلك أنهم كانوا يؤخرون الحج في كل عامين من شهر إلى آخر ويجعلون الشهر الذي أنسؤوا فيه ، أي : أخروا ملغى فتكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً ويكون العام الثاني على ما كان عليه
420
الأول سوى أن الشهر الملغى في الأول لا يكون في العام الثاني وعلى هذا تمام الدورة فيستدير حجهم في كل خمس وعشرين سنة إلى الشهر الذي بدىء منه ولذا خرج الحساب من أيديهم وربما يحجون في بعض السنة في شهر ويحجون من قابل في غيره إلى أن كان العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فصادف حجهم ذا الحجة فوقف بعرفة يوم التاسع وأعلمهم بطلان النسيء كما سيجيء وهذه الشهور قد نظمها بعضهم بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
ون محرمبكذرد آيد بنزد توصفر
س ربيعيني وجمادين ورجب آيدببر
بازشعبا نست وماه صوم وعيد وذي القعد
بعد ازان ذي الحجة نام ماهها آيدبسر
أما المحرم : فسمي بذلك لأنهم كانوا يحرمون القتال فيه حتى أن أحدهم كان يظفر بقاتل أبيه أو ابنه فلا يكلمه ولا يتعرض له.
وأما صفر : فسمي بذلك لخلوهم من الطعام وخلو منازلهم من الزاد ولذلك كانوا يطلبون الميرة فيه ويرحلون لذلك يقال صفر السقاء إذا لم يكن فيه شيء والصفر الخالي من كل شيء كذا في "التبيان".
وقال في "شرح التقويم" سمي بذلك لخلوه عن التحريم الذي كان في المحرم.
وأما الربيعان : فسميا بذلك ؛ لأن العرب كانت تربع فيهما لكثرة الخصب فيهما.
والربيع عند العرب اثنان ربيع الشهور وربيع الأزمنة.
أما ربيع الشهور فهو شهران بعد صفر ، أي ربيع الأول وربيع الآخر بتنوين ربيع على أن الأول صفته وكذا الآخر والإضافة غلط.
وأما ربيع الأزمنة فهو أيضاً اثنان البيع الأول وهو الذي تأتي في الكماة والنور ويسمونه ربيع الكلاء والربيع الثاني وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار فربيعا الشهور لا يقال فيهما الأشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ليمتازا عن الربيعين في الأزمنة.
وأما الجماديان : فسميا بذلك لأن الماء كان يجمد فيهما لشدة البرد فيهما كذا في "التبيان".
وقال في "شرح التقويم" : جمادى الأولى بضم الجيم وفتح الدال فعالى من الجمد بضم الجيم والميم وسكون الميم لغة فيه وهو المكان الصلب المرتفع الخشن ، وإنما سمي بذلك لأن الزمان في أول وضع هذا الاسم كان حاراً والأمكنة في الصلابة والارتفاع والخشونة من تأثير الحرارة وجمادى الآخرة تالية للشهر المتقدم في المعنى المذكور.
(3/320)
قال ابن الكمال : جمادى الأولى والآخرة ، فعالى كحبارى والدال مهملة والعوام يستعملونها بالمعجمة المكسورة ويصفونها بالأول فيكون فيها ثلاث تحريفات قلب المهملة معجمة والفتحة كسرة والتأنيث تذكيراً ، وكذا جمادى الآخرة يقولون جمادى الآخر بلا تاء والصحيح الآخرة بالتاء أو الأخرى وهما معرفتان من أسماء الشهور فإدخال اللام في وصفهما صحيح.
وكذا ربيع الأول وربيع الآخر في الشهور وأما ربيع الأزمنة فالربيع الأول باللام انتهى.
وأما رجب : فسمي بذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يعظمونه ويتركون فيه القتال والمحاربة يقال رجبته بالكسر أي : عظمته والترجيب التعظيم وكانوا يسمونه رجب مضر وهو اسم قبيلة لكونه أشد تعظيماً له من بقية العرب ولذلك قال عليه السلام فيه : "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" وإنما وصف رجب بقوله : الذي للتأكيد أو لبيان أن رجب الحرام هو الذي بينهما إلا ما كانوا يسمونه رجب على حساب النسيء أو يسمون رجب وشعبان رجبين فيغلبون رجب عليه وربما يقال شعبانان تغليباً له على رجب.
وأما شعبان : فسمي بذلك
421
لأنهم كانوا يتفرقون ويتشعبون من التشعيب وهو التفريق.
وأما رمضان : فسمي بذلك لشدة الحر الذي كان يكون فيه حتى ترمض الفصال كما قيل للشهر الذي يحج فيه ذو الحجة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
قال في "شرح التقويم" : الرمض شدة وقع الشمس على الرمل وغيره وسبب تسمية هذا الشهر بهذا الاسم أن العرب كانت تسمي الشهور بلوازم الأزمنة التي كانت الشهور واقعة فيها وكانت اللوازم وقت التسمية ههنا رمض الحر أي شدته انتهى.
وقيل سمي رمضان لأنه ترمض فيه الذنوب رمضاً أي تغفر.
وكان مجاهد يكره أن يقول رمضان ويقول لعله اسم من أسماء الله فالوجه أن يقال شهر رمضان لما روي "لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى" على ما في "التيسير".
قال في "التلويح" : العلم هو شهر رمضان بالإضافة ورمضان محمول على الحذف للتخفيف ذكره في "الكشاف" وذلك لأنه لو كان رمضان علماً لكان شهر رمضان بمنزلة إنسان زيد ولا يخفى قبحه ولهذا أكثر في كلام العرب شهر رمضان ولم يسمع شهر رجب وشهر شعبان على الإضافة انتهى.
قال المولى حسن لبى : قد يمنع القبح بأن الإضافة البيانية شائعة عرفاً فلا مجال لاستقباحها بعد أن تكون مطردة انتهى.
وأما شوال : فسمي بذلك لأنه يشول الذنوب أي يرفعها ويذهبها لأنه من شال يشول إذا رفع الشيء ومن ذلك قولهم شالت الناقة بذنبها أي رفعته إذا طلبت الضراب كذا في "التبيان".
وقال في "شرح التقويم" : هو من الشول وهو الخفة من الحرارة في العمل والخدمة وإنما سمي بذلك لخروج الإنسان فيه عن مخالفة النفس الأمارة وقمع شهواتها اللذين كانا في الإنسان في رمضان بإطلاق طوع المستلذات والمشتهيات فعند خروجه عن ذلك كان يجد خفة في نفسه ويستريح.
وأما ذو القعدة : فسمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه لكثرة الخصب فيه أو يقعدون عن القتال.
قال في "شرح" : إنما سمي هذا الشهر بهذا الاسم لأنه زمان يحصل فيه قعود مكة.
والقعدة بفتح القاف وسكون العين المهملة.
قال ابن ملك : قولهم (ذو القعدة وذو الحجة) يجوز فيهما فتح القاف والحاء وكسرهما لكن المشهور في القعدة الفتح وفي الحجة الكسر.
وأما ذو الحجة فسمي بذلك لأنهم كانوا يحجون فيه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
وقال في كتاب "عقد الدرر واللآلى في فضائل الأيام والشهور والليالي" تكلم بعض أهل العلم على معاني أسماء الشهور ، فقال : كانت العرب إذا رأوا السادات تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا المحرم ، وإذا مرضت أبدانهم وضعفت أركانهم واصفرت ألوانهم قالوا صفر ، وإذا نبتت الرياحين واخضرت البساتين قالوا ربيعين ، وإذا قلت الثمار وبرد الهواء وانجمد الماء قالوا جماديين ، وإذا ماجت البحار وجرت الأنهار ورجبت الأشجار قالوا رجب ، وإذا تشعبت القبائل وانقطعت الوسائل قالوا شعبان ، وإذا حر الفضاء ورمضت الرمضاء قالوا رمضان ، وإذا ارتفع التراب وكثر الذباب وشالت الإبل الأذناب قالوا شوال ، وإذا رأوا التجار قعدوا من الأسفار والمماليك والأحرار قالوا : ذو القعدة ، وإذا قصدوا الحج من كل فج ووج وكثر العج والثج قالوا ذو الحجة.
انتهى {مِنْهَآ} أي : من تلك الشهور الاثني عشر.
{أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
والحرم : بضمتين جمع الحرام ، أي : أربعة أشهر حرم
422
(3/321)
يحرم فيها القتال جعلت أنفس الأشهر حرماً لكونها أزمنة لحرمة ما حل فيها من القتال وهو من قبيل إسناد الحكم إلى ظرفه إسناداً مجازياً وأجزاء الزمان وإن كانت متشابهة في الحقيقة إلا أنه تعالى له أن يميز بعض الأمور المتشابهة بمزيد حرمة لم يجعلها في البعض الآخر.
كما ميز يوم الجمعة ، ويوم عرفة بحرمة لم يجعلها في سائر الأيام حيث خصهما بعبادة مخصوصة تميزا بها عن سائر الأيام ، وكذا ميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة لم يجعلها لسائر الشهور.
وميز بعض ساعات الليل والنهار بأن جعلها أوقاتاً لوجوب الصلاة فيها ، وكما ميز الأماكن والبلدان وفضلها على سائرها كالبلد الحرام والمسجد الحرام فخص الله تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام فلا بعد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة بأن جعل انتهاك المحارم فيها أشد وأعظم من انتهاكها في سائر الأشهر ويضاعف فيها السيئات بتكثير عقوباتها ويضاعف فيها الحسنات بتكثير مثوباتها.
وفي "أسئلة الحكم" : فضل الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب إلى إدراكها واحترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق في فضائلها ، وأما تضاعف الحسنات في بعضها فمن المواهب اللدنية والاختصاصات الربانية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
وفي "الأسرار المحمدية" : إن الله تعالى إذا أحب عبداً استعمله في الأوقات الفاضلات بفواضل الأعمال الصالحات وإذا مقته والعياذ بالله شتت همه واستعمله بسيىء الأعمال وأوجع في عقوبته وأشد لمقته بحرمان بركة الوقت وانتهاك حرمته فليبذل المريد كل وسعه حتى لا يغفل عنها أي عن الأوقات الفاضلة ، فإنها موسم الخيرات ومظانّ التجارات ومتى غفل التاجر عن المواسم لم يربح ومتى غفل عن فضائل الأوقات لم تنجح دع التكاسل تغنم قد جرى مثل (كه زاد راهروان جستيست والاكى).
واتفق أهل العلم على أفضلية شهر رمضان لأنه أنزل فيه القرآن ، ثم شهر ربيع الأول لأنه مولد حبيب الرحمن ، ثم رجب لأنه فرد أشهر الحرم ، ثم شعبان لأنه شهر حبيب الرحمن مقسم الأعمال والآجال بين شهرين عظيمين رجب ورمضان ففيه فضل الجوارين العظيمين ليس لغيره.
ثم ذو الحجة لأنه موطن الحج والعشر التي تعادل كل ليلة منها ليلة القدر ، ثم المحرم شهر الأنبياء عليهم السلام ورأس السنة وأحد الأشهر الحرم ثم الأقرب إلى أفضل الأشهر من وجوه {ذَالِكَ} أي : تحريم الأشهر الأربعة المعينة هو {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والعرب ورثوه منهما حتى أحدثت النسيء فغيروا {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن.
قال في "التبيان" : قال في الاثني عشر منها فوحد الضمير لأنه للكثرة.
وقال في الأربعة فيهن فجمع الضمير لأنه للقلة وسببه أن الضمير في القلة للمؤنث يرجع بالهاء والنون وفي الكثرة يرجع بالهاء والألف للفرق بين القلة والكثرة والجمهور على أن حرمة القتال فيهن منسوخة وأوّلوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزراً كارتكابها في الحرم وخلال الإحرام يعني أن هذه الأشهر الأربعة خصت بالنهي عن ظلم النفس فيها مع أن الظلم حرام في كل وقت لبيان أن الظلم فيها أغلظ كأنه قيل فلا تظلموا فيهن خصوصاً أنفسكم.
{وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} مصدر كف فإن
423
مصدر الثلاثي قد يجيء على فاعلة نحو عافية ومعناه معنى كل وجميع وهو منصوب على الحال إما من الفاعل وهو الواو ، فالمعنى قاتلوا جميعاً المشركين أي مجتمعين على قتالهم متعاونين متناصرين ومن التعاون الدعاء بالنصرة إذ هو سلاح معنوي كما أن السيف سلاح صوري فمن تأخر ودعا فقلبه مجتمع بمن أقدم وغزا إذ التفرق الصوري لا يقدح في الاجتماع المعنوي.
كما قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
در راه عشق مرحله قرب وبعد نيست
مى بينمت عيان ودعا مى فرستمت
{كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} كذلك ، أي : مجتمعين وإما من المفعول فالمعنى قاتلوا المشركين جميعاً أي بكليتهم ولا تتركوا القتال مع بعضهم كما أنهم يستحلون قتال جميعكم وإما منهما معاً نحو ضرب زيد عمراً قائمين ، فإن المصدر عام للتثنية والجمع ، فجميع المؤمنين يقاتل جميع الكافرين ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف ، أي : في الحل والحرم وفي جميع الأزمان في الأشهر الحرم وفي غيرها وإلى الأبد فإن الجهاد مستمر إلى آخر الزمان ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي معكم النصر والإمداد فيما تباشرون من القتال وإنما وضع المظهر موضعه مدحاً لهم بالتقوى وحثاً للقاصرين عليه وإيذاناً بأنه المدار في النصر كذا في "الإرشاد".
(3/322)
وقال القاضي : هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم فإن السلاح والدعاء لا ينفذان إلا بالتقوى على مراتبها فكلمة التقوى هي كلمة الشهادة وبها يقي المؤمن نفسه وماله وعياله من التعرض في الدنيا ومن العذاب في العقبى ، ثم إنها إذا قارنت بشرائطها الظاهرة والباطنة يحصل تقوى القلب وهو التخلي عن الأوصاف الذميمة ثم يحصل تقوى السر وهو التخلي عما سوى الله فمن كانكان الله له بالنصرة والإمداد.
واعلم : أن السيف سيفان سيف ظاهر وهو سيف الجهاد الصوري وسيف باطن وهو سيف الجهاد المعنوي فبالأول تنقطع عروق الكفرة الظاهرة الباغية ، وبالثاني عروق القوى الباطنة الطاغية والأول بيد مظهر الاسم الظاهر وهو السلطان وجنوده والثاني بيد مظهر الاسم الباطن وهو القطب وجنوده فنسأل الله تعالى أن ينصر سلطاننا بالاسم الممد والناصر والمعين ويخذل أعدائنا بالاسم المنتقم والقهار وذي الجلال.
وقد قال السعدي :
دعاى ضعيفان اميدوار
زبازوى مردى به آيد بكار
ففي الآية : حث على المجاهدة مع الأعداء وفي الحديث : "القتل في سبيل الله مَصْمَصَة" أي مطهرة غاسلة من الذنوب يقال مصمص الإناء إذا جعل فيه الماء وحركه ومضمضه كذلك عن الأصمعي كذا في "تاج المصادر" وفي الحديث : "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" يعني : كون المجاهد في القتال بحيث يعلوه سيوف الأعداء سبب للجنة حتى كأن أبوابها حاضرة معه أو المراد بالسيوف سيوف المجاهد هذا كناية عن الدنو من العدو في الضراب لأنه إذا دنا منه كان تحت ظل سيفه حين رفعه ليضربه وإنما ذكر السيوف لأنها أكثر سلاح العرب ومن التقوى الاحتراز عن الرياء والسمعة في حضور معارك الحروب ومحافل الدعاء.
قال خسرو الدهلوي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
غازىء رسمي كه بغارت رود
هست و حاجى كه تجارت رود
آنكه غزا خواني وجويى رضا
كر غرضي هست نباشد غزا
رو بغزا دل غرض آلوده واى
جهد خوداست اين نه جهاد خداى
424
والإشارة : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} أي : قلوبكم وصفاتها وأرواحكم وصفاتها.
{كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} أي : النفوس وصفاتها جميعاً ومقاتلة النفوس بمخالفتها وردعها عن هواها وكسر صفاتها ومنعها عن شهواتها وشغلها بالطاعات والعبادات واستعمالها في المعاملات الروحانية والقلبية ، وجملتها التزكية عن الأوصاف الذميمة والتحلية بالأخلاق الحميدة ثم قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وهم القلوب والأرواح المتقية عن الشرك يعني عن الالتفات لغير الله ولو لم يكن الله معهم بالنصر والتوفيق لما اتقوا وإنما اتقوا بالله عما سواه كذا في "التأويلات النجمية".
{إِنَّمَا النَّسِىاءُ} مصدر نسأه ، أي : أخره كمس مسيساً كانت العرب إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد.
قال الكاشفي : (آورده اندكه طباع أهل جاهليت بقتل وغرات مستأنس شده بود ودرمهاى حرام قتال نميكردند وون سه ماه متصل حرام بودبينك آمد كفتند ماسه ماه ى درى بى تاراج وغارت تحمل نداريم س قلمش كناني صورتي برانكيخت ودر موسم ندا كردوايستاده شد وخطبه خواندكه يا معشر العرب خداى شمارا درين محرم حلال كردانيد وحرمت اورا تأخير كردبماه صفر مردمان قول اورا قبول نمودندبازسل ديكر منادى فرمودكه خداى تعالى درين سال محرم را حرام ساخت وصفر راحلال كردوكاه بودي كه در اثناى محاربات ايشان حرام نوشتى حرمت اورا تأخير كردندى بما هي بعد ازواورا حلال داشتندى ودرهر سالى هارماه را حرام ميدانستند أما اختصاص أشهر حرم را فرو كذاشته مجرد عددرا اختيار كردند واعتبار داشتندى واين عمل را نسىء مى كفتند حق سبحانه وتعالى فرمود) {إِنَّمَا النَّسِىاءُ} أي : إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.
{زِيَادَةٌ} (افزنيست)
425
{فِى الْكُفْرِ} لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما حلله فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم وبدعة زائدة على بدع سائر الكفار.
{يُضِلَّ} على بناء المفعول من أضل {بِهِ} (بدين عمل) وهو النسيء {الَّذِينَ كَفَرُوا} والمضل هو الله تعالى ، أي : يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه أو الرؤساء فالموصول عبارة عن الأتباع ، أي الاتباع يضلون به بإضلال الرؤساء أو الشيطان فإنه مظهر الاسم المفضل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
(3/323)
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخنا العلامة أبقاه ـ ـ الله بالسلامة ـ ـ أن الشيطان والنفس والضلال أمر واحد في الحقيقة لكن الأول بحسب الشريعة والثاني بحسب الطريقة والثالث بحسب الحقيقة فلكل مقام تعبير لا يناسب تعبير المقام الآخر.
{يُحِلُّونَهُ} أي الشهر المؤخر فالضمير إلى النسيء المدلول عليه بالنسيء.
{عَامًا} من الأعوام ويحرمون مكانه شهراً آخر مما ليس بحرام.
{وَيُحَرِّمُونَهُ} أي يحافظون على حرمته كما كانت والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم له في العام الماضي.
{عَامًا} آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم {لِّيُوَاطِـاُوا} المواطأة عبارة عن الموافقة والاجتماع على حكم أي ليوافقوا.
قال الكاشفي : (تاموافق سازند وتمام كنند) {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي عدد ما حرمه من الأشهر الأربعة فإنهم كانوا يقولون الأشهر الحرم أربعة وقد حرمنا أربعة أشهر {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي يتوصلوا بهذه الحيلة إلى إحلال الشهر الذي حرمه الله بخصوصه من الأشهر المعينة فهم وإن راعوا أحد الواجبين وهو نفس العدد إلا إنهم تركوا الواجب الآخر وهو رعاية حكم خصوص الشهر.
{زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَـالِهِمْ} أي : جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس والمزين هو الله تعالى في الحقيقة أو الشيطان أو النفس على تفاوت المراتب.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} هداية موصلة إلى المطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد أعرضوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال (در ينابيع آورده كه جاهلان عرب در سالى هار ماه حرام ميداشتند وخلق را ازدست وزبان خود ايمن ميساختند مؤمنان مؤدب بدان سزاوا رترندكه درهمه ماهها مسلمانا نرا ازضرر خود سالم دارند وايذا وآار خلق بزبان ودست فروكذا ردنكه مجازات اضررا همان اضرارست ومكافات آزار آزار).
آزار دل خلق مجو بى سببي
تابر نكشند يا ربي نيمشبى
برمال وجمال خويشتن تكيه مكن
كانرا بشبى برند واين را به تبى
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
يقول الفقير سامحه الله القدير بلغت مسامحات الناس في هذا الزمان إلى حيث تساوت عندهم الأشهر الحرم وغيرها ، أما ترى إليهم في شهر رمضان الذي جعله الله شهر هذه الأمة المرحومة وفضله على سائر الشهور كيف لا يبالون من ارتكاب المحرمات فيه ، وأمسكوا عنها في النهار بسبب نوم أو غيره من الموانع البشرية وأكبوا عليها في الليالي ، فوا أسفا على غربة هذا الدين وزوال أنوار اليقين ، ومن الله التوفيق إلى الأعمال المرضية خصوصاً في الأوقات الفاضلة نهراً أو ليالي ، ثم إن النسيء المذكور وقعت إليه الإشارة في قوله عليه السلام : "لا عدوى ولا هامة ولا صفر" أما العدوى : فهو اسم من الأعداء كالدعوى من الادعاء ، وهو مجاوزة العلة من صاحبها
426
إلى غيره وكانت العرب في الجاهلية تعتقد أن الأمراض تعدى بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك.
فالمعنى ليس نفي سراية العلة فإن السراية والتعدية واقعة بل إضافتها إلى العلة من غير أن يكون ذلك بفعل الله تعالى ، ويدل عليه قوله عليه السلام : "لا يورد ممرض على مصح" والممرض صاحب الإبل المريضة والمصحح صاحب الإبل الصحيحة ، والمراد النهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة وهو من باب اجتناب الأسباب التي هي سبب البلاء إذا كان في عافية منه فكما أنه مأمور أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو يدخل تحت ما أشرف على الانهدام ونحوه مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذي ، فكذلك مأمور بالاجتناب عن مقاربة المريض كالمجزوم والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب المرض والتلف والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها ، ففي الأمر بالاجتناب صيانة للمؤمن الضعيف يقينه لئلا يعتقد التأثير من الأسباب أي عند وقوع البلاء أو يعتقد أن السراية كانت بالطبع لا بقضاء الله تعالى وقدره ، وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضائه وقدره فتجوز مباشرة بعض هذه الأسباب كما ورد أن النبي عليه السلام أكل مع مجذوم وقال : "بسم الله ثقة بالله توكلت على الله" ونظيره ما روي عن خالد بن الوليد وعمر رضي الله عنهما من شرب السم وإنما لم يؤثر فيهما لأنهما إنما شرباه في مقام الحقيقة لا ببشريتهما ، وإنما أثر في النبي عليه السلام بعد تنزله إلى حالة بشرية وذلك أن إرشاده عليه السلام كان في عالم التنزل غير أن تنزله كان من مرتبة الروح وهي أعدل المراتب ولم يؤثر فيه حتى مضى عليه اثنتا عشرة سنة فلما احتضر تنزل إلى أدنى المراتب لأن الموت إنما يجري على البشرية فلما تنزل إلى تلك المرتبة أثر فيه فليفهم هذا المقام فإنه من مزالق الأقدام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
(3/324)
وأما قوله : "ولا هامة" بالتخفيف ففيه تأويلان : أحدهما : أن العرب كانت تتشاءم بالهامة وهي الطير المعروف من طير الليل وقيل هي البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم قالوا نعت إليه نفسه أو بعض أهله هذا تفسير مالك بن أنس.
والثاني : أن العرب كانت تعتقد أن روح القتيل الذي لم يؤخذ بثاره تصير هامة فتنشر جناحيها عند قبره وتصيح اسقوني اسقوني من دم قاتلي فإذا أخذ بثاره طارت وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت إذا بليت تصير هامة ويسمونها الصدى بالفارسية (كوف) وتخرج من القبر وتتردد وتأتي الميت بأخبار أهله وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور ويجوز أن يكون المراد النوعين وأنه عليه السلام نهى عنهما جميعاً.
وفي "فتاوى قاضيخان" : إذا صاحت الهامة ، فقال أحد : يموت رجل قال بعضهم : يكون ذلك كفراً وكذا لو رجع فقال ارجع لصياح العقعق كفر عند بعضهم.
وأما قوله : "ولا صفر" : ففيه تأويلان أيضاً الأول : أن الجاهلية كانت تعتقد أن في الجوف حية يقال لها الصفر تعض كبد الإنسان عضاً إذا جاع.
والثاني : أن المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعاً وإن الصفرين جميعاً باطلان لا أصل لهما وقيل كانوا يتشاءمون بصفر فنفاه النبي عليه السلام بقوله ولا صفر يحكى أن بعض الأعراب أراد السفر في أول السنة فقال : إن سافرت في المحرم كنت جديراً أن أحرم وإن رحلت في صفر خشيت على يدي تصفر فأخر السفر إلى شهر ربيع
427
الأول فلما سافر مرض ولم يحظ بطائل فقال ظننته من ربيع الرياض فإذا هو من ربيع الأمراض.
وكانت وقعة صفين بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين قيل لذلك احترز عن صفر.
قال في "روضة الأخبار" : ذهب الجمهور إلى أن القعود في صفر أولى من الحركة.
عن النبي عليه السلام : "من بشرني بخروج صفر أبشره بالجنة" انتهى.
يقول الفقير هذا الحديث ، لا يدل على مدعاه وهو أولوية القعود في صفر فإن النبي عليه السلام إنما قال كذلك شغفاً بشهر ولادته ووفاته وحباً لدخوله فإن الأنبياء والأولياء يستبشرون بالموت لكونه تحفة لهم وينتظرون زمانه إذ ليس انتقالهم إلا إلى جوار الله تعالى وفي الحديث : "لا تسافروا في محاق الشهر ولا إذا كان القمر في العقرب" وكان علي "يكره التزوج والسفر إذا نزل القمر في العقرب" وهو إسناد صحيح.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده افندي : إن نحوسة الأيام قد ارتفعت عن المؤمنين بشرف نبينا عليه السلام وأما ما نقل عن علي من أنه عد سبعة أيام في كل شهر نحساً فعلى تقدير صحة النقل محمول على نحوسة النفس والطبيعة ، فليست السعادة والشقاوة إلا لسعادتهما وشقاوتهما فإذا تخلصتا من الشقاوة لم يبق نحوسة انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
قال في "عقد الدرر واللآلى" : وكثير من الجهال يتشاءم من صفر وربما ينهى عن السفر والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها ، وكذا التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وأيام العجائز في آخر الشتاء ، وكذا تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
وقد قيل : إن طاعوناً وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس فتشاءم بذلك أهل الجاهلية وقد ورد الشرع بإبطاله قالت عائشة رضي الله عنها "تزوجني رسول الله في شوال وبنى بي في شوال" فأي نسائه كان أحظى عنده مني فتخصيص الشؤم بزمان دون زمان كصفر أو غيره غير صحيح ، وإنما الزمان كله خلق الله تعالى وفيه تقع أعمال بني آدم فكل زمان اشتغل فيه المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه وكل زمان اشتغل فيه بمعصية الله فهو مشؤوم عليه فالشؤم في الحقيقة هو المعصية كما قال ابن مسعود رضي الله عنه إن كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين يعني اللسان وفي الحديث : "الشؤم في ثلاث في المرأة والدار والفرس" وتفسيره : إن شؤم المرأة إذا كانت غير ولود ، وشؤم الدار جار السوء ، فإن المرء يتأذى به كما جاء في الحديث : "ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين ، فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء" وشؤم الفرس : إذا لم يغز عليه في سبيل الله فإن الخيل ، ثلاثة : فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان فأما الذي للرحمن فما اتخذ في سبيل الله وقوتل عليه أعداؤه ، وأما الذي للإنسان فهو الذي يرتبطها يلتمس بطنها فهو ستر من الفقر ، وأما الذي للشيطان فهو ما روهن عليه وقومر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
(3/325)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} شروع في بيان غزوة تبوك وهي أرض بين الشام والمدينة ويقال لها غزوة العسرة ويقال لها الفاضحة لأنها أظهرت حال كثير من المنافقين.
وروي أنه عليه السلام لما فتح مكة وغزا هوازن وثقيفاً بحنين وأوطاس وحاصر الطائف وفتحها وأتى الجعرانة وأحرم بها للعمرة واعتمر ، ثم أتى المدينة فأمر بالخروج إلى غزوة الروم قبل الشام وذلك في شهر رجب سنة تسع بلغه عليه السلام أن الروم قد جمعت له جموعاً كثيرة بالشام وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء المحل المعروف ،
428
وقيل : للروم بنو الأصفر لأنهم ولد روم بن العيص بن إسحاق نبي الله عليه الصلاة والسلام وكان يسمى الأصفر لصفرة به.
فقد ذكر العلماء بأخبار القدماء أن العيص تزوج بنت عمه إسماعيل فولدت له الروم وكان به صفرة فقيل له الأصفر وقيل الصفرة كانت بأبيه العيص ، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وجدب في البلاد وشدة من الحر حين طابت ثمار المدينة وأينعت واستكملت ظلالها وطالت المسافة بينهم وبين العدو فشق عليهم الخروج فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال أيها المؤمنون : {مَا لَكُم} استفهام في اللفظ وإنكار وتوبيخ في المعنى {إِذَا قِيلَ لَكُمُ} من طرف رسول الله الآمر بأمر الله {انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (بيرون رويدد رراه خداى تعالى وجهاد كنيد) ومعناه بالعربية اخرجوا إلى الغزوة يقال نفر القوم ينفرون نفراً ونفيراً إذا خرجوا إلى مكان لمصلحة توجب الخروج والقوم الذين يخرجون يقال لهم النفير واستنفر الإمام الناس لجهاد العدو أي طلب منهم الخروج إلى الغزو وحثهم عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
{اثَّاقَلْتُمْ} أصله تثاقلتم وهو ماض لفظاً مضارع معنى لأنه حال من ما لكم.
{إِلَى الأرْضِ} متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد.
والمعنى : أيُّ سبب وغرض حصل لكم واستقر إذا قيل لكم ذلك كنتم متثاقلين ، أي : مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قريب وكرهتم مشاق السفر والجهاد المستتبعة للراحة الخالدة فالأرض هي الدنيا وشهواتها وقيل : ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم {أَرَضِيتُم} باستفهام التوبيخ (آيا راضي شديد وخوشدل كشتيد) {بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ولذاتها من الثمار والظلال.
{مِنَ الاخِرَةِ} أي : بدل الآخرة ونعيمها فكلمة من بمعنى البدل كما في قوله تعالى : {لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائكَةً} أي : بدلكم {فَمَا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} أي : فما التمتع بها وبلذائذها {فِى الاخِرَةِ} أي : في جنب الآخرة.
{إِلا قَلِيلٌ} أي : مستحقر لا يعتد به لأن متاع الدنيا فاننٍ معيوب ومتاع الآخرة باق مرغوب.
روي أنه عليه السلام قال : "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع".
{إِلا} كلمتان إن للشرط ولا للنفي أي : إن لم {تَنفِرُوا} تخرجوا إلى الغزو.
{يُعَذِّبُكُم} أي : الله تعالى {عَذَابًا أَلِيمًا} وجيعاً لأبدانكم وقلوبكم أي يهلككم بسبب فظيع كقحط وظهور عدو.
{وَيَسْتَبْدِلْ} بكم بعد إهلاككم {قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي : قوماً مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم كأهل اليمن وأبناء فارس.
{وَلا تَضُرُّوهُ} أي الله تعالى بترك الجهاد.
{شَيْـاًا} أي : لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلاً فإنه الغني عن كل شيء في كل شيء.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على إهلاككم والإتيان بقوم آخرين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
واعلم : أن البطالة تقسى القلب كما جاء في الحديث (زيرا مرد بايد بشغل معاد مشغول باشد يا بشغل معاش ازوجه مباح تا درشغل دين فضل وثواب مى ستاند ودرشغل معاش خانه را آبادان مى دارد س ون نه باين شغل مشغول شود ونه بآن بى كارماند وازبى كارى سياه دل وسخت طبع شود) فلا بد من الحركة فإن البركات في الحركات الحضرية والسفرية والسفر على نوعين سفر الدنيا وسفر الآخرة وفي كليهما مشقة وإن كان الثاني أشق ، وفي الحديث : "السفر قطعة من العذاب" (بعض مشايخ كفته اندكه اكر نه آنستى كه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نشايد كردانيدن
429(3/326)
من كفتمى السفر قطعة من السقر ويغمبر عليه السلام سفررا اره ازدوزخ كفت ازمرك نكفت زيراكه درمرك رنج تن باشد رنج دل نبود ودر سفر رنج دل وتن باشد وحجاج كفتى كه اكر نه شادى بخانه آمدن بودى كه مسافر ون بخانه رسد همه رنج سفر فراموش كند من مردمانرا نكشتمى بسفر عذاب دادمى) ومن سفر الدين الخروج إلى الغزو ، وفي الحديث : "لغدوة في سبيل الله" وهو الذهاب في أول النهار "أو روحة" وهو الذهاب في آخره "خير من الدنيا وما فيها" يعني : إن فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابهما خير من نعيم الدنيا باسرها لأنه زائل ونعيم الآخرة باق وحق الجهاد أن ينوي نصرة الدين بقهر أعداء الله وبذل النفوس في رضاه تعالى ويكثر ذكره تعالى ويكف عن ذكر النساء والأولاد والأموال والمواطن فهو يفتره فالجهاد بهذا الوجه أفضل الأعمال (على مرتضى رضي الله عنه كويدكه معصيت غازيان زيان ندارد طاعت سخن ينان سود ندارد ودعاى مخنث نشنوند ونماز خمر خواره نذيرند) فعلى المرء أن يغتنم أيام حياته ويجتهد في تحصيل مرضاة ربه ، وفي الحديث : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" شبه النبي عليه السلام المكلف بالتاجر والصحة والفراغ برأس المال لأنهما من أسباب الأرواح ومقدمات نيل النجاح فمن عامل الله تعالى بامتثال أوامره يربح كما قال تعالى : {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} (الصف : 10 ، 11) ومن عامل الشيطان باتباعه يضيع رأس ماله ولا ينفعه ندم باله وفي امتثال أمر الله عاقبة حميدة أذ رب شيء تكرهه النفس كالجهاد وهو عند الله محبوب فبترك الراحة واختيار المشقة ينال العبد أمانيه الدنيوية والأخروية والتوفيق إليه من الله تعالى وليس كل أحد من لا يبالي بانتقاص دنياه إذا كان التكامل في طرف دينه.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
حام راطاقت روانه رسوخته نيست
ناز كانرا نرسد شيوه جان افشاني
ثم اعلم أنه كما أن الله تعالى يستبدل بذوات ذواتاً أخر كذلك يستبدل بصفات صفات أخر فالذاهب خلف مشتهياته والتابع لهواه في كل حركاته وسكناته يهلك في وادي الطبيعة والنفس ولا يصل إلى مقامات رجال عالم القدس والأنس ولا يتفق له معهم الصحبة في مقالهم ومقامهم وحالهم إذ بينهما بون بعيد من حيث إن صفاته صفات النفس وأحواله أحوال الطبيعة وصفاتهم صفات الروح وأخلاقهم أخلاق الله ولذا يحشر كثير من الناس في صورة صفاته الغالبة المذمومة إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله ويكسوه كسوة الوجود الإنساني على الحقيقة.
{إِلا تَنصُرُوهُ} إن لم تنصروا محمداً في غزوة تبوك.
{فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} فسينصره الله كما نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي تسببوا لخروجه بأن هموا بقتله وإلا فهو عليه السلام إنما خرج بإذن الله تعالى وأمره لا بإخراج الكفرة إياه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من ضميره عليه السلام ، أي : أحد اثنين من غير اعتبار كونه عليه السلام ثانياً فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربع ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقاً لا الثالث والرابع خاصة والاثنان أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلّم {إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ} بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع والغار ثقب في أعلى ثور وثور جبل في يمنى مكة على مسير ساعة.
وقال في "التبيان" :
430
على فرسخين أو نحوهما.
وفي "القاموس" : ويقال له ثور اطحل واسم الجبل اطحل نزله ثور بن عبد مناة فنسب إليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
(3/327)
وفي "إنسان العيون" : وإنما قيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذي يحرث عليه.
وتحرير القصة إنه لما ابتلي المسلمون بأذى الكفار أذن صلى الله عليه وسلّم لهم في الهجرة وقال : "إني رأيت دار هجرتكم ذات نخيل بين لابتين" وهما الحرتان وقال : "إني لأرجو أن يؤذن لي في الهجرة إليها" فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال "نعم" فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه عند هجرته فلم يتخلف إلا هو وعليّ وصهيب ومن كان محبوساً أو مريضاً أو عاجزاً عن الخروج فابتاع أبو بكر بعد هذا المقال النبوي راحلتين بثمانمائة درهم فحبسهما في داره يعلفهما الخبط إعداداً لذلك ، والخبط محركة ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق أو غيره ويعجن بالماء فتوجره الإبل أي تأكله فكانتا عنده قريباً من ثلاثة أشهر ؛ لأن الهجرة كانت في ذي الحجة ومهاجرته عليه السلام كانت في ربيع الأول ، ولما رأت قريش قوة أمر رسول الله حيث بايعه الأوس والخزرج وصار له أنصار في القبائل والأقطار خافوا من أن يخرج ويجمع الناس على حربهم وقد وقعوا فيما خافوا منه ولو كان بعد حين ونعم ما قيل : "إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة.
فاجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره عليه السلام ودار الندوة هي أول دار بنيت بمكة كانت منزل قصي بن كلاب وكانت جهة الحجر عند مقام الحنفي الآن ، وكان لها باب للمسجد ، وقيل لها دار الندوة لاجتماع الندوة وهي الجماعة فيها ، وكان ذلك اليوم يسمي يوم الزحمة لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وغيرهم ممن لا يعد من قريش ولم يتخلف من أهل الرأي والحجى أحد وكانت مشاورتهم في يوم السبت فقد سئل صلى الله عليه وسلّم عن يوم السبت فقال : "يوم مكر وخديعة" قالوا ولِمَ يا رسول الله قال : "إن قريشاً أرادوا أن يمكروا فيه" وجاء إليهم إبليس في صورة شيخ نجدي وقال أنا من أهل نجد وإنما قال ذلك لأن قريشاً قالوا لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد فعند ذلك قالوا هو من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم وعند المشورة قال بعضهم بالحبس وبعضهم بالنفي كما بين في تفسير قوله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الأنفال : 30) في سورة الأنفال فمنعه إبليس واتفقت آراؤهم على قول أبي جهل وهو أن يخرجوا إليه من كل قبيلة من قريش شاباً جليداً ، أي : قوياً بسيف صارم ويقتلوه فيفرق دمه في القبائل بحيث لا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فيرضون بالدية واستحسن الشيخ النجدي هذا الرأي وتفرقوا عن تراض فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاه جبريل فأخبره بمكر قريش وأمره بمفارقة مضجعه تلك الليلة فلما علم ما يكون منهم قال لعلي رضي الله عنه "نم على فراشي واتشح بردائي هذا الحضرمي فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم" وكان عليه السلام يشهد العيدين في ذلك الرداء وكان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعين وشبراً وهل كان أخضر أو أحمر يدل للثاني قول جابر رضي الله عنه ، كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة".
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
وفي "سيرة الحافظ الدمياطي" : وارتد بردائي هذا الأحمر والحضرمي منسوب إلى حضرموت التي هي القبيلة أو البلدة باليمن كان عليه السلام يتسجى بذلك البرد عند نومه وإنما أمر علياً رضي الله عنه
431
أن يضطجع على فراشه ليمنعهم سواد عليّ عن طلبه حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر الله أن يبلغا إليه فلما مضى عتمة من الليل ، أي الثلث الأول منه اجتمعوا على باب رسول الله وكانوا مائة فجعلوا يتطلعون من شق الباب ويرصدون متى ينام فيثبون عليه فيقتلونه فخرج عليه السلام عليهم وهم ببابه وقرأ قوله تعالى : {يسا * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} (يس : 1 ، 2) إلى قوله : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يس : 9) فأخذ الله أبصارهم عنه عليه السلام فلم يبصروه حتى خرج من بينهم.
وعن النبي عليه السلام أنه ذكر في فضل يس أنها "إذا قرأها خائف أمن ، أو جائع شبع ، أو عار كسي أو عاطش سقي أو سقيم شفي" وعند خروجه عليه السلام أخذ حفنة من تراب فذرها عليهم فأتاهم آت فقال : ما تنتظرون؟ قالوا : محمداً ، قال قد خيبكم الله والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك رجلاً منكم إلا وضع على رأسه تراباً ، وانطلق لحاجته فما ترون ما بكم فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب فدخلوا على عليّ ، فقالوا له يا علي أين محمد؟ فقال : لا أدري أي ذهب وكان قد انطلق إلى بيت أبي بكر بإشارة جبرائيل عليه السلام فلما دخل عليه قال : "قد أذن لي في الخروج" فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبي أنت ، أي أسألك الصحبة قال : "نعم" فبكى أبو بكر سروراً ولله در القائل :
ورد الكتاب من الحبيب بأنه
سيزورني فاستعبرت أجفاني
هجم السرور عليّ حتى إنه
من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
(3/328)
تبكين من فرح ومن أحزان قال أبو بكر فخذ بأبي أنت إحدى راحلتي هاتين فإني أعددتهما للخروج فقال عليه السلام : "نعم بالثمن" وذلك لتكون هجرته عليه السلام إلى الله بنفسه وماله وإلا فقد أنفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله أكثر ماله.
فعن عائشة رضي الله عنها أربعين ألف درهم.
وفي رواية أربعين ألف دينار وهي الناقة القصوى أو الجدعاء وقد عاشت بعده عليه السلام وماتت في خلافة أبي بكر وأما ناقته عليه السلام العضباء فقد جاء أن ابنته فاطمة رضي الله عنها تحشر عليها ثم استأجر رسول الله وأبو بكر رجلاً من بني الدئل وهو عبد الله بن أريقط ليدلهما على الطريق للمدينة وكان على دين قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار جبل ثور بعد ثلاث ليال أن يأتي بالراحلتين صباح الليلة الثالثة فمكث عليه السلام في بيت أبي بكر إلى الليلة القابلة فخرجا إلى طرف الغار وجعل أبو بكر يمشي مرة أمام النبي ومرة خلفه فسأله رسول الله عن ذلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك لأكون فداءك فمشى عليه السلام ليلته على أطراف أصابعه ، أي لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله وفي رواية كانت قدما رسول الله قد قطرتا دماً ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك ولعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة ويدل عليه قوله : فمشى ليلته أو أنه عليه السلام ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عني فإني حنين أن تقتل على ظهري فأعذب فناداه جبل ثور إلي يا رسول الله وكان الغار معروفاً بالهوام فلما أراد رسول الله دخوله قال له أبو بكر : مكانك يا رسول حتى استبرىء الغار فدخل واستبرأه وجعل يسد الحجرة بثيابه خشية
432
أن يخرج منها شيء يؤذيه أي رسول الله فبقي جحر وكان فيه حية فوضع رضي الله عنه عقبه عليه ثم دخل رسول الله فجعلت تلك الحية تلسعه وصارت دموعه تتحدر فتفل رسول الله على محل اللدغة فذهب ما يجده وقال بعضهم والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المفضض على رؤوسهم تعظيماً للحية التي لدغت أبا بكر في الغار وذلك لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك الحية ولما دخل رسول الله وأبو بكر الغار أمر الله شجرة وهي التي يقال لها القتاد وقيل أم غيلان فنبتت في وجه الغار فسترته بفروعها ويقال إنه عليه السلام دعا تلك الليلة الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وإنها كانت مثل قامة الإنسان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
وقال الحدادي : وكان عليه السلام مر على ثمامة وهي شجرة صغيرة ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه فلما صار إلى باب الغار أمره أن يجعلها على باب الغار وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجاً متراكماً بعضه على بعض كنسج أربع سنين كما قال في القصيدة البردية.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
خير البرية لم تنسج ولم تحم
أي : ظنوا أن الحمام ما وكر وما باض على باب الغار الذي فيه خير البرية وظنوا أن العنكبوت لم تنسج ولم تحم أي لم تطف من حام حوله أي طاف ودار فهو من قبيل علفتها تبناً وماء بارداً.
وقال المولى الجامي :
شد دوسه تارى كه عنكبوت تنيد
بر دران غار برده دار محمد
وقد نسج العنكبوت أيضاً على نبي الله داود عليه السلام لما طلبه جالوت.
ونسج أيضاً على عورة سيدنا زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم جعفر الصادق وقد كان يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك صلبه عرياناً للخروج عليه وذلك في سنة ست وعشرين ومائة وأقام مصلوباً أربع سنين وقيل خمس سنين فلم تر عورته ، وقيل بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها ولا مانع من وجود الأمرين وكانوا عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التي عليها إلى أن صار وجهه إلى القبلة ثم أحرقوا خشبته وجسده رضي الله عنه قال العلماء ويكفي للعنكبوت شرفاً نسجها على الغار ونهى النبي عليه السلام يومئذٍ عن قتل العنكبوت وقال : "إنها جند من جنود الله تعالى".
قال في "المثنوي" :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حقنده كاه امتحان
وأما قوله عليه السلام : "العنكبوت شيطان فاقتلوه" وفي لفظ : "العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه" فإن صح فلعله صدر قبل وقعة الغار فهو منسوخ.
وعن علي "طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر هذا لا يقدح في شرفها".
(3/329)
وذكر في "حياة الحيوان" : أن ما تنسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها.
ومن خواصها أنها إذا وضع نسجها على الجراحة الطرية في ظاهر البدن حفظها بلا ورم ويقطع سيلان الدم إذ وضع عليه والعنكبوت التي تنسج على الكنيف إذا علقت على المحموم يبرأ قاله ابن زهير.
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وباضتا وبارك عليه السلام على الحمامتين وانحدرتا في الحرم وهل حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين أو لا ففيه اختلاف والظاهر أنه ليس من نسلهما لأنه
433
روي في قصة نوح عليه السلام أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض ووقعت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلها ثم جاءته فمسح عنقها وطوّقها طوقاً ووهب لها الحمرة في رجليها وأسكنها الحرم ودعا لها بالبركة.
وذكر أن حمام مكة أظلته عليه السلام يوم فتحها فدعا لها بالبركة.
وكان المسيح عليه السلام يقول لأصحابه إن استطعتم أن تكونوا بلهاً في الله مثل الحمام فافعلوا وكان يقال إنه ليس شيء أبله من الحمام إنك تأخذ فرخه من تحته فتذبحه ثم يعود إلى مكانه ذلك فيفرخ فيه ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو أرسل من ألف فرسخ يحمل الأخبار ويأتي بها من المسافة البعيدة في المدة القريبة كما قال في "المغرب" الحمام بأرض العراق والشام تشترى بأثمام غالية وترسل من الغايات البعيدة بكتب الأخبار فتؤديها وتعود بالأجوبة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
قال الجاحظ : لولا الحمام لما عرف بالبصرة ما حدث بالكوفة في بياض يوم واحد وإليه الإشارة في أشعار البلغاء.
كما قال المولى جلال الدين قدس سره في "المثنوي" :
رقعه كر بر رّ مرغى دوختي
رّ مرغ ازتفّ رقعه سوختى
قال السلطان سليم الأول ، يعني : فاتح مصر :
مرغ شم من كه روازش بجز سوى تونيست
بسته ام از اشك صد جانامه شوقش ببال
وقال في "حياة الحيوان" اتخاذ الحمام للبيض والفراخ وللأنس ولحمل الكتب جائز بلا كراهة وأما اللعب بها والتطيهر والمسابقة فقيل يجوز لأنه يحتاج إليها في الحرب لنقل الأخبار والأصح كراهيته فإن قامر بالحمام ردت شهادته.
ولما فقد المشركون رسول الله شق عليهم ذلك وخافوا وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة ، أي الذين يقفون الأثر في كل وجه ليقفوا أثره فوجد الذي ذهب إلى جبل ثور وهو علقمة بن كرز أسلم عام الفتح أثره انتهى إلى الغار فقال ههنا : انقطع الأثر ولا أدري أخذ يميناً أم شمالاً أم صعد الجبل وكان عليه السلام شثن الكفين والقدمين يقال شثنت كفه شثناً وشثونة خشنت وغلظت فهو شثن الأصابع بالفتح كذا في "القاموس" فأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أر بكم أي : حاجتكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد ولو دخل لما نسج ذلك العنكبوت وتكسر البيض وعند ما حاموا حول الغار حزن أبو بكر رضي الله عنه خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما قال تعالى : {إِذْ يَقُولُ} بدل ثاننٍ أو ظرف ثان والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم {لِصَـاحِبِهِ} وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولذلك قالوا من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى وكذا الروافض إذا كانوا يسبون الشيخين ، أي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويلعنونهما يكفرون وإذا كانوا يفضلون علياً عليهما يكونون مبتدعين والمبتدع صاحب الكبيرة والبدعة الكبيرة كما في "هدية المهديين" وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لجماعة أيكم يقرأ سورة التوبة قال رجل : أنا أقرأ فلما بلغ إلى قوله : {إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِهِ} الآية بكى رضي الله عنه وقال أنا والله صاحبه {لا تَحْزَنْ} ولم يقل لا تخف لأن حزنه على رسول الله يغفله عن حزنه
434
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
(3/330)
على نفسه ، وهذا النهي تأنيس وتبشير له كما في قوله تعالى له عليه السلام : {وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} (يونس : 65) وبه يرد ما زعمته الرافضة أن ذلك كان غضباً من أبي بكر وذماً له لأن حزنه إن كان طاعة فالنبي عليه السلام لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية كذا في "إنسان العيون" {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بالعون والعصمة والمراد بالمعية الولاية التي لا تحوم حولها شائبة من الحزن وما هو المشهور من اختصاص مع بالمتبوع فالمراد ما فيه المتبوعية في الأمر المباشر وتأمل الفرق بين قوله عليه السلام : {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وبين قول موسى عليه السلام {إِنَّ مَعِىَ رَبِّى} كيف تجده دقيقاً والله الهادي.
روي أن المشركين لما طلعوا فوق الغار وعلوا على رؤوسهما أشفق أبو بكر على رسول الله عليه السلام فقال عليه السلام : "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه وذكر أن أبا بكر لما قال للنبي عليه السلام لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا قال له النبي عليه السلام : "لو جاؤونا من ههنا لذهبنا من ههنا" فنظر الصديق إلى الغار فإذا هو قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه.
قال ابن كثير ، هذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة.
وفي الآية : دلالة عل علو طبقة الصديق وسابقة صحبته وهو ثاني رسول الله في عالم الأرواح حين خرج من العدم وثانيه حين خرج مهاجراً وثانيه في الغار وثانيه في الخلافة وثانيه في القبر بعد وفاته وثانيه في انشقاق الأرض عنه يوم البعث وثانيه في دخول الجنة كما قال عليه السلام : "أما إنك يا أبا بكر أول من دخل الجنة من أمتي" وقال أيضاً : "ألا أبشرك" قال بلى بأبي أنت وأمي قال : "إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة ويتجلى لك خاصة" وروي أن أبا بكر عطش في الغار فقال عليه السلام : "اذهب إلى صدر الغار فاشرب فانطلق أبو بكر إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك فشرب منه فقال عليه السلام : "إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب يا أبا بكر" قال أبو بكر يا رسول الله ولي عند الله هذه المنزلة فقال عليه السلام : "نعم وأفضل والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبياً" {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أمنته التي تسكن عندها القلوب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
وقال الكاشفي : (رحمت خودراكه سبب آرامش است) {عَلَيْهِ} أي : على النبي عليه السلام فالمراد بها ما لا يحوم حوله شائبة الخوف أصلاً أو على صاحبه وهو الأظهر إذ هو المنزعج وكان رسول الله ساكناً وعلى طمأنينة من أمره وإليه أشار الشيخ فريد الدين العطار قدس سره :
خواجه اول كه اول يار اوست
ثاني اثنين إذ هما في الغار اوست
ون سكينه شد زحق منزل برو
كشت مشكلهاى عالم حل برو
وقال سعدي لبى المفتي في "حواشيه" : بل الأول هو الأظهر المناسب للمقام وإنزال السكينة لا يلزم أن يكون لرفع الانزعاج بل قد يكون لدفعه كما سبق في قصة حنين والفاء للتعقيب الذكرى انتهى.
وفي مصحف حفصة : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ} أي قوّى النبي عليه السلام {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين ليعينوه على العدو
435
والجملة معطوفة على نصره الله.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} يعني : جعل الله الشرك مقهوراً مغلوباً أبداً إلى يوم القيامة أودعوتهم إلى الكفر.
يعني (دعوت كفرراكه ازايشان صادر مى شد خوار وبيمقدار ساخت) {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} أي : التوحيد أو الدعوة إلى الإسلام وهي بالرفع على الابتداء {هِىَ} ضمير فصل لدفع توهم أنه قد يفوق غير كلمة الله {الْعُلْيَا} إلى يوم القيامة وهو خبر المبتدأ وجعل الله ذلك بأن أخرج رسوله من بين الكفر.
وقرأ يعقوب كلمة الله بالنصب عطفاً عل كلمة الذين هو ضعيف لأنه يشعر بأن كلمة الله كانت سفلى ثم صارت عليا وليس كذلك بل هي عالية في نفسها أبداً.
وفي "مناظرات المكي" لو قال أحد وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله وقطع ولم يقل وكلمة الله هي العليا كان كافراً إن كان عمداً {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} (وخداى تعالى عاليست عزيز كند اهل توحيدرا) {حَكِيمٌ} في أمره وتدبيره وحكمه.
قال الكاشفي : (داناست خوارساز داهل كفررا ومقصودازايراد قصه غاردراثناى امر بغزوه تبوك آنست كه اكرشما أي كارهان جهاديارى نكنيد يغمبرا مرا من اورا يارى كنم نانه درآن محل كه با او يك كس بيش نبود تمام صناديد قريش بقصد او برخواسته بودند من اورا يارى كردم وازميان دشمنانش بسلامت بيرون آوردم س مفتاح نصرت بقبضه منست.
وما النصر إلا من عند الله) :
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
يا رى از من و نه ازخيل وساه
راز بامن كوى نه بامير وشاه
(3/331)
هركرا يارى كنم برتر شود
هركرا دور افكنم ابتر شود
وتمام القصة إنه لما انصرف قريش من الغار وأيسوا منهما أرسلوا لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة
436
ناقة ، وفي رواية مائتان ومكثا في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام يعرف يأيتهما حين يختلط الظلام ويخبرهما بما وعاه من أخبار أهل مكة ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش بمكة كبائت في بيته وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى لأبي بكر أغناماً له نهاره ، ثم يروح عليهما فيحلبها لهما وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما إذا أمست بطعامهما وشرابهما فلما طلع صبح الليلة الثالثة أتى الدليل بالراحلتين فركباهما وانطلقا نحو المدينة وانطلق معهما عامر بن فهيرة رديفاً لأبي بكر وأنزل الله عليه {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَـانًا نَّصِيرًا} (الإسراء : 80).
قال زيد بن أسلم : جعل الله له مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطاناً نصيراً الأنصار رضي الله عنهم ، ولما خرج من مكة التفت إليها وبكى وقال : "إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله وأكرمها على الله ولولا أن أخرجوني ما خرجت" وهو يدل على أن مكة أفضل من سائر البلاد ، وفي الحديث : "من صبر على حر مكة ساعة من نهار ، تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام والحسنة فيها بمائة ألف حسنة" والكلام في غير ما ضم أعضاءه الشريفة من أرض المدينة وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع حتى من العرش والكرسي.
ذكر أن الطوفان موّج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة فهي من جملة أرض مكة ولما سمع سراقة بن مالك بن جعشم الكناني أن الكفار جعلوا فيهما إن قتلا أو أسرا مائة ناقة ركب خلفهما حتى أدركهما في طريق الساحل فصاح وقال يا محمد من يمنعك مني اليوم فقال عليه السلام : "يمنعني الجبار الواحد القهار" ونزل جبريل وقال يا محمد إن الله يقول لك قد جعلت الأرض مطيعة لك فائمرها بما شئت فقال عليه السلام : "يا أرض خذيه" فأخذت أرجل جواده إلى الركب فقال يا محمد الأمان فقال عليه السلام : "يا أرض أطلقيه" فاطلقته يقال عاهد سبع مرات ثم نكث العهد وكلما نكث تغوص قوائم فرسه في الأرض وفي السابعة تاب توبة صدق ورجع إلى مكة وصار لا يرى واحداً من طلابه عليه السلام إلا رده يقول اختبرت الطريق فلم أر أحداً وقصة نزوله المدينة مذكورة في السير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 428
{انْفِرُوا} أي : اخرجوا أيها المؤمنون مع النبي عليه السلام إلى غزوة تبوك.
قال "تاج المصادر" : النفير والنفور (بسفر بيرون شدن) {خِفَافًا وَثِقَالا} جمع خفيف وثقيل أي حال كونكم شباناً وشيوخاً أو فقراء وأغنياء أو ركباناً ومشاة أو أصحاء ومرضى أو عزباً أو متأهلين أو خفافاً مسرعين خارجين ساعة استماع النفير وثقالاً بعد التروية فيه والاستعداد له أو مقلين من السلاح ومكثرين منه أو نشاطاً وغير نشاط ، أي خفت عليكم الحركة أو ثقلت أو مشاغيل وغير مشاغيل أو مهازيل وسماناً أو أقوياء وضعفاء يا غربيان وكدخدايان كما في "الكاشفي" وهذا ليس لتخصيص الأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي.
قال المولى أبو السعود : أي على أي حال كان من يسر أو عسر بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدة الأسباب وعدمها بعد الإمكان والقدرة في جملة.
وعن ابن أم مكتوم أعليّ أن أنفر؟ فقال عليه السلام : "نعم" فرجع إلى أهله فلبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ} (النور : 61) وعن ابن عباس رضي الله عنهما نسخت بقوله تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} (التوبة : 91) الآية (سلمى يميكويدسبك روحان بارتكاب طاعات وكران باران ازمباشرت مخالفات.
أمام قشيري ميفرما يدكه خفاف آنانندكه از بند شهود ما سوى آزادند وثقال ايشانندكه بقيد تعلقات مقيدانند) وفي "بحر الحقائق" انفروا أيها الطلاب في طلب الحق خفافاً مجردين عن علائق الأولاد والأهالي منقطعين عن عوائق الأموال والأملاك وثقالاً متمولين ومتأهلين وأيضاً خفافاً مجذوبين بالعناية وثقالاً سالكين بالهداية (يعني خفاف مجذوبا نند از كشش عنايت براه سلوك در آمده وثقال سالكا نندكه برورش متوجه جذبه حقاني شده هرد وطائفه درراهند أما يكي ببال كشش مى رد ويكى باى كوشش راه ميبرد آنكه باميره د درهر قدمى عالمي زير اميكند وآنكه ببال إقبال مى رديدم بساط مشاهده ما سوى را طى مي كند).
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
مرد عارف ون بدان رمى رد
در دمى از نه فلك مى بكذرد
سير زاهد در دمى يك روزه راه
سير عارف هر زمان تا تخت شاه
(3/332)
{وَجَـاهَدُوا} (وجهاد كنيد) والجهاد في الاصطلاح قتال الكفار لتقوية الدين كما في "شرح الترغيب المنذري" وهو المراد بما في "خالصة الحقائق" نقلاً عن "أهل الحكمة" الجهاد بذل المجهود وقتال المتمردين حملاً لهم على الإسلام ومنعاً لهم عن عبادة الأصنام.
واعلم : أن الجهاد لا ينافي كونه عليه السلام نبي الرحمة وذلك أنه مأمور بالجهاد مع من خالفه من الأمم
437
بالسيف ليرتدعوا عن الكفر وقد كان عذاب الأمم المتقدمة عند مخالفة أنبياءهم بالهلاك والاستئصال فأما هذه الأمة فلم يعاجلوا بذلك كرامة لنبيهم عليه السلام ولكن يجاهدوا بالسيف وله بقية بخلاف العذاب المنزل وقد روي أن قوماً من العرب قالوا يا رسول الله أفنانا السيف فقال : "ذلك أبقى لآخركم" كذا في "أبكار الأفكار" {بِأَمْوَالِكُم} (بما لهاى خودكه تهيه زاد وسلاح كنيد) {وَأَنفُسَكُمْ} (وبنفسهاى خود كه مباشر كار زار كرديد) فهو إيجاب للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانه وإعواز الآخر حتى أن من ساعده النفس والمال يجاهد بهما ومن ساعده المال دون النفس يغزى مكانه من حاله على عكس حاله.
وفي "التأويلات النجمية" وإنما قدم إنفاق المال في طلب الحق على بذل النفس لأن بذل النفس مع بقاء الصفات الذميمة غير معتبر وهي الحرص على الدنيا والبخل بها فأشار بإنفاق المال إلى ترك الدنيا وفي الحديث : "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم" قوله تعس بفتح العين وكسرها عثر أو هلك أو لزمه الشر أو سقط لوجهه أو انتكب وهو دعاء عليه أي أتعسه الله وإنما دعا عليه السلام على عبد الدينار والدراهم لأنه حرص على تحصيل المال من الحرام والحلال وبخل بالإنفاق في سبيل الملك الخلاق فوقف على متاع الدنيا الفاني وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي.
قال السلطان ولد قدس سره :
بكذار جهان راكه جهان آن تونيست
وين دم كه همي زنى بفرمان تونيست
كرمال جهان جمع كنى شاد مشو
ورتكيه بجان كنى جان آن تو نيست
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هذا اللفظ عام يقع على كل عمل خالصتعالى سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع الطاعات وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه كما في "شرح الترغيب".
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
يقول الفقير : فمعنى في سبيل الله ، أي في الطريق الموصل إلى الجنة والقربة والرضى وهو أن لا يكون بهوى وغرض وإن كان حصول الجنة كما في "المفاتيح" حكي أنه كتب واحد إلى يوسف بن أسباط وهو من متقدمي الصوفية إن نفسي تنازعني إلى الغزو فما تقول فيه فكتب في الجواب لأن ترد نفسك عن هواها خير من أن تقتل أو تقتل في المعركة.
وحكي أنه لما دنا قتيبة بن مسلم من بلدة بخارى ليفتحها فانتهى إلى جيحون أخذ الكفار السفن حتى لا يعبر جيش المسلمين عليها فقال قتيبة اللهم إن كنت تعلم أني ما خرجت إلا للجهاد في سبيلك ولإعزاز دينك ولوجهك فلا تغرقني في هذا البحر وإن خرجت لغير هذا فأغرقني في هذا البحر ثم أرسل دابته في جيحون فعبره مع أصحابه بإذن الله.
روي أن بعضهم رأى إبليس في صورة شخص يعرفه وهو ناحل الجسم مصفر اللون باكي العين محقوقف الظهر فقال له ما الذي أنحل جسمك قال صهيل الخيل في سبيل الله ولو كان في سبيلي لكان أحب إليّ فقال له فما الذي غير لونك فقال تعاون الجماعة على الطاعة ولو تعاونوا على المعصية لكان أحب إليّ قال فما الذي أبكى عينك قال خروج الحاج إليه لا بتجارة أقول قد قصدوه وأخاف أن لا يخيبهم فيحزنني ذلك وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد يرفعه قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله : "مؤمن مجاهد بنفسه وماله" قالوا ثم من قال : "مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره" {ذَالِكُمْ} أي : ما ذكر
438
من النفير والجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من القعود وترك الإمداد.
فإن قيل : ما معنى كون الجهاد خيراً من تركه والحال إنه لا خير في تركه.
أجيب بأن معناه أن ما يستفاد من الجهاد من ثواب الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة وسعة العيش والتنعم بهما كما قال في "البحر" الخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله تعالى.
قال سعد لبى : وفي الترك خير دنيوي فيه الراحة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير علمتم أنه خير لأن فيه استجلاب خير الدنيا وخير الآخرة وفي خلافه مفاسد ظاهرة.
وفي "بحر الحقائق" : ترك الدنيا وبذل النفس خير لكم في طلب الحق من المال والنفس.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} قدر طلب الحق وعزة السير إليه فإن الحاصل من المال والنفس الوزر والوبال والحاصل من الطلب الوصول والوصال انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
(3/333)
قال في "زبدة التفاسير" : عن أنس رضي الله عنه إن أبا طلحة رضي الله عنه قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فقال : أي بني جهزوني فقال بنوه رحمك الله قد غزوت مع النبي عليه السلام حتى مات ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى ماتا فنحن نغزو عنك فقال لا جهزوني فغزا بحراً فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ولم يتغير.
يقول الفقير : وذلك لأن أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء لا تبلى ولا تتغير لما أن الله تعالى قد نقى أبدانهم من العفونة الموجبة للتفسخ وبركة الروح المقدس إلى البدن كالأكسير ، ثم إن الناس صنفان أرباب رخصة وأصحاب عزيمة ولله در أصحاب العزيمة في مسابقتهم ومسارعتهم فعليك بطريقتهم وسيرتهم.
وهذه الآية الكريمة متعلقة بمرتبة النفس وإصلاحها فإن النفس مجبولة على حب المال وفي بذله تزكيتها عن هذه الرذيلة ، فمن علم أن الغنى والفقر من الله تعالى وآمن بالقدر إيمانياً عيانياً هان عليه البذل ولم يبق عنده مقدار للمال كما أن من علم أن الموت بالأجل وأن المرء لا يموت قبل حلول ذلك الأجل لا يفر من محاربة العدو وحفظ المال وإمساكه إنما يحسن لأجل الإنفاق وقت الحاجة وإلا فكنزه مذموم (كو يندكه نافع مولاى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كه اسناد امام شافعي بوددروقت مردن كفت اين جايكه را بكنيد بكندند بيست هزار درم درسبويى بديد آمد كفت آنكاه كه ازجنازه من باز آمده باشيد بدرويش دهيد اوراكفتند يا شيخ ون توكسى درم نهد كفت بحق اين وقت تنك كه زكاة وى بركردن من نيست وهر كزعيالان خودرا بسختى نداشتم لكن هركاه كه مرا آرزويى بودمى آنه بدان آرزو بايستى دادن درسبو افكندمى تا كر مرا سختى يش آيد بدر سفله نبايد رفتن) كذا في "شرح الشهاب".
وفي هذه الحكاية أمور : الأول : إن من كان إماماً للناس ومقتدى في الدين لا ينبغي له أن يدخر ويكنز المال طمعاً وحرصاً لأن الناس على دين ملوكهم وقد قيل : (شيخ ون مائل بمال آيد مريداو مباش مائل دينار هركز مالك ديدار نيست) ، والثاني : إن من غلبت عليه شهوته فمنع طبيعته عن مقتضاها بإمساك ماله عن الصرف لها رجاء بذله لخير منه فقد جاهد مع نفسه وطبيعته أما مع نفسه فلأنه ما كتم المال لأجل الكنز بل لأجل البذل لأنفع شيء في وقت مّا.
وأما مع طبيعته فلأنه منعها من مقتضاها وراضها ومثل هذا هو الجهاد الأكبر.
والثالث : إن عرض الاحتياج على اللئيم ملوم مذموم شرعاً وطريقة ولذا من جاع
439
واحتاج فكتمه عن الناس وأقبل إلى الله تعالى كان على الله أن يفتح له رزق سنة والشكاية من الحبيب إلى الحبيب عين التوحيد وإلى غيره شرك تعلق به الوعيد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
(3/334)
فعلى العاقل أن يختار طريق أصحاب الصفة فإنهم كانوا مع الحق وفي معاونته دائماً ببذل أموالهم إن منحوا وأنفسهم إن منعوا لأن ما لا يترك كله فكل مأمور بمقدار طاقته وليست الطاعة إلا بقدر الطاقة هذا هو اللائح بالبال ، والله أعلم بحقيقة الحال نسأل الله سبحانه إن يوفقنا لبذل المجهود وترك ملاحظة المفقود ويوصلنا إلى جنابه إنه هو المروم والمقصود.
{لَّوْ كَانَ} (آورده اندكه ون حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مردمانرا بغزوه تبوك أشارت فرمود ايشان سه فرقه شدند.
جمعي مسارعت نمودند وفرمانرا بسمع اطاعت شنودندو آن اكابر مهاجرين وأنصار بودند.
وبعضي ضعفاء مؤمنا نراكران آمد فرمان خدا وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم برهواى نفس اختيار كردند.
وبرخى دستورى اقامت وتخلف طلبيدند وآنها منافقان بودند ودرشان ايشان نازل شدكه) لو كان يا محمد ما دعوتهم إليه فاسم كان محذوف دل عليه ما قبله.
{عَرَضًا قَرِيبًا} العرض ما عرض لك من نافع الدنيا أي غنماً سهل المأخذ قريب المنال.
{وَسَفَرًا قَاصِدًا} ذا قصد وتوسط بين القريب والبعيد ففاعل بمعنى ذي قصد كلابن وتامر بمعنى ذي لبن وذي تمر وسمي السفر سفراً لأنه يسفر أي يكشف عن أخلاق الرجال {اتَّبَعُوكَ} في الخروج طمعاً في المال وتعليق الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط {وَلَـاكِنا بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي المسافة الشاقة التي تقطع بمشقة.
{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} السين للاستقبال أي سيحلف المتخلفون عن الغزو إذا رجعتم إليهم من غزوة تبوك وقد صنع كما أخبر فهو من جملة المعجزات النبوية.
{لَوِ اسْتَطَعْنَا} أي : قائلين لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتهما جميعاً {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي : إلى الغزاة ، فقوله (بالله) متعلق بسيحلفون.
وقوله (لخرجنا) ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعاً ؛ لأن قولهم لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا فيكون بالله قسماً.
{يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع" جمع بلقع وبلقعة وهي الأرض القفر التي لا شيء بها والمرأة البلقعة الخالية من الخير يعني من حلف عمداً كذباً لأجل الدنيا وزيادة المال وبقاء الجاه فقد تعرض لزوال ما في يده من المال والجاه وبزواله يفتقر وتخرب داره من البركة وفي الحديث : "اليمين الكاذبة منفقة للسلعة" أي سبب لنفاقها ورواجها في ظن الحالف "ممحقة للكسب" أي : سبب لمحق بركة المكسوب وذهابها إما بتلف يلحقه في ماله أو بإنفاقه في غير ما يعود نفعه إليه في العاجل أو ثوابه في الآجل أو بقي عنده وحرم نفعه أو ورثه من لا يحمده.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} أي : في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمناً من انتفاء تحقيق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا.
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} لام لم ولام لهم متعلقتان بالإذن لاختلافهما في المعنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع المستأذنين أي لأي سبب أذنت لهم في التخلف حين اعتلوا بعللهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
واعلم أن قوله تعالى : {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا اتَّبَعُوكَ} (الفتح : 2) وقوله لم أذنت لهم ما كان على وجه العتاب حقيقة بل كان على إظهار لطفه به وكمال رأفته في حقه كما في "التأويلات النجمية".
قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت كما في "الإرشاد".
ويجوز أن يكون إنشاء كما قال الكاشفي في "تفسيره" {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} أي : فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن أو من جهتهما معاً.
{وَتَعْلَمَ الْكَـاذِبِينَ} في ذلك فتعامل كلاً من الفريقين بما يستحقه وهو بيان لذلك الأولى والأفضل ، و(حتى) متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام تقديره لم سارعت إلى الأذن لهم وهلا أخرتهم وتأنيث إلى أن يتبين الأمر وينجلي أو ليتبين كما هو قضية الجزم فحتى بمعنى إلى أو بمعنى اللام ولا يجوز أن يتعلق بأذنت لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية أو لأجل التبين وهذا لا يعاتب عليه.
واعلم أن الآية الأولى أشارت إلى أن من كان مطلوبه الدنيا وزينتها يجد له مساعداً ومصاحباً كثيراً ومن كان مطلوبه الحق والوصول إليه لا يجد له مرافقاً وموافقاً إلا أقل من القليل لصعوبة الانقطاع عن الحظوظ والأماني.
وفي "المثنوي" :
حفت الجنة بمكروهاتنا
حفت النيران من شهواتنا
(3/335)
يعني : جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكروهة لنا وجعلت النار محاطة بالأمور التي كانت محبوبة لنا وإتيان الحظوظ أسهل من تركها ولذا ترى الرجل يدخل النار بألف درهم ولا يدخل الجنة بدرهم واحد.
والآية الأخيرة أفادت التحري والتأني في الأمور وفي حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي أوصني فقال النبي عليه السلام : "خذ الأمر بالتدبر فإن رأيت في عاقبته خيراً فأمضه وإن خفت غياً فأمسك" والعجلة صفة من صفات الشيطان.
روي أنه لما رأى خلقة آدم من الطين قبل أن ينفخ فيه الروح عجل في أمره وقال وعزة ربي إن جعل هذا خيراً وفضله علي فلا أطيعه وإن جعلني خيراً منه لأهلكنه فلما نفخ فيه الروح وأمر الملائكة
441
وإبليس بالسجود له عجل إبليس بالإباء لإظهار العداوة والسعي في هلاكه على ما عزم عليه أولاً ولم يتأن وينظر في أمره.
وأما التأني فمن أوصاف الرحمن ولذا خلق السموات والأرض في ستة أيام وإن كان قادراً على أن يخلقها في مقدار طرفة عين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
فعلى العاقل العمل بالتأني والأفضل والجهاد إلى آخر العمر وحلول الأجل كيلا يكون من المتخلفين.
قال شقيق : إن الله تعالى أظهر هذا الدين وجعل عزه في الجهاد فمن أخذ منه حظه في زمانه كان كمن شاهده كله وشارك من مضى قبله من الغزاة ومن تبطأ عنه في زمانه فقد شارك المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أثمهم وعارهم والتبطؤ والتخلف إنما هو من الكل الطبيعي البدني ومن كان له حظ روحاني يجد في نفسه المسارعة إلى الخيرات.
وفي "المثنوي" :
هر كرانى وكسل خود ازتنست
جان زخفت جمله درر يدنست
اللهم اعصمنا من الكسل في باب الدين وأعنا إنك أنت المعين.
{لا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} في {أَن يُجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} وإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان مظنة للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم وعلة عدم الاستئذان الإيمان كما أن علة الاستئذان عدم الإيمان بناء على قاعدة أن تعليق الحكم بالوصف يشعر بعلية الوصف له.
{وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ} شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين وعدة لهم بإجزال الثواب وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى.
{إِنَّمَا يَسْتَـاْذِنُكَ} في التخلف {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} قال في "التبيان" كان الاستئذان في ذلك الوقت علامة النفاق ، قيل كانوا تسعة وثلاثين رجلاً.
{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} عطف على الصلة والماضي للدلالة على تحقق الريب والريب شك مع اضطراب القلب ودل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن.
{فَهُمْ} حال كونهم {فِى رَيْبِهِمْ} وشكهم المستقر في قلوبهم {يَتَرَدَّدُونَ} أي يتحيرون فإن التردد (ديدن المتحير) كما أن الثبات (ديدن المستبصر).
جزء : 3 رقم الصفحة : 437
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} يدل على أن بعضهم قالوا عند الاعتذار كنا نريد الخروج لكن لم نتهيأ له وقد قرب الرحيل بحيث لا يمكننا فكذبهم الله وقال لو أرادوا الخروج معك إلى العدو في غزوة تبوك.
{لاعَدُّوا لَهُ} أي : للخروج في وقته {عِدَّةَ} أي : أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وغير ذلك مما لا بد منه للسفر {وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ} ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره نهوضهم للخروج لما فيه من المفاسد الآتية.
والانبعاث (برانكيخته شدن) كما في "التاج" فلكن للاستدراك من المقدم.
وفي "حواشي سعدى لبى" : الظاهر أن لكن ههنا للتأكيد انتهى {فَثَبَّطَهُمْ} أي حبسهم بالجبن والكل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له والتثبيط صرف الإنسان عن الفعل الذي يهم به {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ} الذين شأنهم القعود وملازمة البيوت وهم الزمنى والمرضى والعميان والنساء والصبيان ففيه ذم لهم وظاهره يخالف قوله تعالى : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فلذا حملوه على التمثيل بأن يشبه إلقاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج بأمر آمر أمرهم بالقعود ثم بين سر كراهته تعالى لانبعاثهم فقال :
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم} (درميان شما) أي مخالطين لكم {مَّا زَادُوكُمْ} أي : ما أورثوكم شيئاً من الأشياء.
442
{إِلا خَبَالا} أي : فساداً وشراً كالتجبين وتهويل أمر الكفار والسعي للمؤمنين بالنميمة وإفساد ذات البين وإغراء بعضهم على بعض وتحسين الأمر لبعضهم وتقبيحه للبعض الآخر ليتخلفوا وتفترق كلمتهم فهو استثناء مفرغ من أعم العام الذي هو الشيء فلا يلزم أن يكون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبال وفساد ويزيد المنافقون ذلك الفساد بخروجهم فيما بينهم لأن الزيادة المستثناة إنما هي الزيادة بالنسبة إلى أعم العام لا بالنسبة إلى ما كان فيهم من القبائح والمنكرات.
(3/336)
جزء : 3 رقم الصفحة : 442
وفي "البحر" : قد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ولهم لا شك خبال فلو خرج هؤلاء لالتأموا فزاد الخبال انتهى {وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ} أي لسعوا بينكم وأسرعوا بإلقاء ما يهيج العداوة أو ما يؤدي إلى الانهزام ، والإيضاع تهييج المركوب وحمله على الإسراع من قولهم وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا إذا حملته على الإسراع.
والمعنى لأوضعوا ركائبهم بينكم على حذف المفعول ، والمراد به المبالغة في الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي ، والخلال جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين وهو بمعنى بينكم منصوب على أنه ظرف أوضعوا.
{يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} حال من فاعل أوضعوا ، أي حال كونهم باغين أي طالبين الفتنة لكم وهي افتراق الكلمة {وَفِيكُمْ} (ودرميان شما) {سَمَّـاعُونَ لَهُمْ} أي : نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم فاللام للتعليل أوفيكم قوم ضعفة يسمعون للمنافقين أي يطيعونهم فاللام لتقوية العمل لكون العامل فرعاً كقوله تعالى : {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود : 107) {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرهم وما فعلوا فيما مضى وما يأتي منهم فيما سيأتي وهو شامل للفريقين السماعين والقاعدين.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا} أي : طلب هؤلاء المنافقون {الْفِتْنَةِ} تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك {مِن قَبْلُ} أي قبل غزوة تبوك يعني يوم أحد فإن أبياً انصرف يوم أحد مع ثلاثمائة من أصحابه وبقي النبي عليه السلام مع سبعمائة من خلص المؤمنين ، وقد تخلف بمن معه عن تبوك أيضاً بعد ما خرج النبي عليه السلام إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع ، وكذا ابتغوا الفتنة في حرب الخندق حيث قالوا يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ، وفي ليلة العقبة أيضاً حيث ألقوا شيئاً بين قوائم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالليل حتى تنفر وتلقى النبي عليه السلام عن ظهرها ، وأيضاً وقف اثنا عشر رجلاً من المنافقين على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا به عليه السلام فأخبره الله بذلك وسلمه منهم ، والفتك : أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل حتى يشد عليه فيقتله.
{وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ} تقليب الأمر تصريفه من وجه إلى وجه وترديده لأجل التدبير والاجتهاد في المكر والحيلة يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل حول قلب ، أي اجتهدوا ودبروا لك الحيل والمكايد ورددوا الآراء في إبطال أمرك.
{حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ} أي : النصر والتأييد الإلهي.
{وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} غلب دينه وعلا شرفه {وَهُمْ كَـارِهُونَ} والحال إنهم كارهون لذلك أي على رغم منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 442
وقال الكاشفي : (وايشان ناخواها نند نصرت ودولت ترا اما ون خداى تعالى مى خواهد كراهت ايشانرا اثرى نيست).
ون ترا اندر حريم قرب خودره داده شاه
ازنفير رده دار وطعن دربان غم مخور
443
انظر إلى ما في هذه الآيات من تقبيح حال المنافقين وتسلية رسول الله والمؤمنين وبيان كون العاقبة للمتقين ولن يزال الناس مختلطاً مخلصهم بمنافقهم من ذلك الوقت إلى هذا الحين لكن من كان له نية صادقة صالحة يختار فراق أهل الهوى والرياء أجمعين ؛ لأن صحبة غير الجنس لا تزيد إلا تشويشاً وتفرقة في باب الدين وكسلاً في عزيمة أهل اليقين فاجهد أن لا ترى الأضداد ولا تجاورهم فكيف أن تعاشرهم وتخالطهم يا مسكين.
وفي "المثنوي" :
ون ببندى توسر كوزه تهى
درميان حوض وياجوئي نهىتاقيامت او فرو نايد ببست
كه دلش خاليست دروى بادهست
ميل بادش ون سوى بالابود
ظرف خودرا هم سوى بالا كشد
باز آن جانهاكه جنس انبياست
سوى ايشان كش كشان ون سايه هاست
جان هانان جاذب قبطى شده
جان موى جاذب سبطى شدهمعده خركه كشد در اجتذاب
معده آدم جذوب كندم آب
ثم في قوله تعالى : {وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـاعُونَ لَهُمْ} ذم للنمام والنميمة وهي كشف ما يكره كشفه يقال إن ثلث عذاب القبر من النميمة.
قال عبد الله بن المبارك ولد الزنى لا يكتم الحديث.
(3/337)
قال الإمام الغزالي : أشار به إلى أن كل من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة دل على أنه ولد الزنى وفي حديث المعراج "قلت لمالك أرني جهنم ، فقال : لا تطيق على ذلك ، فقلت مثل سم الخياط فقال : انظر ، فنظرت فرأيت قوماً على صورة القردة قال هم القتاتون" أي : النمامون وفرق بعضهم بين القتات والنمام بأن النمام هو الذي يتحدث مع القوم والقتات هو الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم كذا في "شرح المصابيح" روي أن الحسن البصري جاء إليه رجل بالنميمة ، وقال : إن فلاناً وقع فيك ، فقال له الحسن : متى قال؟ قال اليوم قال أين رأيته قال في منزله قال ما كنت تصنع في منزله قال كانت له ضيافة قال ماذا أكلت في منزله ، قال كيت وكيت حتى عدد ثمانية ألوان من الطعام ، فقال الحسن : يا هذا قد وسع بطنك ثمانية ألوان من الطعام ألا وسع حديثا واحداً قم من عندي يا فاسق.
وفيه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بصداقته.
وذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه وأخبره بخبر عن غيره فقال له الحكيم قد أبطأت في الزيارة وأتيتني بثلاث جنايات بغضت إليّ أخي وشغلت قلبي الفارغ واتهمت نفسك الأمينة كذا في "الروضة" و"الأحياء" وهذا عادة الإخوان خصوصاً في هذا الزمان سامحهم الله الملك الديان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 442
فعلى العاقل حفظ اللسان وحفظ الجوارح من مساوىء الكلام وأنواع الآثام فإن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 442
{وَمِنْهُمُ} أي من المنافقين.
{مَن يَقُولُ} لك يا محمد.
{ائْذَن لِّي} في القعود عن غزوة تبوك {وَلا تَفْتِنِّى} من فتنه يفتنه أوقعه في الفتنة كفتنه وافتتنه يلزم ويتعدى كما قال في "تاج المصادر" الفتون والفتن (دوفتنه افكندن وفتنه شدن) والمعنى لا توقعني في الفتنة وهي المعصية والإثم يريد إني متخلف لا محالة أذنت أو لم تأذن فائذن لي حتى لا أقع في المعصية بالمخالفة أو لا تلقني في الهلكة فإني إن خرجت
444
معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم.
{إِلا} (بدانكه) {فِى الْفِتْنَةِ} أي : في عينها ونفسها وأكمل أفرادها.
{سَقَطُوا} لا في شيء مغاير لها وهي فتنة التخلف ومخالفة الرسول وظهور النفاق.
يعني إنهم وقعوا فيما زعموا أنهم محترزون عنه فالفتنة هي التي سقطوا فيها لا ما احترزوا عنه من كونهم مأمورين بالخروج إلى غزوة تبوك.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُا بِالْكَـافِرِينَ} معطوف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه أي جامعة للمنافقين وغيرهم من الكفار يوم القيامة من كل جانب ، أي : إنهم يدخلون جهنم لا محالة لأن الشيء إذا كان محيطاً بالإنسان فإنه لا يفوته كما في الحدادي أو جامعة لهم الآن لإحاطة أسبابها من الكفر والمعاصي.
وقيل : تلك المبادي المتشكلة بصور الأعمال والأخلاق هي النار بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأة وإنما يظهر عند تشكلها بصورها الحقيقة في النشأة الآخرة وقس عليها الأعمال والأخلاق المرضية ألا ترى أن دم الشهيد يتشكل بصورة المسك فلا يفوح منه إلا المسك كما ورد في الشرع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
وقال بعضهم : هذه الآية نزلت في جد بن قيس من المنافقين دعاه النبي عليه السلام إلى الخروج إلى العدو وحرضه على الجهاد "فقال له يا جد بن قيس هل لك في جلاد بني الأصفر" يعني : طوال القدّ منهم فإن الجلاد من النخل هي الكبار الصلاب "تتخذ منهم سراري ووصفاء" فقال جد ائذن لي في القعود ولا تفتني بذكر نساء الروم ، فإنه قد علمت الأنصار أني رجل مولع بالنساء أي مفرط في التعلق بهن فأخشى إن ظفرت ببنات الأصفر لا أصبر عنهن فأواقعهن قبل القسمة فأقع في الفتنة والإثم فلما سمع النبي عليه السلام قوله اعرض عنه وقال : "أذنت لك" ولم يقبل الله تعالى عذر جد وبين أنه قد وقع في الفتنة بمخالفة النبي عليه السلام ، والمراد ببني الأصفر الروم وهم جيل من ولد روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، والوجه في تسمية الروم ببني الأصفر أن ملوك الروم انقضوا في الزمان الأول فبقيت منهم امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شر عظيم فاتفقوا على أن يملكوا أول من أشرف عليهم فجلسوا مجلساً لذلك وأقبل رجل من اليمن معه عبد له حبشي يريد الروم فأبق العبد فأشرف عليهم فقالوا انظروا في أي شيء وقعتم فزوجوه تلك المرأة فولدت غلاماً فسموه الأصفر فخاصمهم المولى فقال صدق أنا عبده فأرضوه ، فلذلك قيل للروم بنو الأصفر لأن عيصو بن إسحاق كان به صفرة وهو جدهم وقيل إن الروم بن عيصو هو الأصفر وهو أبوهم وأمه نسمة بنت إسماعيل عليه السلام وليس كل الروم من ولد بني الأصفر فإن الروم الأول فيما زعموا من ولد يونان بن يافث بن نوح عليهم السلام انتهى.
(3/338)
وقيل : قيل لهم بنو الأصفر لأن جدهم روم بن عيصو بن إسحاق بن إبرهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر وقيل لأولاده بنو الأصفر.
وقيل : لأن جيشاً من الحبشة غلب على ناحيتهم في وقت فوطىء نساءهم فولدت أولاداً صفراء بين سواد الحبشة وبياض الروم.
حكي عن بعض العارفين أنه رأى النبي عليه السلام في المنام فقال يا رسول الله إني أريد أن أتوجه إلى الروم
445
فقال عليه السلام الروم لا يدخله المعصوم فاختلج في صدره أن في الروم العلماء والصلحاء والأولياء أكثر من أن يحصى ثم تتبع فوجد أن المراد من المعصوم الأنبياء وأما هؤلاء فيسمون المحفوظين الكل من "أنوار المشارق" وثبت في الصحيح إنه "لا يبقى مسلم وقت قيام الساعة" لكن يكون الروم وهم قوم معروف أكثر الكفرة في ذلك الوقت كما كانوا اليوم أكثرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
ثم إن القعود عن الغزو من بخل الرجل وهو من أذم الصفات.
قال إبراهيم بن أدهم : إياك والبخل قيل وما البخل قال أما البخل عند أهل الدنيا فهو أن يكون الرجل شحيحاً بماله وأما الذي عند أهل الآخرة فهو الذي يبخل بنفسه عن الله تعالى ألا وإن العبد إذا جاد بنفسهتعالى أورث قلبه الهدى والتقى وأعطاه السكينة والوقار والعلم الراجح والعقل الكامل.
فعلى العاقل الجود بماله ونفسه في الجهاد الأصغر والأكبر حتى ينال الرضى من الله تعالى والجود من أمدح الصفات.
وحكي عن أبي جهيم بن حذيفة قال انطلقت يوم تبوك أطلب عمي ومعي ماء أردت أن أسقيه إن كان به رمق فرأيته ومسحت وجهه فقلت له أسقيك الماء فأشار برأسه نعم فإذا رجل يقول آه من العطش فأومى برأسه أن اذهب إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت اسقيك قال : نعم فلما دنوت منه سمعت صوتاً يقول آه من العطش فأشار إلى أن اذهب به إليه فذهبت فإذا هو ميت فرجعت بالماء إلى هشام فإذا هو ميت فرجعت إلى عمي فإذا هو ميت كذا في "خالصة الحقائق".
قال الحافظ الشيرازي قد سره :
فداى دوست نكرديم عمرو مال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
قال السعدي قدس سره :
اكر كنج قارون بنك آورى
نماند مكر آنه بخشى برى
{إِن تُصِبْكَ} في بعض غزواتك {حَسَنَةٌ} ظفر وغنيمة كيوم بدر.
{تَسُؤْهُمْ} تلك الحسنة أي تورثهم يعني المنافقين مساءة وحزناً لفرط حسدهم وعداوتهم لك.
{وَإِن تُصِبْكَ} في بعضها {مُّصِيبَةٍ} جراحة وشدة كيوم أحد أو قتل وهزيمة على أن يكون المراد بالخطاب المؤمنين كما يدل عليه ما بعد الآية من إيراد ضمائر المتكلم مع الغير وإلا فمن قال إن النبي عليه السلام هزم في بعض غزواته يستتاب فإن تاب فيها ونعمت وإلا قتل لأنه نقص ولا يجوز ذلك عليه خاصة إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته كما في "هدية المهديين" نقلاً عن القاضي عبد الله بن المرابط {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا} (احتياط كار خودرا) {مِن قَبْلُ} أي : من قبل إصابة المصيبة : يعني (دور انديشى كرديم وبدين حرب نرفتيم) {وَيَتَوَلَّوا} أي : يدبروا عن مجلس الاجتماع والتحدث إلى أهاليهم.
{وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما صنعوا من الاعتزال عن المسلمين والقعود عن الحرب والجملة حال من الضمير في يقولوا أو يتولوا لا من الأخير فقط لمقارنة الفرح لهما معاً.
{قُلِ} بياناً لبطلان ما بنوا عليه مسرتهم من الاعتقاد.
{لَّن يُصِيبَنَآ} أبداً {إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ} في اللوح المحفوظ.
{لَنَآ} اللام للتعليل ، أي : لأجلنا من خير وشر وشدة ورخاء لا يتغير بموافقتكم ومخالفتكم وأمور العباد لا تجري إلا على تدبير قد أحكم وأبرم {هُوَ مَوْلَـانَا} ناصرنا ومتولي أمورنا.
{وَعَلَى اللَّهِ}
446
وحده وهو من تمام الكلام المأمور به ويجوز أن يكون ابتداء كلام من الله تعالى.
{فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والرضى بما فعله وإن كان ذلك بعد ترتيب المبادي العالية والمعنى إن حق العبد أن يتوكل على مولاه ويبتغي رضوانه ويعتقد أنه لن يصيبه شيء من الأشياء إلا ما قدر له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
ير ما كفت خطا بر قلم صنع نرفت
آفرين بر نظر اك خطا وشش باد
وفي الحديث : "إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه".
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
(3/339)
{قُلِ} للمنافقين {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ} التربص التمكث مع انتظار مجيء شيء خيراً كان أو شراً والباء للتعدية وإحدى التاءين محذوفة إذ الأصل تتربصون.
والمعنى ما تنتظرون بنا.
{إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي : العاقبتين اللتين كل واحدة منهما من حسنى العواقب وهما النصر والشهادة وهذا نوع بيان لما أبهم في الجواب الأول وكشف لحقيقة الحال بإعلام أن ما يزعمونه مضرة للمسلمين من الشهادة أنفع مما يعدونه منفعة من النصر والغنيمة.
والمعنى فما تفرحون إلا بما نلنا مما هو أحسن العواقب وحرمانكم من ذلك فأين أنتم من التيقظ والعمل بالحزم كما زعمتم وفي الحديث : "يضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرج إلا إيماناً بالله وتصديقاً برسوله ، أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة".
دولت اكر مدد دهده امنش آورم بكف
كربكشد زهى طرب وربكشد زهى شرف
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} أحد السوءيين من العواقب {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ} (آكه برساند خداى تعالى بشما).
{بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} كما أصاب من قبلكم من الأمم المهلكة من الصيحة والرجفة والخسف وكون العذاب من عند الله عبارة عن عدم كونه بأيدي العباد.
{أَوِ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتل بسبب الكفر.
{فَتَرَبَّصُوا} الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا {إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} ما هو عاقبتكم فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم وفي الحديث : "مثل المؤمن مثل السنبلة تحركها الريح ، فتقوم مرة وتقع أخرى ومثل الكافر مثل الأرزة لا تزال قائمة حتى تنقعر" أي : تنقطع يقال قعر الشجرة قلعها من أصلها فانقعرت.
والأرزة شجر يشبه الصنوبر يكون بالشام وبلاد الأرمن وقيل : هو شجر الصنوبر : يعني (مؤمن را عيش خوش نبودشادى باغم ونعمت باشدت ودرستى بابيمارى ونين بسيار بماند وكافر تن درست ودل خوش بودلكن بيك كرت بسراندر آيد وهلاك شود) ، وفي الحديث : "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" يعني ، أن الولي وهو المؤمن المطيع ينصر الله تعالى فيكون الله ناصره فمن عادى من كان الله ناصره فقد بارز بمحاربة الله وكل كافر ومنافق فهو مهين الأولياء وإهانتهم بذر محصوله الهلاك والاستئصال وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 447
قصه عاد وثمود ازبره يست
تابدانى كانبيا را ناز كيست
اين نشان خسف وقذف وصاعقه
شد بيان عز نفس ناطقه
جمله حيوانرا ى انسان بكش
جمله انسانرا بكش ازبهر هش
هش ه باشد عقل كل هو شمند
هوش جزئي هش بود اما نند
447
وقد ذم الله المنافقين بتغيير الحال وعدم مواطأة الحال بالمقال وفي الحديث : "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" وفي الحديث : "طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره" وفي الحديث : "من شر الناس ذو الوجهين ، الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه آخر ومن كان ذا وجهين في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار" كما في "أبكار الأفكار".
{قُلِ} جواباً لجد بن قيس من المنافقين وهو قد استأذن في التخلف عن غزوة تبوك وقال أعينك بمالي.
{أَنفَقُوا} أيها المنافقون أموالكم في سبيل الله حال كونكم {طَوْعًا} أي طائعين من قبل أنفسكم {أَوْ كَرْهًا} أو كارهين مخافة القتل كما في الحدادي.
وقال في "الإرشاد" : "طوعاً" أي من غير إلزام من جهته عليه السلام ولا رغبة من جهتكم أو هو فرضي لتوسيع الدائرة انتهى أي فلا يخالفه قوله : {وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَـارِهُونَ} كما سيأتي {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أنه عليه السلام لا يقبله منهم بل يرد عليهم ما يبذلونه أو أنه تعالى لا يقبله منهم ولا يثيبهم عليه قوله أنفقوا أمر في معنى الخبر ، أي أنفقتم وذلك لأن قوله لن يتقبل منكم يأبى عن حمله على معناه الظاهر إذ لا وجه لأن يؤمر بشيء ثم يخبر بأنه عبث لا يجدي نفعاً بوجه ما.
روي أنه لما اعتذر من الخروج لامه ولده عبد الله عنه وقال له : والله لا يمنعك إلا النفاق وسينزل الله فيك قرآناً فأخذ نعله وضرب به وجه ولده فلما نزلت الآية قال له : ألم أقل لك ، فقال له اسكت يا لكع فوالله لأنت أشد عليّ من محمد ، ثم علل رد إنفاقهم بقوله {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَـاسِقِينَ} أي : كافرين فالمراد بالفسق ما هو الكامل منه لا الذي هو دون الكفر كما قال الكاشفي (بدرستى كه شماهستيد كروهى بيرون رفتكان ازدائره اسلام ونفقه كافر قبول نيست) فالتعليل هنا بالفسق وفيما بعده بالكفر حيث قال ألا إنهم كفروا بالله واحد.
روي أنه تاب من النفاق وحسنت توبته ومات في خلافة عثمان رضي الله عنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 447
(3/340)
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} استثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم من قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم فالمستثنى المفرغ مرفوع المحل على أنه فاعل منع.
وقوله أن تقبل مفعوله الثاني بنزع الخافض أو بنفسه فإنه يقال منعت الشيء ومنعت فلاناً حقه ومنعته من حقه.
وقال أبو البقاء : (أن تقبل) في موضع نصب بدلاً من المفعول في (منعهم).
{وَلا يَأْتُونَ الصَّلَواةَ} (ونمى آيند بنماز جماعت) وهو معطوف على كفروا.
{إِلا وَهُمْ كُسَالَى} أي : لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم متثاقلين.
قال الكاشفي : (مكر ايشان كاهلانند بنماز مى آيند بكسالت وكراهت نه بصدق وارادت) والكسالى جمع كسلان كما يقال سكارى وسكران.
قال البغوي : كيف ذكر الكسل في الصلاة ولا صلاة لهم أصلاً؟ قيل : الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل فإن الكفر مكسل والإيمان منشط.
{وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَـارِهُونَ} قال ابن الشيخ : الرغبة والنشاط في أداء العبادات متفرعة على رجاء الثواب بها ، وخوف العقاب على تركها المتفرعين على الإيمان بما جاء به النبي عليه السلام من عند الله ، والمنافق لا يؤمن بذلك فلا يرجو ثواب الآخرة ولا يخاف عقابها فيكون كسلان في إتيان الصلاة ، وكارهاً للإنفاق لزعمه أنهما إتعاب للبدن وتضييع للمال بلا فائدة ، وفيه ذم الكسل قيل من دام كسله خاب أمله.
قال أبو بكر الخوارزمي :
448
لا تصحب الكسلان في حالاته
كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة
والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وفي "المثنوي" :
كر هزاران طالبند ويك ملول
از رسالت بازمى ماند رسول
كى رسانند آن امانت را بتو
تانباشى يششان راكع دوتو
جزء : 3 رقم الصفحة : 447
{فَلا تُعْجِبْكَ} الإعجاب استحسان على وجه التعجب من حسنه.
قال الكاشفي : (س بايدكه ترابشكفت نيارد خطاب بآن حضرتست ومراد امت اند مؤمنا نرا ميفرمايدكه متعجب نكردانند شمارا).
{أَمْوَالَهُمْ} أي : أموال المنافقين.
{وَلا أَوْلَـادُهُمْ} فإن ذلك وبال عليهم واستدراج لهم ، كما قال : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ضمير بها راجع إلى الأموال دون الأولاد.
والمعنى : ليعذبهم بالتعب في جمعها والوجل في حفظها والكره في إنفاقها ويجوز أن يرجع إليهم معاً بناء على أن الأولاد أيضاً أسباب للتعذيب الدنيوي من حيث إنهم إن عاشوا يبتلى أصولهم بمتاعب تربيتهم وتحصيل أسباب معاشهم من المآكل والمشارب والملابس وإن ماتوا يبتلى أصولهم بحسرة فراقهم فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً.
يقول الفقير : إن قلت : إن المؤمن والكافر يشتركان في هذا التعب والحسرة فما معنى تخصيص الكافر ، أي : المنافق؟ قلت : نعم إلا أن المؤمن أخف حالاً لإيمانه وأمله ثواب الآخرة وصبره على الشدائد فيكون التعذيب بتربية الأولاد وحسرة فراقهم كلا تعذيب بالنسبة إليه {وَتَزْهَقَ} أصل الزهوق خروج الشيء بصعوبة.
{أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـافِرُونَ} أي فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك لهم نقمة لا نعمة (نه مال ايشانرا دست كيرد ونه فرزند بفرياد رسد) وفي إرادة الله زهوق أنفسهم على الكفر لينالوا وباله إشارة إلى جواز الرضى بكفر الغير وموته عليه إذا كان شريراً مؤذياً ينتقم الله منه أي من غير استحسان واستجازة كما قال الفقهاء إذا دعا على ظالم أماتك الله على الكفر ، أو قال سلب الله عنك الإيمان أو دعا عليه بالفارسية (خداجان توبكافرى بستاند) ، فهذا لا يكون كفراً إذا كان لا يستحسنه ولا يستجيزه ولكن تمنى أن يسلب الله الإيمان منه حتى ينتقم الله منه على ظلمه وإيذائه الخلق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 449
واعلم : أن الطاعة في العبودية بثلاثة أنواع بالمال والبدن والقلب أما بالمال فهو الإنفاق في سبيل الله وفي الحديث : "من جهز غازياً ولو بسلك إبرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومن جهز غازياً ولو بدرهم أعطاه الله سبعين درجة في الجنة من الدر والياقوت" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أتي بفرس يجعل كل خطوة منه أقصى بصره فسار ومعه جبريل فأتى على قوم يزرعون في يوم ، ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال : "يا جبرائيل من هؤلاء"؟ قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف" ، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" وأما بالبدن فهو القيام بالأوامر والنواهي والسنن والآداب المستحسنة المستحبة وأما بالقلب فهو الإيمان والصدق والإخلاص في النية فالطاعة بالمال والبدن لا تقبل عند إعواز طاعة القلب كطاعة المنافقين وطاعة القلب عند إعواز الطاعة
449
(3/341)
بالمال والبدن مقبولة لقوله عليه السلام : "نية المؤمن أبلغ من عمله" فالقربة لا تقبل إلا على حقيقة الإيمان وهو شرط إقامة الطاعات المالية والبدنية وفي الحديث : "إن إعطاء هذا المال فتنة وإمساكه فتنة" وذلك لأن إنفاقه على طريق الرياء أو بالمنة والأذى فتنة وكذا إمساكه ، إذ في الإمساك ملامة وذلالة بل ضلالة وفي الحديث : "إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي بالمال" (حقيقت فتنه آنست كه هريزى كه آن مرورا از دين ورشد مشغول دارد آنراكه ازتوفيق محرومست وآنرا كه موافقيست اكر ادشاه دنيا شود آن ادشاهى اورا ازدين مشغول ندارد) وفي "المثنوي" :
يست دنيا از خدا غافل بدن
نى قماش ونقره وميزان وزن
مال راكز بهر دين باشى حمول
نعم مال صالح خواندش رسول
آب در كشتى هلاك كشتى است
آب اندرر زير كشتى ستى است
ونكه مال وملك را ازدل براند
زان سليمان خويش جز مسكين نخواند
(ومعاويه زنى را رسيدكه على را ديده كفت بلى كفت ه كونه مردى بود على كفت لم يبطره الملك ولم تعجبه النعمة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كويدكه هركه مال اورا نفريبد هي جادويى وديوى اورا نفريبد ومردى يغمبررا صلى الله عليه وسلّم كفت مرا اره بياموزكه ديو مرانفريبد كفت دوستىء مال دردل مدار وبا هي زن نا محرم خالى مباش) كذا في "شرح الشهاب" :
مكن تكيه برملك وجاء وحشم
كه يش ازتوبودتس وبعد ازتوهم
{وَيَحْلِفُونَ} أي : المنافقون {بِاللَّهِ} يحتمل أن يتعلق بيحلفون ويحتمل أن يكون من كلامهم {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي : لمن جملة المسلمين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 449
{وَمَا هُم مِّنكُمْ} لكفر قلوبهم {وَلَـاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤكدونه بالأيمان الفاجرة يقال فرق كفرح ، أي فزع والفرق بفتحتين الفزع.
{لَوْ يَجِدُونَ} (اكربيابيد) وإيثار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم الوجدان.
{مَلْجَأَ} أي : مكاناً حصيناً يلجؤون إليه من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة مفعل من لجأ إليه يلجأ ، أي انضم إليه ليتحصن به {أَوْ مَغَـارَاتٍ} هي الكهوف الكائنة في الجبال الرفيعة أي غيراناً وكهوفاً يخفون فيها أنفسهم جمع مغارة ، وهي مفعلة اسم للموضع الذي يغور فيه الإنسان أي يغيب ويستتر.
{أَوْ مُدَّخَلا} هو السرب الكائن تحت الأرض كالبئر ، أي نفقا يندسون فيه وينحجرون أو قوماً يمكنهم الدخول فيما بينهم يحفظونهم منكم كما في الحدادي وهو مفتعل من الدخول أصله مدتخل.
قال ابن الشيخ : عطف المغارات والمدخل على الملجأ من قبيل عطف الخاص على العام لتحقيق عجزهم عن الظفر بما يتحصنون فيه فإن الملجأ هو المهرب الذي يلتجىء إليه الإنسان ويتحصن به من أي نوع كان.
{لَوَلَّوُا} أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا.
{إِلَيْهِ} أي : إلى أحد ما ذكر {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي : يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح لئلا يجتمعوا معكم ويتبعدوا عنكم
450
والجموح النفور بإسراع ، يقال : فرس جموح إذا لم يرده لجام.
والمعنى : إنهم وإن كانوا يحلفون لكم أنهم منكم إلا أنهم كاذبون في ذلك وإنما يحلفون خوفاً من القتل لتعذر خروجهم من بلادهم ولو استطاعوا ترك دورهم وأموالهم والالتجاء إلى بعض الحصون أو الغيران التي في الجبال أو السروب التي تحت الأرض لفعلوه تستراً عنكم واستكراهاً لرؤيتكم ولقائكم وفيه بيان لكمال عتوهم وطغيانهم ، وإشارة إلى أن المنافق يصعب عليه صحبة المخلص فإن الجنس إلى الجنس يميل لا إلى خلافه.
قال السعدي في كتاب "الكلستان" (طوطى رابازاغى همقفس كردند ازقبح مشاهده أو مجاهده برده مى كفت اين ه طلعت مكروهست وهيأت ممقوت ومنظر ملعون وشمائل ناموزون يا غراب البين يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 449
على الصباح بروى توهركه برخيزد
صباح روز سلامت برومسا باشد
بداخترى وتو در صحبت توبايستى
ولى نانكه تودر جهان كجاباشد
عجبتر انكه غراب هم از محاورت طوطى بجان آمده بود لا حول كنان از كردش كيتى همي ناليد ودستهاى تا بن يكديكر همي ما ليد وميكفت اين ه بخت نكونست وطالع دون وأيام بوقلمون لايق قدر من آنستي كه بازاغى در ديرار باغى حرامان همي رفتمي.
ارسارا بس اين قدر زندان
كه بود هم طويله رندان
تاه كنه كرده ام روز كارم بعقويت آن در سلك صحبت نين ابلهى خود رأى وناجنس ويافه دراى بنين بند بلا كرده است.
كس نيايد باى ديوارى
كه بران صورتت نكار كنند
كرترادر بهشت باشد جاى
ديكران دوزخ اختيار كنند
اين مثل براى ان آوردم تابدانى كه صد ندانكه دانارا زنادان نفرتست نادانرا ازدانا وحشتست) قيل : أضيق السجون معاشرة الأضداد.
وقال الأصمعي : دخلت على الخليل وهو جالس على الحصير الصغير ، فأشار إليّ بالجلوس فقلت أضيق عليك فقال مه إن الدنيا بأسرها لاتسع متباغضين وإن شبرا بشبر يسع المتحابين.
(3/342)
قال بعضهم : الصديق الموافق خير من الشقيق المخالف.
فعلى العاقل أن يراعى جانب الآفاق والأنفس بقدر الإمكان ويجتهد في إصلاح الظاهر والباطن في كل زمان ، ويجانب الأعداء وإن ادعوا أنهم من جملة الإخوان ومن الأعداء النفس وصفاتها وهي تدعى أنها على سيرة الروح والقلب والسر وسجيتها وليست كذلك لأن منشأ هذه عالم الأمر والأروح ومنشأ تلك عالم الحلق والأشباح فلا بد من إصلاحها وإزالة أخلاقها الرديئة لتكون لائقة بصحبة الروح ويحصل بسببها أنواع الذوق والفتوح.
{وَمِنْهُمُ} أي من المنافقين.
{مَّن يَلْمِزُكَ} أي : يعيبك فإن اللمز والهمز العيب واللامز كالهامز واللماز واللمزة كالهماز والهمزة بمعنى العياب ، وقيل اللامز هو من يعيبك في وجهك والهامز من يعيبك بالغيب {فِي الصَّدَقَـاتِ} أي : في شأن الزكاة ويطعن عليك في قسمتها جمع صدقة من الصدق يسمى بها عطية يراد بها المثوبة لا التكرمة ؛ لأن بها يظهر صدقه في العبودية كما في "الكراماني".
والآية نزلت في أبي الجواظ المنافق حيث قال :
451
ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل.
{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا} بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطوا من تلك الصدقات قدر ما يريدون.
{رَضُوا} بما أعطوه وما وقع من القسمة واستحسنوها.
{وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَآ} ذلك المقدار بل أقل مما طمعوا {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي يفاجئون السخط دلت إذا الفجائية على أنهم إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 449
وفي "التأويلات النجمية" : النفاق تزيين الظاهر بأركان الإسلام وتعطيل الباطن على أنوار الإيمان والقلب المعطل عن نور الإيمان يكون مزيناً بظلمة الكفر بحب الدنيا ولا يرضى إلا بوجدان الدنيا ويسخط بفقدها.
قال السعدي :
نكند دوست زينهار از دوست
دل نهادم برآنه خاطر اوست
كر بلطفم بنزد خود خواند
ور بقهرم براند او داند
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي : ما أعطاهم الرسول من الصدقات طيبي النفوس به وإن قل وذكر الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه السلام كان بأمره سبحانه فلا اعتراض عليه لكون المأمور به موافقاً للحكمة والصواب.
{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي : كفانا فضله وصنعه بنا وما قسمه لنا فإن جميع ما أصابنا إنما هو تفضل منه سواء كان لكسبنا مدخل فيه أو لم يكن.
{سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} صدقة أخرى {وَرَسُولَهُ} فيعطينا منها أكثر مما أعطانا اليوم {إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أن يغنينا من فضله والآية باسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره ولتذهب فيه النفس كل مذهب ممكن ، أي لكان خيراً لهم.
(زيراكه رضا بقسمت سبب بهجت است وجزع دران موجب محنت.
سلمى از إبراهيم أدهم نقل ميكندكه هركه بمقادير خرسند شدازغم وملال بازرست).
رضا بداده بده وزجين كره بكشا
كه بر من وتو در اختيار نكشادست
ودرين معنى فرموده است.
بشنواين نكته كه خودرا زغم آزاده كنى
خون خوري كر طلب روزىء ننهاده كنى
يقال إذا كان القدر حقاً كان السخط حمقاً.
ولما قدم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مكة بعدما كف بصره ، قيل له : أنت مجاب الدعوة لِمَ لا تسأل رد بصرك؟ فقال : قضاء الله تعالى أحب إليّ من بصري.
قيل لحكيم : ما السبب في قبض الكف عند الولادة وفتحه عند الموت فأنشد :
ومقبوض كف المرء عند ولادة
دليل على الحرص المركب في الحي
ومبسوط كف المرء عند وفاته
يقول انظروا إني خرجت بلا شيء
حكي : أن نباشاً تاب على يد أبي يزيد البسطامي قدس سره ، فسأله أبو يزيد عن حاله فقال نبشت عن ألف ، فلمْ أر وجوههم إلى القبلة إلا رجلين ، فقال أبو يزيد : مساكين أولئك نهمة الرزق حولت وجوههم عن القبلة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 449
فعلى العاقل التوكل على الله والاعتماد بوعده فإن الله كاف لعبده ومن وجد الله فقد ما دونه لأن فقدان الله في وجدان ما سواه ووجدانه
452
في فقدان ما سواه ومن وجده يرضى به ويقول سيؤتينا الله من فضله ما نحتاج إليه في كمال الدين ونظام الدنيا إنا إلى الله راغبون لا إلى الدنيا والعقبى وما فيهما غير المولى.
روي أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال لهم ما الذي حملكم عليه قالوا الرغبة في ثواب الله فقال أصبتم ومر على قوم آخرين يذكرون الله تعالى فقال لهم ما الذي حملكم عليه قالوا الخوف من عقاب الله تعالى فقال أصبتم ومر على قوم ثالث مشتغلين بذكر الله فسألهم عن سببه فقالوا لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال أنتم المتحققون وفي هذا المعنى.
قال الحافظ :
درم روضه جنت بدو كندم بفروخت
(3/343)
نا خلف باشم اكر من بجوى نفروشم
جزء : 3 رقم الصفحة : 449
{إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ} أي : جنس الزكوات المشتملة على الأنواع المختلفة من النقدين وغيرهما سميت الزكاة صدقة لدلالتها على صدق العبد في العبودية كما في "الكافي".
وذكر في "الأزاهير" أن تركيبها يدل على قوة في الشيء قولاً وفعلاً وسمي بها ما يتصدق به لأن بقوته يرد البلاء وقيل : لأن أول عامل بعثه صلى الله عليه وسلّم لجمع الزكاة رجل من بني صدق بكسر الدال وهم قوم من كندة والنسبة إليهم صدقي بالفتح فاشتقت الصدقة من اسمهم.
{لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ} أي مخصوصة بهؤلاء الأصناف الثمانية الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم من المنافقين والفقير من له شيء دون نصاب والمسكين من لا شيء له وهو المروي عن أبي حنيفة وقيل بالعكس وفائدة الخلاف تظهر في الوصية للفقير أو المسكين.
{وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا} الساعي في جمعها وتحصيلها فيعطى العامل مما في يده من مال الزكاة بقدر عمله فقيراً كان أو غنياً أو هاشمياً فلو ضاع ذلك المال لم يعط شيئاً وكذا لو أعطى المالك بنفسه زكاته إلى الإمام لا يستحق العالم شيئاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
وفي "التبيين" : لو استغرقت كفاية الزكاة لا يزاد على النصف لأن التنصيف عين الإنصاف {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم طائفة مخصوصة من العرب لهم قوة وأتباع كثيرة منهم مسلم ومنهم كافر قد أعطوا من الصدقة تقريراً على الإسلام أو تحريضاً عليه أو خوفاً من شرهم.
{وَفِي الرِّقَابِ} أي وللصرف في فك الرقاب ، أي : في تخليصها من الرق بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء بدل كتابتهم لا للرقاب فإن المكاتب لا يستحق المال ولا يملكه بل يملكه مولاه وكذا مال المديون يملكه الدائن فالعدول عن اللام للدلالة على أن استحقاق الأربعة الأخيرة ليس لذواتهم ، أي : لكونهم مكاتباً ومديوناً ومجاهداً ومسافراً حتى يتصرفوا في الصدقة كيف شاؤوا كالأربعة الأول بل لجهة استحقاقهم كفك الرقبة من الرق وتخليص الذمة من مطالبة من له الحق والاحتياج إلى ما يتمكن به من الجهاد وقطع المسافة ووجه الدلالة أن في قد تستعمل لبيان السبب كما يقال عذب فلان في سرقة لقمة أي بسببها والمراد مكاتب غيره ولو غنياً فيعطى ما عجز عنه فيؤدي إلى عنقه.
والرقاب : جمع رقبة وهي يعبر بها عن الجملة وتجعل اسماً للمملوكة.
{وَالْغَـارِمِينَ} أي : الذين تدينوا لأنفسهم في غير معصية إذا لم يكن لهم نصاب فاضل عن ديونهم ، والغارم والغريم ، وإن كان يطلق كل واحد منهما على من له
453
الدين إلا أن المراد بالغارم في الآية الذي عليه الدين وإن المديون قسمان : الأول : من ادّان لنفسه في غير معصية فيعطى له من الزكاة ما يفي بدينه بشرط أن لا يكون له من المال ما يفي بدينه وإن كان له ذلك فلا يعطى.
والثاني : من ادان في المعروف وإصلاح ذات البين فإنه يعطى من مال الزكاة ما يقضى به دينه وإن كان غنياً وأما من ادّان في معصية أو فساد فإنه لا يعطى له شيء منها.
وعن مجاهد أن الغارم من احترق بيته أو ذهب السيل بماله أو ادّان على عياله.
{وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي فقراء الغزاة عند أبي يوسف وهم الذين عجزوا عن اللحوق بجيش الإسلام لفقرهم أي لهلاك النفقة أو الدابة أو غيرهما فتحل لهم الصدقة وإن كانوا كاسبين إذ الكسب يقعدهم عن الجهاد في سبيل الله.
وسبيل وإن عم كل طاعة إلا أنه خص بالغزو إذا أطلق وعند محمد هو الحجيج المنقطع بهم.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} أي المسافر الكثير السير المنقطع عن ماله سمي به لملازمة الطريق فكل من يريد سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة قدر ما يقطع به تلك المسافة سواء كان له في البلد المنتقل إليه مال أو لم يكن ، وهو متناول للمقيم الذي له مال في غير وطنه فينبغي أن يكون بمنزلة ابن السبيل ، وللدائن الذي مديونه مقر لكنه معسر فهو كابن السبيل كما في "المحيط" {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} مصدر لما دل عليه صدر الآية لأن قوله تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ} بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم.
{حَكِيمٌ} لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
حق تعالى ون درقسمت كشاد
هركسى را هره مى بايست داد
نيست اقع اندران قسمت غلط
بنده را خواهى رضا خواهى سخط
(3/344)
واعلم : أن سهم المؤلفة قلوبهم ساقط بإجماع الصحابة لما أن ذلك كان لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأعلى كلمته استغنى عن ذلك ، كما قال عمر رضي الله عنه : في زمن خلافة أبي بكر رضي الله عنه : "الإسلام أعز من أن يرشى عليه ، فإن ثبتم على الإسلام بغير رشوة فبها وإلا فبيننا وبينكم السيف" فبقيت المصارف السبعة على حالها ، فللمتصدق أن يدفع صدقته إلى كل واحد منهم وأن يقتصر على صنف منهم بل لو صرف إلى شخص واحد منهم جاز فإن اللام في للفقراء لبيان أنهم مصارف لا يخرج عنهم كما يقال الخلافة لبني العباس وميراث فلان لقرابته ، أي : ليست الخلافة لغيرهم لا أنها بينهم بالسوية فاللام لام الاختصاص لا التمليك لعدم جواز التمليك للمجهول.
قال مشايخنا : من أراد أن يتصدق بدرهم يبتغي فقيراً واحداً ويعطيه ولا يشتري به فلوساً ويفرقها على المساكين كما في "المحيط" وكذلك الأفضل في الفطر أي يؤدي صدقة نفسه وعياله إلى واحد كما فعله ابن مسعود كما في التمرتاشي وكره دفع نصاب أو أكثر إلى فقير غير مديون أما إذا كان مديوناً أو صاحب عيال أو إذا فرق عليهم لم يخص كلاً منهم نصاب فلا يكره كما في "الأشباه".
وقوله : كره أي جاز مع الكراهة أما الجواز فلان الأداء يلاقي
454
الفقر لأن الزكاة إنما تتم بالتمليك وحالة التمليك المدفوع إليه فقير وإنما يصير غنياً بعد تمام التمليك فيتأخر الغنى عن التمليك ضرورة فيجوز ، وأما الكراهة فلأن الانتفاع به صادف حال الغنى ولو صادف حال الفقر لكان أكمل وندب دفع ما يغني عن السؤال يومه لقوله عليه السلام "أغنوهم عن المسألة" والسؤال ذل فكان فيه صيانة المسلم عن الوقوع فيه ولا يسأل من له قوت يومه لأن في السؤال ذلاً ولا يحل للمسلم أن يذل نفسه وبغير الاحتياج تكدٍ والتكدي حرام.
ثم اعلم : أن الأوصاف التي عبر بها عن الأوصاف المذكورة وإن كانت تعم المسلم والكافر إلا أن الأحاديث خصتها بالمسلم منهم.
وقال أبو حفص : لا يصرف إلى من لا يصلي إلا أحياناً.
والتصدق على الفقير العالم أفضل من الجاهل.
وصدقة التطوع يجوز صرفها إلى المذكورين وغيرهم من المسلم والذمي وإلى بناء المساجد والقناطر وتكفين الميت وقضاء دينه ونحوهما لعدم اشتراط التمليك في التطوع وإن أريد صرف الفرض إلى هذه الوجوه صرف إلى الفقير ثم يؤمر بالصرف إليها فيثاب المزكي والفقير ولو قضى دين حي أي من مال الزكاة وإن كان بأمره جاز كأنه تصدق على المديون فيكون القابض كالوكيل له في قبض الصدقة وإن كان بغير أمره يكون متبرعاً فلا يجوز من زكاة ماله ولا تصرف الزكاة إلى مجنون وصبي غير مراهق إلا إذا قبض لهما من يجوز له قبضها كالأب والوصي وغيرهما وتصرف إلى مراهق يعقل الأخذ كما في "المحيط".
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
قال في "مجمع الفتاوى" : جملة ما في بيت المال أربعة أقسام الأول الصدقات وما ينضم إليها تصرف إلى ما قال الله تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ} الآية.
والثاني : الغنائم تصرف إلى اليتامى والمساكين وابن السببيل.
والثالث : الجزية والخراج تصرف إلى ما فيه صلاح دار الإسلام والمسلمين نحو سد الثغور والمقاتلة وعطياتهم وسلاحهم وكراعهم ويصرف إلى أمن الطريق وإلى إصلاح القناطر وكري الأنهار وإلى أرزاق الولاة والقضاة والأئمة والمؤذنين والقراء والمحتسبين والمفتين والمعلمين.
والرابع : ما أخذ من تركة الميت إذا مات بلا وارث أو الباقي من فرض الزوج أو الزوجة إذا لم يترك سواه يصرف إلى نفقة المرضى وأدويتهم وعلاجهم إن كانوا فقراء وإلى نفقة من هو عاجز عن الكسب انتهى.
والإشارة : إنما الصدقات ، أي : صدقات الله كما قال عليه السلام : "ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلافيها صدقة يتصدق بها على من يشاء من عباده" والفقراء هم الأغنياء بالله الفانون عن غيره الباقون به وهذا حقيق قوله عليه الصلاة والسلام : "الفقراء لصبرهم ، هم جلساء الله يوم القيامة" ، وهو سر ما قال الواسطي : الفقير ، لا يحتاج إلى الله وذلك ؛ لأنه غني به والغني بالشيء لا يحتاج إليه والمساكين وهم الذي لهم بقية أوصاف الوجود لهم سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً.
{وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أصحاب الأحوال {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم الذين تتألف قلوبهم بذكر الله إلى الله المتقربون إليه بالتباعد عما سواه.
{وَفِي الرِّقَابِ} وهم المكاتبون قلوبهم عن رق الموجودات تحرياً لعبودية موجدها والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
{وَالْغَـارِمِينَ} وهم الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم محبوسون في سجن
455
(3/345)
الوجود بقروضهم وإنهم في استخلاص ذممهم عن القروض بردها فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص من حبس الوجود.
{وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} وهم الغزاة المجاهدون في الجهاد الأكبر وهو الجهاد مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} وهم المسافرون عن أوطان الطبيعة والبشرية السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة بسفارة الأنبياء والأولياء.
{فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} أي : هذا السير والجهاد ورد القرض والحرية عن رق الموجودات وتألف القلوب إلى الله واستعمال آمال الشريعة والتمسكن والافتقار إلى الله طلباً للاستغناء به أمر واجب على العباد من الله وهذه الصدقات من المواهب الربانية والألطاف الإلهية للطالبين الصادقين أمر لأجبه الله تعالى في ذمة كرمه لهم كما قال تعالى : "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
فعلى السالك الفناء عن أوصاف المجودات والحرية عن رق الكائنات وعرض الافتقار إلى هذه النفحات والصدقات.
{وَمِنْهُمُ} أي : من المنافقين كالجلاس بن سويد وأحزابه.
{الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ} بأن يقولوا في حقه ما يتأذى به الإنسان.
{وَيَقُولُونَ} إذا قيل لهم من قبل بعضهم لا تفعلوا هذا الفعل فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فتفضحوا {هُوَ} أي : النبي عليه السلام.
{أَذِنَ} يسمع كل ما قيل له ، يعني : إنا نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول إنما محمد أذن سامعة أي صاحبها وإنما سموه أذناً مبالغة في وصفه باستماعه كل ما يقال وتصديقه إياه حتى صار بذلك كأنه نفس الأذن السامعة يريدون بذلك أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فيسمع كلام المبلغ أولاً فيتأذى منه ، ثم إذا وقع الإنكار أو الحلف والاعتذار يقبله أيضاً صدقاً كان أو كذباً ، وإنما قالوه لأنه عليه السلام كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفح عنهم حلماً وكرماً فظن أولئك أنه عليه السلام إنما يفعله لقلة فطنته وقصور شهامته.
{قُلِ} هو {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} من إضافة الموصوف إلى صفته كرجل صدق والمعنى نعم إنه أذن لكنه نعم الإذن فإن من يسمع العذر ويقبله خير ممن لا يقبله لأنه إنما ينشأ من الكرم وحسن الخلق سلم الله تعالى قول المنافقين في حقه عليه السلام أنه أذن إلا أنه حمل ذلك القول على ما هو مدح له وثناء عليه وإن كانوا قصدوا به المذمة.
{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} تفسير لكونه أذن خير لهم أي يقربه لما قام عنده من الأدلة الموجبة له فيسمع جميع ما جاء من عنده ويقبله وكون ذلك خيراً للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى.
{وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي : يسلم لهم قولهم ويصدقهم فيما أخبروا به لما علم من خلوصهم وصدقهم ولا شك أن ما أخبر به المؤمنون الخلص يكون حقاً فمن استمعه وقبله يكون أذن خير ، واللام مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور وهو إيمان الأمان من الخلود في النار الذي هو نقيض الكفر بالله فإنه يعدى بالباء حملاً للنقيض على النقيض فيقال آمن بالله ويؤمنون بالغيب وبين الإيمان بمعنى التصديق والتسليم والقبول فإنه يعدى باللام مثل وما أنت بمؤمن لنا ، أي : بمصدق.
{وَرَحْمَةً} عطف على أذن خير أي وهو رحمة بطريق إطلاق المصدر على الفاعل للمبالغة
456
{لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ} أي للذين أظهروا الإيمان منكم وهم المنافقون حيث يقبله منهم لكن لا تصديقاً لهم في ذلك بل رفقاً بهم وترحماً عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
قال الكاشفي : (نه آنست كه بقول شمادانانيست صدق وكذب شمارا ميداند امارده ازروى كارشما برنميدارد وازروى رمت باشما رفق يمنمايد) فالواجب على المؤمن الاقتداء بالرسول المختار في التحفظ عن كشف الأسرار والتحقق بالاسم الستار.
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} بالقول أو الفعل.
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (عذابي دردناك در آخرت بسبب ايذائه) فإنه قد تبين أنه عليه السلام خير ورحمة لهم فأذاه مقابلة لإحسانه بالإساءة فيكون مستوجباً للعذاب الشديد وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتون المؤمنين فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالإيمان ليعذورهم ويرضوا عنه ، فقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
(3/346)
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} أيها المؤمنون إنهم ما قالوا ما نقل إليكم مما يورث أذية النبي عليه السلام {لِيُرْضُوكُمْ} بذلك {وَاللَّهُ وَرَسُولُه أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} بالتوبة وترك الطعن والعيب والمبالغة في باب الإجلال والإعظام مشهداً ومغيباً ، وأما قبول عذرهم وعدم تكذيبهم فهو ستر عيوبهم لا عن رضى بما فعلوا.
وضمير يرضوه إلى الله فافراده للإيذان بأن رض ه عليه السلام مندرج تحت رضاه سبحانه وهما متلازمان فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لعدم انفكاك الآخر أو إلى الرسول فإن الكلام في أذاه وأرضاه وذكر الله للتعظيم وللتنبيه على أن إرضاء الرسول إرضاء الله فاكتفى بذكر إرضائه عليه السلام عن ذكر إرضائه تعالى كما في قوله تعالى : {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} (النور : 48) اكتفى بذكر حكم الرسول للتنبيه على أن حكم الرسول حكم الله أو إلى الله والرسول باستعارته لاسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور لا يقال أي حاجة إلى الاستعارة بعد التأويل لأنا نقول لولا الاستعارة لم يتسن التأويل لما أن الضمير لا يتعرض إلا لذات ما يرجع إليه من غير تعرض لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكورية وإنما المتعرض لها اسم الإشارة.
قال الحدادي : لم يقل يرضوهما لأنه يكره الجمع بين ذكر اسم الله وذكر اسم رسول له في كناية واحدة كما روي أن رجلاً قام خطيباً عند النبي عليه السلام فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال عليه السلام : "بئس الخطيب أنت ، هلا قلت ومن يعص الله ورسوله".
قال في "أبكار الأفكار" : إنما أراد بذلك تعليم الأدب في المنطق وكراهة الجمع بين الله واسم غيره تحت حرفي الكناية لأنه يتضمن نوعاً من التسوية.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 457
متكلم را تاكسى عيب نكيرد
سخنش صلاح نذيرد
مشوغره بر حسن كفتار خويش
بتحسين نادان وندار خويش
وفي الحديث : "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" قال الخطابي : وهذا إرشاد إلى الأدب لأن الواو للجمع والتشريك وثم للعطف مع الترتيب والتراخي فأرشدهم عليه السلام إلى تقديم مشيئة الله على مشيئة من سواه.
ومن هذا قال النخعي يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويجوز أعوذ بالله ثم بك ، ويقال لولا الله ثم فلان لفعلت كذا ولا يقال لولا الله وفلان وإنما يقال من يطع الله ورسوله لأن الله تعبد العباد بأن فرض عليهم
457
طاعة رسول الله فإذا أطيع رسول الله فقد أطيع الله بطاعة رسوله.
{إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي : صادقين فيما أظهروه من الإيمان فليرضوا الله ورسوله بالطاعة وإخلاص الإيمان فإنهما أحق بالإرضاء.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} أي : أولئك المنافقون والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظمة مع علمهم بسوء عاقبتهم {إِنَّهُ} أي : الشان {مِّنَ} شرطية معناه بالفارسية (هركس كه) {يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (خلاف كند باخداى تعالى وبارسول او وازحد دركذراند.
والمحادة باكسى حرب يا خلاف كردن) كما في "تاج المصادر" مفاعلة من الحد وهو الطرف والنهاية وكل واحد من المتخالفين والمتعاندين في حد غير حد صاحبه {فَإِنَّ لَهُ} بالفتح على أنه مبتدأ حذف خبره ، أي : فحق أن له {نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدًا فِيهَا ذَالِكَ} العذاب الخالد {الْخِزْىُ الْعَظِيمُ} الخزي الذل والهوان المقارن للفضيحة والندامة وهي ثمرات نفاقهم حيث يفتضحون على رؤوس الأشهاد بظهورها ولحوق العذاب الخاص بهم.
واعلم أن كل نبي أوذي بما لا يحيط به نطاق البيان وكان النبي عليه السلام أشدهم في ذلك ، كما قال : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" ولما كانت الأذية سبب التصفية كان المعنى ما صفي نبي مثل ما صفيت وأما قوله عليه السلام حين قسم غنائم الطائف فقال بعض المنافقين بعدم العدل "من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحمة الله على أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" فيحتمل أن يكون بالنسبة إلى ذلك الوقت وقد زاد أذاه إلى آخر العمر كمية واشتد كيفية هذا هو اللائح بالبال فإذا كان الأنبياء عليهم السلام مبتلين بالأذية والنفي من البلد والقتل فما ظنك بالأولياء الكرام وهم أحوج منهم إلى التصفية لأن قدس الأنبياء أغلب وبواطنهم أنور وسرائرهم أصفى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 457
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتداه أفندي قدس سره : وإنما كان الحسن مسموماً والحسين مذبوحاً رضي الله عنهما بسبب أن كمال تعينهما كان بالشهادة وكان النبي عليه السلام قادراً على تخليصهما بالشفاعة من الله تعالى ، ولكنه رأى كمالهما في مرتبتهما راجحاً على الخلاص حتى إنه عليه السلام دفع قارورتين لواحدة من الأزواج المطهرة وقال : "إذا اصفرّ ما في إحداهما يكون الحسن شهيداً بالسم ، وإذا احمرّ ما في الأخرى يكون الحسين شهيداً بالذبح" فكان كذلك.
(3/347)
فعلى العاقل الإطاعة والتسليم وتحمل الأذى من كل منافق لئيم ، فإن الله تعالى مع المؤمن المتقي أينما كان فإذا كان الله معه وكاشف عن ذلك هان عليه الابتلاء لمشاهدته المبتلى على كل حال في فرح وترح.
وفي "المثنوي" :
عهر كجا باشد شه مارا بساط
هست صحرا كربود سم الخياط
هركجا يوسف رضى باشد وماه
جنتست او كره باشد قعر اه
{يَحْذَرُ الْمُنَـافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي : على المؤمنين.
{سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم} أي : تخبر تلك السورة المؤمنين {بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي : قلوب المنافقين من الشرك والنفاق فتفضحهم وتهتك عليهم أستارهم فالضميران الأولان للمؤمنين ، والثالث : للمنافقين ولا يبالي بالتفكك عند ظهور الأمر ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين.
فالمعنى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم أي في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم من الأسرار الخفية فضلاً
458
عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق ومعنى تنبيئها إياهم مع أنها معلومة لهم وأن المحذور عندهم إطلاع المؤمنين على أسرارهم لا إطلاع أنفسهم عليها إنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال.
فإن قلت : كيف يحذر المنافقون نزول الوحي الكاشف عن نفاقهم مع أنهم ينكرون نبوته عليه السلام فكيف يجوزون نزول الوحي عليه.
قلت : إن بعض المنافقين كانوا يعلمون النبوة لكنهم كانوا يكفرون عند أهل الشرك عنداً وحسداً ، وبعضهم كانوا شاكين مترددين في أمره صلى الله عليه وسلّم والشاك يجوز نزول الوحي فيخاف أن ينزل عليه ما يفضحه.
وقال أبو مسلم : كان إظهار الحذر منهم بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله يذكر كل شيء ويقول : إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به بأن يقولوا فيما بينهم على وجه الاستهزاء به عليه السلام إنا نحذر ونخاف أن ينزل عليه ما يفضحنا ، ولذلك قيل : {قُلِ اسْتَهْزِءُوا} أي : افعلوا الاستهزاء وهو أمر تهديد : يعني (استهزا مكنيد كه جزا خواهيد يافت وجزا آنست كه براى تفضيح شما) {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي : من القوة إلى الفعل أو من الكمون إلى البروز.
{مَّا تَحْذَرُونَ} أي : ما تحذرونه من إنزال السورة أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم ومن هذا سميت هذه السورة الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وتسمى أيضاً الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 457
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ} عما قالوا بطريق الاستهزاء {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الكلام ونتحدث كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث.
{وَنَلْعَبُ} كما يلعب الصبيان.
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ركب من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول عليه السلام ، ويقولون انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح حصون الشام وقصوره وهيهات هيهات يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب ، والله لكأنهم ، يعني : الصحابة غداً مفرقون في الجبال فأطلع الله نبيه على ذلك فقال : "احبسوا عليّ الركب" فأتاهم فقال : "قلتم كذا وكذا" فقالوا يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك إنما كنا نخوض ونلعب فلما أنكروا ما هم فيه من الاستهزاء والتخفيف أمر الله تعالى رسوله فقال : {قُلِ} يا محمد على طريق التوبيخ غير ملتفت إلى اعتذارهم.
{أَبِاللَّهِ وَءَايَـاتِه وَرَسُولِه كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} عقب حرف التقرير بالمستهزىء به إشارة إلى تحقق الاستهزاء وثبوته فإنه فرق بين أن يقال تستهزىء بالله وبين أن يقال أبالله تستهزىء فإن الأول يقتضي الإنكار على ملابسة الاستهزاء والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله.
{لا تَعْتَذِرُوا} لا تشتغلوا بالاعتذار فإنه معلوم الكذب بين البطلان والاعتذار عبارة عن محو أثر الذنب.
قال في "التبيان" : أصل الاعتذار القطع يقال اعتذرت إليه أي قطعت ما في قلبه من الموجدة {قَدْ كَفَرْتُم} الكفر بأذى الرسول والطعن فيه.
{بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} أي : بعد إظهاركم له فإنهم قط لم يكونوا مؤمنين ولكن كانوا منافقين.
{إِن نَّعْفُ} (اكر عفو كنيم) {عَن طَآاـاِفَةٍ مِّنكُمْ} لتوبتهم وإخلاصهم أو لتجنبهم عن الأذية والاستهزاء.
{نُعَذِّبْ طَآاـاِفَةَا بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب أنهم {كَانُوا مُجْرِمِينَ} مصرين على الإجرام وهم غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتبين واعتذر النبي عليه السلام لمن قال ألا تقتلهم لظهور كفرهم
459
بقوله أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه بل يكفيناهم الله بالدبيلة ، أي : بالداهية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 459
وفي الآيات إشارات :
(3/348)
الأولى : أن المنافقين وإن اعتقدوا نزول الوحي على النبي عليه السلام واعتقدوا نبوته لكن لم ينفعهم مجرد الاعتقاد والإقرار باللسان في ثبوت الإيمان مع أدنى شك داخلهم ولم ينفعهم الحذر مع القدر وهذا تحقيق قوله : "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وفي "هدية المهديين" : من قال آمنت بجميع الأنبياء ولا أعلم أآدم نبي أم لا؟ يكفر ومن لم يعرف أن سيدنا محمداً عليه السلام خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً.
والثانية : إن إظهار اللطف والرحمة بلا سبب محتمل ولكن إظهار القهر والفرق لا يكون إلا بسبب جرم من المجرمين كما قال : {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} وفي "المثنوي" :
ونكه بدكردى بترس ايمن مباش
زانكه تخمست وبروياند خداش
ند كاهى اوبوشاند كه تا
آيدت زان بد شيمان وحيا
بارها وشد ى اظهار فضل
باز كيرد ازى إظهار عدل
تاكه اين هرد وصفت ظاهر شود
آن مبشر كردد اين منذر شود
والثالثة : أن الاستهزاء بالله وبرسوله وبالآيات القرآنية كفر والاستهزاء استحقار الغير بذكر عيوبه على وجه يضحك قولاً أو فعلاً وقد يكون الاستهزاء بالإشارة والإيمان وبالضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته ونحو ذلك وهو حرام بالإجماع معدود من الكبائر عند البعض كما قال علاء الدين التركستاني في "منظومته" العادّة لكبائر الذنوب وهي سبعون.
ويل لمن من الأنام يسخر
مقامه يوم الجزاء سقر
وفي الحديث : "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب من الجنة ، فيقال لهم : هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال له هلم هلم فيجيء بغمه وكربه فإذا جاء أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال له هلم فما يأتيه من الإياس" وفي الحديث : "ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام ، وذو العلم ، وإمام مقسط" كما في "الترغيب والترهيب" للإمام المنذري وإنما خص هذه الثلاثة لأن أوصافهم راجعة إلى أوصاف الله تعالى فذو الشيبة حصل له كبر السن ، والباري له الكبرياء والعالم اتصف بصفة العلم ، والإمام المقسط اتصف بصفة العدل وهما من صفات الله تعالى أيضاً فمن إجلال الله تعالى وإكرامه إجلال هذه الثلاثة وإكرامهم ومن استخفافه استخفافهم وفي الحديث : "ارحموا عزيز قوم ذل ، وغني قوم افتقر ، وعالماً بين الأقوام الجهال لا يعرفون حقه".
جزء : 3 رقم الصفحة : 459
كفت يغمبركه با اين سه كروه
رحم آريد ارنه سنكيدونه كوه
آنكه أو بعد از عزيزى خوارشد
وان توانكر هم كه بى دينار شد
وان سوم آن عالمي كاندر جهان
مبتلا كردد ميان ابلهان
زانكه ازعزت بخوارى آمدن
همو قطع عضو باشد ازبدن
عضو كردد مرده كزتن وابريد
كو بريده جنيد اما نى مديد
ومن تعظيم الرسول تعظيم أولاده.
قيل : ركب زيد بن ثابت رضي الله عنه فدنا ابن عباس
460
رضي الله عنه ليأخذ ركابه ، فقال : لا يا ابن عم رسول الله ، فقال هكذا أمرنا أن تفعل بكبرائنا فقال زيد أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها ، فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن أولاده المعنوية من اقتدى به قولاً وفعلاً وحالاً فتعظيمه تعظيم الرسول وتحقيره تحقيره فعليك التعظيم والتبجيل.
{الْمُنَـافِقُونَ} (مردان منافق كه سيصد نفربودند) {وَالْمُنَـافِقَـاتُ} (وزنان منافقه كه صد وهفتاد بودند) {بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ} أي متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد بالشخص.
{يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} أي : بالكفر والمعاصي.
{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} أي : عن الإيمان والطاعة استئناف مقرر لمضمون ما سبق ومفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين.
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي : عن الإنفاق في سبيل الله وعن الصدقة وعن كل خير فإن قبض اليد كناية عن الشح أو عن رفعها للدعاء والمناجاة كما في "الكاشفي".
{نَسُوا اللَّهَ} صاروا غافلين عن ذكره وتركوا أمره حتى صار كالمنسي عندهم ذكر الملزوم وهو النسيان وأريد اللازم وهو الترك لأن النسيان ليس من الأفعال الاختيارية فلا يذم عليه.
{فَنَسِيَهُمْ} فتركهم من لطفه وفضله لا من قهره وتعذيبه وفسر النسيان أيضاً بالمعنى المجازي الذي هو الترك لأنه محال في حقه تعالى.
{إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ} الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة والانسلاخ عن كل خير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 459
(3/349)
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ} الوعد يستعمل في الخير بمعنى الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها وفي الشر بمعنى الإخبار بإيصال المضرة قبل وقوعها يقال وعدته خيراً ووعدته شراً فإذا سقط الخير والشر قالوا في الخير الوعد والعدة وفي الشر الإيعاد والوعيد وقد أودعه ويوعده ، أي : وعد العقاب.
{وَالْكُفَّارَ} أي : المجاهرين {نَارُ جَهَنَّمَ} وهي من أسماء النار تقول العرب للبئر البعيدة القعر جهنام فيجوز أن يكون جهنم مأخوذة من هذا اللفظ لبعد قعرها.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سمع صوتاً هاله فأتاه جبريل فقال عليه السلام : "ما هذا الصوت يا جبرائيل" قال : هذه صخرة هوت من شفير جهنم منذ سبعين عاماً فهذا حين بلغت قعرها فأحب الله أن يسمعك صوتها فما رؤي رسول الله ضاحكاً ملء فيه حتى قبضه الله" {خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي مقدراً خلودهم فيها.
{هِىَ حَسْبُهُمْ} عقاباً وجزاء ولا شيء أبلغ من تلك العقوبة ولا يمكن الزيادة عليها.
{وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي : أبعدهم من رحمته وأهانهم وهو بيان لبعض ما تضمنه الخلود في النار فإن النار المخلد فيها مع كونها كافية في الإيلام تتضمن شدائد أخر من اللعن والإهانة وغيرهما.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} لا ينقطع والمراد به ما وعدوه وهو الخلود في نار جهنم ذكر بعده تأكيداً له لأن الخلود والدوام بمعنى واحد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
{كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي : أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة.
{كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} (يعني : بتن ازشما قوى تربودند) {وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَـاقِهِمْ} أي : تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا سمي النصيب خلاقاً لأنه مشتق من الخلق بمعنى التقدير ونصيب كل واحد هو الخير المقدر له.
{فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَـاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَـاقِهِمْ} الكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتاعاً كاستمتاعهم وليس في الآية تكرار
461
لأن قوله فاستمتعوا بخلاقهم ذم للأولين بالاشتغال بالحظوظ الفانية وذمهم بذلك تمهيد لذم المخاطبين بسلوكهم سبيل الأولين وتشبيه حالهم بحالهم {وَخُضْتُمْ} أي دخلتم في الباطل وشرعتم فيه.
{كَالَّذِى} أي : كالفوج الذي {خَاضُوا} ويجوز أن يكون أصله الذين حذفت النون تخفيفاً.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة من المشبهين والمشبه بهم والخطاب لرسول الله أو لكل من يصلح للخطاب.
{حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} التي كانوا يستحقون بها الأجور لو قارنت الإيمان مثل الإنفاق في وجوه الخير وصلة الرحم وغير ذلك أي ضاعت وبطلت بالكلية ولم يترتب عليها أثر.
{فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ} .
أما في الآخرة فظاهر.
وأما في الدنيا : فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحة والسعة وغير ذلك حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَـالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} (هود : 15) ليس ترتيبه عليها على طريق المثوبة والكرامة بل بطريق الاستدراج.
{وَأُوالَـائِكَ} الموصوفون بحبوط الأعمال في الدارين.
{هُمُ الْخَـاسِرُونَ} الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابه طراً فإنه قد ذهبت رؤوس أموالهم فيما ضرهم ولم ينفعهم قط ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا ينفعهم لكفى به خسراناً.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
قيامت كه بازار مينو نهند
منازل باعمال نكيو نهند
بضاعت بنيد انكه آرى برى
اكر مفلسي شر مسارى برى
كه بازار ندانكه آكنده تر
تهى دست را دل را كنده تر
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي : المنافقين {نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي : خبرهم الذي له شأن وهو ما فعلوا وما فعل بهم والاستفهام للتقرير والتحذير أي قد أتاهم خبر الأمم السالفة وسمعوه فليحذروا من الوقوع فيما وقعوا.
{قَوْمُ نُوحٍ} أغرقوا بالطوفان وهو بدل من الذين.
{وَعَادُ} أهلكوا بريح صرصر {وَثَمُودُ} أهلكوا بالرجفة والصيحة.
{وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أهلك نمرود ببعوضة وأهلك أصحابه بالهدم.
{وَأَصْحَـابِ مَدْيَنَ} أي : وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة ومدين هو مدين بن إبراهيم نسبت القرية إليه.
{وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ} الظاهر أنه عطف على مدين وهي قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجيل {أَتَتْهُمْ} أي جميع من تقدم من المهلكين.
{رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} أي بالحجج والبراهين فكذبوهم فاهلكهم الله {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي : لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
قال الصائب :
(3/350)
را زغير شكايت كنم كه همو حباب
هميشه خانه خراب هواى خويشتنم
فعلى العاقل أن لا يغتر بالقوة والأولاد والأموال فإن كلها في معرض الزوال.
قال الحافظ :
ببال ور مرو ازره كه تير رتابى
هواكرفت زماني ولي بخاك نشست
يعني : لا تغتر بقدرتك وقوتك البدنية والدنيوية ولا تخرج بسببها عن الصراط المستقيم فإن حالك مشابه لحال السهم فإنه وإن علا على الهواء زماناً لكنه يسقط على الأرض فآخر كل علو هو
462
السفل وآخر كل قدرة هو العجز فلا بد من تدارك الأمر بالتوبة والاستغفار قبل نزول ما نزل بالقوم الأشرار.
قال بعض الصالحين : خرجت إلى السوق ومعي جارية حبشية فأجلستها في مكان ، وقلت لها : لا تبرحي حتى أعود إليك فذهبت ثم عدت إلى المكان فلمْ أجدها فيه ، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها ، فجاءتني وقالت لي يا مولاي لا تعجل عليّ فإنك أجلستني بين قوم لا يذكرون الله تعالى فخشيت أن ينزل بهم خسف وأنا معهم ، فقلت : إن هذه أمة قد رفع عنها الخسف إكراماً لنبيها محمد صلى الله عليه وسلّم فقالت : إن رفع عنها خسف المكان فما رفع عنها خسف القلوب يا من خسف بمعرفته وقلبه ، وهو في غفلته من بلائه وكربه بادر إلى حميتك ودوائك قبل موتك وفنائك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر والناس حوله : "أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء" فقال رجل يا رسول الله إنا نستحيي من الله فقال : "من كان منكم مستحيياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه وليحفظ البطن وما وعى ، والرأس وما حوي ، وليذكر الموت والبلى ، وليترك زينة الدنيا" قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام ولو أشاء أن أزينكما بزينة علم فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عنها لفعلت ولكني أزوي عنكما وكذلك افعل بأوليائي وليس ذلك لهوانهم عليّ ولكن ليستكملوا حظهم من كرامتي.
مكو جاهى ازسلطنت بيش نيست
كه ايمن تر ازملك درويش نيست
فقد تقرر حال أهل الدنيا وحال أهل الآخرة فالعاقل يعتبر ويتبصر إلى أن يموت ويقبر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي : بعضهم على دين بعض في الحق ، أي متفقون في التوحيد وبعضهم معين بعض في أمر دينهم ودنياهم وبعضهم موصل بعض إلى الدرجات العالية بسبب التربية وتزكية النفس وهم المرشدون في طريق الله تعالى.
{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي : جنس المعروف الشامل لكل خير ومنه الإيمان والطاعة ويهيج بعضهم بعضاً في طلب الله وهو المعروف الحقيقي كما قال : "فأحببت أن أعرف" {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي : جنس المنكر المنتظم لكل شر ومنه الكفر والمعاصي التي تقطع العبد عن الله من الدنيا وغيرها.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} فلا يزالون يذكرون الله تعالى ويديمون مراقبة القلب وحضوره مع الله بحيث لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وهم أرباب المكاشفة وأصحاب القلوب وهذا بمقابلة ما سبق من قوله نسوا الله.
{وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} بمقابلة قوله تعالى : {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة : 67) فهم يؤدون الزكاة الواجبة بل ينفقون ما فضل عن كفافهم الضروري ويطهرون أنفسهم عن محبة الدنيا بالإنفاق.
{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} أي : في كل أمر ونهي وهو بمقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى الإخلاص في معاملتهم فإن المنافقين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولكن لا يطيعون الله ورسوله في ذلك وإنما يطيعون النفس والهوى رعاية لمصالح دنياهم {أولئك} الموصوف بهذه الأوصاف الكريمة.
{سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} أي : يفيض عليهم آثار رحمته من التأييد والنصرة البتة وينجيهم من العذاب الأليم سواء كان عذاب النار أو عذاب البعد من الملك الجبار بالإدخال إلى الجنة
463
والإيصال إلى القربة والوصلة.
(3/351)
وعن بعض أهل الإشارة.
{سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} في خمسة مواضع عند الموت وسكراته يهون عليهم سكرات الموت ، ويحفظ إيمانهم من الشيطان ، وفي القبر وظلماته ينور قبورهم ويحفظهم من العذاب القبر وعند قراءة الكتاب وحسراته ، يؤتيهم كتابهم بيمينهم ويمحو سيئاتهم من كتابهم كيلا يتحسروا على سيئاتهم ، وعند الميزان وندماته يثقل موازينهم ، وعند الوقوف بين يدي الله وسؤالاته يسهل عليهم جوابهم ولا يؤاخذهم بعيوبهم.
وفي الحديث : "من صلى صلاة الفجر هان عليه الموت وغصته ، ومن صلى صلاة الظهر هان عليه القبر وضمته ، ومن صلى صلاة العصر هان عليه سؤال منكر ونكير وهيبته ، ومن صلى صلاة المغرب هان عليه الميزان وخفته ومن صلى صلاة العشاء هان عليه الصراط ودقته" {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} تعليل الوعد ، أي : قوي قادر على إعزاز أوليائه وقهر أعدائه ذو النعمة لمن يطيعه.
{حَكِيمٌ} بنى أحكامه على أساس الحكمة الداعية إلى إيصال الحقوق من النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهل المعصية حكم للمؤمنين بالجنة في مقابلة تصديقهم وإقرارهم ، وللمحسنين بالوصلة في مقابلة طلبهم في جميع الحال رضى الله وتركهم ما سواه وحكم للكافرين والمنافقين بالنار لإنكارهم وتكذيبهم الأنبياء وعبادتهم للأوثان والأصنام.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} أي : وعدهم وعداً شاملاً لكل واحد منهم على اختلاف طبقاتهم في مراتب الفضل كيفاً وكماً والوعد عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها {جَنَّـاتُ} جمع جنة وهي الحديقة ذات النخل والشجر.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي : أشجارها وغرفها.
{الانْهَـارَ} أنهار الماء والعسل والخمر واللبن.
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي : مقدراً خلودهم ودوامهم فيها فكل واحد من المؤمنين فائز بهذه الجنات لا محالة.
{وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً} أي : وعد بعض الخواص الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش وفي الخبر إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر.
{فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ} هي أبهى أماكن الجنات وأسناها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
عن النبي عليه السلام : "عدن دار الله لم ترها عين ، ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاث : النبيون والصديقون والشهداء طوبى لمن دخلها" روي أن الله تعالى خلق جنة عدن بيده من غير واسطة وجعلها له كالقلعة للملك وجعل فيها الكثيب مقام تجلي الحق سبحانه وفيها مقام الوسيلة مقام المصطفى صلى الله عليه وسلّم وغرس شجرة طوبى بيده في جنة عدن وأطالها حتى علت فروعها سور جنة عدن ونزلت مظللة على سائر الجنات كلها وليس في أكمامها ثمر إلا الحلي والحلل لباس أهل الجنة وزينتهم زائدة في الحسن والبهاء لها اختصاص فضل لكونها خلقها الله بيده وهي أجمع الحقائق الجنانية نعمة وأتمها بركة فإنها أصل لجميع أشجار الجنة كآدم عليه السلام لما ظهر منه من البنين وما في الجنة نهر إلا وهو يجري من أصل تلك الشجرة وهي محمدية المقام وهي في الدار النبي عليه السلام يقال عدن بالمكان إذا أقام به ومنه المعدن لمستقر الجواهر.
{وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} أي : وشيء يسير من رضوانه تعالى {أَكْبَرَ} وأعظم من الجنان ونعيمها لأنه مبدأ جميع السعادات ومنشأ تمام الكمالات (محققان راه وعارفان آكاه دركاه وبيكاه جز رضاى حضرت الله مطلوبي نيست).
464
يكى مى خواهد ازتوجنت وحور
يكى خواهدكه ازدوزخ شود دور
وليكن ما نخواهيم اين وآن جست
مراد ما همين خشنودى تست
وتو خشنود كردى در دو عالم
همين مقصود بس والله أعلم
قال الحافظ :
صحبت حور خواهم كه بود عين قصور
با خيال تو اكر دكرى ردازم
روي أنه تعالى يقول لأهل الجنة "هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً" {ذَالِكَ} المذكور من النعيم والرضى {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} دون ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها وتكدرها ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناح البعوض قال عليه السلام : "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء" قال : يحيى بن معاذ : الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها ، والآخرة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
وقال أيضاً : في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى الجنة قيل : وما هي قال معرفة الله تعالى وهي الجنة المعنوية.
قال أبو يزيد البسطامي : حلاوة المعرفة الإلهية خير من جنة الفردوس وأعلى عليين لو فتحوا لي أبواب الجنان الثماني وأعطوني الدنيا والآخرة لم تعدل أنيناً وقت السحر.
فعلى العاقل الاجتهاد والتوجه إلى الحضرة العليا والإعراض عن الدنيا والفوز بالمطلب الأعلى والمقصد الأسنى نسأل الله الدخول إلى حرم الوصول.
(3/352)
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} اعلم أن الله تعالى خاطب الأنبياء عليهم السلام بأسمائهم الشريفة مثل يا آدم ويا نوح ويا موسى ويا عيسى وخاطب نبينا صلى الله عليه وسلّم بالألقاب الشريفة مثل : أيها النبي ، ويا أيها الرسول ، وذلك يدل على علو جنابه عليه السلام مع أن كثرة الألقاب والأسماء تدل على شرف المسمى أيضاً.
قال أبو الليث : في آخر سورة النور : عند قوله تعالى : {لا تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (النور : 63) أي : لا تدعوا محمداً صلى الله عليه وسلّم باسمه ولكن وقروه وعظموه فقولوا يا رسول الله ويا نبي الله ويا أبا القاسم.
وفي الآية : بيان توقير معلم الخير فأمر الله تعالى بتوقيره وتعظيمه ، وفيه معرفة حق الأستاذ.
وفيه معرفة حق أهل الفضل اهـ.
أقول ولذا يطلق على أهل الإرشاد عند ذكرهم ألفاظ دالة على تعظيمهم على أي لغة كانت ؛ لأنه إذا ورد النهي عن التصريح بأسماء الآباء الصورية لكونه سوء أدب فما ظنك بتصريح أسماء الآباء المعنوية : والمعنى يا أيها المبلغ عن الله ، والمخبر ، أو يا صاحب علو المكانة والزلفى ؛ لأن لفظ النبي ينبىء عن الإنباء والارتفاع.
{جَـاهِدِ الْكُفَّارَ} أي : المجاهرين منهم بالسيف والجهاد عبارة عن بذل الجهد في صرف المبطلين عن المنكر وإرشادهم إلى الحق.
{وَالْمُنَـافِقِينَ} بالحجة وإقامة الحدود فإنهم كانوا كثيري التعاطي للأسباب الموجبة للحدود ولا تجوز المحاربة معهم بالسيف لأن شريعتنا تحكم بالظاهر وهم يظهرون الإسلام وينكرون الكفر.
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي : على الفريقين جميعاً في ذلك وأعنف بهم ولا ترفق.
465
هست نرمى آفت جان سمور
وزدرشتى ميبردجان خارشت
قال عطاء : نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح ؛ لأن لكل وقت حكماً.
{وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ} جملة مستأنفة لبيان آجل أمرهم أثر بيان عاجله {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي : بئس الموضع موضعهم الذي يصيرون إليه ويرجعون.
والفرق بين المرجع والمصير أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع ، وفي الحديث : "أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك" يعني : أصل الطاعة وهو الخوف من الله تعالى فإن المرء لا يميل إلى الطاعة ولا يرغب عن المعصية إلا بالتقوى ، فإذا غرس شجرة التقوى في القلب تميل أطراف الإنسان إلى جانب الحسنات ولا يقدم على ارتكاب السيئات "وعليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي" الرهبانية الخصال المنسوبة إلى الرهبان من التعبد في الصوامع والغيران وترك أكل اللحم والطيبات ولبس الخاص من الثياب فقد أفاد النبي عليه السلام أن الثواب الذي يحصل للأمم السالفة بالرهبانية يحصل لهذه الأمة المرحومة بالغزو وإن لم يترهبوا بل رب آكل ما يشتهيه خير من صائم نبت حب الدنيا فيه.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
خورنده كه خيرى برآيد زدست
به از صائم الدهر دنيا رست
قال الأوزاعي : خمس كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والتابعون : لزوم الجماعة ، واتباع السنة ، وعمارة المسجد ، وتلاوة القرآن ، والجهاد في سبيل الله.
وفي الحديث : "أفضل رجال أمتي الذين يجاهدون في سبيل الله ، وأفضل نساء أمتي اللاتي لا يخرجن من البيوت إلا لأمر لابد لهن منه" وفي الحديث : "اتقوا أذى المجاهدين في سبيل الله ، فإن الله تعالى يغضب لهم كما يغضب للرسل ويستجيب لهم كما يستجيب للرسل" وفي الحديث : "إذا أخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" دل هذا على أن ترك الجهاد والإعراض عنه والسكون إلى الدنيا خروج من الدين وكفى بهذا إثماً وذنباً مبيناً.
وفي الآية : إشارة إلى القلب الذي له نبأ من مقام الأنبياء يأمره بالجهاد مع كفار النفس وصفاتها وهذا مقام المشايخ يجاهدون مع نفوسهم أو نفوس مريدهم كما قال عليه السلام : "الشيخ في قومه كالنبي في أمته" قال في "المثنوي" :
كفت يغمبركه شيخ رفته بش
ون نبي باشدميان قوم خويش
فأمر بالجهاد مع كافر النفس وصفاتها بسيف الصدق فجهاد النفوس بمنعها عن شهواتها واستعمالها في عمل الشريعة على خلاف الطبيعة والنفوس بعضها كفار لم يسلموا ، أي لم يستسلموا للمشايخ في تربيتها فجهادها بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبعضها منافقون ، وهم الذين ادعوا الإرادة والاستسلام للمشايخ في الظاهر ولم يعرفوا بما عاهدوا عليه ، فجهادها بإلزامها مقاساة شدائد الرياضات في التزكية على قانونها ممتثلة أوامر الشيخ ونواهيه ، ولو يرى عليها الإباء والامتناع فلا ينفعها إلا التشديد والغلظة كما قال تعالى : {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} فالواجب أن يبالغ في مخالفتها ومؤاخذتها في أحكام الطريقة فإن فاءت إلى أمر الله فهو المراد وإلا استوجبت لما خلقت له.
{وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ} .
(3/353)
فعلى السالك أن يجاهد مع هواه أولاً فإن السلطان يلزم عليه أن يحارب البغاة الذين في مملكته ثم الذين وراءهم من الكفار نسأل الله تعالى أن يقوينا وينصرنا على القوم الكافرين أياً ما كانوا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمعه من كان منهم معه عليه السلام فقال الجلاس بن سويد منهم لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله والله إن محمداً لصادق وأنت شر من الحمير فبلغ ذلك رسول الله فاستحضره فحلف بالله ما قال فرفع عامر يده فقال : "اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون {أَمِينٌ} (المائدة : 2) فنزل جبريل قبل أن يتفرقوا بهذه الآية وصيغة الجمع في قالوا مع أن القائل هو الجلاس للإيذان بأن بقيتهم لرضاهم بقوله صاروا بمنزلة القائل : {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} هي ما حكى آنفاً {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـامِهِمْ} أي : وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهارهم الإسلام.
{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} الهمُّ بالشيء في اللغة : مقارنته دون الوقوع فيه أي قصدوا إلى ما لم يصلوا إلى ذلك من قتل الرسول وذلك أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه عليه السلام من تبوك على أن يفتكوا به في العقبة التي هي بين تبوك والمدينة ، فقالوا : إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته إلى الوادي فأخبر الله تعالى رسوله بذلك فلما وصل الجيش إلى العقبة نادى منادي رسول الله إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم العقبة فلما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا وسلكوا العقبة وأمر عليه السلام عمار بن ياسر رضي الله عنه أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن يسوقها من خلفها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فرجع إليهم ومعه محجن فجعل يضرب به وجوه رواحلهم وقال إليكم إليكم يا أعداء الله أي : تمنعوا عن رسول الله وتنحوا فهربوا وفي رواية إنه عليه السلام خرج بهم فولوا مدبرين فعلموا أنه عليه السلام اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي واختلطوا بالناس فرجع حذيفة يضرب الناقة فقال عليه السلام : "هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم" قال : لا كان القوم ملثمين والليلة مظلمة فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاء إليه أسيد بن حضير رضي الله عنه فقال يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من سلوك العقبة فقال : "إني أكره أن يقول الناس أن محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم" فقال يا رسول الله هؤلاء ليسوا بأصحاب فقال عليه السلام : "أليس يظهرون الشهادة" ودعا عليهم رسول الله فقال : "اللهم ارمهم بالدبيلة" وهي
467
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.
وفي لفظ شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلكه.
{وَمَا نَقَمُوا} قال في "القاموس" : نقم الأمر كرهه أي وما كرهوا وما عابوا وما أنكروا شيئاً من الأشياء {إِلا أَنْ أَغْنَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه مِن فَضْلِهِ} سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة في غاية ما يكون من شدة العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فآثروا بالغنائم ، أي استغنوا وكثرت أموالهم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى.
(3/354)
قال سعدى لبى : يجوز أن يكون زيادة الألفين شنقاً أي تكرماً لأنهم كانوا يعطون الدية ويتكرمون بزيادة عليها ويسمونها شنقاً انتهى وهذا الكلام من قبيل قولهم ما لي عندك ذنب إلا إحساني إليك أي : إن كان ثمة ذنب فهذا هو تهكم بهم وتوبيخ وقيل : الضمير في أغناهم للمؤمنين أي غاظهم إغناؤه للمؤمنين ، كذا قال ابن عبد السلام.
{فَإِن يَتُوبُوا} عما هم عليه من الكفرة والنفاق {يَكُ} ذلك التوب {خَيْرًا لَّهُمْ} في الدارين قيل : لما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال جلاس يا رسول الله لقد عرض الله عليّ التوبة والله لقد قبلت وصدق عامر بن قيس فتاب جلاس وحسنت توبته {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي : استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن الدين.
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا} بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من فنون العقوبات.
{وَالاخِرَةِ} بالنار وغيرها من أفانين العقاب {وَمَا لَهُمْ فِى الأرْضِ} مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها المصححة لوجدان ما نفى بقوله تعالى {مِّن وَلَـايَتِهِم} (دوستى كه دست كيرد) {وَلا نَصِيرٍ} (ونه يا رى كه عذاب ايشان باز دارد) أي ينقذهم من العذاب بالشفاعة والمدافعة فالعاصي لا ينجو من العذاب وإن كان سلطاناً ذا منعة إلا بالإستغفار من الذنوب وإخلاص التوحيد والتوجه إلى علام الغيوب حكي عن محمد بن جعفر أنه قال كنت مع الخليفة في زورق فقال الخليفة أنا واحد وربي واحد ، فقلت له : اسكت يا أمير المؤمنين لو قلت ما قلت مرة أخرى لنغرق جميعاً قال لِم؟ قلت : لأنك لست بواحد إنما أنت اثنان الروح والجسد من الاثنين الأب والأم في الاثنين الليل والنهار بالاثنين الطعام والشراب مع الاثنين الفقر والعجز والواحد هو الله الذي لا إله إلا هو.
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
وقال حكيم : لأصحاب الجنة ثلاثة أشياء يدخلون بها الجنة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله والاستغفار من الذنوب والندم عليها وتحميد الله تعالى في الدنيا وإن أول ما يقولون إذا دخلوا الجنة الحمدالذي أذهب عنا الحزن أي حزن القبر والكتاب والنيران إن ربنا لغفور للذنوب والمعصية شكور لقليل العمل والطاعة وفي الحديث : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله".
قال المولى الجامى قدس سره :
دلت آيينه خداى نماست
روى آيينه توتيره راست
صيقلى وار صيقلى ميزن
باشد إيينه آت شود روشن
صيقل آن اكرنه آكاه
نيست جز لا إله إلا الله
وفي قوله : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـامِهِمْ} إشارة إلى أن بعض المريدين عند استيلاء النفوس وغلبة هواها وظفر الشيطان بهم شأنهم أن
468
ينكروا على مشايخهم ويقولوا في حقهم كلمة الكفر أي كلمة الإنكار والاعتراض ويعرضوا عنهم بقلوبهم بعد الإرادة والاستسلام فإذا وقف المشايخ على أحوال ضمائرهم وخلل الإرادة في سرائرهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} إنهم {مَا قَالُوا} وما أنكروا {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} يعني : وهم بعضهم أن يثبت لنفسه مرتبة الشيخوخة قبل أوانها ويظهر الدعوة إلى نفسه وإن لم ينلها.
{وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه مِن فَضْلِهِ} أي : وما أنكروا على الشيخ وخرجوا من أمره إلا كون الشيخ غني بلبان فضل الله عن حلمة الولاية ليروا آثار الرشد على أنفسهم فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة فزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فأصمهم بذلك وأعمى أبصارهم.
{فَإِن يَتُوبُوا} يرجعوا إلى ولاية الشيخ بطريق الالتجاء.
{يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} بأن يتخلصوا من غيرة الولاية وردها فإنها مهلكة ويتمكسوا بحبل الإرادة فإنها منجية.
{وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي : يعرضوا عن ولاية الشيخ.
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} بعد رد الولاية فإن مرتد الطريقة أعظم ذنباً من مرتد الشريعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
قال الجنيد : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ، ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ، فأما عذابه في الدنيا فبسلب الصدق والرد عن باب الطلب ، وإرخاء الحجاب وذله وتقوية الهوى وتبديل الإخلاص بالرياء والحرص على الدنيا وطلب الرفعة والجاه ، وأما عذابه في الآخرة فباشتعال نيران الحسرة والندامة على قلبه المعذب بنار القطيعة وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
{وَمَا لَهُمْ فِى الارْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} يشير إلى أن من ابتلي برد ولاية شيخ كامل ولو امتلأت الأرض بالمشايخ وأرباب الولاية وهو يتمسك بذيل إرادتهم غير أن شيخة رده لا يمكن لأحدهم إعانته وإخراجه من ورطة الرد إلا ما شاء الله كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 463
(3/355)
{وَمِنْهُمُ} أي : من المنافقين {مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ} المعاهدة المعاقدة واليمين {لَـاـاِنْ ءَاتَـاـنَا} أي : الله تعالى {مِن فَضْلِهِ} (از فضل خود مالي) {لَنَصَّدَّقَنَّ} أي : لنؤتين الزكاة وغيرها من الصدقات وأصله لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد والمتصدق معطي الصدقة وسميت صدقة لدلالتها على صدق العبد في العبودية.
{وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الحج نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان ملازماً مسجد رسول الله ليلاً ونهاراً وكان يلقب لذلك "حمامة المسجد" وكانت جبهته كركبة البعير من كثرة السجود على الأرض والحجارة المحماة بالشمس ثم جعل يخرج من المسجد كلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الفجر بالجماعة من غير لبث واشتغال بالدعاء فقال له عليه السلام يوماً "ما لك صرت تعمل عمل المنافقين بتعجيل الخروج" فقال يا رسول الله إني في غاية الفقر بحيث لي ولامرأتي ثوب واحد وهو الذي علي وأنا أصلي فيه وهي عريانة في البيت ثم أعود إليها فأنزعه وهي تلبسه فتصلي فيه فادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه السلام : "ويحك يا ثعلبة" وهي كلمة عذاب وقيل كلمة شفقة "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" فراجعه فقال عليه السلام "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت" وأشار إلى علم الكيمياء "ولكن أعرف أن الدنيا حظ من لاحظ له وبها يغتر من لا عقل له" فراجعه وقال يا رسول الله والذي بعثك
469
بالحق نبياً لو دعوت الله أن يرزقني مالاً لأودين كل ذي حق حقه قال عليه السلام : "اللهم ارزق ثعلبة مالاً" ثلاث مرات فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها أزقة المدينة فنزل وادياً حتى فاتته الجماعة لا يصلي بالجماعة إلا الظهر والعصر ثم نمت وكثرت فتنحى مكاناً بعيداً حتى انقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول الله فقيل كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ أي وادٍ واحد بل يسعه أودية وصحارى فخرج بعيداً فقال عليه السلام : "يا ويح ثعلبة" فلما نزل قوله تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة : 103) استعمل النبي عليه السلام رجلين على الصدقات رجلاً من الأنصار ورجلاً من بني سليم وكتب لهما الصدقة وأسنانها وأمرهما أن يأخذاها من الناس فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرأاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه الفرائض فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قوله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
{فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُم} الله تعالى المال {مِن فَضْلِهِ} وكرمه {بَخِلُوا بِهِ} أي : منعوا حق الله منه {وَتَوَلَّوا} أي : أعرضوا عن طاعة الله والعهد معه {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} وهو قوم عادتهم الإعراض فلما رجعا قال لهما رسول الله قبل أن يكلماه "يا ويح ثعلبة" مرتين فنزلت فركب عمر رضي الله عنه راحلته ومضى إلى ثعلبة ، وقال : ويحك يا ثعلبة هلكت قد أنزل الله فيك كذا وكذا فجاء ثعلبة بالصدقة فقال عليه السلام : "إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه لا لأنه تاب عن النفاق بل للحوق العار من عدم قبول زكاته مع المسلمين فقال عليه السلام : "هذا" أي عدم قبول صدقتك "عملك" أي جزاء عملك أراد قوله هذه جزية أمرتك فلم تطعني فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمان رضي الله عنه.
قال الحدادي : لم يقبل منه عثمان صدقته انتهى.
{فَأَعْقَبَهُمْ} أي : جعل الله عاقبة فعلهم ذلك فالمعنى على تقدير المضاف ، أي أعقب فعلهم {نِفَاقًا} راسخاً {فِي قُلُوبِهِم} وسوء اعتقاد يقال أعقبه الله خيراً أي صير عاقبة أمره ذلك خيراً ويقال أكلت سمكة وأعقبتني سقماً أي صرت تلك الأكلة أو السمكة عاقبة أمري سقماً.
{إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي : إلى يوم موتهم الذي يلقون الله عنده دل على تأييد نفاقهم وأن البخل ومنع حق الله تعالى مما أعطاه إياه يؤدي إلى أن يموت وهو منافق ولا يثبت له حكم الإسلام أبداً نعوذ بالله كإبليس ترك له أمراً واحداً فطرده عن بابه وضرب وجهه بعبادته ثمانين ألف سنة ولعنه إلى يوم الدين وأعد له عذاباً أليماً أبد الآبدين.
قال الحافظ :
زاهد أيمن مشو ازبازىء غيرت زنهار
كه ره از صومعة تادير مغان اين همه نيست
{بِمَآ أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي لكونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
(3/356)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} أي : من عاهدوا الله والاستفهام للتقرير ، أي قد علموا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} أي : ما أسروه في أنفسهم من العزم على الإخلاف ولم يتكلموا به سراً ولا جهراً وما يتناجون به فيما بينهم من تسمية الزكاة جزية وغير ذلك مما لا
470
خير فيه.
والتناجي (بايكديكر راز كردن) يقال نجاه نجوى وناجاه مناجاة ساره والنجوى السر كالنجي {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} فلا يخفى عليه شيء من الأشياء فكيف يجترئون على ما هم عليه من النفاق والعزم على الإخلاف.
مكن انديشه عصيان و ميدانى كه ميداند
مبين در روى اين وآن وميدانى كه مى بيند
وفي الآيات إشارات :
منها : أن من نذر نذراً فيه قربة نحو أن يقول إن رزقني الله ألف درهم فعليّ أن تصدق بخمسمائة لزمه الوفاء به ومن نذر ما ليس بقربة أو بمعصية ، كقوله : نذرت أن أدخل الدار ، أو قالعليَّ أن أقتل فلاناً اليوم فحنث يلزمه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فالواجب واحد من هذه الثلاثة والعبد مخير فيه فإن عجز عن أحد هذه الأشياء الثلاثة صام ثلاثة أيام متتابعات وإن علق النذر بشرط يريد وجوده ، نحو أن يقول : إن قدم فلان أو إن قدمت من سفري أو إن شفى الله من مريضي أو قضى ديني فلله عليّ صيام أو صدقة أو إن ملكت عبداً أو هذا العبد فعليّ أن أعتقه يلزمه الوفاء بما نذر لأنه نذر بصيغة وليس فيه معنى اليمين وإن علقه بشرط لا يريد وجوده ، كقوله : إن كلمت فلاناً أو دخلت الدار فعليّ صوم سنة يجزئه كفارة يمين والمنذور إذا كان له أصل في الفروض أي واجب من جنسه لزم الناذر كالصوم والصلاة والصدقة والاعتكاف وما لا أصل له في الفروض فلا يلزم الناذر كعيادة المريض وتشييع الجنازة ودخول المسجد وبناء القنطرة والرباط والسقاية وقراءة القرآن ونحوها والأصل فيه أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى تحصيلاً للمصلحة المعلقة بالنذر والنذر الغير المعلق لا يختض بزمان ومكان ودرهم وفقير بخلاف المعلق ، فلو قال الناذر عليّ أن أتصدق في هذا اليوم بهذا الدرهم على هذا الفقير فتصدق غداً بدرهم آخر على غيره أجزأه عندنا ولا يجزئه عند زفر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
واعلم : أن المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى لكونها أبنية الأنبياء عليهم السلام لها فضيلة تامة ، ولهذا قال الفقهاء : لو نذر أن يصلي في أحد هذه الثلاثة تعين بخلاف سائر المساجد فإن من نذر أن يصلي في أحدها له أن يصلي في الآخر.
ومنها : أن النفاق عبارة عن الكذب وخلف الوعد والخيانة إلى ما ائتمن كما أن الإيمان عبارة عن الصدق وملازمة الطاعة لأن الله تعالى خلق الصدق فظهر من ظله الإيمان وخلق الكذب فظهر من ظله الكفر والنفاق وفي الحديث : "ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" يعني : من يحدث عالماً بأنه كذب وتعهد عازماً على عدم الوفاء وينتظر الأمانة للخيانة ولعل هذا يكون في حق من اعتاد بهذه الخصال لا في حق من ندرت منه كما هو مذهب البخاري وبعض العلماء ومذهب الجمهور على أن هذه الخصال خصال المنافقين وصاحبها شبيه لهم فإطلاق اسم المنافق عليه على سبيل التجوز تغليظاً كما أن الله تعالى قال ومن كفر مكان ومن لم يحج لكمال قبحه.
قال صاحب "التحفة" : ليس الغرض أن آية المنافق محصورة في الثلاث بل من أبطن خلاف ما أظهر فهو من المنافقين.
واعلم أن المنافقين صنفان صنف معلنو الإسلام ومسروه في بدء الأمر وذلك
471
لغلبة صفات النفاق وقوتها في النفس وصنف معلنو الإسلام ومسروه في بدء الأمر إلى أن استعملوا هذه الصفات المستكنة في النفس فيظهر بالفعل كما كان بالقوة وذلك لضعفها في النفس فيعقبهم النفاق إلى الأبد بالشكوك الواقعة في قلوبهم وهم عن هذا النوع من النفاق غافلون وهم يصومون ويصلون ويزعمون أنهم مسلمون.
قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بمنافقيها وجئنا بالحجاج فضلناهم.
يقول الفقير سامحه الله القدير هذا الكلام بالنسبة إلى ذلك الوقت ولو أنه رأى وزراء آل عثمان ووكلاءهم في هذا الزمان لوجدهم أرجح من كل منافق لأنه بلغ نفاقهم إلى حيث أخذوا الرشوة من الكفار ليسامحوهم في مقاتلتهم ومحاربتهم خذلهم الله ودمرهم.
ومنها ذم البخل والحرص على الدنيا وفي الحديث : "ثلاث لا يحبهم الله ورسوله وهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين البخيل والمتكبر والأكول" وفي الحديث : "ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة ، يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم ، فيقول الله تعالى : بعزتي وجلالي لأبعدنهم ولأقربنكم".
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
كنج قارون كه روميرود از قهر هنوز
خوانده باشى كه هم ازغيرت درويشانست
(3/357)
وفي الحديث : "ما جبل وليإلا على السخاء" وأجود الأجواد هو الله تعالى ألا ترى أنه كيف خع خلعة الوجود على عامة الكائنات مجاناً وأنعم عليهم أنواع النعم الظاهرة والباطنة أي حيث منع الخلق عن المهالك كالشهوات لا بخلاً بل شوقاً إلى اللذات الباقية.
{الَّذِينَ} رفع على الذم أي المنافقون هم الذين {يَلْمِزُونَ} قال في "القاموس" اللمز العيب والإشارة بالعين ونحوها أي يعيبون ويغتابون {الْمُطَّوِّعِينَ} أي : المتطوعين المتنفلين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} حال من المطوعين {فِي الصَّدَقَـاتِ} متعلق بيلمزون روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم خطب ذات يوم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك يحث الناس على الإنفاق والإعانة في تجهيز العسكر ، فكان أول من جاء بالصدقة أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم ، فقال له رسول الله : "هل أبقيت لأهلك شيئاً" قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله ، فقال : له عليه السلام : "هل أبقيت لأهلك شيئاً" قال النصف الثاني فقال : "ما بينكما ما بين كلاميكما" ومنه يعرف فضل أبي بكر على عمر رضي الله عنه وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها فإنه جهز عشرة آلاف أنفق عليها عشرة آلاف دينار وصب في حجر النبي عليه السلام ألف دينار وأعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرساً وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلّم "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض" وفي الحديث : "سألت ربي أن لا يدخل النار من صاهرته أو صاهرني" وقد كان عليه السلام زوج بنته رقية من عثمان فماتت بعد ما خرج رسول الله إلى بدر ، فلما رجع من بدر زوجه أم كلثوم ولذا سمى عثمان بذي النورين ولما ماتت أم كلثوم قال عليه السلام : "لو كان عندي ثالثة لزوجتكها" وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم فقال عليه السلام : "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" فبارك الله له حتى بلغ ماله حين مات وصولحت إحدى نسائه الأربع عن ربع ثمنها على ثمانين ألف درهم ونيف ، فكان ثمن
472
ماله أكثر من ثلاثمائة ألف وعشرين ألفاً وفي رواية جاء بأربعين أوقية من ذهب ، ومن ثمة قيل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كانا خزانتين من خزائن الله في الأرض ينفقان في طاعة الله تعالى ، وجاء العباس بمال كثير ، وكذا طلحة وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر والوسق ستون صاعاً بصاع النبي عليه السلام وهو أربعة أمداد وكل مد رطل وثلث رطل بالبغدادي عند أبي يوسف والشافعي ، والرطل : مائة وثلاثون درهماً وعند أبي حنيفة كل مد رطلاً وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال يا رسول الله بت ليلتي كلها أجر بالجرير على صاعين أما أحدهما فأمسكته لعيالي وأما الآخر فأقرضته ربي فأمره رسول الله أن ينثره في الصدقات فطعن فيهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وسمعة وإن أبا عقيل جاء ليذكر بنفسه ويعطى من الصدقة بأكثر مما جاء به وإن الله لغني عن صاع أبي عقيل فأنزل الله هذه الآية {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} عطف على المطوعين أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم من الصدقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
قال الحدادي : عابوا المكثر بالرياء والمقل بالإقلال يقال الجهد بالفتح المشقة والجهد بالضم الطاقة وقيل الجهد في العمل والجهد في القوة.
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} عطف على يلمزون أي يستهزئون بهم ، والمراد بهم الفريق الأخير كأبي عقيل.
{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أي : جازاهم على سخريتهم فيكون تسمية جزاء السخرية سخرية من قبيل المشاكلة لوقوعه في صحبة قوله فيسخرون منهم {وَلَهُمْ} أي : ثابت لهم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} على كفرهم ونفاقهم.
اي كه دارد نفاق اندر دل
خار بادش خلده اندر حلق
هركه سازد نفاق يشه خويش
خوار كردد بنزد خالق وخلق
قال الحدادي : ولما نزلت هذه الآية أتى المنافقون إلى رسول الله وقالوا يا رسول الله استغفر لنا فكان عليه السلام يستغفر لقوم منهم على ظاهر الإسلام من غير علم منه بنفاقهم وكان إذا مات أحد منهم يسألون رسول الله الدعاء والاستغفار لميتهم فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون فأعلمه الله أنهم منافقون وأخبر أن استغفاره لا ينفعهم فذلك قوله تعالى :
(3/358)
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} خرج الكلام مخرج الأمر ومعناه الشرط أي إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر فالأمران متساويان في عدم النفع الذي هو المغفرة والرحمة.
{إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} قوله مرة انتصب على المصدر أي سبعين استغفارة أو على الظرف أي سبعين وقتاً وتخصيص السبعين بالذكر لتأكيد نفي المغفرة ؛ لأن الشيء إذا بولغ في وصفه أكد بالسبع والسبعين وهذا كما يقول القائل لو سألتني حاجتك سبعين مرة لم أقضها لا يريد أنه إذا زاد على السبعين قضى حاجته فالمراد التكثير لا التحديد.
{فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَالِكَ} أي : امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة في الاستغفار ليس لعدم الاعتداد باستغفارك بل {بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب إنهم {كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي : كفراً متجاوزاً عن الحد كما يلوح به وصفهم بالفسق في قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده ، أي لا يهديهم هداية موصلة إلى المقصد ألبتة لمخالفة ذلك
473
للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع.
وأما الهداية : بمعنى الدلالة على ما يوصل إليه فهي متحققة لا محالة ولكنهم بسوء اختيارهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
وفيه إشارة إلى أن استغفار النبي عليه السلام لأحد من غير استغفاره لنفسه لا ينفعه فاليأس من المغفرة وعدم قبول استغفاره ليس لبخل من الله ، ولا لقصور في النبي عليه الصلاة والسلام ، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها ، كما قال المولى جلال الدين في "شرح الهياكل" المحال لا يدخل تحت قدرة قادر ، ولا يلزم من ذلك النقص في القادر بل النقص في المحال حيث لا يصلح لتعلق القدرة انتهى ومنه يعرف معنى قول العرفي الشيرازي :
ذات تو قادرست بايجاد هر محال
الا بآفريدن ون تو يكانه
وفي عبارته سوء أدب كما لا يخفى.
واعلم : أن من كفرهم وفسقهم سخريتهم في أمر الصدقات ولو كان لهم إيمان وإصلاح لبالغوا في الإنفاق وجدّوا في البذل كالمخلصين.
وفي "التأويلات النجمية" : قلب المؤمن منور بالإيمان وروحه متوجه إلى الحق تعالى فالحق يؤيد روحه بتأيد نظر العناية وتوفيق العبودية فيسطع من الروح نور روحاني مؤيد بنور رباني فتنبعث منه الخواطر الرحمانية الداعية إلى الله تعالى بأعمال موجبة للقربة من الفرائض والنوافل فتارة تكون الأعمال بدنية كالصوم والصلاة وتارة تكون تلك الأعمال مالية كالزكاة والصدقة فيتطوع بالصدقة فضلاً عن الزكاة وفي الحديث : "إن النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها" وقلب المنافق مظلم بظلمات صفات النفس لعدم نور الإيمان وروحه متوجه إلى الدنيا وزخارفها بتبعية النفس الأمارة بالسوء مطرود بالخذلان لأن قرينه الشيطان فبتأثير الخذلان ومقارنة الشيطان يصعد من النفس ظلمة نفسانية تمنع القلب من قبول الدعوة وإجابة الرسل وإتباع الامر واجتناب النواهي بالصدق وتنبعث منة الخواطر الظلمانية النفسانية وبذالك يمتنع عن أداء الفرائض فضلاً عن النوافل والتطوعات ويهزأ بمن يفعل ذلك.
روي أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه في المنام فلما رأى عظمته غشي عليه فلما أفاق قال : إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته من الحسنات فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي أملأها بتمرة.
وروي أن الحسن مر به نخاس ومعه جارية جميلة فقال للنخاس أترضى في ثمنها بدرهم أو درهمين قال : لا ، قال : فاذهب فإن الله يرضى في الحور العين بالفلس والفلسين.
قال السعدي قدس سره :
بدنيا تواني كه عقبى خرى
يخرجان من ورنه حسرت خورى
واعلم أن النوافل مقبولة بعد أداء الفرائض وإلا فهي من علامات أهل الهوى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} المخلف ما يتركه الإنسان خلفه والمتخلف الذي تأخر بنفسه والمراد المنافقون الذين خلفهم النبي عليه السلام بالمدينة حين الخروج إلى غزوة تبوك بالإذن لهم في القعود عند استئذانهم.
{بِمَقْعَدِهِمْ} مصدر ميمي بمعنى القعود متعلق بفرح أي بقعودهم وتخلفهم عن الغزو.
{خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ} ظرف للمصدر أي خلفه وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا فالخلاف بمعنى خلف ، كما في قوله تعالى : {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلَـافَكَ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 76) يقال أقام زيد خلاف القوم أي تخلف عنهم بعد ذهابهم ظعن أولم يظعن ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة
474
(3/359)
فيكون انتصابه على العلة لفرح أي فرحوا لأجل مخالفتهم إياه عليه السلام بأن مضى هو للجهاد وتخلفوا عنه.
{وَكَرِهُوا أَن يُجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} إيثاراً للدعة والخفض ، أي الراحة وسعة العيش على طاعة الله مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق.
وفي ذكر الكراهة بعد الفرح الدال عليها تعريض بالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وآثروا تحصيل رضاه تعالى وفي قوله : كرهوا مقابلة معنوية مع فرح لأن الفرح من ثمرات المحبة.
{وَقَالُوا} أي : قال بعضهم لبعض تثبيتاً لهم على التخلف والقعود وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ونهياً لهم عن المعروف فقد جمعوا ثلاث خصال من خصال الكفر والضلال الفرح بالقعود وكراهة الجهاد ونهي الغير عن ذلك.
{لا تَنفِرُوا} أي : لا تخرجوا {فِى الْحَرْبِ} فإنه لا تستطاع شدته وكانوا دعوا إلى غزوة تبوك في وقت نضج الرطب وهو أشد ما يكون من الحر وقول عروة بن الزبير أن خروجه عليه السلام لتبوك كان في زمن الخريف لا ينافي وجود الحر في ذلك الزمن لأن أوائل الخريف وهو الميزان يكون فيه الحر.
,
جزء : 3 رقم الصفحة : 474
وكان ممن تخلف عن مسيره معه صلى الله عليه وسلّم أبو خيثمة ولما سار عليه السلام أياماً دخل أبو خيثمة على أهله في يوم حار فوجد أمرأتين له في عريشتين لهما في حائط قد رشت كل منهما عريشتها وبردت فيها ماء وهيأت طعاماً فلما دخل نظر إلى امرأتيه وما صنعتا فقال رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحر وأبو خيثمة في ظل وماء بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء ما هذا بالنصف ، ثم قال والله لا أدخل عريشة واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيئا لي زاداً ففعلتا ثم قدم ناضحة فارتحلها وأخذ سيفه ورمحه ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه".
قال الحافظ :
ملول ازهمر هان بودن طريق كارد انى نيست
بكش دشوارىء منزل بياد عهد آساني
وقال :
مقام عيش ميسر نميشود بى رنج
بلى بحكم بلا بسته اند حكم الست
وقال :
من ازديار حبيبم نه ازديار غريب
مهيمنا بعزيزان خودرسان باشم
{قُلِ} رداً عليهم وتجهيلاً {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} من هذا الحر وقد آثرتموها بهذه المخالفة فما لكم لا تحذرونها {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي : يعلمون أنها كذلك لما خالفوا وفي الحديث : "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من أجزاء نار جهنم" وبيانه أنه لو جمع حطب الدنيا فأوقد كله حتى صار ناراً لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءاً أشد من حر نار الدنيا.
وفي الخبر ، لما أهبط آدم عليه السلام مضى جبرائيل إلى مالك وأخذ منه جمرة لآدم فلما تناولها أحرقت كفه فقال ما هذه يا جبرائيل قال جمرة من جهنم غسلتها سبعين مرة ثم آتيتها إليك فألق عليها الحطب واخبز وكل ثم بكى آدم وقال كيف : "تقوى أولادي على حرها فقال له جبرائيل ليس لها على أولادك المطيعين من سبيل" كما ورد في الحديث : "تقول جهنم للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" ومن كان مع الله لا يحرقه شيء ألا ترى إلى حال النبي عليه السلام
475
ليلة المعراج كيف تجاوز عن كرة الأثير ولم يحترق منه شعر وكانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 474
{فَلْيَضْحَكُوا} ضحكاً {قَلِيلا} في الدنيا وهو إشارة إلى مدة العمر وعمر الدنيا قليل فكيف عمر من في الدنيا فإنه أقل من القليل {وَلْيَبْكُوا} بكاء {كَثِيرًا} في الآخرة في النار {جَزَآءُ} مفعول له للفعل الثاني أي : ليبكوا جزاء.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من فنون المعاصي وهذا لفظ أمر ومعناه خبر أي يضحكون قليلاً ويبكون دائماً وإنما أخرج في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عند المأمور به.
يروي أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم وفي الحديث : "يرسل الله البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم يبكون الدم حتى ترى وجوههم كهيئة الأخدود" ويجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء عن الغم وأن تكون القلة عبارة عن العدم والكثرة عن الدوام.
يعني (فردا ايشانرا غمى باشد بي فرح واندوهى بى سرور) فيكون وقت الضحك والبكاء في الآخرة.
ويجوز أن يكون وقتهما في الدنيا أي هم لما هم عليه من الخطر مع رسول الله وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم من أجل ذلك كثيراً نحو قوله عليه السلام لأمته "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً" قال ابن عمر رضي الله عنهما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم فإذا قوم يتحدثون ويضحكون فوقف وسلم عليهم فقال : "أكثروا ذكر هاذم اللذات" قلنا وما هاذم اللذات قال : "الموت" قال الصائب :
بر غفلت سياه دلان خنده ميزند
غافل مشوز خنده داندن نماى صبح
(3/360)
ومر الحسن البصري بشاب وهو يضحك فقال له : يا بني هل مررت على الصراط؟ فقال : لا ، فقال : هل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ فقال : لا ، فقال : ففيم هذا الضحك فما رؤي الفتى بعد ذلك يضحك.
قيل : لما فارق موسى الخضر عليهما السلام قال : إياك واللجاجة ولا تكن مشاء إلا لحاجة ولا ضحاكاً من غير عجب كان وابككِ على خطيئتك يا ابن عمران.
قال محمد بن واسع إذا رأيت رجلاً في الجنة يبكي ألست تتعجب من بكائه قال : بلى ، قال : فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلام يصير هو أعجب منه.
وعن وهب بن منبه أنه قال إن زكريا عليه السلام فقد ابنه يحيى عليه السلام فوجده مضطجعاً على قبر يبكي فقال : يا بني ما هذا البكاء ، قال : أخبرتني أمي أن جبريل أخبرك أن بين الجنة والنار مفازة ذات لهب لا يطفىء حرها إلا الدمع فقال زكريا ابك يا بني ابك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 474
وعن كعب الأحبار أنه قال إن العبد لا يبكي حتى يبعث الله إليه ملكاً فيمسح كبده بجناحه فإذا فعل ذلك بكى.
وعن أنس قال ثلاثة أعين لا تمسها النار عين فقئت في سبيل الله وعين باتت تحرس في سبيل الله وعين دمعت من خشية الله.
وفي الحديث : "لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إليّ من أن تصدق بألف دينار" وفي التوراة يا ابن آدم إذا دمعت عيناك فلا تمسح الدموع بثوبك ولكن امسحها بكفك فإنها رحمة.
قال العلماء : البكاء على عشرة أنواع : بكاء فرح ، وبكاء حزن ، وبكاء رحمة ، وبكاء خوف ، مما يحصل ، وبكاء كذب كبكاء النائحة ؛ لأنها تبكي لشجو غيرها وجاء "تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب
476
من لعنة ودرع من جرب ، وضعت يدها على رأسها تقول واويلاه وتنبح كما ينبح الكلب".
وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكي مع عدم علمه بالسبب ، وبكاء المحبة والشوق ، وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله ، وبكاء الجور والضعف.
وبكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس.
وأما التباكي فهو تكلف البكاء وهو نوعان محمود ومذموم.
والأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب.
والثاني ما يكون لأجل الرياء والسمعة كما في "إنسان العيون".
والحاصل : أن طالب الآخرة ينبغي له تقليل الضحك وتكثير البكاء ولا يغفل عن الموت ولقاء الجزاء فإنه كم ضاحك وكفنه عند القصار.
قال الحافظ :
ديد آن قهقهه كبك خرامان حافظ
كه زسر نه شاهين قضا غافل بود
{فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} من الرجع المتعدي دون الرجوع اللازم يقول رجع رجوعاً أي انصرف ورجع الشيء عن الشيء ، أي صرفه ورده كأرجعه.
والمعنى فإن ردك الله من غزوة تبوك.
{إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} الطائفة من الشيء القطعة منه وضمير منهم إلى المنافقين المتخلفين في المدينة دون المتخلفين مطلقاً منافقاً كان أو مخلصاً فإن تخلف بعضهم إنما كان لعذر عائق مع الإسلام أو إلى من بقي من المنافقين لأن منهم من مات ومنهم من غاب عن البلد ومنهم من تاب ومنهم من لم يستأذن وعن قتادة أنهم كانوا اثني عشر رجلاً قيل فيهم ما قيل.
{فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه وهي تبوك.
{فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} أي : لا تأذن لهم بحال وهو إخبار في معنى النهي للمبالغة ، وكذا قوله : {وَلَن تُقَـاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا} من الأعداء {إِنَّكُمْ} تعليل لما سلف ، أي : لأنكم {رَضِيتُم بِالْقُعُودِ} أي : عن الغزو وفرحتم بذلك {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي الخرجة إلى غزوة تبوك وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة فإنك لا تكاد تسمع قائلاً يقول هي كبرى امرأة أو أولى مرة.
{فَاقْعُدُوا} من بعد {مَعَ الْخَـالِفِينَ} أي : المتخلفين الذين ديدنهم القعود والتخلف دائماً لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان ففي الخالفين تغليب الذكور على الإناث.
جزء : 3 رقم الصفحة : 474
فإن قيل : كانت أعمال المنافقين من الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد مقبولة عند النبي عليه السلام وإن لم تكن مقبولة عند الله تعالى فكان النبي عليه السلام يقول نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر فما الحكمة في أن الله تعالى أمر النبي عليه السلام بأن لا يقبل من المتخلفين أعمالهم من الخروج معه والقتال مع العدو وغير ذلك.
قلنا : إن الحكمة في ذلك والله أعلم أن المنافقين لما كانوا يظهرون الإسلام والائتمار بأوامر النبي عليه السلام وسرائرهم موكولة إلى الله تعالى طمعاً في إنابتهم ورجوعهم من النفاق إلى الوفاق فلما أظهروا ما اضمروا ردت إليهم أعمالهم فكان الحكم بالظاهر أيضاً فافهم.
قال العلماء : أخرجهم الله تعالى من ديوان الغزاة ومحا أساميهم من دفتر المجاهدين وأبعد محلهم من محفل صحبة النبي صلى الله عليه وسلّم عقوبة لهم على تخلفهم لما فيه من الإهانة وإظهار نفاقهم وبيان أنهم ليسوا ممن يتقوى به الدين ويعز الإسلام كالمؤمنين
477
(3/361)
الخلص نسأل الله تعالى صحبة الدين وصحبة أهل الدين إلى يوم الدين.
روي أن زيد بن حارثة كان لخديجة اشتري لها بسوق عكاظ فوهبته لرسول الله فجاء أبوه يريد شراءه منه فقال عليه السلام : "إن رضي بذلك فعلت" فسئل زيد ، فقال : ذل الرقبة مع صحبة أحب الخلق إلى الحق أحب إلى من الحرية مع مفارقته ، فقال عليه السلام : "إذا اختارنا اخترناه" فأعتقه وزوجه أم أيمن وبعدها زينب بنت جحش.
قال الحافظ :
كدايى در جانان بسلطنت مفروش
كسى زسايه اين در بافتاب رود
والمنافقون لما لم يكن لهم استعداد لهذه الصحبة الشريفة فارقوه عليه السلام في السفر والحضر لأن كل امرىء يصبو إلى من يجانس ، وقدم ناس إلى مكة ، وقالوا قدمنا إلى بلدكم فعرفنا خياركم من شراركم في يومين ، قيل كيف؟ قالوا لحق خيارنا بخياركم ، وشرارنا بشراركم فألف كل شكله.
قيل :
وإذا الرجال توسلوا بوسيلة
فوسيلتي حبي لآل محمد
قال الكاشفي : (جهاد كار مردان مردو مبارزان ميدان نبرد است ازهر تردامنى اين كار نيايد ونامرد بى درد مبارزت معركه مجاهدت را نشايد).
يا برو همون زنان رنكى وبويى يش كير
يا و مردان اندر آى وكوى درميدان فكن
قال السعدي قدس سره :
ندهد هوشمند روشن رأى
بفرومايه كارهاى خطير
بوريا باف اكره بافندست
نبرندش بكار كاه حرير
ومن بلاغات الزمخشري لا تصلح الأمور إلا بأولي الألباب والأرحاء لا تدور إلا على الأقطاب جمع قطب وهو وتد الرحى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 474
{وَلا تُصَلِّ} يا محمد {عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم} أي : من المنافقين وهو صفة لأحد.
{مَّاتَ} صفة أخرى ويجوز أن يكون منهم حالاً من الضمير في مات كذا في "تفسير أبي البقاء" {أَبَدًا} ظرف للنهي أي لا تدع ولا تستغفر لهم أبداً وهو الأظهر.
وقيل : منصوب بمات على أن يكون المعنى لا تصل على أحد منهم ميت مات أبداً بأن مات على الكفر فإن من مات على الكفر ميت أبداً وإن إحياءه للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحي وكان حذيفة رضي الله عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له يوماً : "إني مسر إليك سراً فلا تذكرنه إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان" وعد جماعة من المنافقين ولما توفى رسول الله كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات الرجل ممن يظن أنه من أولئك أخذ بيد حذيفة فناداه إلى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر ، وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه.
{وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أي : ولا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة والدعاء وكان النبي عليه السلام "إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له" {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تعليل للنهي على أن الاستغفار للميت والوقوف على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيل في حقهم لأنهم استمروا على الكفر بالله وبرسوله مدة حياتهم قال الحافظ قدس سره :
478
بآب زمزم وكوثر سفيدنتوان كرد
كليم بخت كسى راكه بافتند سياه
وقال السعدي قدس سره :
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
جزء : 3 رقم الصفحة : 478
(3/362)
{وَمَاتُوا وَهُمْ فَـاسِقُونَ} أي : متمردون في الكفر خارجون عن حدوده.
روي عن ابن عباس أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرضه فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ، ثم إنه أرسل إليه عليه السلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده فطلب الذي يلي جلده ، فقال عمر رضي الله عنه تعطي قميصك لرجس النجس فقال عليه السلام : "إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً وأرجو من الله تعالى أن يدخل به ألف في الإسلام" وذلك أن المنافقين كانوا لا يفارقون ابن أبي فلما رأوه يطلب منه عليه السلام قميصه يتبرك به ويرجو أن ينفعه القميص في دفع عذاب الله وجلب رحمته وفضله ، أسلم ألف من الخروج وإنما قال عليه السلام إن قميصي لا يغني لعدم الأساس الذي هو الإيمان ومثله إنما يؤثر عند صلاح المحل ويدل عليه قوله عليه السلام : "ادفنوا أمواتكم وسط قوم صالحين فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء" وما يروى الأرض المقدسة لا تقدس أحداً إنما يقدس المرء عمله وقد ثبت أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه لما قتل سفيان بن خالد الهذلي ووضع بين يديه عليه السلام دفع إليه عصا كانت بيده وقال : "تخصر بهذه في الجنة" أي توكأ عليها فكانت تلك العصا عنده فلما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يجعلوها بين جلده وكفنه ففعلوا وثبت أنه عليه السلام "حلق رأسه الشريف معمر بن عبد الله فأعطى نصف شعر رأسه لأبي طلحة وفرق النصف الآخر بين الأصحاب شعرة وشعرتين فكانوا يتبركون بها وينصرون ما داموا حاملين لها" ولذا قال في "الأسرار المحمدية" : لو وضع شعر رسول الله أو عصاه أو سوطه على قبر عاص لنجا ذلك العاصي ببركات تلك الذخيرة من العذاب وإن كان في دار إنسان أو بلدة لا يصيب سكانها بلاء ببركته وإن لم يشعروا به ومن هذا القبيل ماء زمزم والكفن المبلول به وبطانة أستار الكعبة والتكفن بها وكتابة القرآن على القراطيس والوضع في أيدي الموتى انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 478
أقول : إن قلت قد ثبت أن في خزانة السلاطين خصوصاً في خزانة آل عثمان شيئاً مما يتبرك به من خرقة النبي عليه السلام وغيرها ورأيناهم قد لا ينصرون ومعهم شيء من لوائه عليه السلام ويصيب بلدتهم آفات كثيرة؟ قلت : لذلك لهتكم الحرمة ألا ترى أن مكة والمدينة كان لا يدخلهما طاعون فلما هتك السكان حرمتهما دخلهما والله الغفور فلما مات ابن أبي انطلق ابنه وكان مؤمناً صالحاً إلى النبي عليه السلام ودعاه إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام : "ما اسمك"؟ قال : الحباب بن عبد الله فقال عليه السلام : "أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب هو الشيطان" أي اسمه كما في "القاموس" ثم قال : "صل عليه وادفنه" فقال إن لم تصل عليه يا رسول الله لا يصلي عليه مسلم أنشدك الله أن لا تشمت بي الأعداء فأجابه عليه السلام تسلية له ومراعاة لجانبه فقام ليصلي عليه فجاء عمر رضي الله عنه فقام بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه وقال : أتصلي على عدو
479
الله القائل كذا يوم كذا وكذا وكذا وعد أيامه الخبيثة فنزلت الآية وأخذ جبرائيل عليه السلام بثوبه وقال لا تصل على أحد منهم مات أبداً فأعرض عن الصلاة عليه وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه فإن الوحي كان ينزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو منصب عال ودرجة رفيعة له في الدين فلذا قال عليه السلام في حقه "لو لم أبعث لبعثت نبياً يا عمر" وقال : "إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون فإنه إن كان في أمتي هذه فإنه عمر بن الخطاب" رضي الله عنه.
والمحدث بفتح الدال المشددة : هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به فراسة وهي الإصابة في النظر ويكون كما قال وكأنه حدثه الملأ الأعلى وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء ولم يرد النبي عليه السلام بقوله إن كان في أمتي التردد في ذلك لأن أمته أفضل الأمم وإذا وجد في غيرها محدثون ففيها أولى بل أراد به التأكيد لفضل عمر كما يقال إن يكن لي صديق فهو فلان يراد به اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي سائر الأصدقاء وقد قيل في فضيلة عمر رضي الله عنه :
له فضائل لا تخفى على أحد
إلا على أحد لا يعرف القمرا
كذا في "شرح المشارق" لابن ملك.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال إنه عليه السلام رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم أنه كافر مات على الكفر وأن صلاته عليه دعاء له بالمغفرة وقد منعه الله من أن يستغفر للمشركين وأعلمه أنه لا يغفر للكفار وأيضاً الصلاة عليه ودفع قميصه إليه توجب إعزازه وهو مأمور بإهانة الكفار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 478
(3/363)
فالجواب إن الخبيث لما طلب منه أن يرسل إليه قميصه الذي يمس جلده الشريف ليدفن فيه غلب على ظنه أنه قد تاب عن نفاقه وآمن لأن ذلك الوقت وقت توبة الفاجر وإيمان الكافر فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارات الدالة على إسلامه غلب على ظنه أنه صار مسلماً فرغب في أن يصلي عليه فلما أتى جبريل وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه امتنع من الصلاة عليه.
وقيل : نزلت الآية بعدما صلى ولبث يسيراً فما صلى بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره.
وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوهاً.
منها : أن العباس عم النبي عليه السلام لما أخذ أسيراً يوم بدر ولم يجدوا له قميصاً يساوي قده وكان رجلاً طويلاً كساه عبد الله قميصه فهو عليه السلام إنما دفع إليه قميصه مكافاة لإحسانه ذلك لا إعزاز له.
ومنها : أنه تعالى أمره أن لا يرد سائلاً حيث قال : {وَأَمَّا السَّآاـاِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى : 10) فالضنة بالقميص وعدم إرساله سيما وقد سئل فيه مخل بالكرم.
ومنها : أنه لعله أوحي إليه أنك إن دفعت إليه قميصك صار ذلك حاملاً لدخول ألف نفر من المنافقين في الإسلام ففعل ذلك بناء عليه والله أعلم بحقيقة الحال وما علينا إلا القبول وطي المقال وهو الهادي إلى طريق التحقيق.
{وَلا تُعْجِبْكَ} الإعجاب (شكفتى نمودن وخوش آمدن خطاب بآن حضرتست ومرادامت اند يعني در عجب ندارد شمارا) {أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَـادُهُمْ} الضمير للمنافقين.
قال الكاشفي : (ما لهاى منافقان اكره بسيارست وفرزندان ايشان كه قوى وبا اقتدارند) وتقديم الأموال في أمثال هذه المواقع على الأولاد مع كونهم أعزّ منها إما لعموم مساس الحاجة إليها بحسب
480
الذات وبحسب الأفراد والأوقات فإنها مما لا بد منه لكل أحد من الآباء والأمهات والأولاد في كل وقت وحين حتى أن من له أولاده ولا مال له فهو وأولاده في ضيق ونكال وأما الأولاد فإنما يرغب فيهم من بلغ مبلغ الأبوة وإما لأن المال مناط لبقاء النفس والأولاد لبقاء النوع وإما لأنها أقدم في الوجود من الأولاد لأن الأجزاء المنوية إنما تحصل من الأغذية.
{أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} بما متعهم به من الأموال والأولاد.
{أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِى الدُّنْيَا} (بسبب جمع مال ومحافظت آن يوسته دررنج باشند وبراى رونق أحوال أولاد وتهيه أسباب ايشان همواره محنت ومشقت كشند) {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} الزهوق (برآمدن جان) أي : تخرج ويموتوا {وَهُمْ كَـافِرُونَ} أي كافرون بسبب اشتغالهم بالتمتع بها والإلهاء عن النظر والتدبر في العواقب (درويشى ميكفت اغنيا اشقى الأشقيا اند مال دنيا جمع ميكنند بأنواع رشانى وزحمت ونكاه ميدارند باصناف بليت ومشقت ويمكذارند بصد هزار حسرت)
جزء : 3 رقم الصفحة : 478
در اول و خواهى كنى جمع مال
بسى رنج بر خويش بايد كماشت
س از بهر آن تابماند بجاى
شب وروز مى بايدت اس داشت
وزين جمله آن حال مشكلترست
كه آخر بحسرت ببايد كدشت
واعلم : أن هذه الآية مرت في هذه السورة الكريمة مع التغاير في بعض الألفاظ فالتكرير لتأكيد النصيحة بها والاعتناء بشأنها تنبيهاً على أن هذه النصيحة مما لا ينبغي أن يذهل السامع عنها ، وأن الناصح لا بد له أن يرجع إليها في أثناء كلامه دائماً ولا سيما إذا تباعد أحد الكلامين عن الآخر بناء على أن الأبصار طامحة أي مرتفعة ناظرة إلى الأموال والأولاد وأن النفوس مغتبطة أي متمنية لهما حريصة عليهما والأموال والأولاد ، وإن كانت نعمة في حق المؤمنين فإنها نقمة في حق المنافقين لكونها شاغلة لقلوبهم عن الله وطلبه وأشد عذاب القلوب من الحجاب ومن عذب بالحجاب فقد حرم من الإيمان ، كما قال تعالى : {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـافِرُونَ} أي مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد كما في "التأويلات النجمية" وفي الحديث "الدنيا محفوفة باللذات والشهوات فلا تلهينكم شهوات الدنيا ولذاتها عن الآخرة فإنه لا دنيا لمن لا آخرة له ولا آخرة لمن لا دنيا له يعمل فيها بطاعة الله تعالى" يعني : إن المؤمن يتزود لآخرته بالعبادات المالية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 478
{وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن {أَنْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ} أن مصدرية حذف منها الجار أي : بأن آمنوا بالله.
{وَجَـاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} لإعزاز دينه وإعلاء كلمته.
{اسْتَـاْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} أي ذوو الفضل والسعة والقدرة على الجهاد بدناً ومالاً من المنافقين.
قال الحدادي : الطول في الحقيقة هو الفضل الذي يتمكن به من مطاولة الأعداء.
(3/364)
قال الرازي في سورة النساء : أصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر ؛ لأنه إذا كان طويلاً ففيه كمال وزيادة كما أنه إذا كان قصيراً ففيه قصور ونقصان وسمي الغنى أيضاً طولاً لأنه ينال به من المرادات ما لا ينال عند الفقر كما أنه ينال بالطول ما لا ينال بالقصر انتهى.
{وَقَالُوا ذَرْنَا} دعنا {نَكُن مَّعَ الْقَـاعِدِينَ} أي : الذين قعدوا عن الغزو لما بهم من عذر {رَضُوا} أي المنافقون {بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي : مع النساء المتخلفات في البيوت
481
والحي بعد أزواجهن جمع خالفة فالتاء للتأنيث وقد يقال الخالفة الذي لا خير فيه فالتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية لا للتأنيث ، ولعل الوجه في تسمية من لا خير فيه من الرجال خالفة كونه غير مجيب إلى ما دعى إليه من المهمات.
{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (ومهر نهاده شده بردلهاى ايشان).
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
قال الحدادي : معنى الطبع في اللغة جعل الشيء كالطابع نحو طبع الدينار والدرهم قال في المصادر والتركيب يدل على نهاية ينتهى إليها الشيء حتى يختم عندها ويقاس على هذا طبع الإنسان وطبيعته وطباعه أي سجيته التي جبل عليها وخص القلب بالختم لأنه محل الفهم ولذا قال : {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} ما في الإيمان بالله وطاعته في أوامره ونواهيه وموافقة الرسول والجهاد من السعادة وما في أضداد ذلك من الشقاوة.
{لَـاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} بالله وبما جاء من عنده تعالى أي آمنوا كما آمن هو عليه السلام ؛ إذ لا شك أن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارناً لزمان إيمان الرسول ، فهو كقوله تعالى : {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ} (النمل : 44) أي : إسلام سليمان أي أسلمت كما أسلم سليمان {جَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} لكن لم يختل أمر الجهاد بتخلفهم لأنه قد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً {وَأُوالَـائِكَ} (وآن كروه) {لَهُمْ} بواسطة نعوتهم المذكورة {الْخَيْرَاتِ} أي : منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في العقبى.
ويجوز أن يكون معناه الزوجات الحسان في الجنة وهن الحور لقوله تعالى : {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} (الرحمن : 70) وهي جمع خيرة تخفيف خيرة وخيرات العابدين هي الحسنات فهي متعلقة بأعمالهم وخيرات العارفين مواهب الحق تعالى فهي متعلقة بأحوالهم {وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي : الفائزون بالمطلوب لا من حاز بعضاً من الحظوظ الفانية عما قريب.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} أي : هيأ لهم في الآخرة {جَنَّـاتُ} جمع جنة وهي البستان الذي فيه أشجار مثمرة {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي : من أسافل أرضها أو من تحت أشجارها أو من تحت القصور والغرف لا تحت الأرض.
{الانْهَـارَ} جمع نهر وهو مسيل الماء سمي به لسعته وضيائه ، وفي الحديث : "في الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر" ثم تشتق الأنهار منها بعد وقيل النهر واحد ويجري فيه الخمر والماء والعسل واللبن لا يخالط بعضها بعضاً ، وقال بعضهم الجاري واحد ويختلف باختلاف الأمنية.
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي : مقدراً خلودهم في تلك الجنات الموصوفة.
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما فهم من إعداد الله سبحانه لهم الجنات المذكورة من نيل الكرامة العظمى.
{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه فازوا بالجنة ونعيمها ونجوا من النار وجحيمها وفي الحديث : "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار" وفي الخبر : "من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" فقد اشترط في هذا القول الإخلاص ولا يكون الإخلاص إلا بمنعه من الذنوب وإلا فليس بمخلص ويخاف أن يكون ذلك القول عنده عارية والعارية تسترد منه والإخلاص من صفات القلب وتحليته بالأوصاف الحميدة إنما هي بعد تزكية النفس عن الرذائل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
قال في "التأويلات النجمية" : الخلاص من حجب النفس وصفاتها هو الفوز العظيم لأن عظم الفوز على قدر عظم الحجب ولا حجاب أعظم من حجاب النفس والفوز منها يكون فوزاً عظيماً انتهى.
وفي "المثنوي" :
482
جمله قرآن شرح خبث نفسهاست
بنكر اندر مصحف آن شمت كجاست
هين مرواندر ى نفس وازغ
كوبكورستان برد نى سوى باغنفس اكره زيركست وخرده دان
قبله اش دنياست اورا مرده دان(3/365)
وفي الحديث : "إن في الجنة مائة درجة" المراد بالمائة هنا الكثرة وبالدرجة المرقاة "أعدها الله للمجاهدين في سبيله" وهم الغزاة أو الحجاج أو الذين جاهدوا أنفسهم لمرضاة ربهم "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض" وهذا التفاوت يجوز يكون صورياً وأن يكون معنوياً فيكون المراد من الدرجة المرتبة فالأقرب إلى الله تعالى يكون أرفع درجة ممن دونه "فإن سألتم الله فاسألوه الفردوس" وهو بستان في الجنة جامع لأنواع الثمر "إنه أوسط الجنة" يعني أشرفها "وأعلى الجنة" قيل : فيه دلالة على أن السموات كرية فإن الأوسط لا يكون أعلى إلا إذ كان كرياً وإن الجنة فوق السموات تحت العرش.
قال الإمام الطيبي : النكتة في الجمع بين الأوسط والأعلى أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي.
وأقول : يحتمل أن يكونا حسيين لأن كونهما أحسن وأزين مما يحس "وفوقه عرش الرحمن" هذا يدل على أنه فوق جميع الجنان "ومنه تفجر" أصله تتفجر فحذف إحدى التاءين "أنهار الجنة" ، وهي أربعة مذكورة في قوله تعالى : {فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ * وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ} (محمد : 15) المراد منها أصول أنهار الجنة كذا في "شرح المشارق" لابن ملك نسأل الله سبحانه الرفيق الأعلى والنظر إلى وجه الأبهى وجماله الأسنى {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدوا حقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له.
فالمعذر اسم فاعل من باب التفعيل أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين فيكون اسم فاعل من باب الافتعال والاعتذار قد يكون بالكذب وقد يكون بالصدق وذلك لأن الاعتذار.
عبارة عن الإتيان بما هو في صورة العذر سواء كان للمعتذر عذر حقيقة أو لم يكن.
والأعراب سكان البوادي من العرب لا واحد له والعرب خلاف العجم وهم سكان الأمصار أو عام والعربة ناحية قرب المدينة وأقامت قريش بعربة فنسبت العرب إليها وهي باحة العرب وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل عليه السلام كما في "القاموس".
والمراد بالمعذرين أسد وغطفان واستأذنوا في التخلف حين الخروج إلى غزوة تبوك معتذرين بالجهد أي ضيق العيش وكثرة العيال أو رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا فقال عليه السلام : "سيغنيني الله عنكم" واختلفوا في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة والظاهر الثاني ويدل عليه كلام "القاموس" حيث قال قوله تعالى : {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} بتشديد الذال المكسورة وهم المعتذرون الذين لهم عذر وقد يكون المعذر غير محق فالمعنى المقصرون بغير عذر انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
أقول وعلى كل حال لا يثبت النفاق إذ المقصر وهو المعتذر للفتور والكسل لا يكون كافراً وإن كان مذموماً وقد اضطرب كلام المفسرين هناك فعليك بضبط المبنى وأخذ المعنى {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهم منافقو الاعراب الذين لم يجيبوا ولم يعتذروا
483
ولم يستأذنوا في القعود فظهر أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمان والطاعة.
قال في "إنسان العيون" : وجاء المعذرون وهم الضعفاء والمقلون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف فأذن لهم وكانوا اثنين وثمانين رجلاً وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة وجراءة على الله ورسوله وقد عناهم الله بقوله : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} انتهى.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أي : من الأعراب أو من المعذرين وعلى كل تقدير فمن تبعيضية لا بيانية إذ ليس كلهم كفرة وقد علم الله تعالى أن بعض الأعراب سيؤمن وأن بعض المعذرين يعتذر لكسله لا لكفره {عَذَابٌ أَلِيمٌ} بالقتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة.
قال في "التأويلات النجمية" : الخلق ثلاث طبقات.
الأولى : المعذرون وهم المقصرون المعترفون بتقصيرهم وذنوبهم التائبون عن ذنوبهم المتداركون بالرحمة والمغفرة.
والثانية : القاعدون وهم الكاذبون الكذابون الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله من الكافرين والمنافقين المتداركون بالخذلان والعذاب الأليم كما قال : {وَقَعَدَ الَّذِينَ} الآية.
والثالثة : المؤمنون المخلصون الصادقون الناصحون ولكن فيهم أهل العذر وإليه الإشارة بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
(3/366)
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ} (نيست برناتوانان وعاجزان) كالهرمى والزمنى جمع هرم بكسر الراء وهو كبير السن وجمع زمن وهو المقعد {وَلا عَلَى الْمَرْضَى} (ونه بربيماران ومعلول) جمع مريض {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} لفقرهم كمزينة وجهينة وبني عذرة {حَرَجٌ} إثم في التخلف والتأخر عن الغزو ثم إنه تعالى شرط في انتفاء الحرج عنهم شرطاً معيناً فقال {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} قال أبو البقاء العامل فيه معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذٍ.
والنصح إخلاص العمل من الغش يقال نصح الشيء إذا خلص ونصح له في القول إذا كلمه بما هو خير محض له والناصح الخالص وفي الحديث : "الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة" ذكرها ثلاث مرات قيل : هذا الكلام مدار الإسلام لأن النصيحة هي إرادة الخير معناه عماد الدين النصيحة كما يقال الحج عرفة أي عماده "قالوا لمن يا رسول الله قال " معنى نصيحته تعالى الإيمان به وإخلاص العمل فيما أمر به "ولرسوله" نصيحته تصديقه بكل ما علم مجيئه به وإحياء طريقه "ولكتابه" نصيحته الاعتقاد بأنه كلام الله والعمل بمحكمه ، والتسليم لمتشابهه وفي الحقيقة هذه النصائح راجعة إلى العبد "ولأئمة المسلمين" نصيحتهم إطاعتهم في المعروف وتنبيههم عندا لغفلة "وعامتهم" نصيحة عامة المسلمين دفع المضار عنهم وجلب المنافع إليهم بقدر الوسع كذا في "شرح المشارق" لابن ملك.
فمعنى الآية أن المتخلفين من أصحاب الأعذار لا إثم عليهم في تخلفهم إذا أخلصوا الإيمانولرسوله وامتثلوا أمرهما في جميع الأمور ومعظمها أن لا يفشوا ما سمعوه من الأراجيف في حق الغزاة وأن لا يثيروا الفتن وأن يسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم.
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} استئناف مقرر لمضمون ما سبق ، أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل ومن زائدة لعموم النفي ووضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على انتظامهم بنصحهمورسوله في سلك المحسنين ، وقد اشتهر أن تعليق الحكم على الوصف
484
المناسب يشعر بعلية الوصف له.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة وإن كان تخلفهم بعذر فإن الإنسان محل التقصير والعجز فلا يسعه إلا العفو.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
شمس هم معده زمين را كرم كرد
تا زمين باقي حدثها را بخورد
جزؤخاكى كشت ورست ازوى نبات
هكذا يمحو إلا له السيئات
اي كه من زشت وخصا لم نيز زشت
ون شوم كل ون مرا او خاركشت
نوبهارا حسن كل ده خاررا
زينت طاوس ده آن ماررا
{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} عطف على المحسنين أي ليس شيء ثابتاً على المحسنين ولا على الذين إذا ما أتوك (ون بيامدند بسوى تو ودرخواست كردند {لِتَحْمِلَهُمْ} تا يشانرا دستوري دهى ويا خود بحرب برى) وهم البكاؤون سبعة من الأنصار : معقل بن يسار ، وصخر بن الخنساء ، وعبد الله بن كعب ، وسالم بن عميرة ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن مغفل ، وعلية بن زيد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة فنغزو معك فقال عليه السلام : "لا أجد" فتولوا وهم يبكون وقيل هم بنو مقرن كمحدث وكانوا سبعة إخوة كلهم صحبوا النبي عليه السلام وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم كذا في "تفسير القرطبي" {قُلْتَ لا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} حال من الكاف في أتوك بإضمار قد ، أي : إذا ما أتوك قائلاً لا أجد وما عامة لما سألوه عليه السلام وغيره مما يحمل عليه عادة من النفقة والظهر وفي إيثار لا أجد على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قلوب السائلين ما لا يخفى كأنه عليه السلام يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده.
{تَوَلَّوْا} جواب إذا (كشتند از يش تو) {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} أي : تسيل بشدة {مِنَ الدَّمْعِ} (از اشك يعني اشك از ديدهاى ايشان ميريخت) وإسناد الفيض إلى العين مجازي كسال الميزاب والأصل يفيض دمعها عدل إلى هذه الصور للدلالة على المبالغة في فيضان الدمع كأن العين كلها دمع فياض.
{حَزَنًا} نصب على العلية والعامل تفيض لا يقال فاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن فكيف نصب لأنا نقول إن الحزن يجوز إسناده إلى العين مجازاً فيقال عين حزينة وعين مسرورة {أَلا يَجِدُوا} أن مصدرية بتقدير لام متعلقة بحزناً ، أي : لئلا يجدوا {مَا يُنفِقُونَ} في شراء ما يحتاجون إليه إذ لم يجدوه عندك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
قال الكاشفي : (عمر وعباس وعثمان رضي الله عنهم ايشانرا زاد وتوشه ومركب داده همراه بردند س حق تعالى ميفرما يدكه بدين نوع مردم اكر تخلف كنند حرجى وعنابى نيست).
جزء : 3 رقم الصفحة : 481
(3/367)
{إِنَّمَا السَّبِيلُ} بالمعاتبة {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} واجدون لأهبة الغزو مع سلامتهم {رَضُوا} استئناف تعليل لما سبق كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء ، فقيل : رضوا {بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي : النساء رضى بالدناءة وإيثاراً للدعة {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (ومهر نهاد خداى تعالى ازخذلان بردلهاى ايشان) حتى غفلوا عن وخامة العاقبة.
{فَهُمْ} بسبب ذلك {لا يَعْلَمُونَ} أبداً غائلة ما رضوا به وما يستتبعه آجلاً كما لم يعلموا بخساسة شأنه آجلاً.
قال أرسطوا : الارتقاء إلى السؤدد صعب ، والانحطاط إلى الدناءة سهل.
وسئل عيسى عليه السلام ، أي الناس أشرف؟ فقبض قبضتين من تراب ، ثم قال : أي هذين
485
أشرف؟ ثم جمعهما وطرحهما ، وقال الناس كلهم من تراب وأكرمهم عند الله أتقاهم ، فالعلو والشرف في التقوى واختيار المجاهدة على الراحة والحزن والبكاء على الفرح والسرور ، وفي الحديث : "أقرب الناس إلى الله يوم القيامة من طال حزنه وعطشه وجوعه".
وقال حكيم : الدنيا سوق الآخرة ، والعقل قائد الخير ، والمال رداء التكبر ، والهوى مركب المعاصي ، والحزن مقدمة السرور.
قال الصائب :
جزء : 3 رقم الصفحة : 485
هر محنتى مقدمه راحتي بود
شد همزبان حق وزبان كليم سوخت
وقد ذم الله تعالى أهل النفاق بالفرح والاستهزاء ومدح أهل الإخلاص بالحزن والبكاء وأدى ضحك أولئك إلى البكاء الكثير وبكاء هؤلاء إلى الضحك الوفير.
وفي "المثنوي" :
تا نكريد ابركى خندد من
تانكريد طفل كى جوشد لبن
هركا آب روان سبزه بود
هر كجا اشك روان رحمت شود
باش ون دولاب نالان شم تر
تاز صحن جانت بر رويد خضر
ثم إن الله تعالى إنما يمنع المرء عن مراده ليستعد له وليزداد شوقه ألا ترى إلى النبي عليه السلام كيف قال : {لا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} عزة وترفعاً واستغناء ودلالاً كما قال تعالى لموسى عليه السلام عند سؤاله بقوله : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَا قَالَ لَن تَرَانِى} (الأعراف : 43) ليزيد بهذا المنع والتعزر شوق موسى عليه السلام فكان منع النبي عليه السلام عنهم من هذا القبيل فزادهم الشوق والحرص على الغزو فلما غلب الشوق وزاد الطلب أعطوا مأمولهم وأجيب سؤلهم كما سبق وهذه حال الصورة وقس عليها حال المعنى فكما أن الفرح في عالم الصورة لا يقدر على الطيران قبل نبات الجناح وهو من الشعر فكذا العاشق لا يقدر على الطيران في عالم المعنى قبل وجود الجناح وهو من العلم والعمل والشوق إلى المولى والتوجه إلى الحضرة العليا وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير في الجنة ذا جناحين يطير بهما حيث شاء مخضوبة قوادمه بالدماء" قال الإمام المنذري : وكان جعفر قد ذهبت يداه في سبيل الله يوم مؤته فأبدله الله بهما جناحين فمن أجل ذا سمي جعفر الطيار.
قال السهيلي : ما ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين إنهما ليسا كما سبق إلى الوهم على مثل جناحي الطائر وريشه لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها وفي قوله عليه السلام : "إن الله خلق آدم على صورته" تشريف لها عظيم وحاشمن التشبيه والتمثيل ولكنها عبارة عن صورة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر كما أعطيها الملائكة وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام : {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (طه : 22) فعبر عن العضد بالجناح توسعاً وليس ثمة طيران فكيف بمن أعطي القوة على الطيران مع الملائكة أخلق به إذن بوصف الجناح مع كمال الصورة الآدمية وتمام الجوارح البشرية وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة واحتجوا بقوله تعالى : {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ} (فاطر : 1) فكيف تكون كأجنحة الطير على هذا ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل فدل على أنها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر ولا ورد أيضاً في بيانها خبر فيجب علينا
486
الإيمان بها ولا يفيدنا إعمال الفكر في كيفيتها علماً وكل امرىء قريب من معاينة ذلك فإما أن يكون من الذين {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت : 30) وإما أن يكون من الذين تقول لهم الملائكة : {بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} (الأنعام ؛ 93) كذا في فتح القريب والله يهدي كل مريب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 485
(3/368)
{يَعْتَذِرُونَ} أي يعتذر المنافقون {إِلَيْكُمْ} في التخلف وكانوا بضعة وثمانين رجلاً والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والآية نزلت قبل وقوع الاعتذار ، ولذا قال الكاشفي : (القاء اعتذار خواهد كرد منافقان بسوى شما) {إِذَا رَجَعْتُمْ} من غزوة تبوك منتهين {إِلَيْهِمْ} وإنما لم يقل إلى المدينة إيذاناً بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر بالاعتذار قبل الرجوع إليها.
{قُلِ} يا محمد والتخصيص لما أن الجواب من وظيفته عليه السلام {لا تَعْتَذِرُوا} أي لا تفعلوا الاعتذار ، لأنه {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدقكم في اعتذاركم ، لأنه {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي : أعلمنا بالوحي بعض أخباركم المنافية للتصديق وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد.
وفي "المثنوي" :
از منافق عذررد آمد نه خوب
زانكه در لب بود آن نى در قلوب
كذب ون خس باشد ودل ودهان
خس نكردد دردهان هركزنهان
{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} فيما سيأتي {وَرَسُولَهُ} أتتوبون عن الكفر والنفاق أم تثبتون عليه وكأنه استتابة وإمهال للتوبة.
{ثُمَّ تُرَدُّونَ} يوم القيامة {إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ} وهو ما غاب عن العباد.
{وَالشَّهَـادَةِ} وهو ما علمه العباد.
{فَيُنَبِّئُكُم} عند ردكم إليه ووقوفكم بين يديه.
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة والمراد بالتنبئة بذلك المجازاة به وإيثارها عليها للإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم ، وإنما يعلمونها يومئذٍ حين يرونها على صورها الحقيقة.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} تأكيداً لمعاذيرهم الكاذبة القائلين والله ما قدرنا على الخروج ولو قدرنا عليه لما تخلفنا.
{إِذَا انْقَلَبْتُمْ} أي انصرفتم من الغزو.
{إِلَيْهِمْ} وهم جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما.
{لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} إعراض صفح وهو الإعراض عن الذنب وتتركوا لومهم وتعنيفهم.
{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} لكن لا إعراض رضى كما هو طلبتهم ، بل إعراض اجتناب ومقت وتحقير.
{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي : كالنتن الذي يجب الاجتناب عنه وفيهم رجس روحاني.
جزء : 3 رقم الصفحة : 485
وقال في "التبيان" أي نجس ، وعملهم
487
قبيح لا يتطهرون بالتقريع أي ، مصيرهم {جَهَنَّمَ} من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب وموجبات ترك استصلاحهم باللوم والعتاب.
{جَزَآءُ} أي : يجزون جزاء {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} في الدنيا من فنون السيئات.
{يَحْلِفُونَ} به تعالى {لَكُمُ} (براى شما) {لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} بحلفتهم الكاذبة ولتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم.
{فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ} المتمردين في الكفر فإن رضاكم لا يستلزم رضي الله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه.
والمقصود من الآية نهي المخاطبين عن الرضى عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضى عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن كما في "الإرشاد" روي أن النبي عليه السلام حين قدم المدينة قال : "لا تجالسوهم ولا تكلموهم" وفيه إشارة إلى هجر المنافق والمصر على ذنبه إلى أن يتوب.
قال محمد الباقر رضي الله عنه : أوصاني أبي زين العابدين رضي الله عنه ، فقال : لا تصحبن خمسة ، ولاتحاد بهم ، ولا ترافقهم في الطريق : لا تصحبن فاسقاً فإنه يبيعك بأكلة فما دونها ، قلت : يا أبت وما دونها قال يطمع فيها ثم لا ينالها ، ولا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه ، ولا تصحبن كذاباً فإنه بمنزلة السراب يبعد عنك القريب ويقرب منك البعيد ، ولا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، وقد قيل عدو عاقل خير من صديق أحمق ، ولا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع.
ثم في الآيات بيان أن الاعتذار الباطل مردود على صاحبه وإن كان قبول العذر من أخلاق الكرام في نفس الأمر.
وفي "المثنوي" :
عذر أحمق بدترا از جرمش بود
عذر نادان زهر هردانش بود
وبيان أن اليمين الكاذبة لترويج عذره وغرضه باطلة ومذمومة بل رب يمين صادقة لا يتجاسر عليها من هو بصدد التقوى حذراً من ابتذال اسم الله تعالى فلا بد من ضبط اللسان وفي الحديث : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس".
جزء : 3 رقم الصفحة : 485
(3/369)
وبيان أن المنافقين رجس ، أي : جعلوا على طينة خبيثة غير طيبة ولذا كسبوا بخباثة تلك الطينة أعمالاً خبيثة وأوصافاً ذميمة وبها صاروا مستحقين للنار مطلقاً أي صورية وهي نار جهنم ومعنوية وهي نار القطيعة والهجران من الله تعالى ومن الرسول عليه السلام والمؤمنين أجمعين (شبلى ديد زنى راكه مى كريد وميكويد يا ويلاه من فراق ولدى شبلي كريست وكفت يا ويلاه من فراق الاخدان زن كفت را نين ميكويى شبلى كفت توكريه ميكنى بر مخلوقي كه هر آيينه فانى خواهد شد من را كريه نكنم بر فراق خالقى كه باقي باشد).
فرزند ويار ونكه بميرند عاقبت
اي دوست دل مبند بجزحى لا يموت
فعلى العاشق المهجور أن يبكي من ألم الفراق ويبالغ في الوجد والاشتياق لعل الله تعالى يزيل البين من البين ويجعله بعد غمه وهمه قرير العين ويرضى عنه كما رضي عن الأبرار والمقربين ولا يسخط عليه إلى أبد الآبدين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 485
{الاعْرَابُ} جمع أعرابي كما أن العرب جمع عربي والمجوس جمع مجوسي واليهود جمع يهودي بحذف ياء النسبة في الجمع والفرق بين العرب والأعراب
488
أن العرب صنف خاص من بني آدم سواء سكن البوادي أم القرى.
وأما الأعراب فلا يطلق إلا على من يسكن البوادي فالعرب أعم.
وقيل : العرب هم الذين استوطنوا المدن والقرى والأعراب أهل البدو فيكونان متباينين ، أي : أصحاب البدو.
{أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر لأن أهل البدو تشبه الوحوش من حيث إنهم مجبولون على الامتناع عن الطاعة والانقياد لأن استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم يزيدهم قساوة لقلوبهم وهي تستتبع التكبر والفخر والطيش عن الحق ولأن من لم يدخل تحت تأدب مؤدب ولم يخالط أهل العلم والمعرفة ولم يستمع كتاب الله ومواعظ رسوله كيف يكون مساوياً لمن أصبح وأمسى في صحبة أهل العلم والحكمة مستمعاً لمواعظ الكتاب والسنة ولذا ورد في الحديث : "أهل الكفور أهل القبور" الكفور : جمع كفر وهي القرية لسترها الناس.
والمعنى أن سكان القرى بمنزلة الموتى لا يشاهدون الأمصار والجمع.
وفي "الفردوس الأعلى" : يريد بها القرى البعيدة عن الأمصار ومجتمع أهل العلم لكون الجهل عليهم أغلب وهم إلى البدع أسرع.
قال في "المثنوي" :
ده مرو ده مرد را أحمق كند
عقل را بى نور وبى رونق كند
قول يغمبر شنو اي مجتبى
كور عقل آمد وطن درروستا
وإن شئت تعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية فقابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية.
قال في "الإرشاد" : هذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ كَفُورًا} (الإسراء : 67) إذ ليس كل الأعراب كما ذكر على ما ستحيط به خبراً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 488
قال الكاشفي : (مراد بنو تميم وبنو اسد وغطفان واعراب حوالى مدينه اند نه تمام اهل باديه بلكه اين جمع مخصوص).
{وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا} أي أحق وأولى أن لا يعلموا {حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي : حدود العبادات والشرائع المنزلة من الله تعالى على رسوله فرائضها وسننها ، وذلك لكونهم أبعد عن استماع القرآن والسنن ولذلك تكره إمامة الأعرابي في الصلاة كما في "الحدادي".
قال العلماء : إذا كان الإمام يرتكب المكروهات في الصلاة كره الاقتداء به وينبغي للناظر وولى الأمر عزله كما في "فتح القريب".
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال كل من أهل الوبر والمدر {حَكِيمٌ} فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب.
قال في "التأويلات النجمية" : إن في عالم الإنسان بدواً وهو نفسه وحضراً وهو قلبه كما أن في عالم الصورة بدواً وحضراً والأعراب إشارة إلى النفس وهواها وهو الكفر والنفاق لها ذاتي كما أن الإيمان للقلب ذاتي من فطرة الله التي فطر الناس عليها فيحتمل أن يصير القلب كافراً بسراية صفة النفس إليه فيتلوّن بلون النفس.
وفي "المثنوي" :
اندك اندك آب را دزد هوا
وين نين دزددهم احمق ازشما
كرميت را دزدد وسردى دهده
همنان كوزير خود سنكى نهد
كما يحتمل أن تصير النفس مؤمنة لسراية صفة القلب فتلون بلون القلب.
مكو زنهار اصل عود وبست
بين دودش ه مستثنى وخوبست
يعني : بسبب مجاورة كلاب وذلك مشهور والنفس تكون أشد كفراً ونفاقاً من القلب وإن كان
489
كافراً كما أن القلب يكون أشد إيماناً من النفس وإن كانت مؤمنة.
{وَأَجْدَرُ} يعني : النفس وصفاتها أولى من القلب.
{أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي : من الواردات النازلة على الأرواح فإن الروح بمثابة الرسول في عالم الصورة.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في أن يجعل بعض النفس الكافرة مؤمنة وبعض القلب المؤمن كافراً.
(3/370)
{وَمِنَ الاعْرَابِ} أي ومن جنس الأعراب الذي نعت بنعت بعض أفراده.
{مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} من المال أي يعد ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به صورة.
{مَغْرَمًا} مصدر بمعنى الغرامة والغرم وهو ما ينوب الإنسان في ماله من ضر لغير جناية ومن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يرجو على إنفاقه في سبيل الله ثواباً ولا يخاف على تركه عقاباً فلا جرم يعد ما أنفقه غرامة وضياع مال بلا فائدة وإنما ينفق رياء أو تقية.
{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآاـاِرَ} والتربص الانتظار ، والدوائر : جمع دائرة وهي ما يدور حول الإنسان من المصائب والآفات ومعنى تربص الدوائر انتظار المصائب بأن تنقلب دولة المسلمين بموت الرسول صلى الله عليه وسلّم وغلبة الكفار عليهم فيتخلصوا من الإنفاق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 488
يقول الفقير : وهذا النفاق موجود الآن ألا ترى إلى بعض المتسمين بسمة الإسلام كيف يتمنى ظهور الكفار ليتخلص من الإنفاق والتكاليف السلطانية ولذا لا يتصدق إلا كرهاً خلصه الله وإيانا من كيد النفس والشيطان وجعله الله وإيانا من المتحققين بحقيقة الإيمان.
{عَلَيْهِمْ دَآاـاِرَةُ السَّوْءِ} (برايشان باد كردش روز كار بدايشان منقلب شود) فهو دعاء عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين.
والسوء بالفتح مصدر ساء نقيض سر ثم اطلع على كل ضرر وشر وأضيفت إليه الدائرة ذاتاً كما يقال رجل سوء لأن من دارت عليه يذمها وهي من باب إضافة الموصوف إلى صفته فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغة ثم أضيفت إلى صفتها.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما يقولون عند الإنفاق مما لا خبر فيه {عَلِيمٌ} بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر.
{وَمِنَ الاعْرَابِ} أي : من جنسهم على الإطلاق كما في "الإرشاد" من أسد وجهينة وغفار وأسلم كما في "التبيان" {مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} قال في "الروضة" سمع أعرابي قوله تعالى : {الاعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} فانقبض ثم سمع {وَمِنَ الاعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} فقال : الله أكبر هجانا الله ثم مدحنا {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} أي ينفقه في سبيل الله {قُرُبَـاتٍ} أي سبب قربات وذرائع إليها وهي ثاني مفعولي يتخذ {عِندَ اللَّهِ} صفتها.
قال الحدادي : أي يتخذ نفقته في الجهاد تقرباً إلى الله تعالى في طلب المنزلة عنده والثواب والجمع باعتبار أنواع القربات أو أفرادها.
وفيه إشارة إلى الحديث القدسي "من تقرّب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي : وسائل إليها وسببها فإنه عله السلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، ولذلك سنّ للمُتَصَدَّق عليه وهو من يأخذ الصدقة أن يدعو للمُتَصَدِّق ، أي معطي الصدقة عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما فعله عليه السلام حين قال : "اللهم صل على آل أبي أوفى" فإن ذلك منصبه فله أن يتفضل به على من يشاء.
{إِلا} كلمة تنبيه {أَنَّهَا} أي : النفقة المدلول عليها بما ينفق والتأنيث باعتبار الخير {قُرْبَةٌ} عظيمة {لَهُمْ} أي : سيقربهم الله بهذا الإنفاق إذا فعلوا وهو شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه من كون ما ينفقونه
490
في سبيل الله سبب قربات وتصديق لرجائهم.
{سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ} وعد لهم بإحاطة رحمته الواسعة بهم وتفسير للقربة.
والسين لتحقيق الوعد لأنها في الإثبات بمنزلة لن في النفي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 488
وقال الكاشفي : (زود باشدكه در آرد خداى تعالى ايشانرا دربهشت خودكه محل نزول رحمتست).
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} (آمر زنده است مر متصدقا نرا) {رَّحِيمٌ} (مهربانيست بر مقربان).
واعلم : أن فضل الصدقة والإنفاق لا يخفى على أحد.
حكي أنه وقع القحط في بني إسرائيل فدخل فقير سكة من السكك وكان فيها بيت غني فقال تصدقوا عليّ لأجل الله فأخرجت إليه بنت الغني خبزاً حاراً فاستقبله الغني فقال من دفع إليك هذا الخبز فقال ابنة من هذا البيت فدخل وقطع يد ابنته اليمنى فحول الله حاله فافتقر ومات فقيراً ثم إن شاباً غنياً استحسن الابنة لكونها حسناء فتزوجها وأدخلها داره فلما جنّ الليل أحضرت مائدة فمدت اليد اليسرى فقال الغني سمعت أن الفقراء يكونون قليلي الأدب فقال مدي يدك اليمنى فمدت اليسرى ثانياً وثالثاً فهتف بالبيت هاتف أخرجي يدك اليمنى فالرب الذي أعطيت الخبز لأجله رد عليك يدك اليمنى فأخرجت يدها اليمنى بأمر الله تعالى وأكلت كذا في "روضة العلماء".
ففي الحكاية : أن من آتاه الله تعالى نعمة فلم يؤد شكرها عوقب بزوالها ألا ترى إلى بلعم لم يشكر نعمة الإسلام فقبضه الله على ملة الكفر كما في "منهاج العابدين" فإن من طلب رضى الله تعالى في كل فعل وترك جبر الله كسره وإن الأكل باليسرى خلاف الأدب فإن الشيطان يأكل بيساره إلا أن يكون معذوراً بسبب من الأسباب.
وفي "المثنوي" :
(3/371)
كفت يغمبر كه دائم بهر ند
دو فرشته خوش منادى ميكنند
كاى خدايا منفقانرا سيردار
هردرمشان را عوض ده صد هزار
اي خايا ممسكانر درجهان
تومده الازيان اندر زيان
آن درم دادن سخى را لائق است
جان س ردن خود سخاى عاشق است
نا دهى ازبره حق نانت دهند
جان دهى ازبهر حق جانت دهند
هركه كارد كرد انبارش تهى
ليكش اندر مزرعه باشد بهى
وانكه در ابنار ماند وصرفه كرد
اسبش وموش وحواد نهاش خورد
قيل ما منع مال من حق إلا ذهب في باطل أضعافه قال علي رضي الله عنه "فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما منع غني والله سائلهم عن ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 488
{وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ} والمراد ، قدماء الصحابة وهم الذين سبقوا إلى الإيمان وصلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً وكان أول من أسلم خديجة رضي الله عنها وعليه الجمهور.
{وَالانصَارِ} أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير كما سيأتي وإنما مدح السابقين لأن السابق إمام للتالي والفضل للمتقدم ، {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ} أي : ملتبسين به والمراد به كل خصلة حسنة وهم اللاحقوق بالسابقين من الفريقين.
وقيل : المراد بهم جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار فإنهم سابقون إلى الإسلام بالنسبة إلى سائر المسلمين فمن بيانية والتابعون هم أهل الإيمان إلى يوم القيامة.
491
{رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} خبر للمبتدأ أي رضي عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم {وَرَضُوا عَنْهُ} بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ} (وآماده كرد خداى تعالى مر ايشانرا) {جَنَّـاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَـارُ} (بستانها كه ميرود درزير درختان آن جويها) القراء يقرؤون تحتها الأنهار في هذا الموضع بغير من إلا ابن كثير فإنه يقرأ من تحتها كما هو في سائر المواضع.
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} مقدراً خلودهم في تلك الجنات {أَبَدًا} من غير انتهاء فهو لاستغراق المستقبل كما أن الأزل لاستغراق الماضي ولاستعمالهما في طول الزمانين جداً قد يضافان إلى جمعهما فيقال أبد الآباد وأزل الآزال وأما السرمد فلاستغراق الماضي والمضارع.
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما فهم من إعداد الله سبحانه لهم الجنات المذكورة من نيل الكرامة العظمى.
{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 491
واعلم أنه عليه السلام أوحي إليه وهو ابن أربعين سنة في مكة فبايعه جماعة من الناس فعدا عليهم كفار قريش فظلموهم ليردوهم إلى ما كانوا عليه فأمرهم النبي عليه السلام بالهجرة إلى أرض الحبشة وملكها وهو النجاشي فخرجوا نحواً من ثمانين رجلاً من رجب من السنة الخامسة من النبوة وهذه هي الهجرة الأولى ثم بايعه في كل واحدة من العقبتين جمع من الأنصار وكانت بيعة العقبة الأولى في سنة إحدى عشرة من النبوة وبيعة العقبة الثانية في السنة الثانية عشرة ولما انصرف أهل العقبة الثانية إلى المدينة بعث عليه السلام معهم مصعب بن عمير ليفقه أهلها ويعلمهم القرآن فأسلم خلق كثير منهم وسمي أهل المدينة أنصاراً مع أن المهاجرين أيضاً نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنهم نصروه عليه السلام والذين هاجروا إليهم من المؤمنين لما جاؤوهم آووهم ونصروهم ، ثم اجتمعوا جميعاً على نصرته صلى الله عليه وسلّم في الغزوات ، ثم هاجر عليه السلام إلى المدينة في السنة الرابعة عشرة من النبوة وهي الهجرة الثانية.
وأما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة : فهو وقع يوم الثلاثاء من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقامه بالمدينة ، وفي هذه السنة وقعت غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان في تاسع عشرة ، وكانت غزوة الحديبية في سنة ست من الهجرة وفيها وقعت بيعة الرضوان.
قيل : أجمع أصحابنا على أن أفضل هذه الأمة الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
وفي السابقون ، وجوه أخر السابقون ، أي : الذين سبقت لهم العناية الأزلية كما قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} (الأنبياء : 101) الأولون في سبق العناية لهم ، وأيضاً السابقون في الخروج من العدم الأولون عند الخروج وهم أهل الصف الأول في عالم الأرواح إذ كانت الأرواح صفوفاً كالجنود المجندة ، وأيضاً السابقون في الخروج من صلب آدم عند أخذ ذرات ذرياته من صلبهم الأولون عند استماع خطاب ربهم ، وأيضاً السابقون الأولون عند تخمير طينة آدم بيده أربعين صباحاً بمماسة ذراتهم بيد القدرة وباستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين ، وأيضاً السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى حضرة الربوبية على أقرانهم الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال.
(3/372)
واعلم أن هذا السبق مخصوص بالنبي عليه السلام وأمته كما أخبر بقوله : "نحن الآخرون السابقون" أي : الآخرون خروجاً في الصورة السابقون دخولاً في المعنى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 491
قال في "فتح القريب" نحن الآخرون في الزمان
492
والوجود وإعطاء الكتاب والأولون يوم القيامة أي بالفضل ودخول الجنة وفصل القضاء فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم انتهى فالسبق إما بالقدم وإما بالهمم والثاني هو المرجح المقدم.
يحكي عن أبي القاسم الجنيد قدس سره قال : كنت أبكر الجامع فأسمع قد سبقت يا أبا القاسم فاقدم الوقت في الجمعة الثانية فأسمع قد سبقت يا أبا القاسم فلم أزل كذلك حتى أصل الصبح في الجامع فسمعت قد سبقت يا أبا القاسم فسألت الله أن يعرفني من يسبقني مع بكوري فهتف بي هاتف من زاوية المحراب الذي سبقك هو الذي يخرج آخر الناس فصليت الجمعة ثم جلست إلى العصر فصليت جماعة ثم جلست إلى أن خرج الناس وفي آخرهم شيخ همّ أي كبير فتعلقت به فقلت له يا شيخ متى تحضر الجماعة قال : وقت الزوال قلت فبأي شيء تسبقني فقد دللت عليك فقال يا أبا القاسم أنا إذا خرجت من الجامع نويت إن بقيت إلى يوم مثله حضرت الجامع قال فعرفت أن السبق بالهمم لا بالقدم.
قال في "المثنوي" :
أول فكر آخر آمد در عمل
خاصه فكري كوبود وصف ازل
دل بكعبه ميرود در هر زمان
جسم طبعي دل بكيرد زا متنان
اين درازوكوتهى مر جسم راست
ه درازوكوته آنجاكه خداست
ون خدامر جسم راتبديل كرد
رفتنش بي فرسخ وبي ميل كرد
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم} خبر مقدم لقوله منافقون ، أي : حول بلدتكم يعني المدينة.
{مِّنَ الاعْرَابِ} من أهل البواد وقد سبق الفرق بينه وبين العرب.
{مُنَـافِقُونَ} وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها.
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} قوم {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (خوكرده اند واقامت نموده برنفاق يا در منافقى ماهر شده اند) والمرود على الشيء التمرن عليه والمهارة فيه باعتياده والمدينة.
إذا أطلقت أريد بها دار الهجرة التي فيها بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومنبره وقبره من مدن بالمكان إذا أقام به فتكون الميم أصلية.
والجمع : مدن بضم الدال وإسكانها ومدائن بالهمزة أو من دان إذا أطاع والدين الطاعة فتكون الميم زائدة والجمع مداين بلا همز كمعايش بالياء.
ولها أسماء كثيرة منها طابة وطيبة بفتح الطاء وسكون الياء لخلوها من الشرك أو لطيبها بساكنيها لأمنهم ودعتهم أو لطيب عيشها فيها أو لكونها طاهرة التربة أو من النفاق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 491
وفي الحديث : "تنفي الناس" أي شرارهم "كما ينفي الكير خبث الحديد" ، وفي الحديث : "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" تدخل بلا عوج والمراد بالمدينة جميع الشأم فإنها من الشأم خص المدينة بالذكر لشرفها فعلى هذا تكون المدينة شامية كما ذهب إليه ابن ملك.
قال النووي : ليست شامية ولا يمانية بل هي حجازية.
وقال الشافعي : مكة والمدينة يمنيتان.
{لا تَعْلَمُهُمْ} بيان لقوله : (مردوا على النفاق) أي : بلغوا من المهارة في النفاق إلى حيث خفي نفاقهم عليك مع كمال فظنتك وقوة فراستك فالمراد لا تعرف حالهم ونفاقهم {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} منافقين ونطلع على أسراره إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا {سَنُعَذِّبُهُم} السين للتأكيد {مَّرَّتَيْنِ} .
روى أنه عليه السلام قام خطيباً يوم الجمعة فقال : "اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق"
493
فأخرج ناساً وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر.
وفي بعض الآثار : أن المنافق يسأل أربعين يوماً فلا يقدر على الجواب ، ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير كما في قوله تعالى : {اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (الملك : 3) أي : كرة بعد أخرى {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة.
{إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} هو عذاب النار (وبحقيقت عذاب عظيم بعد ايشانست ازدركاه عزت ومحجو بيت ايشان ازنور لقا ورؤيت وهي عذابي از نكبت حرمان ومشقت هجران بزر كتر نيست).
از فراق تلخ ميكوئى سخن
هره خواهى كن وليكن آن مكن
تلخ تر از فرقت تو هي نيست
بى ناهت غير يا ي نيست
صد هزاران مرك تلخ از دست تو
نيست مانند فراق روى تو
جور دوران وهرآن رنجى كه هست
سهلتر از بعد حق وغفلتست
زانكه اينها بكذرد وان نكذرد
دولت آن داردكه جان آكه برد
از فراق اين خاكها شوره بود
آب زردو كنده و تيره بود
دوزخ ازفرقت نان سوزان شده است
بيد ازفرقت نان لرزان بده است
كر بكويم از فراق ون شرار
تا قيامت يك بود از هزار
جزء : 3 رقم الصفحة : 491
(3/373)
{وَءَاخَرُونَ} أي : ومن أهل المدينة قوم آخرون.
{اعْتَرَفُوا} أقروا {بِذُنُوبِهِمْ} التي هي تخلفهم عن العفو وإيثار الدعة عليه والرضى بسوء جوار المنافقين وندموا على ذلك ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة ، وهم طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد عندما بلغهم ما نزل في المتخلفين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من سفره فدخل المسجد أولاً فصلى ركعتين حسب عادته الكريمة ورآهم كذلك فسأل عن شأنهم فقالوا هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله وأقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقهم فقال عليه السلام : "وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم" فنزلت فأطلقهم وأعذرهم.
{خَلَطُوا عَمَلا صَـالِحًا} هو ما سبق منهم من الأعمال الصالحة والخروج إلى المغازي السابق وما لحق من الاعتراف بذنوبهم في التخلف عن هذه المرة وتذممهم وندامتهم على ذلك.
{وَءَاخَرَ سَيِّئًا} هو ما صدر عنهم من الأعمال السيئة أولاً وآخراً فيدخل فيه التخلف عن غزو تبوك وتبديل الواو بالباء حيث لم يقل بآخر يؤذن بكون كل منهما مخلوطاً به ، وهو أبلغ فإن قولك خلطت الماء باللبن يقتضي إيراد الماء على اللبن دون العكس وقولك خلطت الماء واللبن معناه إيقاع الخلط بينهما من غير دلالة على اختصاص أحدهما بكونه مخلوطاً والآخر بكونه مخلوطاً به.
قال الحدادي : يقال خرجوا إلى الجهاد مرة وتخلفوا مرة فجمعوا بين العمل الصالح والعمل السيء كما يقال خلط الدنانير والدراهم ، أي جمعهما وخلط الماء واللبن أي أحدهما بآخر.
{عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أن يقبل توبتهم المفهومة من اعترافهم بذنوبهم.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يتجاوز عن سيئات التائب ويتفضل عليه وهو تعليل لما يفيده كلمة عسى من وجوب القبول فإنها للإطماع الذي هو من أكرم الأكرمين
494
إيجاب وأي إيجاب.
قال أدى وإنما ذكر لفظ عسى ليكون الإنسان بين الطمع والإشفاق فيكون أبعد من الاتكال والإهمال.
ون بدى كناهرا دانى
كشدت جانب شيمانى
ورندانى كنا هراكه بدست
آن نشان شقاوت ابدست
اعلم أن بعض النفوس منافق وبعضها كافر وبعضها مؤمن فالمنافق منها كالصفة الحيوانية من الشهوات فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهراً لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بحيث تنتزع عنها الشهوة ، بل تكون مغلوبة والكافر منها كالصفة البهيمية في طلب الاغتذاء من طلب المأكول والمشروف ، فإنها لا تتبدل بضدها وهو الاستغناء عن الأكل والشرب لحاجة الجسد إلى الغذاء بدل ما يتحلل من الجسد ، والمؤمن منها كالصفة السبعية والشيطانية من الغضب والكبر والعداوة والخيانة فإنها تحتمل أن تتبدل بأضدادها من الحلم والتواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإسلام ، وترشح نور الإيمان على القلب وانشراح الصدر بنور ربها وهذه الصفات وغيرها من صفات النفس إذا لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما جعل النبي عليه السلام الكذب والخيانة وخلف الوعد والغدر من النفاق فقال : "أربع من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه "مسلم إذا حدّث كذب ، وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها".
جزء : 3 رقم الصفحة : 491
فعلى العاقل أن يجتهد بأحكام الشريعة وآداب الطريقة إلى أن يحصل الخلاص من النفاق بالكلية ثم إن الاعتراف بالخطيئة ميراث للمؤمن من أبيه آدم عليه السلام.
روي أنه بكى على ذنبه مائتي سنة حتى قبل الله توبته وغفر ذنبه ولذا قالوا ينبغي للتائب أن يكثر البكاء والتذلل عند التوبة ويصلي على النبي عليه السلام فإنه شفيع لكل نبي وولي ولذا توسل به آدم إلى الله تعالى ، حيث قال : إلهي بحق محمد أن تغفر لي ويستغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات ومعنى الاستغفار سؤال العبد ربه أن يغفر له ذنوبه ومعنى مغفرته لذنوب عباده أن يسترها عليهم بفضله ولا يكشف أمورهم لخلقه ولا يهتك سترهم ومن شرط التوبة أن لا يتعمد ذنباً فإن وقع منه بسهو أو خطأ فهو معفو عنه بفضل الله تعالى.
قال الحافظ :
جايى كه برق عصيان بر آدم صفى زد
مارا كونه زيبد دعوى بى كناهى
جزء : 3 رقم الصفحة : 491
(3/374)
{خُذِ} يا محمد {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي : من أموال هؤلاء المتخلفين المعترفين بذنوبهم.
{صَدَقَةٍ} حال كونك.
{تُطَهِّرُهُمْ} أي : عما تلطخوا به من أوضار التخلف.
{وَتُزَكِّيهِم بِهَا} أي : تنمى بتلك الصدقة وأخذها حسناتهم وترفعهم إلى مراتب المخلصين.
روي أنه لما حلهم النبي عليه السلام من وثاقهم وتاب الله عليهم راحوا إلى منازلهم وجاؤوا بأموالهم كلها ، وقالوا يا رسول الله هذه أموالنا خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا فكره النبي عليه السلام ذلك فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله ثلث أموالهم لتكمل به توبتهم ويكون جارياً مجرى الكفارة لتخلفهم فهذه الصدقة ليست الصدقة المفروضة فإنها
495
لا تؤخذ هكذا.
وقيل : هذا كلام مبتدأ نزل لإيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء عليه وإن لم يتقدم ذكر لهم كقوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) لدلالة الحال على ذلك والمعنى : خذ من أموال أغنياء المسلمين صدقة أي زكاة وسميت بها لدلالتها على صدق العبد في العبودية وإليه ذهب أكثر الفقهاء.
قال في "الاختيار" : من امتنع عن أداء الزكاة أخذها الإمام كرهاً ووضعها موضعها لقوله تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وفي "الأشباه" المعتمد في المذهب عدم الأخذ كرهاً.
قال في "المحيط" : ومن امتنع من أداء الزكاة فالساعي لا يأخذ منه كرهاً ولو أخذ لا يقع عن الزكاة لكونها بلا اختيار ولكن يجبره بالحبس ليؤدي بنفسه انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
قال في "المبسوط" : وما يأخذ ظلمة زماننا من الصدقات والعشور والجزية والخراج والجبايات والمصادرات ، فالأصح أن يسقط جميع ذلك عن أرباب الأموال إذا نووا عند الدفع التصدق عليهم وقيل : علم من يأخذه بما يأخذ شرط فالأحوط أن يعاد.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم بالخير والبركة واستغفر لهم {إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم فهو فعل بمعنى مفعول كالنقض بمعنى المنقوض.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} باعترافهم {عَلِيمٌ} بندامتهم.
قال في "الكافي" : الصلاة على الميت مشروعة بقوله تعالى : {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} وقوله عليه السلام : "صلوا على كل بر وفاجر".
روي أن آدم عليه السلام لما توفي أتي بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه.
وفي رواية : قال ولده شيث لجبريل عليه السلام صل عليه فقال له جبريل تقدم أنت فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة ثم أقبروه ثم لحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنها سنتكم ومنه يعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة.
وقال بعضهم صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة ولا منافاة لأنه لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولي الميت بعد أن يوضع على سريره فيذكر محاسنه كلها ويثني ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن.
روي أن النبي عليه السلام لما قدم المدينة وجد البراء بن معرور رضي الله عنه قد مات فذهب رسول الله وأصحابه فصلى على قبره وكبر في صلاته أربعاً فصلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة على ما قالوا ومن أنكر فرضية صلاة الجنازة كفر كما في "القنية".
وههنا أبحاث :
الأول : إن غسل الميت شريعة ماضية والنية لا تشترط لصحة الصلاة عليه وتحصيل طهارته وإنما هي شرط لإسقاط الفرض عن ذمة المكلفين ، أي : بغسله فإن غسل الميت فرض كفاية فإذا تركوا أثموا فبنية الغسل يسقط الفرض عن ذمة الغاسل وغيره ، فيقول : نويت الغسلتعالى وإنما يغسل الميت لأنه يتنجس بالموت كسائر الحيوانات الدموية إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له ولو وجد ميت في الماء فلا بد من غسله لأن الخطاب بالغسل توجه لبني آدم ولم يوجد منهم فعل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
وقيل : إن الميت إذا فارقته الروح
496
وارتاح من شدة النزع أنزل فوجب على الأحياء غسله كما في "أسئلة الحكم".
(3/375)
يقول الفقير : فيه نظر ؛ لأنه إنما يجب الاغتسال بالمنى إذا كان بشهوة عند الحنفية ولم يوجد في الميت اللهم إلا أن يحمل على مذهب الشافعي فإن المني عنده كيفما كان يوجب الاغتسال حتى لو حمل حملاً ثقيلاً فخرج منه المنى يجب عنده وينبغي أن يكون المغسول مسلماً تام البدن أو أكثره وفي حكمه النصف مع الرأس ، فلا يغسل الكافر والنصف بلا رأس ، وأن يكون الغاسل يحل له النظر إلى المغسول فلو ماتت امرأة في السفر يممها ذو رحم محرم منها وإن لم يوجد لف أجنبي على يده خرقة ثم يممها ، وإن ماتت أمة ييممها أجنبي بغير ثوب وكذا لو مات رجل بين النساء يممته ذات رحم محرم منه أو أومته بغير ثوب ، ولو مات غير المشتهى أو المشتهاة غسله الرجل والمرأة وعن أبي يوسف أن الرضيعة يغسلها ذو الرحم وكره غيره ولا يغسل زوجته وتغسل زوجها إلا إذا ارتفعت الزوجية بوجه.
ويستحب أن يكون الغاسل أقرب إلى الميت فإن لم يعلم فأهل الورع والأمانة وأن يوضع الميت عند الغسل بموضع خال من الناس مستور عنهم لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه كما في "السيرة الحلبية" ولو اختلط موتى المسلمين وموتى الكفار ، فمن كانت عليه علامة المسلمين صلى عليه ، ومن كانت عليه علامة الكفار ترك ومن لم يكن عليه علامة والمسلمون أكثر غسلوا وكفنوا وصلى عليهم وينوون بالصلاة والدعاء للمسلمين دون الكفار ويدفنون في مقابر المسلمين وإن كان الفريقان سواء أو كانت الكفار أكثر لم يصل عليهم ويغسلون ويكفنون ويدفنون في مقابر المشركين ومن استهل بعد الولادة غسل وسمي وصلي عليه وإلا غسل في المختار وأدرج في خرقة ولا يصلى عليه ولو مات لمسلم قريب كافر غسله غسل النجاسة ولفه في خرقة وألقاه في حفرة أو دفعه إلى أهل دينه.
قال القهستاني : لا يجب غسل كافر أصلاً وإنما يباح غسل كافر غير حربي له ولي مسلم كما في "الجلابي".
والشهيد لا يغسل ويغسل الشهيد الجنب عنده خلافاً لهما وإذا انقطع الحيض والنفاس فاستشهدت فعلى هذا الخلاف وإذا استشهدت قبل الانقطاع تغسل على الأصح ولو مات بغير قتل ولو في المعركة غسل ، ولو قتل برجم أو قصاص أو تعزير أو افتراس سبع أو سقوط بناء أو غرق أو طلق أو نحوها غسل بلا خلاف كما لو قتل لبغي أو قطع طريق غسل في رواية ولا يصلى عليه في ظاهر الرواية ، وعند أبي حنيفة في الصلاة على المصلوب روايتان ولو قتل نفسه خطأ يصلى عليه بلا خلاف ولو تعمد فالأصح لا يصلى عليه لأنه لا توبة له والصلاة شفاعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
والثاني : إن الصلاة على الميت فرض كفاية عند العامة ووقتها وقت حضوره ولذا قدمت على سنة المغرب كما في "الخزانة" وفي الحديث : "أسرعوا بالجنازة" وأهل مكة في غفلة عن هذا فإنهم غالباً يجيئون بالميت بعيد الظهر أو وقت التسبيح في السحر وقد يكون مات قبل هذا الوقت بكثير فيضعونه عند باب الكعبة حتى يصلى العصر أو الصبح ثم يصلى عليه كما في "المقاصد الحسنة".
يقول الفقير : وأهل كل بلدة في غفلة عن هذا في هذا الزمان سامحهم الله تعالى.
وتجوز صلاة الجنازة حين طلوع الشمس واستوائها وغروبها بلا كراهة إن حضرت في هذه الأوقات وإن حضرت قبلها أخرت ويقوم الإمام حذاء الصدر لأنه محل العلم ونور الإيمان ويكبر ويثني ، أي : يقول
497
الإمام والمؤتم والمنفرد.
سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ، قوله : وجل ثناؤك لم يذكر في الأحاديث المشهورة فلم يأتتِ به مصلي الفرض ولا بأس للمتنفل بإتيانه به لأن النفل مبني على التوسيع فيجوز فيه ما لا يجوز في الفرض.
قال الحلبي : الأولى تركه إلا في صلاة الجنازة ثم يكبر ويصلي على النبي عليه السلام بما يحضره كما في "الجلابي" أو بما يصلي به في الفرض كما في "المستصفى" فيقول : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والمعنى اللهم صل على محمد صلاة كاملة كما دل عليه الإطلاق.
وقوله : وعلى آل محمد من عطف الجملة أي وصل على آله مثل الصلاة على إبراهيم وآله فلا يشكل بوجوب كون المشبه به أقوى كما هو المشهور كما في القهستاني ثم يكبر ويدعو للميت أو لكل مسلم ولو حياً ويسنّ الدعاء المعروف "اللهم اغفرلحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" وخص هذا الميت بالرحمة والغفران والروضة والرضوان اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه برحمتك يا أرحم الراحمين كما في "عيون الحقائق".
(3/376)
وفي الصبي والمجنون لا يستغفر لهما لعدم ذنبهما ، بل يقول : اللهم اجعله لنا فرطاً واجعله لنا أجراً وذخراً واجعله لنا شافعاً مشفعاً ، أي : مقبول الشفاعة ومن لم يحسن قال : اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات برحمتك يا أرحم الراحمين وروي أنه صلى الله عليه وسلّم لما أدرج في أكفانه ووضع على سريره ثم وضع على شفير قبره المنور وذلك يوم الثلاثاء دخل عليه أبو بكر رضي الله عنه مع نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت وذلك بعد ما بويع له بالخلافة وصلى على النبي عليه السلام بأربع تكبيرات وضمن صلاته هذا الدعاء وهو اللهم إنا نشهد أنه صلى الله عليه وسلّم قد بلغ ما أنزل الله عليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته ، فاجعلنا إلهنا ممن تبع القول الذي أنزل معه ، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً لا نبتغي بالإيمان به بدلاً ولا نشتري به ثمناً أبداً وإنما خصوا هذا الدعاء بالذكر ؛ لأنه الذي يليق به صلى الله عليه وسلّم ومن ثمة استشاروا كيف يدعون له فأشير بمثل ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
ثم يكبر ويسلم تسليمتين عن يمين وشمال بنية من ثمة إلا الميت غير رافع صوته مثل سائر الصلوات ويسنّ خفض الثانية ويرسل بعد الرابعة يديه لأنه ليس بعدها ذكر والركن هو التكبيرات الأربع وأما الثناء والصلاة والدعاء والسلام فسنن كما في "الجلابي" ولا يرفع يديه إلا في التكبير الأول لأنه شرع بين كل تكبيرتين ذكر مقتدر فإذا فرغ منه علم أنه جاء أوان الآخر.
قال في "الأشباه" لو قرأ الفاتحة في صلاته على الجنازة إن قصد الثناء والدعاء لم يكره ، وإن قصد القراءة كره انتهى.
وإذا أدرك الإمام في الصلاة وقد سبق ببعض تكبيراتها ينتظر تكبيرة أخرى فيتابع الإمام فيه ثم يأتي بما سبق به بعد سلام الإمام متوالياً وعند أبي يوسف والشافعي لا ينتظر بل يكبر ويشرع معه وأما إذا أدرك بعد الرابعة لا يكبر عندهما لفوات الصلاة عليه ويكبر عند أبي يوسف فإذا سلم الإمام قضى ثلاث تكبيرات ولو كان حاضراً وقت
498
التحريمة ولم يكبر مع الإمام للافتتاح فهو لا ينتظر تكبير الإمام بل يشرع ويكبر ولو اجتمعت الجنائز يصلى عليهم دفعة واحدة كذا في "المحيط".
والصلاة على الكبير أفضل من الصلاة على الصغير كما في "المضمرات".
والثالث : ما الحكمة في عدم فرض الركوع والسجود في صلاة الجنازة قيل : لأن صلاة الجنازة دعاء وثناء واستشفاع للميت والركوع والسجود خاص بالتعبدتعالى من غير واسطة اختص به الملة المحمدية لأن السجدة كانت تجوز لتعظيم المخلوق في الملة السالفة ونحن نهينا عن الركوع والسجود لغير الله تعالى.
وقيل : لأن الميت اعترض بين المصلي وبين الله تعالى فلو أمر بالركوع والسجود لتوهم الأعداء والجهلة أنه للميت كما توهم الشيطان من سجود الملائكة أنه لآدم عليه السلام فأبى حسداً وعصى جهلاً وإن كان ساجداً متعبداً قبل ذلك فافتتن بجهله وحسده باحتجابه عن كون المسجود له في الحقيقة هو الحق وقالب آدم بمنزلة المحراب.
قال الجامي :
اي آنكه بقبله بتان روست ترا
برغمغز را حجاب شد وست ترا
دل درى اين وآن نه نيكوست ترا
يكدل دارى بسست يك دوست ترا
وقال غيره :
ازان محراب ابرو رو مكردان
اكردر مسجدي وردر خرابات
والرابع : إنه يستحب جعل الصفوف في الصلاة على الميت ثلاثة وفي الحديث : "ما من مسلم يموت فيصلي عليه أمة يبلغون ثلاث صفوف إلا غفر الله له" قال الطبراني في "معجمه" الأمة أربعون إلى المائة وجاء التصريح بالعدد في حديث مسلم وهو : "ما من مسلم يصلي عليه أربعون إلا شفعوا فيه" أما سر تثليث الصفوف فلان ذلك من باب التوسع في الرجاء كأنهم يقولون جئناك بثلاثة صفوف شافعين فلا تردنا خائبين وهذا ميل تكثير الخطى إلى المساجد فإنه يستحب تقصير الخطى في المشي إلى المسجد لأنه يكتب له بكل خطوة حسنة ويحط عنه سيئة ويرفع له درجة فهو من باب التوسع في الرجاء وإذا استحب جعل الصفوف ثلاثة فالظاهر أنهم في الفضيلة سواء ولا مزية حينئذٍ للصف المقدم لأنهم مأمورون بالتأخر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
وقال الحلبي : أفضل صفوف الجنازة آخرها بخلاف سائر الصلوات فإن الصف الأول أعلم بحال الإمام فتكون متابعته أكثر وثوابه أوفر.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "أول زمرة تدخل المسجد هم أهل الصف الأول وإن صلوا في نواحي المسجد" كما في "خالصة الحقائق".
وأما سر الأربعين ، فلأنه لم يجتمع قط أربعون إلا وفيهم عبد صالح كما في "أسئلة الحكم" وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من الثلاثة الصفوف والأربعين كما في "فتح القريب" والمستحب هو الأول كما سبق.
(3/377)
والخامس : إن في الدعاء والاستغفار نفعاً للميت ويصل ثواب جميع القرب إليه بدنياً كان أو مالياً كالصدقة والعتق والصلاة والصيام والحج والقراءة وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقط عن ذمة الميت التبعة وينفعه ذلك حتى لو كان من أجنبي أو من غير تركته وأجمعوا على أن الحي إذا كان له على الميت حق من الحقوق فأحله منه ينفقه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي.
قال ابن الملك : اعلم أن جعل الإنسان ثواب عمله لغيره صلاة
499
كان أو صدقة أو غيرهما جائز عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة لهم أن الثواب هو الجنة ولا قدرة للإنسان على تمليكها ولنا أنه عليه السلام ضحى بكبشين أملحين أحدهما لنفسه والآخر عن أمته المؤمنين فالاعتراض على الشارع باطل إذ العبادة أنواع بدنية محضة كالصلاة فالنيابة لا تجوز فيها لأن الغرض منها وهو إتعاب النفس الأمارة لا يحصل ونوع منها مالية محضة كالزكاة فالنيابة فيها تجوز لأن الغرض منها وهو إغناء الفقير يحصل بالنيابة لكن لا تؤخذ من تركته بغير وصية ونوع منها مركبة منهما كالحج فمن حيث إنه متعلق بالبدن لا تجوز فيه النيابة عند الاختيار ومن حيث إنه متعلق بالمال جاز فيه النيابة عند الاضطرار وهو العجز الدائم عن أدائه هذا في الحج الفرض وأما في النفل فالنيابة جائزة مع القدرة لأن في النفل سعة.
قال في "فوائد الفتاوى" : الأولى أن يوصي بإسقاط صلاة عمره بعد البلوغ وإن صلاها بغير ترك لاحتمال الفساد أو النقصان في أركانها انتهى وإذا أوصى رجل يطعم عنه وليه لصلاة الفائتة بعد موته فالوصية جائزة ووجب تنفيذها من ثلث ماله يعطى عن كل مكتوبة نصف صاع من الحنطة وفي صوم النذر كذلك ولا يجوز أن يصوم عنه الولي كما لا يجوز صلاته له لقوله عليه السلام : "لا يصوم ولا يصلي أحد عن أحد".
قال القهستاني : والقياس أنه لا يجوز الفداء عن الصلاة وإليه ذهب البلخي كما في "قاضيخان" والاستحسان أن يجوز الفداء عنهما أما في الصوم فلورود النص وأما في الصلاة فلعموم الفضل ولذا قال محمد إنه يجزى بها إن شاء الله تعالى وينبغي أن يفدي قبل الدفن وإن جاز بعده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
وقال في "الأشباه" : إذا أراد الفدية عن صوم أبيه أو صلاته وهو فقير يعطي منوين من الحنطة فقيراً ثم يستوهبه ثم يعطيه وهكذا وذلك بعد أن يسقط من عمره اثنتي عشرة سنة ويسقط من عمرها تسعة لأن أقل مدة بلوغ الرجل اثنتا عشرة سنة ومدة بلوغ المرأة تسع سنين كما ذكره في "الوقاية" في آخر كتاب الحجر.
ومما ينبغي أن يعلم أن المعتبر في الطعام للصلاة قدر الطعام دون عدد المساكين حتى لو أعطى مسكيناً واحداً في يوم واحد أكثر من نصف صاع من البر يجوز ولا يجوز ذلك في كفارة الصوم والظهار لأن المعتبر فيهما عدد المسكين كذا في "شرح النقاية".
وكره دفع نصاب أو أكثر إلى فقير غير مديون لأن الانتفاع به صادف حال الغنى ولو صادف حال الفقر لكان أكمل فلو كان مديوناً أو صاحب عيال لا يكره لأنه لا يكون به غنياً.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} الاستفهام للتقرير ، أي : ألم يعلم أولئك التائبون.
{أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} الصحيحة الخالصة {عَنْ عِبَادِهِ} المخلصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يفصح عنه كلمة عن.
قال الحداد : قبول التوبة إيجاب الثواب عليها {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ} أي : جنس الصدقات صدقاتهم وصدقات غيرهم أراد به أخذ النبي عليه السلام والأئمة بعده لأن أخذهم لا يكون إلا بأمر الله وكان الله هو الآخذ.
قال البيضاوي : يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله ففيه استعارة تبعية لأن الآخذ حقيقة هو الرسول عليه السلام لا من عينه لأخذها.
والصدقات جمع صدقة تطلق على الواجب والتطوع وغلب على أفواه العامة تسمية الواجب من الماشية صدقة ومن النبات عشراً ومن النقود زكاة كما في "فتح القريب" {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} أي : المتجاوز عمن تاب وهو الذي يرجع بالإنعام
500
على كل مذنب رجع إلى التزام الطاعة.
وفي "التأويلات النجمية" : هو التواب هو الموفق للتوبة بلطفه وكرمه ولولا توفيقه ما تاب مذنب قط كما لا يتوب إبليس لعدم التوفيق.
وفي "المثنوي" :
جز عنايت كه كشايد شم را
جز محبت كه نشاند خشم را
جهد بي توفيق خودكس را مباد
درجهان والله أعلم بالرشاد
{الرَّحِيمِ} من مات على التوبة ورحمة الله على العباد إرادة الإنعام عليهم ومنع الضرر عنهم.
ويجوز أن يرجع ضمير {أَلَمْ يَعْلَمُوا} إلى غير التائبين من المؤمنين فالآية إذاً ترغيب للعصاة في التوبة والصدقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
(3/378)
{وَقُلْ} لهم بعدما بان لهم شأن التوبة {اعْمَلُوا} ما شئتم من الأعمال فظاهره ترخيص وتخيير وباطنه ترغيب وترهيب.
{فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} فإنه لا يخفى عليه خيراً كان أو شراً تعليل لما قبله وتأكيد للتغريب والترهيب والسين للتأكيد.
{وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ} في الخبر : "لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان" والمعنى إنه تعالى لا يخفى عليه عملهم كما رأيتهم وتبين لكم ثم إن كان المراد بالرؤية معناها الحقيقي فالأمر ظاهر وإن أريد بها مآلها من الجزاء خيراً أو شراً فهو خاص بالدنيوي من إظهار المدح والثناء والذكر الجميل والإعزاز ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها.
{وَسَتُرَدُّونَ} أي : بعد الموت {إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} قدم الغيب على الشهادة لسعة عالمه وزيادة خطره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيب ما يسترونه من الأعمال والشهادة ما يظهرونه كقوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فالتقديم حينئذٍ لتحقيق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده لا إيهام أن علمه تعالى بما يسرون أقدم منه بما يعلنون كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة.
قال في "التأويلات النجمية" : {وَسَتُرَدُّونَ} بأقدام أعمالكم إلى الله الذي هو عالم بما غاب عنكم وغبتم عنه فأما ما غاب فهو نتائج أعمالكم من الخير والشر وجزاؤها فإنها إن لم تغب عنكم زدتم في الخير وما عملتم شراً وأما ما غبتم عنه فهو التقدير الأزلي والحكمة فيما جرى به القلم من أعمال الخير والشر وعالم بما تشاهده العيون والقلوب في الملك والملكوت.
{فَيُنَبِّئُكُم} عقيب الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة.
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} قبل ذلك في الدنيا والمراد بالتنبئة الإظهار لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يعملونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
فعلى العاقل أن يسعى في طريق الأعمال الصالحة ويجتنب عن ارتكاب الأفعال الفاضحة كيلا يفتضح عند الله وعند الرسول وكافة المؤمنين.
قال في "التأويلات النجمية" : إن لعمل المحسن وخلوصه نوراً يصعد إلى السموات بقدر
501
قوة صدقه وإخلاصه فالله تعالى يراه بنور ألوهيته وروح الرسول عليه السلام يراه بنور نبوته وأرواح المؤمنين يرونه بنور إيمانهم فاستعلاء ذلك بصفائه وضوئه يكون على قدر علو همة المحسن وخلوص نيته وصفاء طويته.
وإن العمل المسيء ظلمة تصعد إلى السموات بقدر قوة غفلته وخباثة نفسه فالله تعالى يراها وروح رسوله وأرواح المؤمنين ، وفي الحديث : "تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكرتعالى وتشيعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعون به الحجب كلها إلى الله تعالى فيقفون بين يدي الرب جل جلاله ويشهدون بالعمل الصالح المخلصفيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على ما في نفسه إنه لم يردني بهذا العمل ولا أخلصه لي وأنا أعلم بما أراد بعلمه غر الآدميين وغركم ولم يغرني ، وأنا علام الغيوب المطلع على ما في القلوب لا تخفى عليّ خافية ولا تعزب عني عازبة علمي بما كان كعلمي بما لم يكن وعلمي بما مضى كعلمي بما بقي وعلمي بالأولين كعلمي بالآخرين أعلم السر وأخفى ، فكيف يغرّني عبدي بعمله وإنما يغر المخلوقين الذين لا يعلمون وأنا علام الغيوب ، عليه لعنتي وتقول الملائكة السبعة أو الثلاثة الآلاف المشيعون يا ربنا عليه لعنتك ولعنتنا فيقول أهل السماء عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين".
قال السعدي :
وكر سيم اندوده باشد نحاس
توان خرج كردن بر ناشناس
منه آب زر جان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
اعلم أن الأقلام كتبت على الألواح أحوال العالم كلها من السرائر والظواهر ثم سلمت الألواح للخزنة وجعل لكل شيء خزائن ووكلت عليها حوافظ وكوالىء ، كما قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} (الحجر : 21) فتستنسخ السفرة من الخزنة والحفظة من السفرة فللأعمال كلها مخازن تقسم منها وتنتهي إليها وغاية خزائن الأعمال الصالحة سدرة المنتهى ، فعلم من هذا أن الحفظة مطلعون على أعمال العباد قلبية كانت أو قالبية ، وليسوا بمطلعين على المقبول منها وغير المقبول إلا بعد العرض والرفع فكل عمل مضبوط مجزي به فإن أخفاه العبد عن الخلق لا يقدر على إخفائه عن الله تعالى وعن الملائكة.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
در بسته ز روى خود بمردم
(3/379)
تا عيب نكسترند ما را
در بسته ه سود عالم الغيب
داناى نهان وآشكارا
{وَءَاخَرُونَ} عطف على آخرون قبله ، أي : ومن المتخلفين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب قوم آخرون غير المعترفين المذكورين.
{مُرْجَوْنَ} قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص مرجون بالواو على أن يكون أصله مرجيون بالياء والباقون مرجؤون بالهمزة يقال أرجيته وأرجأته بالياء والهمزة إذا أخرته والنسبة إلى المهموز مرجئيّ كمرجعي لا مرج كمعط وإلى غير مرجيّ بياء مشددة عقيب الجيم وهم المرجئة بالهمزة والمرجية بالياء مخففة كما في "القاموس" والمرجئة : قوم لا يقطعون على أهل الكبائر بشيء من عفو أو عقوبة بل يرجئون الحكم في ذلك ، أي يؤخرونه إلى يوم القيامة كما في "المغرب" والمعنى مؤخرون.
{لامْرِ اللَّهِ} في شأنهم ، أي : حتى ينزل الله فيهم ما يريد.
{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} إن بقوا على ما هم عليه من الحال وهو عدم المسارعة إلى التوبة والاعتذار دون النفاق فإنهم كانوا غير مخلصين.
{وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن خلصت نيتهم وصحت توبتهم والجملة في محل النصب على الحالية أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوباً عليهم.
فإن قلت : إما للشك والله تعالى منزه عنه إذ هو عالم بما يصير إليه أمرهم.
502
قلت : الترديد راجع إلى العباد ، والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الخوف والرجاء.
وقال أبو البقاء : إذا كانت إما للشك جاز أن يليها الاسم وجاز أن يليها الفعل فإن كانت للتخيير وقع الفعل بعدها وكانت معه أن ، كقوله إما أن تلقي.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} فيما فعل بهم من الارجاء وغيره.
والآية نزلت في ثلاثة نفر من المتخلفين وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية كانوا من أهل بدر ومياسير ومع ذلك تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
قال كعب بن مالك : أنا أفره أهل المدينة جملاً فمتى شئت لحقت العسكر فتأخر أياماً وأيس بعدها من اللحوق بهم فندم على ما صنعه ، وكذلك صاحباه ، ولكن لم يفعلوا ما فعله أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الغم والجزع ، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية ونهى الناس أن يجالسوهم أو يؤاكلوهم أو يشاربوهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهليهن فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعامه فإنه شيخ كبير فأذن لها في ذلك خاصة ، وجاء رسول من الشام إلى كعب برغبة في اللحاق بهم ، فقال كعب : بلغ من خطيئتي إلى أن طمع فيّ المشركون قال فضاقت عليّ الأرض بما رحبت وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره فجعل ناس يقولون : هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذراً ، وآخرون يقولون عسى الله أن يغفرلهم فصاروا عندهم مرجئين لأمر الله إما يعبذهم وإما يرحمهم حتى تنزلت توبتهم بعد ما مضى خمسون يوماً بقوله : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} (التوبة : 117) إلى قوله : {وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (التوبة : 118) الآية أخر الله تعالى أمرهم مدة ثم بين توبتهم على أجمل الوجوه حيث قرن توبتهم بتوبته تعالى على النبي صلى الله عليه وسلّم والمهاجرين والأنصار وعلم منه أن الهجران للتربية جائز ولو فوق ثلاثة أيام ألا ترى إلى الأصحاب كيف قطعوا سلامهم وكلامهم من أولئك الثلاثة إلى أن بلغ الكتاب أجله وأن إخلاص النية وتفويض الأمور إلى الله تعالى سبب لرحمة الله تعالى وأن البكاء أيضاً مدار لقبول التوبة وإخلاص الحال فلا بد من الاستغفار والبكاء على الأوزار.
حكي عن بعض أصحاب فتح الموصلي قدس سره قال : دخلت يوماً على فتح فوجدته يبكي وقد خالطت دموعه صفرة فقلت له بالله عليك يا سيدي هل بكيت الدم ، فقال والله لولا أنك أقسمت علي بالله عز وجل ما أخبرتك بكيت الدمع وبكيت الدم فقلت علامَ بكيت الدم؟ قال : على تخلفي عن الله تعالى فعلام بكيت الدم قال على الدموع أن لا تصح لي أن لا تقبل مني قال : فلما توفي رأيته في المنام فقلت : ما فعل الله بك قال غفر لي وقربني ربي وقال : يا فتح بكيت كل هذا البكاء على ماذا فقلت يا رب على تخلفي عن حقك قال والدم لم بكيته قلت : يا رب على الدموع أن لا تصح لي قال : يا فتح فما أردت بهذا كله وعزتي وجلالي لقد صعد إليّ حافظاك أربعين سنة بصحيفتك وما فيها خطيئة فهذه حال أكابر أولياء الله تعالى يسيئون الظن بأنفسهم ويجتهدون في الله وإن علموا العفو والمغفرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
ووقف الفضيل في بعض حجاته ولم ينطق بشيء فلما غربت الشمس قال واسوأتاه وإن عفوت.
يقول الفقير : وهذا كلام حق فإن من الفضاحة العصيان ، ومن الفضاحة أيضاً بقاء أثره الدنيوي بعد الغفران ألا ترى أن عتقاء جهنم لا يستريحون يوم القيامة ، وإن دخلوا الجنة إلى أن يمحو الله تعالى ما كتب على جباهم من الأثر.
قال الحافظ قدس سره :
503
هر ندكه هجران ثمر وصل برآرد
دهقان ازل كاشكه اين تخم نكشتى
(3/380)
وقال السعدي قدس سره :
بسا نام نيكو نجاه سال
كه يك نام زشتش كند ايمال
وفي الآية : إشارة إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إقدام بعض النفوس على الذنوب وتأخير توبتهم وهم مترددون بين الخوف والرجاء ولهم فيما بين ذلك تربية ليطيروا بجناحي الخوف والرجاء إلى أن يصلوا إلى مقام القبض والبسط إلى أن يبلغوا سرادقات الأنس والهيبة ، ثم ليطيروا بجناحي الأنس والهيبة إلى قاب قوسي السير والتجلي أو أدنى الوحدة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بتربية عباده {حَكِيمٌ} بمن يصلح للقرب والقبول وبمن صلح للبعد والرد كذا في "التأويلات النجمية" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 495
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} أي : ومن المتخلفين عن غزوة تبوك المنافقون الذين اتخذوا مسجد قبا وهو بضم القاف ويذكر ويقصر قرية قرب المدينة على نصف فرسخ منها كما في "التبيان".
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما هاجر من مكة وقدم قبا نزل في بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس على كلثوم بن الهدم وكان شيخ بني عمرو بن عوف وهل كان أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء أو بعده ففيه اختلاف فلما نزل وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه ما لرسول الله بدّ من أن يجعل له مكان يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه فجمع حجارة فأسس رسول الله مسجداً واستتم بنيانه عمار فعمار أول من بنى مسجداً لعموم المسلمين ، وكان مسجد قباء أول مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه جماعة ظاهرين أي آمنين وبعد تحوله عليه السلام إلى المدينة وذلك في يوم الجمعة بعد أن لبث في قبا بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس أو بضع عشرة ليلة وهو المنقول عن البخاري أو أربعة عشر يوماً وهو المنقول عن مسلم كان يأتيه يوم السبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ثم ينصرف وفي الحديث : "من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قبا فصلى فيه له أجر عمرة" كما في "السيرة الحلبية" فهذا المسجد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعمار بمعاونة بني عمرو بن عوف خالصاًتعالى كما عليه الأكثرون وفي الحديث : "من بنى مسجداً لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتاً في الجنة" قال القرطبي : هذه المسألة ليست على ظاهرها من كل الوجوه وإنما معناه بنى له بثوابه بناء أشرف وأعظم وأرفع لأن أجور الأعمال متضاعفة وأن الحسنة بعشر أمثالها وهذا كما قال في التمرة إنها تزاد حتى تكون مثل الجبل ولكن هذا التضعيف إنما هو بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص فإن بنى على غير الإخلاص أو على وجه غير مرضى فلا ثواب له ولا يعبأ الله به وإن كان في ظاهر الشرع له حكم المساجد من الاحترام والتعظيم وغير ذلك وكذا الربط والخوانق والقناطر والمطاهر وكل بناء فهو مشروط بذلك قاله في "شرح الإلمام".
قال النووي : يدخل في هذا الحديث من عمر مسجداً قد استهدم وإذا اشترك جماعة في عمارة مسجد فهل يحصل لكل منهم بيت في الجنة كما لو أعتق جماعة عبداً مشتركاً بينهم فإنهم يعتقون من النار ويجوزون العقبة لقوله تعالى : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد : 12 ، 13) وقد فسر النبي عليه السلام فك الرقبة بعتق البعض والقياس إلحاق المساجد
504
بالعتق لأن فيه ترغيباً وحملاً للناس على إنشاء المساجد وعمارتها وهل يمكن الكافر من بناء المسجد فذهب بعضهم إلى أن الصحيح جوازه لقوله عليه السلام : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" كما في "تفسير البغوي".
قال الواحدي : عند قوله تعالى : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ} (التوبة : 17) دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ولو أوصى لم تقبل وصيته انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
قال سعدي لبى المفتي : عدم قبول وصيته مجمع عليه بين أصحابنا الحنفية انتهى ولا يصير الكافر ببناء المسجد مسلماً وإن عظمه حتى يأتي بالشهادتين بخلاف المسلم إذا أتى كنيسة واعتقد تعظيمها ، فإنه يكفر ؛ لأن الكفر يحصل بمجرد النية ، والإسلام لا يحصل إلا بالتلفظ بالشهادتين كما في "فتح القريب".
يقول الفقير سامحه الله القدير : علم منه أن بعض القبط في الديار الرومية ممن أظهر الإسلام رأيناهم يصلون ويصومون كصلاة المخلصين وصيامهم ، ثم إنهم يدخلون كنائس النصارى في مواسمهم فهم مرتدون بذلك ، ولا تصح الصلاة على موتاهم إن ماتوا على تلك الحالة لأنه لا شك في تعظيمهم الكنائس وموافقتهم النصارى في أفعالهم في أيامهم ولياليهم المعهودة فلا نتوقف في كفرهم ، وأما تلفظهم بالشهادة فهو بحسب العادة ولا يغنى عنهم ذلك شيئاً في اعتقادهم وبعض المعاصرين من العلماء يتوقفون في كفرهم جهلاً العياذ بالله تعالى.
(3/381)
ثم نرجع ونقول إن بني عمرو بن عوف لما بنوا ذلك المسجد حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وقالوا أنصلي في مربط حمار لامرأة عمرو وذلك لأنه كانت امرأته تربط فيه حمارها وقيل : كان مكان مسجد قبا محلاً يجفف فيه التمر لكلثوم بن هدم رضي الله عنهما فبنوا مسجداً آخر في قبا على قصد الفساد وتفريق جماعة المؤمنين وأن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام.
وفي الحدادي إنهم بنوه بإذن النبي عليه السلام ، أقول : هذا يخالف سوق القصة كما لا يخفى وبعيد أن يأذن رسول الله قبل إشارة الله في ذلك.
وقصة أبي عامر الراهب أنه كان من أشراف قبيلة الخزرج تنصر في الجاهلية وترهب ولبس المسوح وكان ماهراً في علم التوراة والإنجيل.
قال الكاشفي : (ويوسته نعت وصفت سيد عالم صلى الله عليه وسلّم براهل مدينه مى خواند ون آن حضرت بمدينه هجرت كرد اهل آن خطه شيفته جمال وكمال وى شده وازصحبت أبو عامر برميدند وراوى او نكردند).
باوجود لب جان بخش تواى آب حيات
حيفم آيد سخن ازشمه حيوان كفتن
فحسده وعاداه لأنه زالت به عليه السلام رياسته وقال له لا أجد قوماً يقتلونك إلا قاتلتك فلم يزل يتقاتل معه عليه السلام إلى أن تقاتل معه يوم هوازن فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام.
قال الكاشفي : (بنزد هرقل كه ملك روم بود برفت ومى خواست ازروم لشكر ساز كرده بجنك مسلمانان آيد نامه نوشت بمنافقان ون ثعلبة بن حاطب وأمثال اوكه شمادر مقابله مسجد قبادر محله خويش براى من مسجدي بسازيدكه ون من بمدينه آم انجا بافاده علم اشتغال نمايم ايشان مسجدي ساختند وحضرت رسالت ناه ون عازم غزوه تبوك شد بانيان مسجد آمده كفتند يا رسول الله ما براى ضعيفان وبياركان در وقت سرما وبارندكى مسجدي ساخته ايم والتماس داريمكه در آن مسجد نمازكزارى وغرض ايشان آن بودكه بواسطه نمازآن حضرت صلى الله عليه وسلّم مهم خودرا دراستحكام دهند نانه در مثنوى معنوى هست) :
505
مسجد واصحاب مسجدرا نواز
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
تومهى ماشب دمى بامابسلز
تاشود شب ازجمالت هموروز
اي جمالت آفتاب جان فروز
اي دريغا كان سخن ازدل بدى
تامراد آن نفر حاصل شدى
قال في "السيرة الحلبية" : كانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي عليه السلام ويستهزئون به فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا لأتيناكم فصلينا لكم فيه" فلما رجع من تبوك أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا عليه السلام بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله هذه الآية فقال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} مفعول له ، أي : مضارة للمؤمنين.
قال الكاشفي : (براى ضرر مؤمنان وستيزه ايشان).
{وَكُفْرًا} وتقوية للكفر الذي يضمرونه {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين كانوا يجتمعون في مسجد قباء ، فإنهم أرادوا ببنائهم المسجد صرف بعض الجماعة إليه وتفريق كلمة المؤمنين.
{وَإِرْصَادًا} أي ترقباً وانتظاراً.
{لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَه مِن قَبْلُ} أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب أي لأجله حتى يجيء فيصلي فيه ويظهر على رسول الله وقد سبق حضوره في الوقائع كلها فمن متعلق بحارب أو باتخذوا ، أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن يظهر هؤلاء النفاق بالتخلف.
{وَلَيَحْلِفُنَّ} والله ليحلفن فهو جواب قسم مقدر.
(3/382)
قال الكاشفي : (وهر آيينه سوكند ميخورند ون كسى كويد جرا اين مسجد ساختيد) {إِنَّ} نافية.
{أَرَدْنَآ} أي : ما أردنا ببناء هذا المسجد.
{إِلا الْحُسْنَى} إلا الخصلة الحسنى ، وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين.
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} في حلفهم ذلك ولما نزلت هذه الآية وأعلمه الله بخبرهم وما هموا به دعا ، أي رسول الله الوحشي قاتل حمزة وجماعة معهم فقال لهم : "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه" فخرجوا سراعاً وأخذوا سعفاً من النخل وأشعلوا فيه النار وذلك بين المغرب والعشاء وهدموه إلى الأرض ، وأمر النبي عليه السلام أن يتخذ كناسة يلقى فيها القمامة والجيف ثم بعد زمان أعطاه صلى الله عليه وسلّم لثابت بن أرقم يجعله بيتاً فلم يولد في ذلك البيت مولود قط وحفر فيه بقعة فخرج منها الدخان ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً وذلك أنه عليه السلام لما قدم المدينة أقبل إليه أبو عامر فقال : ما هذا الذي جئت به قال : "جئت بالحنيفة دين إبراهيم" قال أبو عامر وأنا عليها فقال عله السلام : "إنك لست عليها" قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنفية ما ليس فيها فقال عليه السلام : "ما فعلت ذلك ولكن جئت بها بتضاء نقية" فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً غريباً فقال عليه السلام : "آمين" فسماه أبا عامر الفاسق مكان الراهب ، فمات كافراً بقنسرين وهي بكسر القاف وتشديد النون المفتوحة أو المكسورة اسم بلدة في الشام ومع هذه الخباثة كان له ولد صالح يقال له أبو حنظلة استشهد يوم أحد فغسلته الملائكة عليهم السلام.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
هنر بنماى اكر دارى نه كوهر
كل ازخارست وإبراهيم از آزر
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الطبيعة {اتَّخَذُوا} مزبلة النفس {مَسْجِدًا ضِرَارًا} لأرباب الحقيقة.
{وَكُفْرًا} بأحوالهم كما أنهم اتخذوا بستان القلب مسجداً يذكرون الله فيه ويطلبونه وهذا
506
وصف مدعي الطلب الكذابين في دعواهم المتشبهين بزي أرباب الصدق والطلب.
{وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} الطالبين الصادقين بإظهار الدعوى من غير المعنى ، أي : يفرقون بين الإخوان في الله في طلب أنواع الحيل تارة بطلب صحبة معهم ومرافقتهم في الأسفار وتارة بذكر البلدان وكثرة النعم فيها وطيب هوائها وكرم أهلها وإرادتهم لهذه الطائفة ليزعجوهم عن خدمة المشايخ وصحبة الإخوان.
{وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَه مِن قَبْلُ} ليوقعوهم في بلاء صحبة الإباحية من مدعي الفقر والمعرفة وهم يحاربون الله بترك دينه وشريعته ورسوله بترك متابعته وإحياء سنته {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى} فيما دعوناكم إليه {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} فيما يدعون ويحلفون كذا في "التأويلات النجمية" :
{لا تَقُمْ} يا محمد للصلاة {فِيهِ} أي : في مسجد هؤلاء المنافقين {أَبَدًا} .
قال سعدى المفتي : أي لا تصل فيه عبر بالقيام عن الصلاة كما في قولهم لأن يقوم الليل ومنه الحديث الصحيح : "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" {لَّمَسْجِدٌ} مسجد قبا واللام للابتداء أو القسم {أَسَّـاسَ} التأسيس إحكام اس البناء وهو أصله يعني اسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلى فيه أيام مقامه بقبا.
{عَلَى التَّقْوَى} .
قال في "التبيان" : أي بنيت حدوده ورفعت قواعده على طاعة الله.
وفي "الحدادي" : لوجه الله وعلى ههنا للمصاحبة بمعنى مع كما في قوله تعالى : {وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (البقرة : 177) كما في "حواشي سعدى" المفتي {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} من أيام وجوده وتأسيسه متعلق بأسس وكلمة من الجارة إذا كانت للابتداء تجر المكان كثيراً كما في قولك جئت من البصرة وقد تجر الزمان أيضاً عند الكوفيين ، كما في هذه الآية فالمعنى منذ أول يوم بني لأن منذ لابتداء الغاية في الزمان تقول ما رأيته منذ شهر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
وقال الرضي : (من) في الآية بمعنى في وذلك كثير في الظروف ، ويقال أراد بالمسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة والأول أشهر وأوفق للقصة إذ المسجد بقبا فالموازنة بينهما أولى من الموازنة بين ما بقبا وما بالمدينة.
قال الحدادي : لا يمتنع أن يكون المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى كلا المسجدين مسجد النبي عليه السلام ومجسد قبا {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي : أولى أن تصلي فيه.
فإن قيل : لِمَ قال الله تعالى أحق أن تقوم فيه ، مع أن المفاسد الأربع المذكورة بقوله ضراراً وكفراً وتفريقاً وإرصاداً تمنع جواز قيامه في الآخر.
(3/383)
والجواب : أن الكلام مبني على النزول والمعنى لو فرضنا جواز القيام في مسجد الضرار لحان القيام في مسجد التقوى أحق وأولى لكونه على قاعدة محكمة فكيف والقيام فيه باطل لكونه مبنياً لأغراض فاسدة ، ويجوز أن يقال : أحق ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق ، كما قال المولى أبو السعود ، والمراد بكونه أحق كونه حقيقاً به إذ لا استحقاق في مسجد الضرار رأساً وإنما عبر عنه بصيغة التفعيل لفضله وكماله في نفسه أو الأفضلية في الاستحقاق المتناول ما يكون باعتبار زعم الباني ومن يتابعه في الاعتقاد وهو الأنسب بما سيأتي.
{فِيهِ} أي : في المسجد المؤسس على التقوى.
{رِجَالٌ} يعني : الأنصار جملة مستأنفة مبنية لأحقيته لقيامه عليه السلام فيه من جهة الحال بعد بيان أحقيته له من حيث المحل.
{يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} من الأنجاس والأخباث مطلقاً بدنية كانت أو عملية كالمعاصي والخصال الذميمة.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي : يرضى عن
507
المتطهرين ويدنيهم من جنابه ءدناء المحب حبيبه.
روي أن هذه الآية لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس فقال : "أمؤمنون أنتم" فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه السلام : "أترضون بالقضاء" قالوا نعم قال : "أتصبرون على البلاء" قالوا : نعم قال : "أتشكرون في الرخاء" قالوا : نعم قال عليه السلام : "مؤمنون ورب الكعبة" فجلس ثم قال : "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط" فقالوا نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} وفي كلام بعضهم أول من استنجى بالماء إبراهيم عليه السلام والاستنجاء مسح موضع النجو ، أي ما خرج من البطن وهو في الأصل أعم منه ومن غسله كما في "المغرب" فيطهر موضع النجو بثلاثة أمداد فإن لم يجد فبالأحجار فإن لم يجد فكفه ولا يستنجى بما سوى الثلاثة لأنه يورث الفقر والمقصود التنقية فلو حصل بالواحد كفاه ولم يحصل بالثلاثة زاد ، ولا يستنجى من النوم والريح فإنه بدعة وليس على المستحاضة استنجاء لكل صلاة بلا بول غائط كما في "النوازل" واستعمال المنشفة أدب وذلك قبل أن يقوم وبعد الغسل ليزول أثر الماء المستعمل بالكلية وكان الأنصار يتبعون الماء أثر البول أيضاً وعن بعضهم أن المراد التطهر من الجنابة فلا ينامون عليها وفي الحديث : "ثلاثة لا تقربهم الملائكة" المراد بالملائكة هنا هم الذين ينزلون بالرحمة والبركة دون الحفظة فإنهم لا يفارقونه على أي حال من الأحوال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
وقال بعض العلماء : المراد بالملائكة غير الحفظة وغير ملائكة الموت وقيل أراد لا تحضره الملائكة بخير "جيفة الكافر" المراد بها ذاته حياً وميتاً لأن الكافر نجس بعيد من الرحمة في الحياة وبعد الموت "والمتضمخ" بالضاد والخاء المعجمتين أي المتلطخ المتدهن بالخلوق بفتح الخاء المعجمة طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الخمرة والصفرة.
وقال أبو عبيدة عند العرب هو الزعفران وحده ووجه النهي عن الخلوق لما فيه من الرعونة والتشبه بالنساء والنهي عن الخلوق مختص بالرجال دون النساء كما في "المفاتيح" "والجنب" الجنابة لغة البعد وسمي الإنسان جنباً لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر وقيل لمجانبته الناس حتى يغتسل "إلا أن يتوضأ" وهذا في حق كل من أخر الغسل لغير عذر أو لعذر إذا أمكنه الوضوء فلم يتوضأ.
وقيل : لم يرد بالجنب من إصابته جنابة فأخر الاغتسال ولكنه الجنب الذي يتهاون بالغسل ويتخذ تركه عادة لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان ينام وهو جنب ويطوف على نسائه بغسل واحد.
وفي الشرعة : وينام بعد الوطء نومة خفيفة فإنه أروح للنفس لكن السنة فيه أن يتوضأ أولاً وضوءه للصلاة ثم ينام كما في "شرح ابن السيد علي".
قال في "فتح القريب" المراد بالوضوء الشرعي بلا خلاف وفي رواية شعبة "اغسل ذكرك ثم توضأ وارقد" هذا هو الصحيح يعني الأمر بغسل الذكر ثم الوضوء ومن نام ولم يتوضأ فليستغفر الله تعالى ولو أراد العود أي من غير نوم فليتوضأ أي ليتنظف بغسل الذكر واليدين فليس المراد بالوضوء الشرعي المشهور كما ذهب إليه المالكية كما في "شرح المشارق".
والوضوء يطلق على غسل اليدين كما في قوله عليه السلام : "الوضوء قبل الطعام ينفي
508
(3/384)
الفقر".
وإذا توضأ وضوءه للصلاة وأراد أن ينام فهل الأولى أن ينوي رفع الحدث الأصغر أو ينوي سنة العود أو رفع الجنابة أو ما أصابه من الأعضاء المغسولة الظاهر الأول ليكون عبادة مستقلة أو مخففة للحدث بزوال أحد الحدثين كذا في "فتح القريب".
وفيه أيضاً اختلف في علة الوضوء فقيل لأنه يخفف الحدث وقيل ليبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في نومه ذلك لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب فيزول ذلك بالوضوء ومذهب الشافعي ومالك استحباب الوضوء للجنب قبل النوم لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك.
وعن بعض المالكية لا تسقط العدالة بتركه لاختلاف العلماء فيه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
وقال بعضهم : في الآية يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم.
روي أن جابراً قال استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "من هذه" قيل : أم ملدم فأمر بها عليه السلام إلى أهل قبا فلقوا فيها ما لا يعلمه إلا الله فشكوا إليه عليه السلام فقال : "إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم وإن شئتم تكون لكم طهوراً" قالوا أو تفعل ذلك قال : "نعم" قالوا فدعها وقد "جاء أن حمى ليلة كفارة سنة ومن حم يوماً كان له براءة من النار وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وعن عائشة رضي الله عنها لما قدمت المدينة أخذتها الحمى فسبتها فقال عليه السلام : "لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله تعالى عنك" قالت علمني قال : "قولي اللهم ارحم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق من شدة الحريق يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس ولا تنتني الفم ولا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلهاً آخر" فقالتها فذهبت عنها ولما استوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم فمرض كثير منهم وضعفوا تشوقوا إلى مكة المكرمة ولذا نظر عليه السلام يوماً إلى السماء لأنها قبلة الدعاء وقال : "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وبارك لنا في مدها وصاعها وصححها لنا ثم انقل وباءها إلى مهيعة" أي : الجحفة وهي قرية قريبة من رابغ محل إحرام من يجيء من جهة مصر حاجاً وكان سكانها إذ ذاك يهوداً ودعاؤه عليه السلام أن يحبب إليهم المدينة إنما هو لما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه ومن ثم جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت رجلاً بحضور النبي عليه السلام قدم المدينة من مكة ، فقالت له : كيف تركت مكة فذكر لها من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : "لا تشوقها يا فلان".
فتنها درانجمن يدا شود ازسوزمن
ون مرادر خاطر آيدمسكن ومأواى دوست
وفي "أسئلة الحكم" : أن الختان للتطهر لأنه يوجب المحبة الإلهية كما قال تعالى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فيحصل الاحتراز والتطهر من البول بالختان.
قال الفقهاء : الأقلف يجب عليه إيصال الماء إلى القلفة إذ لا حرج فيه وفي الحديث : "اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر من البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر" كما في "الترغيب".
اعلم أن مسجد المنافقين إشارة إلى مزبلة النفس والمسجد المؤسس على التقوى إشارة إلى مسجد القلب وهو قد أسس على العبودية والطاعة والإقرار بالوحدانية من أول يوم الميثاق عند خطاب ألست بربكم وجواب قالوا بلى وأهله متطهرون عن الصفات الذميمة والأخلاق اللئيمة بل عن دنس الوجود ولوث الحدوث والله يحب المطهرين الفانين
509
عن جودهم الباقين بالله ولولا محبته إياهم ما وفقهم للتطهير فتطهرهم مطلقاً أثر من آثار محبة الله لهم.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
طهارت ارنه بخون جكر كند عاشق
بقول مفتى عشق اش درست نيست نماز
وفي "المثنوي" :
روى ناشسته نبيند روى حور
لا صلاة كفت إلا بالطهور
وهو بالفتح مصدر بمعنى التطهير ومنه "مفتاح الصلاة الطهور" واسم لما يتطهر به كذا في "المغرب".
{أَفَمَنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَهُ} جملة مستأنفة مبنية لخيرية الرجال المذكورين من أهل مسجد الضرار وهمزة الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر.
والتأسيس إحكام أس البناء وهو أصله والبنيان مصدر كالغفران أريد به المفعول أي المبني.
والمعنى أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيان مسجده إذ الكلام فيه ويؤيده أسس على التقوى.
(3/385)
وقال الكاشفي : (آيا هر كس كه اساس افكند بناى دين خودرا) {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} المراد بالتقوى درجتها الثانية التي هي التقوى عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك فيكون غير منصرف كحبلى فلا تنوين فيه إذاً.
وقرىء بالتنوين على أن يكون ألفه للإلحاق كألف أرطى.
{وَرِضْوَانٍ} وطلب مرضاته بالاشتغال بالطاعة.
{خَيْرُ} إطلاق خير على معتقد أصحاب مسجد الضرار من اعتقاد الاشتراك في الخيرية.
{أَم مَّنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَهُ} والمعنى ، أي : الفريقين خير وأحق بالمصاحبة والصلاة معهم من أسس بناء مسجده مريداً به تقوى الله وطاعته وهم أهل مسجد قبا أم من أسس بنيان مسجده على النفاق والكفر وتفريق المؤمنين وإرصاد كافر شأنه كيد المسلمين وتوهين أمر الدين وترك الإضمار للإيذان باختلاف البنيانين ذاتاً واختلافهما وصفا وإضافة.
{عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} شفا الشيء بالقصر طرفه وشفيره وتثنيته شفوان والجرف بالضم والإسكان وهما لغتان الأرض التي جرفت السيوف أصلها أي حفرته وأكلته والهاري المتصدع المشرف على السقوط يقال هار الجرف يهور أو يهير إذا انشق من خلفه وهو ثابت بعد مكانه فهو هائر فهاري مقلوب هاير نقلت لامه إلى مكان العين كما فعل في شاك أصله شايك فصار هاري فاعل كقاضي.
قال أبو البقاء : أصله هاور أو هاير ثم أخرت عين الكلمة فصارت بعد الراء وقلبت الواو ياء لانكسار ماقبها ثم حذفت لسكونها وسكون التنوين فوزنه بعد القلب فالع وبعد الحذف فال وعين الكلمة واو أو ياء يقال تهور البناء وتهير.
{فَانْهَارَ بِه فِى نَارِ جَهَنَّمَ} يقال هار البناء هدمه فالانهار والانهيار (رهيده شدن) كما في "تاج المصادر" وفاعل انهار ضمير البنيان وضمير به للمؤسس الباني أي تساقط بنيانه وتناثر به أي بصاحبه في النار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
قال قتادة : ذكر لنا أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منها.
وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.
قال الحدادي : كما أن من بنى على جانب نهر صفته ما ذكرنا انهار بناؤه في الماء فكذلك بناء أهل النفاق مسجد الشقاق كبناء على جرف جهنم يهور بأهله فيها.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} أي : لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير موضعها أي لا يرشدهم إلى مافيه نجاتهم وصلاحهم إرشاداً موصلاً لا محالة وأما الدلالة على
510
ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحقق بلا اشتباه.
والظلم في الحقيقة وضع عبادة الدنيا ومحبتها والحرص في طلبها في موضع عبادة الله تعالى ومحبته والصدق في طلبه.
{لا يَزَالُ بُنْيَـانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا} البنيان مصدر أريد به المفعول ووصفه بالموصول الذي صلته فعله للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على أوهن قاعدة وأوهى أساس وللإشعار بعلة الحكم أي لا يزال مسجدهم ذلك مبنياً ومهدوماً.
{رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} أي : سبب ريبة وشك في الدين كأنه نفس الريبة ، أما حال بنائه فظاهر لما أن اعتزالهم من المؤمنين واجتماعهم في مجمع على حياله يظهرون فيه ما في قلوبهم من آثار الشرك والنفاق ويدبرون فيه أمورهم ويتشاورون في ذلك ويلقي بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا في الدين ، وأما حال هدمه فلما أنه رسخ به ما كان في قلوبهم من الشر والفساد وتتضاعفت آثاره وأحكامه {إِلا أَن تَقَطَّعَ} من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تقطع {قُلُوبِهِمْ} قطعاً وتتفرق أجزاء بحيث لا يبقى لها قابلية إدراك وإضمار قطعاً وهو استثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال محله النصب على الظرفية ، أي : لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت من الأوقات أو كل حال من الأحوال إلا وقت تقطع قلوبهم فحينئذٍ يسلون عنها ، وأما ما دامت سالمة فالريبة باقية فيها فهو تصوير لامتناع زوال الريبة عن قلوبهم إلى الموت ، ويجوز أن يكون المراد حقيقة تقطعها عند قتلهم أو في القبور بالبلى أو في النار.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} (وخداى تعالى داناست بتأسيس بنا وايشان كه به نيت بوده).
{حَكِيمٌ} فيما حكم وأمر من هدم مسجدهم وإظهار نفاقهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
واعلم : أن في الآيتين المذكورتين إشارات : منها أن صفاء الطوية وحسن الاعتقاد ، كالأساس في باب الأعمال فكما أن البناء لا يقوم على الماء بل يقوم على الأرض الصلبة كذلك الأعمال لا تقوم الأعلى محكم الاعتقاد ، وهو الباعث على الإخلاص العمل الذي هو إرادة التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته وضده النفاق وهو التقرب إلى الخلق من دون الله تعالى.
وأما إخلاص طلب الأجر فهو إرادة نفع الآخرة بعمل الخير وضده الرياء وهو إرادة نفع الدنيا بعمل الآخرة سواء أراده من الله أو من الناس لأن الاعتبار في الرياء بالمراد لا بالمراد منه.
(3/386)
فعلى العاقل أن يجعل أساس دينه على الاعتقاد الصحيح والإخلاص والتقوى حتى يكون كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
ومنها : أن المنافقين بنوا مسجداً للصلاة صورة فهم إنما بنوا متحدثاً لهم حقيقة ومحلاً لقاذورات أقوالهم وأفعالهم ، ولذا كان حرياً بإلقاء الجيف فيه بعد الهدم فتمتعوا قليلاً ثم وقعوا في النار جميعاً ، كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْكَـافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ} (النساء : 140) فكما أن من جالسهم في مجالسهم القذرة العذرة شقي شقاوة حقيقية كذلك من جالس الصديقين والعارفين في مجالسهم المطهرة وأنديتهم المقدسة سعد سعادة أبدية وتطهر طهارة أصلية ، وقد قال عليه السلام : "إنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم" ، فالمراد السامع أو الجالس لأن المجالسة والسماع ينتجان عن المحبة قال عليه السلام : "المرء مع من أحب" وهنا سرّ صوفي يريد صلى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي وفي الآخرة بالمعاينة والقرب المشهدي.
ومنها : أنهم أرادوا ببنيانهم مكراً وخديعة وغفلوا عن مكر الله تعالى بهم ولذا افتضحوا.
511
مكر حق سر شمه اين مكر هاست
قلب بين الأصبعين كبرياست
آنكه سازد دردلت مكرو قياس
آتشى داند زدن اندر لاس
ومنها : أن من كانت شقاوته أصلية أزلية فهو لا يزداد بما ابتلاه الله تعالى به إلا ضلالاً وغيظاً وإنكاراً والعاقل يختار فضوح الدنيا لأنه أهون من فضوح الآخرة.
ازين هلاك مينديش وباش مردانه
كه اين هلاك بودموجب خلاص ونجات
ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يزل يذب الناس عن النار وعن الوقوع فيها ولذا هدم مسجد الضرار إذ لو تركه على حاله لعاد الضرر على العامة بنزول البلية وهي نار معنى ولافتتن به بعض الناس والفتنة الدينية سبب للنار حقيقة فأهل الفساد والشر لا يقرون على ما هم عليه بل ينكر عليهم أشد الإنكار بهتك أعراضهم وإخراجهم من مساكنهم إن مست الحاجة إلى الإخراج وكذا هدم بيوتهم ومنازلهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
ذكر في "فتاوى أبي الليث" : رجل بنى رباطاً للمسلمين على أن يكون في يده ما دام حياً فليس لأحد أن يخرجه من يده ما لم يظهر منه أمر يستوجب الإخراج من يده كشرب الخمر فيه وما أشبه ذلك من الفسق الذي ليس فيه رضى الله لأن شروط الوقف يجب اعتبارها ولا يجوز تركها إلا للضرورة.
وقال في "نصاب الاحتساب" : فإذا كان الخانقاه يخرج من يد بانيه لفسقه فكيف يترك في الخانقاه فاسق أو مبتدع.
مثل الحديدية الذين يلبسون الحديد لأن الحديد حلية أهل النار سواء اتخذ خاتماً أو حلقة في اليد أو في الأذن أو في العنق أو غير ذلك ، ومثل الجوالقية الذين يلبسون الجوالق والكساء الغليظ ويحلقون اللحية وكلاهما منكر.
فأما الأول فلأنه لباس شهرة وقد نهي عنه ، وأما الثاني فلأنه من فعل الإفرنج وفيه تغيير خلق الله تعالى والتشبه بالنساء.
ومثل القلندرية الذين يقصون الشعور حتى الحاجب والأهداب وفيهم يقول الحافظ :
قلندرى نه بريشست وموى يا ابرو
حساب راه قلندر بدانكه موى بموست
كذشتن از سرمو درقلندرى سهلست
و حافظ آنكه سر بكذررد قلندراوست
وقس عليهم سائر فرق أهل البدعة وفي الحديث : "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام يتخلفون عن الجماعة فأحرق بيوتهم" وهذا يدل على جواز إحراق بيت الذي يتخلف عن الجماعة لأن الهم على المعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لأنه معصية فإذا علم جواز إحراق البيت على ترك السنة المؤكدة فما ظنك في إحراق البيت على ترك الواجب والفرض عصمنا الله وإياكم من الأقوال والأفعال المنكرة.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} روي أن الأنصار لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً أو أربعة وسبعون من أهل المدينة قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال : "اشترطت لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً واشترطت لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال : "الجنة" قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل أي لا نفسخه ولا ننقضه.
آن بيع راكه روز ازل باتوكرده ايم
اصلا دران حديث اقاله نميرود
فنزلت : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لا من المنافقين والكافرين فإنهم غير مستعدين لهذه
512
المبايعة.
قال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن والله ما على وجه الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة وسميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً بالمعاوضة المالية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
(3/387)
قال ابن ملك في "شرح المشارق" المبايعة من جهة الرسول عليه السلام هو الوعد بالثواب ومن جهة الآخر التزام طاعته {أَنفُسِهِمْ} (نفسهاى ايشا نراكه مباشر جهاد شوند) فالمراد بالنفس هو البدن الذي هو المركب والآلة في اكتساب الكمالات للروح المجرد الإنساني {وَأَمْوَالَهُم} (وما لهاى ايشانراكه درراه نفقه كنند) فالمال الذي هو وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (با آنكه مرايشانرا باشد بهشت) أي باستحقاقهم الجنة في مقابلتها وهو متعلق باشترى ودخلت الباء هنا على المتروك على ما هو الأصل في باء المقابلة والعوض ولم يقل بالجنة مبالغة تقرر وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم.
فإن قيل : كيف يشتري أحد ملكه بملكه والعبد وماله لمولاه؟
قيل : إنما ذكر على وجه التحريض في الغزو ، يعني (اي بنده ازتو بذل كردن نفس ومال واز من عطا دادن بهشت بي زوال) ففيه تلطف للمؤمنين في الدعاء إلى الطاعة البدنية والمالية وتأكيد للجزاء كما قال تعالى : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (البقرة : 245) فذكر الصدقة بلفظ القرض للتحريض على ذلك والترغيب فيه إذ القرض يوجب رد المثل لا محالة وكأن الله تعالى عامل عباده معاملة من هو غير مالك ، فالاشتراء استعارة عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة فالله تعالى بمنزلة المشتري والمؤمن بمنزلة البائع وبدنه وأمواله بمنزلة المبيع الذي هو العمدة في العقد والجنة بمنزلة الثمن الذي هو الوسيلة وإنما لم يجعل الأمر على العكس بأن يقال إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها إيذاناً بتعلق كمال العناية بأنفسهم وأموالهم.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أنه كان يقول يا ابن آدم اعرف قدر نفسك ، فإن الله عرفك قدرك لم يرض أن يكون لك ثمن غير الجنة.
وفي "المثنوي" :
خويشتن نشناخت مسكين آدمى
از فزونى آمد وشد در كمى
خويشتن را آدمى ارزان فروخت
بود اطلس خويش را بردلق دوخت
قال الكاشفي : (نفس سرمايه سر وشورست ومال سبب طغيان وغرورو اين دو ناقص معيوب را رراه خداكن وبهشت باقى مرغوبرا بستان) :
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
سك بينداز وكهر مى ستان
خاك زمين مى ده وزر مى ستان
در عوض فانىء خوار وحقير
نعمت اكيزه باقي بكير
وفي "التفسير الكبير" : حكي في الخبر أن الشيطان يخاصم ربه بهذه الآية ويحتج بالمسألة الشرعية في البيع إذا اشترى المشتري متاعاً معيوباً يرده إلى البائع.
يقول : يا رب أنت اشتريت نفوسهم وأموالهم فنفوسهم وأموالهم كلها معيوبة ردّ لي عبادك بشرعك وعدلك يكونوا معي حيث أكون فيقول الله تعالى أنت جاهل بشرعي وعدلي وفضلي إذا اشترى المشتري متاعاً بكل عيب فيه بفضله وكرمه لا يجوز رده في شرعي في مذهب من المذاهب فيخسأ الشيطان حجلاً طريداً مخذولاً.
وفي "المثنوي" :
513
كاله كه هي خلقش ننكريد
از خلاقت آن كريم آنرا خريد
هي قلبي يش حق مردود نيست
زانكه قصدش ازخريدن سود نيست
(س حق سبحانه وتعالى مارا خريده وبعيوب ما دانا اميداست كه ازدركاه كرم رد نكند.
ودر نفخات الأنس مذكورست از ابو زجانى نقل ميكندكه) :
تو بعلم ازل مرا ديدى
ديدى آنكه بعيب بخريدى
تو بعلم آن ومن بعيب همان
رد مكن آنه خود سنديدى
{يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} استئناف لبيان البيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة فقيل يقاتلون في سبيل الله ، يعني : (درراه خدا وطلب رضاى او) وهو بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله تعالى وتعريض لهما للهلاك.
وقال الحدادي : فيه بيان الغرض لأجل اشترائهم وهو أن يقاتلوا العدو في طاعة الله انتهى.
أقول : هل الأفعال الإلهية معللة بالأغراض أو لا ففيه اختلاف بين العلماء فأنكره الأشاعرة وأثبته أكثر الفقهاء لأن الفعل الخالي عن الغرض عبث والعبث من الحكيم محال وتمامه في التفاسير ، عند قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذرايات : 56) {فَيَقْتُلُونَ} (س كاهى مى كشند دشمانرا) فهم الغزاة فلهم الجنة.
{وَيَقْتُلُونَ} (وكاهى كشته ميشوند دردست ايشان) فهم الشهداء فله الجنة.
(3/388)
قال في "الإرشاد" : هو بيان لكون القتل في سبيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتل في سبيله باذل لها وإن كانت سالمة غانمة فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم ، بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضاً كما إذا وجدت المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين أو لم توجد المضاربة أيضاً فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتال بذلاً للنفس ، وقرىء بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله بل بكونه أحب إليهم من السلامة واختار الحسن هذه القراءة لأنه إذا قرىء هكذا كان تسليم النفس إلى السراء أقرب وإنما يستحق البائع تسليم الثمن إليه بتسليم المبيع وأنشد الأصمعي لجعفر رضي الله عنه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
أثامن بالنفس النفيسة ربها
وليس لها في الخلق كلهمو ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكموغبن
إذا ذهبت نفسي بشيء أصيبه
فقد ذهب الدنيا وق ذهب الثمن
وأنشد أبو علي الكوفي :
من يشترى قبة في عدن عالية
في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بائعها
ممن أراد وجبريل مناديها
واعلم أن من بذل نفسه وماله في طلب الجنة فله الجنة وهذا هو الجهاد الأصغر ومن بذل قلبه
514
وروحه في طلب الله فله رب الجنة وهذا هو الجهاد الأكبر لأن طريق التصفية وتبديل الأخلاق أصعب من مقاتلة الأعداء الظاهرة فالقتل إما قتل العدو الظاهر وإما قتل العدو الباطن وهو النفس وهواها {وَعْدًا} مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً إذ الجنة يستحيل وجودها في الدنيا فمضمون الجملة السابقة ناصب له.
قال سعدى المفتي : لأن معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله على الجهاد في سبيله {عَلَيْهِ} حال من قوله {حَقًّا} لأنه لو تأخر عنه لكان صفة له فلما تقدم عليه انتصب حالاً وأصله وعداً حقاً أي ثاتباً مستقراً عليه تعالى.
قال الكاشفي : (حقا ثابت وباقي كه خلاف دران نيست) {فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} متعلق بمحذوف وقع صفة لوعداً أي وعداً مثبتاً مذكوراً في التوراة والإنجيل كما هو مثبت مذكور في القرآن.
يعني أن الوعد بالجنة للمقاتلين في سبيل الله من هذه الأمة مذكور في كتب الله المنزلة وجوز تعلقه باشترى فيدل على أن أهل التوراة والإنجيل أيضاً مأمورون بالقتال موعودون بالجنة.
{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللَّهِ} من استفهام بمعنى الإنكار وأوفى أفعل تفضيل وقوله من الله صلته أي لا يكون أحد وافياً بالوعد والعهد وفاء الله بعهده ووعده لأنه تعالى قادر على الوفاء وغيره عاجز عنه إلا بتوفيقه إياه كما في "التأويلات النجمية" : {فَاسْتَبْشِرُوا} الاستبشار إظهار السرور والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله ، أي : فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة ، وإنما قيل : مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة ؛ لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبل الله لا من قبلهم والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
قال الحدادي : بيعكم أنفسكم من الله فإنه لا مشتري أرفع من الله ولا ثمن أعلى من الجنة وقوله تعالى : {الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ} (آنكه مبايعه كرديد بآن) لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات فإنه بيع للفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى.
{وَذَالِكَ} أي : الجنة التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم.
{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز أعظم منه.
قال الحدادي : أي النجاة العظيمة والثواب الوافر لأنه نيل الجنة الباقية بالنفس الفانية ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذي أمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم أو يجعل فوزاً في نفسه.
واعلم : أن الخلق كلهم ملك الله وعبيده.
وأن الله يفعل في ملكه وعبيده ما يريد.
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ولا يقال لم لم يرد ولم لا يكون.
ومع هذا فقد اشترى من المؤمنين أنفسهم لنفاستها لديه إحساناً منه.
(3/389)
ثم اعلم : أن الأجل محكوم ومحتوم ، وأن الرزق مقسوم ومعلوم ، وأن من أخطأ لا يصيب.
وأن سهم المنية لكل أحد مصيب ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وأن ما قدر أزلاً لا يخشي من الفوت ، وإن الجنة تحت ظلال السيوف ، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحتوف ، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ، ومن أنفق ديناراً كتب بسبعمائة دينار وفي رواية بسبعمائة ألف دينار ، وأن الشهداء حقاً عند الله من الأحياء ، وأن أرواحهم في جوف طيور خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء ، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه ، وأنه شفع في سبعين من أهل بيته وأولاده ، وأنه آمن يوم القيامة من الفزع الأكبر ، وأنه
515
لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر ، وأنه لا يحس بألم القتل ، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه ، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه ، وأن المرابط يجرى له أجر عمله الصالح إلى يوم قيامه ، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه ، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبداً لا يقطع ، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها ، وأنه يأمن من فتنة القبر وعذابه ، وأن الله يكرمه في القيامة بحسن مآبه ، إلى غير ذلك وإذا كان الأمر كذلك ، فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرتبة وصرف عمره في طلبها والتشمير للجهاد ، عن ساق الاجتهاد.
والنفير إلى ذوي العناد ، من كل العباد ، وتجهيز الجيوش والسرايا ، وبذل الصلات والعطايا ، وإقراض الأموال لمن يضاعفها ويزكيها ، ودفع سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها ، وأن ينفر في سبيل الله خفافاً وثقالاً.
ويتوجه إلى جهاد أعداء الله ركباناً ورجالاً ، حتى يخرجوا إلى الإسلام من أديانهم ، أو يعطوا الجزية صغرة بإيمانهم ، أو تستلب نفوسهم من أبدانهم ، وتجتذب رؤوسهم من تيجانهم.
فجموع ذوي الإلحاد مكسرة ، وإن كانت بالتعداد مكثرة ، وجيوش أولي العناد مدبرة مدمرة ، وإن كانت بعقولهم مقدمة مدبرة ، وعزمات رحال الضلال مؤنثة مصغرة ، وإن كانت ذواتهم مذكرة مكبرة.
ألا ترى أن الله تعالى جعل كل مسلم يغلب منهم اثنين.
وللذكر من العقل مثل حظ الأنثيين.
فوجب علينا أن نطير إليهم ونغير عليهم رجالاً وفرساناً.
ونجهد في خلاص أسير ومكروب.
واغتنام كل خطير ومحبوب ، ونبيد بأيدي الجلاد حماة الشرك وأنصاره ، ونصول بالنصول الحداد على دعاة الكفر انهتك استاره.
ونتطهر بدماء المشركين والكفار ، من أرجاس الذنوب وأنحاس الأوزار ، هناك فتحت من الجنة أبوابها.
وارتفعت فرشها ووضعت أكوابها.
وبرزت الحور العين عربها وأترابها ، وقام للجلاد على قدم الاجتهاد خطابها.
فضربوا ببيض المشرفية فوق الأعناق.
واستعذبوا من المنية مر المذاق.
وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق ، فوردوا من مورد الشهادة مورداً لم يظمؤوا بعده أبداً ، وربحت تجارتهم فكانوا أسعد السعدا ، أولئك في صفقة بيعهم هم الرابحون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون ، إليك اللهم نمد أكف الضراعة أن تجعلنا منهم.
وإن لا تحيد بنا عند قيام الساعة عنهم ، وأن ترزقنا من فضلك شهادة ترضيك عنا.
وغفراً للذنب الذي أنقض الظهر وعنى ، وقبولاً لنفوسنا إذ عرضناها رحمة منك وتفضلاً ومنا.
وحاشى كرمك أن نؤوب بالخيبة مما رجوناه وأملنا ، وأنت أرحم الراحمين.
وعن الشيخ عبد الواحد بن زيد قدس سره قال بينما نحن ذات يوم في مجلسنا هذا قد تهيأنا للخروج إلى الغزو قد أمرت أصحابي بقراءة آيتين فقرأ رجل في مجلسنا
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إذ قام غلام في مقدار خمس عشرة سنة أو نحو ذلك وقد مات أبوه وورثه مالاً كثيراً فقال يا عبد الواحد بن زيد {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} فقلت : نعم حبيبي ، فقال : إني أشهدك أني قد بعت نفسي ومالي بأن لي الجنة فقلت له إن حد السيف أشد من ذلك وأنت صبي ، وإني أخاف
516
(3/390)
عليك أن لا تصبر أو تعجز عن ذلك فقال يا عبد الواحد أبايع الله بالجنة ثم أعجز أشهد الله أني قد بايعته ، أو كما قال رضي الله عنه قال عبد الواحد فتقاصرت إلينا أنفسنا وقلنا صبي يعقل ونحن لا نعقل فخرج من ماله كله وتصدق به إلا فرسه وسلاحه ونفقته فلما كان يوم الخروج كان أول من طلع علينا فقال السلام عليك يا عبد الواحد ، فقلت وعليك السلام ربح البيع إن شاء الله ، ثم سرنا وهو معنا يصوم النهار ويقوم الليل ويخدمنا ويخدم دوابنا ويحرسنا إذا نمنا حتى إذا انتهينا إلى دار الروم فبينما نحن كذلك إذا به قد أقبل وهو ينادي واشوقاه إلى العيناء المرضية ، فقال أصحابي لعله وسوس هذا الغلام واختلط عقله ، فقلت حبيبي وما هذه العيناء المرضية ، فقال قد غفوت غفوة فرأيت كأنه قد أتاني آت ، فقال لي اذهب إلى العيناء المرضية فهجم بي على روضة فيها بحر من ماء غير آسن وإذا على شاطىء النهر جوار عليهن من الحلل ما لا أقدر أن أصفه ، فلما رأينني استبشرن بي ، وقلن هذا زوج العيناء المرضية فقلت السلام عليكن : أفيكن العيناء المرضية فقلن لا نحن خدمها وإماؤها امض أمامك فمضيت أمامي ، فإذا أنا بنهر من لبن لم يتغير طعمه في روضة فيها من كل زينة فيها جوار لما رأيتهن افتتنت بحسنهن وجمالهن فلما رأينني استبشرن ، وقلن والله هذا زوج العيناء المرضية ، فقلت : السلام عليكن أفيكن العيناء المرضية فقلن وعليك السلام يا ولي الله نحن خدمها وإماؤها فتقدم أمامك ، فتقدمت فإذا أنا بنهر من خمر وعلى شط الوادي جوار أنسينني من خلفت ، فقلت السلام عليكن أفيكن العيناء المرضية؟ قلن : لا نحن خدمها وإماؤها امضضِ أمامك فمضيت فإذا أنا بنهر آخر من عسل مصفى أمامي ، فوصلت إلى خيمة من درة بيضاء وعلى باب الخيمة جارية عليها من الحلي والحلل ما لا أقدر أن أصفه ، فلما رأتني استبشرت بي ونادت من الخيمة أيتها العيناء المرضية هذا بعلك قد قدم ، قال : فدنوت من الخيمة ودخلت فإذا هي قاعدة على سرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت ، فلما رأيتها افتتنت بها وهي تقول مرحباً بك يا ولي الله قد دنا لك القدوم علينا ، فذهبت لأعانقها ، فقالت : مهلاً فإنه لم يأننِ لك أن تعانقني : لأن فيك روح الحياة وأنت تفطر الليلة عندنا إن شاء الله تعالى فانتبهت يا عبد الواحد ولا صبر لي عنها ، قال عبد الواحد فما انقطع كلامنا حتى ارتفعت لنا سرية من العدو فحمل الغلام فعددت تسعة من العدو قتلهم وكان هو العاشر فمررت به وهو يتشحط في دمه وهو يضحك ملء فيه حتى فارق الدنيا ولله در القائل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها
يمسى ويصبح مغروراً وغراراً
هلا تركت من الدنيا معانقة
حتى تعانق في الفردوس أبكارا
إن كنت تبغى جنان الخلد تسكنها
فينبغي لك أن لا تأمن النارا {التَّـائِبُونَ} قال الزجاج : هو مبتدأ خبره مضمر.
والمعنى التائبون إلى آخر الآية من أهل الجنة كالمجاهدين فيما قبل هذه الآية فيكون الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين وغيرهم من المؤمنين ، وإن لم يجاهدوا إذا كانوا غير معاندين ولا قاصدين لترك الجهاد والمراد التائبون عن الشرك والنفاق وكل معصية صغيرة كانت أو كبيرة ، وأصل التوبة : الرجوع فإذا وصف بها العبد يراد بها الرجوع من العقوبة إلى المغفرة والرحمة وهي واجبة على الفور ويتقدمها معرفة الذنب
517
المرجوع عنه أنه ذنب وعلامة قبولها أربعة أشياء ، أن ينقطع عن الفاسقين ، ويتصل بالصالحين بالتردد إلى مجالسهم الشريفة أينما كانوا ، وأن يقبل على جميع الطاعات إذ الرجوع إذا صح من القلب ترى الأعضاء تنقاد لما خلقت له كالشجرة إذا صلح أصلها أثمر فرعها وأن يذهب عنه فرح الدنيا إذ المقبل على الله لا يفرح بشيء مما سواه ، وكان عليه السلام متواصل الأحزان دائم الفكر.
وأن يرى نفسه فارغاً عما ضمن الله له يعني الرزق مشتغلاً بما أمر الله تعالى قال الله تعالى : "يا ابن آدم خلقتك من تراب ثم من نطفة ولم يعيني خلقك من العدم أفيعييني رغيف أسوقه لك في حين وجدوك" فإذا وجدت هذه العلامات وجب على الناس أن يحبوه فإن الله قد أحبه ويدعوا له أن يثبته الله على التوبة ولا يعيروه بذنوبه ويجالسوه ويكرموه وليحذر التائب من نقض العهد والرجوع إلى المعصية (يحيى بن معاذ كفت يك كناه بعد از توبه قبيحترست ازهفتادكناه يش ازتوبه).
قال القشيري قدس سره : التائبون أصناف فمن راجع يرجع عن زلته إلى طاعته ، ومن راجع يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه ، ومن راجع يرجع عن الإحسان بنفسه وأبناء جنسه إلى الاستغراق بحقائق ربه ، {الْعَـابِدُونَ} الذين عبدوا الله تعالى مخلصين له :
عبادت باخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد ز بى مغز وست
والعبادة عبارة عن الإتيان بفعل يشعر بتعظيم الله تعالى (كويند امام أعظم رحمه الله بيست سال بوضوء شب نماز روز كزارد وهركز هلو برزمين ننهاد وجامه خواب نداشت وسر برهنه نشست واى دراز نكرد) وفي الحديث : "إن أبغض الخلق إلى الله الصحيح الفارغ".
(3/391)
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
وقال القشيري قدس سره {الْعَـابِدُونَ} الخاضعونبكل وجه الذين لا يسترقهم كرائم الدنيا ولا يستعبدهم عظائم العقبى فلا يكون العبد عبد الله على الحقيقة إلا بعد تجرده عن كل حادث {الْحَـامِدُونَ} أي المثنون عليه بآلائه الشاكرون له على نعمائه المادحون له بصفاته وأسمائه وعمم بعضهم الحمد فأوجبه على النعم الدينية والدنيوية وكذا على الشدائد والمصائب في الدنيا في أهل أو نفس أو مال لأنها نعم بالحقيقة بدليل أنها تعرض العبد لمثوبات جزيلة حتى ما يقاسيه الأطفال عند الموت من الكرب الشديد ترجع فائدته إلى الولي الصابر وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "الحمدعلى ما ساء وسرّ" كما في "منهاج العابدين".
ومما ينبغي أن يعلم أن التوفيق للتوحيد نعمة عظيمة من الله تعالى فليقل المؤمن دائماً الحمدعلى دين الإسلام وتوفيق الإيمان.
قال مجاهد في تفسير قوله تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّـاكِرِينَ} (الأنعام : 53) يعني بالشاكرين على التوحيد فإذا عرفت هذا فلا يغرنك قول من قال إن نفس الدين وكذا الإسلام والإيمان ليس بنعمة فكيف يحمد عليه.
وقال القشيري {الْحَـامِدُونَ} هم الذين لا اعتراض لهم على ما يحصل بقدرته ولا انقباض لهم عما يجب من طاعته {السَّائحُونَ} عن ابن عباس رضي الله عنهما كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام وفي الحديث : "سياحة أمتي الصوم" قال الشاعر :
تراه يصلى ليله ونهاره
يظل كثير الذكرسائحاً
518
أي صائماً وشبه الصوم بالسياحة لأنه عائق عن الشهوات كالسائح لا يتوسع في استيفاء ما يميل إليه طبعه لأن الصوم رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت كما أن السائح يصل إلى ما لم يعرفه ولم يره.
وقال بعض العرفاء النكتة أن السياح يسيح في الأرض فأي بلد استطاب المقام فيه أقام وإذا لم يستطب خرج منه إلى بلد آخر فكذا الصائم إذا دخل الجنة يقال له ادخل من أي باب شئت وأي غرفة وقصر استطبتها فانزلها فيسيح في قصور الجنة ومنازلها أين ما شاء كالسياح في الأرض.
وقال الحسن : {السَّائحُونَ} الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وههنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام والله ساخط عليهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
وقال القشيري هم الصائمون عن شهود غير الله المكتفون من الله بالله.
وقال في "التأويلات النجمية" : {السَّائحُونَ} السائرون إلى الله بترك ما شغلهم عنه.
وقال عطاء المراد الغزاة في سبيل الله يقطعون المنازل والمراحل إلى أن يصلوا إلى ديار الكفرة فيجاهدوهم.
وقال عكرمة : هم طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد.
ورحل جابر رضي الله عنه من المدينة إلى مصر لحديث واحد ولذا لا يعد أحد كاملاً إلا بعد رحلته ولا يصل إلى مقصوده إلا بعد هجرته وقالوا كل من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ويكشف عن قلبه القناع فهو في هذا الشأن سبط لا أب له دعيّ لا نسب له {الراَّكِعُونَ السَّـاجِدُونَ} في الصلاة وإنما كنى بالركوع والسجود عن الصلاة لكون جهة العبادة أظهر فيهما بالنسبة إلى باقي أركان الصلاة فإن هيئتي القيام والقعود قد يؤتى بهما على وفق العادة بخلاف الركوع والسجود فإنهما ليسا من الهيئات الطبيعية الموافقة للعادة فلا يؤتى بهما إلا على سبيل العبادة فكان لهما مزيد اختصاص بالصلاة.
وقال القشيري : {الراَّكِعُونَ} الخاضعونفي جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلي وفي الخبر : "إن الله إذا تجلى لشيء خضع له" و{السَّـاجِدُونَ} بنفوسهم في الظاهر على بساط العبودية وبقلوبهم في الباطن عند شهود الربوبية.
وقال في "التأويلات النجمية" : {الراَّكِعُونَ} الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجودهم {السَّـاجِدُونَ} الساقطون عن هم على عتبة الوحدة بلادهم.
ون تجلى كرد اوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث را كليم
{الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي : بالإيمان والطاعة {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي : عن الشرك والمعاصي.
وقال الحدادي : المعروف هو السنة والمنكر هو البدعة.
قال ابن ملك : عند قوله عليه السلام : "وكل بدعة ضلالة" عني كل خصلة جديدة أتي بها ولم يفعلها النبي عليه السلام ضلالة لأن الضلالة ترك الطريق المستقيم والذهاب إلى غيره والطريق المستقيم الشريعة خص من هذا الحكم البدعة الحسنة كما قال عمر رضي الله عنه في التراويح نعمت البدعة.
قال العلماء البدع خمس واجبة كنظم الدلائل لرد شبه الملاحدة وغيرهم.
ومندوبة كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحوها.
ومباحة كالبسط في ألوان الأطعمة وغيرها.
ومكروهة.
وحرام وهما ظاهران انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504(3/392)
يقول الفقير : البناء إما لدرس العلم الظاهر وإما لتعليم علم الباطن فإذا كان بناء المدارس من البدعة الحسنة فليكن بناء الخانقاه منها أيضاً بل بناء الخانقاه أشرف لشرف
519
معلومه فمن قال إنه ليس في مكة والمدينة خانقاه فما هذه الخوانق في البلاد الرومية وغيرها ونهي عن الخانقاه والتردد إليه لجمعية الذكر وإصلاح الحال بالخلوة والرياضة فإنما قاله من جهله وحماقته ونهي عن ضلالته وشقاوته فهو ليس بآمر بالمعروف ولا ناه عن المنكر بل بالعكس كما لا يخفى ولقد كثر أمثال هذا المنكر الطاعن في هذا الزمان مع أنهم لا حجة لهم ولا برهان والله المستعان.
وقال القشيري : الآمرون والناهون هم الذين يدعون الخلق إلى الله تعالى ويحذرونهم عن غير الله يتواصون بالإقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله ثم إنه إنما تخللت الواو الجامعة بين الآمرون والناهون للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة لا يعتبر أحدهما بدون الآخر وعلى هذا فثامن الأوصاف هو قوله : {وَالْحَـافِظُونَ} وواوه واو الثمانية وقيل : الصفة الثامنة هي قوله : {وَالنَّاهُونَ} وواوه واو الثمانية وذلك أن العرب إذا ذكروا أسماء العدد سبيل التعداد يقولون : واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثم يدخلون الواو على الثمانية ويقولون وثمانية تسعة عشرة للإيذان بأن الأعداد قد تمت بالسابع من حيث إن السبعة هو العدد التام وأن الثامن ابتداء تعداد آخر.
قال القرطبي : هي لغة فصيحة لبعض العرب وعليها قوله : {ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا} (التحريم : 5) وقوله : {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الكهف : 22) وقوله : {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر : 73) لأن أبواب الجنة ثمانية وإليه ذهب الحريري في "درة الغواص" وغيره من العلماء.
وقال النسفي في تفسيره المسمى "بالتيسير" لا أصل لهذا القول عند المحققين فليس في هذا العدد ما يوجب ذلك والاستعمال على الاطراد كذلك قال الله تعالى : {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَـامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (الحشر : 23) بغير واو وقال تعالى : {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ} (القلم : 10) الآية بغير واو في الثامنة {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي : فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع عملاً وحملاً للناس عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
وقال القشيري : هم الواقفون حيث وقفهم الله الذين يتحركون إذا حركهم ويسكنون إذا سكنهم ويحفظون مع الله أنفاسهم.
ثم إنه لما كانت التكاليف الشرعية غير منحصرة فيما ذكر بل لها أصناف وأقسام كثيرة لا يمكن تفصيلها وتبينها إلا في مجلدات.
ذكر الله تعالى سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال بقوله : {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} والفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف واف وليس كذلك لأن الأفعال المكلفين قسمان أفعال الجوارح وأفعال القلوب وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح.
وأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فليس في كتبهم منها إلا قليل نادر وبعض مباحثها مدون في الكتب الكلامية والبعض الآخر منها فصله الإمام الغزالي وأمثاله في علم الأخلاق ومجموعها مندرج في قوله تعالى : {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (شيخ أحمد غزالي برادرش امام محمد غزالي كفت جمله علم ترابد وكله آورده ام التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله).
قال الحدادي : وهذه الصفة من أتم ما يكون من المبالغة في وصف العباد بطاعة الله والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره لأن الله تعالى بين حدوده في الأمر والنهي وفيما ندب إليه فرغب إليه أو خير فيه وبين ما هو الأولى في مجرى موافقة الله تعالى فإذا قام العبد بفرائض الله تعالى وانتهى إلى ما أراد الله منه كان من الحافظين لحدود الله كما روي عن خلف بن أيوب أنه أمر
520
امرأته أن تمسك عن إرضاع ولده في بعض الليل وقال قد تمت له السنتان فقيل له لو تركتها حتى ترضعه هذه الليلة قال فأين قوله تعالى : {وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني : هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل.
ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك وأن المؤمن الكامل كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام وأعلى ذلك رؤية الله تعالى في دار السلام.
واعلم أن كل عمل له جزاء مخصوص يناسبه كالصوم مثلاً جزاؤه الأكل والشرب كما قال تعالى : {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياـاَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة : 24) وقس على هذا باقي الأعمال واجتهد في تحصيل حسن الحال وفقنا الله وإياكم إلى أسباب مرضاته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 504
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
(3/393)
{مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله وحده أي ما صح لهم وما استقام في حكم الله تعالى وحكمته {أَن يَسْتَغْفِرُوا} أي : يطلبوا المغفرة {لِّلْمُشْرِكِينَ} به سبحانه.
{وَلَوْ كَانُوا} أي : المشركون {أُوْلِى قُرْبَى} أي : ذوي قرابة لهم {مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} أي : ظهر للنبي عليه السلام والمؤمنين {إِنَّهُمْ} أي : المشركين {أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ} أي : أهل النار بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم يموتون على ذلك.
روي أنه لما مرض أبو طالب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد مضي عشر سنين من بعثته عليه السلام وبلغ قريشاً اشتداد مرضه قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يسلبوا أمرنا وفي رواية إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء ، أي قتل محمد فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان فإنه أسلم ليلة الفتح فأرسلوا رجلاً فاستأذن لهم على أبي طالب فقال هؤلاء أشراف قومك يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت سيدنا وكبيرنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذله منا وخذلنا منه ليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه عليه السلام أبو طالب فجاء ولما دخل عليه السلام على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشي أبو جهل أن يجلس النبي عليه السلام في تلك الفرجة فيكون أرقى منه وثب لعنه الله فجلس فيها فلم يجد عليه السلام مجلساً قريباً إلى أبي طالب فجلس عند الباب فقال أبو طالب لرسول الله عليه السلام يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك أعطهم ما سألوك فقد أنصفوك سألوا أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك ، فقال عليه السلام : "أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم فهل تعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب ويدين لكم بها العجم"؟ أي يطيع ويخضع فقال أبو جهل نعطيكها وعشراً معها فما هي قال : "تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه" فصفقوا بأيديهم ثم قالوا سلنا يا محمد غير هذه الكلمة فقال : "لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها" ثم قال : بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون فامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا ، وعند ذلك قال عليه السلام : "أي عم فأنت فقلها أشهد لك
521
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
بها عند الله" فقال : والله يا ابن أخي لولا مخافة العار عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها خوفاً من الموت لقلتها فلما أبى عن كلمة التوحيد قال عليه السلام : "لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه" وذلك لغلبة همته على مغفرته لأنه كان يحفظه عليه السلام وينصره ولما مات نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب حتى أن بعض سفهاء قريش نثر على رأس النبي عليه السلام التراب فدخل بيته والتراب على رأسه فقام إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي ورسول الله يقول لها : "لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك" فبقي عليه السلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل عن أبويه أيهما أقرب به عهداً فقيل له أمك آمنة فقال : "هل تعلمون موضع قبرها لعلي آتيه فأستغفر لها فإن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبويه" فقال المسلمون : ونحن أيضاً نستغفر الله لآبائنا وأهلينا فانطلق رسول الله ، وذلك في سنة الفتح فانتهى إلى قبر أمه في الأبواء منزل بين مكة والمدين وذلك أنه عليه السلام ولد بعد أن توفي أبوه عبد الله ودفن بالمدينة لما أنه قد خرج إليها لحاجة فأدركه الموت هناك وكان عليه السلام مع أمه آمنة فلما بلغ ست سنين خرجت آمنة إلى أخوالها بالمدينة تزورهم ثم رجعت به إلى مكة فلما كانت بالأبواء توفيت هناك وقيل دفنت بالحجون ويمكن الجمع بينهما بأنها دفنت أولاً بالأبواء ثم نقلت من ذلك المحل إلى مكة كما في "السيرة الحلبية" فلما جلس عليه السلام عند قبر أمه ناجى طويلاً ثم بكى بكاء شديداً فبكينا لبكائه فقلنا يا رسول الله ما الذي أبكاك قال : "استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي فاستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل عليّ الآيتين" آية {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ} وآية {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ} قال بعضهم : لا مانع من تكرر سبب النزول فيجوز أن تنزل الآيتان لما استغفر لأمه ولما استغفر لعمه.
(3/394)
يقول الفقير سامحه القدير : فيه بعد لأنه إن سبق النزول لاستغفار أمه فكيف يبقى النبي عليه السلام على استغفار عمه وقد ثبت أن هذه السورة الكريمة من آخر القرآن نزولاً وكذا العكس ومن ادعى الفرق بين الاستغفارين فعليه البيان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ} بقوله {وَاغْفِرْ لابِى} (الشعراء : 86) أي : بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه ما يلوح به تعليله بقوله : {إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} (الشعراء : 86) {إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ} استثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره لأبيه آزر ناشئاً عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة.
{وَعَدَهَا} إبراهيم {إِيَّاهُ} أي : أباه بقوله : {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} (الممتحنة : 4) وقوله : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (مريم : 47) بناء على رجاء إيمانه لعدم تبين حقيقة أمره.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي : لإبراهيم بأن أوحي إليه أنه مصر على الكفر غير مؤمن أبداً وقيل بأن مات على الكفر والأول هو الأنسب بقوله {أَنَّه عَدُوٌّ} فإن وصفه بالعداوة مما يأباه حالة الموت.
{تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي : تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ} لكثير التأوه وهو أن يقول الرجل عند التضجر والتوجع آه من كذا أو يقول آوه بالمد والتشديد وفتح الواو وسكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية والأواه الخاشع المتضرع ، وقيل : إنه كلما ذكر تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً واستعظاماً كما قال كعب الأواه
522
هو الذي إذا ذكرت عنده النار قال : آه وقيل معناه الموقر بلغة الحبشة إلا أن من قال لا يجوز أن يكون في القرآن شيء غير عربي قال هذا موافق للعربية بلغة الحبشة والملائم أنه كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب لأنه ذكر في معرض التعليل لاستغفاره لأبيه المشرك.
والمعنى أنه مترحم متعطف ولفرط رحمته ورأفته كان يتعطف لأبيه الكافر.
{حَلِيمٌ} صبور على الأذية ولذلك كان يحلم على أبيه ويتحمل أذاه ويستغفر له مع صعوبة خلقه وغلظ قلبه وقوله : {لارْجُمَنَّكَ} ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما استغفر لعمه وهو مشرك كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك ثم نهي عن الاستغفار للكافر نزلت هذه الآية لبيان عذر من استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع عنه ، وهو قوله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا} أي : ليس من عادته أن يصفهم بالضلال عن طريق الحق ويجري عليهم أحكامه {بَعْدَ إِذْ هَدَاـاهُمْ} للإسلام {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم} بالوحي صريحاً أو دلالة.
{مَّا يَتَّقُونَ} أي : يجب اتقاؤه من محظورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدر عنهم ضلالاً ولا يؤاخذون به.
وفيه دليل على أن العاقل غير مكلف بما لا يستبد بمعرفته العقل.
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ} أي : إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل معرفته فبين لهم ذلك كما فعل ههنا.
{إِنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} من غير شريك له فيه.
قال جلال الدين الرومي قدس سره :
واحد اندر ملك واورا يا رنى
بندكانش را جز اوسالارنى
نيست خلقش را دكركس مالكى
شر كتش دعوى كند جزها لكى
{يُحْى وَيُمِيتُ} أي : يحيي الأموات ويميت الأحياء ، أي يوجد الحياة والموت في الأرض والأجساد وقلوب الأمم.
{وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أي : حال كونكم متجاوزين ولايته ونصرته.
{مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} لما منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمن ذلك التبري منهم رأساً بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه بشراشرهم ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.
بقى ههنا أن الجم الغفير من العلماء ذهبوا إلى أن النبي عليه السلام مر على عقبة الحجون في حجة الوداع فسأل الله أن يحيي أمه فأحياها فآمنت به وردها الله تعالى أي روحها.
قال في "إنسان العيون" : لا يقال على ثبوت هذا الخبر وصحته التي صرح بها غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا إلى من طعن فيه كيف ينفع الإيمان بعد الموت ولا يعترض لأنا نقول هذا من جملة خصوصياته صلى الله عليه وسلّم
وفي كلام القرطبي قد أحيا الله تعالى على يده جماعة من الموتى ، فإذا ثبت ذلك فما يمنع إيمان أبويه بعد إحيائهما ويكون زيادة في كرامته وفضيلته ولو لم يكن إحياء أبويه نافعاً لإيمانهما وتصديقهما لما أحييا ، كما أن رد الشمس لو لم يكن نافعاً في بقاء الوقت لم ترد والله أعلم انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
(3/395)
يقول الفقير : قد أشبعنا الكلام في إيمان أبوي النبي عليه السلام ، وكذا إيمان عمه أبي طالب وجده عبد المطلب بعد الإحياء في سورة البقرة عند قوله تعالى : {وَلا تُسْـاَلُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ} (البقرة : 119) فارجع إليه.
وجاء أن عبد المطلب رفض في آخر عمره عبادة الأصنام ووحد الله وتؤثر عنه سنين جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع
523
من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والزنى وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط ابن الجوزي.
وقال في "أبكار الأفكار في مشكل الأخبار" : إن عبد المطلب قد كان يتعبد في كثير من أحواله بشريعة إبراهيم عليه السلام ويتمسك بسنن إسماعيل عليه السلام ولم ينكر نبوة محمد عليه السلام إذ لم يكن قد بعث في أيامه ولا يقطع بكفر من مات في زمن الفترة فلم يكن حكمه حكم الكفار المشركين الذي شهد النبي عليه السلام بأنهم فحم في جهنم انتهى.
قال في "السيرة الحلبية" : منع الاستغفار لأمه عليه السلام إنما يأتي على القول بأن من بدل دينه أو غيره أو عبد الأصنام من أهل الفترة معذب وهو قول ضعيف مبني على وجوب الإيمان والتوحيد بالعقل.
والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أن لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل ومن المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه السلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته كبقية الرسل لأن ثبوت الرسالة بعد الموت من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلّم وأن أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليهم وإن غيروا أو بدلوا أو عبدوا الأصنام والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر أو من بدل أو غير أو عبد الأصنام مؤولة أو خرجت مخرج الزجر للحمل على الإسلام.
ثم رأيت بعضهم رجح أن التكليف بوجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده أي بعد عبادة الأصنام يكفي فيه وجود رسول دعا إلى ذلك وإن لم يكن الرسول مرسلاً لذلك الشخص بأن لم يدرك زمنه حيث بلغه أنه دعا إلى ذلك أو أمكنه علم ذلك وأن التكليف بغير ذلك من الفروع لا بد فيه من أن يكون ذلك الرسول مرسلاً لذلك الشخص وقد بلغته دعوته وعلى هذا فمن لم يدرك زمن نبينا صلى الله عليه وسلّم ولا زمن من قبله من الرسل معذب على الإشراك بالله بعبادته الأصنام لأنه على فرض أن لا تبلغه دعوة أحد من الرسل السابقين إلى الإيمان بالله وتوحيده ولكنه كان متمكناً من علم ذلك فهو تعذيب بعد بعث الرسل لا قبله وحينئذٍ لا يشكل ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "ما بعث الله نبياً إلى قوم ، ثم قبضه إلا جعل بعده فترة يملأ من تلك الفترة جهنم" ولعل المراد المبالغة في الكثرة وإلا فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيرتد بعضها إلى بعض وتقول قط قط" أي : حسبي بعزتك وكرمك وأما بالنسبة لغير الإيمان والتوحيد من الفروع فلا تعذيب على تلك الفروع لعدم بعثة رسول إليهم فأهل الفترة وإن كانوا مقرين بالله إلا أنهم أشركوا بعبادة الأصنام ، فقد حكى الله عنهم :
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر : 3) ووجه التفرقة بين الإيمان والتوحيد وغير ذلك أن الشرائع بالنسبة للإيمان بالله والتوحيد كالشريعة الواحدة لاتفاق جميع الشرائع عليه هذا وقد جاء أنهم أي أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة فقد أخرج البزاز عن ثوبان أن النبي عليه السلام قال : "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولاً ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم أرأيتم إن أمرتكم بأمر أن تطيعوني فيقولون نعم فيأخذ
524
على ذلك مواثيقهم فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول ادخلوها داخرين" فقال النبي عليه السلام : "لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً" قال الحافظ ابن حجر : فالظن بآله صلى الله عليه وسلّم يعني : الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان إكراماً للنبي عليه السلام لتقر عينه ونرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة في جماعة من يدخلها طائعاً إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن به بعد أن طلب منه الإيمان انتهى كلامه ولعله لم يذهب إلى مسألة الإحياء ولذا قال ما قال في حق أبي طالب :
نا اميدم مكن از سابقه لطف أزل
توه دانى كه س رده كه خوبست وكه زشت
(3/396)
{لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو العفو عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه وهذا الأذن وإن صدر عنه عليه السلام وحده إلا أنه أسند إلى الكل لأن فعل البعض يسند إلى الكل لوقوعه فيما بينهم كما يقال بنو فلان قتلوا زيداً وهذا الذنب من قبيل الزلة لأن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر عندنا لأن ركوب الذنوب مما يسقط حشمة من يرتكبها وتعظيمه من قلوب المؤمنين والأنبياء يجب أن يكونوا مهابين موقرين ، ولذا عصموا من الأمراض المنفرة كالجذام وغيره فليس معنى الزلة أنهم زلوا عن الحق إلى الباطل ولكن معناها أنهم زلوا عن الأفضل إلى الفاضل وأنهم يعاتبون به لجلال قدرهم ومكانتهم من الله تعالى كما قال أبو سعيد الخراز قدس سره : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقال السلمي : ذكر توبة النبي عليه السلام لتكون مقدمة لتوبة الأمة وتوبة التابع إنما تقبل التصحيح بالمقدمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
وقال في "التأويلات النجمية" : التوبة فضل من الله ورحمة مخصوصة به لينعم بذلك على عباده فكل نعمة وفضل يوصله الله إلى عباده يكون عبوره على ولاية النبوة فمنها يفيض على المهاجرين والأنصار وجميع الأمة ، فلهذا قال : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} {وَالْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ} يدل عليه قوله عليه السلام : "ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر رضي الله عنه" والأنصار جمع نصير كشريف وأشراف أو جمع ناصر كصاحب وأصحاب وهم عبارة عن الصحابة الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أهل المدينة ، وهو اسم إسلامي سمى الله تعالى به الأوس والخزرج ولم يكونوا يدعون بالأنصار قبل نصرتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا قبل نزول القرآن بذلك وحبهم واجب وهو علامة الإيمان ، وفي الحديث : "آية المؤمن حب الأنصار ، وحب الأنصار آية الإيمان ، وآية النفاق بغض الأنصار" كذا في "فتح القريب" والمهاجرون أفضل من الأنصار ، كما يدل عليه قوله عليه السلام : "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" قال ابن الملك المراد منه إكرام الأنصار فإنه لا رتبة بعد الهجرة أعلى من نصرة الدين انتهى.
وباقي الكلام سبق عند قوله تعالى : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ} (التوبة : 100) الآية فارجع إلى تفسيرها {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي : النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يتخلفوا عنه ولم يخلوا بأمر من أوامره.
{فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي : وهو الزمان الذي وقع فيه غزوة
525
تبوك فإنه قد أصابتهم فيها مشقة عظيمة من شدة الحر وقلة المركب حتى كانت العشرة تعتقب على بعير واحد ومن قلة الزاد ، حتى قيل أن الرجلين كانا يقتسمان تمرة وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء المتغير ومن قلة الماء حتى شربوا الفظ ، وهو ماء الكرش ، عن عمر رضي الله عنه خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه.
قال الكاشفي : (وبرطوبات أجواف وامعاى آن دهن خويش راتر ميساختند) ولذلك سميت غزوة العسرة وسمي من جاهد فيها بجيش العسرة وهذه صفة مدح لأصحاب النبي عليه السلام باتباعهم إياه في وقت الشدة ومع ذلك فقد كانوا محتاجين إلى التوبة فما ظنك بغيرهم ممن لم يقاس ما قاسوه {مِنا بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} أي : يميل قلوب طائفة منهم عن الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن هموا أن ينصرفوا في غير وقت الانصراف من غير أن يؤذن لهم في ذلك لشدائد أصابتهم في تلك الغزوة لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما ظهر على قلوبهم فتاب الله عليهم وفي كاد ضمير الشأن وجملة يزيغ في محل النصب على أنها خبر كاد وخبر كاد إذا كان جملة لا بد أن يكون فيه ضمير يعود على اسمها إلا إذا كان اسمها ضمير الشان فحينئذٍ لا يجب أن يكون فيه ضمير يعود إلى اسمها.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي : تجاوز عن ذنبهم الذي فرط منهم وهو تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب
براحتى نرسيد آنكه زحمتى نكشيد
(3/397)
{إِنَّهُ} أي : الله تعالى {بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} استئناف تعليل فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو ويجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر ، والثاني عن إيصال المنفعة وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق ومن كمال رحمته إرسال حبيبه وإظهار معجزاته.
روي أنهم شكوا للنبي عليه السلام عسرة الماء في غزوة تبوك فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إن الله تعالى عودك في الدعاء خيراً فادع الله لنا قال : "أتحب ذلك" قال نعم فرفع عليه السلام يديه فلم يرجعهما حتى أرسل الله سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا ما يحتاجون إليه وتلك السحابة لم تتجاوز العسكر.
وروي أنهم نزلوا يوماً في غزوة تبوك على غير ماء بفلاة من الأرض وقد كادت عتاق الخيل والركاب تقع عطشاً فدعا عليه السلام وقال : "أين صاحب الميضاة" قيل : هو ذا يا رسول الله قال : "جئني بميضاتك" فجاء بها وفيها شيء من ماء فوضع أصابعه الشريفة عليها فنبع الماء بين أصابعه العشر وأقبل الناس واستقوا وفاض الماء حتى رووا ووروا خيلهم وركابهم وكان في العسكر من الخيل اثنا عشر ألف فرس ومن الإبل خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً وفي رواية سبعون.
قال السلطان سليم الأول : من الخواقين العثمانية :
كوثر نمى زشمه احسان رحمتش
آب حيات قطره ازام مصطفاست
روى أنهم لما أصابهم في غزوة تبوك مجاعة قالوا يا رسول الله لو أذنت لنا نحرنا نواضحنا وادّهنا فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله إن فعلت فني الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم
526
وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعلها في ذلك فقال عليه السلام : "نعم" فدعا بنطع فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يأتي بكف من ذرة ويجيء الآخر بكف من تمر ويجيء الآخر بميرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا عليه السلام بالبركة ثم قال : "خذوا في أوعيتكم" فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال صلى الله عليه وسلّم "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك إلا وقاه الله النار".
قال الشيخ المغربي قدس سره :
كل توحيد نرويد ززمينى كه درو
خار شرك وحدو كبر ورياو كين است
والإشارة في الآية : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ} أي : نبي الروح بمنزلة النبي يأخذ بإلهام الحق حقائق الدين ويبلغها إلى أمته من القلب والنفس والجوارح والأعضاء.
فالمعنى أفاض الله على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة الروحانية إلى المدينة الجسدانية والأنصار من القلب والنفس وصفاتها وهم ساكنو مدينة الجسد فيوضات الرحمة.
{الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الروح ساعة رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة إذ هم نشؤوا في عالم السفل يعسر عليهم السير إلى عالم العلو من بعد ما كاد يزيغ القلوب فريق من النفس وصفاتها وهواها فإن ميلها طبعاً إلى عالم السفل ثم تاب عليهم بإفاضة الفيض الرباني لتعليهم عن طبعهم إنه بهم رؤوف رحيم ليجعلهم بإكسير الشريعة قابلين للرجوع إلى عالم الحقيقة كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي : وتاب الله على الثلاثة الذين أخر أمرهم ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحي وهم كعب بن مالك الشاعر ومرادة بن الربيع العنبري وهلال بن أمية الأنصاري يجمعهم حروف كلمة "مكة" وآخر أسماء آبائهم "عكة".
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ} غاية للتخفيف أي : أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض.
{بِمَا رَحُبَتْ} أي : برحبها وسعتها لأعراض الناس حتى عن المكالمة معهم ولو بالسلام ورده وكانوا يخافون أن يموتوا فلا يصلي النبي عليه السلام ولا المؤمنون على جنازتهم وهو مثل لشدة الحيرة كأنه لا يستقر به قرار ولا تطمئن له دار {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي : امتلأت قلوبهم بفرط الوحشة والغم بحيث لم يبق فيها ما يسع شيئاً من الراحة والأنس والسرور عبر عن الراحة والسرور بضمير عليهم حيث قيل : ضاقت عليهم تنبيهاً على أن انتفاء الراحة والسرور بمنزلة انتفاء ذواتهم.
{وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} أي : علموا وأيقنوا أن لا ملاذ ولا خلاص من سخطه تعالى إلا إلى استغفاره فظنوا بمعنى علموا لأنه تعالى ذكر هذا الوصف في معرض المدح والثناء وذا لا يكون إلا مع علمهم بذلك.
وقوله أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر ولا مع ما في حيزها خبران ومن الله خبر لا وإن مع ما في حيزها ساد مسد مفعولي ظنوا وإلا استثناء من العام المحذوف أي وعلموا أن الشان لا التجاء من سخط الله إلى أحد إلا إليه.
قال بعض المتقدمين من تظاهرت عليه النعم فليكثر الحمدومن كثرت همومه فليكثر الاستغفار.
(3/398)
واعلم أن من توغل في بحر التوحيد بحيث لا يرى في الوجود إلا الله لم يلتجىء إلا إلى الله فالفرار ليس إلا إليه على كل حال وأما المظاهر أو المحال فليست إلا أسباباً.
وفي "المثنوي" :
527
كره سايه عكس شخص است اي سر
هي از سايه نتانى خوردبر
هين زسايه شخص را مى كن طلب
درمسبب روكذر كن از سبب
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي : وفقهم للتوبة {لِيَتُوبُوا} ليرجعوا عن المعصية.
واعلم أن ههنا أمور ثلاثة : التوفيق للتوبة ، وهو ما دل عليه قوله ثم {تَّابَ} ، ونفس التوبة وهو ما دل عليه قوله : {لِيَتُوبُوا} ، وقبول الله تعالى إياها وهو ما دل عليه قوله : {وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ} وإنما عطف الأمر الأول على الثالث بكلمة ثم لكونه أصل الجميع مقدماً على الأمر الثالث بمرتبتين فتكون كلمة ثم للتراخي الرتبي ويجوز أن يكون المعنى ثم تاب عليهم أي أنزل قبول توبتهم ليتوبوا أي ليصيروا من جملة التوابين ويعدوا منهم فتكون كلمة ثم على أصل معناها لأن إنزال القبول متفرع على نفس القبول المذكور بقوله وعلى الثلاثة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي : البالغ في قبول التوبة لمن تاب وإن عاد في اليوم مائة مرة المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
كر لطف تويارى ننمايد زنخست
هم توبه شكسته است وهم يمان سست
ون توبه باميد ذيرفتن تست
تا تو نذ يرى نشود توبه درست
روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به عليه السلام.
عن الحسن أنه قال بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال يا حائطاه ما خلفني إلا ظلك وانتظار ثمارك اذهب فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخر إلا أهله فقال : يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلا الضن بك فلا جرم والله إني لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فركب ولحق ولم يكن لآخر إلا نفسه لا أهل ولا مال فقال يا نفسي ما خلفني إلا حب الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فتأبط زاده ولحق به عليه السلام.
وعن أبي ذر الغفاري أبعيره أبطأه فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماشياً.
راه نزديك وبما ندم سخت دير
سير كشتم زين سوارى سير سير
فقال صلى الله عليه وسلّم لما رأى سواده : "كن أبا ذر" فقال الناس هو ذاك فقال عليه السلام : "رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده" ومنهم من بقي ولم يلحق به عليه السلام وهم الثلاثة وكان كعب شهد بيعة العقبة وهلال ومرارة شهدا بدراً قال كعب لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جئته وسلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال : "يا ليت شعري ما خلف كعباً" فقيل له ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه قال : "ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً" وقال : "وما خلفك عني ألم تكن قد ابتعت ظهرك" فقلت ما خلفني عنك عذر وإنما تخلفت بمجرد الكسل وقلة الاهتمام فقال عليه السلام : "قم عني حتى يقضي الله فيك" وكذا قال لصاحبيه ونهى عن كلامهم فاجتنبهم الناس ولم يكلمهم أحد من قريب ولا بعيد فأما الرجلان فمكثا في بيوتهما يبكيان وأما كعب فكان يحضر الصلاة مع المسلمين ويطوف في الأسواق فلا يكلمه أحد منهم قال كعب وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشأم ممن قدم
528
بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلني على كعب بن مالك فطفق أي جعل الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان إليّ وهو الحارث بن أبي شمر وكان الكتاب ملفوفاً في قطعة من الحرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا بضيعة ذل فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأته وهذا أيضاً من البلاء فتيممت أي قصدت به التنور فسجرته به أي ألقيته فيه والأنباط قوم يسكنون البطائح بين العراقين قال حتى إذا مضت أربعون ليلة جاءني رسول من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا قال : لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي وهما هلال ومرارة بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت : يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه فقال عليه السلام : "لا ولكن لا يقربك" وقالت والله إنه ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فمضى بعد ذلك عشر ليالي حتى كملت خمسون ليلة من حين النهي عن الكلام قال كعب فلما كان صلاة الفجر صبح تلك الليلة سمعت صوتاً من ذروة جبل سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر :
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
أبشروا يا قوم إذ جاء الفرج
افرحوا يا قوم قد زال الحرج
(3/399)
مى دمد دركوش هر غمكين بشير
خيز اي مدبر ره اقبال كير
اي درين حبس ودرين كند وشش
هين كه تاكس نشود رسنى خمش
ون كنى خامش كنون اي يا رمن
كزبن هرمو بر آمد طبل زن
فخررت ساجداً وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعلم بتوبة الله علينا فلما جاءني الرجل الذي سمعت صوته يبشرني وهو حمزة بن عمرو الأوسي نزعت ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذٍ.
بعيد نيست كه صد جان بمده بستانند
برين بشارت دولت كه عن قريب آمد
واستعرت من ابن عمي أبي قتادة ثوبين فلبستهما.
وكان المبشر لهلال بن أمية أسعد بن سعد.
ولمرارة بن ربيع سلكان بن سلامة قال كعب أنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلّم عند أم سلمة رضي الله عنها وكانت أم سلمة محسنة في شأني معينة في أمري فقال عليه السلام : "يا أم سلمة تيب على كعب" قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره : "قال إذاً يحطم الناس فيمنعوكم النوم سائر الليلة" حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الفجر أعلم بتوبة الله علينا قال : فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة يقولون ليهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس وحوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة وذلك لأنه عليه السلام كان آخى بينهما حين قدم المدينة قال فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه
529
وسلّم وهو يبرق وجهه من السرور وكان عليه السلام إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر.
قال السلطان سليم الأول من السلاطين العثمانية :
كر آكهى زمعنى والشمس والضحى
تعريف ماه روى دلاراى مصطفاست
بنكر برخ وكوكبه لشكر نجوم
كأنها فروغ كوهر والاى مصطفاست
فلما جلست بين يديه صلى الله عليه وسلّم قال : "أبشر يا كعب بخير يوم ما مر عليك منذ ولدتك أمك" ثم تلا علينا الآية وهي : {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ} إلى قوله : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} فقلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال : "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
توبه كردم حقيقت باخدا
نشكنم نا جان شدن ازتن جدا
واعلم أن في قصة هؤلاء الثلاثة إشارة إلى أن الهجران بين المسلمين إذا كان فيه صلاح لدين المهجور لا يحرم هجره حتى يزول ذلك وتظهر توبته وكذا إذا كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما فإنه لا يحرم الهجران إلى ظهور التوبة لأنه لحق الله لما كان في جانب الدين فيجوز فوق ثلاثة أيام ولا يجوز الزيادة عن الثلاثة فيما كان بينهم من الأمور الدنيوية وحظوظ النفس وإنما عفي عنه في الثلاثة لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفي عن الهجر في الثلاثة ليذهب ذلك العارض.
فعلى العاقل أن يسارع إلى تحصيل الأخوة في الله ويجتنب عن التحاسد والتباغض والتدابير.
هي رحمى نه برادر ببرادر دارد
هي شوقي نه درررا بسرمى بينم
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} قولاً وتصديقاً {اتَّقُوا اللَّهَ} فيما لا يرضاه {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} في كل شأن من الشؤون أي قائلين بالحق العالمين به ومع الصادقين في معنى من الصادقين أو في الصادقين لأن مع للمصاحبة وفي للوعاء ومن للتبعيض فإذا كانوا في جهتهم فهم على المعاني الثلاثة أي كونوا في جملة الصادقين ومصاحبين لهم أو لبعضهم.
وفي الآية دليل على فضل الصدق وعلو درجته وحث عليه.
قال بعض أهل المعرفة : من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض الموقت قيل : ما الفرض الدائم قال الصدق.
از كجا افتى بكم وكاستى
از همه غم رستى اكر راستى
راستىء خويشن نهان كس نكرد
برسخن راست زيان كست نكرد
وفي الحديث : "التجار يحشرون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى وبرّ وصدق" الفجار جمع فاجر وهو المنبعث في المغاني والمحارم سماهم فجاراً لما في البيع والشراء من الأيمان الكاذبة والغبن والتدليس والربا الذي لا يتحاشاه أحدهم ولذا قال في تمام الحديث إلا من اتقى أي الكذب وبرّ في يمينه أي صدق وصدق في حديثه.
وقيل : إلا من خاف الله فلا يترك أوامره ولا يفعل المناهي وبرّ أي أحسن فلا يؤذي أحداً ولا يوصل ضرراً إلى أحد وصدق في ثمن المتاع
530
(3/400)
فلم ينفق سلعته بالحلف الكاذب مثل أن يقول للمشتري اشتريت هذا بمائة درهم والله ولم يشتره بها بل أقل منها وبالحلف الكاذب يمحق الله البركة من الثمن ، وفي الحديث : "إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا" فالصدق في كل الأحوال ممدوح وصاحبه محمود في الدنيا والآخرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
دانى زه رو سرور و آن سر سبزست
يوسته را بوستان سر سبرست
ون مذهب اوست راستى درهمه وقت
بر طرف من هميشه زان سر سبزست
ثم المطل العارفين في الصدق في العبودية والقيام بحقوق الربوبية.
قال أحمد بن الحواري : قلت لأبي سليمان الداراني قدس سرهما إني قد غبطت بني إسرائيل قال بأي شيء قلت بثمانمائة سنة من العمر حتى يصيروا كالشنان البالية وكالحنايا وكالأوتار قال : ما ظننت إلا وقد جئت بشيء والله ما يريد منا أن تيبس جلودنا على عظامنا ولا يريد منا إلا صدق النية فيما عنده هذا إذا صدق في عشرة أيام نال ما ناله ذاك في عمره الطويل انتهى فرب عمر اتسعت آماده وقلت : أمداده كأعمار بني إسرائيل إذا كان الواحد منهم يعيش ألفاً ونحوها ولم يتحصل له شيء مما تحصل لهذه الأمة مع كثرة أعمارها ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده كعمر من فتح عليه من هذه الأمة فوصل إلى عناية الله بلمحه ، كما قال الإمام الغزالي قدس سره في "منهاج العابدين" : منهم من يقطع هذه العقبات في سبعين سنة ومنهم من يقطعها في عشرين سنة ومنهم من يقطعها في عشر سنين ومنهم من تحصل له في سنة ومنهم من يقطعها في شهر بل في جمعة بل في ساعة كسحرة موسى حكي أن رابعة البصرية كانت أمة كبيرة يطاف بها في سوق البصرة لا يرغب فيها أحد لكبر سنها فرحمها بعض التجار فاشتراها بنحو مائة درهم فأعتقها فاختارت هذا الطريق فأقبلت على العبادة فما تمت لها سنة حتى زارها علماء البصرة وقراؤها لعظم منزلتها.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} الذين صدقوا يوم الميثاق فيما أجابوا الله عند خطاب ألست بربكم قالوا بلى وصدقوا الله على ما عاهدوه عليه أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئاً من مقاصد الدنيا والآخرة ويتجردوا عن كل حادث حتى عن الجسم.
وفي "المثنوي" :
جوهر صدقت خفى شد درع دروغ
همو طعم روغن اندر طعم دوغ
آن دروغت اين تن فانى بود
راستت آن جان رباني بود
يقول الفقير أصلحه الله القدير : كتب إليّ حضرة الشيخ قدس سره في بعض مكاتيبه الشريفة وقال عليكم بالصدق مطلقاً نية وعملاً وهو يرجع إلى الإخلاص جداً بأن لا يكون للعبد أصلاً باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل الصدق ويجوز أن يسمى كاذباً ودرجاته لا نهاية لها وقد يكون لعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقاً في الجميع فهو الصديق حقاً والصادق والمخلص بالكسر من باب واحد وهو التخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق والمخلص بالفتح من
531
واحد وهو التخلص أيضاً من شوائب الغيرية والثاني أوسع فلكاً وأكثر إحاطة فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس ثم ذيل كلاماً طويلاً يتضمن تأويل سورة الانشراح رزقنا الله ذوق كلامه وألحقنا به في مقامه.
ثم الصادقون المرشدون إلى طريق الوصول فإذا كان السالك في جملة أحبابهم ومن زمرة الخدام في عتبة بابهم فقد بلغ بمحبتهم وتربيتهم وقوة ولايتهم إلى مراتب في السير إلى الله وترك ما سواه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأظهر : إن لم تجر أفعالك على مراد غيرك لم يصح لك انتقال عن هواك ولو جاهدت نفسك عمرك فإذا وجدت من يحصل في نفسك حرمته فاخدمه وكن ميتاً بين يديه يصرفك كيف يشاء لا تدبير لك في نفسك معه تعش سعيداً مبادراً لامتثال ما يأمرك به وينهاك عنه فإن أمرك بالحرفة فاحترف عن أمره لا عن هواك وإن أمرك بالقعود قعدت عن أمره لا عن هواك فهو أعرف بمصالحك منك فاسع يا بنيّ في طلب شيخ يرشدك ويعصم خواطرك حتى تكمل ذاتك بالوجود الإلهي وحينئذٍ تدبر نفسك بالوجود الكشفي الاعتصامي كذا في "مواضع النجوم".
وفي "المثنوي" :
ون كزيدى ير نازك دل مباش
سست ورزيده و آب وكل مباشون كرفتى يرهن تسليم شو
همو موسى زير حكم خضررو
شيخ راكه يشوا ورهبرست
كرمديدى امتحان كرد او خرست نسأل الله تعالى أن يحفظنا من زيغ الاعتقاد ويثبتنا في طريق أهل الرشاد.
{مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ} أي : ما صح وما استقام لهم والمدينة علم بالغلبة لدار الهجرة كالنجم للثريا إذا أطلقت فهي المرادة وإن أريد غيرها قيد والنسبة إليها مدني ولغيرها من المدن مديني للفرق بينهما كما في "إنسان العيون".
قال الإمام النووي : لا يعرف في البلاد أكثر أسماء منها ومن مكة.
(3/401)
وفي كلام بعضهم : لها نحو مائة اسم منها دار الأخبار ودار الأبرار ودار السنة ودار السلامة ودار الفتح والبارة وطابة وطيبة لطيب العيش بها ولأن لعطر الطيب بها رائحة لا توجد في غيرها وترابها شفاء من الجذام ومن البرص بل ومن كل داء وعجوتها شفاء من السم وقد خص الله تعالى مكة والمدينة بأنهما لا يخلوان من أهل العلم والفضل والدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وهي أي المدينة تخرب قبل يوم القيامة بأربعين عاماً ويموت أهلها من الجوع.
{وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الاعْرَابِ} (باديه نشينان) كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأضرابهم.
قال الكاشفي : (وتخصيص أهالي مدينة وحوالي بجهت قرب بوده ومعرفت ايشان بخروج آن حضرت عليه السلام بطرف تبوك).
{أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} عند توجهه إلى الغزو وإذا استنفرهم واستنهضهم كما في "حواشي ابن الشيخ" وهذا نهي ورد بلفظ النفي للتأكيد {وَلا} أن {يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} الباء للتعدية فقولك رغبت عنه معناه أعرضت عنه فعدي بالباء فإذا قلت رغبت بنفسي عنه كأنك قلت جعلت نفسي راغبة عنه.
فالمعنى اللغوي في الآية ولا يجعلوا أنفسهم راغبة ومعرضة عن نفسه عليه السلام وحاصل المعنى لا يصرفوا أنفسهم عن نفسه الكريمة أي عما ألقى فيه نفسه من شدائد الغزو
532
وأهوالها ولا يصونوها عما لا يصون عنه نفسه بل يكابدوا معه ما يكابده فإنه لا ينبغي أن يختاروا لأنفسهم الخفض والدعة ورغد العيش ورسول الله في الحر والمشقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال الحدادي : لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم آثر وأشفق عن نفس محمد صلى الله عليه وسلّم بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبي عليه السلام لما وجب له من الحقوق عليهم بدعائه لهم إلى الإيمان حتى اهتدوا به ونجو من النار.
{ذَالِكَ} أي : وجوب المتابعة فإن النهي عن التخلف أمر بضده الذي هو الأمر بالمتابعة والمشايعة.
{بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب أنهم إذا كانوا معه عليه السلام {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي : عطش يسير {وَلا نَصَبٌ} ولا تعب ما في أبدانهم {وَلا مَخْمَصَةٌ} أي : مجاعة ما {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وإعلاء كلمته {وَلا يَطَـاُونَ} ولا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم {مَوْطِئًا} دوساً فهو مصدر كالموعد أو مكاناً على أن يكون مفعولاً {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} (بخشم آرد كافرانرا) أي لا يبلغون موضعاً من أراضي الكفار من سهل أو جبل يغيظ قلوبهم مجاوزة ذلك الموضع فإن الإنسان يغيظه أن يطأ أرضه غيره والغيظ انقباض الطبع برؤية ما يسوءه والغضب قوة طلب الانتقام.
{وَلا يَنَالُونَ} (ونيابند) فإن النيل بالفارسية (يافتن) {مِنْ عَدُوٍّ} من قبلهم {نَّيْلا} بمعنى الميل على أن يكون مفعولاً به ، أي أي آفة محنة كالقتل والأسر والهزيمة والخوف {إِلا كُتِبَ لَهُم بِهِ} أي : بكل واحد من الأمور المعدودة.
قوله إلا كتب في محل النصب على أنه حال من ظمأ وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا وكذا في حال من الأحوال إلا في حال كونه مكتوباً لهم بذلك.
{عَمَلٌ صَـالِحٌ} وحسنة مقبولة ، أي : استوجبوا به الثواب الجزيل.
وقال الكاشفي : يعني (بهريك ازينها كه بديها رسد مستحق ثواب شوند ابن عباس كويد بهر ترسى كه از دشمن بدل ايشان رسد هفتاد درجه مى نويسند) هذا ما يدل عليه عامة التفاسير.
وقال ابن الشيخ في "حواشيه" : يقال نال منه إذا أزراه ونقصه وصرح بنيل شيء مما يتأذى الكفار من نيله وهذا المعنى غير المعنى الأول كما لا يخفى {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم وهو تعليل لكتب وتنبيه على أن الجهاد إحسان أما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
سفيها نرا بود تأديب نافع
جنونرا شربت وبست دافع
وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم من سطوة الكفار واستيلائهم.
{وَلا يُنفِقُونَ} في الجهاد {نَفَقَةً صَغِيرَةً} (نفقه اندك) ولو تمرة أو علافة سوط أو نعل فرس {وَلا كَبِيرَةً} (ونه نفقه بزرك) مثل ما أنفق عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في جيش العسرة وقد سبق عند قوله تعالى : {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} (التوبة : 79) الآية في هذه السورة {وَلا يَقْطَعُونَ} أي : لا يتجازون في مسيرهم إلى أرض الكفار مقبلين ومدبرين {وَادِيًا} من الأودية وهو في الأصل كل منفرج من الجبال والآكام ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي يدي إذا سال ثم شاع في الأرض على الإطلاق.
{إِلا كُتِبَ لَهُم} أي : أثبت لهم في صحائفهم ذلك الذي فعلوه من الإنفاق والقطع {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} بذلك متعلق بكتب.
{أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
533
(3/402)
مفعول ثاننٍ ليجزيهم وما مصدرية أي ليجزيهم جزاء أحسن أعمالهم بحذف المضاف فإن نفس العمل لا يكون جزاء (درينا بيع فرموده كه اكر مثلا غازى را هزار طاعت باشدويكى ازهمه نيكوتر بود حق سبحانه وتعالى آنرا ثوابي عظيم دهد ونهصد ونودونه ديكررا بطفيل آن قبول كند وهريك را برابر آن ثوابى ازرانى دارد تاكرم او بنسبت مجاهدان برهمه كس ظاهر كردد) ففي الجهاد فضائل لا توجد في غيره وهو حرفة النبي عليه السلام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال مرّ رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشعب فيه عيينة من ماء عذب فأعجبته فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فذكر ذلك لرسول الله فقال : "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته سبعين عاماً ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقةٍ وجبت له الجنة" قوله فواق ناقة وهو ما بين رفع يدك عن ضرعها وقت الحلبة ووضعها وقيل هو ما بين الحلبتين.
وفي الحديث دلالة على أن الجهاد والتصدي له أفضل من العزلة للعبادة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
وقال في "فتح القريب" : يا هذا ليت شعري من يقوم مقام هذا الصحابي في عزلته وعبادته وطيب مطعمه ومع هذا قال النبي عليه السلام : "لا تفعل" وأرشده إلى الجهاد فكيف لواحد منا أن يتركه مع أعمال لا يوثق بها مع قلتها وخطايا لا ينجى معها لكثرتها وجوارح لا تزال مطلقة فيما منعت منه ونفوس جامحة إلا عما نهيت عنه ونيات لا يتحقق إخلاصها وتبعات لا يرجى بغير العناية خلاصها.
قال الحافظ :
كارى كنيم ورنه حجالت بر آورد
روزيكه رخت جان بجهان دكر كشيم
واعلم أن المتخلف بعذر إذا كانت نيته خالصة يشارك المجاهد في الأجر والثواب كما روي أنه عليه السلام لما رجع من غزوة تبوك قال : "إن أقواماً خلفناهم بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر" يعني يشاركوننا في استحقاق الثواب لكونهم معنا نية وإنما تخلفوا عنا للعذر ولولاه لكانوا معنا ذواتاً.
قال ابن الملك : ولا يظن منه التساوي في الثواب لأن الله قال : {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ عَلَى الْقَـاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 95) انتهى.
يقول الفقير أصلحه الله القدير هذه الآية مطلقة ساكتة عن بيان العذر وعدمه وقد قيدها الحديث المذكور ولا بعد في أن يشترك المجاهد والمتخلف لعذر في الثواب بل تأثير الهمة أشد ورب نية خير من عمل ولهذا شواهد لا تخفى على أولي الألباب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
والإشارة {مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ} مدينة القلب وأهلها النفس والهوى {وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الاعْرَابِ} أعراب الصفات النفسانية والقلبية {أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} عن رسول الروح إذ هو راجع إلى الله وسائر إليه {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي : عن بذل وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله
534
{ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} من ماء الشهوات {وَلا نَصَبٌ} من أنواع المجاهدات {وَلا مَخْمَصَةٌ} بتر اللذات وحطام الدنيا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طلب الله {وَلا يَطَـاُونَ مَوْطِئًا} مقاماً من مقامات الفناء.
{يَغِيظُ الْكُفَّارَ} كفار النفس والهوى {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ} عدو الشيطان والدنيا والنفس.
{نَّيْلا} أي : بلاء ومحنة وفقراً وفاقة وجهداً وهماً وحزناً وغير ذلك من أسباب الفناء.
{إِلا كُتِبَ لَهُم بِه عَمَلٌ صَـالِحٌ} من البقاء بالله بقدر الفناء في الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الفانين في الله فيبقيهم بالله ليعبدوه على المشاهدة لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
{وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً} من بذل الوجود {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} الصغيرة بذل وجود الصفات والكبيرة بذل وجود الذات في صفات الله تعالى وذاته {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح.
{إِلا كُتِبَ لَهُم} بقطع كل واحد من هذه الأودية قربة ومنزلة ودرجة كما قال : "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} بالبقاء والفناء عن أنفسهم {أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : أحسن مقام كانوا يعملون العبودية في طلبه لأن طلبهم على قدر معرفتهم ومطمح نظرهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق عقولهم وفهومهم كما قال : "أعدت لعبادي الصالحين" الحديث كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
(3/403)
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً} اللام لتأكيد النفي أي ما صح وما استقام لهم أن ينفروا أي يخرجوا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإن ذلك مخل بأمر المعاش {فَلَوْلا نَفَرَ} (س را بيرون نرود) فلولا تحضيضية مثل هلا وحرف التحضيض إذا دخل على الماضي يفيد التوبيخ على ترك الفعل والتوبيخ إنما يكون على ترك الواجب فعلم منه أن الفعل واجب وأن قوله فلولا نفر معناه الأمر بالنفير وإيجابه {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} أي : من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة.
ودلت الآية على الفرق بين الفرقة والطائفة بأن الفرقة أكثر من الطائفة لأن القياس أن يتنزع القليل من الكثير والطائفة تتناول الواحد فما فوقه.
{لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ} ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا مشاق تحصيلها والفقه معرفة أحكام الدين.
{وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وذكر الإنذار دون التبشير لأنه أهم والتخلية بالمعجمة أقدم من التحلية بالمهملة.
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إرادة أن يحذر قومهم عما ينذرون منه.
وفي الآية دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة والإقامة لا الترفع على الناس بالتصدر والترأس والتبسط في البلاد بالملابس والمراكب والعبيد والإماء كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان.
فينبغي أن يطلب المتعلم رضى الله والدار الآخرة وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال وإحياء الدين وإبقاء الإسلام فإن بقاء الإسلام بالعلم ولا يصح الزهد والتقوى بالجهل.
علم آمد دليل آكاهى
جهل برهان نقص وكمراهى
يش ارباب دانش وعرفان
كى بود اين تمام وآن نقصان
وينبغي لطالب العلم أن ينوي به الشكر على نعمة العقل وصحة البدن وسلامة الحواس عملاً بقوله تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النمل : 78) وينبغي لطالب العلم أن يختار الأستاذ الأعلم والأورع والأسن بعد التأمل التام كما اختار أبو حنيفة رضي الله عنه حماداً قال دخلت البصرة فظننت أن لا أسأل عن شيء إلا أجبت عنه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي جوابها فحلفت على نفسي أن لا أفارق حماداً فصحبته عشرين سنة وما صليت قط إلا ودعوت لشيخي حماد مع والدي ففي
535
أنفاس الأساتذة الصالحين ودعوات الرجال الكاملين تأثيرات عجيبة.
كما حكي أن أبا أبي حنيفة ثابتاً أهدى الفالوذج لعلي بن أبي طالب يوم النيروز ويوم المهرجان فدعا له ولأولاده بالبركة وكان ثابت يقول أنا في بركة دعوة صدرت من علي رضي الله عنه حتى كان يفتخر أولاده العلماء بذلك فإذا وجد الطالب الأستاذ العامل العالم فعليه أن يختار من كل علم أحسنه وأنفعه في الآخرة فيبدأ بفرض العين وهو علم ما يجب من اعتقاد وفعل وترك ظاهراً وباطناً ويقال له علم الحال أي العلم المحتاج إليه في الحال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال العز بن عبد السلام : العلم الذي هو فرض لازم ثلاثة أنواع : الأول : علم التوحيد فالذي يتعين عليك منه مقدار ما تعرف به أصول الدين فيجب عليك أولاً أن تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل في نعته فربما تعتقد شيئاً في صفاته يخالف الحق فتكون عبادتك هباء منثوراً.
والنوع الثاني : علم السر وهو ما يتعلق بالقلب ومساعيه فيفترض على المؤمن علم أحوال القلب من التوكل والإنابة والخشية والرضى فإنه واقع في جميع الأحوال واجتناب الحرص والغضب والكبر والحسد والعجب والرياء وغير ذلك وهو المراد بقوله عليه السلام : "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" ؛ إذ لو أريد بالعلم به التوحيد فهو حاصل ولو أريد به الصلاة فيجوز أن يتأهلها شخص وقت الضحى ويموت قبل الظهر فلا يستقيم العموم المستفاد من لفظ كل وأما غيرهما فلا يظهر فلم يبق إلا المعاملة القلبية إذ فرضية علمها متحققة في كل زمان ومكان في كل شخص.
والنوع الثالث : علم الشريعة وهو ما يجب عليك فعله من الواجبات الشرعية فيجب عليك علمه لتؤديه على جهة الشرع كما أمرت به وكذا علم كل ما يلزمك تركه من المناهي الشرعية لتتركه وذلك شامل للعبادات والمعاملات فكل من اشتغل بالبيع والشراء وأيضاً بالحرفة فيجب عليه علم التحرز عن الحرام في معاملاته وفيما يكسبه في حرفته وأما حفظ ما يقع في بعض الأحايين ففرض على سبيل الكفاية.
والعلوم الشرعية خمسة : الكلام والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه.
(3/404)
قال في "عين المعاني" المراد بقوله : {لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ} علم الآخرة لاختصاصه بالإنذار والحذر به وعلم الآخرة يشمل علم المعاملة وعلم المكاشفة أما علم المعاملة فهو العلم المقرب إليه تعالى والمبعد عنه ويدخل فيه أعمال الجوارح وأعمال القلوب وأما علم المكاشفة فهو المراد فيما ورد "فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي" إذ غيره تبع للعمل لثبوته شرطاً له فإذا فرغ علماً وعملاً ساغ أن يشرع في فروض الكفاية كالتفسير والأخبار والفتاوى غير متجاوز إلى نوادر المسائل ولا مستغرق مشتغل عن المقصود وهو العمل ويجوز أن يتعلم من علم النجوم قدر ما يعرف به القبلة وأوقات الصلاة ويتعلم من علم الطب قدر ما يمكن بمعرفته تداوي الأمراض.
قال في "الأشباه" : تعلم العلم يكون فرض عين وهو بقدر ما يحتاج إليه لدينه وفرض كفاية وهو ما زاد عليه لنفع غيره ومندوباً وهو التبحر في الفقه وعلم القلب وحراماً وهو علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين والسحر ودخل في الفلسفة المنطق ومن هذا القسم علم الحروف والموسيقا ومكروهاً وهو أشعار المولدين من الغزل والبطالة ومباحاً كأشعارهم التي لا سخف فيها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال علي الخناوي : لم أرَ في
536
كتب أصحابنا القول بتحريم المنطق ولا يبعد أن يكون وجهه أن يضيع العمر وأيضاً أن من اشتغل به يميل إلى الفلسفة غالباً فكان المنع منه من قبيل سد الذرائع وإلا فليس في المنطق ما ينافي الشرع انتهى.
قال القهستاني : ذكر في "المهمات" للأسنوي لايستنجى بما كتب عليه علم محترم كالنحو واحترز بالمحترم عن غيره من الحكميات مثل المنطق انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في مواقع النجوم ولا يكثر مما لا يحتاج إليه فإن التكثير مما لا حاجة فيه سبب في تضييع الوقت على ما هو أهم وذلك أن من لم يعول على أن يلقي نفسه في درجة الفتيا في الدنيا لأن في البلد من ينوب عنه في ذلك لا يتعين عليه طلب الأحكام كلها إذ هو في حق الغير طلب فضول العلم انتهى.
فعلى العاقل أن يتعلم قدر الحاجة ويشتغل بالعمل وفي الحديث : "من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمشي ويصبح مغفوراً له وشهدت له الملائكة بأنه من عتقاء الله من النار" وفي نشر العلم والإرشاد به فضائل أيضاً قال عليه السلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن "لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما تطلع عليه الشمس" والعلماء ورثة الأنبياء فكما أنهم اشتغلوا بالإبلاغ والإرشاد كذلك ورثتهم فكل مرشد من الورثة ينبغي أن يكون غرضه إقامة جاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه بتكثير أتباعه وقد قال : "إني مكاثر بكم الأمم" قال في "العوارف الصوفية" أخذوا حظاً من علم الدراسة فأفادهم علم الدراسة العمل بالعلم فلما عملوا بما علموا أفادهم العلم علم الوراثة فهم مع سائر العلماء في علومهم وتميزوا عنهم بعلوم زائدة هي علوم الوراثة وعلم الوراثة هو الفقه في الدين ، قال الله تعالى : {فَلَوْلا نَفَرَ} الآية فصار الإنذار مستفاداً من الفقه والإنذار إحياء المنذر بماء العلم والإحياء رتبة الفقيه في الدين فصار الفقه في الدين من أكمل الرتب وأعلاها وهو علم العالم الزاهد في الدنيا المتقي الذي يبلغ رتبة الإنذار بعلمه فمورد الهدى والعلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أولاً ورد عليه الهدى والعلم من الله تعالى فارتوى بذلك ظاهراً وباطناً وانتقل من قلبه إلى القلوب ومن نفسه إلى النفوس ولا يدرك المرء هذا العلم بالتمني بل بالجد والطلب ألا ترى إلى الجنيد قيل له بم نلت ما نلت فقال بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة وأشار إلى درجة في داره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
هر كنج سعادت كه خداداد بحافظ
ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود
وفي الآية تحريض للمؤمنين على الخروج من الأوطان لطلب العلم النافع ورحل جابر من المدينة إلى مصر لحديث واحد ولذا لم يعد أحد كاملاً إلا بعد رحلته ولا وصل مقصده إلا بعد هجرته وقيل :
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه
وانصب فإن اكتساب المجد في النصب
فالأسد لولا فراق الخيس ما فرست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب قال سعدى قدس سره :
جفا نبرده ه دانى توقدر يار
تحصيل كام دل بتكاوى خوشترست
قال في "التأويلات النجمية" : الإشارة في الآية إن الله تعالى يندب خواص عباده إلى رحلة
537
(3/405)
الصورة والمعنى فأما رحلة الصورة ففي طلب أهل الكمال الكاملين المتكملين الواصلين الموصلين كما ندب موسى الرحلة في طلب الخضر عليهما السلام وأما رحلة المعنى فكما كان حال إبراهيم عليه السلام قال : إني ذاهب إلى ربي فهو السير من القالب وصفاته إلى القلب وصفاته ومن القلب إلى الروح وصفاته ومن الروح إلى التخلق بأخلاق الله بقدم فناء أوصافه وهو السير إلى الله ومن أخلاق الله إلى ذات الله بقدم فناء ذاته بتجلى صفات الله وهو السير بالله ومن أنانيته إلى هويته ومن هويته إلى ألوهيته إلى أبد الآباد وهو السير بالله من الله إلى الله تعالى وتقدس انتهى باختصار.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أقروا بالله وبوحدانيته وصدقوا بحضرة صاحب الرسالة وحقانيته {قَـاتِلُوا الَّذِينَ} (كارزار كنيد آنانكه) {يَلُونَكُم} الولي القرب والدنو {مِّنَ الْكُفَّارِ} أي : قاتلوا من نحوكم وبقربكم من العدو وجاهدوا الأقرب فالأقرب ولا تدعوا الأقرب وتقصدوا الأبعد فيقصد الأقرب بلادكم وأهاليكم وأولادكم وفيه إنهم إذا آمنوا الأقرب كان لهم محاربة الأبعد.
واعلم أن القتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ولكن الأقرب فالأقرب أوجب ولذا حارب عليه السلام قومه أولاً ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم انتقل عنهم إلى غزو الشام وكذا الصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشام دخلوا العراق وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضربهم أهل ناحية أخرى وقد وقع أمر الدعوة أيضاً على هذا الترتيب فإنه عليه السلام أمر أولاً بإنذار عشيرته فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح لتأكد حقه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
واختلفوا في أفضل الأعمال بعد الفرائض.
فقال الشافعي رضي الله عنه الصلاة أفضل أعمال البدن وتطوعها أفضل التطوع.
وقال أحمد لا أعلم شيئاً بعد الفرائض أفضل من الجهاد لأنه كان حرفة النبي عليه السلام.
وقال أبو حنيفة ومالك لا شيء بعد فروض الأعيان من أعمال البر أفضل من العلم لأن الأعمال تبتنى عليه ثم الجهاد وبلغ من علم أبي حنيفة رحمه الله إلى أن سمع في المنام أنا عند علم أبي حنيفة بعد ما قيل : أين أطلبك يا رسول الله ، وفي الحديث : "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم وأهل الجهاد" أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل والجهاد سبب البقاء إذ لو تركه الناس لغلبهم العدو وقتلهم وفيه الحياة الدائمة في الآخرة لأنه سبب الشهادة التي تورث تلك الحياة والشهداء أحياء غير أموات.
وفي "المثنوي" :
س زيادتها درون تقصهاست
مر شهيد انرا حيات اندر فناست {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي : شدة وصبراً على القتال.
قال في "القاموس" : الغلظة مثلثة ضد الرقة وهذا الكلام من باب لا أرينك ههنا فإنه وإن كان على صورة أن ينهى المتكلم نفسه عن رؤية المخاطب ههنا إلا أن المراد نهي المخاطب عن أن يحضر ههنا فكذا الآية فإنها على صورة أمر الكفار بأن يجدوا من المؤمنين غلظة لكن المعنى على أمر المؤمنين بأن يعاملوا الكفار بالغلظة والخشونة على طريق الكناية حيث ذكر اللازم وأريد الملزوم.
وفي "المثنوي" :
هر يمبر سخت روبد درجهان
يكسواره كفت بر جيش شهانرو نكردانيد ازترس وغمى
يك تن تنها بزد بر عالمي
538
كوسنفدان كربر وننداز حساب
زانبهشان كى بترسد آن قصاب
قيل : للإسكندر في عسكر دارا ألف ألف مقاتل فقال إن القصاب لا تهوله كثرة الأغنام والعرب تقول الشجاعة وقاية والجبن مقتلة فاعتبروا بأن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً.
قال السعدي قدس سره :
آنكه نك آرد بخون خويش بازى ميكند
روزميدان وانكه بكر يزد بخون لشكرى
ونعم ما قيل :
زهره مردان ندارى ون زنان درخانه باش
وربميدان ميروى ازتير باران بر مكرد
(3/406)
واعلم أن السلاطين والوزراء والوكلاء بالنسبة إلى العسكر كالقلب بالنسبة إلى الأعضاء فكما أن القلب إذا صلح صلح الجسد كله فكذا الرئيس إذا ثبت وأظهر الشجاعة ثبت الجيش كله (بهرام كفت هرآنكه سرتاج دارد بايدكه دل ازسر بردارد هرآنكه اى نهد درنكار خانه ملك يقين كه مال وسر وهره هست دربازد).
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بالحراسة والإعانة والمراد بالمعية الولاية الدائمة وأدخل مع على المتقين مع اختصاصه بالمتبوع لكونهم المباشرين للقتال ووضع المظهر موضع المضمر أي معكم إشارة إلى علة النصرة وهي التقوى كأنه قيل : واعلموا أن نصرة الله معكم بسبب تقواكم بالتوحيد والإسلام والإيمان والطاعة عن الإشراك والكفر والنفاق والعصيان في مرتبة الشريعة وبالله عن جميع ما سوى الله في مرتبة الحقيقة لا مع الكفار المشركين المنافقين العاصين وإن أعطاهم لوازم القتال مكراً واستدراجاً كما أعطاكموها كرماً وإحساناً وبقدر تقواكم بالحق عن الخلق يسخر الله لكم الخلق وبقدر تسخيركمقواكم النفسانية يسخر الله لكم الكفار وبقدر تسخيركمقواكم الروحانية يسخر الله لكم المؤمنين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأظهر في مواقع النجوم : اعلم يا بني أن الله جل ثناؤه لما أراد أن يرقى عبده الخصوصي إلى المقامات العلية قرب منه أعداءه حتى يعظم جهاده لهم ويشتغل بمحاربتهم أولاً قبل محاربة غيره من الأعداء الذين هم منه أبعد قال الله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَـاتِلُوا الَّذِينَ} الآية وحظ الصوفي وكل موفق من هذه الآية أن ينظر فيها إلى نفسه الأمارة بالسوء التي تحمله على كل محظور ومكروه وتعدل به عن كل واجب ومندوب للمخالفة التي جبلها الله عليها وهي أقرب الكفار والأعداء إليه فإذا جاهدها وقتلها أو أسرها فحينئذٍ يصح له أن ينظر في الأعيار على حسب ما يقتضيه مقامه وتعطيه منزلته فالنفس أشد الأعداء شكيمة وأقواهم عزيمة فجهادها هو الجهاد الأكبر ومعنى الجهاد مخالفة هواها وتبديل صفاتها وحملها على طاعة الله.
وفي "المثنوي" :
أي شهان كشتيم ما خصم برون
ماند خصم زو بتر دراندرون
قد رجعنا من جهاد الأصغريم
باعدو اندر جهاد الأكبريم
سهل شيرى دانهك صفها بشكند
شير آن ست آنكه خودرابشكند
وللنفس سيفان ماضيان تقطع بهما رقاب صناديد الرجال وعظمائمهم وهما شهوتا البطن والفرج وشهوة البطن أقوى وأشد من شهوة الفرج لأنه ليس لها تأييد إلا من سلطان شهوة البطن :
539
زان ندارى ميوه مانند بيد
كآب روبردى ى نان سيد
فما ملىء وعاء شر من بطن ملىء بالحلال هذا إذا كان القوت حلالاً فكيف إذا كان حراماً فالطعام والإكثار منه قاطع عن الطريق.
وعن عيسى عليه السلام يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم وعطشوا أكبادكم لعل قلوبكم ترى الله تعالى وكذا الكلام وكذا التأذي بأذى الأنام فعليه بالصبر وأن لا يجدهم مؤذين لأنه موحد فيستوى عنده المسيء والحسن في حقه بل ينبغي أن يرى المسيء محسناً وكذا المنام.
قال بعض العلماء : من سهر أربعين ليلة خالصاً كوشف بملكوت السموات أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغفلة إنه مجيب الدعوة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{وَإِذَا مَآ} كلمة ما صلة مؤكدة لارتباط الجزاء بالشرط {أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من سور القرآن وعددها مائة وأربع عشرة بالإجماع والسورة طائفة من كلامه تعالى {فَمِنْهُمْ} أي : المنافقين {مَن يَقُولُ} لإخوانه إنكاراً واستهزاء {أَيُّكُمْ} مبتدأ وما بعدها خبره {زَادَتْهُ هَـاذِهِ} السورة {إِيمَـانًا} مفعول زادته وإيراد الزيادة مع أنه لا إيمان فيهم أصلاً باعتبار اعتقاد المؤمنين.
وفيه إشارة إلى أن الاستهزاء من علامات النفاق وأمارات الإنكار ثم أجاب الله تعالى عن إنكارهم واستهزائهم من يعتقد زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به فقال : {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله تعالى وبما جاء من عنده {فَزَادَتْهُمْ إِيمَـانًا} هذا بحسب المتعلق وهو مخصوص بزمان النبي عليه السلام وأما الآن فالمذهب على الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإنما تتفاوت درجاته قوة وضعفاً فإنه ليس من يعرف الشيء إجمالاً كمن يعرفه تفصيلاً كما أن من رأى الشيء من بعيد ليس كمن يراه من قريب فصورة الإيمان هو التصديق القلبي إجمالاً وتفصيلاً وحقيقته الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وحقيقة الإحسان مرتبة كنت سمعه وبصره التي هي قرب النوافل وفوقها مرتبة قرب الفرائض المشار إليه بقوله سمع الله لمن حمده.
والحاصل أن من اعتقد الكعبة إذا رآها من بعيد قوي يقينه ثم إذا قرب منها كمل ثم إذا دخل ازداد الكمال ولا تفاوت في أصل الاعتقاد {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية.
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي : كفر وسوء عقيدة.
(3/407)