{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ} أي القرآن إنزالاً {بِالْحَقِّ} .
ـ روي ـ أن رجلاً من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر سرق درعاً من جاره قتادة
278
بن النعمان في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه فخبأها عند زيد بن السمين اليهودي فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود على ذلك فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألوه أن يجادل اليهودي ليدفع فضيحة البهتان عن صاحبهم طعمة وقالوا له عليه السلام أن يعاقب اليهودي ويقطع يده بناء على شهادة قوم طعمة على براءته وعلى أن اليهودي هو السارق ولم يظهر له عليه السلام ما يوجب القدح في شهادتهم بناء على كون كل واحد من الشاهد والمشهود له من المسلمين ظاهراً فلذلك مال طبعه إلى نصرة الخائن والذب عنه إلا أنه لم يحكم بذلك بل توقف وانتظر الوحي فنزلت الآية ناهية عنه ومنبهة على أن طعمة وشهوده كاذبون وأن اليهودي بريء من ذلك الجرم {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاـاكَ اللَّهُ} أي : بما عرفك وأوحى به إليك.
فأراك ليس من الرؤية البصرية ولا من التي بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل بل هو منقول من رأيت بمعنى الاعتقاد والمعرفة وسميت المعرفة المذكورة رؤية لكونها جارية مجرى الرؤية في القوة والظهور والخلوص من وجوه الريب
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
{وَلا تَكُن} أي فاحكم به ولا تكن {لِّلْخَآئِنِينَ} أي لأجلهم والذب عنهم وهم طعمة ومن يعينه فإنه روي أن قومه علموا أن تلك السرقة عمل طعمة بناء على أنه سارق في الجاهلية لكنهم بيتوا طول ليلهم واتفقوا على أن يشهدوا بالسرقة على اليهودي دفعاً عن طعمة عقوبة السرقة فلذلك وصفهم الله جميعاً بالخيانة أو المراد بالخائنين هو وكل من يتسير بسيرته {خَصِيمًا} أي مخاصماً للبراء أي لا تخاصم اليهودي لأجلهم {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} مما هممت به تعويلاً على شهادتهم.
قال ابن الشيخ ولما صدر عنه عليه السلام الهم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه أمر الله تعالى إياه عليه السلام بأن يستغفر لهذا العذر وإن كان معذوراً فيه عند الله بناء على أن حسنات الأبرار سيآت المقربين {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} مبالغاً في المغفرة والرحمة لمن يستغفره {وَلا تُجَـادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} الاختيان والخيانة بمعنى أي يخونونها بالمعصية وإنما قال يختانون أنفسهم وإن كانوا ما خانوا أنفسهم لأن مضرة خيانتهم راجعة إليهم كما يقال فيمن ظلم غيره ما ظلم إلا نفسه كذا في "تفسير الحدادي" والمراد بالموصول إما طعمة وأمثاله وإما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في الإثم ولخيانة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ} عدم المحبة كناية عن البغض والسخط {مَن كَانَ خَوَّانًا} مفرطاً في الخيانة مصراً عليها {أَثِيمًا} منهمكاً فيها أطلق على طعمة لفظ المبالغة الدال على تكرر الفعل منه مع أن الصادر منه خيانة واحدة وإثم واحد لكون طبعه الخبيث مائلاً إلى تكثير كل واحد من الفعلين.
وقد روي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بها ليسرق متاع أهله فسقط الحائط عليه فقتله قيل إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات.
وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} يستترون منهم حياء وخوفاً من ضررهم {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
أي لا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى
279
(2/222)
منه ويخاف من عقابه {وَهُوَ مَعَهُمْ} عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه سوى ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه {إِذ} ظرف منصوب بالعامل في الظرف الواقع خبراً وهو معهم {يُبَيِّتُونَ} يدبرون ويزورون {مَا لا يَرْضَى} الله {مِنَ الْقَوْلِ} من رمي البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور فإن طعمة قال : ارمي اليهودي بأنه سارق الدرع واحلف إني لم أسرقها فتقبل يميني لأني على دينهم ولا تقبل يمين اليهودي وقال قوم طعمة من الأنصار نشهد زوراً لندفع شين السرقة وعقوبتها عمن هو واحد منا {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرة والخافية {مُحِيطًا} لا يفوت عنه شيء {هَـاأَنْتُمْ} مبتدأ {هَـاؤُلاءِ} خبره والهاء في أول كل منهما للتنبيه والجملة التي بعد هذه الجملة مبينة لوقوع أولاء خبراً كما تقول لبعض الأسخياء أنت حاتم تجود بمالك وتؤثر على نفسك والخطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين {جَـادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} المجادلة أشد المخاصمة والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وعن قومه في الدنيا {فَمَن يُجَـادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه {أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} حافظاً وحامياً من بأس الله وانتقامه.
وفي "التأويلات النجمية" : وكيلاً يتكلم بوكالتهم يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍقال السعدي قدس سره :
دران روز كز فعل رسند وقول
أولوا العزم راتن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد أنبياء
تو عذر كنه راه داري بيا
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
فعلى العبد أن يتوب قبل الموت من كل معصية توبة نصوحاً ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله ويرد المظالم إلى أهلها حبة حبة ويستحل كل من تعرض له بلسانه شتماً أو قذفاً أو استهزاء أو غيبة ويده ضرباً وسوء ظنه بقلبه ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السيآت وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقاً أو تظهر عذراً فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية على حسنات طال فيها تعبك فتقول أين حسناتي؟ فيقال : نقلت إلى صحيفة خصمائك فتوهن نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب ونصبت الموازين وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق أين فلان ابن فلان؟ هلم إلى العرض على الله وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك إذا عرفت أنك المراد بالدعاء إذا فزع النداء قلبك فعلمت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك وتغير لونك وطار قلبك تخطى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه والوقوف بين يديه وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت في أيديهم وقد طار قلبك واشتد رعبك لعلمك أين يراد بك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منه واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها ثم نودوا إن أصرفوهم
280
عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك فيقول الله تعالى ذاك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظام فإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ترون الناس خلاف ما ينطوي عليه قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم للناس ولم تتركوا لي" يعني : لأجل الناس "فاليوم أذيقكم اليم عقابي مع ما حرمتكم" يعني : من جزيل ثوابي قال تعالى : {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 142) كذا في "تنبيه الغافلين" فإذا عرفت هذا فاجتهد في أن لا تكون من الذين لا يستخفون من الله واجعل خيانتك أمانة وإثمك طاعة وظلمك عدلاً وتزويرك صدقاً محضاً واستغفر الله فإن الاستغفار دواء الأوزار وبه ينفتح باب الملكوت إلى الله الملك الغفار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
(2/223)
{وَمَن يَعْمَلْ سُواءًا} عملاً قبيحاً متعدياً يسوء به غيره ويخزيه كما فعل طعمة بقتادة واليهودي {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلف الكاذب وقيل السوء ما دون الشرك والظلم الشرك لأن الشرك ظلم عظيم.
وقيل : هما الصغيرة والكبيرة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} بالتوبة الصادقة وشرطت التوبة لأن الاستغفار لا يكون توبة بالإجماع ما لم يقل معه تبت وأسأت ولا أعود إليه أبداً فاغفر لي يا رب كما في "تفسير الحدادي" {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا} لذنوبه كائنة ما كانت {رَّحِيمًا} متفضلاً عليه وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة.
وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال : "ما من عبد يذنب ذنباً ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له" وتلا هذه الآية "ومن يعمل سوأ الخ".
اي كه بي حد كناه كردستي
مي نترسي ازان فعال شنيع
توبه كن تا رضاي حق يابي
كه به ازتوبه نيست هي شفيع
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا} من الآثام {فَإِنَّمَا يَكْسِبُه عَلَى نَفْسِهِ} بحيث لا يتعدى ضرره ووباله إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذاب عاجلاً وآجلاً.
وفي "التأويلات النجمية" : {فَإِنَّمَا يَكْسِبُه عَلَى نَفْسِهِ} فإن رين الإثم يظهر في الحال في صفاء مرآة قلبه يعميه عن رؤية الحق ويصمه عن سماع الحق كما قال تعالى : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين : 14) {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فهو عالم بفعله حكيم في مجازاته {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيا َةً} صغيرة أو ما لا عمد فيه من الذنوب {أَوْ إِثْمًا} كبيرة أو ما كان عن عمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي يقذف بأحذ المذكورين ويسب به {بَرِيا ًا} أي : مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل طعمة بزيد اليهودي {فَقَدِ احْتَمَلَ} أي : ما فعل من تحميل جريرته على البري {بُهْتَانًا} لا يقادر قدره {وَإِثْمًا مُّبِينًا} أي : بيناً فاحشاً لأنه بكسب الإثم آثم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين وسمي رمي البريء بهتاناً لكون البريء متحيراً عند سماعه لعظمه في الكذب يقال بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ويقال بهته بهتاناً إذا قال عنه ما لم يقله أو نسب إليه ما لم يقله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 281
ـ روي ـ عنه عليه السلام أنه قال : "الغيبة ذكرك أخاك بما يكره"
281
فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته".
وفي "التأويلات النجمية" : {فَقَدِ احْتَمَلَ} صاحب النفس {بُهْتَانًا} أبهت القلوب عن العبودية والطاعة {وَإِثْمًا مُّبِينًا} بما أتمت به نفسه من المعاصي وأثم بها قلبه فيكون بمنزلة من جعل اللب وهو القلب جلداً وهو النفس وهذا من أكبر الشقاوة فلا ينقطع عنه العذاب إذا صار كل وجوده جلوداً فيكون من جملة الذين قالوا الله تعالى فيهم {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} لأنهم بدلوا الألباب بالجلود ههنا انتهى.
واعلم أن الاستغفار فرار العبد من الخلق إلى الخالق ومن الأنانية إلى الهوية الذاتية وذلك عند صدق الطلب ومن طلبه وجده كما قال : "ألا من طلبني وجدني" قال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب قال : "يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ" فلا بد من الاستغفار مطلقاً ، ويقال : سلطان بلا عدل كنهر بلا ماء.
وعالم بلا عمل كبيت بلا سقف.
وغني بلا سخاوة كسحاب بلا مطر.
وشاب بلا توبة كشجر بلا ثمر.
وفقير بلا صبر كقنديل بلا ضوء.
وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح.
وتهذيب الأخلاق قبل الموت من سنن الأخيار والعمل الصالح قرين الرجل كما أن السوء كذلك :
ناكهان بانك درسراي افتاد
كه فلا نرا محل وعده رسيد
دوستان آمدند تالب كور
قدمي ند وبازس كرديد
وين كز ودسترس نميد أرى
مال وملك وقباله برده كليد
وين كه يوسته باتو خواهد بود
عمل تست ونفس اك وليد
نيك درياب وبدمكن زنهار
كه بدونيك باز خواهي ديد
ـ حكي ـ أن الشيخ وفا المدفون بقسطنطينية في حريم جامعه الشريف أهدي إليه ثمانون ألف درهم من قبل السلطان بايزيد الثاني ليعقد عقد النكاح لبعض بناته فقال : لا أفعل ولو أعطيت الدنيا وما فيها قيل : ولم؟ قال : لأن لي أوراداً إلى الضحى لا أنفك عنها ساعة وأنام من الضحى إلى الظهر لا أترك منه ساعة وأما بعد الظهر فأنتم لا ترضونه لأن النهار يكون في الانتقاص وهكذا يكون طالب الحق في ليله ونهاره فإن الدنيا فانية فالحي الباقي هو الله تعالى فلا بد من طلبه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 281
ـ روي ـ عنه عليه السلام أنه قال : "الغيبة ذكرك أخاك بما يكره"
281
فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته".(2/224)
وفي "التأويلات النجمية" : {فَقَدِ احْتَمَلَ} صاحب النفس {بُهْتَـانًا} أبهت القلوب عن العبودية والطاعة {وَإِثْمًا مُّبِينًا} بما أتمت به نفسه من المعاصي وأثم بها قلبه فيكون بمنزلة من جعل اللب وهو القلب جلداً وهو النفس وهذا من أكبر الشقاوة فلا ينقطع عنه العذاب إذا صار كل وجوده جلوداً فيكون من جملة الذين قالوا الله تعالى فيهم {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} لأنهم بدلوا الألباب بالجلود ههنا انتهى.
واعلم أن الاستغفار فرار العبد من الخلق إلى الخالق ومن الأنانية إلى الهوية الذاتية وذلك عند صدق الطلب ومن طلبه وجده كما قال : "ألا من طلبني وجدني" قال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب قال : "يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ" فلا بد من الاستغفار مطلقاً ، ويقال : سلطان بلا عدل كنهر بلا ماء.
وعالم بلا عمل كبيت بلا سقف.
وغني بلا سخاوة كسحاب بلا مطر.
وشاب بلا توبة كشجر بلا ثمر.
وفقير بلا صبر كقنديل بلا ضوء.
وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح.
وتهذيب الأخلاق قبل الموت من سنن الأخيار والعمل الصالح قرين الرجل كما أن السوء كذلك :
ناكهان بانك درسراي افتاد
كه فلا نرا محل وعده رسيد
دوستان آمدند تالب كور
قدمي ند وبازس كرديد
وين كز ودسترس نميد أرى
مال وملك وقباله برده كليد
وين كه يوسته باتو خواهد بود
عمل تست ونفس اك وليد
نيك درياب وبدمكن زنهار
كه بدونيك باز خواهي ديد
ـ حكي ـ أن الشيخ وفا المدفون بقسطنطينية في حريم جامعه الشريف أهدي إليه ثمانون ألف درهم من قبل السلطان بايزيد الثاني ليعقد عقد النكاح لبعض بناته فقال : لا أفعل ولو أعطيت الدنيا وما فيها قيل : ولم؟ قال : لأن لي أوراداً إلى الضحى لا أنفك عنها ساعة وأنام من الضحى إلى الظهر لا أترك منه ساعة وأما بعد الظهر فأنتم لا ترضونه لأن النهار يكون في الانتقاص وهكذا يكون طالب الحق في ليله ونهاره فإن الدنيا فانية فالحي الباقي هو الله تعالى فلا بد من طلبه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 281
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بالعصمة {لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} أي من بني ظفر وهم الذابون عن طعمة {أَن يُضِلُّوكَ} أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق بتلبيسهم عليك مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل إلى نفي تأثيره {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لأن وبالهم عليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ} محل الجار والمجرور النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من الضرر لأن الله عاصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} أي القرآن {وَالْحِكْمَةَ} أي ما في القرآن من الأحكام وعرفك الحلال والحرام {وَعَلَّمَكَ} بالوحي من الغيب وخفيات الأمور {مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} ذلك إلى وقت التعليم {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} إذ لا فضل أعظم من النبوة العامة والرياسة
282
التامة ومن ذلك الفضل العظيم عصمته وتعليمه ما لم يعلم.
قال الحدادي في "تفسيره" وفي هذه الآيات دلالة أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم لغيره في إثبات حق أو نفيه غير عالم بحقيقة أمره وأنه لا يجوز للحاكم الميل إلى أحد الخصمين وإن كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً وأن وجود السرقة في يدي إنسان لا يوجب الحكم بها عليه انتهى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 282
واعلم أن هذه الآية جامعة لفضائل كثيرة.
منها بيان أن وبال الشر يعود على صاحبه كما أن منفعة الخير تعود على فاعله ، قال الصائب :
أول بظالمان أثر ظلم ميرسد
يش از هدف هميشه كمان ناله ميكند
ـ حكي ـ أن الله تعالى أيبس يد رجل يذبح عجل بقرة بين يدي أمه ثم ردها برد فرخ سقط من وكره إلى أمه يقال ثلاثة لا يفلحون بائع البشر وقاطع الشجر وذابح البقر.
(2/225)
ـ وحكي ـ أن امرأة وضعت لقمة في فم سائل ثم ذهبت إلى مزرعة فوضعت ولدها في موضع فأخذه الذئب فقالت يا رب ولدي فأخذ آت عنق الذئب واستخرج ولدها من غير أذى ثم قال : هذه اللقمة لتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل فكل يرى أثر صنعه في الدنيا أيضاً.
ومنها أن العلم والحكمة من أعظم الفضائل والمراد العلم النافع المقرب إلى الله تعالى أعاذنا الله مما لم ينفع منه على ما قال عليه الصلاة والسلام في دعائه "وأعوذ بك من علم لا ينفع" فإن العلم النافع لا ينقطع مدده في الآخرة أيضاً على ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له".
ومنها أن لا يرى العبد الفضائل والخيرات من نفسه بل من فضل الله ورحمته وليس للعبد أن يزكي نفسه فإن الأنفس ليست بمحل التزكية فمن استحسن من نفسه شيئاً فقط أسقط من باطنه أنوار اليقين والكامل لا يرى لنفسه قدراً فكيف لعمله وكل ما يعمله العبد من بدايته إلى نهايته لا يقابل لنعمة الوجود.
ـ حكي ـ عن شاه شعاع الكرماني أنه كان جالساً في مسجد فقام فقير وسأل الناس فلم يعطوه شيئاً فقال الكرماني من يشتري حج خمسين سنة بمن من الخير ، فيعطي هذا الفقير وكان هناك فقيه فقال : أيها الشيخ قد استحففت بالشريعة فقال الكرماني : لا أرى لنفسي قيمة فكيف أرى لعملي وليس المراد التعطيل عن العمل بل يعملون جميع الحسنات ولا يرون لها قدراً بل يرون التوفيق لها من فضل الله تعالى ، قال السعدي قدس سره :
كراز حق توفيق خيري رسد
كه از بنده خيري بغيري رسد
ورويي بخدمت نهى بر زمين
خدارا ثنا كوى وخودرا مبين
جزء : 2 رقم الصفحة : 282
والإشارة في الآية أن فضل الله موهبة من مواهب الحق يؤتيه من يشاء وليس لأحد فيه مدخل بالكسب والاستجلاب وبذلك يهدي العبد للإيمان ويوفقه للعمل الصالح والعظيم في قوله : {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} هو الله تعالى أي أن الله العظيم هو فضل الله عليك ورحمته كما أنك فضل الله ورحمته على العالمين ولهذا قال : "لولاك لما خلقت الافلاك" ومن فضل الله عليك أنه لم يضله شيء من الروحانيات والجسمانيات عن طريق الوصول اللهم احفظنا من الموانع في طريق الوصول إليك آفاقية أو أنفسية والحقنا بفضلك بالنفوس القدسية
283
{لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ} أي كثير من تناجي الناس وهو في اللغة سر بين اثنين وذهب الزجاج إلى أن النجوى ما تفرد به الجماعة أو الاثنان سراً كان أو ظاهراً.
قال مجاهد هذه الآية عامة في حق جميع الناس غير مختصة بقوم طعمة وإن نزلت في تناجي قوم السارق لتخليصه {إِلا مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول لا خير في قيامهم إلا قيام زيد {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} المعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل فينتظم أصناف الجميل وفنون أعمال البر وقد فسر هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع على أن المراد بالصدقة الواجبة قال صلى الله عليه وسلّم "كل معروف صدقة" وأول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف وصنائع المعروف تقي مصارع السوء :
تونيكي كن بآب انداز اي شاه
اكر ما هي نداند داند الله
وفي الحديث : "عمل ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله" {أَوْ إِصْلَـاحا بَيْنَ النَّاسِ} عند وقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أنه يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف وفي الحديث "ألا أخبركم بأفضل درجة من الصلاة والصدقة" قالوا : بلى يا رسول الله قال : "إصلاح ذات البين" وفساد ذات البين هي الحالقة فلا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له : "ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم" قال : بلى يا رسول الله قال : "تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا" قالوا : ولعل السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة والمنفعة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 282
(2/226)
إما جسمانية كإعطاء المال وإليه الإشارة بقوله عز وجل : {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} .
وإما روحانية وإليه الإشارة بقوله : {أَوْ مَعْرُوفٍ} .
وأما دفع الضرر فقد أشير إليه بقوله : {أَوْ إِصْلَـاحا بَيْنَ النَّاسِ} {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} إشارة إلى الأمور المذكورة أعني الصدقة والمعروف والإصلاح فإنه يشار به إلى متعدد وإنما بنى الكلام على الأمر حيث قال أولاً إلا من أمر فهو كلام في حق الآمر بالفعل ورتب الجزاء على الفعل حيث قال : ومن يفعل فهو كلام في حق الفاعل وكان المناسب للأول أن يبين حكم الآمر ويقول ومن يأمر بذلك ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث أنه وصلة إليه.
ففي تحريض الآمر بالأمور المذكورة على فعلها {ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي : طلب رضى الله تعالى علة للفعل والتقييد به لأن الأعمال بالنيات وأن من فعل خيراً رياء وسمعة لم يستحق به غير الحرمان.
قال السعدي :
كرت بيخ إخلاص در بوم نيست
ازين دركسي ون تو محروم نيست
زعمرو اي سر شم اجرت مدار
و در خانه زيد باشي بكار
{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} يقصر عنه الوصف ويستحقر دونه ما فات من أعراض الدنيا {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} يخالفه من الشق فإن كلا من المخالفين في شق غير شق الآخر {مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته
284
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي غير ما هم مستمرون عليه من اعتقاد وعمل وهو الدين القيم {نُوَلِّه مَا تَوَلَّى} أي نجعله والياً لما تولاه من الضلال ونخذله بأن نخلي بينه وبين ما اختار {وَنُصْلِه جَهَنَّمَ} أي ندخله فيها {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} أي : جهنم.
ـ روي ـ أن طعمة عاند حكم الله وخالف رسول الله خوفاً من فضاحة قطع اليد فهرب إلى مكة واتبع دين أهلها ومات كافراً فعلى العاقل أن لا يخالف الجماعة وهم المؤمنون فإن الشاة الخارجة عن القطيع يأكلها الذئب وسبيل المؤمنين هو السبيل الحق الموصل إلى الجنة والقربة والوصلة واللقاء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 282
والإشارة أنه {لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ} أي الذين يتناجون من النفس والشيطان والهوى لأنهم شرار ولا فيما يتناجون به لأنهم يأمرون بالسوء والفحشاء والمنكر ثم استثنى وقال {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـاحا بَيْنَ النَّاسِ} أي إلا فيمن أمر بهذه الخيرات فإن فيه الخير وهو الله تعالى فإنه يأمر بالخيرات بالوحي عموماً أو يأمر بالخاطر الرحماني والإلهام الرباني خواص عباده فالخاطر يكون بواسطة الملك وبغير الواسطة كما قال عليه السلام : "إن للملك لمة وإن للشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير ولمة الشيطان إيعاد بالشر" والإلهام ما يكون من الله تعالى بغير الواسطة وهو على ضربين.
ضرب منه ما لا شعور به للعبد أنه من الله.
وضرب منه ما يكون بإشارة صريحة يعلم العبد أنه آت من الله تعالى لتعليم نور الإلهام وتعريفه لا يحتاج إلى معرفة آخر أنه من الله تعالى وهذا يكون للولي وغير الولي كما قال بعض المشايخ حدثني قلبي عن ربي وقال عليه السلام : "إن الحق لينطق على لسان عمر" وقال : "كادت فراسته أن تسبق الوحي" ثم قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي : ومن يفعل بما ألهمه الله طلباً لمرضاته {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ذكر بفاء التعقيب قوله فسوف يعني عقيب الفعل نؤتيه أجراً وهو جذبة العناية التي تجذبه عنه وتوصله إلى العظيم ثم قال : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي : يخالف الإلهام الرباني الذي هو رسول الحق إليه {مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} بتعريف الإلهام ونوره {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الموقنين بالإلهام بأن يتبع الهوى وتسويل النفس وسبيل الشيطان {نُوَلِّه مَا تَوَلَّى} أي : نكله بالخذلان إلى ما تولى {وَنُصْلِهِ} بسلاسل معاملاته التي تولى بها إلى {جَهَنَّمَ} سفليات الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} أي ما صار إليه من عبادة الهوى واتباع النفس والشيطان وإشراكهم بالله في المطاوعة كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 282
(2/227)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} يقال : جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جراءة وما توقعت طرفة عين أني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب فما ترى حالتي عند الله؟ فنزلت هذه الآية.
فالشرك غير مغفور إلا بالتوبة عنه وما سواه مغفور سواء حصلت التوبة أو لم تحصل لكن لا لكل أحد بل لمن يشاء الله مغفرته {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـا بَعِيدًا} عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة.
قال الحدادي أي فقد ذهب عن الصواب والهدى ذهاباً بعيداً وحرم الخير كله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
والفائدة
285
في قوله : {بَعِيدًا} أن الذهاب عن الجنة على مراتب أبعدها الشرك بالله تعالى انتهى.
فالشرك أقبح الرذائل كما أن التوحيد أحسن الحسنات.
والسيآت على وجوه كأكل الحرام وشرب الخمر والغيبة ونحوها لكن أسوء الكل الشرك بالله ولذلك لا يغفر وهوجلي وخفي حفظنا الله منهما.
وكذا الحسنات على وجوه ويجمعها العمل الصالح وهو ما أريد به وجه الله وأحسن الكل التوحيد لأنه أساس جميع الحسنات وقامع السيآت ولذلك لا يوزن قال عليه السلام : "كل حسنة يعملها ابن آدم توزن يوم القيامة إلا شهادة أن لا إله إلا الله فإنها لا توضع في ميزانه" لأنها لو وضعت في ميزان من قالها صادقاً ووضعت السموات والأرضون السبع وما فيهن كان لا إله إلا الله أرجح من ذلك ثم أن الله تعالى بين كون ضلالهم ضلالاً بعيداً فقال : {أَنِ} بمعنى ما النافية {يَدْعُونَ} أي : المشركون وهو بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه {مِن دُونِهِ} الضمير راجع إلى الله تعالى : {إِلا إِنَـاثًا} جمع أنثى والمراد الأوثان وسميت أصنامهم إناثاً لأنهم كانوا يصورونها بصورة الإناث ويلبسونها أنواع الحلل التي تتزين بها النساء ويسمونها غالباً بأسماء المؤنثات نحو اللات والعزى ومناة والشيء قد يسمى أنثى لتأنيث اسمه أو لأنها كانت جمادات لا أرواح فيها والجماد يدعى أنثى تشبيهاً له بها من حيث أنه منفعل غير فاعل ولعله تعالى ذكره بهذا الاسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً لأنه ينفعل ولا يفعل ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم وقيل : المراد الملائكة فإن من المشركين من يعبد الملائكة ويقول الملائكة بنات الله تعالى قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثَى} (النجم : 27)مع اعترافهم بأن إناث كل شيء أخسه وأرذله {وَإِن يَدْعُونَ} أي وما يعبدون بعبادة الأصنام {إِلا شَيْطَـانًا مَّرِيدًا} لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها وكان طاعته في ذلك عبادة له.
قيل : كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة والكهنة يكلمهم.
وقال الزجاج : المراد بالشيطان ههنا إبليس بشهادة قوله تعالى بعد هذه الآية
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
{لاتَّخِذَنَّ} وهو قول إبليس ولا يبعد أن الذي يتراءى للسدنة هو إبليس والمريد هو الذي لا يعلق بخير فقيل : من مرد أي تجرد للشر وتعرى من الخير يقال شجرة مرداء أي : لا ورق عليها وغلام أمرد إذا لم يكن على وجهه شعر {لَّعَنَهُ اللَّهُ} صفة ثانية للشيطان أي أبعده من رحمته إلى عقابه بالحكم له بالخلود في جهنم ويسقط بهذا قول من قال كيف يصح أن يقال لعنه الله وهو في الدنيا لا يخلو من نعمة تصل إليه من الله تعالى في كل حال لأنه لا يعتد بتلك النعمة مع الحكم له بالخلود في النار.
{وَقَالَ} عطف عليه أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن الدال على فرط عداوته للناس فإن الواو الواقعة بين الصفات إنما تفيد مجرد الجمعية {لاتَّخِذَنَّ} هذه اللام واللامات الآتية كلها للقسم {مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي : مقطوعاً واجباً قدّر لي وفرض وهو أي النصيب المفروض لإبليس كل من أطاعه فيما زين له من المعاصي.
قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كما في حديث المشارق يقول الله تعالى أي
286
(2/228)
في يوم الموقف "يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول أخرج بعث النار" يعني : ميز أهلها والبعث بمعنى المبعوث "قال وما بعث النار" ما هنا بمعنى كم العددية ولذا أجيب عنها بالعدد "قال" أي الله تعالى : "من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون قال النبي عليه السلام فذلك التقاول حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها" كنايتان عن شدة أهوال يوم القيامة "وترى الناس سكارى" أي من الخوف "وما هم بسكارى" أي من الخمر "ولكن عذاب الله شديد قال" أي الراوي واشتد ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله أينا ذلك الرجل الباقي من الألف؟ فقال : "أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجلاً" والخطاب للصحابة وغيرهم من المؤمنين ثم قال : "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" قال الراوي فحمدنا الله وكبرنا ثم قال : "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فحمدنا الله وكبرنا ثم قال : "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" وترقى عليه السلام في حديث آخر من النصف إلى الثلثين وقال : "إن أهل الجنة مائة وعشرون صنفاً وهذه الأمة منها ثمانون إن مثلكم في الأمم" أي الكفرة "كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود"(1) فلا يستبعد دخول كل المؤمنين الجنة.
فإن قيل : كيف علم إبليس أنه يتخذ من عباد الله نصيباً.
قيل فيه أجوبة : منها أن الله تعالى لما خاطبه بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
{لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود : 119) علم إبليس أنه ينال من ذرية آدم ما يتمناه.
ومنها أنه لما وسوس لآدم فنال منه طمع في ذريته.
ومنها أن إبليس لما عاين الجنة والنار علم أن لها سكاناً من الناس {وَلاضِلَّنَّهُمْ} عن الحق وإضلاله وسواس ودعاء إلى الباطل ولو كان إليه شيء من الضلالة سوى الدعاء إليها لأضل جميع الخلق ولكنه لما قال عليه السلام في حقه "خلق إبليس مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء" يعني : أنه يزين للناس الباطل وركوب الشهوات ولا يخلق لهم الضلالة {وَلامَنِّيَنَّهُمْ} الأماني الباطلة بأن يخيل للإنسان إدراك ما يتمناه من المال وطول العمر.
وقيل يمني الإنسان أي يوهمه أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا عقاب ولا حساب.
وقيل بأنه يوهمه أنه ينال في الآخرة حظاً وافراً من فضل الله ورحمته {وَلامُرَنَّهُمْ} بالبتك أي القطع والشق {فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الانْعَـامِ} أي فليقطعنها بموجب أمري ويشقنها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير يقال بتكه أي قطعه ونقل إلى بناء التفعيل أي التبتيك للتكثير.
وأجمع المفسرون على أن المراد به ههنا قطع آذان البحائر والسوائب والأنعام الإبل والبقر والغنم أي لاحملنهم على أن يقطعوا آذان هذه الأشياء ويحرموها على أنفسهم بجعلها للأصنام وتسميتها بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً وكان أهل الجاهلية إذا أنتجت ناقة أحدهم خمسة أبطن وكان آخرها ذكر أبحروا اذنها وامتنعوا من ركوبها وحلبها وذبحها ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى وإذا لقيها المعيى لم يركبها وقيل : كانوا يفعلون ذلك بها إذا ولدت سبعة أبطن والسائبة المخلاة تذهب حيث شاءت وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة أو يقول : إن قدم غائبي من السفر أو إن وصلت إلى وطني أو إن ولدت امرأتي ذكراً أو نحو ذلك فناقتي سائبة فكانت كالبحيرة وكذا من كثر ماله بسبب واحدة منها تكرّ ما وكانت لا ينتفع بشيء منها ولا تمنع عن ماء ومرعي إلى أن تموت فيشترك
287
في أكلها الرجال والنساء.
والوصيلة هي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان الولد السابع ذكرا ذبحوه لآلتهم وكان لحمه للرجال دون النساء وإن كان أنثى كانوا يستعملونها وكانت بمنزلة سائر الغنم وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : إن الأخت وصلت أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وجرى مجرى السائبة وكانت المنفعة للرجال دون النساء فهي فعيلة بمعنى فاعلة والحامي هو البعير الذي ولد ولد ولده وقيل هو الفحل من الإبل إذا ركب ولد ولده قالوا له : إنه قد حمى ظهره فيهمل ولا يركب ولا يمنع عن الماء والمرعى وإذا مات يأكله الرجال والنساء {وَلامُرَنَّهُمْ} بالتغيير {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} عن نهجه صورة وصفة.
ويندرج فيه أمور :
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
منها فقىء عين الحامي وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم الفا عوّروا عين فحلها والحامي الفحل الذي طال مكثه عندهم.
ومنها خصاء العبيد وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقاً لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم لمكان الحاجة ومنعوه في بني آدم وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان واستخدامهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم.
قال في "نصاب الاحتساب" : قرأت في بعض الكتب أن معاوية دخل على النساء ومعه خصي مجبوب فنفرت منه امرأة فقال معاوية : إنما هو بمنزلة امرأة فقال : أترى أن المثلة فيه قد أحلت ما حرم الله من النظر فتعجب من فطنتها وفقهها.
(2/229)
ومنها الوشم وهو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يخشى بكحل أو بنيلنج وهو دخان الشحم يعالج به الوشم حتى يخضر.
قال بعض أصحاب الشافعي وجبت إزالته إن أمكن بالعلاج وإلا فبالجرح إن لم يخف فوت عضو.
ومنها الوشر وهو أن تحدد المرأة أسنانها وترققها تشبيهاً بالشواب.
ومنها التنمص : وهو نتف شعور الوجه يقال تنمصت المرأة إذا تزينت بنتف شعر وجهها وحاجبها والنامصة المرأة التي تزين النساء بالمنمص والمنمص والمنماص المنقاش وقد لعن النبي عليه السلام "النامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة".
والواصلة هي التي تصل شعر غيرها بنفسها.
والمستوصلة هي التي تأمر غيرها بأن توصل ذلك إلى شعرها.
قال ابن الملك الواصلة هي التي تصل الشعر بشعر آخر زورا والمستوصلة هي التي تطلبه والرجل والمرأة سواء في ذلك هذا إذا كان المتصل شعر الآدمي لكرامته فلا يباح الانتفاع بشيء من أجزائه أما غيره فلا بأس بوصله.
فيجوز اتخاذ النساء القراميل من الوبر.
وقيل فيه تفصيل إن لم يكن لها زوج فهو حرام أيضاً وإن كان فإن فعلته بإذن الزوج أو السيد يجوز وإلا فلا ثم إنها إن فعلت ذلك بصغيرة تأثم فاعلته ولا تأثم المفعولة لأنها غير مكلفة.
ويدخل في التنمص نتف شعر العانة فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط.
ومنها السحق وهو لكونه عبارة عن تشبه الأنثى بالذكور من قبيل تغيير خلق الله عن وجهه صفة وفي الحديث المرفوع : "سحاق النساء زنى بينهن" وكذا التخنث لما فيه من تشبه الذكر بالأنثى وهو إظهار اللين في الأعضاء والتكسر في اللسان.
ومنها اللواطة لما فيها من إقامة ما خلق لدفع الفضلات مقام موضع الحراثة والنظر إلى صبيح الوجه بالشهوة حرام ومجالسته حرام لأنه عورة من القرن إلى القدم وجاء في بعض الروايات "إن مع كل امرأة شيطانين ومع كل غلام ثمانية عشر شيطاناً".
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
ومنها عبادة الشمس والقمر والكواكب والحجارة
288
فإن عبادتها وإن لم تكن تغييراً لصورها لكنها تغيير لصفتها فإن شيئاً منها لم يخلق لأن يعبد من دون الله وإنما خلق لينتفع به العباد على الوجه الذي خلق لأجله وكذا الكفر بالله وعصيانه فإنه أيضاً تغيير خلق الله من وجهه صفة فإنه تعالى فطر الخلق على استعداد التحلي بحلية الإيمان والطاعة ومن كفر بالله وعصاه فقد أبطل ذلك الاستعداد وغير فطرة الله صفة ويؤيده قوله عليه السلام : "كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وكذا استعمال الجوارح في غير ما خلقت لأجله تغيير لها عن وجهها صفة.
والجمل الأربع وهي لأتخذن ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم كلُ واحدة منها مقول للشيطان فلا يخلو إما أن يقولها بلسان جسمه أو بلسان فعله وحاله {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَـانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ} بإيثار ما يدعو إليه على ما أمره الله به ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعة {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} لأنه ضيع رأس ماله بالكلية وبدل مكانه من الجنة بمكانه من النار {يَعِدُهُمْ} ما لا ينجزه من طول العمل والعافية ونيل لذائذ الدنيا من الجاه والمال وقضاء شهوات النفس {وَيُمَنِّيهِمْ} ما لا ينالون نحو أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء أو نيل المثوبات الأخروية من غير عمل {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلا غُرُورًا} وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بإلقاء الخواطر الفاسدة أو بألسنة أوليائه.
وغروراً إما مفعول ثان للوعد أو مفعول لأجله أي ما يعدهم لشيء إلا لأن يغرهم.
واعلم أن العمدة في إغواء الشيطان أن يزين زخارف الدنيا ويلقي الأماني في قلب الإنسان مثل أن يلقي في قلبه أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده ويستولي على أعدائه ويحصل له ما تيسر لأرباب المنصاب والأموال وكل ذلك غرور لأنه ربما لا يطول عمره وإن طال فربما لا ينال أمله ومطلوبه وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فلا بد أن يفارقه بالموت فيقع في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن تعلق القلب بالمحبوب كلما كان أشد وأقوى كانت مفارقته أعظم تأثيراً في حصول الغم والحسرة ولذلك قيل :
الفت مكير همو الف هي باكسى
تابشنوى الم نشوى وقت انقطاع
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
(2/230)
فنبه سبحانه وتعالى على أن الشيطان إنما يعد ويمني لأجل أن يغر الإنسان ويخدعه ويفوت عنه أعز المطالب وأنفع المآرب.
فالعاقل من لا يتبع وسواس الشيطان ويبتغي رضى الرحمن بالتمسك بكتابه العظيم وسنن رسوله الكريم والعمل بهما ليفوز فوزاً عظيماً وكفى بذلك نصيحة {أولئك} إشارة إلى أولياء الشيطان وهو مبتدأ أي : مستقرهم وهو مبتدأ ثان {جَهَنَّمَ} خبر للثاني والجملة خبر للأول {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي : معدلاً ومهرباً من حاص يحيص إذا عدل وعنها متعلق بمحذوف وقع حالاً من محيصاً أي كائناً عنها ولا يجوز أن يتعلق بيجدون لأنه لا يتعدى بعن ولا بقوله محيصاً لأنه إما إسم مكان وهو لا يعمل مطلقاً وإما مصدر ومعمول المصدر لا يتقدم عليه.
والإشارة أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم السعداء وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم الأشقياء وخلق الشيطان مزيناً وداعياً وآمراً بالهوى فمن يرى حقيقة الاضلال ومشيئته من إبليس فهو إبليس وقد قال تعالى : {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} (النحل : 93)
289
والنصيب المفروض من العباد هم طائفة خلقهم الله تعالى أهل النار كقوله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} (الأعراف : 179) وهم أتباع الشيطان ههنا وقد لعن الله الشيطان وأبعده عن الحضرة إذ كان سبب ضلالتهم كما قال عليه السلام : "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه" وإنما لعن الله الدنيا وأبغضها لأنها كانت سبباً للضلالة وكذلك الشيطان ولا يغتر بوعد الشيطان إلا الضال بالضلال البعيد الأزلي ولذا تولد منه الشرك المقدر بمشيئة الله الأزلية.
وأما من خلقه الله أهلاً للجنة فقد غفر له قبل أن خلقه ومن غفر له فإنه لا يشرك بالله شيئاً.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما نزل قوله تعالى : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} (الأعراف : 156) تطاول إبليس وقال : أنا شيء من الأشياء فلما نزل {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} (الأعراف : 156) يئس إبليس وتطاولت اليهود والنصارى ثم لما نزل قوله تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامِّىَّ} (الأعراف : 156) يئس اليهود والنصارى وبقيت الرحمة للمؤمنين خاصة فهم خلقوا للرحمة ودخلوا الجنة بالرحمة ولهم الخلود في الرحمة وبقي العذاب للشيطان وأتباعه من الإنس والجن ولهم الخلود في النار كما قال الله تعالى : {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} لأنهم خلقوا لها فلا بد من الدخول فيها ، قال الحافظ :
ير ما كفت خطا بر قلم صنع نرفت
آفرين بر نظر اك خطا وشش باد
فافهم تفز إن شاء الله تعالى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} صلاح الأعمال في إخلاصها فالعمل الصالح هو ما أريد به وجه الله تعالى وينتظم جميع أنواعه من الصلاة والزكاة وغيرهما {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} أي : أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} أي : مقيمين في الجنة إلى الأبد فنصب أبدا على الظرفية وهو لاستغراق المستقبل.
قال الحدادي : إنما ذكر الطاعة مع الإيمان وجمع بينهما فقال : آمنوا وعملوا الصالحات ليتبين بطلان توهم من يتوهم أنه لا تضر المعصية والإخلال بالطاعة مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وليتبين استحقاق الثواب على كل واحد من الأمرين {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي : وعد الله لهم هذا وعداً وحق ذلك حقاً فالأول مؤكد لنفسه لأنه مضمون الجملة الإسمية التي قبل وعد لأن الوعد عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها والثاني مؤكد لغيره لأن الخبر من حيث أنه خبر يحتمل الصدق والكذب {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} استفهام إنكاري أي ليس أحد أصدق من الله قولاً ووعداً وأنه تعالى أصدق من كل قائل فوعده أولى بالقبول ووعد الشيطان تخييل محض ممتنع الوصول.
وقيلاً نصب على التمييز والقيل والقال مصدران كالقول {لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ} جمع أمنية بالفارسية "آرزو كردن" {وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِ} أي : ليس ما وعد الله من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما يحصل بالإيمان والعمل الصالح.
وأماني المسلمين : أن يغفر لهم جميع ذنوبهم من الصغائر والكبائر ولا يؤاخذوا بسوء بعد الإيمان.
وأماني أهل الكتاب أن لا يعذبهم الله ولا يدخلهم النار إلا أياماً معدودة لقولهم {نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ} (المائدة : 18) فلا يعذبنا.
وعن الحسن "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل" إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل.
قال بعضهم : الرجاء
290
(2/231)
ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية والأمنية منية أي موت إذ هي موجبة لتعطيل فوائد الحياة ، قال السعدي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 290
قيامت كه بازار نيهو نهند
منازل بأعمال نيكو نهند
بضاعت بندانكه آرى برى
اكر مفلسي شرمساري بري
كسى راكه حسن عمل بيشتر
بدركاه حق منزلت يشتر
ثم إنه تعالى أكد حكم الجملة الماضية وقال : {مَن يَعْمَلْ سُواءًا} عملاً قبيحاً {يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أو آجلاً لما روي أنه لما نزلت قال أبو بكر رضي الله عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال عليه السلام : "أما تحزن أما تمرض أما يصيبك اللاواء" قال : بلى يا رسول الله قال : "هو ذلك" قال أبو هريرة رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى : {مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِهِ} بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء قال : "أما والذي نفسي بيده لكما أنزلت ولكن يسروا وقاربوا وسددوا" أي : اقصدوا السداد أو الصواب "ولا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي ذلك بكم إلى الملال فتتركوا العمل" كذا في "المقاصد الحسنة" {وَلا يَجِدْ لَه مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي : ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ} من للتبعيض أي : بعضها وشيئاً منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة وتسقط عنه الصلاة في بعض الأحوال {مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور لأنه لا اعتداد بالعمل بدون الإيمان فيه فأولئك المؤمنون العاملون {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي : لا ينقصون مما استحقوه من جزاء أعمالهم مقدار النقير وهي النقرة أي الحفرة التي في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة وهو علم في القلة والحقارة وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالحرى أن لا يزاد عقاب العاصي لأن المجازي أرحم الراحمين وفي الحديث : "إن الله وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره" أي : سيآته على حسناته.
قال النيسابوري حكمة تضعيف الحسنات لئلا يفلس العبد إذا اجتمع الخصماء في طاعته فيدفع إليهم واحدة ويبقى له تسع فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من أصل حسناته لأن التضعيف فضل من الله تعالى وأصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة.
وقد ذكر الإمام البيهقي في كتاب البعث فقال : إن التضعيفات فضل من الله تعالى لا تتعلق بها العباد كما لا تتعلق بالصوم بل يدخرها الحق للعبد فضلاً منه سبحانه فإذا دخل الجنة أثابه بها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 290
قال السعدي قدس سره :
نكوكاري ازمردم نيك رأى
يكى رابده مى نويسد خداي
جوانا ره طاعت امروز كير
كه فردا جواني نيايد زير
ره خير بازست وطاعت وليك
نه هركس تواناست بر فعل نيك
همه برك بودن همي ساختي
بتدبير رفتن نرداختي
291
واعلم أن جميع الأعمال الصالحة يزيد في نور الإيمان فعليك بالطاعات والحسنات والوصول إلى المعارف الإلهية فإن العلم بالله أفضل الأعمال ولذلك لما قيل : يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال : "العلم بالله" فقيل الأعمال نريد؟ قال : "العلم بالله" فقيل : نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال : "إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل" وذلك إنما يحصل بتصفية الباطن مع صيقل التوحيد وأنواع الأذكار ولا يعقلها إلا العالمون.
(2/232)
والإشارة {لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ} يعني : بأماني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم والله تعالى يقول : {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} {وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِ} يعني : العلماء السوء الذين يغرون الخلق بالرجاء المذموم ويقطعون عليهم طريق الطلب والجد والاجتهاد {مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِهِ} في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه بعد الذنب كما قال عليه السلام : "إذا أذنب عبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل" {وَلا يَجِدْ لَه مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة بالتوبة {وَلا نَصِيرًا} سوى الله ينصره بالظفر على النفس الأمارة فيزكيها عن صفاتها وعلى الشيطان فيدفع شره وكيده {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ} أي : الخالصات {مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} يشير بالذكر إلى القلب وبالأنثى إلى النفس {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مخلص في تلك الأعمال {فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} المعنى : أن القلب إذا عمل بما وجب عليه من التوجه إلى العالم العلوي والإعراض عن العالم السفلي وغض البصر عن سوى الحق يستوجب دخول جنة القربة والوصلة والنفس إذا عملت بما وجب عليها من الانتهاء عن هواها وترك حظوظها وأداء حقوق الله تعالى في العبودية واطمأنت بها تستحق الرجوع إلى ربها والدخول في جنة عالم الأرواح كما قال تعالى : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} فيما قدر لهم الله من الأعمال الصالحات ولا من الدرجات والقربات فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعني في خدمته من غير أن يتمنى نعمته وأن بينهما بوناً بعيداً من أعلى مراتب القرب إلى أسفل سافلين البعد كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 290
{وَمَنْ} استفهام إنكاري {أَحْسَنُ دِينًا} الدين والملة متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار فإن الشريعة من حيث أنها يطاع لها دين ومن حيث أنها تملي وتكتب ملة والإملال بمعنى الإملاء {مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي : جعل نفسه وذاته سالمة خالصةتعالى بأن لم يجعل لأحد حقاً فيها لا من جهة الخالقية والمالكية ولا من جهة العبودية والتعظيم.
وقوله ديناً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه أحسن من دين من أسلم الخ فالتفضيل في الحقيقة جاربين الدينين لا بين صاحبيهما {وَهُوَ مُحْسِنٌ} الجملة حال من فاعل اسم أي : والحال أنه آتتٍ بالحسنات تارك للسيآت وقد فسره النبي عليه السلام بقوله : "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" والإحسان حقيقة الإيمان.
واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين : الاعتقاد والعمل فالله سبحانه أشار إلى الأول بقوله : {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} وإلى الثاني بقوله : {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي : في الانقياد لربه بأن يكون آتياً بجميع ما كلفه به على وجه الإجلال والخشوع.
{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الموافقة لدين الإسلام المتفق على
292
صحتها وقبولها بين الأديان كلها بخلاف ملة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام {حَنِيفًا} حال من فاعل اتبع أي : مائلاً عن الأديان الزائغة ثم إن الله تعالى رغب في اتباع ملته فقال : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} أي : اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} كأنه قيل : لِمَ خص الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالخلة وله عباد مكرمون؟ فأجاب بأن جميع ما في السموات وما في الأرض من الموجودات له تعالى خلقاً وملكاً يختار منها ما يشاء ومن يشاء {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا} إحاطة علم وقدرة فكل واحد من علمه وقدرته محيط بجميع ما يكون داخلاً فيهما وما يكون خارجاً عنهما ومغايراً لهما مما لا نهاية له من الصدورات الخارجة عن هذه السموات والأرضين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 292(2/233)
ـ روي ـ أن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله : لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت ولكن يريد للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملأوا منها الغرائر حياء من الناس فلما أخبروا إبراهيم ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام فقامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت حواري واختبزت فاستيقظ إبراهيم فاشتم رائحة الخبز فقال : من أين هذا لكم؟ فقالت : من خليلك المصري فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله خليلاً.
وفي الخبر تعجب الملائكة من كثرة ماله وخدمه وكان له خمسة آلاف قطيع من الغنم وعليها كلاب المواشي بأطواق الذهب فتمثل له ملك في صورة البشر وهو ينظر أغنامه في البيداء فقال الملك : سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح فقال إبراهيم عليه السلام كرر ذكر ربي ولك نصف ما ترى من أموالي فكرر الملك فنادى ثانياً كرر تسبيح ربي ولك جميع ما ترى من مالي فتعجب الملائكة فقالوا : جدير أن يتخذك الله خليلاً فعلى هذا إنما سمي الخليل خليلاً على لسان الملائكة.
قال القاضي في الشفاء الخلة هنا أقوى من النبوة لأن النبوة قد يكون فيها العداوة كما قال تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَـادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ} (التغابن : 14) ولا يصح أن تكون عداوة مع خلة ومن شرط الخلة استسلام العبد في عموم أحوالهبالله وأن لا يدخر شيئاً مع الله لا من ماله وجسده ولا من نفسه ولا من روحه وخلده ولا من أهل وولده وهكذا كان حال إبراهيم عليه السلام.
جانكه نه قربانى جانان بود
جيفه تن بهترازان جان بود
هركه نه شد كشته بشمشير دوست
لاشه مردار به ازجان اوست
ومن شرط المحبة فناء المحب في المحبة وبقاؤه في المحبوب حتى لم تبققِ المحبة من المحب إلا الحبيب وهذا حال محمد صلى الله عليه وسلّم قيل لمجنون بني عامر : ما اسمك قال : ليلى.
قال شيخي وسندي ومن هو بمنزلة روحي في جسدي في كتاب "اللائحات البرقيات" : إن الخلة والمحبة الإلهية الأحدية تجلبت لنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بحقيقتها ولإبراهيم عليه السلام بصورتها ولغيرهما بخصوصياتها الجزئيات بحسب قابلياتهم ونبينا عليه السلام في مقام الخلة والمحبة بمنزلة المرتبة الأحدية الذاتية وإبراهيم عليه الصلاة والسلام بمنزلة المرتبة الواحدية
293
الصفاتية وغيرهما بمنزلة المرتبة الواحدية الأفعالية وإلى هذه المقامات والمراتب إشارة في البسملة على هذا الترتيب ونبينا محمد صلى الله عليه وسلّم خليل الله وحبيبه بالفعل وإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وحبيبه بالفعل وغيرهما من الأنبياء عليه السلام أخلاء الرحيم وأحباؤه بالفعل انتهى كلام الشيخ العلامة أبقاه الله بالسلامة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 292
واعلم أنه عليه السلام قال : "إن الله اتخذني خليلاً ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً" يعني : لو جاز لي أن أتخذ صديقاً من الخلق يقف على سري لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن لا يطلع على سري إلا الله ووجه تخصيصه بذلك أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ كان أقرب بسر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما روي أنه عليه السلام قال : "إن أبا بكر لم يفضل عليكم بصوم ولا صلاة ولكن بشيء كتب في قلبه" وانفهم من عدم اتخاذه عليه السلام أحداً خليلاً انفصاله عما سوى الله تعالى فكل الكائنات متصل به وهو غير متصل بشيء أصلاً سوى الله سبحانه وتعالى اللهم ارزقنا شفاعته.
قال الشيخ السعدي في نعته الشريف :
شبى برنسشت ازفلك در كذشت
بتمكين جاه از ملك در كذشت
نان كرم درتيه قربت براند
كه در سدره جبريل ازوبازماند
فهذا انفصاله عن العلويات والسفليات ووصوله إلى حضرة الذات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 292
(2/234)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي يطلبون منك الفتوى واشتقاق الفتوى من الفتى وهو الشاب القوي الحدث لأنها جواب في حادثة وإحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل {فِى} حق توريث {النِّسَآءِ} إذ سبب نزولها أن عيينة بن حصين أتى النبي عليه السلام فقال : أخبرنا أنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال عليه السلام : "كذلك أمرت" {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} يبين لكم حكمه في حقهن والافتاء تبيين المبهم وتوضيح المشكل {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ} عطف على اسم الله أي : يفتيكم الله وكلامه فيكون الافتاء مسنداً إلى الله وإلى ما في القرآن من قوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ} في أوائل هذه السورة ونحوه والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين بالاعتبارين كما يقال أغناني زيد وعطاؤه فإن المسند إليه في الحقيقة شيء واحد وهو المعطوف عليه إلا أنه عطف عليه شيء من أحواله للدلالة على أن الفعل إنما قام بذلك الفاعل باعتبار اتصافه بتلك الحال {فِى} شأن {يَتَـامَى النِّسَآءِ} متعلق بيتلى كما أن في الكتاب متعلق به أيضاً والإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه {الَّـاتِى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي : فرض لهن من الميراث وغيره {وَتَرْغَبُونَ} عطف على لا تؤتونهن عطف جملة مثبتة على جملة منفية {أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي : في نكاحهن لجمالهن وما لهن وترغبون عن نكاحهن أي : تعرضون لقبحهن وفقرهن فإن كانت اليتيمة جميلة موسرة رغب وليها في تزوجها وإلا رغب عنها وما يتلى في حقوقهن قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 294
{وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء : 2) وقوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوهَآ} (النساء : 2) ونحوها من النصوص الدالة على عدم التعرض لأموالهم في {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال القوامين بالأمور في
294
{وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى} في أموالهم وحقوقهم {بِالْقِسْطِ} أي : العدل وهو أيضاً عطف على يتامى النساء وما يتلى في حقهم قوله تعالى : {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِا وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (النساء : 2) ونحو ذلك {وَمَآ} شرطية {تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} على الإطلاق سواء كان في حقوق المذكورين أو غيرهم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِه عَلِيمًا} فيجازيكم بحسبه.
فعلى العاقل أن يطيع الله تعالى فيما أمر ولا يأكل مال الغير بل يجتهد في أن ينفق ما قدر عليه على اليتامى والمساكين.
قال حاتم الأصم : من ادعى ثلاثاً بغير ثلاث فهو كذاب.
من ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب.
ومن ادعى محبة الله من غير ورع عن محارم الله فهو كذاب.
ومن ادعى محبة النبي عليه السلام من غير محبة الفقراء فهو كذاب وفي قوله تعالى : {وَمَا تَفْعَلُوا} حث على فعل الخير وترغيب.
ـ حكي ـ أن امرأة جاءت إلى حانوت أبي حنيفة تريد شراء ثوب فأخرج أبو حنيفة ثوباً جديداً قيمته أربعمائة درهم فقالت المرأة : إني امرأة ضعيفة ولي بنت أريد تسليمها إلى زوجها فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك فقال أبو حنيفة : خذيه بأربعة دراهم فقالت المرأة : لِمَ تسخر بي؟ فقال أبو حنيفة معاذ الله أن أكون من الساخرين ولكني كنت اشتريت ثوبين فبعت أحدهما برأس المال الذي نقدت في الثوبين إلا أربعة دراهم فبقي هذا علي بأربعة دراهم فأخذت المرأة الثوب بأربعة دراهم ورجعت مستبشرة فرحة ، قال السعدي قدس سره :
بكير اي جوان دست درويش ير
نه خودرا بيكفن كه دستم بكير
كسى نيك بودي بهر دو سراي
كه نيكي رساند بخلق خداي
واعلم أن النفس بمثابة المرأة لزوجها الروح فكما أوجب الله على الرجال من الحقوق للنساء فكذلك أوجب على العبد الطالب الصادق من الحقوق للنفس كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر حين جاهد نفسه بالليل بالقيام وبالنهار بالصيام "إن لنفسك عليك حقاً فصم وأفطر وقم ونم" والرياضة الشديدة تقطع عن السير قال عليه السلام : "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" يريد لا تحملوا على أنفسكم ولا تكلفوها ما لا تطيق فتعجز فتترك الدين والعمل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 294
اسب تازي دوتك همي ماند
شتر آهسته ميرود شب وروزي
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتوسط في إعطاء نفسه حقها ويعدل فيها غاية العدل فيصوم ويفطر ويقوم وينام وينكح النساء ويأكل في بعض الأحيان ما يجد كالحلوى والعسل والدجاج وتارة يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع.
فيا أيها الغافل تنبه لرحيلك ومسراك واحذر أن تسكن إلى موافقة هواك انتقل إلى الصلاح قبل أن تنقل وحاسب نفسك على ما تقول وتفعل فإن الله سبحانه بكل شيء عليم وبكل شيء محيط فإياك من الإفراط والتفريط.
(2/235)
جزء : 2 رقم الصفحة : 294
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنا بَعْلِهَا} امرأة فاعل فعل يفسره الظاهر أي إن خافت امرأة خافت وتوقعت من زوجها {نُشُوزًا} تجافياً عنها وترفعا من صحبتها كراهة لها ومنعاً لحقوقها من النشز وهو ما ارتفع من الأرض فنشوز كل واحد من الزوجين كراهته صاحبه وترفعه عليه لعدم رضاه به {أَوْ إِعْرَاضًا} بأن يقل مجالستها ومحادثتها وذلك لبعض الأسباب من طعن في سن أو دمامة أو شين في خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو غير ذلك.
قال الإمام المراد
295
بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما والمراد بالإعراض السكوت عن الخير والشر والمراعاة والإيذاء.
ـ روي ـ أن الآية نزلت في خويلة ابنة محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم واشتكت إليه ذلك {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} حينئذٍ {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أي : في أن يصلحا بينهما إصلاحاً بأن تحط له المهر أو بعضه أو القسم كما فعلت سودة رضي الله عنها وكانت كبيرة مسنة وذلك أن أم المؤمنين سودة ابنة زمعة التمست من رسول الله حين أراد عليه السلام أن يطلقها أن يمسكها وتجعل نوبتها لعائشة رضي الله عنها لما عرفت مكان عائشة من قلبه عليه السلام فأجازه النبي عليه السلام ولم يطلقها وكان عليه السلام بعد هذا الصلح يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
قال الحدادي : مثل هذا الصلح لا يقع لازماً لأنها إذا أبت بعد ذلك إلا المقاسمة على السواء كان لها ذلك {وَالصُّلْحُ} الواقع بين الزوجين {خَيْرٍ} أي : من الفرقة أو من سوء العشرة أو من الخصومة.
فاللام للعهد ويجوز أن لا يراد به التفضيل بل بيان أنه خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور فاللام للجنس.
قال السيوطي في "حسن المحاضرة في أحوال مصر والقاهرة" : إن شئت أن تصير من الأبدال فحول خلقك إلى بعض خلق الأطفال ففيهم خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالاً لا يهتمون للرزق ولا يشكون من خالقهم إذا مرضوا ويأكلون الطعام مجتمعين وإذا خافوا جرت عيونهم بالدموع وإذا تخاصموا لم يتجاوزوا وتسارعوا إلى الصلح ونعم ما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 295
ابلهست آنكه فعل اوست لجاج
ابلهي را كجا علاج بود
تاتواني لجاج يشه مكير
كافت دوستي لجاج بود
{وَأُحْضِرَتِ الانفُسُ الشُّحَّ} أي : جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبداً فلا المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يجود بحسن المعاشرة مع دمامتها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجالستها وأصل الكلام أحضر الله الأنفس الشح فلما بنى للمفعول أقيم مفعوله الأول مقام الفاعل والشح البخل مع حرص فهو أخص من البخل
وعن عبد الله بن وهب عن الليث قال : بلغني أن إبليس لقي نوحاً فقال له إبليس : يا نوح اتق الحسد والشح فإني حسدت آدم فخرجت من الجنة وشح آدم على شجرة واحدة منعها حتى خرج من الجنة.
ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام إبليس في صورته فقال له : أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال : أحب الناس إليّ المؤمن البخيل وأبغضهم إليّ الفاسق السخي قال يحيى : وكيف ذلك؟ قال : لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله ثم ولى وهو يقول : لولا أنك يحيى لم أخبرك كذا في "آكام المرجان" {وَإِن تُحْسِنُوا} أيها الأزواج بإمساكهن بالمعروف وحسن المعاشرة مع عدم موافقتهن لطباعكم {وَتَتَّقُوا} ظلمهن بالنشوز والإعراض ولم تضطروهن إلى بذل شيء من حقوقهن.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإحسان والتقوى {خَبِيرًا} عليماً به وبالغرض فيه فيجازيكم ويثيبكم عليه البتة لاستحالة أن يضيع أجر المحسنين.
ـ روي ـ أن رجلاً من بني آدم كانت له امرأة من أجملهم فنظرت إليه يوماً فقالت : الحمد لله قال :
296
زوجها ما لك؟ فقالت : حمدت الله على أني وأنك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله بالجنة للصابرين والشاكرين ، قال السعدي قدس سره :
و مستوره شدزن خوب روى
بديدار او بدر بهشتست شوى
اكر ارسا باشذ وخوش سخن
نكه در نكويى وزشتى مكن
جزء : 2 رقم الصفحة : 295
(2/236)
{وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ} أي محال أن تقدروا على أن تعدلوا وتسووا بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشؤون البتة ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" وأراد به التسوية في المحبة وكان له فرط محبة لعائشة رضي الله عنها {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي : على إقامة العدل وبالغتم في ذلك {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} أي : فلا تجوروا على المرأة المرغوب عنها كل الجور واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل إنما يصح عدم تكليفكم به لا بما دونه من المراتب الداخلة تحت استطاعتكم وما لا يدرك كله لا يترك كله وفي الحديث "استقيموا ولن تحصوا" أي لن تستطيعوا أن تستقيموا في كل شيء حتى لا تميلوا {فَتَذَرُوهَا} مجزوم عطف على الفعل قبله أي فلا تتركوا التي ملتم عنها حال كونها {كَالْمُعَلَّقَةِ} وهي المرأة التي لا تكون أيما فتزوج ولا ذات بعل يحسن عشرتها كالشيء المعلق الذي لا يكون في الأرض ولا في السماء وفي الحديث "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" وكان لمعاذ رضي الله عنه امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد {وَإِن تُصْلِحُوا} ما كنتم تفسدون من أمورهن {وَتَتَّقُوا} الميل فيما يستقبل {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} يغفر لكم ما مضى من ميلكم {رَّحِيمًا} يتفضل عليكم برحمته {وَإِن يَتَفَرَّقَا} أي : وأن يفارق كل واحد منهما صاحبه بأن لم يتفق بينهما وفاق بوجه ما من الصلح أو غيره {يُغْنِ اللَّهُ كُلا} منهما أي : يجعله مستغنياً عن الآخر ويكفه مهماته {مِّن سَعَتِهِ} من غناه وقدرته وفيه زجر لهما عن مفارقة أحدهما رغماً لصاحبه {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أي : مقتدراً متقناً في أفعاله وأحكامه وله حكمة بالغة فيما يحكم من الفرقة يجعل لكل واحد منهما من يسكن إليه فيتسلى به عن الأول وتزول حرارة محبته عن قلبه وينكشف عنه هم عشقه فعلى المؤمن ترك حظ النفس والدور مع الأمر الإلهي في جملة أموره وأحكامه والعمل في حق النساء بقوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 295
{فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ} (البقرة : 229) والميل إلى جانب العدل والإعراض عن طرف الظلم والاستحلال قبل أن يجيء يوم لا بيع فيه ولا خلال.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق لليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على ابنها أو أخيها أو على أبيها أو على زوجها ثم قرأ ابن مسعود رضي الله عنه {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ} (المؤمنون : 101) فيقول الرب تعالى للعبد آت هؤلاء حقوقهم فيقول رب لست في الدنيا فمن أين أوتيهم؟ فيقول للملائكة خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان منهم بقدر طلبته فإن كان ولياًفضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خير ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ
297
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍا وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 40) وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة : رب فنيت حسناته وبقي الطالبون فيقول للملائكة خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيآته وصكوا له صكاً إلى النار فلا بد من التوبة والاستغفار والرجوع إلى الملك الغفار والمجاملة في المعاملة مع الأخيار والأشرار ودفع الأذى عن أهل الإنكار والإقرار.
(2/237)
ـ حكي ـ أن أبا منصور بن ذكير كان رجلاً زاهداً صالحاً فلما دنت وفاته أكثر البكاء فقيل له : لِمَ تبكي عند الموت؟ قال : أسلك طريقاً لم أسلكه قط فلما توفي رآه ابنه في المنام في الليلة الرابعة فقال : يا أبت ما فعل الله بك؟ فقال : يا بني أن الأمر أصعب مما تعد أي تظن لقيت ملكاً عادلاً أعدل العادلين ورأيت خصماء مناقشين فقال لي ربي : يا أبا منصور قد عمرتك سبعين سنة فما معك اليوم؟ فقلت : يا ربي حججت ثلاثين حجة فقال الله تعالى : لم أقبل منك فقلت : يا رب تصدقت بأربعين ألف درهم بيدي فقال : لم أقبل منك فقلت : ستون سنة صمت نهارها وقمت ليلها فقال : لم أقبل منك فقلت : إلهي غزوت أربعين غزوة فقال : لم أقبل منك فقلت : إذا قد هلكت فقال الله تعالى ليس من كرمي أن أعذب مثل هذا يا أبا منصور أما تذكر اليوم الفلاني نحيت الذرة عن الطريق كيلا يعثر بها مسلم فإني قد رحمتك بذلك فإني لا أضيع أجر المحسنين فظهر من هذه الحكاية أن دفع الأذى عن الطريق إذا كان سبباً للرحمة والمغفرة فلأن يكون دفع الأذى عن الناس نافعاً للدافع يوم الحشر خصوصاً عدم الأذية للمؤمنين وخصوصاً للأهل والعيال والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده اللهم اجعلنا من النافعين لا من الضارين آمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 295
{وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} أي : من الموجودات كائناً ما كان من الخلائق أرزاقهم وغير ذلك.
قال الشيخ نجم الدين قدس سره : {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ} من الدرجات العلى وجنات المأوى والفردوس الأعلى {مَا عَلَى الأرْضِ} من نعيم الدنيا وزينتها وزخارفها والله مستغن عنها وإنما خلقها لعباده الصالحين كما قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} (الجاثية : 13) وخلق العباد لنفسه كما قال : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} (طه : 41) {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} أي بالله قد أمرناهم في كتابهم وهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم.
واللام في الكتاب للجنس يتناول الكتب السماوية ومن متعلقة بوصينا أو بأوتوا {وَإِيَّاكُمْ} عطف على الذين أي وصيناكم يا أمة محمد في كتابكم {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} أي : بأن اتقوا الله فإن مصدرية حذف منها حرف الجر أي أمرناهم وإياكم بالتقوى قلنا لهم ولكم {وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} أي : فإن الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم وإنما وصاكم لرحمته لا لحاجته ثم قرر ذلك بقوله : {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} أي : عن الحق وعبادتهم لا تعلق له بغيره تعالى لا في ذاته ولا في صفاته بل هو منزه عن العلاقة مع الأغيار
جزء : 2 رقم الصفحة : 298
{حَمِيدًا} محموداً في ذاته حمدوه أو لم يحمده.
قال الغزالي في "شرح الأسماء الحسنى" : والله تعالى هو الحميد لحمده لنفسه أزلاً ولحمد عباده له أبداً ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلو والكمال منسوباً إلى ذكر الذاكرين له فإن الحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال والحميد من العباد من حمدت عقائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية وذلك هو محمد صلى الله عليه وسلّم ومن يقرب منه من الأنبياء ومن عداهم من
298
(2/238)
الأولياء والعلماء كل واحد منهم حميد بقدر ما يحمد من عقائده وأخلاقه وأعماله وأقواله {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} ذكره ثالثاً للدلالة على كونه غنياً فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه وبما فاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميداً فلا تكرار فإن كل واحد من هذه الألفاظ مقرون بفائدة جديدة {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} في تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} أي : يفنكم ويستأصلكم بالمرة {إِن يَشَأْ} أي : يوجد دفعة مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكان الأنس ومفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء أي إن : يشأ إفناءكم وإيجاد آخرين يذهبكم يعني : أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ففيه تهديد للعصاة {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَالِكَ} أي : إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم {قَدِيرًا} بليغ القدر لا يعجزه مراد فأطيعوه فلا تعصوه واتقوا عقابه.
والآية تدل على كمال قدرته وصبوريته حيث لا يؤاخذ العصاة على العجلة وفي الحديث : "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم" يعني : يقول بعض عباد الله وإمائه إن له شريكاً في ملكه وينسب له ولداً ثم الله تعالى يعطيهم من أنواع النعم العافية والرزق وغيرهما فهذا كرمه ومعاملته مع من يؤذيه فما ظنك بمعاملته مع من يتحمل الأذى منه ويثني؟ عليه ثم أن تأخير العقوبة يتضمن لحكم منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر وفي الحديث "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها".
قال الشيخ الكلاباذي : بسط اليد كناية عن الجود يعني يجود الله لمسيىء الليل ولمسيىء النهار بالإمهال ليتوب كما روي أنه عليه السلام قال : "صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال وإذا عمل العبد حسنة كتب له عشر أمثالها وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات من النهار فإن استغفر لم يكتب عليه وإن لم يستغفر كتب سيئة واحدة" انتهى كلامه.
قال الصائب :
جزء : 2 رقم الصفحة : 298
بر غفلت سياه دلان خنده ميزنند
غافل مشو زخنده دندان نماى صبح
يقال : من لم ينزجر بزواجر القرآن ولم يرغب في الطاعات فهذا أشد قسوة من الحجارة وأسوء حالاً من الجمادات فإن دعوة الله عباده بكتبه على لسان الأنبياء لئلا يغتروا بزخارف الدنيا الدنية ويترقوا من حضيض الحظوظ النفسانية إلى معارج الدرجات العلى ولقد وصاك الله تعالى بالتقوى فعليك بالأخذ بالوصية فإن التقوى كنز عزيز فلئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف وخير كثير فإنه جامع الخير كله.
قال ابن عطاء للتقوى ظاهر وباطن فظاهرها حفظ حدود الشرع وباطنها الإخلاص في النية وحقيقة التقوى الإعراض عن الدنيا والعقبى والإقبال والتوجه إلى الحضرة العليا فمن وصل إليه فقد صار حراً عن رقية الكونين وعبد الله تعالى.
قال الحافظ قدس سره :
زير بارند درختان كه تعلق دارند
اي خوشا سروكه ازبار غم آزاد آمد
299
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} كالمجاهد يريد بمجاهدته الغنيمة {فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} أي : فعنده تعالى ثوابهما له إن أراده فماله يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة أو ليطلب الأشرف منهما فإن من جاهد خالصاً لوجه الله تعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء أي فعند الله ثواب الدارين فيعطي كلاً ما يريده كقوله تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} (الشورى : 20) عالماً بجميع المسموعات والمبصرات عارفاً بالأغراض أي : يعرف من كلامهم ما يدل على أنهم ما يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ومن أفعالهم ما يدل على أنهم لا يسعون في الجهاد إلا عند توقع الفوز بالغنيمة.
قال الحدادي : في الآية تهديد للمنافقين المرائين وفي الحديث : "إن في النار وادياً تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة أعد للقراء المرائين".
قال السعدي قدس سره :
نكو سيرتى بى تكلف برون
به ازنيك نام خراب اندرون
هرآنكه افكند تخم برروى سنك
جوى وقت دخلش نيايد بنك(2/239)
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه "لما خلق الله تعالى جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها : تكلمي فقالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً ثم قالت : إني حرام على كل بخيل مراء" فينبغي للمؤمن أن يحترز من الرياء ويسعى في تحصيل الإخلاص في العمل وهو أن لا يريد بعمله سوى الله تعالى قال بعضهم دخلت على سهل بن عبد الله يوم الجمعة قبل الصلاة فرأيت في البيت حية فجعلت أقدّم رجلاً وأؤخر أخرى فقال سهل : أدخل لا يبلغ أحد حقيقة الإخلاص وعلى وجه الأرض شيء يخافه ثم قال : هل لك حاجة في صلاة الجمعة؟ فقلت : بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة فأخذ بيدي فما كان قليلاً حتى رأيت المسجد فدخلنا وصلينا الجمعة ثم خرجنا فوقف ينظر إلى الناس وهم يخرجون فقال أهل لا إله إلا الله كثير والمخلصون منهم قليل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 298
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زيمغز وست
فالمخلص في عمله لا يقبل عوضاً ولو أعطى له الدنيا وما فيها.
ـ حكاية ـ (آورده اندكه جوانمردي غلام خويش را كفت سخاوت آن نيست صدقه بكسى دهند كه اورابشناسند صد دينار بستان وببازار ببر وأول درويشي كه بيني بوى ده غلام ببازار رفت يرى ديدكه حلاق سراو مى تراشيد زر بوى داد ير كفت كه من نيت كرده ام كه هره مرا فتوح شود بوى دهم وحلاق را كفت بستان حلاق كفت من نيت كرده ام سراورا از براي خدا بتراشم اجر خود از حق تعالى بصد دينار نمى فروشم وهي كس نستادند غلام باز كشت وزرباز آورد) كذا في "أنيس الوحدة وجليس الخلوة".
جزء : 2 رقم الصفحة : 298
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ} مبالغين في العدل وإقامة القسط في جميع الأمور مجتهدين في ذلك حق الاجتهاد {شُهَدَآءَ} بالحق تقيمون شهاداتكم بوجه الله تعالى كما أمرتم بإقامتها وهو خبر
300
ثان {وَلَوْ} كانت الشهادة {عَلَى أَنفُسِكُمْ} بأن تقروا عليها لأن الشهادة على النفس إقرار على أن الشهادة عبارة عن الإخبار بحق الغير سواء كان ذلك عليه أو على ثالث أو بأن تكون الشهادة مستتبعة لضرر ينالكم من جهة المشهود عليه بأن يكون سلطاناً ظالماً أو غيره {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ} أي : ولو كانت على والديكم وأقاربكم بأن تقروا وتقولوا مثلاً أشهد أن لفلان على والدي كذا أو على أقاربي أو بأن تكون الشهادة وبالاً عليهم على ما مر آنفاً وفي هذا بيان أن شهادة الابن على الوالدين لا تكون عقوقاً ولا يحل للابن الامتناع عن الشهادة على أبويه لأن في الشهادة عليهما بالحق منعاً لهما من الظلم وأما شهادته لهما وبالعكس فلا تقبل لأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم فتكون شهادة أحدهما شهادة لنفسه أو لتمكن التهمة {إِن يَكُنْ} أي : المشهود عليه {غَنِيًّا} ينبغي في العادة رضاه ويتقي سخطه {أَوْ فَقِيرًا} يترحم عليه غالباً وجواب الشرط محذوف لدلالة قوله تعالى : {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} عليه أي : فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة طلباً لرضى الغني أو ترحماً على الفقير فإن الله تعالى أولى بجنسي الغني والفقير بالنظر لهما ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها وفي الحديث "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل : يا رسول الله كيف ينصره ظالما قال : "أن يرده عن ظلمه" فإن ذلك نصره معنى ومنع الظالم عن ظلمه عون له على مصلحة دينه ولذا سمي نصراً ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 300
بكمراه كفتن نكو ميروى
كناه بزركست وجور قوى
بكوى آنه داني سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد بسند
(2/240)
{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} يحتمل العدل والعدول أي فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس أو إرادة أن تعدلوا عن الحق {وَإِن تَلْوُا} ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل بأن تأتوا بها لا على وجهها ليّ الشيء فتله وتحريفه ولي الشهادة تبديلها وعدم أدائها على ما شاهده بأن يميل فيها إلى أحد الخصمين {أَوْ تُعْرِضُوا} أي : عن أدائها وإقامتها رأساً فالإعراض عنها كتمها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من ليّ الألسنة والإعراض بالكلية {خَبِيرًا} فيجازيكم لا محالة عن ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالآية القاضي يتقدم عليه الخصمان فيعرض عن أحدهما أو يدافع في إمضاء الحق أو لا يسوي بينهما في المجلس والنظر والإشارة ولا يمتنع أن يكون المراد بالآية القاضي والشاهد وعامة الناس فإن اللفظ محتمل للجميع.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال عند نزول هذه الآية "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقاً هو عليه وليؤده فوراً ولا يلجئه إلى سلطان وخصومة ليقطع بها حقه وأيما رجل خاصم إلي فقضيت له على أخيه بحق ليس عليه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من نار جهنم" كذا في "تفسير الحدادي".
قال في "الأشباه" أي شاهد جاز له الكتمان؟ فقل : إذا كان الحق يقوم بغيره أو كان القاضي فاسقاً أو كان يعلم أنه لا يقبل انتهى.
قال الفقهاء : وستر الشهادة في الحدود أفضل من أدائها لقوله عليه السلام للذي شهد عنده في الحد "لو سترته بثوبك
301
لكان خيراً لك" وقوله عليه السلام : "من ستر على مسلم عيباً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وقال عليه السلام : "ما من امرىء ينصر مسلماً في موضع ينهتك فيه عرضه وتستحل حرمته إلا نصره الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته وما من امرىء خذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله تعالى في موضع يحب فيه نصرته" وقال عليه السلام : "ادرأوا الحدود ما استطعتم".
ـ يحكى ـ أن مسلماً قتل ذمياً عمداً فحكم أبو يوسف بقتل المسلم فبلغ زبيدة امرأة هارون الرشيد فبعثت إلى أبي يوسف وقالت : إياك أن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلم فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيىء بأولياء الذمي والمسلم وقال له الرشيد : احكم بقتله فقال : يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه :
جزء : 2 رقم الصفحة : 300
توروا داريكه من بي حجتي
بنهم اندر شهر باطل سنتي
وفي قوله تعالى : {شُهَدَآءَ لِلَّهِ} إشارة إلى عوام المؤمنين أن كونوا شهداء الله بالتوحيد والوحدانية بالقسط يوماً ما ولو كان في آخر نفس من عمرهم على حسب ما قدر لهم الله تعالى.
وإشارة إلى الخواص أن كونوا شهداءأي حاضرين مع الله بالفردانية.
وإشارة إلى خواص الخواص أن كونوا شهداءفي الله غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة.
وفي إشارته إلى الخواص شركة للملائكة كما قال تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إله إِلا هُوَ والملائكة وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآا ِمَا بِالْقِسْطِ} (آل عمران : 18) فأما إشارته إلى الأخص من الأنبياء وكبار الأولياء وهم أولوا العلم فمختصة بهم من سائر العالمين ولأولي العلم شركة في شهود شهد الله أنه لا إله إلا هو وليس للملائكة في هذا الشهود مدخل إلا أنهم قائمون بالقسط كذا في "التأويلات النجمية".
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} خطاب لكافة المسلمين {بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِه وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزَلَ مِن قَبْلُا وَمَن} أي : اثبتوا على الإيمان بذلك ودوموا عليه وازدادوا فيه طمأنينة ويقيناً أو آمنوا بما ذكر مفصلاً بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي.
فإن قلت : لم قيل نزل على رسوله وأنزل من قبل.
قلت : لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً بخلاف الكتب قبله فالمراد بالكتاب الأول القرآن وبالثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى : {وَكُتُبِهِ} (البقرة : 285) وبالإيمان به الإيمان بأن كل كتاب من تلك الكتب منزل منه على رسول معين لإرشاد أمته إلى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على أن يراد الإيمان بكل واحد من تلك الكتب بل خصوصية ذلك الكتاب ولا على أن أحكام تلك الكتب وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقي منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن الإيمان بالكل مندرج تحت الإيمان بالكتاب المنزل على رسوله وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة إلى ورود نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث أنها من أحكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النسخ والتبديل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 300(2/241)
وقيل : الخطاب للمنافقين كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا نفاقاً وهو ما كان بالألسنة فقط آمنوا إخلاصاً وهو ما كان بها وبالقلوب.
وقيل الخطاب لمؤمني أهل الكتاب إذ روي أن ابن سلام وأصحابه قالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت فالمعنى حينئذٍ آمنوا
302
إيماناً عاماً شاملاً يعم الكتب والرسل فإن الإيمان بالبعض كلا إيمان.
{وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وملائكته وَكُتُبِه وَرُسُلِه وَالْيَوْمِ الاخِرِ} أي : بشيء من ذلك لأن الكفر ببعضه كفر بكله ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان بهم جميعاً وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر لما أنه بالكفر بأحدها لا يتحقق الإيمان أصلاً وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلاً عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله وبين الرسل في إنزال الكتب.
{فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـا بَعِيدًا} عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه.
قالوا : أول ما يجب على المرء معرفة مولاه أي يجب على كل إنسان أن يسعى في تحصيل معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان فإن إيمان المقلد وإن كان صحيحاً عند الإمام الأعظم لكن يكون آثماً بترك النظر والاستدلال فأول الأمر هو الحجة والبرهان ثم المشاهدة والعيان ثم الفناء عن سوى الرحمان.
فمرتبة العوام في الإيمان ما قال عليه السلام : "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار والقدر خيره وشره" وهو إيمان غيبي ، وفي "المثنوي" :
بندكى درغيب آيد خوب وكش
حفظ غيب آيددر استبعاد خوش
طاعت وإيمان كنون محمود شد
بعد مرك اندر عيان مردود شد
ومرتبة الخواص في الإيمان هو إيمان عياني وكان ذلك بأن الله إذا تجلى لعبده بصفة من صفاته خضع له جميع وجوده وآمن بالكلية عياناً بعدما كان يؤمن قلبه بالغيب ونفسه تكفر بما آمن به قلبه إذا كانت النفس عن تنسم روائح الغيب بمعزل فلما تجلى الحق للجبل جعله دكاً وخر موسى النفس صعقاً فالنفس في هذا المقام تكون بمنزلة موسى فلما أفاق قال : تبت إليك وأنا أول المؤمنين.
ومرتبة الأخص في الإيمان هو إيمان عياني وذلك بعد رفع حجب الأنانية بسطوات تجلي صفة الجلال فإذا أفناه عنه بصفة الجلال يبقيه به بصفة الجمال فلم يبقَ له الأين وبقي في العين فيكون إيماناً عينياً كما كان حال النبي عليه السلام ليلة المعراج فلما بلغ قاب قوسين كان في حيزأين فلما جذبته العناية من كينونته إلى عينونة أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحي آمن الرسول بما أنزل إليه أي من صفات ربه فآمنت صفاته بصفاته تعالى وذاته بذاته فصار كل وجوده مؤمناً بالله إيماناً عينياً ذاته وصفاته فأخبر عنهم وقال : والمؤمنون كل آمن بالله يعني آمنوا بهوية وجودهم كذا في "التأويلات النجمية" هذا هو الإيمان الحقيقي رزقنا الله وإياكم إياه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 300
بود كبرى ردزمان بايزيد
كفت اورايك مسلمان سعيد
كه ه باشد كرتو اسلام آورى
تابيابى صد نجات وسرورى
كفت اين ايمان اكرهست اي مريد
آنكه دارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن
كان فزون آمدز كو ششهاى جان
كره درايمان ودين ناموقنم
ليك درايمان اوبس مومنم
مؤمن ايمان اويم در نهان
كره مهرم هست محكم بردهان
بازايمان خود كر ايمان شماست
نى بدان ميلستم ونى مشتهاست
303
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود
ون شمارا ديد زان فاترشود
زانكه نامى بيند ومعنيش نى
ون بيابانرا مفازه كفتنى
وإلى هذا التجريد والتفريد ينال العبد بالذكر والتوحيد قال عليه السلام في وصيته لعلي ـ رضي الله عنه ـ "يا علي احفظ التوحيد فإنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي وأقم الصلاة فإنها قرة عيني واذكر الحق فإنه نصرة فؤادي واستعمل العلم فإنه ميراثي" اللهم لا تحرمنا من هذا الميراث.
جزء : 2 رقم الصفحة : 300(2/242)
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} يعني : اليهود بموسى {ثُمَّ كَفَرُوا} بعبادتهم العجل {ثُمَّ ءَامَنُوا} بعد عوده إليهم {ثُمَّ كَفَرُوا} بعيسى والإنجيل {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بكفرهم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وازداد كذا يجيىء لازماً ومتعدياً يقال : ازددت مالاً أي زدته لنفسي ومنه قوله تعالى : {وَازْدَادُوا تِسْعًا} (الكهف : 25) {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ} مريداً {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أي ما داموا على كفرهم {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِي} أي ولا ليوفقهم طريقاً إلى الإسلام ولكن يخذلهم مجازاة لهم على كفرهم.
فإن قيل : إن الله لا يغفر كفر مرة فما الفائدة في قوله : {ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} .
قيل : إن الكافر إذا آمن غفر له كفره فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر له الكفر الأول وهو مطالب بجميع كفرهم {بَشِّرِ الْمُنَـافِقِينَ} وضع بشر موضع انذر وأخبر تهكماً بهم {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي : وجيعاً يخلص ألمه ووجعه إلى قلوبهم وهذا يدل على أن الآية نزلت في المنافقين وهم قد آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا بالإصرار على النفاق وإفساد الأمر على المؤمنين
جزء : 2 رقم الصفحة : 304
{الَّذِينَ} أي : هم الذين {يَتَّخِذُونَ الْكَـافِرِينَ} أي اليهود {أَوْلِيَآءَ} أحباء في العون والنصرة {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حال من فاعل يتخذون أي متجاوزين ولاية المؤمنين المخلصين وكانوا يوالونهم ويقول بعضهم لبعض لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} أي : أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة وهم أذلاء في حكم الله تعالى : {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم فإن انحصار جميع أفراد العزة في جنابه تعالى بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة وقال : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) يقتضي بطلان التعزيز بغيره سبحانه واستحالة الانتفاع به.
قوله جميعاً حال من المستكن في قوله تعالىلاعتماده على المبتدأ {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} خطاب للمنافقين بطريق الالتفات والجملة حال من فاعل يتخذون.
قال المفسرون : إن مشركي مكة كانوا يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به في مجالسهم فأنزل الله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام : 68) ثم أن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون ما فعله المشركون بمكة وكان المنافقون يقعدون معهم ويوافقونهم على ذلك الكلام الباطل فقال الله تعالى مخاطباً لهم {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} أي والحال أنه تعالى قد نزل عليكم قبل هذا بمكة.
وفيه دلالة على أن المنزل على النبي عليه السلام وإن خوطب به خاصة منزل على العامة {فِى الْكِتَـابِ} أي : القرآن الكريم.
{أَنِ} مخففة أي : أن الشان {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى} فيه دلالة على أن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم في آيات الله ولذلك يخبر عنه تارة بالرؤية وأخرى بالسماع {يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} حالان من آيات الله أي
304
جزء : 2 رقم الصفحة : 304
مكفوراً ومستهزءاً بها في محل الرفع لقيامه مقام الفاعل والأصل يكفر بها أحد ويستهزىء.
{فَلا تَقْعُدُوا} جزاء الشرط {مَعَهُمْ} أي : الكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها {حَتَّى يَخُوضُوا} الخوض بالفارسية "در حديث شدن" {فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي غير القرآن وحتى غاية للنهي والمعنى أنه تجوز مجالستهم عند خوضهم وشروعهم في غير الكفر والاستهزاء.
وفيه دلالة على أن المراد بالإعراض عنهم إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي غير داخلة تحت التنزيل وإذن ملغاة عن العمل لاعتماد ما بعدها على ما قبلها أي : لوقوعها بين المبتدأ والخبر أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقت إنكم إن فعلتموه كنتم مثلهم أي مثل اليهود في الكفر واستتباع العذاب فإن الرضى بالكفر كفر {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْكَـافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا} يعني : القاعدين والمقعود معهم وهو تعليم لكونهم مثلهم في الكفر بيانه ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب.
واعلم أن الائتلاف ههنا نتيجة تعارف الأرواح هنالك لقوله عليه السلام : "الأرواح جنود مجندة" الحديث فمن تعارف أرواح الكافر والمنافق هناك يأتلفون ههنا ومن تناكر أرواحهم وأرواح المؤمنين يختلفون ههنا.
(2/243)
ـ روت ـ عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهنّ فلما هاجرن ووسع الله تعالى دخلت المدينة قالت عائشة فدخلت عليّ فقلت لها فلانة ما أقدمك قالت : إليكن قلت : فأين نزلت قالت : على فلانة امرأة كانت تضحك بالمدينة قالت عائشة ودخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : "فلانة المضحكة عندكم" قالت عائشة قلت : نعم فقال : "فعلى من نزلت" قالت على فلانة المضحكة قال : "الحمدأن الأرواح جنود" الخ ، ونعم ما قيل :
همه مرغان كندبا جنس رواز
كبوتر باز باباز
ولما كان الابد مرآة الأزل لا يظهر فيه إلا ما قدر في الأزل لذا قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْكَـافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا} لأنهم كانوا في عالم الأرواح في صف واحد وفي الدنيا بذلك التناسب والتعارف في فن واحد وقال عليه السلام : "كما تعيشون تموتون وكما تموتون تحشرون".
جزء : 2 رقم الصفحة : 304
ففي إشارة الآية نهي لأصحاب القلوب عن المجالسة مع أرباب النفوس والموافقة في شيء من أهوائهم فإنهم إن يفعلوا ذلك يكونوا مثلهم يعني كون القلب كالنفس وصاحب القلب كصاحب النفس بالصحبة والمخالطة والمتابعة ، قال الحافظ قدس سره :
نخست موعظه ير مجلس اين حرفست
كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد
قال الحدادي في تفسيره : إذن لم يجز جلوس المؤمن معهم لإقامة فرض أو سنة أما إذا كان جلوسه لإقامة عبادة وهو ساخط لتلك الحال لا يقدر على تغييرها فلا بأس بالجلوس كما روي عن الحسن أنه حضر وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال : ما كنا متى رأينا باطلاً تركنا حقاً أشرع ذلك في ديننا ولم يرجع انتهى كلامه.
وذكر أن الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم قال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي واكلوهم وشاربوهم وإذا كان
305
الرجل مبتلى بصحبة الفجار في سفره للحج أو الغزاة لا يترك الطاعة بصحبتهم لكن يكرهه بقلبه ولا يرضى به فلعل الفاسق يتوب ببركة كراهة قلبه ومن دعى إلى ضيافة فوجد ثمة لعباً أو غناء يقعد إن كان غير قدوة ويمنع إن قدر وإن كان قدوة كالقاضي والمفتي ونحوهما يمنع ويقعد فإن عجز خرج وإن كان ذلك على المائدة أو كانوا يشربون الخمر خرج وإن لم يكن قدوة وإن علم قبل الحضور لا يحضر في الوجوه كلها كذا في "تحفة الملوك".
جزء : 2 رقم الصفحة : 304
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي : المنافقون هم الذين ينتظرون وقوع أمر لكم خيراً كان أو شراً {فَإِن كَانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون {فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ} أي ظفر ودولة وغنيمة {قَالُوا} أي لكم {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} على دينكم مظاهرين لكم فاسهموا لنا فيما غنمتم {وَإِن كَانَ لِلْكَـافِرِينَ نَصِيبٌ} أي ظهور على المسلمين {قَالُوا} أي للكفرة {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} الاستحواذ الاستيلاء أي ألم نغلبكم ونمكن من قتلكم وأسركم فابقينا عليكم أي ترحمنا {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم أو أمرجنا في جنابكم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم وإلا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا نصيباً مما أصبتم وإنما سمي ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكافرين نصيباً تعظيماً لشأن المسلمين وتخسيساً لحظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أوليائه وأما ظفر الكافرين فمقصور على أمر دنيوي سريع الزوال {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي : بين المؤمنين والمنافقين بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} أي يحكم حكماً يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب وأما في الدنيا فقد جرى على من تفوه بكلمة الإسلام حكمه ولم يضع السيف على من تكلم بها نفاقاً
جزء : 2 رقم الصفحة : 306
(2/244)
{وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أي : ظهوراً يوم القيامة كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاء والاستدراج وبيانه أن الله تعالى يظهر أثر إيمان المؤمن يوم القيامة ويصدق موعدهم ولا يشاركهم الكفار في شيء من اللذات كما شاركوهم اليوم حتى يعلموا أن الحق معهم دونهم إذ لو شاركوهم في شيء منها لقالوا للمؤمنين : ما نفعكم إيمانكم وطاعتكم شيئاً لأنا أشركنا واستوينا معكم في ثواب الآخرة وأما إن كان المعنى سبيلاً في الدنيا فيراد بالسبيل الحجة وحجة المسلمين غالبة على حجة الكل وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة وقيل : معنى السبيل الدولة الدائمة ولا دولة على الدوام للكافرين وإلا لكان الظهور والغلبة من قبلهم دائماً وليس كذلك فإن أكثر الظفر للمسلمين وإنما ينال الكفار من المؤمنين في بعض الأوقات استدراجاً ومكراً وهذا يستمر إلى انقراض أهل الإيمان في آخر الزمان.
وعن كعب قال : إذا انصرف عيسى بن مريم والمؤمنون من يأجوج ومأجوج لبثوا سنوات ثم رأوا كهيئة الرهج والغبار فإذا هي ريح قد بعثها الله لتقبض أرواح المؤمنين فتلك آخر عصابة تقبض من المؤمنين ويبقى الناس بعدهم مائة عام لا يعرفون ديناً ولا سنة يتهارجون تهارج الحمر عليهم تقوم الساعة وفي الحديث "الجهاد ماضضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال" ثم إن الله تعالى يحكم بينكم يوم القيامة ليعلم من أهل العزة والكرامة ومن أهل الغرة والندامة كما أن الشمع يحكم بين الصحيح والسقيم بإظهار حالهما إذا جيىء به في حمام مظلم قد دخله الأصحاء والمرضى ولجرحى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً فإن وبال كيدهم إليهم مصروف
306
وجزاء مكرهم عليهم موقوف والحق من قبل الحق تعالى منصور أهله والباطل بنصر الحق مخيب أصله.
وقد قيل : الباطل يفور ثم يغور.
فعلى المؤمن صرف علو الهمة في الدين وفي تحصيل علم اليقين ولا يتربص للفتوحات الدنيوية ذاهلاً عن الفتوحات الأخروية بل عن فتوحات الغيب ومشاهدة الحق فإن أهم الأمور هو الوصول إلى الرب الغفور.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : إنخواص من عباده ولو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا كما يستغيث أهل النار بالخروج من النار ولما كان موسى كليم الله طفلاً في حجر تربية الحق تعالى ما تجاوز حده ولا تعدى قصده بل قال : رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير فلما كبر وبلغ مبلغ الرجال ما رضي بطعام الأطفال بل قال : رب أرني أنظر إليك وكان غاية طلبه في طفوليته هو الطعام والشراب وكان منتهى أربه في رجوليته هو رفع الحجاب ومشاهدة الأحباب فالباب مفتوح للطلاب لا حاجب عليه ولا بواب وإنما المحجوب عن المسبب من وقف مع الأسباب والمشروب حاضر والمحروم من حرم الشراب والمحبوب ناظر والمطرود من وقف وراء الحجاب فمن أنس بسواه فهو مستوحش ومن ذكر غيره فهو غافل عنه ومن عول على سواه فهو مشرك فإذا لم يجد إليه سبيلاً وفي ظله مقيلاً ، ونعم ما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 306
تو محرم نيستي محروم ازاني
ره نا محرمان اندر حرم نيست
{إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ} أي : يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر {وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} أي الله تعالى فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب وإثم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم يعطون نوراً يوم القيامة كما للمؤمنين فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط وينطفىء نور المنافقين فينادون المؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم فتناديهم الملائكة عن الصراط ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع قال : فيخاف المؤمنون حينئذٍ أن يطفأ نورهم فيقولون : ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواةِ قَامُوا كُسَالَى} أي : متثاقلين متقاعسين كما ترى من يفعل شيئاً عن كره لا عن طيب نفس ورغبة.
قوله كسالى كأنه قيل : ما كسالى فقيل : {يُرَآءُونَ النَّاسَ} أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ} عطف على يراءون {إِلا} ذكراً {قَلِيلا} إذ المرائى لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله والمراد بالذكر التسبيح والتهليل.
قال في الكشاف : وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة ولكن حديث الدنيا يستغرق أوقاته لا يفتر عنه.
(2/245)
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ} حال من فاعل يراءون وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليهما بمعونة المقام أي مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى بينهما وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعده أخرى {لا إِلَى هَـاؤُلاءِ وَلا إِلَـاى هَـاؤُلاءِ} حال من ضمير مذبذبين أي لا منسوبين إلى المؤمنين فيكونون مؤمنين ولا إلى الكافرين فيكونون مشركين {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} لعدم استعداده للهداية والتوفيق {فَلَن تَجِدَ لَه سَبِيلا} موصلاً إلى الحق والصواب فضلاً عن أن تهديه إليه والخطاب لكل من يصلح له كائناً من كان
307
وكان صلى الله عليه وسلّم يضرب مثلاً للمؤمنين والمنافقين والكافرين كمثل رهط ثلاثة رفعوا إلى نهر فقطعه المؤمن ووقف الكافر ونزل فيه المنافق حتى إذا توسط عجز فناداه الكافر هلم إلي لا تغرق وناداه المؤمن هلم إلي لتخلص فما زال المنافق يتردد بينهما إذ أتى عليه ماء فغرقه فكأن المنافق لم يزل في شك حتى يأتيه الموت :
جزء : 2 رقم الصفحة : 306
اى كه دارى نفاق اندر دل
خار بادت خليده اندر حلق
هركه سازد نفاق يشه خويش
خوار كردد بنزد خالق وخلق
والإشارة {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ} إنما {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ} في الدنيا لأن الله تعالى {وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} في الأزل عند رش نوره على الأرواح وذلك أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فلما رش نوره أصاب أرواح المؤمنين وأخطأ أرواح المنافقين والكافرين ولكن الفرق بين المنافقين والكافرين أن أرواح المنافقين رأوا رشاش النور وظنوا أنه يصيبهم فأخطأهم وأرواح الكافرين ما شاهدوا ذلك الرشاش ولم يصبهم وكأن المنافقين خدعوا عند مشاهدتهم الرشاش إذ ما أصابهم فمن نتائج مشاهدتهم الرشاش {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواةِ} من نتائج حرمانهم إصابة النور {قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ} كيما يرونهم النور {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} لأنهم يذكرونه بلسان الظاهر القالبي لا بلسان الباطن القلبي والقالب من الدنيا وهي قليلة قليل ما فيها والقلب من الآخرة وهي كثيرة كثير ما فيها فالذكر الكثير من لسان القلب كثير والفلاح في الذكر الكثير لا في القليل لقوله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الزمر : 22) أي : بلسان القلب {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الزمر : 22) ولما كان ذكر المنافقين بلسان القالب كان قليلاً فما أفلحوا به وإنما كان ذكر المنافق بلسان الظاهر لأنه رأى رشاش النور ظاهراً من البعد ولم يصبه فلو كان أصابه ذلك النور لكان صدره منشرحاً به كما قال تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22) أي على نور مما رش به ربه ومعدن النور هو القلب فكان قلبه ذاكراًبذلكالنور فإنه يصير لسان القلب فقليل الذكر منه يكون كثيراً فافهم جداً فلما كانت أرواح المنافقين مترددة متحيرة بين مشاهدة رشاش النور وبين الظلمة الخلقية لا إلى هؤلاء الذين أصابهم النور ولا إلى هؤلاء الذين لم يشاهدوا الرشاش لذلك كانوا {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ} المؤمنين والكافرين {لا إِلَى هَـاؤُلاءِ وَلا إِلَـاى هَـاؤُلاءِا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} بأخطاء ذلك النور كما قال ومن أخطأه فقد ضل {فَلَن تَجِدَ لَه سَبِيلا} ههنا إلى ذلك النور يدل عليه قوله : {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَه نُورًا فَمَا لَه مِن نُورٍ} أي : ومن لم يجعل الله له قسمة من ذلك النور المرشش عليهم فما له اليوم نصيب من نور الهداية كذا في "التأويلات النجمية" اللهم ارزقنا الذكر الكثير واعصمنا من الذنب الصغير والكبير.
جزء : 2 رقم الصفحة : 306
يقال : حصون المؤمن ثلاثة : المسجد ، وذكر الله ، وتلاوة القرآن ، والمؤمن إذا كان في واحد من ذلك أي من الأشياء الثلاثة فهو في حصن من الشيطان قال علي رضي الله عنه : "يأتي على الناس زمان لا يبقى في الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه يعمرون مساجدهم وهي خراب من ذكر الله تعالى شر أهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود" قال السعدي قدس سره :
308
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه ون نفس ناطق زكفتن بخفت
اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين آمين يا معين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 306
(2/246)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي : لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أحباء قوله من دون المؤمنين حال من فاعل لا تتخذوا أي متجاوزين ولاية المؤمنين {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} أي أتريدون بذلك أن تجعلواعليكم حجة بينة على أنكم منافقون فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق فالسلطان هو الحجة يقال للأمير سلطان يراد بذلك أنه حجة ويجوز أن يكون بمعنى الوالي والمعنى حينئذٍ أتريدون أن تجعلوا سلطاناً كائناً عليكم والياً أمر عقابكم مختصاًتعالى مخلوقاً له منقاداً لأمره {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} هو الطبقة التي في قعر جهنم وهي الهاوية والنار سبع درجات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض والدركات في النار مثل الدرجات في الجنة كل ما كان من درجات الجنة أعلى فثواب من فيه أعظم وما كان من دركات النار أسفل فعقاب من فيه أشد.
وسئل ابن مسعود عن الدرك الأسفل فقال هو توابيت من حديد مبهمة عليهم لا أبواب لها ، فإن قلت : لم كان المنافق أشد عذاباً من الكافر؟ قلت : لأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالدين والخداع للمسلمين فالمنافقون أخبث الكفرة ، فإن قلت من المنافق؟ قلت : هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ والتهديد والتشبيه مبالغة في الزجر كقوله من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" وقيل لحذيفة رضي الله عنه : من المنافق؟ فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
وعن الحسن أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه فأصبح قد عمم وقلد وأعطى سيفاً يعني الحجاج ، قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بمنافقيها وجئنا بالحجاج فضلناهم.
وعن عبد الله بن عمر أن إشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى في أصحاب المائدة :
جزء : 2 رقم الصفحة : 309
{فَإِنِّى أُعَذِّبُه عَذَابًا لا أُعَذِّبُه أَحَدًا مِّنَ الْعَـالَمِينَ} (المائدة : 115) وقال في حق المنافقين : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145) وقال : {أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (فاطر : 46) قيل : لا يمتنع أن يجتمع القوم في موضع واحد ويكون عذاب بعضهم أشد من بعض ألا ترى أن البيت الداخل في الحمام يجتمع فيه الناس فيكون بعضهم أشد أذى بالنار لكونه أدنى إلى موضع الوقود وكذلك يجتمع القوم في القعود في الشمس وتأذي الصفراوي أشد وأكثر من تأذي السوداوي والمنافق في اللغة مأخوذ من النفق وهو السرب أي يستتر بالإسلام كما يستتر الرجل بالسرب وقيل : هو مأخوذ من قولهم نافق اليربوع إذا دخل نافقاءه فإذا طلب من النافقاء خرج من القاصعاء وإذا طلب من لقاصعاء خرج من النافقاء والنافقاء والقاصعاء حجر اليربوع {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} أي : مانعاً يمنع عنهم العذاب ويخرجهم من الدرك الأسفل من النار والخطاب لكل من يصلح له كائناً من كان {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} أي عن النفاق هو استثناء من المنافقين
309
بل من ضميرهم في الخبر {وَأَصْلَحُوا} ما أفسدوا من أحوالهم من حال النفاق بإتيان ما حسنه الشرع من أفعال القلوب والجوارح {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي وثقوا به وتمسكوا بدينه وتوحيده {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ} أي جعلوه خالصاً لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه فأولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة {مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي المؤمنين المعهودين الذين لا يصدر عنهم نفاق أصلاً وإلا فهم أيضاً مؤمنون أي معهم في الدرجات العالية من الجنة لا يضرهم النفاق السابق وقد بين ذلك بقوله تعالى : {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره فيشاركونهم فيه ويساهمونهم وسوف كلمة ترجئة وأطماع وهي من الله سبحانه إيجاب لأنه أكرم الأكرمين ووعد الكريم إنجاز وإنما حذف الياء من يؤتى في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام في اسم الله وكذلك سندع الزبانية ويدع الداع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 309
(2/247)
واعلم أن الكافر وإن أفسد برين الكفر صفاء روحه ولكن ما أضيف إلى رين كفره رين النفاق فكان لرين كفره منفذ من القلب إلى اللسان فيخرج بخاره من لسانه بإظهار الكفر وكان للمنافق مع رين كفره رين النفاق زائداً ولم يكن لبخار رينه منفذ إلى لسانه فكان بخارات رين الكفر ورين النفاق تنفذ من منفذ قلبه الذي هو إلى عالم الغيب فتتراكم حتى انسد منفذ قلبه بها وختم عليه بإفساد كلية الاستعداد من صفاء الروحانية فلم يتفق له الخروج عن هذا الأسفل ولا ينصره نصير بإخراجه لأنه مخذول بعيد عن الحق في آخر الصفوف وقال تعالى : {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 160) يعني في خلق أرواحكم في صف أرواح المؤمنين {فَلا غَالِبَ لَكُمْ} (آل عمران : 160) بأن يردكم إلى صف أرواح الكافرين {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} بأن يخلق أرواحكم في صف أرواح الكافرين {فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنا بَعْدِهِ} (آل عمران : 160) بأن يخرجكم إلى صف المؤمنين ثم استثنى منهم من كان كفره ونفاقه عارية وروحه في أصل الخلقة خلقت في صف المؤمنين ثم بأدنى مناسبة في المحاذاة بين روحه وأرواح الكافرين والمنافقين ظهر عليه من نتائجها موالاة معلولة من القوم أياماً معدودة فما أفسدت صفاء روحانيته بالكلية وما انسد منفذ قلبه إلى عالم الغيب فهب له من مهب العناية نفحات الطاف الحق ونبه من نومة الغفلة ونبىء بالرجوع إلى الحق بعد التمادي في الباطل ونودي في سره بأن لا نصير لمن اختار الأسفل ولا يخرج منه {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} أي : ندموا على ما فعلوا ورجعوا عن تلك المعاملات الرديئة {وَأَصْلَحُوا} ما أفسدوا من حسن الاستعداد وصفاء الروحانية بترك الشهوات النفسانية والحظوظ الحيوانية {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} ـحبل {اللَّهُ} استعانة على العبودية {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ} في الطلب لا يطلبون منه إلا هو ثم قال : من قام بهذه الشرائط {فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني في صف أرواحهم خلق روحه لا في صف أرواح الكافرين {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} التائبين ويتقرب إليهم على قضية من تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته أهرول وهذا هو الذي سماه {أَجْرًا عَظِيمًا} والله العظيم كذا في "التأويلات النجمية" ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 309
خلاف طريقت بود كاوليا
تمننا كنند ازخدا خزخدا
310
{مَآ} استفهامية بمعنى النفي في محل النصب بيفعل أي أي شيء {يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} الباء سببية متعلقة بيفعل أي بتعذيبكم {إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ} أي أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعاً أم يستدفع به ضرراً كما هو شأن الملوك أي لا يفعل بعذاب المؤمن الشاكر شيئاً من ذلك لأن كل ذلك محال في حقه تعالى لأنه تعالى غني لذاته عن الحاجات منزه عن جلب المنفعة ودفع المضرة وأما تعذيب من لم يؤمن أو آمن ولم يشكر فليس لمصلحة تعود إليه تعالى بل لاستدعاء حال المكلف ذلك كاستدعاء سوء المزاج المرض والمقصود منه حمل المكلفين على الإيمان وفعل الطاعات والاحتراز عن القبيح وترك المنكرات فكأنه قيل : إذا أتيتم الحسنات وتركتم المنكرات فكيف يليق بكرمه أن يعذبكم وتعذيبه عباده لا يزيد في ملكه وتركه عقوبته على فعلهم القبيح لا ينقص من سلطانه وجواب إن شكرتم محفذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم.
والشكر ضد الكفر والكفر ستر النعمة فالشكر إظهارها وأنما قدم الشكر على الإيمان مع أن الإيمان مقدم على سائر الطاعات ولا ثبات مع عدم الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن الناظر يدرك أولاً ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكراً مبهماً ثم يترقى إلى معرفة المنعم بعد إمعان النظر في الدلائل الدالة على ثبوته ووحدته فيؤمن به {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} الشكر من العبد هو الاعتراف بالنعمة الواصلة إليه مع ضروب من التعظيم ومن الله تعالى الرضى أي راضياً باليسير من طاعة عباده وأضعاف الثواب مقابلة واحدة إلى عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف {عَلِيمًا} بحق شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم فينبغي لطالب الحق أن يخضع له خضوعاً تاماً ويشكره شكراً كثيراً ، قال الجرجاني في قوله تعالى : {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم : 7) أي لئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس ، وعن علي رضي الله عنه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر معناه من لم يشكر النعم الحاصلة لديه الواصلة إليه حرم النعم الفائتة منه القاصية عنه.
ون بيابي تو نعمتي درند
جزء : 2 رقم الصفحة : 309
خرد باشد و نقطه موهوم
شكر آن يافته فرومكذار
كه زنا يافته شوي محروم(2/248)
فبالشكر والإيمان يتخلص المرء من النيران وإلا فقد عرض نفسه للعذاب واستحق العذاب والعتاب وجه التعذيب أن التأديب في الحكمة واجب فخلق الله النار ليعلم الخلق قدر جلال الله وكبريائه وليكونوا على هيبة وخوف من صنع جلاله ويؤدب بها من لم يتأدب بتأديب رسله إلى خلقه وليعتبر أهل العقل بالنظر إليها في الدنيا وبالاستماع لها في الآخرة ولهذا السر علق النبي عليه السلام السوط حيث يراه أهل البيت لئلا يتركوا الأدب.
ـ روي ـ أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : (ما خلقت النار بخلا مني ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة) وأدخل الله بعض عصاة المؤمنين النار ليعرفوا قدر الجنة ومقدار ما دفع الله عنهم من عظيم النقمة لأن تعظيم النعمة واجب في الحكمة.
والإشارة في الآية أن الله تعالى يذكر للعباد المؤمنين نعماً من نعمه السالفة السابقة ، منها إخراجهم من العدم
311
ببديع فطرته ، ومنها أنه خلق أرواحهم قبل خلق الأشياء ، ومنها أنه خلق أرواحهم نورانية بالنسبة إلى خلق أجسادهم الظلمانية ، ومنها أن أرواحهم لما كانت بالنسبة إلى نور القدم ظلمانية رش عليهم من نور القدم ، ومنها أنه لما أخطأ بعض الأرواح ذلك النور وهو أرواح الكفار والمنافقين وقد أصاب أرواح المؤمنين قال : {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ} هذه النعم التي أنعمت بها عليكم من غير استحقاق منكم فإنكم إن شكرتم هذه النعم برؤيتها ورؤية المنعم {وَءَامَنتُمْ} فقد أمنتم بي ونجوتم من عذابي وهو ألم الفراق فإن حقيقة الشكر رؤية المنعم والشكر على وجود المنعم أبلغ من الشكر على وجود النعمي وقال : {وَاشْكُرُوا لِي} (البقرة : 152) أي أشكروا لوجودي {وَكَانَ اللَّهُ} في الأزل {شَاكِرًا} لوجوده ومن شكر لوجوده أوجد الخلق بجوده {عَلِيمًا} بمن يشكره وبمن يكفره فأعطى جزاء شكر الشاكرين قبل شكرهم لأن الله شكور وأعطى جزاء كفر الكافرين قبل كفرهم لأن الكافر كفور كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 309
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ} عدم محبته تعالى لشيء كناية عن سخطه والباء متعلقة بالجهر ومن محذوف وقع حالاً من السوء أي لا يحب الجهر من أحد في حق غيره بالسوء كائناً من القول {إِلا مَن ظُلِمَ} أي الأجهر المظلوم فإن المظلوم له أن يجهر برفع صوته بالدعاء على من ظلمه أو يذكر ما فيه من السوء تظلماً منه مثل أن يذكر أنه شرق متاعي أو غصبه مني وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم يعني لو شتمه أحد ابتداء فله أن يرد على شاتمه أي جاز أن يشتمه بمثله ولا يزيد عليه وقيل : إن رجلاً ضاف قوماً أي أتاهم ضيفاً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا} لكلام المظلوم {عَلِيمًا} بحال الظالم {إِن تُبْدُوا خَيْرًا} أي : خير كان من الأقوال والأفعال {أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُواءٍ} لكم المؤاخذة عليه وهو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفائه تمهيد وتوطئة له ولذلك رتب عليه قوله : {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} فإن إيراده في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة هو العفو مع القدرة أي كان مبالغاً في العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة والانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله وهو حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتصار والانتقام حملاً على مكارم الأخلاق.
وعن علي رضي الله عنه لا تتفرد دفع انتقام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 312
صولت انتقام ازمردم
دولت مهتري كند باطل
312
ازره انتقام يكسو شو
تانماني بمهتري عاطل
واعلم أن الله تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق ظالم عظم ضرره وكثر كيده ومكره فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال عليه السلام : "اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس" وورد في الأثر : "ثلاثة ليست لهم الغيبة الإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته" ثم إن أكثر السوء قولي فإن اللسان صغير الجرم كبير الجرم وفي الحديث "البلاء موكل بالمنطق".
ـ يحكى ـ أن ابن السكيت جلس مع المتوكل يوماً فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل فقال : أيما أحب إليك ابناي أم الحسن والحسين؟ قال : والله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك فقال : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات ومن العجب أنه أنشد ذلك للمعتز والمؤيد وكان يعلمهما فقال :
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه
وعثرته في الرجل تبرا على مهل وفي "المثنوي" :
اين زبان ون سنك وهم آهن وشست
آنه بجهد از زبان ون آتشست
سنك وآهن را مزن برهم كزاف
كه زروى نقل وكه ازروى لاف
زانكه تاريكست وهر سو نبه زار
درميان نبه ون باشد شرار
عالمي را يك سخن ويران كند
روبهان مرده را شيران كند
جزء : 2 رقم الصفحة : 312
(2/249)
والإشارة في الآية {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ} من العوام ولا التحدث مع النفس من الخواص ولا الخطرة التي تخطر بالبال من الأخص {إِلا مَن ظُلِمَ} بمعاصي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار.
وأيضاً لا يحب الجهر بالسوء من القول بإفشاء أسرار الربوبية وأسرار مواهب الألوهية إلا من ظلم بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس عقار الجمال والجلال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق سبحاني {وَكَانَ اللَّهُ} في الأزل {سَمِيعَا} لمقالهم قبل إبداء حالهم {عَلِيمًا} بأحوالهم ثم قال : {إِن تُبْدُوا خَيْرًا} يعني مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيهاً للحق وإفادة لهم بالحق {أَوْ تُخْفُوهُ} صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وأخذاً بخطامها عن المشارب {أَوْ تَعْفُوا عَن سُواءٍ} مما يدعوكم إليه هوى النفس الأمارة بالسوء أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوء فإن الله كان عفواً فيكون عفواً متخلقاً بأخلاقه متصفاً بصفاته وأيضاً {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ} في الأزل {عَفُوًّا} عنك بأن لم يجعلك من المخذولين حين صرت عفواً عما سواه وكان هو {قَدِيرًا} على خذلانك حتى يقدر على أن لا يعفو عن مثقال ذرة لكفرانك إن الإنسان لظلوم كفار كذا في "التأويلات النجمية" {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي : يؤدي إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم لكن لا بأن يصرحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى :
313
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم كما قالت اليهود : نؤمن بموسى والتوراة وعزير ونكفر بما وراء ذلك وما ذلك إلا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله ورسله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى الله عليه وسلّم فمن كفر بواحد منهم كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من حيث لا يحتسب
جزء : 2 رقم الصفحة : 312
{وَيُرِيدُونَ} بقولهم ذلك {أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا} أي طريقاً وسطاً بين الإيمان والكفر ولا واسطة بينهما قطعاً إذ الحق لا يختلف فإن الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً وإجمالاً فالكافر ببعض كالكافر بالكل في الضلال كما قال : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُ} (يونس : 32) {أولئك} الموصوفون بالصفات القبيحة {هُمُ الْكَـافِرُونَ} أي الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيماناً أصلاً {حَقًّا} مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقاً أو صفة لمصدر الكافرون أي هم الذين كفروا كفراً حقاً أي يقيناً محققاً لا شك فيه {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} سيذوقونه عند حلوله ويهانون فيه ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار اتبعه بذكر وعد المؤمنين فقال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين كما فعله الكفرة وإنما دخل بين على أحد وهو يقتضي متعدداً لعمومه من حيث أنه وقع في سياق النفي فهو بمنزلة ولم يفرقوا بين اثنين أو بين جماعة {أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} أي : الله تعالى {أُجُورَهُمْ} الموعودة لهم وسمي الثواب أجراً لأن المستحق كالأجرة وسوف لتأكيد الوعد أي الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما فرط منهم {رَّحِيمًا} مبالغاً في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم.
والآية الأولى تدل على أن الإيمان لا يحصل بزعم المرء وحسبانه أنه مؤمن وإنما يحصل بحصول شرائطه ونتائجه منه فمن نتائجه ما ذكر في الآية الثانية من عدم التفريق بين الرسل ومن نتائجه القبول من الله والجزاء عليه فمن أخطأه النور عند الرش على الأرواح فقد كفر كفراً حقيقياً ولذلك سماهم الله في الكفر حقاً ومن أصابه النور عند ذلك فقد آمن إيماناً حقيقياً ولذلك لا ينفع الأول توسط الإيمان كما لا يضر الثاني توسط العصيان ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 312
قضا كشتى آنجاكه خواهد برد
وكر ناخدا جامه بر تن درد
(2/250)
ـ يحكى ـ أنه كان شاب حسن الوجه وله أحباب وكانوا في الأكل والشرب والتنعم والتلذذ فنفذت دراهمهم فاجتمعوا يوماً وأجمعوا على أن يقطعوا الطريق فخرجوا إلى طريق وترقبوا القافلة فلم يمر أحد من هذا الطريق إلى ثلاثة أيام ورأى الشاب شيخاً قال له : يا ولدي ليس هذا صنعتك فاستغفر الله تعالى فإن طلبتني فأنا أقرأ القرآن في جامع السيد البخاري ببروسة فاحترق قلب الشاب من تأثير الكلام فقال لرفقائه : لو تبعتم رأي تعالوا نروح إلى بروسة ونتجسس عن بعض التجار فنخرج خلفهم فنأخذ أموالهم فقبلوا قوله فلما جاءوا إلى بروسة قال لهم : تعالوا نصل في جامع السيد البخاري وندع عنده ليحصل مرادنا فلما جاء إلى الجامع ورأى الشيخ هناك يقرأ القرآن سقط على رجله وتاب وبقي عنده سنتين ثم بعد السنتين أرسله هذا
314
الشيخ إلى حضرة الشيخ اق شمس الدين فرباه وصار كاملاً بعد أن كان مؤمناً ناقصاً قاطع الطريق ولذا ينظر إلى الخاتمة ولكن حسن العاقبة من سبق العناية في البداية اللهم اجعلنا من المهديين آمين يا معين.
واعلم أن الإيمان والتوحيد هو أصل الأصول وهو وإن كان لا يزيد ولا ينقص عند الإمام الأعظم إلا أن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالسيآت فينبغي لطالب الحق أن يراعي أحكام الشريعة وآداب الطريقة ليتقوى جانب روحانيته فإن أنوار الطاعات كالأغذية النفيسة للأرواح خصوصاً نور التوحيد والذكر ولذكر الله أكبر وهو العمدة في تصفية الباطن وطهارته.
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : الأدب أدبان فأدب السر طهارة القلب وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب فعليك بترك الشرور والإيمان الكامل بالله الغفور حتى تنال الأجر الموفور والسرور في دار الحضور ، قال الصائب :
از زاهدان خشك رسايى طمع مدار
سيل ضعيف وأصل دريا نميشود
فلا بدّ من العشق في طريق الحق ليصل الطالب إلى السر المطلق ومجرد الأمنية منية والسفينة لا تجري على اليبس كما قالت رابعة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 312
{يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـابًا مِّنَ السَّمَآءِ} نزلت في أحبار اليهود حين قالوا لرسول الله عليه السلام : إن كنت نبياً صادقاً فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام وقيل : كتاباً محرراً بخط سماوي على ألواح كما نزلت التوراة {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ} جواب شرط مقدر أي إن استكبرت ما سألوه منك واستعظمت فقد سألوا موسى شيئاً أكبر منه وأعظم وهذا السؤال وإن صدر عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون وما يذرون أسند إليهم والمعنى لهم في ذلك عرقاً راسخاً وإن ما اقترحوا عليك ليس بأول جهالتهم {فَقَالُوا} الفاء تفسيرية {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} أي : أرناه جهرة أي عياناً.
والجهر حقيقة في ظهور الصوت لحاسة السمع ثم استعير لظهور المرئي بحاسة البصر ونصبها على المصدر لأن المعاينة نوع من الرؤية وهم النقباء السبعون الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الجبل حين كلمه الله سألوه أن يروا ربهم رؤية يدركونها بأبصارهم في الدنيا {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ} نار جاءت من السماء فأحرقتهم {بِظُلْمِهِمْ} أي بسبب ظلمهم وهو نعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 315
وفي "التأويلات النجمية" : {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وما طلبوا الرؤية على موجب التعظيم أو على موجب التصديق ولا حملهم عليها شدة الاشتياق أو ألم الفراق كما كان لموسى عليه السلام حين قال : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف : 143) ولعل خرة موسى في جواب {لَن تَرَانِى} كانت من شؤم القوم وما كان لنفسهم من سوء أدب هذا السؤال لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نبيهم فما اتعظوا بحال نبيهم لأنهم كانوا أشقياء والسعيد من وعظ بغيره حتى أدركتهم الشقاوة الأزلية {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} بأن طمعوا في فضيلة وكرامة ما كانوا مستحقيها ومن طبع كافراً ولو يرى الله جهرة فإنه لا يؤمن به ومن طبع مؤمناً عند رشاش النور بإصابته فإنه يؤمن بنبي لم يره وكتاب لم يقرأه بغير معجزة أو بينة كما كان الصديق رضي الله عنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلّم له : "بعثت" فقال : صدقت وكما كان حال أويس القرني فإنه لم ير
315
(2/251)
النبي عليه السلام ولا المعجزة وقد آمن به {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} أي : عبدوه واتخذوه إلهاً {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي : المعجزات التي أظهرت لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر ونحوها لا التوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد وهذه هي الجناية الثانية التي اقترفها أيضاً أوائلهم {فَعَفَوْنَا عَن ذَالِكَ} أي تجاوزنا عنهم بعد توبتهم مع عظم جنايتهم وجريمتهم ولم نستأصلهم وكانوا أحقاء به.
قيل : هذا استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل : إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضاً حتى نعفو عنكم.
ودلت الآية على سعة رحمة الله ومغفرته وتمام نعمته ومنته وأنه لا جريمة تضيق عنها مغفرة الله وفي هذا منع من القنوط {يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن} أي : تسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حيث أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن معصيتهم فاختبأوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا له من سلطان مبين {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَـاقِهِمْ} الباء سببية متعلقة بالرفع.
والمعنى لأجل أن يعطوا الميثاق لقبول الدين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 315
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم فأبوا قبولها فأمر جبرائيل عليه السلام بقلع الطور فظلله عليهم حتى قبلوا فرفع عنهم {وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان موسى والطور مشرف عليهم {ادْخُلُوا الْبَابَ} أي : باب القرية وهي أريحا على ما روي من أنهم دخلوا أريحا في زمن موسى عليه السلام أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى {سُجَّدًا} أي : متطامنين منحنين شكراً على إخراجهم من التيه فدخلوها زحفاً وبدلوا ما قيل لهم {وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان داود {لا تَعْدُوا} أي لا تظلموا باصطياد الحيتان يقال عدا يعدو عدواً وأعداء وعدواناً أي ظلم وجاوز الحد والأصل لا تعدووا بواوين : الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعل صار بالاعلال على وزن لا تفعوا {فِى} يوم {السَّبْتِ} وكان يوم السبت يوم عبادتهم فاعتدى فيه إناس منهم فاشتغلوا بالصيد {وَأَخَذْنَا مِنْهُم} على الامتثال بما كلفوه {مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} أي : عهداً مؤكداً غاية التأكيد وهو قولهم : سمعنا وأطعنا قيل : إنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد {فَبِمَا} ما مزيدة للتأكيد {نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ} أي فسبب نقضهم ميثاقهم ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم أو على أعقابهم فالباء متعلقة بفعل محذوف {وَكُفْرِهِم بآيات اللَّهِ} أي بالقرآن أو بما في كتابهم عندهم.
{وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ} جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ولا تفقه ما يقوله أو هو تخفيف غلف بضم الغين واللام جمع غلاف أي هي أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلام معترض بين المعطوفين جيىء به على وجه الاستطراد مسارعة على زعمهم الفاسد أي ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفاً بحسب الجبلة بل الأمر بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم وليست قلوبهم كما زعموا بل هي مطبوع عليها بسبب كفرهم {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه
316
أو إيماناً قليلاً لا يعبأ به لنقصانه وهو إيمانهم ببعض الرسل والكتب دون بعض أو بالإيمان الغير المعتبر لا يجب أين يسموا مؤمنين فهم كافرون حقاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 315
واعلم أن نقض الميثاق صار سبباً لغضب الخلاق فعلى المؤمن أن يراعي أحكام عهده وميثاقه ليسلم من البلاء وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل علينا رسول الله فقال : "يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" ، قال في "المثنوي" :
سوى لطف بي وفايان هين مرو
كان ل ويران بودنيكو شنونقض ميثاق وعهود ازبند كبست
حفظ إيمان ووفا كار تقيستجرعه برخاك وفا آنكس كه ريخت
كي تواند صيد دولت زوكريخت
جزء : 2 رقم الصفحة : 315
(2/252)
{وَبِكُفْرِهِمْ} عطف على قولهم أي عاقبنا اليهود بسبب كذا وكذا وبسبب كفرهم بعيسى أيضاً {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَـانًا عَظِيمًا} يعني : نسبتها إلى الزنى وبهتاناً منصوب على أنه مفعول به نحو قال شعراً أو على المصدر الدال على النوع نحو جلست جلسة فإن القول قد يكون بهتاناً {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} وصفهم له عليه الصلاة والسلام برسول الله إنما هو بطريق الاستهزاء به كما في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} (الحجر : 6) فإنهم على عداوته وقتله فكيف يقولون في حقه إنه رسول الله ونظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم ليس لمجرد كونه كذباً بل لتضمنه لابتهاجم وفرحهم بقتل النبي والاستهزاء به {وَمَآ} أي : والحال أنهم ما {قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي : وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول فالفعل مسنداً إلي الجار والمجرور نحو خيل إليه وليس عليه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 317
ـ روي ـ أن رهطاً من اليهود سبوه بأن قالوا هو الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عليه الصلاة والسلام ذلك دعا عليهم فقال : (اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي اللهم فالعن من سبني وسب أمي) فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبوه وسبوا أمه قردة وخنازير فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته عليه أيضاً فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام فبعث الله تعالى جبريل فأخبره بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم أنا فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب.
وقيل : كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى فرفع عليه السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى وقيل أن ططيانوس اليهودي دخل بيتاً كان هو فيه فلم يجده فألقى الله تعالى شبهه عليه فلما خرج ظنوا أنه عيسى فأخذ وقتل ثم صلب وأمثال هذه الخوارق لا يستبعد في عصر النبوة.
وقال كثير من المتكلمين : إن اليهود لما قصدوا قتلة رفعه الله إلى السماء
317
فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه هو المسيح والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم لما كان قليل المخالطة مع الناس فبهذا الطريق اندفع ما يقال إذا جاز أن يقال أن الله تعالى يلقي شبه إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة حيث يجوز أن يقال إذا رأينا زيداً لعله ليس بزيد ولكنه شخص آخر ألقى شبه زيد عليه وعند ذلك لا يبقى الطلاق والنكاح والملك موثوقاً به.
لا يقال إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولاً لأنا نقول أن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب كذا في "تفسير الإمام الرازي" {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي : في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس.
فقال بعضهم إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا فإن الله تعالى لما ألقى شبه عيسى على المقتول ألقاه على وجهه دون جسده وقال من سمع منه أن الله يرفعني إلى السماء أنه رفع إلى السماء.
وقيل : إن الذين اختلفوا فيه هم النصارى فقال قوم منهم : إنه ما قتل وما صلب بل رفعه الله إلى السماء.
وقال قوم منهم : إن اليهود قتلوه فزعمت النسطورية أن المسيح صلب من جهة ناسوته أي جسمه وهيكله المحسوس لا من جهة لاهوته أي نفسه وروحه.
وأكثر الحكماء يختارون ما يقرب من هذا القول قالوا : لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم لطيف في هذا البدن وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن والقتل إنما ورد على هذا الهيكل وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى فالقتل ما ورد عليها ، لا يقال كل إنسان كذلك فما وجه التخصيص ، لأنا نقول : إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الإشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ثم أنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السموات وأنوار عالم الجلال فتعظم بهجتها وسعادتها هناك ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس وإنما تحصل لأشخاص قليلين من مبدأ خلق آدم إلى قيام الساعة.
وزعمت الملكانية من النصارى أن القتل والصلب وصل إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة.
وزعمت اليعقوبية منهم أن القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 317
(2/253)
{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} أي لفي تردد والشك كما يطلق على ما لم يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى : {مَا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم والمعنى لكنهم يتبعون الظن {وَمَا قَتَلُوهُ} قتلاً {يَقِينَا} كما زعموا بقولهم : إنا قتلنا المسيح فيقيناً نعت مصدر محذوف على أن يكون فعيلاً بمعنى المفعول وهو المتيقين {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} رد وإنكار لقتله وإثبات لرفعه.
قال الحسن البصري أي إلى السماء التي هي محل كرامة الله تعالى ومقر ملائكته ولا يجري فيها حكم أحد سواه فكان رفعه إلى ذلك الموضع رفعاً إليه تعالى لأنه رفع عن أن يجري عليه حكم العباد ومن هذا القبيل قوله تعالى : {وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِه مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} (النساء : 100) وكانت الهجرة إلى المدينة وقوله : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} (الصافات : 99) أي : إلى موضع لا يمنعني أحد من عبادة ربي والحكمة في الرفع أنه تعالى أراد به صحبة
318
الملائكة ليحصل لهم بركته لأنه كلمة الله وروحه كما حصل للملائكة بركة صحبة آدم أبي البشر من تعلم الأسماء والعلم وأن مثل عيسى عند الله كمثل آدم كما ذكر في الآية.
وقيل : رفع إلى السماء لما لم يكن دخوله إلى الوجود الدنيوي من باب الشهوة وخروجه لم يكن من باب المنية بل دخل من باب القدرة وخرج من باب العزة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} لا يغالب فيما يريده فعزة الله تعالى عبارة عن كمال قدرته فإن رفع عيسى عليه السلام إلى السموات وإن كان متعذراً بالنسبة إلى قدرة البشر لكنه سهل بالنسبة إلى قدرة الله تعالى لا يغلبه عليه أحد {حَكِيمًا} في جميع أفعاله فيدخل فيها تدبير أنه تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولاً أولياً ولما رفع الله عيسى عليه السلام كساه الريش وألبسه النور وقطعه عن شهوات المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فكان أنسياً ملكياً سماوياً أرضياً.
قال وهب بن منبه بعث عيسى على رأس ثلاثين سنة ورفعه الله وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين.
فإن قيل : لم لم يرد الله تعالى عيسى إلى الدنيا بعد رفعه إلى السماء.
قيل : أخر رده ليكون علماً للساعة وخاتماً للولاية العامة لأنه ليس بعده ولي يختم الله به الدورة المحمدية تشريفاً لها بختم نبي مرسل يكون على شريعة محمدية يؤمن بها اليهود والنصارى ويجدد الله تعالى به عهد النبوة على الأمة ويخدمه المهدي وأصحاب الكهف ويتزوج ويولد له ويكون في أمة محمد عليه السلام خاتم أوليائه ووارثيه من جهة الولاية.
وأجمع السيوطي في "تفسير الدر المنثور" في سورة الكهف عن ابن شاهين أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء عيسى وإدريس وإثنان في الأرض الخضر والياس فأما الخضر فإنه في البحر وأما صاحبه فإنه في البر.
قال الإمام السخاوي رحمه الله حديث "أخي الخضر لو كان حياً لزارني" من كلام بعض السلف ممن أنكر حياة الخضر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 317
واعلم أن الأرواح المهيمة التي من العقل الأول كلها صف واحد حصل من الله ليس بعضها بواسطة بعض وإن كانت الصفوف الباقية من الأرواح بواسطة العقل الأول كما أشار صلى الله عليه وسلّم "أنا أبو الأرواح وأنا من نور الله والمؤمنون فيض نوري" فاقرب الأرواح في الصف الأول إلى الروح الأول والعقل الأول روح عيسوي لهذا السر شاركه بالمعراج الجسماني إلى السماء وقرب عهده بعهده فالروح العيسوي مظهر الاسم الأعظم وفائض من الحضرة الإلهية في مقام الجمع بلا واسطة اسم من الأسماء وروح من الأرواح فهو مظهر الاسم الجامع الإلهي وراثة أولية ونبينا عليه السلام أصالة كذا في "شرح الفصوص".
ثم اعلم أن قوماً قالوا على مريم فرموها بالزنى وآخرين جاوزوا الحد في تعظيمها فقالوا : ابنها ابن الله وكلتا الطائفتين وقعتا في الضلال.
ويقال مريم كانت ولية الله فشقي بها فرقتان أهل الإفراط وأهل التفريط وكذلك كل ولي له تعالى فمنكرهم شقيّ بترك احترامهم وطلب أذيتهم والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبون يشقون بالزيادة في أعظامهم وعلى هذه الجملة درج الأكثرون من الأكابر كذا في "التأويلات النجمية" ، وفي "المثنوي" :
نازنيني تو ولي درحد خويش
الله الله امنه درحد يشجمله عالم زين سبب كمراه شد
كم كسى زابدال حق آكاه شددير بايد تاكى سر آدمي
آشكارا كردد ازيش وكمى
319
زير ديوار بدن كنجست يا
خانه مارست ومور وازدها
جزء : 2 رقم الصفحة : 317
(2/254)
{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} أي ما من اليهود والنصارى أحد {إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي بعيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي قبل موت ذلك الأحد من أهل الكتاب يعني إذا عاين اليهودي أمر الآخرة وحضرته الوفاة ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالت : أتاك عيسى عليه السلام نبياً فكذبت به فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف وتقول للنصراني أتاك عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله فزعمت أنه هو الله وابن الله فيؤمن بأنه عبد الله حين لا ينفعه إيمانه قالوا : لا يموت يهودي ولا صاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى وإن احترق أو غرق أو تردى أو سقطه عليه جدار أو أكله سبع أو أي ميتة كانت حتى قيل لابن عباس رضي الله عنهما لو خر من بيته قال يتكلم به في الهواء قيل : أرأيت لو ضرب عنق أحدهم قال يتلجلج به لسانه وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معاجلة الإيمان قبل أن يضطروا إليه ولم ينفعه إيمانهم.
وقيل : الضميران لعيسى والمعنى وما من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى من السماء أحد إلا ليؤمنن به قبل موته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 320
ـ روي ـ عن النبي عليه السلام أنه قال : "أنا أولى الناس بعيسى لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ويوشك أنه ينزل فيكم حكماً عدلاً فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض وكأن رأسه يقطر وإن لم تصبه بلل فيقتل الخنزير ويريق الخمر ويكسر الصليب ويذهب الصخرة ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير ملة الإسلام وتكون السجدة واحدةرب العالمين ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال حتى لا يبقى أحد من أهل الكتاب وقت نزوله إلا يؤمن به وتقع الأمنة في زمانه حتى ترتع الإبل مع الأسود والبقرة مع النمور والغنم مع الذئاب وتلعب الصبيان بالحيات لا يؤذي بعضهم بعضاً ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه" وفي الحديث : "أن المسيح جاىء فمن لقيه فليقرئه مني السلام" {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكُونُ} أي : عيسى عليه السلام {عَلَيْهِمُ} أي على أهل الكتاب {شَهِيدًا} فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشباه والأشكال صادر عن اليهود {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ولمن قبلهم لا لشيء غيره كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها حرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم كلحوم الإبل وألبانها والشحوم.
وفي "التأويلات النجمية" نكتة قال لهم : {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ} وقال لنا : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ} وقال : {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَـالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا} فلم يحرم علينا شيئاً بذنوبنا وكما آمنا من تحريم الطيبات في هذه الآية نرجو أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم لأنه جمع بينها في الذكر في هذه الآية.
وقال أهل الإشارة ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات وأنا أقول الإسراف في ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجاة انتهى كلام "التأويلات ، قال السعدي :
مرو دري هره دل خواهدت
جزء : 2 رقم الصفحة : 320
كه تمكين تن نور جان كاهدت
320
{وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي : بسبب منعهم عن دين الله وهو الإسلام ناساً {كَثِيرًا} أو صداً كثيراً {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ} أي : والحال أنهم قد {نُهُوا عَنْهُ} فإن الربا كان محرماً عليهم كما هو محرم علينا.
وفيه دليل على أن النهي يدل على حرمة المنهي عنه {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ} بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة {وَأَعْتَدْنَا} أي : خلقنا وهيأنا {لِلْكَـافِرِينَ مِنْهُمْ} أي : للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم {عَذَابًا أَلِيمًا} وجيعاً يخلص وجعه إلى قلوبهم سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم {لَّـاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي التائبون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وسماهم راسخين في العلم لثباتهم في العلم وتجردهم فيه لا يضطربون ولا تميل بهم الشبه بمنزلة الشجرة الراسخة بعروقها في الأرض {وَالْمُؤْمِنُونَ} أي : من غير أهل الكتاب من المهاجرين والأنصار {يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} خبر المبتدأ وهو الراسخون وما عطف عليه.
(2/255)
قال في "التأويلات النجمية" كان عبد الله بن سلام عالماً بالتوراة وقد قرأ فيها صفة النبي عليه السلام فلما كان راسخاً في العلم اتصل علم قراءته بعلم المعرفة فقال؟ لما رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عرفت أنه ليس بوجه كذاب فآمن به ولما لم يكن للأحبار رسوخ في العلم وإن قرأوا صفة النبي عليه السلام في التوراة فلما رأوا النبي عليه السلام ما عرفوه فكفروا به انتهى ونعم ما قيل في حق الشرفاء.
جعلوا لأبناء الرسول علامة
إن العلامة شان من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم
يغني الشريف عن الطراز الأخطر
جزء : 2 رقم الصفحة : 320
أعني {الصَّلَواةَا وَالْمُؤْتُونَ} فنصبه على المدح لبيان فضل الصلاة هم {الزَّكَواةَ وَالْمُؤْمِنُونَ} فرفعه على المدح أيضاً وكذا رفع قوله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} قدم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية {أُوالَـائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} أي : ثواباً وافراً في الجنة على جمعهم بين الإيمان والعمل الصالح وهو ما أريد به وجه الله تعالى.
ومن أفاضل الأعمال الصلوات الخمس وإقامتها وفي الحديث : "من حافظ منكم على الصلوات الخمس حيث كان وأين ما كان وأين ما كان جاز الصراط يوم القيامة كالبرق اللامع في أول زمرة السابقين وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر وكان له كل يوم وليلة حافظ عليهن أجر شهيد" وسر هذا الحديث مفهوم من لفظ الصلاة ووجه تسميتها بها لأن اشتقاقها من الصلى وهو النار والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها يعرضونها على النار فتقوم وفي العبد اعوجاج لوجود نفسه الأمارة فيه وسبحات وجه الله الكريم حارة بحيث لو كشف حجابها لاحرقت تلك السبحات من ادركته ومن انتهى إليه البصر كما ورد في الحديث فبدخول المصلي في الصلاة يستقبل تلك السبحات فيصيب المصلى من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربانية ما يزول به اعوجاجه بل يتحقق به معراجه فالمصلي كالمصلي بالنار ومن اصطلى بها زال بها اعوجاجه فلا يعرض على نار جهنم إلا تحلة القسم وبذلك المقدار من المرور يذهب أثر دونه ولا يبقى له احتياج إلى المكث على
321
الصراط فيمر كالبرق اللامع وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع "إن أولياء الله المصلون ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبهن الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه ويؤتى الزكاة محتسباً طيبة بها نفسه ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها" فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله وكم الكبائر؟ قال : "تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت العتيق الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً لا يموت رجل لم يعمل هؤلاء الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة إلا رافق محمداً في بحبوبة جنة أبوابها مصاريع الذهب".
واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين رسخوا بقدمي العمل والعلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية اللدنية وفي الحديث : "طلعت ليلة المعراج على النار فرأيت أكثر أهلها الفقراء" قالوا : يا رسول الله من المال؟ قال : "لا من العلم" وفي الحديث : "العلم إمام العمل والعمل تابعه".
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في "منهاج العابدين" : ولقد صرت من علماء أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الراسخين في العلم إن أنت عملت بعلمك وأقبلت على عمارة معادك وكنت عبداً عالماً عاملاًتعالى على بصيرة غير جاهل ولا مقلد غير غافل فلك الشرف العظيم ولعلمك القيمة الكثيرة والثواب الجزيل وبناء أمر العبادة كله على العلم سيما علم التوحيد وعلم السر فلقد روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام فقال : (يا داود تعلم العلم النافع) قال إلهي وما العلم النافع قال : (أن تعرف جلالي وعظمتي وكبريائي وكمال قدرتي على كل شيء فإن هذا الذي يقربك إلي) وعن علي رضي الله عنه ما يسرني أن لو مت طفلاً فأدخلت الجنة ولم أكبر فاعرف ربي فإن أعلم الناس بالله أشدهم خشية وأكثرهم عبادة وأحسنهم في الله نصيحة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 320
(2/256)
{إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء واحتجاج عليهم بأنه ليس بدعاً من الرسل وإنما شأنه في حقيقة الإرسال وأصل الوحي كشأن سائر مشاهير الأنبياء الذين لا ريب لأحدهم في نبوتهم والوحي والإيحاء كالإعلام في خفاء وسرعة أي أنزلنا جبرائيل عليك يا محمد بهذا القرآن {كَمَآ أَوْحَيْنَآ} أي إيحاء مثل إيحائنا {إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّـانَ مِنا بَعْدِهِ} بدأ بذكر نوح لأنه أبو البشر وأول نبي عذبت أمته لردهم دعوته وقد أهلك الله بدعائه أهل الأرض قيل إن نوحاً عليه السلام عمر ألف سنة لم ينقص له سن ولا قوة ولم يشب له شعر ولم يبالغ أحد من أنبياء في الدعوة ما بالغ ولم يصبر على أذى قومه ما صبر وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وكان يضرب من قومه حتى يغمى عليه فإذا أفاق عاد وبلغ وقيل هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة بعد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} عطف على أوحينا إلى نوح داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم {وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ} وهم أولاد يعقوب عليه السلام وهم اثنا عشر رجلاً {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـارُونَ وَسُلَيْمَـانَ} خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تشريفاً لهم وإظهاراً لفضلهم فإن إبراهيم أول أولي العزم منهم وعيسى آخرهم والباقين أشراف الأنبياء ومشاهيرهم
322
جزء : 2 رقم الصفحة : 322
وقدم ذكر عيسى على من بعده لأن الواو للجمع دون الترتيب فتقدم ذكره في الآية لا يوجب تقديمه في الخلق والإرسال والفائدة في تقديمه في الذكر رد على اليهود لغلوهم في الطعن فيه وفي نسبه فقدمه الله في الذكر لأن ذلك أبلغ في كبت اليهود في تبرئته مما رمى به ونسب إليه {وَءَاتَيْنَا} أي كما آتينا {دَاوُادَ زَبُورًا} فالجملة عطف على أوحينا داخلة في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء.
والزبور هو الكتاب مأخوذ من الزبر وهو الكتابة.
قال القرطبي كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد وثناء على الله عز وجل وكان داود يبرز إلى البرية ويقرأ الزبور فيقوم معه علماء بنى إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس وتجيىء الدواب التي في الجبال إذا سمعت صوت داود فيقمن بين يديه تعجباً لما يسمعن من صوته ويجيىء الطير حتى يظللن على داود في خلائق لا يحصيهن إلا الله يرفرفن على رأسه وتجيىء السباع حتى تحيط بالدواب والوحش لما يسمعن فلما قارف الذنب وهو تزوج امرأة أوريا من غير انتظار الوحي بجبرائيل ولم يروا ذلك فقيل ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية ، وعن أبي موسى الأشعري قال : قال لي رسول الله "لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود" قال : فقلت أما والله يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لحبرته تحبيراً.
وعن أبي عثمان قال : ما سمعت قط بربطا ولا مزماراً ولا عوداً أحسن من صوت أبي موسى وكان يؤمنا في صلاة الغداة فنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته ، قال السعدي قدس سره :
به ازروي زيباست آواز خوش
كه آن حظ نفس است واين قوت روح
وعند هبوب الناشرات على الحمى
تميل غصون البان لا الحجر الصلد
جزء : 2 رقم الصفحة : 322
{وَرُسُلا} نصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه كما قيل أي وكما أرسلنا رسلاً {قَدْ قَصَصْنَـاهُمْ عَلَيْكَ} أي : سميناهم لك {مِّن قَبْلِ} متعلق بقصصنا أي من قبل هذه السورة أو اليوم وعرفناك قصتهم فعرفتهم {وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي لم نسمهم لك والرسل هم الذين أوحي إليهم بجبريل والأنبياء هم الذين لم يوح إليهم بجبريل وإنما أوحي إليهم بملك آخر أو برؤيا في المنام أو بشيء آخر من الإلهام.
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون قال : "كانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر" وفي رواية سئل عن عدد الأنبياء فقال : "مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً" والأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية لهذه الآية وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن ولا عبرة بالظن في الاعتقاديات {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} عطف على إنا أوحينا إليك عطف القصة على القصة وتأكيد كلم بالمصدر يدل على أنه عليه السلام سمع كلام الله حقيقة لا كما يقوله القدرية من أن الله تعالى خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام لأن ذلك لا يكون كلام الله القائم به والأفعال المجازية لا تؤكد بذكر المصادر لا يقال أراد الحائط أن يسقط إرادة.
قال الفراء العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاماً
323
324
(2/257)
{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} لا يغالب في أمر من الأمور من قضية الامتناع عن الإجابة إلى مسألة المتعنتين {حَكِيمًا} في جميع أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل وإنزال الكتب {لَّـاكِنِ اللَّهُ} استدراك على مفعوم ما قبله من سؤالهم على وجه التعنت أن ينزل عليهم ما وصفوه من الكتاب فهو بمنزلة قولهم لا نشهد بأن الله تعالى بعثك إلينا رسولاً حتى ينزل ما سألناه فقال تعالى إنهم لا يشهدون بصدقك في دعوى الرسالة لكن الله {يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} من القرآن المعجز الدال على نبوته إن جحدوك وكذبوك فإن إنزال هذا القرآن البالغ في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته وإتيان ما يدانيه شهادة له عليه السلام بنبوته وصدقه في دعوى الرسالة من الله تعالى فمعنى شهادة الله تعالى بما أنزل إليه إثباته لصحته بإظهار المعجزات ما تثبت الدعاوي بالبينات {أَنزَلَه بِعِلْمِهِ} حال من الفاعل أي ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره وهو تأليف على نمط بديع يعجز عنه كل بليغ أو بعلمه بحال من أنزل عليه واستعداده لاقتباس الأنوار القدسية {والملائكة يَشْهَدُونَ} أيضاً بنبوتك.
فإن قلت : من أين يعلم شهادة الملائكة.
قلت : من شهادة الله تعالى لأن شهادتهم تبع لشهادته {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججاً ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها كأنه تعالى قال : يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في دعواك وملائكة السموات أيضاً يصدقونك في ذلك ومن صدقه رب العالمين والملائكة أي ملائكة العرش والكرسي والسموات السبع أجمعون لا ينبغي له أن يلتفت إلى تكذيب أخس الناس وهم هؤلاء اليهود.
جزء : 2 رقم الصفحة : 322
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بما أنزل الله ويشهد به وهم اليهود {وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وهو دين الإسلام من أراد سلوكه بقوله : ما نعرف صفة محمد في كتابنا {قَدْ ضَلُّوا} بما فعلوا من الكفر والصد عن طريق الحق {ضَلَـا بَعِيدًا} لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بما ذكر آنفاً {وَظَلَمُوا} أي محمداً صلى الله عليه وسلّم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ووضع غيرها مكانها أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ} مريداً {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة والمراد بالهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة خلق الله لأعمالهم السيئة المؤدية بهم إلى جهنم عند صرف قدرتهم واختيارهم إلى اكتسابها أو سوقهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكة والطريق على عمومه والاستثناء متصل وقيل : خاص بطريق الحق والاستثناء منقطع {خَـالِدِينَ فِيهَآ} حال مقدرة من الضمير المنصوب والعامل فيها ما دل عليه الاستثناء دلالة واضحة كأنه قيل يدخلهم جهنم خالدين فيها {أَبَدًا} نصب على الظرفية رافع لاحتمال حمل الخلود على المكث الطويل {وَكَانَ ذَالِكَ} أي جعلهم خالدين فيها {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لاستحالة أن يتعذر عليه شيء من مراداته تعالى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 325
واعلم أن من كان فيه ذرة من النور المرشوش على الأرواح يوم خلقها يخرج به من النار كما قال عليه السلام : "يخرج من النار من كان في قلبه
325
ذرة من الإيمان" ومن لم يكن فيه ذلك النور يخلد في النار لأنه وقع في ظلمة عظيمة لا يمكن الخروج منها وقد ضل ضلالاً بعيداً أي من يوم رش النور لاضلالاً قريباً من هذا اليوم لأن ضلال اليوم من نتائج ضلال ذلك اليوم ومثل هذا لا يهتدي إلى طريق الحق والقربة إلى الله تعالى فيحترق في عذاب القطيعة أبداً ولا يخرج من نار الفرقة سرمداً.
فعلى العبد أن يشهد بما شهد الله تعالى به ويقبل قول الله وقول الرسول وقول وارثيه من العلماء العاملين فإنهم ينطقون عن الله وعن الرسول.
قال شقيق رحمه الله الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف كافر محض ومنافق محض ومؤمن محض وذلك لأني أفسر القرآن وأقول عن الله عز وجل وعن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فمن لا يصدقني فهو كافر محض ومن ضاق قلبه فهو منافق ومن ندم على ما صنع وعزم على أنه لا يذنب كان مؤمناً مخلصاً وأول الأمر الاعتقاد وذلك يحتاج إلى العلم أولاً والعمل ثانياً لأنه ثمرته وسئل النبي عليه السلام عن العلم فقال : "دليل العمل" قيل : فما العقل قال عليه السلام : "قائد الخير" قيل : فما الهوى؟ قال : "مركب المعاصي" قيل فما المال؟ قال : "رداء المتكبرين" قيل : الدنيا قال : "سوق الأخرى".
(2/258)
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لعامة الخلق {قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ} يعني محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم ملتبساً {بِالْحَقِّ} وهو القرآن المعجز الذي شهد إعجازه على حقيته أو بالدعوة إلى عبادة الله وحده والإعراض عما سواه فإن العقل السليم يشهد على أنه الحق {مَّنْ} عند {رَبَّكُمُ} متعلق بجاء أي جاء من عند الله وأنه مبعوث مرسل غير متقول له {فَـاَامِنُوا} بالرسول وبما جاءكم به من الحق والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها {خَيْرًا لَّكُمْ} منصوب على أنه مفعول لفعل واجب الإضمار أي اقصدوا أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي آمنوا إيماناً خيراً لكم وهو الإيمان باللسان والجنان {وَإِن تَكْفُرُوا} أي إن تصروا وتستمروا على الكفر {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم فيدخل في جملتهم المخاطبون دخولاً أولياً أي كلها له عز وجل خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يخرج من ملكوته وقهره شيء منها فمن هذا شأنه فهو قادر على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غني عنكم وعن غيركم لا يتضرر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم أو فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} مبالغاً في العلم فهو عالم بأحوال الكل فيدخل في ذلك علمه تعالى بكفرهم دخولاً أوليا {حَكِيمًا} مراعياً للحكمة في جميع أفعاله التي من جملتها تعذيبه تعالى إياهم بكفرهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 325
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم صورة النور الغيبي المرسل إلى الأجساد فمن كان قابلاً لإفاضة نور دعوته فقد اهتدى ومن أخطأ فقد ضل.
واتفق المشايخ على أن من ألقى زمامه في يد كلب مثلاً حتى لا يكون تردده بحكم طبعه فنفسه أقوم لقبول الرياضة ممن جعل زمامه في حكم نفسه يسترسل بها حيث شاء كالبهائم فلما تيقنت أن الواجب عليك أن تكون تابعاً لا مسترسلاً فلان تتبع سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلّم الذي آدم ومن دونه من الأولياء والأنبياء تحت
326
لوائه خير لك بل واجب عليك وما أعظم حماقة من يحتاط بقول المنجم في الاختلاج والفال وينقاد إلى الاحتمالات البعيدة ثم إذا آل الأمر إلى خبر النبوة عن الغيب انكر فلا تعرض لنفسك أن تصدق ابن البيطار فيما ذكره في العقاقير والأحجار فتبادر إلى امتثال ما أمرك به ولا تصدق سيد البشر صلى الله عليه وسلّم فيما يخبر عنه وتتوانى بحكم الكسل عن الإتيان بما أمر به أو فعل.
واعلم أنك لما أخرجك الله من صلب آدم في مقام ألست رددت إلى أسفل السافلين ثم منه دعيت لترتفع بسعيك وكسبك إلى أعلى عليين حيث ما قدر لك على حسب قابليتك ولا يمكنك ذلك إلا بأمرين : أحدهما بمحبته صلى الله عليه وسلّم بأن تؤثر حبه على نفسك وأهلك ومالك ، والثاني بمتابعته صلى الله عليه وسلّم في جميع ما أمر به ونهى عنه وبذلك تستحكم مناسبتك به وبكمال متابعتك يحصل لك الارتفاع إلى أوج الكمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني" فيه إشارة إلى أن هذا المثل مختص بالنبي عليه السلام لأن ما أنذر به من الأهوال هي التي رآها بعينيه وأما سائر الأنبياء عليهم السلام فلم يكن لهم معراج ظاهر حتى يعاينوا تلك الأهوال "وإني أنا النذير" وهو الذي يخوف غيره بالإعلام "العريان" وهو الذي لقي العدو فسلبوا ما عليه من الثياب فأتى قومه يخبرهم فصدق بعضهم لما عليه من آثار الصدق فنجوا وهذا القول مثل يضرب لشدة الأمر وقرب المحذور وبراءة المخبر من التهمة والكل موجود في النبي عليه السلام : "فالنجاء" بالمد نصب على الإغراء أي اطلبوا النجاء وهو الإسراع "فأطاعه طائفة من قومه فادلجوا" أي ساروا من أول الليل "فانطلقوا على مهلهم" وهو بفتح الميم والهاء ضد العجلة "وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش" أي أتاهم صباحاً ليغير عليهم "فأهلكم واجتاحهم" أي أهلكم بالكلية "فذلك" أي المثل المذكور وهذا بيان لوجه المشابهة "مثل من أطاعني واتبع ما جئت به من الحق" وفيه إشارة إلى أن مطلق العصيان غير مستأصل بل العصيان مع التكذيب بالحق كذا في "شرح المشارق" لابن الملك رحمه الله تعالى ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 325
خلاف يمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
مجالست سعدى كه راه صفا
توان رفعت جز دري مصطفا
جزء : 2 رقم الصفحة : 325
يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ} الخطاب للنصارى خاصة {لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ} أي لا تتجاوزوا الحد في دينكم بالإفراط في رفع شأن عيسى وادعاء ألوهيته والغلو مجاوزة الحد.
(2/259)
واعلم أن الغلو والمبالغة في الدين والمذهب حتى يجاوز حده غير مرضي كما أن كثيراً من هذه الأمة غلواً في مذهبهم فمن ذلك الغلاة من الشيعة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ادعوا إلهيته وكذلك المعتزلة غلوا في التنزيه حتى نفوا صفات الله وكذا المشبهة غلواً في إثبات الصفات حتى جسموه تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ولدفع الغلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" أي لا تتجاوزوا عن الحد في مدحي كما بالغ النصارى في مدح عيسى حتى ضلوا وقالوا إنه ولد الله "وقولوا عبد الله
327
ورسوله" أي : قولوا في حقي إنه عبد الله ورسوله وفي تقديم العبد على الرسول كما في التحيات أيضاً نفي لقول اليهود والنصارى فإن اليهود قالوا عزيز ابن الله والنصارى المسيح ابن الله فنحن نقول عبده ورسوله والغلو من العصبية وهي من صفات النفس المذمومة والنفس هي أمارة بالسوء لا تأمر إلا بالباطل :
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هر ساعتش قبله ديكرست
{وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أي لا تصفوه بما يستحيل اتصافه من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك.
قوله إلا الحق استثناء مفرغ ونصبه على أنه مفعول به نحو قلت خطبة أو نعت مصدر محذوف أي إلا القول الحق وهو قريب من المعنى الأول {إِنَّمَا الْمَسِيحُ} مبتدأ وهو لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله بالعبرية مشيحاً ومعناه المبارك {عِيسَى} بدل منه معرب من إيشوع {ابْنُ مَرْيَمَ} صفة مفيدة لبطلان ما وصفوه به من نبوته له تعالى.
ومريم بمعنى العابدة وسميت مريم مريم ليكون فعلها مطابقاً لاسمها ولكون عيسى عليه السلام منسوباً إلى أمه تدعى الناس يوم القيامة بأسماء أمهاتهم ويدل عليه حديث التلقين بعد الدفن حيث يقال : يا فلان ابن فلانة وفي النسبة إلى الأمهات ستر منه تعالى للعباد أيضاً {رَسُولُ اللَّهِ} خبر للمبتدأ أي أنه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها وهذا هو القول الحق {وَكَلِمَتُهُ} عطف على رسول الله أي تكون بكلمته وأمره الذي هو كن من غير واسطة أب ولا نطقة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 327
فإن تكوين الخلق كله وإن كان بكلمة كن له ولكن بالوسائط فإن تعلق كن بتكوين الآباء قبل تعلقه بتكوين الأبناء فلما كان تعلق أمركن بعيسى في رحم مريم من غير تعلقه بتكوين أب له تكون عيسى بكلمة كن وكن هي كلمة الله فعبر عن ذلك بقوله وكلمته ألقاها إلى مريم يدل عليه قوله أنه مثل عيسى عند الله يعني في التكوين كمثل آدم خلقه من تراب يعني سوى جسمه من تراب ثم قال له يعني عند بعث روحه إلى القالب كن فيكون وإنما ضرب مثله بآدم في التكوين لأنه أيضاً تكون بكلمة كن من غير واسطة أب {أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ} أي أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ حبريل عليه السلام {وَرُوحٌ مِّنْهُ} عطف على كلمته ومنه صفة لروح ومن لابتداء الغاية مجازاً لا تبعيضية كما زعمت النصارى لاستحالة التجزي على الله تعالى.
ـ وروي ـ أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني وكان غلاماً حسن الوجه جداً وكان كامل الأدب جامعاً للخطاب التي يتوصل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعاً بأن يسلم وهو يمتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني أن أسلم فأبى فقال له ذات يوم : مالك لا تؤمن؟ قال : إن في كتابكم حجة على من انتحله قال : وما هي قال : قوله تعالى : {وَكَلِمَتُه أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} فعنى بهذا أن عيسى عليه السلام جزء منه فضاق قلب الرشيد وجمع العلماء فلم يكن فيهم من يزيل شبهته حتى قيل له : قد وفد حجاج من خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو وهو إمام في علم القرآن فدعاه فجمع بينه وبين الغلام فسأله الغلام عن ذلك فاستعجم عليه الجواب في الوقت وقال : قد علم الله يا أمير المؤمنين في سابق علمه أن هذا الخبيث يسألني في مجلسك هذا وأنه لم يخل كتابه
328
(2/260)
عن جوابه وأنه ليس يحضرني الآن ولله عليّ أن لا أطعم ولا أشرب حتى أؤدي الذي يجب من الحق ـ إن شاء الله تعالى ـ ودخل بيتاً مظلماً وأغلق عليه بابه واندفع في قراءة القرآن حتى بلغ من سورة الجاثية {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} فصاح بأعلى صوته افتحوا الباب فقد وجدت الجواب ففتحوا ودعا الغلام فقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد وقال : إن كان قوله وروح منه يوجب أن يكون عيسى بعضاً منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض بعضاً منه فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً ووصل علي بن الحسين الواقدي المروزي بصلة جيدة فلما عاد علي بن الحسين إلى مرو صنف كتاباً سماه كتاب "النظائر في القرآن" وهو كتاب لا يوازيه كتاب.
قيل : معنى كونه روحاً أنه ذو روح صادر منه تعالى كسائر ذوي الأرواح إلا أنه تعالى أضاف روحه إلى نفسه تشريفاً.
وقيل : المراد بالروح هو الذي نفخ جبرائيل عليه السلام في درع مريم فدخلت تلك النفخة بطنها فحملت بإذن الله من ذلك النفخ سمي النفخ روحاً لأنه كان ريحاً يخرج من الروح وأضاف تعالى نفخة جبريل إلى نفسه حيث قال : وروح منه بناء على أن ذلك النفخ الواقع من جبريل كان بإذن الله تعالى وأمره فهو منه.
وعن أبي بن كعب أنه قال : إن الله تعالى لما أخرج الأرواح من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم ثم ردهم إلى صلبه أمسك عنده روح عيسى إلى أن أراد خلقه ثم أرسل ذلك الروح إلى مريم فدخل في فيها فكان منه عيسى عليه السلام.
قيل : خلق عيسى عليه السلام من ماء مريم ومن النفخ لا من أحدهما فقط وهو الأصح عند المحققين.
قيل : خرج في ساعة النفخ.
وقيل : بعد المدة الكاملة بعد ثمانية أشهر والأول هو الأصح.
جزء : 2 رقم الصفحة : 327
وفي "التأويلات النجمية" : إن شرف الروح على الأشياء بأنه أيضاً كعيسى تكون بأمر كن بلا واسطة شيء آخر فلما تكون الروح بأمر كن وتكون عيسى بأمر كن سمي روحاً منه لأن الأمر منه تعالى كما قال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) فكما أن إحياء الأجساد الميتة من شأن الروح إذ ينفخ فيها فكذلك كان عيسى من شأنه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله وكذلك كان ينفخ في الطين فيكون طيراً بإذن الله تعالى.
واعلم أن هذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان وخلق منه أي من الأمر وإنما أظهره الله في عيسى من غير تكلف منه في السعي لاستخراج هذا الجوهر من معدنه لأن روحه لم يركز في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات كأرواحنا فكان جوهره ظاهراً في معدن جسمه غير مخفي ببشرية أب وجوهرنا مخفي في معدن جسمنا ببشرية آبائنا إلى آدم فمن ظهور أنوار جوهر روحه كان الله تعالى يظهر عليه أنواع المعجزات في بدء طفوليته ونحن نحتاج في استخراج الجوهر الروحاني من المعدن الجسماني إلى نقل صفات البشرية المتولدة من بشرية الآباء والأمهات عن معادننا بأوامر أستاذ هذه الصنعة ونواهيه وهو النبي عليه السلام كما قال تعالى : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَا إِنَّ اللَّهَ} (الحشر : 7) فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته وإنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذاناً صماً وعيوناً عمياً فيكون في قومه كالنبي في أمته فافهم جداً ، وفي "المثنوي" :
عيسى اندر مهد دارد صد نفير
كه جوان نا كشته ما شيخيم وير
329
ير ير عقل بايد اي سر
ني سفيدي موي اندر ريش وسرون كرفتي يرهين تسليم شو
همو موسى زير حكم خضر شودست را مسار جز دردست ير
حق شدست آن دست اوراد ستكير
ون بداري دست خود دردست ير
جزء : 2 رقم الصفحة : 327(2/261)
ير حكمت كو عليم اسد وخبير ثم اعلم أنه لما كان النافخ جبرائيل والولد سرّ أبيه كان الواجب أن يظهر عيسى على صورة الروحانيين والجواب أنه إنما كان على صورة البشر ولم يظهر على صورة الروحانيين لأن الماء المحقق عند التمثل كان في أمه وهي بشر ولأجل تمثل جبريل أيضاً عند النفخ بالصورة البشرية لأنها أكمل الصور كما أشار صلى الله تعالى عليه وسلم في تجلي الربوبية بصورة شاب قطط وظهور جبريل بصورة دحية فافهم والصورة التي تشهدها الأم وتخيلها حال المواقعة لها تأثير عظيم في صورة الولد حتى قيل : ونقل في الأخبار أن امرأة ولدت ولداً صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية فلما سئلت عنها أخبرت أنها رأت حية عند المواقعة.
وسمع أن امرأة ولدت ولد له أعين أربع ورجلاه كرجل الدب وكانت قبطية جامعها زوجها وهي ناظرة إلى دبين كانا عند زوجها ولله أسرار في تكوين الأجساد كيف يشاء وهو على كل شيء قدير كذا في "حل الرموز" يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ} وخصوه بالألوهية {وَرَسُولِهِ} أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية يعني أن عيسى من رسله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلهاً {وَلا تَقُولُوا ثَلَـاثَةٌ} أي الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، ويشهد عليه قوله تعالى : {ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} (المائدة : 116) أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله ثلاثة أقانيم اقنوم الأب واقنوم الابن واقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة {انتَهُوا} أي عن التثليث {خَيْرًا لَّكُمْ} أي انتهاء خيراً لكم أو ائتوا خيراً لكم من القول بالتثليث {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} أي واحد بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فالله مبتدأ وإله خبره وواحد نعت أي منفرد في آلهيته {سُبْحَـانَه أَن يَكُونَ لَه وَلَدٌ} أي أسبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد أو سبحوه تسبيحاً من ذلك فإنه يتصور له مثل ويتطرق إليه فناء فإن التوالد إنما هو لحفظ النوع من الانقراض فلذلك لم تتوالد الملائكة ولا أهل الجنان فمن كان نشأته وتكوّنه للبقاء إذا لم يكن له ولد مع كونه حادثاً ذا أمثال فبالأولى أن لا يتخذ الله تعالى ولداً وهو أزلي منزه عن الأمثال والأشياه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 327
لم يلد لم يولد است اواز قدم
نه در دارد نه فرزند ونه عم
{لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره أي له ما فيهما من الموجودات خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يخرج من ملكوته شيء من الأشياء التي من جملتها عيسى فكيف يتوهم كونه ولداً له تعالى.
قال ابن الشيخ في حواشيه أنه تعالى في كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر أن جميع ما في السموات والأرض مختص به خلقاً وملكاً للإشارة إلى أن ما زعمه المبطلون أنه ابن الله وصاحبته مملوك مخلوق له لكونه من جملة ما في السموات وما في الأرض فلا تتصور المجانسة والمماثلة بين الخالق والمخلوق والمالك والمملوك فكيف يعقل مع هذا توهم كونه
330
ولداً له وزوجة {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} إليه يكل كل الخلق أمورهم وهو غني عن العالمين فأنى يتصور في حقه اتخاذ الولد الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم أو يعينهم دلت الآية على التوحيد :
كل شيء ذاته لي شاهد
إنما الله إله واحد
ومطلب أهل التوحيد أعلى المطالب وهو وراء الجنات وذوقهم لا يعادله نعيم.
(2/262)
ـ حكي ـ أن ولياً يقال له سكرى بابا يكون له في بعض الأوقات استغراق أياماً حتى يظنونه ميتاً ويضعون على فمه فداما فانتبه يوماً فأراد أن يطلق زوجته ويترك أولاده وقال : كنت في مجلس النبي عليه السلام في الملكوت مع الأرواح وكان النبي عليه السلام يفسر قوله تعالى : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} يتكلم في مراتب التوحيد على كرسي قوائمه أربع من الأنوار الأربعة على حسب المراتب الأربع أي من النور الأسود في مرتبة الطبيعة ومن النور الأحمر في مرتبة النفس ومن النور الأخضر في مرتبة الروح ومن النور الأبيض في مرتبة السر فقيل لي في العرش ارسلوا سكرى باباً فإن أولاده يبكون فلأجل ذلك أريد أن أترك الكل فتضرعوا وحلفوا بأن لا يفعلوا مثل ذلك أبداً ففرع ووجه التسمية بذلك أنه كان يعطي سكراً لكل من يطلبه منه حتى طلبوا في الحمام امتحاناً له فضرب برجله رحام الحمام قال : خذوه فانقلب سكراً فاعتقدوه وزالت شبهتهم ، قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي : الملكوت ليس في الفوق بل الملك والملكوت عندك هنا فإن الله تعالى منزه عن الزمان والمكان والذهاب والاياب وهو معكم أينما كنتم فللسالك مرتبة ينظر فيها إلى الله وإلى الحق ويسمى تلك بالمعية ثم بعد ذلك إذا وصل إلى الفناء الكلي واضمحل وجوده يسمى ذلك بمقام الجمع ففي ذلك المقام لا يرى السالك ما سوى الله تعالى كمن أحاطه نور لا يرى الظلمة ألا يرى أن من نظر إلى الشمس لا يرى غيرها وتلك الرؤية ليس بحاسة البصر ولا كرؤية الأجسام بل كما ذكر العلماء وكمل الأولياء والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين والموحد إذا كان موحداً يوصله التوحيد إلى الملكوت والجبروت واللاهوت أعني الموحد يتخلص من الإثنينية ومن التقيد بالأكوان والأجسام والأرواح فيشاهد عند ذلك سر قوله تعالى : {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} (النساء : 171) اللهم اجعلنا من الواصلين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 327
{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} في "أساس البلاغة" استنكف منه ونكف امتنع وانقبض آنفاً وحمية {أَن يَكُونَ عَبْدًا} أي من أن يكون عبداً له تعالى فإن عبوديته شرف يتباهى بها وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره.
ـ روي ـ أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم لم تعيب صاحبنا؟ قال : "ومن صاحبكم" قالوا : عيسى قال : "وأي شيء أقول" قالوا : تقول إنه عبد الله قال : "إنه ليس بعار أن يكون عبد الله" قالوا : بلى بعار فنزلت {وَلا الملائكة الْمُقَرَّبُونَ} عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً والمراد بهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم {وَمَن يَسْتَنكِفْ} أي : يترفع {عَنْ عِبَادَتِهِ} أي عن طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى : {وَيَسْتَكْبِرْ} الاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وإنما يستعمل حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون باستحقاق {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ} أي : فسيجمعهم
331
إليه يوم القيامة {جَمِيعًا} المستنكف والمستكبر والمقر والمطيع فيجازيهم {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيئاً أصلاً {وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} بتضعيفها أضعافاً مضاعفة وبإعطاء ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا}
جزء : 2 رقم الصفحة : 331
أي عن عبادته تعالى : {وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ} بسبب استنكافهم واستكبارهم {عَذَابًا أَلِيمًا} وجيعاً لا يحيط به الوصف {وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أي غيره تعالى {وَلِيًّا} يلي أمورهم ويدبر مصالحهم {وَلا نَصِيرًا} بنصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه.
واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام وقال مساقه لرد النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف وهو ولا الملائكة المقربون أعلى درجة من المعطوف عليه وهو المسيح حتى يكون عدم استنكافهم مستلزماً لعدم استنكافه عليه السلام.
وأجيب بأن مناط كفر النصارى ورفعهم له عليه السلام عن رتبة العبودية لما كان اختصاصه عليه السلام وامتيازه عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالعلم بالمغيبات وبالرفع إلى السماء عطف على عدم استنكافه عن عبوديته عدم استنكاف من هو أعلى درجة منه فيما ذكر فإن الملائكة مخلوقون من غير أب ولا أم وعالمون بما لا يعلمه البشر من المغيبات ومقامهم السموات العلي ولا نزاع لأحد في علو درجتهم من هذه الحيثية وإنما النزاع في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات كذا في "الإرشاد".
(2/263)
قال في "التأويلات النجمية" عند قوله تعالى : {وَلا الملائكة الْمُقَرَّبُونَ} ما ذكرهم للفضيلة على عيسى وإنما ذكرهم لأن بعض الكفار قالوا : الملائكة بنات الله كما قالت النصارى {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} قال تعالى : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم : 21 ـ 22) بل فضل الله المسيح عليهم بتقديم الذكر لأن المسيح نسب إليه بالبنوة ونسبت الملائكة إليه بالبنتية وللذكر فضيلة وتقدم على الإناث كقوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ} (النساء : 11) فقدم الله الذكر على الإنثني وجعل له سهمين وللأنثى واحداً فكما أن للذكر فضيلة على الأنثى فكذلك للمسيح فضيلة على الملائكة وفضيلته على الملائكة أكبر وأعظم يدل عليه ما صح عن جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : "لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب كما خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة قال الله تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان" وأنا أقول ومن فضيلة عيسى على الملائكة أنه اجتمع فيه ما كان شرفاً لآدم لأنه من ذريته من قبل الأم وما كان شرفاً للملائكة إذ قال له أيضاً كن فكان فقد وجد في عيسى ما لم يوجد في الملائكة ولم يوجد في الملائكة شيء لا يوجد في عيسى فافهم جداً انتهى كلام "التأويلات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 331
واعلم أن أعظم الاستنكاف عن عبادة الله تعالى الشرك والإعراض عن توحيده كما أن أصل الأعمال التوحيد والإيمان ثم إن الكبر من أكبر السيآت ولذا ورد في بعض الأحاديث مقابلاً للإيمان قال عليه السلام : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" ، قال السعدي قدس سره :
332
ترا شهوت وكبر وحرص وحسد
وخون در ركند ووجان در جسد
كراين دشمنان تقويت يافتند
سر از حكم ورأى توبر تافتند
ـ حكي ـ أن قاضياً جاء إلى أبي يزيد البسطامي ـ رحمه الله ـ يوماً فقال : نحن نعرف ما تعرفه ولكن لا نجد تأثيره فقال أبو يزيد : خذ مقداراً من الجوز وعلق وعاءه في عنقك ثم ناد في البلد كل من يلطمني أدفع له جوزة حتى لا يبقى منه شيء فإذا فعلت ذلك تجد التأثير فاستغفر القاضي فقال أبو يزيد : قد أذنبت لأني أذكر ما يخلصك من كبر نفسك وأنت تستغفر منه ، قال السعدي :
كسى راكه ندار در سربود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيداز وعظ تنك
شقايق بباران نرويد زسنك
فعلى العاقل أن يتواضع فإن الرفعة في التواضع وهو من أفضل العبادة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 331
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لعامة المكلفين {قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـانٌ} كائن {مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ} بواسطة النبي عليه السلام : {نُورًا مُّبِينًا} عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن أي جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة.
والبرهان ما يبرهن به المطلوب وسمي القرآن نوراً لكونه سبباً لوقوع نور الإيمان في القلوب ولأنه تتبين به الأحكام كما تتبين بالنور الأعيان {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ} حسبما يوجبه البرهان الذي أتاهم {وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أي امتنعوا به عن اتباع النفس الأمارة وتسويلات الشيطان {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ} ثواب قدره بإزاء إيمانه وعمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب {وَفَضَّلَ} إحسان زائد عليه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي إلى الله {صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} هو الإسلام والطاعة في الدنيا وطريق الجنة في الآخرة وهو مفعول ثان ليهدي لأنه يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يتعدى إلى الثاني بإلى يقال هديته الطريق وهديته إلى الطريق ويكون إليه حالاً منه مقدماً عليه ولو أخر عنه كان صفة له والمعنى ويهديهم إلى صراط الإسلام والطاعة في الدنيا وطريق الجنة في العقبى مؤدياً ومنتهياً إليه تعالى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 333
(2/264)
والإشارة في الآية أن الله تعالى أعطى لكل نبي آية وبرهاناً ليقيم به الحجة على الأمة وجعل نفس النبي عليه السلام برهاناً منه وذلك لأن برهان الأنبياء كان في الأشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه وفي الحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً وكان نفس النبي عليه السلام برهاناً بالكلية فكان برهان عينيه ما قال عليه السلام : "لا تستبقوني بالركوع والسجود فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي".
وبرهان بصره {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم : 17).
وبرهان أنفه قال : "إني لأجد نفس الرحمان من قبل اليمن".
وبرهان لسانه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى} (النجم : 3 ـ 4) وبرهان بصاقه ما قال جابر رضي الله عنه أنه أمر يوم الخندق لا تخبزن عجينكم ولا تنزلن برمتكم حتى أجيىء فجاء فبصق في العجين وبارك ثم بصق في البرمة وبارك فأقسم بالله أنهم لأكلوا وهم ألف حتى تركوه وانصرفوا وأن برمتنا لتغط أي : تغلى وأن عجيننا ليخبز كما هو.
وبرهان تفله أنه تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرىء بإذن الله يوم خيبر.
وبرهان يده ما قال تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال : 17) وأنه سبح الحصى في يده ، قال العطاري :
333
داعي ذرات بود آن اك ذات
در كفش تسبيح ازان كفتى حصاد
وبرهان أصبعه أنه أشار بأصبعه إلى القمر فانشق فلقتين حتى رؤي حراء بينهما :
ماه را انكشت او بشكافته
مهر از فرمانش ازس تافته
جزء : 2 رقم الصفحة : 333
وبرهان ما بين أصابعه أنه كان الماء ينبع من بين أصابعه حتى شرب منه ورفعه خلق عظيم وبرهان صدره أنه كان يصلي ولصدره أزيز كازيز المرجل من البكاء.
وبرهان قلبه أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه وقال تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وقال : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح : 1) وقال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ـ 194) وأمثال هذه البراهين كثيرة فمن أعظمها أنه عرج به إلى السماء حتى جاوز قاب قوسين وبلغ أو أدنى وذلك برهان لنفسه بالكلية وما أعطى نبي قبله مثله قط وكان بعد أن أوحي إليه أفصح العرب والعجم وكان من قبل أمياً لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان وأي برهان أقوى وأظهر وأوصح من هذا؟ والله أكرم هذه الأمة به ومن عليهم فمن آمن به إيماناً حقيقياً بنور الله لا بالتقليد فتجذبه العناية وتدخله في عالم الصفات فإن رحمته وفضله صفته ويهديه بنور القرآن وحقيقة التخلق بخلقه إلى جنابه تعالى فبالاعتصام يصعد السالك من الصراط المستقيم إلى حضرة الله الكريم ولا بد للعبد من الاعمال والاكتساب في البداية اتباعاً للأوامر الواردة في الكتب الإلهية والسنن النبوية حتى ينتهي إلى محض فضل الله تعالى فيكون هو المتصرف في أموره ولذلك كان النبي عليه السلام يقول : "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك" وقد قال بعض الكبار المريد من لا مذهب له يعني يتمسك بأشق الأقوال والمذاهب من جميع المذاهب فيتوضأ من الرعاف والفصد مثلاً وإن كان شافعياً ومن المس وإن كان حنفياً وتنوير الباطن لا يحصل إلا بأنوار الذكر والعبادة والمعرفة وتعين على ذلك العبادة الخالصة إذا أديت على وجه الكمال والخدمة بمقتضى السنة تصقله بإزالة خبث الشهوات والأخلاق المذمومات والتوحيد أفضل الأعمال الموصلة إلى السعادة وفي الحديث "إن الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخلون الجنة وهم يضحكون" وفي الحديث "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم كأني انظر اليهم عند الصيحة ينفضون التراب عنهم ويقولون الحمدالذي أذهب عنا الحزن" إن ربنا لغفور شكور وعلى هذا الحديث أول المشايخ هذه الآية الكريمة {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين ولا تجعلنا من الغافلين آمين {يَسْتَفْتُونَكَ} أي : يطلبون منك الفتوى في حق الكلالة {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ} الإفتاء تبيين المبهم وتوضيح المشكل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 333
والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء استعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لضعفها في الإضافة إلى قرابتها وتطلق على من لم يخلف ولداً ولا والداً وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين والمراد هنا الثاني أي الذي مات ولم يرثه أحد من الوالدين ولا أحد من الأولاد لما روى أن جابر بن عبد الله كان مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إني كلالة أي لا يخلفني ولد ولا والد فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت {إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ} استئناف مبين
334
(2/265)
للفتيا وارتفع امرؤ بفعل يفسره المذكور وقوله : {لَيْسَ لَه وَلَدٌ} صفة له أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد ذكراً كان أو أنثى {وَلَه أُخْتٌ} عطف على قوله تعالى ليس له ولد أو حال والمراد بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضها السدس فقط {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي بالفرض والباقي للعصبة أولها بالرد إن لم يكن له عصبة {وَهُوَ} أي المرء المفروض {يَرِثُهَآ} أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَآ وَلَدٌ} ذكراً كان أو أنثى فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} عطف على الشرطية الأولى أي اثنتين فصاعداً {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} الضمير لمن يرث بالإخوة والتأنيث والتثنية باعتبار المعنى وفائدة الأخبار عنه بثنتين مع دلالة ألف التثنية على الإثنينية التنبيه على أن المعتبر في اختلاف الحكم هو العدد دون الصغر والكبر وغيرهما {وَإِن كَانُوا} أي من يرث بطريق الأخوة {إِخْوَةً} أي مختلطة {رِّجَالا وَنِسَآءً} بدل من إخوة والأصل وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر على المؤنث {فَلِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ} يقسمون التركة على طريقة التعصيب وهذا آخر ما نزل في كتاب الله من الأحكام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 333
ـ روي ـ أن الصديق رضي الله عنه قال في خطبته إن الآية التي أنزلها الله تعالى في سورة النساء في الفرائض أولها في الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها السورة في الأخت لأبوين أو لأب والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} أي حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها {أَن تَضِلُّوا} أي كراهة أن تضلوا في ذلك فهو مفعول لأجله على حذف المضاف وهو أشيع من حذف لا النافية بتقدير لئلا تضلوا {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم {عَلِيمُ} مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
والإشارة في الآية أن الله تعالى لم يكل بيان قسمة التركات إلى النبي صلى الله عليه وسلّم مع أنه تعالى وكل بيان أركان الإسلام من الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج إليه وأحكام الشريعة وقال : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَا إِنَّ اللَّهَ} (الحشر : 7) وولاه بيان القرآن العظيم وقال : {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل : 44) وتولى قسمة التركات بنفسه تعالى كما قال عليه السلام : "إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمة التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية لوارث" وإنما لم يوله قسمة التركات لأن الدنيا مزينة للناس والمال محبوب إلى الطباع وجبلت النفس على الشح فلو لم ينص الله تعالى على مقادير الاستحقاق وكان القسم موكولاً إلى النبي عليه السلام لكان الشيطان أوقع في بعض النفوس كراهة النبي عليه الصلاة والسلام لذلك فيكون كفراً لقوله عليه السلام : "لا يكون أحدكم مؤمناً حتى أكون إليه أحب من نفسه وماله وولده والناس أجمعين" كما أوقع في نفوس بعض شبان الأنصار يوم حنين إذ أفاء الله على رسوله أموال هوازن فطفق النبي عليه السلام يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل كل رجل منهم فقالوا : يغفر الله لرسوله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم
335
قال أنس فحدث رسول الله بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحداً من غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال : ما حديث بلغني عنكم فقال الأنصار : أما ذووا رأينا فلم يقولوا شيئاً وأما أناس حديثة أسنانهم فقالوا كذا وكذا للذي قالوا فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "إنما أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر فأؤلفهم" أو قال : استألفهم أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا برسول الله إلى رحالكم فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا : أجل يا رسول الله قد رضينا فالنبي عليه السلام أزال ما أوقع الشيطان في نفوسهم بهذا اللطائف فلو كان قسم التركات إليه لكان للشيطان مجال إلى آخر الدنيا في أن يوقع الشر في نفوس الأمة ولم يمكن إزالته من النفوس لتعذر الوصول إلى الخلق كلهم في حال الحياة وبعد الوفاة فتولى الله ذلك لأنه بكل شيء عليم ولعباده غفور رحيم :
جزء : 2 رقم الصفحة : 333
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه نهان ويدا بنزدش يكيست
فروماندكانرا برحمت قريب
تضرع كنا نرا بدعوت مجيب
فحسم الكلمة بما نص على المقادير في الميراث فضلاً منه وقطعاً لمواد الخصومات بين ذوي الأرحام ورحمة على النسوان في التوريث لضفعهن وعجزهن عن الكسب وإظهاراً لتفضيل الذكور عليهن لنقصان عقلهن ودينهن وتبياناً للمؤمنين لئلا يضلوا بظن السوء بالنبي عليه السلام كما قال : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ} كذا في "التأويلات النجمية" على صاحبها النفحات القدسية والبركات القدسية.
تمت سورة النساء في أواسط جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين بعد الألف ويتلوها سورة المائدة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 333(2/266)
سورة المائدة
وهي مائة وعشرون آية كلها مدنية إلا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع
جزء : 2 رقم الصفحة : 335
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء يقال وفى بالعهد وفاء وأوفى به إيفاء إذا أتى ما عهد به ولم يغدر والنقل إلى باب افعل لا يفيد سوى المبالغة والعقد هو العهد الموثق المشبه بعقد الحبل ونحوه والمراد بالعقود : ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن ديناً إن حملنا الأمر على معنى يعم الوجوب والندب.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من نذر صوم يوم العيد أو ذبح الولد يجب عليه أن يصوم يوماً يحل فيه الصوم ويذبح ما يحل أن يتقرب بذبحه لأنه عهد وألزم نفسه ذلك فوجب عليه الوفاء بما صح الوفاء به.
واحتج بها أيضاً على حرمة الجمع بين الطلقات لأن النكاح من العقود فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقد ترك العمل بعمومه في حق الطلقة الواحدة بالإجماع فبقي فيما عداه على الأصل وفي الحديث "ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم
336
الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو".
هركه أونيك ميكند يابد
نيك وبد هره ميكند يابد
جزء : 2 رقم الصفحة : 336
ثم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يوفوا جميع ما أوجبه عليهم من التكاليف شرع في ذكر التكاليف مفصلة فبدأ بذكر ما يحل ويحرم من المطعومات فقال عز وجل من قائل : {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَامِ} البهيمة كل ذات أربع وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب الخز وأفرادها لإرادة الجنس أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وذكر كل واحد من هذه الأنواع الأربعة زوج بإنثاه وأنثاه زوج بذكره فكان جميع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين ومن المعز ثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين على التفصيل المذكور في سورة الأنعام فالبهيمة أعم من الأنعام لأن الأنعام لا تتناول غير الأنواع الأربعة من ذوات الأربع وألحق بالأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوهما {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} استثناء من بهيمة الأنعام بتقدير المضاف أي إلا محرم ما يتلى عليكم أي إلا الذي حرمه المتلو من القرآن من قوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} بعد هذه الآية أو بتقدير نائب الفاعل أي إلا ما يتلى عليكم فيه آية كريمة {غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ} الصيد بمعنى المصدر أي الاصطياد في البر أو المفعول أي أكل صيده بمعنى مصيده وهو نصب على الحالية من ضمير لكم ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهو شائع في الكتاب والسنة {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون حال من الضمير في محلي.
والحرم : جمع حرام بمعنى محرم يقال : أحرم فلان إذا دخل في الحرم أو في الإحرام وفائدة تقييد إحلال بهيمة الأنعام بما ذكر من عدم إحلال الصيد حال الإحرام إتمام النعمة وإظهار الامتنان بإحلالها بتذكير احتياجهم إليه فإن حرمة الصيد في حالة الإحرام من مظان حاجتهم إلى إحلال غيره حينئذٍ كأنه قيل : أحلت لكم الأنعام مطلقاً حال كونكم ممتنعين عن تحصيل ما يغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من تحليل وتحريم على ما توجبه الحكمة ومعنى الإيفاء بهما الجريان على موجبهما عقداً وعملاً والاجتناب عن تحليل المحرمات وتحريم المحللات.(2/267)
والإشارة في الآية {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} التي جرت بيننا يوم الميثاق وعلى عهود العشاق وعقودهم على بذل وجودهم لنيل مقصودهم عاقدوا على عهد يحبهم ويحبونه ولا يحبون دونه فالوفاء بالعهد الصبر على الجفاء والجهد فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَـامِ} أي : ذبح بهيمة النفس التي هي كالأنعام في طلب المرام {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} يعني : إلا النفس المطمئنة إذا تليت عليها ارجعي إلى ربك فإنها تنفرت من الدنيا وما فيها فإنها كالصيد في الحرم وأنتم حرم بالوجه إلى كعبة الوصال بإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال متجردين عن كل مرغوب ومرهوب منفردين من كل مطلوب ومحبوب {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ} بذبح النفس إذا كانت موصوفة بصفة البهيمة ترفع في مراتع الحيوان السفلية ويحكم بترك ذبحها ويخاطبها بالرجوع إلى حضرة الربوبية عند اطمئنانها
337
مع ذكر الحق واتصافها بالصفات الملكية العلوية {مَا يُرِيدُ} ما يريد كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 336
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللَّهِ} نزلت في الخطيم واسمه شريح بن ضبيعة البكري أتى المدينة من اليمامة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له : إلى ما تدعو الناس؟ فقال : "إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم لعلى اسلم وآتي بهم وقد كان النبي عليه السلام قال لأصحابه : "يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان" ثم خرج شريح من عنده فقال عليه السلام : "لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم" فمر بسرح المدينة فاستاقه فانطلق فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام المقبل خرج حاجاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلدوا الهدي فقال المسلمون للنبي عليه السلام : هذا الخطيم قد خرج حاجاً فخل بيننا وبينه فقال النبي عليه السلام : "إنه قد قلد الهدي" فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية فأبى النبي عليه السلام فأنزل الله هذه الآية وكان المشركون يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك.
والشعائر : جمع شعيرة وهي اسم لما أشعر أي جعل شعائر أي علماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر والمعنى لا تتهاونوا بحرمتها ولا تقطعوا أعمال من يحج بيت الله ويعظم مواقف الحج {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي ولا تستحلوا القتل والغارة في الشهر الحرام وهو شهر الحج والأشهر الأربعة الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، والافراد لإرادة الجنس {وَلا الْهَدْىَ} بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله وهو ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاة تقرباً إلى الله تعالى جمع هدية {وَلا الْقَلَائدَ} أي : ذوات القلائد من الهدي بتقدير المضاف وعطفها على الهدى للاختصاص فإنها أشرف الهدي أي ولا تحلوا ذوات القلائد منها خصوصاً وهي جمع قلادة وهي ما يشد على عنق البعير وغيره من نعل أو لحاء شجرة أو غيرهما ليعلم به أنه هدى فلا يتعرض له {وَلا ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي : ولا تحلوا قوماً قاصدين زيارة الكعبة بأي تصدوهم عن ذلك بأن وجه كان
جزء : 2 رقم الصفحة : 336
{يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} حال من المستكن في آمين أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبين الرزق بالتجارة والرضوان أي على زعمهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان أي رضي الله تعالى ما لم يسلم.
قال في "الإرشاد" : إنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى فوصفهم الله بظنهم وذلك الظن الفاسد وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى لكن لا بعد في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصهم من المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره انتهى.
وهذه الآية إلى ههنا منسوخة بقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة : 5) وبقوله : {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا} (التوبة : 28) فلا يجوز أن يحج مشرك ولا يأمن كافر بالهدي والقلائد.
قال الشعبي : لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} تصريح بما أشير إليه
338(2/268)
بقوله تعالى : {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجبها والأمر للإباحة بعد الحظر كأنه قيل وإذا حللتم من الإحرام فلا جناح عليكم في الاصطياد {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني والمعنى لا يحملنكم يا اأَيُّهَا الَّذِينَ} أي : شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت أضيف إلى المفعول أو الفاعل فالمعنى على الأول بغضكم لبعض فحذف الفاعل وعلى الثاني بغض قوم إياكم فحذف المفعول {أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي لأن منعوكم عن زيارته والطواف به للعمرة عام الحديبية {أَن تَعْتَدُوا} ثاني مفعولي يجرمنكم أي لا يحملنكم شدة بغضكم لهم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي {وَتَعَاوَنُوا} أي : ليعن بعضكم بعضاً {عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي : على العفو والاغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي : لا يعن بعضكم بعضاً على شيء من المعاصي والظلم للتشفي والانتقام وليس للناس أن يعين بعضهم بعضاً على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضاً على ما فيه البر والتقوى.
وأصل لا تعاونوا لا تتعاونوا فحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً وإنما أخر النهي عن الأمر مع تقدم التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو مقصود بالذات فإن المقصود من إيجاب ترك التعاون على الإثم والعدوان إنما هو تحصيل التعاون على البر والتقوى.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال : "البر حسن الخلق والاسم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي فثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فانتقامه أشد لمن لا يتقيه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 336
واعلم أن شعائر الله في الحقيقة هي مناسك الوصول إلى الله وهي معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة بإشارة أرباب الحقيقة فإن حقيقة البر هو التفرد للحق وحقيقة التقوى هو الخروج عما سوى الله تعالى فالوصول لا يمكن إلا بهما لكنهما خطوتان لا يمكن للمريد الصادق أن يتخطى بها إلا بمعاونة شيخ كامل مكمل واصل موصل فإنه دليل هذا الطريق ، قال الحافظ :
بكوى عشق منه بي دليل راه قدم
كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد
وقال أيضاً :
شبان وادىء ايمن كهى رسد بمراد
كه ند سال بجان خدمت شعيب كند
وفي الآية إشارة إلى تعظيم ما عظمه الله من الزمان والمكان والاخوان وقد فضل الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتتسارع القلوب إلى احترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق في فضائلها وفضل الأمكنة بعضها على بعض ليعظم الأجر بالإقامة فيها وخلق الناس سعيداً وشقياً والعبرة بالخاتمة وكل مخلوق من حيث أنه مخلوق الله حسن حتى أنه ينبغي أن يكون النظر إلى الكافر من حيث أنه مخلوق الله لا من حيث كفره وإن لم يرض بكفره فعلى الناظر بنظر
339
التوحيد أن يحسن النظر ولا يحقر أحداً من خلق الله ولا يشتغل بالعداوة والبغضاء ، قال السعدي قدس سره :
دلم خانه مهر بارست وبس
ازان مى نكنجد دروكين كس
ومن كلمات أسد الله كرم الله وجهه العداوة شغل يعني من اشتغل بالعداوة ينقطع عن الاشتغال بالأمور المفيدة النافعة لأن القلب لا يسع الاشتغالين المتضادين.
هركه يشه كند عداوت خلق
از همه يزها جداً كردد
كه دلش خسته عنا باشد
كه تنش بسته بلا كردد
وكان صلى الله عليه وسلّم موصوفاً بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال فعليك أن تقتدي به ولما مدح الله الأنبياء عليهم السلام ووصف كل نبي بصفة قال له تعالى : {فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام : 90) ففعل فصار مستجمعاً لكمال خصال الخير وكان كل واحد منهم مخصوصاً بخصلة مثل نوح بالشكر وإبراهيم بالحلم وموسى بالإخلاص وإسماعيل بصدق الوعد ويعقوب وأيوب بالصبر وداود بالاعتذار وسليمان بالتواضع وعيسى بالزهد فلما اقتدى بهم اجتمع له الكل فأنت أيها المؤمن من أمة ذلك الرسول صلى الله عليه وسلّم فاتق الله واستحي من رسول الله كي تنجو من العقاب الشديد والعذاب المديد وتظفر بالخلد الباقي بالنعيم المقيم وتنال ما نال إليه ذو القلب السليم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 336
(2/269)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي تناولها فإن التحليل والتحريم إنما يتعلقات بالأفعال دون الأعيان والميتة ما فارقه الروح من غير ذبح {وَالْدَّمُ} أي : الدم المسفوح أي المصبوب كالدماء التي في العروق لا الكبد والطحال وكان أهل الجاهلية يصبونها في أمعاء ويشوونها ويقولون لم يحرم من فزدله أي من فصدله {وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} لعينه لا لكون ميتة حتى لا يحل تناوله مع وجود الذكاة فيه وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذكر دون لحم الكلب وسائر السباع أن كثيراً من الكفار ألفوا لحم الخنزير فخص بهذا الحكم وذلك أن سائر الحيوانات المحرم أكلها إذا ذبحت كان لحمها طاهراً لا يفسد الماء إذا وقع فيه وإن لم يحل أكله بخلاف لحم الخنزير.
قال في "التنوير" وليس الكلب بنجس العين قال العلماء الغذاء يصير جزأ من جوهر المغتذي ولا بد وأن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية ومن جملة خبائث الخنزير أنه عديم الغيرة فإنه يرى الذكر من الخنازير ينزو على انثى له ولا يتعرض له لعدم غيرته فأكل لحمه يورث عدم الغيرة {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي : رفع الصوت لغير الله عند ذبحه كقوله باسم اللات والعزى.
قال الفقهاء : ولو سمي الذابح النبي عليه السلام مع الله فقال باسم الله ومحمد حرمت الذبيحة وفي الحديث "لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله" قال النووي المراد به الذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو لموسى أو لغيرهما.
ذكر الشيخ الماوردي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله.
وقال الرافعي : هذا غير محرم لأنهم إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم كذا في "شرح المشارق" لابن ملك
340
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} أي : التي ماتت بالخنق وهو احتباس النفس بسبب انعصار الحلق وأكل المنخنقة حرام سواء حصل اختناقها بفعل آدمي أو لا مثل أن يتفق أن تدخل البهيمة برأسها بين عودين من شجرة فتخنق فتموت وكان أهل الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها وهذه المتخنقة من جنس الميتة لأنها ماتت من غير تذكية {وَالْمَوْقُوذَةُ} المضروبة بنحو خشب أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
(2/270)
قال قتادة كانوا يضربونها بالعصي فإذا ماتت أكلوها وهي في معنى المنخنقة أيضاً لأنها ماتت ولم يسل دمها {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} التي تردت من مكان عال أو في بئر فماتت قبل الذكاة.
والتردي هو السقوط مأخوذ من الردى وهو الهلاك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم : "إذا تردت رميتك من جبل فوقعت في ماء فلا تأكل فإنك لا تدري أسهمك قتلها أم الماء؟" فصار هذا الكلام أصلاً في كل موضع اجتمع فيه معنيان أحدهما حاظر والآخر مبيح أنه يغلب جهة الحظر ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمي الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الربا {وَالنَّطِيحَةُ} التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح وهو بالفارسية "سروزدن" والتاء في هذه الكلمات الأربع لنقلها من الوصفية إلى الاسمية وكل ما لحقته هذه التاء يستوي فيه المذكر والمؤنث وقيل : التاء فيها لكونها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة وخصت الشاة بالذكر لكونها أعم ما يأكله الناس والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد الكل {وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ} أي : وما أكل منه السبع فمات وكان أهل الجاهلية يأكلونه.
والسبع اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها كالأسد وما دونه وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم يحل {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح فإنه يحل لكم فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة فلا يكون حلالاً وإن ذبحته وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حية قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالاً ولو رمى إلى صيد في الهواء وأصابه فسقط على الأرض ومات كان حلالاً لأن الوقوع على الأرض من ضرورته وإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات فلا يحل وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح وأما ما أبين من الصيد قبل الذكاة فهو ميتة.
والذكاة في الشرع بقطع الحلقوم والمري وهو اسم لما اتصل بالحلقوم وهو الذي يجري فيه الطعام والشراب وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمري وكماله أن يقطع الودجان معهما ويجوز بكل محدد من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر أو نحوها فإن جمهور العلماء على أن كل ما أفري الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والظفر والعظم ما لم يكن السن والظفر منزوعين لأن الذبح بهما يكون خنقاً وأما المنزوعان منهما إذا أفريا الأوداج فالذكاة جائزة بهما عندهم والذكاة الذبح التام الذي يجوز معه الأكل ولا يحرم لأن أصل الذكاة إتمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم إذا كان
341
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
(2/271)
تام العقل وفي الحديث "الذكاة ما بين اللبة واللحيين" فعلى هذا اللحم القديد الذي يجيىء إلى دار الإسلام من دار أفلاق لا يجوز أكله لأنهم يضربون رأس البقر ونحوه بفأس ومثله فيموت فلا توجد الذكاة {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} النصب : واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة.
قال الإمام من الناس من قال : النصب هي الأوثان وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله وما أهل لغير الله به وذلك هو الذبح على اسم الأوثان ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه.
وقال ابن جريج النصب ليست بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا نصبوها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها فقال المسلمون : يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ونحن أحق أن نعظمه وكان عليه السلام لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى : {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا} (الحج : 37) إلى هنا كلام الإمام {وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالازْلاَمِ} جمع زلم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالقداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي والثالث غفل أي خال عن الكتابة فإن خرج الآمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه وإن خرج الغفل أجالوها ثانياً فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بواسطة ضرب القداح وقيل : هو استقسام الجزور بالقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب معرفة كيفية قسمة الجزور وقد تقدم تفصيله عند تفسير قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة : 219) في سورة البقرة {ذَالِكُمْ} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام {فِسْقٌ} أي : تمرد وخروج عن الحد ودخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أنه طريق إليه وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي وشرك وجهالة إن كان هو الصنم.
فظاهر هذه الآية يقتضي أن العمل على قول المنجمين لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج من أجل نجم كذا فسق لأن ذلك دخول في علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله كذا في "تفسير الحدادي".
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
واعلم أن استعلام الغيب بالطريق الغير المشروع كاستعلام الخير والشر من الكهنة والمنجمين منهي عنه بخلاف استعلام الغيب بالاستخارة بالقرآن وبصلاة الاستخارة ودعائها وبالنظر والرياضة لأنه استعلام بالطريق المشروع وإن طلب ما قسم له من الخير ليس منهياً عنه مطلقاً بل المنهي عنه هو الاستقسام بالأزلام وفي الحديث "العيافة والطرق والطيرة من الجبت" والمراد بالطرق الضرب بالحصى وفي الحديث "من تكهن واستقسم أو تطير طيرة ترده من سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة" {الْيَوْمَ} اللام للعهد والمراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية ونظيره قوله : كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً فإنك لا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ولا باليوم اليوم الذي أنت فيه.
وقيل : أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة يوم عرفة حجة الوداع والنبي عليه السلام واقف بعرفات على العضباء فكادت عضد الناقة تندق لثقلها فبركت وأياً ما كانت فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى : {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ} أي من إبطالكم إياه ورجوعكم عنه بأن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا
342
(2/272)
من أن الله عز وجل وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله وهو الأنسب بقوله تعالى : {فَلا تَخْشَوْهُمْ} أي : من أن يظهروا عليكم {وَاخْشَوْنِ} وأخلصوا إلي الخشية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين والشرائع أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكها والنهي عن حج المشركين وطواف العريان {وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا} أي : اخترته لكم من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير.
فقوله ديناً نصب حالاً من الإسلام ويجوز أن يكون رضيت بمعنى صيرت فقوله ديناً مفعول ثاننٍ له.
قال جابر بن عبد الله : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "قال جبريل عليه السلام قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال أي آية قال : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} الخ قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي عليه السلام وهو قائم بعرفة يوم الجمعة أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة ، وعرفة ، وعيد اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
ـ روي ـ أنه لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال النبي عليه السلام : "ما يبكيك يا عمر" قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال : "صدقت" فكانت هذه الآية تنعي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر من الهجرة.
وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وكانت هجرته في الثاني عشر منه ، قال السعدي قدس سره :
جهان أي برادر تماند بكس
دل اندرجهان آفرين بندوبس
جهان أي سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفا داري أميد نيست
منه دل برين سال خورده مكان
كه كنبد نايد بر وكرد كان
{فَمَنِ اضْطُرَّ} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التنب عنها وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات {فِى مَخْمَصَةٍ} أي : مجاعة يخاف منها الموت أو مباديه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} حال من فاعل الجواب المحذوف أي فليتناول مما حرم غير مائل ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذاً أو مجاوزاً حد الرخصة أو ينتزعها من مضطر آخر كقوله تعالى : {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بأكلها وهو تعليل للجواب المقدر.
ـ وروي ـ أن رجلاً قال : يا رسول الله إنا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة فقال : "ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تجنفوا بها بقلاً فشأنكم بها" ومن امتنع من الميتة حال المخمصة أو صام ولم يأكل حتى مات أثم بخلاف من امتنع من التداوي حتى مات فإنه لا يأثم لأنه لا يقين بأن هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج.
343
والإشارة في الآيات : أن ظاهرها خطاب لأهل الدنيا والآخرة وباطنها عتاب لأهل الله وخاصته {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} يا أهل الحق {الْمَيْتَةُ} وهي الدنيا بأسرها ، قال في المثنوي :
درجهان مرده شان آرام نيست
كين علف جز لايق أنعان نيست
هركرا كلشن بود بزم ووطن
كي خورد أوباده اند كولخن
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
(2/273)
{وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} يعني : حلالها وحرامها قليلها وكثيرها وذلك لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل واللحم بالنسبة إلى الدم كثير {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يعني : كل طاعة وعبادة وقراءة ودراسة ورواية تظهرون به لغير الله {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} يعني الذين يخنقون نفوسهم بالمجاهدات ويقذونها بأنواع الرياضات بنهيها عن المرادات وزجرها عن المخالفات للرياء والسمعة {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} الذين يردون نفوسهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين بالتناطح من الأقران والمماراة مع الإخوان والتفاخر بالعلم والزهد بين الاخدان وفي قوله {وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} إشارة إلى أنه فيما تحتاجون إليه من القوت الضروري كونوا محترزين من أكيلة السباع وهم الظلمة الذين يتهاوشون في جيفة الدنيا تهاوش الكلاب ويتجاذبونها بمخالب الأطماع الفاسدة إلا ما ذكيتم بكسب حلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} يشير إلى ما ذبح عليه النفس بأنواع الجد والاجتهاد من المطالب الدنيوية والأخروية {وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالازْلاَمِا ذَالِكُمْ فِسْقٌ} يعني : لا تكونوا مترددين متفئلين في طلب المرام مبتغين لحصول المقصود متهاونين في بذل الوجود فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم من هذه الدواهي وأخلصتمفي الله بالله وخرجتم من سجن الأنانية وسجين الإنسانية بالجذبات الربانية فقد عادت ليلتكم نهاراً وظلمتكم أنواراً {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها {مِن دِينِكُمْ} وتيقنوا أن ما بقي لكم الرجوع إلى ملتهم ولا الصلاة إلى قبلتهم {فَلا تَخْشَوْهُمْ} فإنكم خلصتم من شبكة مكايدهم ونجوتم من عقد مصايدهم {وَاخْشَوْنِى} فإن كيدي متين وصيدي مهين وبطشي شديد وحبسي مديد {الْيَوْمَ} إشارة إلى الأزل {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي : جعلت الكمالية في الدين من الأزل نصيباً لكم من جميع أهل الملل والأديان
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} التي أنعمت بها عليكم في الأزل من الكمالية الآن بإظهار دينكم على الأديان كلها في الظاهر وأما في الحقيقة فسيجيء شرحه {وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا} تستكملون به إلى الأبد بحيث من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وذلك لأن حقيقة الدين هي سلوك سبيل الله بقدم الخروج من الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي والإنسان مخصوص به من سائر الموجودات ولهذه الأمة اختصاص بالكمالية في السلوك من سائر الأمم فالدين من عهد آدم عليه السلام كان في التكامل بسلوك الأنبياء سبيل الحق إلى عهد النبي عليه الصلاة والسلام فكل نبي سلك في الدين مسلكاً أنزله بقربه من مقامات القرب ولكن ما خرج أحد منهم بالكلية من الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي بالكمال فقيل للنبي عليه السلام : {أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام : 90) فسلك النبي جميع المسالك التي سكلها الأنبياء بأجمعهم فلم يتحقق له الخروج أيضاً بقدم السلوك من الوجود المجازي بالكلية حتى تداركته
344
العناية الأزلية لاختصاصه بالمحبوبية بجذبات الربوبية وأخرجته من الوجود المجازي ليلة أسري بعدما عبر به على الأنبياء كلهم وبلغ في القرب إلى الكمالية في الدنو وهو سر أو أدنى فاستسعد سعادة الوصول إلى الوجود الحقيقي في سر فأوحي إلى عبده ما أوحي وفي الحقيقة قيل له في تلك الحالة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} ولكن في حجة الوداع في يوم عرفة عند وقوفه بعرفات أظهر على الأمة عند إظهاره على الأديان كلها وظهور كمالية الدين بنزول الفرائض والأحكام بالتمام فقال : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا} ويدل على هذا التأويل ما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤها" قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم "فأنا اللبنة" متفق على صحته فصح ما قرر من مقامات الأنبياء وتكامل الدين بهم وكماليته بالنبي عليه السلام وبخروجه من الوجود المجازي بالكلية وأن الأنبياء لم يخرجوا منه بالكلية ويدل على هذا المعنى أيضاً أن الأنبياء كلهم يوم القيامة يقولون : نفسي نفسي لبقية الوجود والنبي عليه السلام "أمتي أمتي" لفناء الوجود فافهم جداً ومن كرامة هذه الأمة اشتراكهم في كمالية الدين مع النبي بمتابعته وقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
(2/274)
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} وهي إسبال تحصيل الكمال ومعظمها بعثة النبي عليه الصلاة والسلام {وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا} وهو استسلام الوجود المجازي إلى النبي وخلفائه بعده ليطرح عليه أكسير المتابعة فيبدل الوجود المجازي المحبي بالوجود الحقيقي المحبوبي كما قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران : 31) يعني : ويغفر بالوجود الحقيقي ذنوب الوجود المجازي فافهم جداً وتنبه {فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ} يعني : فمن ابتلى بالتفاته إلى شيء من الدنيا والآخرة مضطراً إليه في غاية الاضطرار والابتلاء لسر التربية {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} يعني : غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة تقع للصادقين أو وقفة تكون للسالكين ثم يتداركونها بصدق الالتجاء إلى الحق وأرواح المشايخ والاستعانة بهم وطلب الاستغفار من ولاية البنين وإعانتهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما ابتلاهم به {رَّحِيمٌ} بأن يهديهم إلى الصراط المستقيم بإقامة الدين القويم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
{يَسْـاَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} ما للاستفهام وذا بمعنى الذي والمعنى ما الذي أحل لهم من المطاعم.
إن قلت مفعول يسأل إنما يكون مفرداً فكيف تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر منه كما في قوله تعالى : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـائِثَ} (الأعراف : 157) والطيب في اللغة المستلذ المشتهى فالتقدير كل ما يستلذ ويشتهي والعبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات كذا قال الإمام في تفسيره {وَمَا عَلَّمْتُم} عطف على الطيبات بتقدير المضاف على أن ما موصولة والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه {مِّنَ الْجَوَارِحِ} حال من الموصول جمع جارحة بمعنى كاسبة قال تعالى : {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام : 60) وجوارح الإنسان أعضاؤه التي يكتسب بها ويحتمل أن يكون من الجرح بمعنى تفريق الاتصال فإن الجوارح تجرح الصيد
345
غالباً.
والمراد بالجوارح في الآية كل ما يكسب الصيد على أهله من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ومن سباع الطير كالصقر والبازي والعقاب والنسر والباشق والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم فإن صيد جميعها حلال {مُكَلِّبِينَ} أي معلمين لها الصيد والمكلب مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد ومضريها عليه مشتق من الكلب وذكر الكلب لكونه أقبل للصيد والتأديب فيه وانتصابه على الحالية من فاعل علمتم.
فإن قلت يلزم أن يكون المعنى وصيد ما علمتم معلمين ولا فائدة.
قلت : فائدتها المبالغة في التعليم لما أن اسم المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه فكأنه قيل وما علمتم ماهرين في تعليم الجوارح حاذقين فيه مشتهرين به
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
(2/275)
{تُعَلِّمُونَهُنَّ} حال ثانية {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من الحيل وطرق التعليم والتأديب فإن العلم به الهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وأن ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.
قال صاحب "الكشاف" قوله تعالى : {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} فيه تنبيه على أن كل من يأخذ علماً ينبغي أن يأخذه ممن هو متبحر في ذلك العلم غواص في بحار لطائفه وحقائقه وإن احتاج في ذلك إلى ارتكاب سفر بعيد قال عليه السلام : "اطلبوا العلم ولو بالصين" فكم من آخذ من غير متقن ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله {فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} من تبعيضية لما أن البعض مما لا يتعلق به الأكل كالجلود والعظام والريش وما موصولة حذف حائدها وعلى متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسكنه عليكم وهو الذي لم يأكلن منه وأما ما أكلن منه فهو مما أمسكن على أنفسهن لقوله عليه السلام لعدي بن حاتم : "وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسكه على نفسه" وإليه ذهب أكثر الفقهاء.
وقال بعضهم ومنهم أبو حنيفة : يؤكل مما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل مما بقي من الكلب والفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يؤدب البازي على الأكل {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الضمير لما في علمتم أي سموا عليه عند إرساله أو لما في ما أمسكن أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته.
وعن أبي ثعلبة قال : قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي قال : "أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل" وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم "كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين يطأ على صفاحهما ويذبحهما بيده ويقول : باسم الله والله أكبر" كذا في "تفسير البغوي".
والمستحب أن يقول بسم الله الله أكبر بلا واو لأن ذكر الواو يقطع نور التسمية كما في "شرح مختصر الوقاية" وكره ترك التوجه إلى القبلة وحلت كذا في "الذخيرة" ومتروك التسمية عمداً حرام لأنه ميتة بخلاف متروكها نسياناً فإنه حلال {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في شأن محرماته {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} سريع إتيان حسابه أو سريع تمامه إذا شرع فيه يتم في أقرب ما يكون من الزمان والمعنى على التقديرين أنه يؤاخذكم سريعاً في كل ما جل ودق ودلت الآية على إباحة الصيد.
قال في "الأشباه" : الصيد مباح إلا للتلهي
346
أو حرفة كذا في "البزازية" وعلى هذا فاتخاذه حرفة كصيادي السمك حرام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
ـ يحكى ـ عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كان أبي من ملوك خراسان فركبت إلى الصيد فأثرت أرنباً إذ هتف بي هاتف يا إبراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟ ففزعت ودفعت ثم أخذت ففعلت ثانياً ثم هتف بي هاتف من قربوس السرج والله ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فنزلت فصادفت راعي أبي ولبست جبته وتوجهت إلى مكة ، ولما نزلت هذه الآية أذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها وأمر بقتل الكلب العقور وبما يضر ويؤذي ورفع عما سواها مما لا ضرر فيه وفي الحديث "من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط" والحكمة في ذلك أنه ينبح الضيف ويروع السائل كذا في "تفسير الحدادي" وفي الحديث "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب" والمراد بالملائكة ملائكة الرحمة والاستغفار أي النازلون بالبركة والرحمة والطائفون على العباد للزيارة واستماع الذكر لا الكتبة فانهم لا يفارقون المكلفين طرفة عين والمراد بالصورة صورة ذي الروح لمشابهته بيوت الأصنام وبعض الصور يعبد فأبغض إلى الخواص ما عصى الله به.
وأما الكلب فلأنه نجس فاشبه المتبرز وزاد في بعض الأحاديث ولا جنب إلا أن يتوضأ ، قال في "الترغيب والترهيب" : ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ ثم قيل هذا في حق كل من أخر الغسل لغير عذر ولعذر إذا أمكنه الوضوء فلم يتوضأ أو قيل هو الذي يؤخره تهاوناً وكسلاً ويتخذ ذلك عادة انتهى.
قال في "الشرعة وشرحها" لابن السيد علي : وينام بعد الوطء نومة خفيفة فإنه أروح للنفس لكن السنة فيه أن يتوضأ أولاً وضوءه للصلاة ثم ينام وكذا إذا أراد الأكل جنباً ولو أراد العود فليتوضأ والمراد به التنظف بغسل الذكر واليدين لا الوضوء الشرعي كما ذهب إليه بعض المالكية.
(2/276)
والإشارة في الآية أن أرباب الطلب وأصحاب السلوك {يَسْـاَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} أو حرم عليهم من الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلّم "الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرامان على أهل الله تعالى" {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ} وهي ما لا يقطع عليكم طريق الوصول إلى الله فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب وكل مأكول ومشروب وملبوس ومقول ومعقول ومعمول طلبتموه بحظ من الحظوظ فقد لوثتموه للوث داعي الوجود فهو من الخبيثات لا يصلح إلا للخبيثين وما طلبتموه بالحق للقيام بأداء الحقوق مطيباً بنفحات الشهود فهو من الطيبات لا يصلح إلا للطيبين وفي قوله : {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إشارة إلى أنه تعالى يحاسب العباد على أعمالهم قبل أن يفرغوا منها ويجازيهم في الحال بالإحسان إحسان القربة ورفعة الدرجة وجذبة العناية وبالإساءة إساءة البعد والطرد إلى السفل والخذلان ، ونعم ما قيل : (هركه كند بخود كند ورهمه نيك بد كند) قال الصائب :
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
راز غير شكايت كنم كه همو حباب
هميشه خانه خراب هواي خويشتنم
{الْيَوْمَ} أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية أو يوم النزول {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ} وهي ما لم تستخبثه الطباع السليمة وهي طباع أهل المروءة والأخلاق الجميلة أو ما لم يدل نص شارع ولا قياس مجتهد على حرمته {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} أي :
347
اليهود والنصارى والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها {لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ} أي : حلال وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس وهو قول عامة التابعين وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عنده وقال صاحباه هما صنفان : صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرأون كتاباً ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لقوله عليه السلام : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله كالنصراني يذبح باسم المسيح فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقال الحسن إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكله وإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله لك {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا عليكم أن تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـاتِ} رفع على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضاً والمراد بهن الحرائر والعفائف وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو الأولى لا لنفي ما عداهن فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق وكذا غير العفائف منهن وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} أي هن أيضاً حل لكم وإن كن حربيات وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لا تحل الحربيات ، قال الحدادي واستدل بعض الفقهاء بظاهر الآية على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية والصحيح أنه يجوز بظاهر قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
(2/277)
{بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} بدليل حل ذبائحهن وإنما خص الله المحصنات بإباحة نكاحهن مع جواز نكاح غيرهن لأن الآية خرجت مخرج الامتنان والمنة في نكاح الحرائر العفائف أعظم وأتم يدل على ذلك أنه لا خلاف في جواز النكاح بين المسلم والأمة المؤمنة وإن كان في الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات والأفضل لمن أراد النكاح أن لا يعدل عن نكاح الحرائر الكتابيات مع القدرة عليهن وذلك أن نكاح الأمة يؤدي إلى إرقاق الولد لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية ولا ينبغي لأحد أن يختار رق ولده كما لا ينبغي أن يختار رق نفسه {إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي : مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإذا ظرفية عاملها حل المحذوف {مُحْصِنِينَ} حال من فاعل آتيتمونهن أي حال كونكم أعفاء بالنكاح وكذا قوله : {غَيْرَ مُسَـافِحِينَ} أي غير مجاهرين بالزنى {وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} أي ولا مسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى.
قال الشعبي الزنى ضربان السفاح وهو الزنى على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنى في السر والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان {وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ} أي ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين ههنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي بطل عمله الصالح الذي عمله قبل ذلك {وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} هو مبتدأ من الخاسرين خبره وفي متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق.
قال الحدادي : فقد بطل ثواب عمله وهو في الآخرة من المغبونين غبن نفسه ومنزله وصار إلى النار لا يغني عن المرأة
348
الكتابية إسلام زوجها ولا ينفعها ذلك ولا يضر المسلم كفر زوجته الكتابية ، قال السعدي :
برفتند وهركس درود آنه كشت
نماند بجزنام نيكو وزشت
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
واعلم أن الكفر أقبح القبائح كما أن الإيمان أحسن المحاسن وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ثلاثاً" وعن كعب الأحبار أن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنه ساماً من بين أولاده وقال : أوصيك باثنتين وأنهاك عن اثنتين.
فأما الأوليان فإحداهما شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تخرق السموات السبع ولا يحجبها شيء ولو وضعت السموات والأرض وما فيهن في كفة ووضعت هي في الأخرى لرجحت.
وأما الثانية : فأن تكثر من قول سبحان الله والحمدفإنها جامعة للثواب.
وأما الأخريان فالشرك بالله والاتكال على غير الله.
قال القاضي عياض انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب لكن بعضهم يكون أشد من بعض بحسب جرائمهم وأما حسناتهم فمقبولة بعد إسلامهم على ما ورد في الحديث.
قال في "نصاب الاحتساب" ما يكون كفراً بلا خلاف يوجب إحباط العمل ويلزمه إعادة الحج إن كان قد حج ويكون وطؤه مع امرأته حراماً والولد المتولد في هذه الحالة يكون ولد الزنى وإن كان أتى بكلمة الشهادة بعد ذلك إذا كان الإتيان على وجه العادة ولم يرجع عما قال لأن الإتيان بكلمة الشهادة على وجه العادة لا يرفع الكفر وما كان في كونه كفراً اختلاف فإن قائله يؤمر بتجديد النكاح والتوبة والرجوع عن ذلك بطريق الاحتياط وأما ما كان خطأ من الألفاظ ولا يوجب الكفر فقائله مؤمن على حاله ولا يؤمر بتجديد النكاح ويؤمر بالاستغفار والرجوع عن ذلك انتهى كلام النصاب.
والرجل والمرأة في ذلك سواء حتى لو تكلمت المرأة بما يكون كفراً تبين من زوجها ، فعلى العبد الصالح أن يختار من النساء صالحة عفيفة متقية.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندي قدس سره : لا تعطي الولاية لولد الزنى قال : واشكر الله تعالى على أن جعلني أول ولد ولدته أمي فإنه أبعد من أن يصدر ألفاظ الكفر من أحد أبوي قال وارثه الأكبر الشيخ الشهير بالهدايى قدس سره قلت والفقير كذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
(2/278)
والإشارة في الآية {أُحِلَّ لَكُمُ} يا أرباب الحقيقة في اليوم الذي قدر كمالية الدين فيه لكم في الأزل جميع {الطَّيِّبَـاتُ} التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات المبرءات من النقائص والشبهات {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} وفي الحقيقة هم الأنبياء عليهم السلام {لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ} أي : غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة من حلمتي الشريعة والحقيقة.
{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} يعني : منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين فشربتم لبان ألطافنا من مشرب الولاية وشرب الأنبياء لبان أفضالنا من مشرب النبوة قد علم كل أناس مشربهم وللنبي عليه السلام شركة في المشارب كلها وله اختصاص في مجلس المقام المحمود من المحبوب بمشرب "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبيء مرسل كذلك حل لكم {مِنَ الْمُؤْمِنَـاتِ وَالْمُحْصَنَـاتُ} وهي أبكار حقائق القرآن التي أحصنت من أفهام الأزواج المؤمنات
349
بها وهي أزواج العلماء وخواص هذه الأمة {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} وهي أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمة السالفة التي أحصنت من الذين أنزل عليهم الكتب وأدرجت في القرآن وأخفيت لكم كما قال تعالى : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم} (السجدة : 17) يعني في القرآن {مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17) وهي أبكار حقائق جميع الكتب المنزلة فافهم جداً كلها لكم {إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي : مهور هذه الأبكار وهي بذل الوجود {مُحْصِنِينَ} يعني : متعففين في بذل الوجود فيكون على وجه الحق وبتصرف المشايخ الواصلين {غَيْرَ مُسَـافِحِينَ} على وفق الطبع وخلاف الشرع وبتصرف الهوى {وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} يعني : في بذل الوجود لا يكون ملتفتاً إلى شيء من الكونين ولا إلى أحد في الدارين سوى الله ليكون هو المشرب ومنه الشراب وهو الحريف والساقي {وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ} بهذه المعاملات والكمالات إذ حرم من العيان من هذه السعادات.
{فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الذي عمله على العمياء والتقليد.
{وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} الذين خسروا الدنيا والعقبى والمولى كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 345
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ} المراد بالقيام إما القيام الذي هو من أركان الصلاة فالتقدير إذا أردتم القيام لها بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب لأن الجزاء لا بد وأن يتأخر عن الشرط يعني صحة قيام الصلاة بالطهارة ، وإما القيام الذي هو من مقدمات مباشرة الصلاة فالتقدير إذا قصدتم الصلاة إطلاقاً لاسم أحد لازميها على لازمها الآخرة فالوضوء من شرائط القيام الأول دون الثاني وهذا الخطاب خاص بالمحدثين بقرينة دلالة الحال فلا يلزم الوضوء على كل قائم إلى الصلاة سواء كان محدثاً أم لا كما يقتضيه ظاهر الآية {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الغسل إجراء الماء على المحل وتسييله سواء وجد معه الدلك أم لا والوجه ما يواجهك من الإنسان وحده من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن طولاً ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً يجب غسل جميعه في الوضوء ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار والعنفقة وإن كانت كثيفة وعند الأمام لا يجب غسل ما تحت الشعر ففرض اللحية عنده مسح ما يلاقي الوجه دون ما استرسل من الذقن لأنه لما سقطت فرضية غسل ما تحت اللحية انتقلت فرضيته إلى خلفه وظاهر الآية أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء لأن اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن فهما من السنن {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل إلى بمعنى مع كقوله تعالى : {تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ} والمرافق جمع مرفق وهو مجتمع طرفي الساعد والعضد ويسمى مرفقاً لأنه الذي يرتفق به أي يتكأ عليه من اليد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الباء مزيدة كما ألقى بيده.
والمسح الإصابة وقدر الواجب عند أبي حنيفة ربع الرأس لأنه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع فإن للرأس جوانب أربعة ناصية وقذال وفودان والقذال مؤخر الرأس خلف الناصية وفوداً الرأس جانباه ، في "الواقعات المحمودية" قال حضرت الشيخ الشهير أفتاده أفندي : انكشف لي وجه الاختلاف في مقدار مسح الناصية وهو أن بدن الإنسان مربع فبالقياس إليه ينبغي أن يكون
350
(2/279)
الممسوح ربع الرأس وأما اعتبار قدر ثلاثة أصابع فبالنظر إلى حال نفس الرأس فإنه مسدس والسدس فيه قدر ثلاثة أصابع ، قال المرحوم حضرة محمود الهدايي : قلت فحينئذٍ ينبغي أن يكون الاعتبار الأخير أولى لأنه بالنظر إلى حال نفسه بخلاف الأول لأنه بالقياس إلى البدن ، فقال حضرة الشيخ أفتاده : وجه أولوية الأول في البدن أكثر من الرأس فاتباع الأقل بالأكثر أولى انتهى.
قال الحدادي : وأما مسح الأذنين فهو سنة فيمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه وظاهرهما بمسبحتيه بماء الرأس وأما مسح الرقبة فمستحب.
وفي الحديث : "من مسح رقبته في الوضوء أمن من الغل يوم القيامة" {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بالنصب عطفاً على وجوهكم ويؤيده السنة الشائعة وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة والتحديد إذ المسح لم يعهد محدوداً وإنما جاء التحديد في المغسولات.
قال في "الأشباه" : غسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين لمن يرى جوازه وإلا فهو أفضل وكذا بحضرة من لا يراه انتهى وذهبت الروافض إلى أن الواجب في الرجلين المسح ورووا في المسح خبراً ضعيفاً شاذاً.
قال صاحب "الروضة" : خف الروافض مثل في السعة لأنه لا يرى المسح على الخف ويرى المسح على الرجلين فيوسعه ليتمكن من إدخال يده فيه ليمسح برجله.
وعن ابن المغيرة عن أبيه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة في سفر فقال : "أمعك ماء" قلت : نعم فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة ، فغسل وجه ويديه وعليه جبة من الصوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه ثم مسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : "دعهما فإني أدخلتهما طاهرين فمسح عليهما" كذا في "تفسير البغوي".
وأطبق العلماء على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية ومن سنته النية فينوي رفع الحدث أو إقامة الصلاة ليقع قربة واستعمال السواك في غلظة الخنصر وطول الشبر حالة المضمضة تكميلاً للإنقاء أو قبل الوضوء وعند فقده يعالج بالأصابع وينال بالأصبع ثواب السواك.
وفي "الهداية" : الأصح أن السواك مستحب.
وعن مجاهد قال أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم أتاه فقال له النبي عليه السلام : "ما حبسك يا جبريل" قال : وكيف آتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (مريم : 64) والبراجم : مفاصل الأصابع والعقد التي على ظاهرها يجتمع فيها من الوسخ وفي الحديث : "نقوا براجمكم" فأمر بتنقيتها لئلا تدرن فتبقى فيها الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة وفي الحديث : "نظفوا لثاتكم" جمع لثة بالتخفيف وهي اللحمة التي فوق الأسنان دون الأسنان فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وحل الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ويتأذى الملكان لأنه طريق القرآن ومقعد الملكين وتنفر الملائكة من الرائحة الكريهة وفي الحديث "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم للقرآن" وفي الحديث : "ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك" ويقول المتوضي بعد التسمية (الحمدالذي جعل الماء
351
(2/280)
طهوراً).
وعند المضمضة (اللهم اسقني من حوض نبيك كأساً لا أظمأ بعدها أبداً اللهم أعني على ذكرك وشكرك وتلاوة كتابك).
وعند الاستنشاق (اللهم لا تحرمني من رائحة نعيمك وجنانك) أو يقول (اللهم أرحني رائحة الجنة ولا ترحني رائحة النار).
وعند غسل الوجه (اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أو يقول : (اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ولا تسود وجهي بذنوبي يوم تسود وجوه أعدائك).
وعند غسل اليد اليمنى : (اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً) وعند غسل اليد اليسرى (اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري).
وعند مسح الرأس : (اللهم حرم شعري وبشري على النار وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك اللهم غشني برحمتك وأنزل عليَّ من بركاتك).
وعند مسح الأذنين (اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
وعند مسح رقبته : (اللهم أعتق رقبتي من النار).
وعند غسل الرجل اليمنى : (اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام).
وعند غسل الرجل اليسرى (اللهم اجعل لي سعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً وعملاً مقبولاً وتجارة لن تبور) ويقول بعد الفراغ : (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم واجعلني من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
والحكمة في تخصيص الأعضاء الأربعة في الوضوء : أن آدم عليه السلام لما توجه إلى الشجرة بالوجه وتناولها باليد ومشى إليها بالرجل ووضع يده على رأسه أمره بغسل هذه الأعضاء تكفيراً للخطايا وقد جاء في الحديث : "إن العبد إذا غسل وجهه خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه" وكذلك في بقية الأعضاء.
وقيل : خص بغسل هذه الأعضاء الأمة المحمدية ليكونوا غراً محجلين بين الأمم كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى المقبرة فقال : "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله قال : "أنتم أصحابي وإخواننا الذين يأتون بعد" قالوا : كيف تعرف من يأتون بعد من أمتك يا رسول الله فقال : "أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين أظهر خيل دهم بهم ألا يعرف خيله" قالوا : بلى يا رسول الله قال : "فانهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وانا فرطهم على الحوض".
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد فقال عمر رضي الله عنه صنعت شيئاً لم تكن صنعه فقال عليه السلام : "عمداً فعلته يا عمر" يعني بياناً للجواز غير أنه يستحب تجديد الوضوء لكل فرض وفي الحديث "من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات" وللتجديد أثر ظاهر في تنوير الباطن.
وكان بعض أهل الله يتوضأ عند الغيبة والكذب والغضب لظهور غلبة النفس وتصرف الشيطان فالوضوء هو النور الذي به تضمحل ظلمات النفس والشيطان.
وكان على وجه بعضهم قرح لم يندمل اثنتي عشرة سنة لضرر الماء له.
وكان مع ذلك لم يدع تجديد الوضوء عند كل فريضة.
ونزل في عين بعضهم ماء أسود فقال الكحال : لا بد من ترك الوضوء أياماً وإلا فلا يعالج فاختار ذهاب
352
بصره على ترك الوضوء.
ودواء الطهارة مستجلب لمزيد كما قال عليه السلام : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" والسنة أن يصلي بعد الوضوء ركعتين تسمى شكر الوضوء.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لبلال : "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة" قال : ما عملت عملاً أرجي عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي قال في "الأسرار المحمدية" : لابن فخر الدين الرومي : ويصلي شكور الوضوء وإن في الأوقات المكروهة لا الأوقات المحرمة كما قبل صلاة الفجر وبعدها وبعد صلاة العصر أيضاً لأنها من الصلوات ذوات الأسباب.
وأما الأوقات المحرمة كطلوع الشمس وزوالها وغروبها فلا تجوز فيه أصلاً فيصبر إلى وقت إباحة الصلاة فيصليها حينئذٍ إلا إذا كان بمكة.
عن جبير أن النبي عليه السلام قال : "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" وعن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة" انتهى كلام الأسرار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
(2/281)
والإشارة في الآية أن الخطاب في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} هو خطاب مع الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عند خطاب ألست بربكم بقولهم بلى.
وهم أهل الصف الأول يوم الميثاق آمنوا بعدما عاينوا.
وأهل الصف الثاني آمنوا إذ شاهدوا.
وأهل الصف الثالث آمنوا إذ سمعوا الخطاب.
وأهل الصف الرابع آمنوا تقليداً لا تحقيقاً لأنهم ما عاينوا ولا شاهدوا ولا سمعوا خطاب الحق بسمع الفهم والدراية بل سمعوا سماع القهر والنكاية فتحيروا حتى سمعوا جواب أهل الصفوف الثلاثة إذ قالوا بلى فقالوا بتقليدهم بلى فلا جرم ههنا ما آمنوا وهم الكفار وإن آمنوا ما آمنوا على التحقيق بل بالتقليد أو بالنفاق وهم المنافقون.
وأهل الصف الثالث هم المسلمون وعوام المؤمنين فكما آمنوا هناك بسماع الخطاب فكذلك ههنا آمنوا بسماع كقوله تعالى : {رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ} (آل عمران : 193).
وأما أهل الصف الثاني هم خواص المؤمنين وعوام الأولياء فكما أنهم آمنوا هناك إذ شاهدوا فكذلك ههنا آمنوا بشواهد المعرفة كما قال {وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّا يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا} (المائدة : 83) ومن ههنا قال بعضهم ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله فيه.
وأما أهل الصف الأول وهم الأنبياء وخواص الأولياء فكما آمنوا هناك إذ عاينوا فكذلك ههنا إذ عاينوا كقوله تعالى {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة : 285) وذلك في ليلة المعراج إذ أوحى إلى عبده ما أوحى قال : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه وكان إيمان موسى عليه السلام نوعاً من هذا فلما أفاق قال : {سُبْحَـانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف : 143).
وقال علي رضي الله عنه : لم أعبد رباً لم أره.
وقال بعضهم : رأى قلبي ربي وقال آخر : ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله فيه فخاطب أهل الصف الأول بقوله يا أيها الذين آمنوا تحقيقاً ثم أهبطوا عن ممالك القرب إلى مهالك البعد ومن رياض الإنس إلى سباخ الإنس {إِذَا قُمْتُمْ} من نوم الغفلة انتبهتم من رقدة الفرقة {إِلَى الصَّلَواةِ} هي معراجكم للرجوع إلى مقام قربكم كما قال :
353
{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق : 19) {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي : واغسلوا أيديكم عن التمسك بالدارين والتعلق بما في الكونين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق.
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ببذل نفوسكم {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي : واغسلوا أرجلكم عن طين طينتكم والقيام بأنانيتكم كذا في "التأويلات النجمية" ، قال الحافظ قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
من هما ندم كه وضو ساختم از شمه عشق
ار تكبير زدم يكسره رهره كه هست
(2/282)
{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي : فتطهروا أدغمت تاء التفعل في الطاء لقرب مخرجهما واجتلبت همزة الوصل ليمكن الابتداء فقيل : اطهروا وهذا التطهر عبارة عن الاغتسال والإطهار هو التطهر بالتكلف والمبالغة فلا يكون إلا بغسل جميع ظاهر البدن حتى لو بقي العجين بين أظفاره ويبس لم يجز غسله لأن الماء لا يصل تحته ولو بقي الدرن جاز إلا أن ما تعذر إيصال الماء إليه كداخل العين ساقط بخلاف باطن الأنف والفم حيث يمكن غسلهما ولا ضرر فيه فيجب.
والدلك ليس بفرض لأنه متمم فيكون مستحباً وليس البدن كالثوب لأن النجاسة تخللت فيه دون البدن.
ففرض الغسل غسل الفم والأنف وسائر البدن ، وسنته : غسل يديه لكونهما آلة التطهر.
وفرجه لأنه مظنة النجاسة ونجاسة حقيقة إن كانت على سائر بدنه لئلا تتلاشى عند إصابة الماء.
والوضوء وضوءه للصلاة إلا أنه يؤخر غسل رجليه إلى ما بعد صب الماء على جميع بدنه إن كانتا في مستنقع الماء تحرزاً على الماء المستعمل وتثليث الغسل المستوعب هكذا حكي غسل رسول الله.
ويبتدىء بمنكبه الأيمن ثم الأيسر ثم الرأس في الأصح.
وليس على المرأة نقض ضفيرتها ولابلها إن بل أصلها لأن كون الشعر من البدن باعتبار أصوله فيكتفي ببل أصوله فيما فيه حرج وفيما لا حرج فيه يجب إيصال الماء إلى جميعه كالضفيرة المفتولة وحكم المنقوضة ليس كذلك بل يجب إيصال الماء إلى جميعها لعدم الحرج فيها.
والرجل يجب عليه إيصال الماء إلى جميع شعره والفرق أن حلق الشعر للمرأة مثلة دون الرجل والحرج مندفع عنه بغير الضفيرة وأدنى ما يكفي من الماء في الغسل صاع وفي الوضوء مد والصاع ثمانية أرطال والمد رطلان لما روي أن النبي عليه السلام كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد ، ثم اختلفوا هل المد من الصاع أو من غيره؟ فهذا ليس بتقدير لازم حتى لو أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك جاز ولو اغتسل بأكثر منه جاز ما لم يسرف فهو المكروه كذا في "الاختيار شرح المختار".
والجنب الصحيح في المصر : إذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم في قولهم.
وأما المحدث في المصر إذا خاف الهلاك من التوضىء اختلفوا فيه على قول أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ والصحيح أنه لا يباح له التيمم كذا في فتاوى "قاضي خان".
والمرأة إذا وجب عليها الغسل ولم تجد سترة من الرجال تؤخره والرجل إذا لم يجد سترة من الرجال لا يؤخره ويغتسل.
وفي الاستنجاء : إذا لم يجد سترة يتركه والفرق أن النجاسة الحكمية أقوى والمرأة بين النساء كالرجل بين الرجال كذا في "الأشباه" وفي الحديث : "ثلاثة لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتضمخ بالخلوف والجنب إلا أن يتوضأ" وفي الحديث : "لا ينقع بول في طست في البيت فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه
354
بول منتقع ولا تبولنّ في مغتسلك".
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
وفي الاغتسال منافع بدنية وفوائد دينية : منها مخالفة الكفار فإنهم لا يغتسلون وإزالة الدنس والأبخرة الرديئة النفسانية التي تورث بعض الأمراض وتسكين حرارة الشهوات الطبيعية ، قال الشيخ النيسابوري في كتاب "اللطائف" : فوائد الطهارة عشر : طهارة الفؤاد وهو صرفه عما سوى الله تعالى ، وطهارة السر المشاهدة ، وطهارة الصدر الرجاء والقناعة ، وطهارة الروح الحياء والهيبة ، وطهارة البطن أكل الحلال والعفة عن أكل الحرام والشبهات ، وطهارة البدن ترك الشهوات وإزالة الأدناس ، وطهارة اليدين الورع والاجتهاد ، وطهارة اللسان الذكر والاستغفار.
قال الثعلبي في تفسير هذه الآية : قال علي رضي الله عنه أقبل عشرة من أحبار اليهود فقالوا : يا محمد لماذا أمر الله بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة فقال صلى الله عليه وسلّم "إن آدم لما أكل من الشجرة تحول في عروقه وشعره فإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه الله عليّ وعلى أمتي تطهيراً وتكفيراً وشكراً لما أنعم الله عليهم من اللذة التي يصيبونها".
(2/283)
قال في "بدائع الصنائع في أحكام الشرائع" إنما وجب غسل جميع البدن بخروج المني ولم يجب بخروج البول والغائط وإنما وجب غسل الأعضاء المخصصة لا غير لوجوه : أحدها أن قضاء الشهوة بإنزال المني استمتاع بنعمة يظهر أثرها في جميع البدن وهي اللذة فأمر بغسل جميع البدن شكراً لهذه النعمة وهذا لا يتقدر في البول والغائط ، والثاني : أن الجنابة تأخذ جميع البدن ظاهره وباطنه لأن الوطء الذي هو سببها لا يكون إلا باستعمال جميع ما في البدن من القوة حتى يضعف الإنسان بالإكثار منه ويقوى بالامتناع عنه وإذن أخذت الجنابة جميع البدن الظاهر والباطن بقدر الإمكان ولا كذلك الحدث فإنه لا يأخذ إلا الظاهر من الأطراف لأن سببه يكون بظواهر الأطراف من الأكل والشرب ولا يكون باستعمال جميع البدن فأوجب غسل ظاهر الأطراف لا سائر البدن.
والثالث : أن غسل الكل أو البعض وجب وسيلة إلى الصلاة التي هي خدمة الرب سبحانه والقيام بين يديه وتعظيمه فيجب أن يكون المصلى على أطهر الأحوال وأنظفها ليكون أقرب إلى التعظيم وأكمل في الخدمة وكمال تعظيم النظافة يحصل بغسل جميع البدن وهذا هو العزيمة في الحدث أيضاً إلا أن ذلك مما يكثر وجوده فاكتفى منه بأكثر النظافة وهي تنقية الأطراف التي تنكشف كثيراً ويقع عليها الأبصار أبداً وأقيم ذلك مقام غسل كل البدن دفعاً للحرج وتيسيراً وفضلاً من الله ورحمة ولا حرج في الجنابة لأنها لا تكثر فبقي الأمر فيها على العزيمة انتهى كلام البدائع هذا غسل الحي ، وأما غسل الميت فشريعة ماضية لما روي أن آدم عليه السلام لما قبض نزل جبريل بالملائكة وغسلوه وقالوا لأولاده هذه سنة موتاكم وفي الحديث "للمسلم على المسلم ستة حقوق ومن جملتها أن يغسله بعد موته" ثم هو واجب عملاً بكلمة على ولكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وأريد بالسنة في حديث آدم الطريقة ولو تعين واحد لغسله لا يحل له أخذ الأجرة عليه وإنما وجب غسل الميت لأنه تنجس بالموت كسائر الحيوانات الدموية إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له ولو وجد ميت في الماء فلا بد من غسله لأن الخطاب بالغسل توجه لبني آدم ولم يوجد منهم
355
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
فعل.
وقيل : إن الميت إذا فارقته الروح وارتاح من شدة النزع أنزل فوجب على الأحياء غسله كذا في حل "الرموز وكشف الكنوز" والفرق بين غسل الميت والحي أنه يستحب البداءة بغسل وجه الميت بخلاف الحي فإنه يبدأ بغسل يديه ولا يمضمض ولا يستنشق بخلاف الحي ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف الحي إن كان في مستنقع الماء ولا يمسح رأسه في وضوء الغسل بخلاف الحي في رواية كذا في "الأشباه".
والإشارة في الآية {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا} بالالتفات إلى غيرنا {فَاطَّهَّرُوا} بالنفوس عن المعاصي وبالقلوب عن رؤية الطاعات وبالأسرار عن رؤية الأغيار وبالأرواح عن الاسترواح من غيرنا وبسر السر عن لوث الوجود فلا بد من الطهارة مطلقاً ، قال الحافظ :
ون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست
نبود خير دران خانه كه عصمت نبود
وفي وجوب الغسل إشارة وتنبيه إلى وجوب الغسل الحقيقي لوجود القلب والروح ولتلوثه بحب الدنيا وشهواتها فيجب غسلها بماء التوبة والندامة والإخلاص فهو أوجب الواجبات وآكدها واستقصاء أهل الله في تطهير الباطن أكثر وأشد من استقصائهم في طهارة الظاهر وقد يكون في بعض متصوفة الزمان تشدد في الطهارة فلو اتسخ ثوبه يغسله ولا يبالي بما في باطنه من الغل وسائر الصفات الذميمة ، قال السعدي قدس سره :
كراجامه ا كست وسيرت ليد
دردوز خش را نبايد كليد
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
(2/284)
والقرآن لا يمسه إلا المطهرون {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} مرضاً يخاف منه الهلاك وازدياده باستعمال الماء {أَوْ} كنتم مستقرين {عَلَى سَفَرٍ} طال أو قصر {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ} هو المكان الغائر المطمئن والمجيىء منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} ملامسة النساء مماسة بشرة الرجل بشرة المرأة وهي كناية عن الجماع ومثل هذه الكناية من الآداب القرآنية إذ التصريح مستهجن {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً} المراد من عدم وجدان الماء عدم التمكن من استعماله لأن ما لا يتمكن من استعماله كالمفقود {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي : فتعمدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً فالصعيد هو وجه الأرض تراباً أو غيره سمي صعيداً لكونه صاعداً طاهراً والطيب بمعنى الظاهر سواء كان منبتاً أم لا حتى لو فرضنا صخراً لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً عند أبي حنيفة رحمه الله {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} أي : من ذلك الصعيد ، أيّ إلى المرفقين لما روي أنه صلى الله عليه وسلّم "تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه" ولأنه بدل من الوضوء فيقدر بقدره والباء مزيدة ومن لابتداء الغاية والمعنى بعد وضعهما على الصعيد إلى الوجوه والأيدي من غير أن يتخللها ما يوجب الفصل {مَا يُرِيدُ اللَّهُ} بالأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} أي تضييقاً عليكم في الدين {وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي لينظفكم أو ليطهركم من الذنوب فإن الوضوء مكفر لها كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئة كفيه مع أول قطرة فإذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه وشفتيه مع أول قطرة وإذا غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو عليه وكان كيوم ولدته أمه" أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء
356
{وَلِيُتِمَّ} بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم {نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ} في الدين أوليتم برخصته إنعامه عليكم بعزائمه والرخصة ما شرع بناء على الأعذار والعزيمة ما شرع أصالة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
واعلم أن المقصود من طهارة الثوب وهو القشر الخارج البعيد ومن طهارة البدن وهو القشر القريب طهارة القلب وهو لب الباطن وطهارة القلب من نجاسات الأخلاق أهم الطهارات ولكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب فإذا أسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك صادفت في قلبك انشراحاً وصفاء كنت لا تصادفه قبله وذلك لسر العلاقة التي بين عالم الملك وعالم الملكوت فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح فكذلك قد يرتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب ولذلك أمر الله بالصلاة مع أنها حركات الجوارح التي من عالم الشهادة ولذلك جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا ومن الدنيا فقال : "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة" ولا يستبعد أن يفيض من الطهارة الظاهرة أثر على الباطن وإن أردت لذلك دليلاً من الشرع فتفكر في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "خمس بخمس إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة وإذا جار الحكام قحط المطر وإذا ظهر الزنى كثر الموت وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة لهم" وإن كنت تطلب لهذا مثلاً من المحسوسات أيضاً فانظر إلى ما يفيض الله من النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة وبالجملة أن الله تعالى جعل الوضوء والتيمم من أسباب الطهارة فلا بد من الاجتهاد في تحصيل الطهارة مطلقاً وإن كان التوفيق من الله تعالى ، كما قال الحافظ :
فيض أزل بزورزر ار آمدي بدست
آب خضر نصيبه اسكندر آمدي
(2/285)
والإشارة في الآية : {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} بمرض حب الدنيا {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} في متابعة الهوى {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ} في قضاء حاجة شهوة من الشهوات {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} وهي الدنيا في تحصيل لذة من اللذات {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً} التوبة والاستغفار {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور للذنوب العظام {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} من تراب أقدامهم وشمروا لخدمتهم {وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} لأن فيه شفاء لقساوة القلوب ودواء لمرض الذنوب {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} بهذه الذلة والصغار {وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} من الذنوب الكبار وأكبر الكبائر الشرك بالله وأعظم الشركاء الوجود مع وجود المعبود وهذا ذنب لا يغفر إلا بالتمرغ في هذا التراب ولوث لم يطهر إلا بالالتجاء إلى هذه الأبواب {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ} بعد ذوبان نحاس أنانيتكم بنار تصرفات هممهم العالية بطرح إكسير أنوار الهوية {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إذ تهتدون بأنوار الهوية إلى رؤية أنوار النعمة كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
واعلم أن المقصود من طهارة الثوب وهو القشر الخارج البعيد ومن طهارة البدن وهو القشر القريب طهارة القلب وهو لب الباطن وطهارة القلب من نجاسات الأخلاق أهم الطهارات ولكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب فإذا أسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك صادفت في قلبك انشراحاً وصفاء كنت لا تصادفه قبله وذلك لسر العلاقة التي بين عالم الملك وعالم الملكوت فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح فكذلك قد يرتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب ولذلك أمر الله بالصلاة مع أنها حركات الجوارح التي من عالم الشهادة ولذلك جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا ومن الدنيا فقال : "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة" ولا يستبعد أن يفيض من الطهارة الظاهرة أثر على الباطن وإن أردت لذلك دليلاً من الشرع فتفكر في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "خمس بخمس إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة وإذا جار الحكام قحط المطر وإذا ظهر الزنى كثر الموت وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة لهم" وإن كنت تطلب لهذا مثلاً من المحسوسات أيضاً فانظر إلى ما يفيض الله من النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة وبالجملة أن الله تعالى جعل الوضوء والتيمم من أسباب الطهارة فلا بد من الاجتهاد في تحصيل الطهارة مطلقاً وإن كان التوفيق من الله تعالى ، كما قال الحافظ :
فيض أزل بزورزر ار آمدي بدست
آب خضر نصيبه اسكندر آمدي
والإشارة في الآية : {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} بمرض حب الدنيا {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} في متابعة الهوى {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ} في قضاء حاجة شهوة من الشهوات {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} وهي الدنيا في تحصيل لذة من اللذات {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً} التوبة والاستغفار {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور للذنوب العظام {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} من تراب أقدامهم وشمروا لخدمتهم {وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} لأن فيه شفاء لقساوة القلوب ودواء لمرض الذنوب {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} بهذه الذلة والصغار {وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} من الذنوب الكبار وأكبر الكبائر الشرك بالله وأعظم الشركاء الوجود مع وجود المعبود وهذا ذنب لا يغفر إلا بالتمرغ في هذا التراب ولوث لم يطهر إلا بالالتجاء إلى هذه الأبواب {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ} بعد ذوبان نحاس أنانيتكم بنار تصرفات هممهم العالية بطرح إكسير أنوار الهوية {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إذ تهتدون بأنوار الهوية إلى رؤية أنوار النعمة كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإسلام لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره.
فإن قيل : ذكر نعمة الإسلام مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل من المسلم أن ينساها مع اشتغاله بإقامة وظائف الإسلام على التوالي والدوام؟ قلنا : المواظبة على وظائف الشيء تنزل منزلة الأمر الطبيعي المعتاد
357
(2/286)
فينسى كونها نعمة إلهية فتكون إقامة وظائفه اتباعاً لمقتضى الطبيعة فلا تكون عبادة وإنما تكون شكراً لو وقع اتباعاً للأمر.
{وَمِيثَـاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ} أي : عهده المؤكد الذي أخذه عليكم وقوله تعالى : {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ظرف لواثقكم به وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في نسيان نعمه ونقض ميثاقه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي : بخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بجليات الأعمال.
واعلم أن أول النعم التي أنعم الله بها على المؤمنين إخراجهم من ظلمة العدم إلى نور الوجود قبل كل موجود وخلقهم في أحسن تقويم لقبول الدين القويم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم واستماع الست بربكم وجواب بلى وتوفيقهم للسمع والطاعة ولو لم تكن نعمة التوفيق لقالوا سمعنا وعصينا كما قال أهل الخذلان والعصيان ، وعن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقالوا : ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثي عهد ببيعته فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله قال : "ألا تبايعون رسول الله" فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال : "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الصلوات الخمس وتطيعوا أوامره جلية وخفية ولا تسألوا الناس" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه حتى يكون هو ينزل فيأخذه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمساً وأوثقني سبعاً وأشهد الله على سبعاً أن لا أخاف في الله لومة لائم.
وعنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أوصيك بتقوى الله بسر أمرك وعلانيتك وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحداً شيئاً وإن سقط سوطك ولا تقبض أمانة" ، قال الحافظ الشيرازي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 357
وفا وعهد نك باشد اربياموزي
وكرنه هركه توبيني ستمكري داند
اللهم اجعلنا من الموفين بعهودهم آمين.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَواَّمِينَ} مقيمين لأوامره ومتمسكين بها معظمين لها مراعين لحقوقها {شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أي : بالعدل خبر بعد خبر {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي ولا يحملنكم يا اأَيُّهَا الَّذِينَ} أي : شدة بغضكم للمشركين {عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} أي على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفياً مما في قلوبكم {اعْدِلُوا هُوَ} أي العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} التي أمرتم بها وإذا كان وجوب العدل في حق الكفار بهذه المثابة فما ظنك بوجوبه في حق المسلمين {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإنه ملاك الأمر وزاد سفر الآخرة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال فيجازيكم بذلك وحيث كان مضمون هذه الجملة التعليلية منبئاً عن الوعد والوعيد عقب بالوعد لمن يخاف على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يخل بها فقيل : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} التي من جملتها العدل والتقوى والمفعول الثاني لوعد محذوف وهو الجنة كما صرح به في غير هذا الموضع {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم
358
{وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي : ثواب عظيم في الجنة وهذه الجملة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب فإن الجنة مسببة عن المغفرة وحصول الأجر فلا محل لها من الإعراب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 357
وفا وعهد نك باشد اربياموزي
وكرنه هركه توبيني ستمكري داند
اللهم اجعلنا من الموفين بعهودهم آمين.
(2/287)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَواَّمِينَ} مقيمين لأوامره ومتمسكين بها معظمين لها مراعين لحقوقها {شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أي : بالعدل خبر بعد خبر {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي ولا يحملنكم يا اأَيُّهَا الَّذِينَ} أي : شدة بغضكم للمشركين {عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} أي على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفياً مما في قلوبكم {اعْدِلُوا هُوَ} أي العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} التي أمرتم بها وإذا كان وجوب العدل في حق الكفار بهذه المثابة فما ظنك بوجوبه في حق المسلمين {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإنه ملاك الأمر وزاد سفر الآخرة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال فيجازيكم بذلك وحيث كان مضمون هذه الجملة التعليلية منبئاً عن الوعد والوعيد عقب بالوعد لمن يخاف على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يخل بها فقيل : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} التي من جملتها العدل والتقوى والمفعول الثاني لوعد محذوف وهو الجنة كما صرح به في غير هذا الموضع {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم
358
{وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي : ثواب عظيم في الجنة وهذه الجملة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب فإن الجنة مسببة عن المغفرة وحصول الأجر فلا محل لها من الإعراب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 357
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الكفر وتكذيب الآيات {أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} ملابسوها ملابسة مؤبدة وفيه مزيد وعد للمؤمنين لأن الوعيد اللاحق بأعدائهم مما يشفي صدورهم ويذهب ما كانوا يجدونه من أذاهم فإن الإنسان يفرح بأن يهدد أعداؤه.
واعلم أن الله تعالى صرح للمؤمنين الأمر بالعدل وبين أنه بمكان من التقوى بعدما نهاهم عن الجور وبين أنه مقتضى الهوى لكون الحامل عليه البغض والشنآن فعلى المؤمن العدل في حق الأولياء والأعداء خصوصاً في حق نفسك وأهلك وأولادك لما ورد "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ووجد في سرير أنوشروان مكتوباً ـ الملك لا يكون إلا بالإمارة والإمارة لا تكون إلا بالرجال ولا تكون الرجال إلا بالأموال ولا تكون الأموال إلا بالعمارة ولا تكون العمارة إلا بالعدل بين الرعايا والسلطان شريك رعاياه في كل خير عملوه ـ ، قال الحافظ :
شاه را به بود از طاعت صد ساله وزهد
قدريك ساعت عمري كه درو داد كند
وفي ترجمة "وصايا الفتوحات" : لمحمد بن واسع (از اكابردين است روزي بر بلال بن برده كه والى وقت بود در آمد واودر عيش بود ويش اوبرف نهاده وبتنعم تمام تشسته محمد بن واسع راكفت يا أبا عبد الله أين خانه مارا ون بيني كفت اين خانه خوش است وليكن بهشت ازين خوشتراست وذكر آتش دوزخ از امثال اين غافل كرداند رسيده ه ميكويى درباب قدر كفت در همراز كان توكه درين مقابر مدفونند فكري بكن تا از قدر رسيدن مشغول شوي كفت براي من دعاكن كفت دعاي من ه ميكنى وبر دركاه توندين مظلومند همه برتو دعا ميكنند ودعاي ايشان بيشتر بالاميرود ظلم مكن وبدعاء من حاجت نيست) ومن كلمات بهلول لهارون حين قال له من أنا قال أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سألك الله عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون.
وفي "عين المعاني" العالم لا يدخل على الظَلَمة تحامياً عن الدعاء لهم بالبقاء فورد من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه فلا بد من النصيحة وترك المداهنة وفي الحديث "ما ترك الحق لعمر من صديق" وقال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر :
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
لما ادمت النصح والتحقيقا
لم يتركالي في الوجود صديقاً
قال السعدي قدس سره :
بكوى آنه داني سخن سودمند
وكر هي كس رانيا يد سند
وبالجملة أن العدل من أحسن الأخلاق.
ـ وحكي ـ أن أنوشروان لما مات كان يطاف بتابوته في جميع مملكته وينادي منادي من له علينا حق فليأت فلم يوجد أحد في ولايته له عليه حق من درهم ولذا اشتهر بالعدل اشتهار حاتم بالجود حتى صار العادل لقباً له فلفظ العادل إنما يطلق عليه لعدم جوره وظهور عدله لمجرد المدح والثناء عليه.
وأما سلاطين الزمان
359
(2/288)
فلظهور جورهم وعدم اتصافهم بالعدل منعوا عن إطلاق العادل عليهم إذ إطلاقه عليهم حينئذٍ إنما يكون لمجرد المدح لهم والثناء عليهم فيكون كذباً وكفراً فجواز إطلاق العادل على الكافر المنصف وعدم جواز إطلاقه على المسلمين الجائرين ليس بالنظر إلى متانة العدل بل ذاك ليس إلا أن العدل والجور متناقضان فلا يجتمعان.
قال في "زهرة الرياض" : إذا كان يوم القيامة ينصب لواء الصدق لأبي بكر رضي الله عنه وكل صديق يكون تحت لوائه.
ولواء العدل لعمر رضي الله عنه وكل عادل يكون تحت لوائه ولواء السخاوة لعثمان رضي الله عنه وكل شيء يكون تحت لوائه ولواء الشهداء لعلي رضي الله عنه وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل.
وكل زاهد تحت لواء أبي ذر.
وكل فقير تحت لواء أبي الدرداء.
وكل مقرىء تحت لواء أبي بن كعب.
وكل مؤذن تحت لواء بلال.
وكل مقتول ظلماً تحت لواء الحسين بن علي فذلك قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ} (الإسراء : 71) الآية.
والعدل في الحقيقة هو الوسط المحمود في كل فعل وقول وخلق وهو المأمور به في قوله تعالى : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} (هود : 112) ولقد صار من نال إليه كالكبريت الأحمر والمسك الاذفر ومن الله الهداية والتوفيق آمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} متعلق بنعمة الله {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} ظرف لنفس النعمة ، أي : اذكروا إنعامه عليكم في وقت همهم وقصدهم {أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي : بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك يقال بسط إليه يده إذا بطش به وبسط إليه لسانه إذا شتمه {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} عطف على هم وهو النعمة التي أريد تذكيرها وذكر الهم إيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها أي منع أيديهم أن يمدوا إليكم عقيب همهم بذلك لا أنه كفها عنكم بعدما مدوها إليكم ، وفيه من الدلالة على كمال النعمة من حيث أنها لم تكن مشوبة بضرر الخوف والإنزعاج الذي قلما يعرى عنه الكف بعد المد ما لا يخفى مكانه وذلك ما روي أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار وغزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه عليه السلام قاموا إلى الظهر معاً فلما صلوا ندم المشركون على أن لا كانوا قد أكبوا عليهم فقالوا إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فردهم الله تعالى بكيدهم بأن أنزل صلاة الخوف ، وقيل : هو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بني قريظة ومعه الشيخان وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سألت فأجلسوه في صفة وهموا بقتله وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريل فأخبر فخرج النبي عليه السلام ، وقيل هو ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم نزل منزلاً وتفرق أصحابه في الفضي يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه بشجرة فجاء أعرابي فأخذه وسله فقال : من يمنعك مني فقال عليه السلام : "الله" فأسقطه جبريل عليه السلام من يده فأخذه الرسول عليه السلام فقال : "من يمنعك مني" فقال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} عطف على اذكروا ، أي اتقوه في رعاية
360
حقوق نعمته فلا تخلوا بشكرها {وَعَلَى اللَّهِ} أي عليه تعالى خاصة دون غيره استقلالاً واشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فإنه يكفيهم في إيصال كل خير ودفع كل شر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
واعلم أن التوكل عبارة عن الاعتصام بالله تعالى في جميع الأمور ومحله القلب والحركة بالظاهر لا تنافي توكل القلب بعدما تحقق للعبد أن التقدير من قبل الله فإن تعسر شيء فبتقديره.
وأعلى مراتب التوكل أن يكون بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل تحركه القدرة الأزلية وهو الذي قوي يقينه ألا ترى إلى إبراهيم عليه السلام لما هم نمرود وقومه أن يبسطوا إليه أيديهم فرموه في النار جاءه جبريل وهو في الهواء فقال : ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا وفاه بقوله حسبي الله ونعم الوكيل وانظر إلى حقيقة توكل النبي عليه السلام حيث كف الله عنه وعن أصحابه أيدي المشركين رأساً فلم يقدروا أن يتعرضوا له بل ابتلوا في أغلب الأحوال بما لا يخطر ببالهم من البلايا جزاء لهم على همهم بالسوء ، وفي "المثنوي" :
قصه عاد وثمود از بهر يست
تابدانى كه انبيارا ناز كيست
(2/289)
فالتوكل من معالي درجات المقربين فعلى المؤمن أن يتحلى بالصفات الحميدة ويسير في طريق الحق بسيرة حسنة ، ودخل حكيم على رجل فرأى داراً متجددة وفرشاً مبسوطة ورأى صاحبها خالياً من الفضائل فتنحنح فبزق على وجهه فقال : ما هذا السفه أيها الحكيم فقال : بل هو عين الحكمة لأن البصاق لزق إلى أخس ما كان في الدار ولم أرَ في دارك أخس منك لخلوك عن الفضائل الباطنة فنبه بذلك على دناءته وقبحه لكونه مسترسلاً في لذاته مستغرقاً أوقاته لعمارة ظاهره ، قال الحافظ رحمه الله :
قلندران حقيقت بنيم جو نخرند
قباي اطلس آنكس كه از هنر عاريست
ثم اعلم أنّ كل شيء بقضاء الله تعالى وأن الله يختبر عباده بما أراد فعليهم أن يعتمدوا عليه في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعن أبي عثمان قال : كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال : أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء؟ قال : نعم قال : الق نفسك من الجبل وقل قدر عليّ قال : يا لعين الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله وما على العبد إلا التوكل والشكر على الأنعام.
ومن جملة أنعام الله تعالى الإخراج من ظلمة العدم إلى نور الوجود بأمركن والله يعلم أن رجوع العباد إلى العدم ليس بهم ولا إليهم كما لم يكن خروجهم بهم فإن خروجهم كان بجذبة أمركن فكذلك رجوعهم لا يكون إلا بجذبة أمر ارجعي فعليهم أن يكونوا واثقين بكرم الله وفضله مسارعين في طلب مرضاة الله جاهدين على وفق الأوامر والنواهي في الله ليهديهم إلى جذبات عنايته ولطفه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي بالله قد أخذ الله عهد طائفة اليهود والالتفات في قوله تعالى : {وَبَعَثْنَا مِنُهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا} للجري على سنن الكبرياء أو لأن البعث كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتي أي شاهداً من كل سبط ينقب عن أحوال قومه ويفتش عنها أو كفيلاً يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به ، وقد روي أن النبي عليه السلام جعل للأنصار ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وفائدة النقيب : أن القوم إذا علموا أن عليهم نقيباً كانوا أقرب إلى الاستقامة.
والنقيب والعريف
361
نظيران وقيل : النقيب فوق العريف ، قال في "شرح الشرعة" العريف فعيل بمعنى مفعول وهو سيد القوم والقيم بأمور الجماعة من القبيلة والمحلة يلى أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم وهو دون الرئيس والعرافة كالسيادة لفظاً ومعنى وفي الحديث "العرافة حق ولا بدّ للناس من عرفاء ولكن العرفاء في النار" يعني : أن سيادة القوم جائزة في الشرع لأن بها ينتظم مصالح الناس وقضاء أشغالهم فهي مصلحة ورفق للناس تدعو إليها الضرورة.
وقوله ولكن العرفاء في النار أي أكثرهم فيها إذ المجتنب عن الظلم منهم يستحق الثواب لكن لما كان الغالب منهم خلاف ذلك أجراه مجرى الكل كذا في "شرح المصابيح".
قال السعدي :
رياست بدست كساني خطاست
كه از دستشان دستها بر خداست
مكن تاتواني دل خلق ريش
وكر ميكني ميكني بيخ خويش
نماند ستمكار بد روزكار
بماند برو لعنت ايدار
مها زور مندي مكن بركهان
كه بريك نمط مي نماند جهان
دل دوستان جمع بهتركه كنج
خزينه تهى به كه مردم برنج
بقومي كه نيكي سندد خداي خداي
دهد خسرو عادل نيك راي
و خواهدكه ويران كند عالمي
كند ملك درنه ظالمي
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/290)
{وَقَالَ اللَّهُ} أي : لبني إسرائيل فقط إذ هم المحتاجون إلى الترغيب والترهيب {إِنِّى مَعَكُمْ} أي بالعلم والقدرة والنصرة اسمع كلامكم وارى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك وتم الكلام هنا ثم ابتدأ بالجملة الشرطية فقال مخاطباً لبني إسرائيل أيضاً {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى} أي : بجميعهم واللام موطئة للقسم المحذوف {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي : نصرتموهم وقويتموهم وأصله الذب وهو المنع والدفع ومنه التعزير ومن نصر إنساناً فقد ذب عنه عدوه يقال عزرت فلاناً أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويمنعه عنه {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ} بالإنفاق في سبيل الخير أو بالتصدق بالصدقات المندوبة فظهر الفرق بين هذا الإقراض وبين إخراج الزكاة فإنها واجبة {قَرْضًا حَسَنًا} وهو أن يكون من حلال المال وخياره برغبة وإخلاص لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا يكدرها من ولا أذى وانتصابه يحتمل أن يكون على المصدرية لأنه اسم مصدر بمعنى أقراضاً كما في {نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا} (آل عمران : 37) بمعنى إنباتاً ويحتمل أن يكون على المفعولية على أنه اسم للمال المقرض {لاكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ} جواب للقسم المدلول عليه باللام ساد مسد جواب الشرط {وَلادْخِلَنَّكُمْ جَنَّـاتٍ} أي : بساتين {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي : من تحت أشجارها ومساكنها {الانْهَـارُ} الأربعة وأخره لضرورة تقدم التخلية على التحلية {فَمَن كَفَرَ} أي برسلي وبشيء مما عدد في حيز الشرط والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب والترهيب.
{بَعْدَ ذالِكَ} الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم الموجب للإيمان قطعاً {مِّنكُمْ} متعلق بمضمر وقع حالاً من فاعل كفر.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أي : وسط الطريق الواضح ضلالاً بيناً وأخطأ خطأ فاحشاً لا عذر معه أصلاً بخلا من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن
362
أن يكون له شبهة ويتوهم له معذرة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أن بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد مهلك فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا من أرض الشام وهي الأرض المقدسة وكانت لها ألف قرية في كل قرية ألف بستان وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم إني كتبتها لكم داراً قراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم وأمر موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها فرأوا إجراماً عظيمة وقوة وشوكة فهابوا فرجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاق الإكالب بن يوقنا نقيب سبط يهودا ويوشع بن نون نقيب سبط افرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام قيل : لما توجه النقباء إلى أرضهم للتجسس لقيهم عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث وذراع وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل في طوفان نوح وما جاوز ركبتي عوج وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم وكان مجلسها جريباً من الأرض فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب أخذ اثني عشر نقيباً وجعلهم في الحزمة فانطلق بهم إلى امرأته وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون قتالنا فطرحهم بين يديها وقال : ألا أطحنهم برجلي فقال : لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك.
(2/291)
ـ وروي ـ أنه جعلهم في كمه وأتى بهم الملك فنشرهم بين يديه فقال : ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم وكان لا يحمل عنقوداً من عنبهم إلا خسمة أنفس أو أربعة بينهم في خشبة ويدخل في شطر رمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس فجعلوا يتعرفون بأحوالهم فلما رجعوا قال بعضهم لبعض : إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموه إلا عن موسى وهارون فيكونان هما يريان رأيهما فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام وكان معهم حبة من عنبهم وقر جمل فنكثوا عهدهم وجعل كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى الإكالب ويوشع وكان معسكر موسى فرسخاً في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى جبل فقوّر منه صخرة عظيمة على قدر المعسكر ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فقوّر من الصخرة وسطها المحازي لرأسه فانتقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته فصرعته وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع وكذا طول العصا فترامى في السماء عشرة أذرع فما أصاب العصا إلا كعبه وهو مصروع فقتله قالوا فأقبلت جماعة ومعهم الخناجر حتى جذروا رأسه وهكذا سنة الله فيما أراد حيث ينصر أولياءه بما لا يخطر ببالهم ولله في كل فعله حكمة تامة ومصلحة شاملة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
واعلم أن الله تعالى كما جعل في أمة موسى من النقباء المختارين المرجوع إليهم عند الضرورة اثني عشر كذلك جعل من كمال عنايته في هذه الأمة من النجباء البدلاء وأعزة الأولياء أربعين رجلاً في كل حال وزمان كما قال النبي عليه السلام : "يكون
363
في الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق عيسى وواحدة على خلقي" فهم على مراتب درجاتهم ومناصب مقاماتهم أمنة هذه الأمة كما قال عليه السلام : "بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم يدفع الله البلاء" قال أبو عثمان المغربي : البدلاء أربعون والأمناء سبعة والخلفاء من الأئمة ثلاثة والواحد هو القطب عارف بهم جميعاً ومشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام الأولياء الثلاثة الذين هم الخلفاء من الأئمة وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه والخلفاء الثلاثة يعرفون السبعة الذين هم الأمناء ولا يعرفهم أولئك السبعة والسبعة يعرفون الأربعين الذين هم البدلاء ولا يعرفهم البدلاء الأربعون وهم يعرفون سائر الأولياء من الأمة ولا يعرفهم من الأولياء أحد فإذا نقص من الأربعين واحد جعل مكانه واحد من الأولياء وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة وإذا مضى القطب الذي هو الواحد في العدد وبه قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله تعالى في قيام الساعة كما في "التأويلات النجمية" ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : القطب يحفظ المركز والإمام الأيمن يحفظ عالم الأرواح والإمام الأيسر يحفظ عالم الأجساد والأوتاد الأربعة يحفظون الشرق والغرب والجنوب والشمال والأبدال السبعة يحفظون أقاليم الكرة علواً وسفلاً انتهى كلامه في "كتاب العظيمة" ، ويقول الفقير جامع هذه المجالس اللطائف : سمعت من حضرة شيخي وسندي الذي بمنزلة روحي في جسدي أن قطب الوجود إذا انتقل إلى الدار الآخرة يكون خليفته في الجانب الأيسر من الأفراد دون الجانب الأيمن وذلك لأن يسار الإمام يمين ويمينه يسار حين الاستقبال إلى القوم وإليه الإشارة بقوله تعالى : {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ} (الواقعة : 8 ـ 9) فإن لفظة ما عند أهل التحقيق نافية وأهل اليسار أهل الجلال والفناء وأهل اليمين أهل الجمال والبقاء فافهم هذا السر البديع وكن ممن ألقى سمعه وهو شهيد فإن المنكر الغافل طريد عن الحق بعيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
بسر وقت شان خلق كى ره برند
كه ون آب حيوان بظلمت درند
قال الصائب :
سخن عشق باخرد كفتن
بر رك مرده نيشتر زدنست
ثم تحقيق قوله تعالى : {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَواةَ} أن إقامة الصلاة في إدامتها بأن تجعل الصلاة معراجك إلى الحق ونديم العروج بدرجاتها إلى أن تشاهد الحق كما شاهدت يوم الميثاق ودرجاتها أربع : القيام ، والركوع ، والسجود ، والتشهد على حسب دركات نزلت بها من أعلى عليين وجوار رب العالمين إلى أسفل السافلين القالب وهي العناصر الأربعة التي خلق منها قالب الإنسان فالمتولدات منها على أربعة أقسام ولكل قسم منها ظلمة وخاصية تحجبك عن مشاهدة الحق وهي الجمادية وخاصيتها التشهد ثم النباتية وخاصيتها السجود ثم الحيوانية وخاصيتها الركوع ثم الإنسانية وخاصيتها القيام يشير إليك بالتخلص من حجب أوصاف الإنسانية وأعظمها الكبر وهو من خاصية النار والركوع يشير إليك بالتخلص من حجب صفات الحيوانية وأعظمها الشهوة
364(2/292)
وهي من خاصية الهواء والسجود يشير إليك بالتخلص من حجب طبع النباتية وأعظمها الحرص على الجذب للشيء والنمو وهو من خاصية الماء والتشهد يشير إليك بالتخلص من حجب طبع الجمادية وأعظمها الجمودية وهي من خاصية التراب ومن هذه الصفات الأربع تنشأ بقية صفات البشرية فإذا تخلصت من هذه الدركات والحجب ورجعت بهذه المدارج الأربعة إلى جوار رب العالمين وقربه فقد أقمت الصلاة مناجياً ربك مشاهداً له كما قال صلى الله عليه وسلّم "اعبد الله كأنك تراه" كذا في "التأويلات النجمية".
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ} أي : فبسبب نقض اليهود عهدهم وهو أنهم كذبوا الرسل بعد موسى وقتلوا الأنبياء ونبذوا الكتاب وضيعوا فرائضه وما مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس {لَعَنَّـاهُمْ} أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا أو مسخناهم قردة وخنازير أو أذللناهم بضرب الجزية عليهم {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي : غليظة شديدة بحيث لا تتأثر من الآيات والنذر وحجر قاس أي صلب غير لين {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} استئناف لبيان قسوة قلوبهم فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام الله والافتراء عليه والمراد بالتحريف إما تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلّم وإما تبديلهم بسوء التأويل وقد سبق في سورة البقرة {وَنَسُوا حَظًّا} أي وتركوا نصيباً وافراً {مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} من التوراة أو من اتباع محمد عليه السلام والمعنى أنهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه وقيل معناه أنهم حرفوها فتركت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أن الله تعالى غير العلم على أمية بن أبي الصلت وكان من بلغاء الشعراء كان نائماً فأتاه طائر وأدخل منقاره في فيه فلما استيقظ نسي جميع علومه ، قال الحافظ :
نه من زبى عملي درجهان ملولم وبس
ملالت علما هم ز علم بي عملست
واعلم أن العلماء العاملين والمشايخ الواصلين لا يزالون يذكرون الناس كل عصر يوم الميثاق ومخاطبة الحق إياهم تشويقاً لهم إلى تلك الأحوال فمن سامع ومن معرض فالسامع لكونه معرضاً عن الدنيا والعقبى وصل إلى جوار المولى فكان مقبولاً مرحوماً والمعرض لكونه مقبلاً على ما سوى المولى لم ينل شيأ فكان مردوداً ملعوناً لأنه نقض عهده مع الله سبحانه وتعالى ، وفي "المثنوي" :
بي وفايى ون سكانرا عاربود
بي وفايى ون رو اداري نمود
حق تعالى فخر آورد ازوفا
كفت من أوفى بعهد غيرنا
{وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآاـاِنَةٍ مِّنْهُمْ} أي : خيانة على أنها مصدر كاللاغية والكاذبة قال الله تعالى : {لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً} أي : لغواً والمعنى أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم {إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وهو استثناء من الضمير المجرور في منهم {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} أي : أعرض عنهم ولا تتعرض لهم بالمعاقبة والمؤاخذة إن تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية وقيل مطلق نسخ بآية السيف وهو قوله تعالى :
365
{قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ} (التوبة : 29) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تعليل للأمر بالصفح وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلاً عن العفو عن غيره ، قال السعدي :
عدورا بالطاف كردن به بند
كه نتوان بريدن بتيغ وكمند
ود شمن كرم بيند ولطف وجود
نيايد دكر خبث ازو دروجود
وكرخواجه بادشمنان نيك خوست
بسى بر نيايد كه كردند دوست
وكان عليه السلام محسناً له مكارم أخلاق يضيق نطاق بيان الواصفين عنها ، ومن حكايات المولوي قدس الله سره في "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
كافران مهمان يغمبر شدند
وقت شام ايشان بمسجد آمدند
كفت اي ياران من قسمت كنيد
كه شما ر از من وخوى منيد
هريكي يارى يكى مهمان كزيد
درميان يك زفت بود وبي نديد
جسم ضخمي داشت كس اورانبرد
مانددر مسجد واندر جامه درد
مصطفى بردش و واماند ازهمه
هفت بز شيرده بر در رمه
كه مقيم خانه بودندى بزان
بهر دوشيدن براي وقت خوان
نان وآش وشيرآن هر هفت بز
خورد آن بوقحط عوج ابن غز
جمله اهل بيت خشم آلوشدند
كه همه درشير بز طامع شدند
معده طبلى خوار همون طبل كرد
قسم هجده آدمي تنها بخورد
وقت خفتن رفت ودر حجره نشست
س كنيزك از غضب دررا ببست
از برون زنجير دررا درفكند
كه ازوبد خشمكين ودردمند
كبررا ازنيم شب تاصبحدم
ون تقاضا آمد ودرد شكم
ازفراش خويش سويى درشتافت
دست بردر ونهاد اوبسته يافت
در كشادن حيله كرد آن حيله ساز
نوع نوع وخود نشد آن بند باز
شد تقاضا بر تقاضا خانه تنك
مانداوحيران وبي درمان ودنك
(2/293)
حيله كرد واو بخواب اندر خزيد
خويشتن درخواب ودرويرانه ديد
زانكه ويرانه بد اندر خاطرش
شد بخواب اندر همانجا منظرش
خويش در ويرانه خالي وديد
او نان محتاج واندر دم بريد
كشت بيدار وبديد آن جامه خواب
بر حدث ديوانه شد از اضطراب
كفت خوابم بدتر از بيداريم
كه خورم آن سو واين سومى ريم
بانك مى زد واثبورا واثبور
همنانكه كافر اندر قعر كور
منتظر كه كي شود اين شب بسر
يا برآيد كشادن بانك در
تاكريزد اووتيري از كمان
تانبيند هيجكس اورا نان
مصطفى صبح آمد ودررا كشاد
صبح آن كمراه را اوراه داد
جامه خواب ر حدث رايك فضول
قاصدان آورد در يش رسول
366
كه نين كردست مهمانت ببين
خنده زد رحمة للعالمين
كه بيار آن مطهره انجا به يش
تابشويم جمله را بادست خويش
اوبجد مي شست آن احداث را
خاص زامر حق نه تقليد وريا
كه دلش مي كفت كين را توبشو
كه درانيجا هست حكمت توبتو
كافرك را هيكلي بد يادكار
ياوه ديد آنرا وكشت اوبى قرار
كفت آن حجره كه شب جاداشتم
هيكل آنجا بي خبر بكذاشتم
كه ه شرمين بودشر مش حرص برد
حرص ازدرهاست بي يزست خرد
ازي هيكل شتاب اندر دويد
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
در وثاق مصطفى وانرا بديد
كان يد الله إن حدث را هم بخود
خوش همي شويدكه دورش شم بد
هيكلش ازياد رفت وشد بديد
اندر وشورى كريبانرا دريد
مي زد اودو دست را بررو وسر
كله را ميكوفت بر ديوار ودر
اننانكه خون زبيني وسرش
شد رواه ورحم كردان مهترش
ون زحد بيرون بلر زيد وطيد
مصطفى اش دركنار خود كشيد
ساكنش كرد وبسي بنو اختش
ديده اش بكشاده داد اشناختش
آب بر روزد در آمد درسخن
كي شهيد حق شهادت عرضه كن
كشت مؤمن كفت اورا مصطفى
كامشب هم باش وتو مهمان ما
كفت والله تا ابد ضيف توام
هر كجا باشم بهر جاكه روم
يا رسول الله رسالت راتمام
تونمودي همو شمع بي غمام
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـارَى أَخَذْنَا مِيثَـاقَهُمْ} أي : وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم من اليهود ومن متعلقة بأخذنا والتقديم للاهتمام وإنما قال : قالوا إنا نصارى ولم يقل ومن النصارى تنبيهاً على أنهم نصارى بتسميتهم أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله بقولهم لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وليسوا موصوفين بأنهم نصارى بتوصيف الله إياهم بذلك ومعنى أخذ الميثاق هو ما أخذ الله عليهم في الإنجيل من العهد المؤكد باتباع محمد صلى الله عليه وسلّم وبيان صفته ونعته {فَنَسُوا حَظًّا} أي : تركوا نصيباً وافراً {مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان وما يتفرع عليه من أفعال الخير {فَأَغْرَيْنَا} أي : ألزمنا وألصقنا من غري بالشيء إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره {بَيْنَهُمُ} ظرف لأغرينا {الْعَدَاوَةَ} وهي تباعد القلوب والنيات {وَالْبَغْضَآءَ} أي : البغض {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} غاية للاغراء أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ} أي : يخبرهم في الآخرة {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت أي يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك ، قيل : الذي ألقى العداوة بين النصارى رجل يقال له بولس وكان بينه وبين النصارى
367
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/294)
قتال قتل منهم خلقاً كثيراً فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بها بينهم القتال فيقتل بعضهم بعضاً فجاء إلى النصارى وجعل نفسه أعور وقال لهم ألا تعرفونني فقالوا : أنت الذي قتلت ما قتلت منا وفعلت ما فعلت فقال : قد فعلت ذلك كله والآن تبت لأني رأيت عيسى عليه الصلاة والسلام في المنام نزل من السماء فلطم وجهي لطمة فقأ عيني فقال : أي شيء تريد من قومي؟ فتبت على يده ثم جئتكم لأكون بين ظهرانيكم وأعلمكم شرائع دينكم كما علمني عيسى عليه السلام في المنام فاتخذوا له غرفة فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط وكان يتعبد في الغرفة وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة وربما يأمرهم بأن يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة ويقول لهم بقول كان في الظاهر منكراً وينكرون عليه فكان يفسر ذلك القول تفسيراً يعجبهم ذلك فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به فقال يوماً من الأيام : اجتمعوا عندي فقد حضرني علم فاجتمعوا فقال لهم : أليس خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم قالوا : نعم فقال : لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً؟ فأخذوا قوله فاستحلوا الخمر والخنزير فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال : حضرني علم فاجتمعوا فقال لهم : من أي ناحية تطلع الشمس فقالوا من قبل المشرق فقال : ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم فقالوا من قبل المشرق فقال : ومن يرسلهم من قبل المشرق قالوا : الله تعالى فقال : فاعلموا أنه تعالى في قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه فحول صلاتهم إلى المشرق فلما مضى على ذلك أيام دعا بطائفة منهم وأمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة وقال لهم : إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قرباناً لأجل عيسى وقد حضرني علم فأريد أن أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك بعدي ويقال أيضاً إنه أصبح يوماً وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم : جاءني عيسى الليلة وقال : قد رضيت عنك فمسح يده على عيني فبرئت والآن أريد أن أجعل نفسي قرباناً له ثم قال : هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى فقالوا : لا فقال : إن عيسى قد فعل هذه الأشياء فاعلموا أنه هو الله تعالى فخرجوا من عنده ثم دعا بطائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضاً وقال إنه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة وأخبرهم بذلك أيضاً وقال : إنه ثالث ثلاثة وأخبرهم أنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قرباناً فلما كان بعض الليالي خرج من بين ظهرانيهم فأصبحوا وجعل كل فريق يقول قد علمني كذا وكذا وقال الفريق الآخر أنت كاذب بل علمني كذا وكذا فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقاً كثيراً وبقيت العداوة بينهم إلى يوم القيامة وهم ثلاث فرق منهم النسطورية قالوا : المسيح ابن الله والثانية الملكانية قالوا : إن الله تعالى ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله والفرقة الثالثة اليعقوبية قالوا : إن الله هو المسيح ، قال جلال الدين رومي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
در تصور ذات اورا كنج كو
تادر آيد درتصور مثل او
كر بغايت نيك وكربد كفته اند
هره زو كفتند ازخود كفته اندمي مكن ندين قياس اي حق شناس
زانكه نايد ذات بيون درقياس فعلى المؤمن أن يلاحظ قوله تعالى : {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وأن يشتغل بنفسه عن
368
غيره وفي الحديث "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة" يعني : من لم يجد شيئاً يتقي به النار فليتق منها بقول حسن يطيب به قلب المسلم فإن الكلمة الطيبة من الصدقات.
(2/295)
والإشارة في الآية أن الله تعالى أخذ الميثاق من اليهود والنصارى على التوحيد كما أخذ من هذه الأمة يوم الميثاق ولكنه لما وكل الفريقين إلى أنفسهم نسوا ما ذكروا به فما بقي لهم حظ من ذلك الميثاق بإبطال الاستعداد الفطري لكمال الإنسانية فصاروا كالأنعام بل هم أضل أي بل كالسباع يتحارشون ويتناوشون بالعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فإن أرباب الغفلة لا إلفة بينهم وأن أصحاب الوفاق لا وحشة بينهم وأما هذه الأمة لما أيدت بتأييد الإله إذ كتب في قلوبهم الإيمان بقلب خطاب ألست بربكم يوم الميثاق وأيدهم بروح منه ما نسوا حظاً مما ذكروا به وقيل لنبيهم عليه الصلاة والسلام : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات : 55) وقال تعالى خطاباً لهم إذ لم ينسوا حظهم ولم ينقضوا ميثاقهم {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) على أن ذكره إياهم كان قبل وجودهم وذكرهم إياه حين ذكرهم المحبة وقال : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) كذا في "التأويلات النجمية" يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ} يعني : اليهود والنصارى والكتاب جنس شامل للتوراة والإنجيل {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} الإضافة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه {يُبَيِّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا أي حال كونه مبيناً لكم على التدرج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَـابِ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
أي : كثيراً كائناً من الذي كنتم تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب أي التوراة والإنجيل الذي أنتم أهله والمتمسكون به كنعت محمد عليه السلام وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى بأحمد عليهما السلام في الإنجيل.
{وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} مما تخفونه أي لا يظهره ولا يخبره إذا لم يضطر إليه أمر ديني صيانة لكم عن زيادة الافتضاح.
{قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ} المراد بالنور والكتاب هو القرآن لما فيه من كشف ظلمات الشرك والشك وإبانة ما خفي على الناس من الحق أو الإعجاز الواضح والعطف المنبيء عن تغاير الطرفين لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات وقيل : المراد بالأول هو الرسول صلى الله عليه وسلّم وبالثاني القرآن {يَهْدِى بِهِ اللَّهُ} وحد الضمير لأن المراد بهما واحد بالذات أو لأنهما في حكم الواحد فإن المقصود منهما دعوة الخلق إلى الحق أحدهما رسول إلهي والآخر معجزته وبيان ما يدعو إليه من الحق {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} أي : رضاه بالإيمان به {سُبُلَ السَّلَـامِ} أي : طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب على أن يكون السلام بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة أو سبيل الله تعالى وهو شريعته التي شرعها للناس على أن يكون السلام هو الله تعالى وانتصاب سبل بنزع الخافض فإن يهدي إنما يتعدى إلى الثاني بإلى أو باللام كما في قوله تعالى : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9) {وَيُخْرِجُهُم} الضمير لمن والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في اتبع باعتبار اللفظ {مِّنَ الظُّلُمَـاتِ} أي : ظلمات فنون الكفر والضلال {إِلَى النُّورِ} إلى الإيمان وسمي الإيمان نوراً لأن الإنسان إذا آمن أبصر به طريق نجاته فطلبه وطريق هلاكه فحذره {بِإِذْنِهِ}
369
أي : بتيسيره وإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي طريق هو أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤدٍ إليه لا محالة وهذه الهداية عين الهداية إلى سبل السلام وإنما عطف عليها تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى : {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (هود : 58).
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
واعلم أن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلّم نوراً يبين حقيقة حظ الإنسان من الله تعالى وأنه تعالى سمى نفسه نوراً بقوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (النور : 35) لأنهما كانتا مخفيتين في ظلمة العدم فالله تعالى أظهرهما بالإيجاد وسمى الرسول نوراً لأن أول شيء أظهره بالحق بنور قدرته من ظلمة العدم كان نور محمد صلى الله عليه وسلّم كما قال : "أول ما خلق الله نوري" ثم خلق العالم بما فيه من نوره بعضه من بعض فلما ظهرت الموجودات من وجود نوره سماه نوراً وكل ما كان أقرب إلى الاختراع كان أولى باسم النور كما أن عالم الأرواح أقرب إلى الاختراع من عالم الأجسام فلذلك سمي عالم الأنوار والعلويات نورانياً بالنسبة إلى السفليات فأقرب الموجودات إلى الاختراع لما كان نور النبي عليه السلام كان أولى باسم النور ولهذا كان يقول : (أنا من الله والمؤمنون مني) وقال تعالى : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} .
(2/296)
ـ وروي ـ عن النبي عليه السلام أنه قال : "كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام وكان يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه" ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : "لما خلق الله آدم اهبطني في صلبه إلى الأرض وجعلني في صلب نوح في السفينة وقذفني في صلب إبراهيم ثم لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط" قال العرفي في قصيدته النعتية :
اين بس شرف كوهر نومنشى تقدير
آن روز كه بكذا شتى إقليم قدم را
تاحكم تزول تودرين دار نوشته است
صدره بعبث باز تراشيد قلم را
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لما اعترف آدم بالخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لي فقال الله : يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال : لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا اسم أحب الخلق إليك فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي فغفرت لك ولولا محمد لما خلقتك" رواه البيهقي في "دلائله" {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} لا غير كما يقال الكرم هو التقوى نزلت في نصارى نجران وهم اليعقوبية القائلون بأنه تعالى قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه {قُلْ} يا محمد تبكيتاً لهم إن كان الأمر كما تزعمون {فَمَنِ} استفهامية إنكارية {يَمْلِكُ} الملك الضبط والحفظ التام عن حزم أي يمنع {مِنَ اللَّهِ} أي : من قدرته وإرادته {شَيْـاًا} وحقيقته فمن يستطيع أن يمسك شيئاً منها {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا} احتج بذلك على فساد قولهم وتقريره أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية وكيف يكون إلهاً من لا يقدر على دفع الهلاك
370
عن نفسه ولا عن غيره والمراد بالإهلاك الأماتة والإعدام مطلقاً لا بطريق السخط والغضب ولعل نظم أمه في سلك من فرض إرادة إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجاً لحال بقية من فرض إهلاكه كأنه قيل قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض وقد أهلك أمه فهل مانعه أحد فكذا حال من عداها من الموجودين.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين قطري العالم الجسماني لا بين وجه الأرض ومقعر فلك القمر فقط فيتناول ما في السموات من الملائكة وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات وهو تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة لا لأحد سواه استقلالاً ولا اشتراكاً فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عن كل ما سواه {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أي : يخلق ما يشاء من أنواع الخلق والإيجاد على أن ما نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية لا على المفعولية كأنه قيل يخلق أي خلق يشاؤه فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض وأخرى من أصل كخلق ما بينهما فينشىء من أصل ليس من جنس كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن أصل يجانسه إما من ذكر وحده كخلق حواء أو أنثى وحدها كخلق عيسى أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى معجزة له وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك فينسب كل إليه تعالى لا إلى أمن أجري ذلك على يده.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
دامن او كير أي يار دلير
كومنزه باشد از بالا وزيرني و عيسى سوى كردون برشود
ني و قارون درزمين اندر رود
ربي الاعلاست ورد آن مهان
(2/297)
رب ادنى در خوراين ابلهان وعن عبادة من الصامت رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" ، وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "إن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فكأنه أبطأ بهن فأتاه عيسى فقال : إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تخبرهم وإما أن أخبرهم فقال : يا أخي لا تفعل فإني أخاف إن سبقتني بهن أن يخسف بي أو أعذب قال : فجمع بني إسرائيل ببيت المقدس حتى امتلأ المسجد وقعدوا على الشرفات ثم خطبهم فقال : إن الله أوحى إلي بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن.
أولاهن أن لا تشركوا بالله شيئاً فإن مثل من أشرك بالله
371
كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه داراً فقال : اعمل وارفع إلي فجعل يعمل ويرفع إلي غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك فإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله يقبل بوجهه إلى وجه عبده ما لم يلتفت.
وآمركم بالصيام ومثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة من مسك كلهم يحب أن يجد ريحها وإن الصيام عند الله أطيب من ريح المسك.
وآمركم بالصدقة ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقربوه ليضربوا عنقه فجعل يقول : هل لكم أن أفدي نفسي منكم فجعل يعطي القليل والكثير حتى فدي نفسه.
وآمركم بذكر الله كثيراً ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أسره حتى أتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه فيه وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان الذي هو أكبر الأعداء إلا بذكر الله" قال في "المثنوي" :
ذكر حق كن بانكه غولانرا بسوز
شم نركس را ازين كركس بدوزذكر حق اكست ون اكي رسيد
رخت بر بندد برون آيد ليدمي كريزد ضدها از ضدها
شب كريزد ون برافروزد ضيا
ون در آيد نام اك اندر دهان
ني ليدي ماند وني آندهان
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن بالسمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع" والربقة بكسر الراء وفتحها وسكون الباء الموحدة واحدة الربق وهي عري في حبل يشد به إليهم وتستعار لغيره {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَـارَى نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ} أي : قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير وقالت النصارى نحن أشياع ابنه المسيح كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة نحن الملوك أو المعنى نحن من الله بمنزلة الأبناء للآباء وقربنا من الله كقرب الوالد لولده وحبنا إياه كحب الوالد لولده وغضب الله علينا كغضب الرجل على ولده والوالد إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر وبالجملة أنهم كانوا يدعون أن لهم فضلاً ومزية عند الله على سائر الخلق فرد عليهم ذلك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد اعترفتم بأنه سيعذبكم في الآخرة أياماً معدودة بعدد أيام عبادتكم العجل ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع {بَلْ} أي : لستم كذلك {أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} أي : من جنس ما خلق الله تعالى من غير مزية لكم عليهم {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له من أولئكم المخلوقين وهم الذين آمنوا بالله تعالى وبرسله.
{وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن يعذبه منهم وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات لا ينتمي إليه تعالى شيء منها إلا بالمملوكية والعبودية والكل تحت مملوكيته يتصرف فيه كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإماتة وإثابة وتعذيباً فأني لهم ادعاء ما زعموا {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} في الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلالاً ولا اشتراكاً فيجازي كلا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير مانع يمنعه
372
وليست المحبة بالدعوى بل لها علامات ولله در من قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
والله تعالى لا يحب من خالف شيئاً من شريعة النبي عليه السلام من سننها وفروضها وحلالها وحرامها وإنما يحب من أطاع أمره ولا فوق بين الناس من حيث الصورة البشرية وإنما تفاوتهم من حيث العلم والعمل والتقرب إلى الله تعالى ، قال السعدي قدس سره :
ره راست بايد نه بالاي راست
(2/298)
كه كافرهم از روى صورت و ماست
وإنما يظهر التفاوت في الآخرة لأنها دار الجزاء فطوبى لعبد تفكر في حاله ومصيره فرغب في الزهد والطاعة قبل مضي الوقت ، قال في "المثنوي" :
كر ببيني ميل خود سوى سما
ردولت بر كشا همون هما
ور ببيني ميل خود سوى زمين
نوحه ميكن هي منشين از حنين
عاقلان خود نوحها يشين كنند
جاهلان آخر بسر بر مي زنند
زابتداء كار آخررا ببين
تانباشي تو يشيمان روز دين
ـ وحكي ـ أن رجلاً جاء إلى صائغ يسأل منه الميزان ليزن رضاض ذهب له فقال الصائغ : اذهب فإنه ليس لي غربال فقال الرجل لا تسخر بي آت الميزان فقال الصائغ ليس لي مكنسة ثم قال : اطلب منك الميزان أيها الصائغ وأنت تجيبني بما يضحك منه فقال : إنما قلت ما قلت لأنك شيخ مرتعش فعند الوزن يتفرق رضاضك من يدك بسبب ارتعاشك ويسقط إلى التراب فتحتاج إلى المكنسة والغربال للتخليص فبسبب فكري لعاقبة أمرك قلت ما قلت :
من زاول ديدم آخررا تمام
جاي ديكر رو ازنيجا والسلام
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
واعلم أن أحباء الله هم أولياء الله على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم ، فمنهم عوام ، ومنهم خواص ، ومنهم أخص ولكل منهم مقام معلوم من المحبة ، ورأى بعضهم معروفاً الكرخي تحت العرش وقد قال الله تعالى لملائكته من هذا فقالوا : أنت أعلم يا رب فقال هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يضيق إلا للقائي وكمال الحب إنما يحصل بعد تزكية النفس فإن النفس إذا كانت مغضوبة لا تتم الرحمة في حقها وصاحبها إنما يحب الله تعالى من وراء حجاب اللهم اجعلنا ممن يحبك حباً شديداً ويسلك في محبتك طريقاً سديداً.
يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} حال كونه {يُبَيِّنُ لَكُمْ} الشرائع والأحكام الدينية المقرونة بالوعد والوعيد.
{عَلَى فَتْرَةٍ} كائنة {مِّنَ الرُّسُلِ} مبتدأة من جهتهم وعلى متعلق بجاءكم على الظرفية أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي ومزيد احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية يقال فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حركته وصارت أقل مما كانت عليه وسميت المدة بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع ونبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت متواترة بعضها في أثر بعض إلى وقت رفع عيسى عليه السلام {أَن تَقُولُوا} تعليل لمجيىء الرسول بالبيان على حذف
373
المضاف أي كراهة أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين {مَا جَآءَنَا مِنا بَشِيرٍ} يبشرنا بالجنة {وَلا نَذِيرٍ} يخوفنا بالنار وقد انطمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت أخبارها {فَقَدْ جَآءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف تنبىء عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير أي بشير ونذير أي نذير على أن التنوين للتفخيم ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكون إليه {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما السلام حيث كان بينهما ستمائة سنة وتسع وتسعون سنة أو خمسمائة وست وأربعون سنة وأربعة أنبياء على ما روي الكلبي ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي وقيل : لم يكن بعد عيسى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الأنسب بما في تنوين فترة من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بعث إليهم عند كمال حاجتهم إليه بسبب مضي دهر طويل بعد انقطاع الوحي ليعدوه أعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة وتلزمهم الحجة فلا يتعللوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم كذا في "الإرشاد".
وفي الحديث "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فإنه ليس بيني وبينه نبي" قال ابن الملك : بطل بهذا قول من قال : الحواريون كانوا أنبياء بعد عيسى عليه السلام انتهى ومعنى قوله نبي أي نبي داع للخلق إلى الله وشرعه وأما خالد بن سنان فإن أظهر بدعواه الأنباء عن البرزخ الذي بعد الموت وما أظهر نبوته في الدنيا.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/299)
وقصته أنه كان مع قومه يسكنون بلاد عدن فخرجت نار عظيمة من مغارة فأهلكت الزرع والضرع فالتجأ إليه قومه فأخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه حتى رجعت هاربة منه إلى المغارة التي خرجت منها ثم قال لأولاده : إني أدخل المغارة خلف النار لأطفئها وأمرهم أن يدعوه بعد ثلاثة أيام تامة فإنهم إن نادوه قبل ثلاثة أيام فهو يخرج ويموت وإن صبروا ثلاثة أيام يخرج سالماً فلما دخل صبروا يومين واستفزهم الشيطان فلم يصبروا ثلاثة أيام فظنوا أنه هلك فصاحوا به فخرج خالد من المغارة وعلى رأسه ألم حصل من صياحهم فقال : ضيعتموني وأضعتم قولي ووصيتي وأخبرهم بموته وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوماً فإنه يأتيهم قطيع من الغنم يتقدمه حمار أبتر مقطوع الذنب فإذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه قبره فإنه يقوم ويخبرهم بأحوال البرزخ والقبر عن يقين ورؤية فانتظروا أربعين يوماً فجاء القطيع وتقدمه حمار أبتر فوقف حذاء قبره فهمّ مؤمنوا قومه أن ينبشوا عليه فأبى أولاده خوفاً من العار لئلا يقال لهم أولاد المنبوش قبره فحملتهم الحمية الجاهلية على ذلك فضيعوا وصيته وأضاعوه فلما بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاءته بنت خالد فقال عليه السلام : "مرحباً بابنة نبي أضاعه قومه" وإنما أمر خالد أن ينبش عليه ليسأل ويخبر أن الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدنيا فيعلم بذلك الأخبار صدق الرسل كلهم بما أخبروا به في حياتهم الدنيا فكان غرض خالد عليه السلام إيمان العالم كله بما جاءت به الرسل من أحوال القبر والمواطن والمقامات البرزخية ليكون رحمة
374
للجميع فإنه تشرف بقرب نبوته من نبوة محمد عليه السلام وعلم خالد أن الله أرسله رحمة للعالمين ولم يكن خالد برسول فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظ أوفر ولم يؤمر بالتبليغ فأراد أن يحظي في البرزخ بذلك التبليغ من مقام الرسالة ليكون أقوى في العلم في حق الخلق أي ليعلم قوة علمه بأحوال الخلائق في البرزخ فأضاعه قومه وإنما وصف النبي قومه بأنهم أضاعوا نبيهم أي وصية نبيهم حيث لم يبلغوه مراده من أخباره أحوال القبر كذا في "الفصوص" وشروحه واتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلّم ولد بمكة عام الفيل في عاشر شهر ربيع اول في ليلة يوم الإثنين منه فلما تشرف العالم وجوده الشريف وعنصره اللطيف أضاءت قلوب الخلق واستنارت فهداهم الله به عليه السلام فابصره من أبصر وعمي من عمي وبقي في الكفر والضلال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
دركار خانه عشق از كفرنا كزيرست
آتش كرا بسوزد كر بولهب نباشد
وإنما أضاف تعالى الرسول إلى نفسه وقال رسولنا وما أضاف إليهم لأن فائدة رسالته لم تكن راجعة إليهم ولما خاطب هذه الأمة وأخبرهم عن مجيىء الرسول ما أضافه إلى نفسه وإنما جعله من أنفسهم فقال : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) لأن فائدة رسالته كانت راجعة إلى أنفسهم كما في "التأويلات النجمية" ، فعلى المؤمن أن يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلّم ويتفكر في الوعد والوعيد فقد جاء البشير والنذير بحيث لم يبق للاعتذار مجال أصلاً.
ـ وروي ـ أن جبير بن مطعم قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم بالجحفة فقال : "أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن القرآن جاء من عند الله" فقلنا بلى قال : "فابشروا فإن هذا القرآن طرفه بيده الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً" {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي : اذكر يا محمد لأهل الكتاب ما حدث وقت قول موسى لبني إسرائيل ناصحاً لهم.
يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي : إنعامه عليكم {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنابِيَآءَ} في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء فارشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة من الأمم ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء وكثرة الأشراف والأفاضل في القوم شرف وفضل لهم ولا شرف أعظم من النبوة {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} أي : جعل فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة فإنه قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء وجعل الكل في مقام الامتنان عليهم ملوكاً لما أن أقارب الملوك يقولون عند الفاخرة نحن الملوك ، وقال السعدي وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط في مملكة فرعون بمنزلة أهل الجزية قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني أصحاب خدم وحشم وكانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وقال بعضهم من له امرأة يأوي إليها ومسكن يسكنه وخادم يخدمه فهو من الملوك وكذا من كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك {وَءَاتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَـالَمِينَ} من البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله من الأمور العظام والمراد بالعالمين الأمم الخالية إلى زمانهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 361(2/300)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الارْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هي أرض بيت المقدس طهرت من الشرك وجعلت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى
375
لهم بعدما عصوا فإنها محرمة عليهم {وَلا تَرْتَدُّوا} لا ترجعوا {عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي : مدبرين خوفاً من الجبابرة فهو حال من فاعل لا ترتدوا ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل أي : ولا ترجعوا على أعقابكم بخلاف ما أمر الله {فَتَنقَلِبُوا} فتنصرفوا حال كونكم {خَـاسِرِينَ} أي : مغبونين بفوت ثواب الدارين {قَالُوا} أي : بنوا إسرائيل عند أمر موسى ونهيه غير ممتثلين لذلك يا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أي متغلبين لا تتأتى مقاومتهم والجبار العالي الذي يجبر الناس ويكرههم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان فعال من جبره على الأمر أي : أجبره عليه وذلك أن النقباء الإثني عشر الذين خرجوا لتجسس الأخبار وانتهوا إلى مدينة الجبارين لما رجعوا إلى موسى وأخبروه بما عاينوا من قوتهم وشوكتهم وطول قدودهم وعظم أجسامهم وأن الرجل من بني إسرائيل ليدخل تحت قدمهم لعظمه ووسعته قال لهم موسى : اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحداً من أهل المعسكر فيفشلوا فأخبر كل واحد منهم قريبه وابن عمه إلا رجلين وفيا بما قال لهما موسى أحدهما يوشع بن نون بن اقرائيم بن يوسف فتى موسى والآخر كالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهودا فشاع الخبر بين بني إسرائيل فلذا قالوا أن فيها قوماً جبارين {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها {فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا} بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها {فَإِنَّا دَاخِلُونَ} حينئذٍ {قَالَ رَجُلانِ} كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل : قال رجلان وهما كالب ويوشع {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الله تعالى دون العدو ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه وهو صفة لرجلان
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالتثبيت والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده وهو صفة ثانية لرجلان {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي باب بلد الجبارين وهو أريحا وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغتوهم في المضيق وامنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} أي : باب بلدهم وهم فيه {فَإِنَّكُمْ غَـالِبُونَ} من غير حاجة إلى القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر {وَعَلَى اللَّهِ} خاصة {فَتَوَكَّلُوا} بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزل من التأثير وإنما التأثير من عناية العزيز القدير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما {قَالُوا} غير مبالين بقول ذينك الرجلين مصرين على القول الأول.
يا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ} أي : أرض الجبابرة {أَبَدًا} أي دهراً طويلاً {مَّا دَامُوا فِيهَا} أي : في أرضهم وهو بدل من أبداً بدل البعض لأن الأبد يعم الزمن المستقبل كله ودوام الجبارين فيها بعض منه.
{فَاذْهَبْ} الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمر كذلك فاذهب {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا} أي فقاتلاهم إنما قالوا ذلك استهانة واستهزاء به تعالى وبرسوله وعدم مبالاة بهما لا أنهم قصدوا ذهابهما حقيقة لأن من هو في صورة الإنسان يستبعد منه أنه يجوز حقيقة الذهاب والمجيىء على الله تعالى إلا أن يكون من المجسمة {إِنَّا هَـاهُنَا}
376
قاعدون} أراد بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر {قَالَ} موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة {رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِى وَأَخِى}
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/301)
أي إلا طاعة نفسي وأخي {فَافْرُقْ بَيْنَنَا} يريد نفسه وأخاه والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله {وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ} الخارجين عن طاعتك المصرين على عصيانك بأن تحكم لنا بما نستحقه وعليهم بما يستحقون {قَالَ} الله تعالى {فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} تحريم منع لا تحريم تعبد وتكليف لا يدخلونها ولا يملكونها لأن كتابتها لهم كانت مشروطة بالإيمان والجهاد وحيث نكصوا على أدبارهم حرموا ذلك وانقلبوا خاسرين.
{أَرْبَعِينَ سَنَةً} ظرف لمحرمة فالتحريم مؤقت بهذه المدة لا مؤبد فلا يكون مخالفاً لقوله تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقي {يَتِيهُونَ فِى الأرْضِ} أي يتحيرون في البرية استئناف لبيان كيفية حرمانهم {فَلا تَأْسَ} فلا تحزن والأسى الحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ} .
ـ روي ـ أنه عليه السلام ندم على دعائه عليهم فقيل : لا تندم ولا تحزن عليهم فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا امسكوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا منه وكان الغمام يظللهم من حر الشمس ويطلع بالليل عمود من نور يضيىء لهم وينزل عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورهم وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطوله وماؤهم من الحجر الذي يحملونه وهذه الإنعامات عليهم مع أنهم معاقبون لما أن عقابهم كان بطريق الفرك والتأديب وأصح الأقاويل أن موسى وهارون كانا معهم في التيه ولكن كان ذلك لهما روحاً وسلامة كالنار لإبراهيم وملائكة العذاب.
قال في "التأويلات النجمية" : والتعجب في أن موسى وهارون بشؤم معاملة بني إسرائيل بقيا في التيه أربعين سنة وبنوا إسرائيل ببركة كرامتهما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه ليعلم أثر بركة صحبة الصالحين وأثر شؤم صحبة الفاسقين انتهى ، قال الحافظ :
ملول همر هان بودن طريق كارداني نيست
بكش دشوارىءم منزل بياد عهد آساني
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام خرج من التيه بعد أربعين سنة وسار بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا وكان يوشع بن نون على مقدمته فحارب الجبابرة وفتحها وأقام بها ما شاء الله ثم قبضه الله ولا يعلم قبره إلا الله وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء على أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام ، قال السدي في وفاة هارون : إن الله أوحى إلى موسى أني متوفى هارون فائت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فإذا بشجرة لم ير مثلها فإذا بيت مبني وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه وقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه فلما نام جاء ملك الموت فقال : يا موسى خدعتني فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون وحسده على حب بني
377
إسرائيل إياه فقال لهم موسى : ويحكم كان أخي أفتروني أقتل أخي فلما كثروا عليه صلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون الجبل فقال بنو إسرائيل : أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرفت بنو إسرائيل أنه قد مات فبرأه الله مما قالوا ثم أن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/302)
وقال عمرو بن ميمونة مات هارون وموسى في التيه مات هارون قبل موسى وكانا خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا قتلته لحبنا إياه وكان محبباً في بني إسرائيل فتضرع موسى إلى ربه فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قتلتك فقال : لا ولكنني مت قال : فعد إلى مضجعك وانصرفوا ، وأما وفاة موسى عليه الصلاة والسلام قال ابن إسحق : كان صفى الله موسى قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت فنبىء يوشع بن نون فكان يعدو ويروح عليه فيقول له موسى : يا نبي الله ما أحدث الله إليك فيقول له يوشع : يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبثه به وتذكره ولا يذكر له شيئاً ولما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت وفي الحديث "جاء ملك الموت إلى موسى فقال له : أجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه وقال ارجع إلى عبدي فقل له الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال : ثم ماذا قال : ثم تموت قال فالآن من قريب قال رب ادنني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر" قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" قال محمد بن يحيى قد صح حديث ملك الموت وموسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يرده الإكل مبتدع كذا في "تفسير الثعلبي" وفي حديث آخر "إن ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فجاء ملك الموت بعد ذلك خفية" وقال وهب خرج موسى لبعض حاجاته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً قط أحسن منه ومثل ما فيه من الحضرة والنضرة والبهجة فقال لهم : يا ملائكة الله لمن يحفر هذا القبر فقالوا : لعبد كريم على ربه فقال : إن هذا العبد من الله بمنزل ما رأيت مضجعاً أحسن من هذا؟ قالوا : يا كليم الله أتحب أن يكون لك قال : وددت قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك قال : فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل نفس قبض الله روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب وقيل إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ وروي ـ أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال : كيف وجدت الموت؟ قال : كشاة تسلخ وهي حية وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى وانقضت الأربعون بعث الله يوشع نبياً فأخبره أن الله قد أمره بقتال الجبابرة فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا معه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القرون
378
وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ودخلوا فقاتلوا الجبارين فهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم البقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللهم اردد الشمس علي وقال للشمس إنك في طاعة الله تعالى وأنا في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر وكان قد غله فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل افرائيم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة وتدبيره أمر بني إسرائيل بعد موت موسى سبعاً وعشرين سنة :
جهان أي بردار نماند بكس
دل اندر جهان آفرين بندوبس
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/303)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي : على أهل الكتاب {نَبَأَ ابْنَىْ ءَادَمَ} أي : خبر ابني أبي البشر وهما قابيل وهابيل {بِالْحَقِّ} أي : تلاوة ملتبسة بالحق والصحة ذكر العلماء أن حواء كانت تلد في كل بطن ولدين ذكراً وأنثى الاشيثا فإنها ولدته منفرداً فولدت أول بطن قابيل وأخته اقليما ثم ولدت في البطن الثانية هابيل وأخته ليوذا فلما أدركوا أوحى الله إلى آدم أنه يزوج كلاً منهما توأمة الآخر لأنه لم يكن يومئذٍ إلا اختاهما وكانت توأمة قابيل أجمل فحسد عليها أخاه وسخط وزعم أن ذلك ليس من عند الله بل من جهة آدم فقال لهما قربا قرباناً فمن أيكما قبل تزوجها ففعلا فنزلت نار على قربان هابيل فأكلته ولم تتعرض لقربان قابيل فازداد قابيل حسداً وسخطاً وفعل ما فعل {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} ظرف لنبأ والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر والتقدير إذ قرب كل منهما قرباناً {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} هو هابيل وكان صاحب ضرع وقرب جملاً سميناً أو كبشاً ولبناً وزبداً فنزلت نار من السماء بيضاء لا دخان لها فأكلته بعد دعاء آدم عليه السلام وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار فأكلتها وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع وقيل ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى فكانت علامة قبوله ما ذكر من مجيىء النار والأكل.
وروى سعيد بن جبير وغيره نزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ورفع بها إلى الجنة فلم يزل يرعى إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام.
{وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخَرِ} وهو قابيل كان صاحب زرع وقرب اردأ ما عنده من القمح ولم تتعرض له النار أصلاً لأنه سخط حكم الله ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده فنزلا عن الجبل الذي قربا عليه وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم أتيى قابيل هابيل وهو في غنمه فعند ذلك {قَالَ} أي : من لم يتقبل قربانه لأخيه {لاقْتُلَنَّكَ} أي : والله لأقتلنك قال : ولم قال لأن الله قبل قربانك ورد قرباني وتنكح أختي الحسناء وأنكح
379
الدميمة فيحدث الناس أنك خير مني ويفخر ولدك على ولدي
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/304)
{قَالَ} الذي تقبل قربانه وما ذنبي {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ} أي : القربان {مِنَ الْمُتَّقِينَ} لا من غيرهم وإنما تقبل قرباني ورد قربانك لما فينا من التقوى وعدمه أي إنما أديت من قبل نفسك لا من قبلي فلم تقتلني والتقوى من صفات القلب لقوله عليه السلام : "التقوى ههنا" وأشار إلى القلب وحقيقة التقوى أن يكون العامل على خوف ووجل من تقصير نفسه فيما أتى به من الطاعات وأن يكون في غاية الاحتراز من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله وأن يكون فيه شركة لغير الله تعالى {لَئِنا بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاقْتُلَكَ} أي : والله لئن مددت إلي يدك وباشرت قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعل مثله لك في وقت من الأوقات ثم علل ذلك بقوله : {إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَـالَمِينَ} قيل كان هابيل أقوى ولكن تحرّج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن القتل للدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت ، قال البغوي : وفي الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلباً للأجر كما فعل عثمان رضي الله عنه {إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُواأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} تعليل آخر لامتناعه عن المعارضة على أنه غرض متأخر عنه كما أن الأول باعث متقدم عليه وإنما لم يعطف تنبيهاً على كفاية كل منهما في العلية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع باثمي أي بمثل إثمي لو بسطت يدك إليك وبإثمك ببسط يدك إليّ كما في قوله صلى الله عليه وسلّم "المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم" أي : على البادىء عين إثم سبه ومثل سبه صاحبه بحكم كونه سبباً له وكلاهما نصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه له.
{فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ} في الآخرة {وَذَالِكَ} إشارة إلى كونه من أصحاب النار {إِنِّى أُرِيدُ} أي : عقوبة من لم يرض بحكم الله تعالى {فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُه قَتْلَ أَخِيهِ} من طاع له المرتع إذا اتسع أي : وسعته وسهلته أي جعلته سهلاً وهوّنته وتقدير الكلام فصورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له سهل عليه ومتسع له لا ضيق فيه ولا حرج فإن قتل النفس بغير حق لا سيما قتل الأخ إذا تصوره الإنسان يجده شيئاً عاصياً نافراً كل النفرة عن دائرة الشرع والعقل بعيداً عن الإطاعة والانقياد ألبتة ثم إن النفس الأمارة إذا استعملت القوة السبعية الغضبية صار لها الفعل أسهل عليها فكأن النفس صيرته كالمطيع لها بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليها ويتم الكلام بدون اللام بأن يقال فطوعته نفسه قتل أخيه إلا أنه جيىء باللام لزيادة الربط كما في قولك حفظت لزيد ماله مع تمام الكلام بأن يقال حفظت مال زيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{فَقَتَلَهُ} قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فتمثل إبليس وأخذ طائراً أو حية وضع رأسه على الحجر ثم شدخها بحجر آخر وقابيل ينظر فتعلم منه فوضع رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه أو اغتاله وهو نائم وغنمه ترعى وذلك عند جبل ثور أو عقبة حراء أو بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وكان لهابيل يوم قتله عشرون سنة وعن بعض الكبار أن آدم لما هبط إلى الأرض تفكر فيما أكل فاستقاء فنبتت شجرة السم من قيئه فأكلت الحية ذلك السم ولذا صارت مؤذية مهلكة وكان قد بقي شيء مما أكل فلما غشي حواء حصل قابيل ولذا كان قاتلاً باعثاً للفساد في وجه الأرض
380
{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} خسر دينه ودنياه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : خسر دنياه وآخرته أما الدنيا فإنه أسخط لوالديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة وأما الآخرة فهو العقاب العظيم {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} أرسله {يَبْحَثُ فِى الأرْضِ} البحث بالفارسية "بكندن" {لِيُرِيَهُ} المستكن إلى الله تعالى أو للغراب واللام على الأول متعلقة ببعث حتماً وعلى الثاني بيبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضاً {كَيْفَ يُوَارِى} يستر {سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي جسده الميت فإنه مما يستقبح أنه يرى وقيل عورته لأنه كان قد سلب ثيابه.
وكيف حال من ضمير يواري والجملة ثاني مفعولي يرى.
(2/305)
ـ روي ـ أنه لما قتله تركه بالعراء أي الأرض الخالية عن الأشجار ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره أربعين يوماً أو سنة حتى أروح وعفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمي به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له فمنقاره ورجليه حفرة فألقاه فيها وواراه وقابيل ينظر إليه وكأنه قيل فماذا قال عند مشاهدة حال الغراب؟ فقيل : {قَالَ يا وَيْلَتَى} هي كلمة جزع وتحسر والألف بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك والنداء وإن كان أصله لمن يتأتى منه الإقبال وهم العقلاء إلا أن العرب تتجوز وتنادي ما لا يعقل إظهاراً للتحسر ومثله يا حسرة على العباد والويل والويلة الهلكة {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ} أي : عن أن أكون {مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى} تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب وقوله : فأواري بالنصب عطف على أكون أي أعجزت عن كوني مشبهاً بالغراب فموارياً {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ} أي : على قتله لما كان من التحير في أمره وحمله على رقبته مدة طويلة وغير ذلك فلما كان ندمه لأجل هذه الأسباب لا للخوف من الله بسبب ارتكاب المعصية لم يكن ندمه توبة ولم ينتفع بندمه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أنه لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كشرب الماء فناداه الله أين أخوك هابيل قال : ما أدري ما كنت عليه رقيباً فقال الله تعالى إن دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ قال : فأين دمه إن كنت قتلته فحرم الله تعالى علي الأرض يومئذٍ أن تشرب دماً بعده أبداً.
قال مقاتل : كان قبل ذلك يستأنس السباع والطيور والوحوش فلما قتل قابيل هابيل نفروا فلحقت الطيور بالهواء والوحوش بالبرية والسباع بالغياض واشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه وأمر الماء واغبرت الأرض فقال آدم : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل وكان جسد قابيل أبيض قبل ذلك فاسود فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً قال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم حزيناً على قتل ولده مائة سنة لا يضحك وأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها
فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم
وقل بشاشة الوجه الصبيح
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب إن محمداً والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني فلما قال آدم
381
مرثية قال لشيث يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية وكان يقول الشعر فنظر إلى المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعراً وزيد فيه أبيات منها :
ومالي لا أجود بسكب دمع
وهابيل تضمنه الضريح
أرى طول الحياة علي نقما
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/306)
فهل أنا من حياتي مستريح ـ وروي ـ عن أنس رضي الله عنه أنه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن يوم الثلاثاء فقال : "يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه" فلما مضى عن عمر مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل علمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصى آدم وولي عهده.
وأما قابيل فقيل له اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا تأمن من تراه فأخذ بيد أخته إقليماً وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار وهو أول من عبد النار وكان لا يمر به أحد إلا رماه فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له فقال للأعمى ابنه هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى أباه بحجارة فقتله فقال ابن الأعمى قتلت أباك فرفع يده فلطم ابنه فمات فقال الأعمى ويل لي قتلت أبي برميتي وقت ابني بلطمتي.
قال مجاهد فعقلت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها وساقها وعلقت من يومئذٍ إلى يوم القيامة وجهه إلى الشمس حيثما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج وهو أول من عصى الله في الأرض من ولد آدم وهو أول من يساق إلى النار وفي الحديث : "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" لأنه أول من سن القتل وهو أب يأجوح ومأجوج شر أولاد توالدوا من شر والد.
قالوا واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنى والفواحش حتى غرقهم الله بالطوفان أيام نوح وبقي نسل شيث ، وفي التواريخ لما ذهب قابيل إلى سمت اليمن كثروا وخلفوا وطفقوا يتحاربون مع أولاد آدم يسكنون في الجبال والمغارات والغياض إلى زمن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث ففرقهم مهلاييل إلى أقطار الأرض وسكن هو في أرض بابل وكان كيو مرث أخاه الصغير وهو أول السلاطين في العالم فأخذوا يبنون المدن والحصون واستمر الحرب بينهم إلى آخر الزمان.
واعلم أن الكدر لا يرتفع من الدنيا وإنما يرتفع التكدر عن قلوب أهل الله تعالى كالنار والماء لا يرتفعان أبداً لكن يرتفع إحراق النار لبعض كما وقع لإبراهيم عليه السلام وإغراق الماء لبعض كما وقع لموسى عليه السلام والدنيا تذهب على هذا فطوبى لمن رضي وصبر.
قال الحافظ :
382
درين من كل بيخار كس نيد أرى
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
راغ مصطفوي باشرار يولهبيست
وله :
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب
براحتي نرسيد آنكه زحمتي نكشيد
والإشارة في الآيات أن آدم الروح بازدواجه مع حواء القلب ولد قابيل النفس وتوأمته أقليما الهوى في بطن أولاً ثم ولد هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل وكان إقليما الهوى في غاية الحسن لأن القلب يميل إلى طلب المولى وما عنده وهو محبب إليه وكان ليوذا العقل في نظر هابيل القلب في غاية القبح والدمامة لأن القلب به يعقل عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل العقل عقيلة الرجال وفي نظر قابيل النفس أيضاً في غاية القبح لأن النفس به تعقل عن طلب الدنيا والاستهلاك فيها فالله تعالى حرم الازدواج بين التوأمين كليهما وأمر بازدواج توأمة كل واحد منهما إلى توأم الأخرى لئلا يعقل القلب عن طلب الحق بل يحرضه الهوى على الاستهلاك والفناء في الله ولهذا قال بعضهم : لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله فإن الهوى إذا كان قرين النفس يكون حرصاً فيه تنزل النفس إلى أسفل سافلين الدنيا وبعد المولى وإذا كان قرين القلب يكون عشقاً فيه يصعد القلب إلى أعلى عليين العقبى وقرب المولى ولهذا سمي العشق هوى كما قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبي فارغاً فتمكنا
(2/307)
ولتعقل النفس عن طلب الدنيا بل يحرضها العقل على العبودية وينهاها عن متابعة الهوى فذكر آدم الروح لولديه ما أمر الله به فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وقال هي أختي يعني إقليما الهوى ولدت معي في بطن وهي أحسن من أخت هابيل القلب يعني ليوذا العقل وأنا أحق بها ونحن من ولائد جنة الدنيا وهما من ولائد أرض العقبى فأنا أحق بأختي فقال له أبوه إنها لا تحل لك يعني إذ كان الهوى قرينك فتهلك في أودية حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها فأبى أن يقبل قابيل النفس هذا الحكم من آدم الروح وقال الله تعالى لم يأمر به وإنما هذا من رأيه فقال لهما آدم الروح قربا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها فخرجا ليقربا وكان قابيل النفس صاحب زرع يعني مدبر النفس النامية وهي القوة النباتية فقرب طعاماً من أردى زرعه وهو القوة الطبيعية وكان هابيل القلب راعياً يعني مواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب جملاً يعني الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية الشيطانية فوضعها قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فأكلت جمل الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس حبة لأنها ليست من حطبها بل هي من حطب نار الحيوانية فهذا تحقيق قوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} الآية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
والإشارة في قوله : {فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُهُ} أي : نفس قابيل النفس طوعت له وجوزت {قَتْلَ أَخِيهِ} وهو القلب لأن النفس أعدى عدو القلب {فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} يعني : في قتل القلب خسارة النفس في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فتحرم عن الواردات والكشوف والعلوم الغيبية التي
383
منشأها القلب وعن ذوق المشاهدات ولذة المؤانسات فتبقى في خسران جهولية الإنسان كقوله تعالى : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 1 ـ 2) وأما في الآخرة فتخسر الدخول في جنات النعيم ولقاء الرب الكريم والنجاة من الجحيم والعذاب الأليم وفي قوله : {فَبَعَثَ اللَّهُ} إشارات منها ليعلم أن الله قادر على أن يبعث {غُرَابًا} أو غيره من الحيوان إلى الإنسان ليعلمه ما لم يعلم كما يبعث الملائكة إلى الرسل والرسل إلى الأمم ليعلموهم ما لم يعلموا ، ومنها لئلا يعجب الملائكة والرسل أنفسهم باختصاصهم بتعليم الحق فإنه يعلمهم بواسطة الغراب كما يعلمهم بواسطة الملائكة والرسل ، ومنها ليعلم الإنسان أنه محتاج في التعلم إلى غراب ويعجز أن يكون مثل غراب في العلم ، ومنها أنتعالى في كل حيوان بل في كل ذرة آية تدل على وحدانيته واختياره حيث يبدي المعاملات المعقولة من الحيوانات الغير العاقلة ، ومنها إظهار لطفه مع عباده في أسباب التعيش حتى إذا أشكل عليهم أمر كيف يرشدهم إلى الاحتيال بلطائف الأسباب لحله كذا في "التأويلات النجمية" {مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ} شروع فيما هو المقصود بتلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارة إلى عظم شأن القتل وإفراط قبحه أي من أجل كون القتل على سبيل العدوان مشتملاً على أنواع المفاسد من خسارة جميع الفضائل الدينية والدنيوية وجمع السعادات الأخروية كما هي مندرجة في إجمال قوله : {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} ومن الابتلاء بجميع ما يوجب الحسرة والندامة من غير أن يكون لشيء منها ما يدفعه البتة كما هو مندرج في إجمال قوله {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ} وأجل في الأصل مصدر أجل شراً إذا جناه وهيجه استعمل في تعليل الجنايات أي في جعل ما جناه الغير علة لأمر يقال فعلته من أجلك أي بسبب أن جنيت ذلك وكسبته ثم اتسع فيه واستعمل في كل تعليل ومن لابتداء الغاية متعلقة بقوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/308)
{كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} وتقديمها عليه للقصر أي من ذلك ابتدىء الكتب ومنه نشأ لا من شيء آخر أي قضينا عليهم في التوراة وبينا {أَنَّه مَن قَتَلَ نَفْسَا} واحدة من النفوس {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي : بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص {أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ} أي : فساد يوجب إهدار دمها كالشرك وقطع الطريق وهو عطف على ما أضيف إليه غير بمعنى نفي كلا الأمرين معاً كما في قولك : من صلى بغير وضوء أو تيمم بطلت صلاته لا نفي أحدهما كما في قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم وقوله جميعاً حال من الناس أو تأكيد {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي : تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة {فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً والمقصود من التشبيه المبالغة في تعظيم أمر القتل بغير حق والترغيب في الاحتراز عنه {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ} أي : أهل الكتاب {رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَـاتِ} أي : وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاته وتأييداً لتحتم المحافظة عليهم {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَالِكَ} أي : بعدما ذكر من الكتب وتأكيد الأمر بإرسال الرسل
384
تترى وتجديد العهد مرة بعد أخرى وثم للترخي في الرتبة والاستبعاد {فِى الارْضِ لَمُسْرِفُونَ} في القتل غير مبالين به والإسراف في كل أمر التباعد عن حد الاعتدال مع عدم مبالاة به.
3
قوله {بَعْدَ ذالِكَ} وقوله : {فِى الأرْضِ} يتعلقان بقوله لمسرفون وهو خبر أنّ وبهذا أي بقوله تعالى : {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} اتصلت القصة بما قبلها.
وفي "التأويلات النجمية" : اعلم أن كل شيء ترى فيه آية من الله تعالى فهو في الحقيقة رسول من الله إليك ومعه آية بينة ومعجزة ظاهرة يدعوك بها إلى الله ثم إن كثيراً من الذين شاهدوا الآيات وتحققوا البينات بعد رؤية الآيات في الأرض لمسرفون أي : في أرض البشرية مجاوزون حد الشريعة والطريقة بمخالفة أوامر الله ونواهيه انتهى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
واعلم أن أهل الغفلة يشاهدون الآثار لكنهم غافلون عن الحقيقة فهم كأنهم لا بصر لهم بل غيرة الحق تمنعهم من الرؤية الصحيحة لكونهم أغياراً غير لائقين بالدخول في المجلس الخاص ، قال الحافظ :
معشوق عيان ميكذرد برتو وليكن
أغيار همي بيند ازان بسته نقابست
وكل ذرة من ذرات الكائنات وإن كانت قائمة بالحق وبنوره في الحقيقة إلا أن الدنيا خيال يحتاج السالك إلى العبور عن مسالكه إلى أن ينتهي إلى الحق ، وفي "المثنوي" :
اين جهانرا كه بصورت قائمست
كفت يغمبر كه حلم نائمست
ازره تقليد توكردي قبول
سالكان اين ديده يدا بي رسول
روز درخوابي مكوكين خواب نيست
سايه فرعست أصل جز مهتاب نيست
خواب بيداريت آن اي عضد
كه نبيند خفته كو در خواب شد
او كمان برده كه اين دم خفته ام
بي خبر زان كوست درخواب دوم
وهذه أي اليقظة من المنام على الحقيقة لا تتيسر إلا لأرباب المكاشفة الصحيحة وأصحاب المشاهدة الواضحة اللهم أفض علينا من هذا المقام {إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي : يحاربون أولياءهما وهم المسلمون جعل محاربتهم محاربتهما تعظيماً لهم والمراد بالمحاربة قطع الطريق وهو إنما يكون من قوم اجتمعوا في الصحراء وتعرضوا لدماء المسلمين وأموالهم وأزواجهم وإمائهم ولهم قوة وشوكة تمنعهم ممن أرادهم {وَيَسْعَوْنَ فِى الارْضِ فَسَادًا} حال من فاعل يسعون أي مفسدين.
نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي وكان وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج ومن مر بهلال إلى رسول الله فهو آمن لايهاج فمرقوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذٍ حاضراً فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فإن قلت بنفس إرادة الإسلام لا يخرج الشخص عن كونه حربياً والحد لا يجب بقطع الطريق عليه وإن كان مستأمناً ، قلت معناه يريدون تعلم أحكام الإسلام فإنهم كانوا مسلمين أو يقال جاءوا على قصد الإسلام فهم بمنزلة أهل الذمة والحد واجب بالقطع على أهل الذمة ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى من القتل بدون أخذ المال ومن القتل مع أخذه ومن أخذه بدون قتل ومن الإخافة بدون قتل وأخذ شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق التوزيع فقيل
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{أَن يُقَتَّلُوا} أي حداً من غير صلب إن أفردوا القتل
385
(2/309)
ولو عفا الأولياء لا يلتفت إلى ذلك لأنه حق الشرع ولا فرق بين أن يكون القتل بآلة جارحة أو لا {أَوْ يُصَلَّبُوا} أي : يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح إلى أن يموتوا ولا يصلبوا بعدما قتلوا لأن الصلب حياً أبلغ في الردع والزجر لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـافٍ} أي : أيديهم اليمنى من الرسغ وأرجلهم اليسرى من الكعب إن اقتصروا على أخذ مال من مسلم أو ذمي وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلاً منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة أما قطع أيديهم فلأخذ المال وأما قطع أرجلهم فلإخافة الطريق بتفويت أمنه {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأرْضِ} إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد والمراد بالنفي عندنا هو الحبس فإنه نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها ويعزرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن.
{ذَالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ} كائن {فِى الدُّنْيَا} أي : ذل وفضيحة.
قوله : {ذَالِكَ} مبتدأ ولهم خبر مقدم على المبتدأ وهو الخزي والجملة خبر لذلك.
{وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ} غير هذا {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم.
فقوله تعالى لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالاً من عذاب لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالاً أي كائناً في الآخرة {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله عز وجل كما ينبىء عنه قوله تعالى : {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أما ما هو من حقوق الآدميين فإنه لا يسقط بهذه التوبة فإن قطاع الطريق إن قتلوا إنساناً ثم تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قتلهم حداً وكان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو وإن أخذوا مالاً ثم تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وكان حق صاحب المال باقياً في ماله وجب عليهم رده وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه ويقام الحد عليه في الدتيا كما يضمن حقوق العباد وإن سقط عنه العذاب العظيم في العقبى.
والآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها يعني أن المشرك المحارب لو آمن بعد القدرة عليه فلا سبيل عليه بشيء من الحدود ولا يطالب بشيء مما أصاب في حال الكفر من دم أو مال كما لو آمن قبل القدرة عليه.
وأما المسلمون المحاربون فمن تاب منهم قبل القدرة عليه أي قبل أن يظفر به الإمام سقطت عنه العقوبة التي وجبت حقاًولا يسقط ما كان من حقوق العباد فإن كان قد قتل في قطع الطريق سقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ويبقى عليه القصاص لولي القتل إن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه القطع وإن كان جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ويجب ضمان المال.
وقال بعضهم إذا جاء تائباً قبل القدرة عليه لا يكون لأحد تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرده على صاحبه.
روي عن علي رضي الله عنه أن الحارث بن بدر جاءه تائباً بعدما كان يقطع الطريق ويسفك الدماء ويأخذ الأموال فقبل توبته ولم يجعل عليه تبعة أصلاً وأما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء من الحقوق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
اعلم أن قطع الطريق وإخافة المسافرين من أقبح السيآت كما أن دفع الأذى عن الطريق من أحسن الصالحات وفي الحديث : "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها
386
فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط على الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن" وفي الحديث "من أشار إلى أخيه" أي : أخيه المسلم والذمي في حكمه "بحديدة" أي بما هو آلة القتل لأنه جاء في رواية "بسلاح" مكان بحديدة "فإن الملائكة تلعنه" يعني : تدعو عليه بالبعد عن الجنة أول الأمر لأنه خوف مسلماً بإشارته وهو حرام لقوله عليه الصلاة والسلام : "لا يحل لمسلم أن يروع المسلم" أو لأنه قد يسبقه السلاح فيقتله كما صرح به في رواية مسلم "لا يشر أحدكم إلى أخيه فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده وإن كان أخاه" أي : المشير أخا المشار إليه "لأبيه وأمه" يعني فإن كان هازلاً ولم يقصد ضربه كنى به عنه لأن الأخ الشقيق لا يقصد قتل أخيه غالباً.
(2/310)
والإشارة في الآية أن محاربة الله ورسوله معاداة أولياء الله فإن في الخبر الصحيح حكاية عن الله تعالى : "من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه" ألا يرى أن بلعم بن باعوراء في زمن موسى عليه السلام كان بحيث إذا نظر رأى العرش فلما مال إلى الدنيا وأهلها ميلة واحدة ولم يترك لولي من أوليائه حرمة واحدة سلب الله معرفته وجعله بمنزلة الكلب المطرود فجزاء مثل هذا المحارب أن يقتل بسكين الخذلان أو يصلب بحبل الهجران على جذع الحرمان أو تقطع أيديه عن أذيال الوصال وأرجله من خلاف عن الاختلاف أو ينفي من أرض القربة والائتلاف فله في الدنيا بعد وهوان وفي الآخرة عذاب القطيعة والهجران إلا الذين تابوا إلى الله واستغفروا واعتذروا عن أولياء الله من قبل أن تقدروا عليهم برد الولاية أيها الأولياء فإن ردهم رد الحق وقبولكم قبول الحق وأن مردود الولاية مفقود العناية.
قال الحافظ :
كليد كنج سعادت قبول أهل دلست
مبادكس كه درين نكته شك وريب كند
وفي "المثنوي" :
لا جرم آتراه بر تو بسته شد
ون دل أهل دل ازتو خسته شد
زود شان درياب واستغفار كن
همو ابري كريها وزار كن
تاكلستان شان سوى توبشكفد
ميوهاي بخته بر خود واكفد
هم بران در كرد كم ازسك مباش
باسك كهف ارشد ستى خواجه تاش
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي : اخشوا عذابه واحذروا معاصيه.
{وَابْتَغُوا} أي : اطلبوا لأنفسكم {إِلَيْهِ} أي إلى ثوابه والزلفى منه {الْوَسِيلَةَ} أي : القربة بالأعمال الصالحة.
قوله تعالى : {إِلَيْهِ} متعلق بالوسيلة قدم عليها للاهتمام وليست بمصدر حتى يمتنع أن يتقدم معمولها عليها بل هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله تعالى من وسل إلى كذا تقرب إليه والجمع الوسائل.
وقال عطاء الوسيلة أفضل درجات الجنة وفي الحديث "سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد وأرجو من الله أن يكون هو أنا" وفي الحديث "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة".
قال المولي الفناري في تفسير الفاتحة : أما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حصلت له
387
بدعاء أمته فعل ذلك الحق سبحانه لحكمة أخفاها فإنا بسببه نلنا السعادة من الله وبه كنا خير أمة أخرجت للناس وبه ختم الله بنا الأمم كما ختم به النبيين وهو صلى الله عليه وسلّم مبشر كما أمر أن يقول ولنا وجه خاص إلى الله تعالى نناجيه منه ويناجينا وكذا كل مخلوق له وجه خاص إلى ربه فأمرنا عن أمر الله أن ندعو له بالوسيلة حتى ينزل فيها بدعاء أمته وهذا من باب الغيرة الإلهية انتهى {وَجَـاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ} بمحاربة الأعداء الظاهرة والباطنة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بالوصول إلى الله والفوز بكرامته.
والإشارة في الآية أن الله تعالى جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء : أحدها الإيمان وهو إصابة رشاشة النور في بدء الخلقة وبه يخلص العبد من حجب ظلمة الكفر ، وثانيها التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأَمال الشرعية وبه يخلص العبد من ظلمة المعاصي ، وثالثها ابتغاء الوسيلة وهو فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يتخلص العبد من ظلمة أوصاف الوجود ، ورابعها الجهاد في سبيل الله وهو اضمحلال الأنانية في إثبات الهوية وبه يتخلص العبد من ظلمة الوجود ويظفر بنور الشهود فالمعنى الحقيقي يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بإصابة النور {اتَّقُوا اللَّهَ} بتبديل الأخلاق الذميمة {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} في إفناء الأوصاف {وَجَـاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ} ببذل الوجود {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بنيل المقصود من المعبود كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
واعلم أن الآية الكريمة صرحت بالأمر بابتغاء الوسيلة ولا بد منها البتة فإن الوصول إلى الله تعالى لا يحصل إلا بالوسيلة وهي علماء الحقيقة ومشايخ الطريقة ، قال الحافظ :
قطع اين مرحله بي همرهى خضر مكن
ظلماتست بترس از خطر كمراهي
والعمل بالنفس يزيد في وجودها وأما العمل وفق إشارة المرشد ودلالة الأنبياء والأولياء فيخلصها من الوجود ويرفع الحجاب ويوصل الطالب إلى رب الأرباب.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي : كنت أنا وصاحب لي قد أوينا إلى مغارة لطلب الدخول إلى الله وأقمنا فيها ونقول يفتح لنا غداً أو بعد غد فدخل علينا يوماً رجل ذو هيبة وعلمنا أنه من أولياء الله فقلنا له : كيف حالك فقال : كيف يكون حال من يقول يفتح لنا غداً أو بعد غدٍ يا نفس لِمَ لا تعبدين الله ؟ فتيقظنا وتبنا إلى الله وبعد ذلك فتح علينا فلا بد من قطع التعلق من كل وجه لينكشف حقيقة الحال.
قال الحافظ :
فداي دوست نكرديم عمر مار دريغ
(2/311)
كه كار عشق زما اين قدر نمي آيد
وفي صحبة الأخيار والصلحاء شرف عظيم وسعادة عظمي.
ـ وحكي ـ أن خادم الشيخ أبي يزيد البسطامي كان رجلاً مغربياً فجرى الحديث عنده في سؤال منكر ونكير فقال المغربي والله إن يسألاني لأقولن لهما فقالوا له ومن أين يعلم ذلك فقال : اقعدوا على قبري حتى تسمعوني فلما انتقل المغربي جلسوا على قبره فسمعوا المسألة وسمعوه يقول أتسألونني وقد حملت فروة أبي يزيد على عنقي فمضوا وتركوه ولا تستبعد أمثال هذا فإن جواب المجيب المدقق يذهب معه من هنا فحصل مثل هذا الزاد ، وفي "المثنوي" :
كنج زرى كه و خسبي زير ريك
باتو باشد آن نباشد مرد ريك
يش يش آن جنازت مي رود
مونس كور وغريبي ميشود
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم} أي : لكل واحد منهم {مَّا فِى الأرْضِ} أي من أصناف
388
أموالها وذخائرها وسائر منافعها وهو اسم أن ولهم خبرها {جَمِيعًا} توكيد للموصول أو حال منه {وَمِثْلَهُ} عطف على الموصول أي ضعف {مَعَهُ} ظرف وقع حالاً من المعطوف والضمير راجع إلى الموصول.
{لِيَفْتَدُوا بِهِ} متعلق بما تعلق به خبر أن أعني : الاستقرار المقدر في لهم وبه متعلق بالافتداء والضمير راجع إلى الموصول ومثله معاً وتوحيده لإجرائه مجرى اسم الإشارة كأنه قيل بذلك {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} متعلق بالافتداء أيضاً أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم لجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع يومئذٍ وافتدوا به {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} ذلك وهو جواب لو ولو بما في حيزه خبر أن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم واستحالة نجاتهم منه بوجه من الوجوه المحققة والمفروضة وفي الحديث "يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملىء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم فيقال له : إنك كنت سئلت ما هو الأيسر من ذلك" أي ما هو أسهل من الافتداء المذكور وهو ترك الإشراك بالله تعالى وإتيان كلمة الشهادة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم {يُرِيدُونَ} كأنه قيل فكيف يكون حالهم أو ماذا يصنعون فقيل إنهم يريدون {أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} له وجوه الأول أنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج فيلفحهم لهب النار ويرفعهم إلى فوق فهناك يريدون الخروج ولات حين مناص والثاني أنهم يكادون يخرجون منها لقوة النار وزيادة رفعها إياهم والثالث أنهم يتمنون ويريدون بقلوبهم {وَمَا هُم} أي : يريدون ذلك والحال أنهم ليسوا {بِخَـارِجِينَ مِنْهَا} لأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي : دائم لا ينقطع وهو تصريح بعدم تناهي مدته بعد بيان شدته وفي الحديث "يقال لأهل الجنة لكم خلود ولا موت ولأهل النار يا أهل النار خلود ولا موت" أي لكم خلود في النار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أن هذين القولين يكونان بعد أن يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار وإنما يمثل الموت بهذا المثال ليشاهدوا بأعينهم ويستقر في أنفسهم أن الموت ارتفع فيزداد أهل الجنة فرحاً وأهل النار ترحاً وتخصيص صورة الكبش لأنه لما كان فداء عن إسماعيل الذي نبينا عليه السلام من نسله كان في المعنى فداء عن جميع الأحياء في الدنيا لأنهم خلقوا لأجله فناسب أن يكون فداء عنهم في دار الآخرة أيضاً كذا "شرح المشارق" لابن الملك.
واعلم أن الكفر وجزاءه وهو الخلود في النار أثر إخطاء رشاش النور الإلهي في عالم الأرواح وقد أنعم الله تعالى على المؤمنين بإصابة ذلك النور ، وفي "المثنوي" :
مؤمنان كان عسل زنبور وار
كافران خودكان زهري همومارجنبش خلق ازقضا ووعده است
تيزىء دندان زسوز معده استنفس أول راند بر نفس دوم
ما هي ازسر كنده باشدني زدم
تونميداني كزين دوكيستي
جهدكن ندانكه بيني يستي
ون نهى برشت كشتي باررا
بر توكل ميكنى آن كررا
تو نميداني كه ازهر دوكىء
غرقه اندر سفر يا ناجي
389
ونكه بربوكست جمله كارها
كار دين أولى كزين يابي رها
قال بعض الصلحاء : رأيت في منامي كأني واقف على قناطر جهنم فنظرت إلى هول عظيم فجعلت أفكر في نفسي كيف العبور على هذه فإذا قائل يقول : يا عبد الله ضع حملك واعبر قلت ما حملي قال دع الدنيا.
قال الحافظ :
تاكى غم دنياي دنى اي دل دانا
حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
(2/312)
وفي الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا الباء فيه للتعدية وأنعم أفعل تفضيل من النعمة أي بأكثرهم نعمة "من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة" يعني يغمس فيها مرة أراد من الصبغ الغمس إطلاقاً للملزوم على اللازم لأن الصبغ إنما يكون بالغمس غالباً ثم أراد من غمسه فيها إصابة نفخة من النار به "ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يا رب" شدة العذاب أنسته ما مضى عليه من نعم الدنيا "ويؤتى بأشد الناس بؤساً" أي شدة وبلاء في الدنيا "من أهل الجنة فيصبغ صبغة من الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط" كذا في "شرح المشارق" لابن ملك :
هر ند غرق بحر كناهم زصد جهت
كر آشناي عشق شوم زاهل رحمتم
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وهو مبتدأ محذوف الخبر أي حكم السارق والسارقة ثابت فيما يتلى عليكم فقوله تعالى : {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} بيان لذلك الحكم المقدر فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود مما قبلها ولو لم يأت بالفاء لتوهم أنه أجنبي وإنما قدر الخبر لأن الأمر إنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار وتأويل والمراد بأيديهما إيمانهما ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم : 4) اكتفاء بتثنية المضاف إليه وتفصيل ما يتعلق بالسرقة سيجيء في آخر المجلس {جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّهِ} منصوبان على المفعول له والمعنى فاقطعوهما مكافأة لهما على ما فعلا من فعل السرقة وعقوبة رادعة لهما من العود ولغيرهما من الاقتداء بهما وبما متعلق بجزاء ومن الله صفة نكالاً أي نكالاً كائناً منه تعالى ، والنكال اسم بمعنى التنكيل مأخوذ من النكول وهو الامتناع {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره يمضيه كيف يشاء من غير ند ينازعه ولا ضد يمانعه {حَكِيمٌ} في شرائعه لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع المنطوية على فنون الحكم والمصالح {فَمَن تَابَ} من السراق إلى الله تعالى {مِنا بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي : من بعد أن ظلم غيره بأخذ ماله والتصريح به مع أن التوبة لا تتصور قبله لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته {وَأَصْلَحَ} أي : أمره بالتفصي عن تبعات ما باشره والعزم على أن لا يعود إلى السرقة {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي : يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة وأما القطع فلا تسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه.
قال الحدادي لا تقطع يده إذا رد المال قبل المرافعة إلى الحاكم وأما إذا رفع إلى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب فإن كانت توبته حقيقة كان ذلك زيادة درجات له كما أن الله تعالى ابتلى الصالحين والأنبياء بالبلايا
390
والمحن والأمراض زيادة لهم في درجاتهم وإن لم تكن توبته حقيقة كان الحد عقوبة له على ذنبه وهو مؤاخذ في الآخرة إن لم يتب {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في المغفرة والرحمة ولذلك يقبل التوبة {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمراد به الجميع والاستفهام الإنكاري لتقرير العلم والمراد بذلك الاستشهاد على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله له السلطان القادر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن يعذبه ولو على الذنب الصغير وهو عدل منه.
{وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له ولو كان الذنب عظيماً وهو الفضل منه أي يعذب لمن توجب الحكمة تعذيبه ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة ، قال ابن الشيخ : إنه تعالى لما أوجب قطع يد السارق وعقاب الآخرة لمن مات قبل التوبة ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء يحسن منه التعذيب تارة والمغفرة أخرى لأنه مالك جميع المحدثات وربهم وإلههم والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد لا كما زعمت المعتزلة من أن حسن أفعاله تعالى ليس لأجل كونه إلهاً للخلق ومالكاً بل لأجل كونها على وفق مصالح الخلق ومتضمنة لرعاية ما هو الأصلح لهم انتهى.
(2/313)
واعلم أن السرقة هي أخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة من حرز لا ملك له فيه ولا شبهته فاحترز بالمكلف عن أخذ صبي ومجنون وبالخفية وهو ركن السرقة عن الغصب وقطع الطريق.
وقوله قدر عشرة دراهم أي عيناً أو قيمة وهذا نصاب السرقة في حق القطع وأما في حق العيب فأخذ ما دون العشرة يعد سرقة أيضاً شرعاً ويعد عيباً حتى يرد العبد به على بائعه وعند الشافعي نصاب السرقة ربع دينار ولنا قوله عليه السلام : "لا قطع إلا في ربع دينار أو في عشرة دراهم" والأخذ بالأكثر أولى احتيالاً لدرا الحد والمعتبر في هذه الدراهم ما يكون عشرة منها وزن سبعة مثاقيل واحترز بالمضروبة عما قيمته دونها حتى إذا سرق تبرا عشرة لا يساوي عشرة مضروبة لا يجب القطع وقوله من حرز أي من مال ممنوع من أن يصل إليه يد الغير سواء كان المانع بناء أو حافظاً.
قال البغوي : إذا سرق شيئاً من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه وقيد بقوله ولا شبهته لأنه لو كان له شبهة في المسروق كما إذا سرق من بيت المال أوفى الحرز كما إذا سرق من بيت أذن للناس بالدخول فيه كالحمام والرباط لا يقطع لأن القطع يندرىء بالشبهة وكذا لا قطع بسرقة مال سيده لوجود الإذن بالدخول عادة وكذا بسرقة مال زوجته أو زوجها ولو من حرز خاص لآخر لا يسكنان فيه لأن اليد المبسوطة لكل من الزوجين في مال الآخر ثابتة وهو مانع عن القطع وكذا لا قطع بسرقة مال من بينهما قرابة ولاء لجريان الانبساط بين الأصول والفروع بالانتفاع في المال والدخول في الحرز ولا بسرقة من بيت ذي رحم محرم
391
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ولو كان المسروق مال غيره لعدم الحرز ويقطع يمين السارق من زنده وهو مفصل الذراع في الكف ويحسم بأن يدخل في الذهن الحار بعد القطع لقطع الدم لأنه لو لم يحسم لافضى إلى التلف والحد زاجر لا متلف ولهذا لا يقطع في الحر الشديد والبرد الشديد وإن سرق ثانياً بعدما قطعت يده اليمنى تقطع رجله اليسرى من المفصل وإن سرق ثالثاً لا يقطع بل يحبس حتى يتوب ويظهر عليه سيما الصالحين والتائبين لقول علي رضي الله عنه فيمن سرق ثلاث مرات إني لأستحيى من الله أن لا أدع له يداً يأكل بها ويستنجي ورجلاً يمشي عليها وفي الحديث : "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" وفيه دليل على أن التوبة يعلم أثرها وتثبت السرقة بما يثبت به شرب الخمر أي بالشهادة أو بالإقرار مرة ونصابها رجلان لأن شهادة النساء غير مقبولة في الحدود وطلب المسروق منه شرط القطع لأن الخيانة على ملك الغير لا تظهر إلا بخصومته ولا فرق في القطع بين الشريف والوضيع ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سرقت امرأة مخزومية فأراد النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقطع يدها فاستشفع لها أسامة بن زيد وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحبه فلم يقبل وقال : "يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" وفي الحديث نهيُّ عن الشفاعة في الحدود بعد بلوغ الإمام ولهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلّم شفاعة أسامة وأما قبله فالشفاعة من المجني عليه جائزة والستر على الذنب مندوب إذا لم يكن صاحب شر وأذى ، قال السعدي :
س رده بيند عملهاي بد
هم اورده وشد ببالاي خود
وفي الحديث أيضاً دلالة على وجوب العدل في الرعية وإجراء الحكم على السوية ، قال الإمام أبو منصور : فإن قيل ما الحكمة في قطع يد قيمتها ألوف بسرقة عشرة دراهم فكيف يكون قطعها جزاء لفعل السارق وقد قال تعالى : {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} (الأنعام : 160) قلنا : جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء ولله تعالى أن يمتحن بما شاء ابتداء أي من غير أن يكون ذلك جزاء على كسب العبد ولأن القطع ليس بجزاء ما أخذ من المال ولكن لما هتك من الحرمة ألا يرى أنه قال جزاء بما كسبا فيجوز أن يبلغ جزاء هتك تلك الحرمة قطع اليد وإن قصر على العشرة علم ذلك لأن مقادير العقوبات إنما يعلمها من يعلم مقادير الجنايات وإذا كان الأمر كذلك فالحق التسليم والانقياد انتهى.
ونعم ما قال يونس بن عبيد في باب الترهيب : لا تأمن من قطع في خمسة دراهم خير عضو منك أن يكون عذابه هكذا غداً كما في "منهاج العابدين" ، فعلى العاقل أن يتوب عن الزلل وينقطع عن الحيل ويتوجه إلى الله الأعلى الأجل ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
حيلها وارها كر ازدهاست
يش الا الله آنها جمله لاستقفل زفتست وكشانيده خدا
دست در تسليم زن اندر رضا ثم إن الله تعالى إنما بدأ بالسارق في هذه الآية قبل السارقة وفي آية الزنى بدأ بالزانية لأن السرقة تفعل بالقوة والرجل أقوى من المرأة والزنى يفعل بالشهوة والمرأة أكثر شهوة
392
(2/314)
والمرأة أدعى من الرجل إلى نفسها منه إليها ولهذا لو اجتمع جماعة على امرأة لم يقدروا عليها إلا بمرادها ولهذا قيل : قال الله تعالى : {وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى} (طه : 121) ولم يقل : وعصت حواء مع أنها أكلت قبل آدم ودعته إلى الأكل وقيل إنما قطعت يد السارق لأنها باشرت ولم يقطع ذكر الزاني للمباشرة خوفاً لقطع النسل وتحصيل أيضاً لذة الزنى بجميع البدن.
قال النيسابوري : قطعت يد السارق لأنها أخذت المال الذي هو يد الغني وعماده كأنه أخذ يد إنسان فجزوا يده لتناولها حق الغير وقيل : قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ خَزَآاـاِنُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (المنافقون : 7) فكل ما عند العبد من مال فهو خزانة الحق عنده والعبد خازنه فمهما تعدى خزانة مولاه بغير إجازة استحق السياسة بقطع آلة التعدي إلى خيانة خزانته وهي اليد المتعدية ، ثم إن السرقة كما تكون من المال كذلك تكون من العبادات وفي الحديث "أسوء الناس سرقة الذي يسرق من صلاته" قالوا : يا رسول الله كيف يسرق من صلاته؟ قال : "لا يتم ركوعها ولا سجودها" وفي الحديث "إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة" لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع كذا في "الترغيب والترهيب" فمثل هذا المصلي يقطع يمينه عن نيل الوصال فلا يصل إلى مراده بل يبقى في الهجران والقطيعة إذ هو أساء الأدب بل قصر فيما أمر الرب سبحانه وتعالى يا اأَيُّهَا الرَّسُولُ} خاطبه صلى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة للتشريف {لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ} أي : صنع الذين فان الذوات مع قطع النظر عن العوارض لا توجب الحزن والفرح {يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} أي : يقعون في الكفر سريعاً في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة والمقصود نهيه عليه السلام عن أن يتحزن بصنيعهم بناء على أنه تعالى ناصره عليهم والمعنى لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر سريعاً {مِنَ الَّذِينَ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
بيان للمسارعين في الكفر {قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} متعلق بقالوا والفائدة في بيان تعلقه بالأفواه مع أن القول لا يكون إلا بالفم واللسان الإشارة إلى أن ألسنتهم ليست معبرة عما في قلوبهم وأن ما يجرون على ألسنتهم لا يجاوز أفواههم وإنما نطقوا به غير معتقدين له بقلوبهم {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملة حالية من ضمير قالوا جيء بها للتصريح بما أشار إليه بقوله بأفواههم {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} عطف على من الذين قالوا وبه يتم بيان المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين : المنافقين واليهود {سَمَّـاعُونَ} خبر مبتدأ محذوف والتقدير هم أي المنافقون واليهود سماعون {لِلْكَذِبِ} اللام إما لتقوية العمل وإما لتضمن السماع معنى القبول وأما لام كي والمفعول محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب أو في قبول ما تفتريه أحبارهم من الكذب على الله سبحانه وتحريف كتابهم أو سماعون أخباركم وأحاديثكم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص والتبديل فإن منهم من يسمع من الرسول عليه السلام ثم يخرج ويقول : سمعت منه كذا وكذا ولم يسمع ذلك منه {سَمَّـاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} خبر ثان للمبتدأ المقدر مقرر للأول ومبين لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين واللام مثل اللام في سمع الله لمن حمده في الرجوع إلى معنى من أي قبل منه حمده والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين {لَمْ يَأْتُوكَ} صفة أخرى لقوم أي لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء قيل هم يهود خيبر
393
والسماعون بنو قريظة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنا بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} صفة أخرى لقوم أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله فيها إما لفظاً بإهماله أو تغيير وصفه وإما بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده {يَقُولُونَ} صفة أخرى لقوم أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل {إِنْ أُوتِيتُمْ} من جهة الرسول {هَـاذَآ} المحرف {فَخُذُوهُ} واعملوا بموجبه فإنه الحق {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} بل أوتيتم غيره {فَاحْذَرُوا} قبوله وإياكم وإياه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/315)
ـ روي ـ أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فارسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير فقالوا لهم : إنكم خبير بهذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث فلان وفلانة فجراً وقد أحصنا فنحب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه فيه فقالت لهم قريظة والنضير : إذاً والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك فقال : "هل ترضون بقضائي" قالوا : نعم فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال عليه السلام : "هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا" قالوا : نعم فقال : "أي رجل هو فيكم" قالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة قال : "فأرسلوا إليه" ففعلوا فأتاهم فقال له عليه السلام : "أنت ابن صوريا" قال : نعم قال : "وأنت أعلم يهودي" قال : كذلك يزعمون قال : "أتجعلونه بيني وبينكم" قالوا : نعم قال له النبي عليه السلام : "أنشدك بالله الذين لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن" قال ابن صوريا : نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابك يا محمد قال : "إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم" فقال ابن صوريا والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له النبي عليه السلام : "فماذا كان أول ما ترخصتم به في أمر الله تعالى" قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنى في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملكنا فلم يرجم ثم زنى رجل آخر في إسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه وقالوا : والله لا ترجمه حتى ترجم فلاناً ابن عمك فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال لهم : إأنه قد نشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني
394
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/316)
لما أخبرته فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلّم فرجما عند باب المسجد وقال : "اللهم إني أول من أحيي أمرك إذ أماتوه" فأنزل الله تعالى يا اأَيُّهَا الرَّسُولُ} الآية {وَمَنْ} شرطية {يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أي : ضلالته أو فضيحته كائناً من كان {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ} فلن تستطيع له {مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا} في دفعها {أولئك} المنافقون واليهود {الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما وإصرارهم عليهما وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية {لَهُمْ} أي : للمنافقين واليهود {فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ} أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم فيما بين المسلمين وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة {وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ} أي : مع الخزي الدنيوي {عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو الخلود في النار {سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ} تكرير لما قبله {أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام كالرشى من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة {فَإِن جَآءُوكَ} الفاء فصيحة أي : وإذا كان حالهم كما شرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} بيان لحال الأمرين أثر التخيير {فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـاًا} من الضرر بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله يعصمك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} بالعدل الذي أمرت به كما حكمت بالرجم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين فيحفظهم من كل مكروه ومحذور ويعظم شأنهم وفي الحديث "المقسطون عند الله على منابر من نور" {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاـاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم وفيها حكم الله حال من التوراة أو رفعها بالظرف وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجب وثم للتراخي في الرتبة {مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي : من بعد ما حكموك وهو تصريح بما علم قطعاً لتأكيد الاستبعاد والتعجب أي ثم يعرضون عن حكمك والموافق لكتابهم من بعدما رضوا بحكمك {وَمَآ أُولَئكَ} الموصوفون بما ذكر {بِالْمُؤْمِنِينَ} أي : بكتابهم لإعراضهم عنه أولاً وعن حكمك الموافق لكتابهم ثانياً أو بك وبه.
وفي الآية : ذم للظلم ومدح للعدل وقدح في الحرام والرشوة وفي الحديث : "كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به" وفيه "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش" وأراد بالرائش الذي يمشي بينهما ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
أي بسا مرغى رنده دانه جو
كه بريده حلق أوهم حلق أو
أي بسا ما هي درآب دور دست
كشته ازحرص كلوا مأخوذ شست
أي بسا مستور دررده بده
شومى فرج وكلو ربو اشده
أي بسا قاضي حبر نيك خو
از كلوى رشوتي اوزرد رو
بلكه در هاروت وماروت آن شراب
از عروج جر خشان شد سد باب
ذكر في "أدب القاضي" للخصاف : الرشوة على أربعة أوجه : إما أن يرشوه لأنه قد خوفه فيعطيه
395(2/317)
الرشوة ليدفع الخوف عن نفسه أو يرشوه ليسوي أمره بينه وبين السلطان أو يرشوه ليتقلد القضاء من السلطان أو يرشو القاضي ليقضي له.
ففي الوجه الأول لا يحل الأخذ لأن الكف عن التخويف كف عن الظلم وأنه واجب حقاً للشرع فلا يحل أخذه لذلك ويحل للمعطي الإعطاء لأنه جعل المال وقاية للنفس وهذا جائز موافق للشرع.
وفي الوجه الثاني أيضاً لا يحل الأخذ لأن القيام بأمور المسلمين واجب بدون المال فلا يحل له الأخذ.
وفي الوجه الثالث : لا يحل له الأخذ والإعطاء وأما الرابع : فحرام الأخذ سواء كان القضاء بحق أو ظلم.
أما الظلم فلوجهين : أحدهما أنه رشوة ، والثاني : أنه سبب للقضاء بالجور.
وأما الحق فلوجه واحد وهو أنه أخذ المال لإقامة الواجب.
وأما العطاء فإن كان بجور لا يجوز وإن كان بحق جاز ، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : من شفع شفاعة يرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدي له فقبل فهو سحت ، وفي "نصاب الاحتساب" أن المحتسب أو القاضي إذا أهدي إليه ممن يعلم أنه يهدي لاحتياجه إلى القضاء والحسبة لا يقبل ولو قبل كان رشوة وأما ممن يعرف أنه يهدي للتودد والتحبب لا للقضاء والحسبة فلا بأس به وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون في قبول الهداية بينهم وهذا لأن الهدية كانت عادتهم وكانوا لا يلتمسون منهم شيئاً وإنما كانوا يهدون لأجل التودد والتحبب وكانوا يستوحشون برد هداياهم فلا يكون فيه معنى الرشوة فلهذا كانوا يقبلونها ، قال قوم : إن صلات السلاطين تحل للغني والفقير إذا لم يتحقق أنها حرام وأما التبعة على المعطي قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل هدية المقوقس ملك الاسكندرية واستقرض من اليهود مع قول الله تعالى : {أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة : 5) وأما حال السوق فمتى علمت أن الحرام هو الأكثر فلا تشتر إلا بعد التفتيش وإن كان كثيراً وليس بالأكثر فلك السؤال ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه يشترون من الأسواق مع علمهم بأن فيهم أهل الربا والغصب والغلول.
قال الحدادي ومن السحت ثمن الخمر والخنزير والميتة وعسب الفحل وأجرة النائحة والمغنية والساحر وهدية الشفاعة ومهر البغي وحلوان الكاهن هكذا قال عمر وعلي وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قالوا : والمال الذي يأخذه المغنى والقوال ونحوهما حكم ذلك أخف من الرشوة فإن صاحب المال أعطاه عن غير اختيار بغير عقد ، قال ابن كيسان : سمعت الحسن يقول : إذا كان لك على رجل دين فأكلت في بيته فهو سحت.
فعليك أيها المؤمن المتقي بالاحتياط في أمورك حتى لا تقع في الشبهات بل في الحرام وإنما تحصل التصفية للقلب بأكل الغذاء الحلال.
قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
صوفي شهر بين كه ون لقمه شبهه ميخورد
اردمش در ازباد اين حيوان خوش علف
والمقصود من البيت تشبيه الذي لا يحترز عن الشبهات بالحيوان في الأكل من كل ما يجده من غير تفرقة ولأن تناول الشبهات من كمال الحرص لأنه لو لم يكن له حرص لكان له قناعة بالحلال ولو قليلاً والحيوان يعظم من كثرة الأكل والشرب والنوم وهي حكم الطبيعة.
{إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ} حال كونها {فِيهَا هُدًى} تهدي شرائعها وأحكامها إلى الحق وترشد الناس إليه {وَنُورٌ} تكشف ما انبهم من الأحكام وما يتعلق بها من المستورة بظلمات الجهل.
{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} أي : أنبياء بني إسرائيل أي يحكمون بأحكامها ويحملون الناس عليها.
{الَّذِينَ أَسْلَمُوا} ، إن قلت :
396
النبيون أعظم من الإسلام فكيف يمدح نبي بأنه رجل مسلم وما الوصف به بعد الوصف بالنبوة إلا تنزل من الأعلى إلى الأدنى ، قلت : قد يذكر الوصف مدحاً للوصف ففائدة التوصيف تنويه شأن الصفة والتنبيه على عظم قدرها حيث وصف بها عظيم كما وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان وقد قيل أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف ، قال :
ما إن مدحت محمداً بمقالتي
لكن مدحت مقالتي بمحمد
{لِلَّذِينَ هَادُوا} متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم واللام لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا {وَالرَّبَّـانِيُّونَ وَالاحْبَارُ} عطف على النبيون أي هم أيضاً يحكمون بأحكامها وهم الزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَـابِ اللَّهِ} أي : بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التضييع والتحريف على الإطلاق ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها والباء سببية متعلقة بيحكم أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضاً بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} أي : رقباء لا يتركونهم أن يغيروا فهو من الشهود بمعنى الحضور.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/318)
{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} كائناً من كان أيها الرؤساء والأحبار واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم.
{وَاخْشَوْنِ} في الإخلال بحقوق مراعاتها فكيف بالتعرض لها بسوء نهوا أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير ودلالة الآية تتناول حكام المسلمين {وَلا تَشْتَرُوا بِـاَايَـاتِى} الاشتراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلاً منه ثم استعير لأخذ شيء بدلاً مما كان له عيناً كان أو معنى أخذاً منوطاً بالرغبة فيما أخذ والإعراض عما أعطى ونبذ أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها {ثَمَنًا قَلِيلا} من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها.
آن جهان جيفه است ومردار ورخيص
بر نين مردار ون باشم حريصس حيات ماست موقوف فطام
اندك اندك جهد كن تم الكلام ولما كان الإقدام على التحريف لدفع ضرر كما إذا خشي من ذي سلطان أو لجلب نفع كما إذا طمع في الحظوظ الدنيوية نهوا عن كل منهما صريحاً.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} مستهيناً به منكراً له كائناً من كان كما يقتضيه ما فعلوه من التحريف.
{فأولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ولذلك وصفهم بقوله الظالمون والفاسقون فكفرهم بإنكاره وظلمهم بالحكم على خلافه وفسقهم بالخروج عنه {وَكَتَبْنَا} فرضنا عطف على أنزلنا التوراة {عَلَيْهِمْ} أي على الذين هادوا {فِيهَآ} أي في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي : تقاد بها إذا قتلها بغير حق {وَالْعَيْنَ} تفقأ {بِالْعَيْنِ} إذا فقئت بغير حق {وَالانْفَ} تجذم {بِالانْفِ} المقطوعة بغير حق {وَالاذُنَ} تصلم
397
{بِالاذُنِ} المقطوعة ظلماً
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{وَالسِّنَّ} تقلع {بِالسِّنِّ} المقلوعة بغير حقّ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي : ذات قصاص بحيث تعرف المساواة وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته ففيه ارش أو حكومة {فَمَن تَصَدَّقَ} أي : من المستحقين {بِهِ} أي بالقصاص أي فمن عفا عنه فالتعبير بالتصدق للمبالغة في الترغيب فيه.
{فَهُوَ} أي : التصدق {كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي : للمتصدق يكفر الله تعالى بها ما سلف من ذنبه وأما الكافر إذا عفا فلا يكون عفوه كفارة له مع إقامته على الكفر وفي الحديث "من أصيب بشيء من جسده فتركهكان كفارة له" وفي الحديث "ثلاثة من جاء بهن يوم القيامة مع الإيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من عفا عن قاتله ومن قرأ دبر كل صلاة مكتوبة قل هو الله أحد عشر مرات ومن أدى ديناً خفياً" وقال بعضهم : الهاء كناية عن الجارح والقاتل يعني إذا عفا المجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفارة له فأما أجر العافي فعلى الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من الأحكام والشرائع {فأولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} المبالغون في الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشيء في غير موضعه {وَقَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم} عطف على أنزلنا التوراة أي آثار النبيين المذكورين {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي : أرسلناه عقيبهم وجئنا به بعدهم يقال قفوت أثره قفوا وقفّوا أي اتبعته فهو يتعدى إلى واحد وإذا قلت قفيت على أثره بفلان يكون المعنى اتبعته إياه وحقيقة التقفية الإتيان بالشيء في قفا غيره والتضعيف فيه ليس للتعدية فإن فعل المضعف قد يكون بمعنى فعل المجرد كقدّر وقدر وإنما تعدى إلى الثاني بالباء فمفعوله الأول محذوف أي اتبعنا النبيين الذين ذكرناهم بعيسى وجعلناه ممن يقفوهم فحذف المفعول وجعل على آثارهم كالقائم مقامه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاـاةِ} حال من عيسى {وَقَفَّيْنَا عَلَى} عطف على قفينا {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كما في التوراة وهو في محل النصب على أنه حال من الإنجيل أي : كائناً فيه ذلك كأنه قيل مشتملاً على هدى ونور {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاـاةِ} عطف عليه داخل في حكم الحالية وتكرير ما بين يديه من التوراة زيادة تقرير.
{وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} عطف على مصدقاً منتظم معه في سلك الحالية جعل كله هدى بعدما جعل مشتملاً عليه حيث قيل فيه هدى وتخصيص كونه هدى وموعظة للمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه.
قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
كرانكشت سليماني نباشد
ه خاصيت دهد نقش نكيني
(2/319)
فكما أن الانتفاع بالخاتم إنما يكون لمن كان له مشرب سليمان كذلك الانتفاع بالكتاب إنما يكون لمن له تقوي رجحاني {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي : آتيناه الإنجيل وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} منكراً له مستهيناً به {فَأُوالَـائِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ} المتمردون الخارجون عن الإيمان وفيه دلالة على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلاً بالشرع مأموراً بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة وفيه تهديد عظيم للحكام وفي الحديث "يؤتى بالقاضي العدل
398
يوم القيامة فيلقى من شدة العذاب ما يتمنى أنه لم يفصل بين أحد في تمرتين" فإذا كان هذا حال القاضي العدل فما ظنك بالجائر والمرتشي.
بو حنيفه قضا نكرد وبمرد
تو بميرى اكر قضانكني
وفي الحديث "القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضضٍ في الجنة قاضضٍ قضي بغير حق وهو يعلم فذاك في النار وقاضضٍ قضي وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذاك في النار وقاضضٍ قضي بحق فذاك في الجنة" كذا في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ حكي ـ أن بني إسرائيل كانوا ينصبون لإجراء الأحكام بينهم حكاماً ثلاثة حتى إذا رفع الخصم الأمر إلى واحد منهم فلم يرض به الآخر ترافعاً إلى الثاني ثم إلى الثالث ليطمئن قلبه فذات يوم تصور ملك بصورة إنسان يريد امتحان هؤلاء الحكام فركب على رمكة وقام على رأس بئر فإذا رجل أتى ببقرة له مع عجلها ليسقيهما فلما سقاهما وأراد الرجوع أشار الملك إلى العجل فجاء في جنب الرمكة فكلما نادى صاحبه ودعاه لم يستمع ولم يذهب إلى الأم فجاء الرجل ليسوقه بأي وجه يمكن فقال الملك : يا هذا الرجل إن العجل قد ولدته رمكتي هذه فاذهب وخلني وعجلي فقال الرجل : يا عجباً العجل ملكي قد ولدته بقرتي هذه فتنازعا وترافعا إلى القاضي الأول فسبق الملك الرجل إلى القاضي وقال : إن قضيت لي بالعجل دفعت لك كذا فقبله القاضي فلما تحاكما حكم بالعجل للملك فلم يرض به الرجل فترافعا إلى الثاني فحكم هو أيضاً بالعجل للملك فلم يرض به الرجل أيضاً فترافعا إلى الثالث فلما عرض الملك الرشوة عليه قال : لا أستطيع هذا الحكم فإني قد حضت فقال الملك : أيش تقول هل تحيض الرجال والحيض من خواص النساء فقال القاضي له : تتعجب من كلامي ولا تتعجب من كلامك فكما أن الرجال لا تحيض فكذلك الرمكة لا تلد عجلاً فقال الملك هناك قاضيان في النار وقاض في الجنة وهذا الكلام منقول من لسانه كذا ذكر البعض نقلاً عن فم حضرة الشيخ الشهير بهدائي الاسكداري قدس سره.
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَـابِ} أي : القرآن حال كونه ملتبساً {بِالْحَقِّ} والصدق حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـابِ} أي : مصدقاً لما تقدمه من جنس الكتب المنزلة من حيث أنه نازل حسبما نعت فيه وموافقاً له في التوحيد والعدل وأصول الشرائع.
{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي : رقيباً على سائر الكتب المحفوظة عن التغير فإنه يشهد لها بالصدق والصحة والثبات وتقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها ولا ريب أن تمييز أحكامها الباقية على المشروعية أبدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من أحكام كونه مهيمناً عليها {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فاحكم بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} أي : بما أنزله إليك فإنه مشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ} بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لا تعدل عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الخطاب بطريق الالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب واللام
399
(2/320)
متعلقة بجعلنا المتعدي لواحد وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل والمعنى لكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عيناً ووضعنا شرعة ومنهاجاً خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عينت لها فالأمة من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث النبي عليهما السلام شرعتهم الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشرعة والشريعة هي الطريقة إلى الماء شبه بها الدين الذي شرعه الله أي سنه من نحو الصوم والصلاة والحج والنكاح وغير ذلك من وجوه الصلاح لكونه سبيلاً موصلاً إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح قيل فيه دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلها والتحقيق أنا متعبدون بأحكامها الباقية من حيث أنها أحكام شريعتنا لا من حيث أنها شرعة للأولين {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} أن يجعلكم أمة واحدة {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي : جماعة واحد متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأمم في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل.
{وَلَـاكِنَّ} لم يشأ ذلك أي : أن يجعلكم أمة واحدة بل شاء ما عليه السنة الإلهية الجارية فيما بين الأمم {لِّيَبْلُوَكُمْ} أي : ليعاملكم معاملة من يبتليكم {فِى مَآ ءَاتَاكُمْ} من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونها هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى المشيئة المبنية على أساس الحكم البالغة والمصالح النافعة لكم في معاشكم ومعادكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوى وتستبدلون المضرة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدي وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
كربسوزد باغت انكورت دهد
درميان ماتمي سورت دهد
لا نسلم واعتراض از ما برفت
ون عوض مي آيداز مفقود زفت
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي : إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقية والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازاً للفرصة وإحرازاً المسابقة الفضل {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي : مرجع من آمن ومن لم يؤمن جميعاً حال من ضمير الخطاب.
{فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي : فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم تختلفون فيه في الدنيا من أمر الدين والشريعة وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الأخبار.
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} عطف على الكتاب أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه {وَاحْذَرْهُمْ} مخافة {أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي يضلوك ويصرفوك عن بعضه ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق فالمراد بالفتنة ههنا الميل عن الحق والوقوع في الباطل كما في قوله عليه السلام : "أعوذ بك من فتنة المحيا" أي : العدول عن الطريق المستقيم وكل من صرف من الحق إلى الباطل وأميل عن القصد فقد فتن.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فذهبوا إليه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ فقالوا :
400(2/321)
يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعك اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله فنزلت ، واستدل العلماء بهذه الآية على أن الخطأ والنسيان جائز على الرسل لأنه تعالى قال : {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسل فلم يبق إلا الخطأ والنسيان {فَإِن تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد {أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي : يعجل لهم العقوبة في الدنيا بأن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء والجزية ويجازيهم بالباقي في الآخرة فالمراد ببعض ذنوبهم ذنب توليهم عن حكم الله تعالى وإنما عبر عنه بذلك تنبيهاً على أن لهم ذنوباً كثيرة هذا مع عظمه واحد من جملتها {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَـاسِقُونَ} أي : متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون عن الحدود المعهودة فلذا يتولون عن حكم الله.
{أَفَحُكْمَ الْجَـاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وهي الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساوله وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها يرشدك إليه العرف المطرد والاستعمال الناشيء فإنه إذا قيل : من أكرم من فلان أو الأفضل من فلان فالمراد به حتماً إنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وحكماً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن حكمه أحسن من حكم الله.
{لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي : عندهم واللام للبيان فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك فإن سقيا دعاء للمخاطب بأن يسقيه الله فيكون لك بياناً له أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسن الأحكام وأعدلها وليست اللام متعلقة بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{حُكْمًا} لأن حكم الله لا يخص قوماً دون قوم ، فقد دلت الآيات على أن الدين واحد من حيث الأصول مختلف من جهة الفروع ولله أن يحكم في كل عصر وزمان بما أراد ففيه حكم ومصالح فعلينا بالتسيلم والانقياد وترك الاعتراض والمسارعة إلى الخيرات قبل الموت والفوت وفي الحديث "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك" لأن الرجل يقدر على الأعمال في حال شبابه ما لا يقدر عليه في حال هرمه ولأن الشاب إذا تعود في المعصية لا يقدر على الامتناع منها في هرمه "وصحتك قبل سقمك" لأن الصحيح نافذ الأمر في ماله ونفسه لأنه إذا مرض ضعف بدنه عن الطاعة وقصرت يده عن ماله إلا في مقدار ثلثه "وفراغك قبل شغلك" يعني في الليل تكون فارغاً وبالنهار تكون مشغولاً فينبغي أن تصلي بالليل في حال فراغك وتصوم بالنهار في وقت شغلك خصوصاً في أيام الشتاء لأن الصوم في الشتاء غنيمة المؤمن كما قال عليه السلام : "الشتاء غنيمة المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه" وفي رواية أخرى "الليل طويل فلا تقصره بمنامك والنهار مضيىء
401
فلا تكدره بآثامك" "وغناك قبل فقرك" يعني : إذا كنت راضياً بما أعطاك الله من القوت فاغتنم ذلك ولا تطمع فيما في أيدي الناس "وحياتك قبل مماتك" لأن الرجل ما دام حياً يقدر على العمل فإذا مات انقطع عمله ولهذا تتمنى الموتى أن يعودوا إلى الدنيا فيتهللوا مرة أو يصلوا ركعة فالفرصة غنيمة والعمر قليل ، قال الحافظ :
بكذشتن فرصت أي برادر
دركرم روى وميغ باشد
درياب كه عمر بس عزيز ست
كر فوت شود دريغ باشد
وقال السيد الشريف لابنه :
نصيحت همينست جان در
كه عمرت عزيز ست ضايع مكن
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/322)
فينبغي للعاقل أن لا يضيع أيامه ، قال الحكيم : بكودكي بازي.
بجوان مستي.
به يري سسني.
خدارا كي رستي.
فإذا تم شغلك بالشريعة فاجتهد في الطريقة وهي باطن الشريعة واقتد بأولي الألباب فإنه كما أن لكل نبي شرعة ومنهاجاً كذلك لكل ولي طريقة مسلوكة مخصوصة وقد ضل من ضل منارهم يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سبب وروده بعضاً منهم إذ روي أن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن لي موالي من اليهود كثيراً عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية مواليّ وهم يهود بني فينقاع فقال تعالى : {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـارَى أَوْلِيَآءَ} أي لا تتخذوا أحداً منهم ولياً بمعنى لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياء لكم حقيقة فإنه أمر ممتنع في نفسه لا يتعلق به النهي.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي : بعض كل فريق من ذينك الفريقين أولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر لأنه لا موالاة بين فريقي اليهود والنصارى رأساً والكل متفقون على الكفر مجمعون على مضارتكم ومضاركم فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} أي : من يتخذهم أولياء {فَإِنَّه مِنْهُمْ} أي : هو على دينهم ومعهم في النار وهذا إذا تولاهم لدينهم وأما الصحبة لمعاملة شراء شيء منهم أو طلب عمل منهم مع المخالفة في الاعتقاد والأمور الدينية فليس فيه هذا الوعيد ، قال المولى أبو السعود : وفيه زجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بترك إخوانهم المؤمنين وبموالاة أعداء الله بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ، قال الحافظ :
درره عشق ازان سوى فناصد خطرست
تانكوى كه و عمرم بسر آمدرستم
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
{فَتَرَى} يا محمد أو كل من له أهلية للخطاب رؤية بصرية {الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي : مرض النفاق ورخاوة العقد في الدين.
{يُسَـارِعُونَ فِيهِمْ} حال من الموصول أي
402
مسارعين في موالاتهم ومعاونتهم وإيثار في على إلى للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها والمراد بهم عبد الله بن أبي وأضرابه الذين كانوا يسارعون في موادة اليهود ونصارى نجران وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يؤمنون أن تصيبهم صروف الزمان كما قال تعالى : {يَقُولُونَ} معتذرين {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها أي يدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار وقيل : نخشى أن يصيبنا مكروه من مكاره الدهر كالجدب والقحط فلا يعطونا الميرة والقرض ولعلهم كانوا يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدوائر المعنى الأخير ويضمرون في أنفسهم المعنى الأول.
{فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطع لأطماعهم الفارغة وتبشير للمؤمنين بالظفر فإن عسى منه سبحانه وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم لا محالة فما ظنك بأكرم الأكرمين.
والمراد بالفتح فتح مكة أو فتح قرى اليهود من خيبر وفدك أو هو القضاء الفصل بنصره عليه السلام على من خالفه وإعزاز الدين.
قال الحدادي : وسمي النصر فتحاً لأن فيه فتح الأمر المغلق {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} بقطع شأفة اليهود من القتل والأجلاء.
والشأفة : قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى وتذهب يقال في المثل : استأصل الله شأفته أي أذهبه الله كما ذهب تلك القرحة بالكي {فَيُصْبِحُوا} أي أولئك المنافقون المتعللون بما ذكر {عَلَى مَآ أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَـادِمِينَ} وهو ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشك في أمره صلى الله عليه وسلّم {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} عند ظهور ندامة المنافقين وهو كلام مبتدأ مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة أي ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة في السراء والضراء عند مشاهدتهم لخيبة رجائهم وانعكاس تقريرهم بوقوع ضد ما كانوا يترقبون ويتعللون به تعجيباً للمخاطبين من حالهم وتعريضاً بهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/323)
{أَهَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي : بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حكي عنهم {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} (الحشر : 11) فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك والخطاب في معكم لليهود من جهة المؤمنين.
وجهد الإيمان أغلظها وهو في الأصل مصدر ونصبه على تقدير واقسموا بالله يجهدون جهد إيمانهم فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مأول بنكرة أي مجتهدين في أيمانهم أو على المصدر أي أقسموا أقسام اجتهاد في اليمين.
{حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَـاسِرِينَ} جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والإقسام على المعية في المنشط والمكره أثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام الإنكاري أي بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن الموالاة وسعوا في ذلك سعياً بليغاً حيث لم يكن لليهود دولة فغبنوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكاره المشاق ، قال الحافظ :
اسم أعظم بكند كار خود اي دل خوش باش
كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود
403
واعلم أن للحق دولة وللباطل صولة والباطل يفور ثم يغور.
فعلى المؤمن أن لا يميل إلى جانب الباطل وأهله أصلاً كائناً من كان.
ـ روي ـ عن أبي موسى الأشعري أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتباً نصرانياً فقال : ما لك؟ قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً أما سمعت قوله تعالى يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـارَى أَوْلِيَآءَ} قلت له دينه ولي كتابه قال : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ولا تأمنوهم إذ خونهم الله ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ وروي ـ أنه قال لا قوام للبصرة إلا به فقال : مات النصراني والسلام يعني هب أنه مات فما كنت تكون صانعاً حينئذٍ فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره ، قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : شاهدت في دمشق أن الرجال والنساء كانوا يوالون النصارى ويسامحون في المعاملة ويذهبون بأطفالهم وصغارهم إلى الكنائس ويرشون عليهم بطريق التبرك من ماء المعمودية وهذا كفر والعياذ بالله والمعمودية ماء للنصارى أصفر كانوا يغمسون فيه أولادهم ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالخنان لغيرهم وقس عليه تعظيم نوروز النصارى وإهداء شيء في ذلك اليوم إليهم والمشاركة معهم ويلزم الحسبة في بعض الأمور قطعاً لعرق الموالاة ، وفي "ملتقطة الناصري" ولا أدع المشرك يضرب البربط ، قال محمد : كل شيء أمنع من المسلم فإني أمنع من المشرك إلا الخمر والخنزير ولكن يمنع أهل الكفر من إدخال الخمور والخنازير في الأسواق على سبيل الشهرة لأن فيها استخفافاً للمسلمين وما صالحناهم ليستخفوا بالمؤمنين وإن حضر لهم عيد لا يخرجون فيه صليبهم ويمنعون من إظهار بيع المزامير والطنبور وإظهار الغناء وغير ذلك مما منع منه المسلم ويمنعون من إحداث الكنيسة ، قال عليه الصلاة والسلام : "لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة" والمراد بالخصاء خصاء بني آدم فيجوز خصاء البهائم وبه نقول فكما يجوز ذبح الحيوان لحاجة الناس إلى لحمه فكذلك يجوز خصاء الحيوان إذا كان في ذلك منفعة للناس ، فإن قلت لم لا يجوز خصاء بني آدم وفيه منفعة أيضاً ، قيل : لا منفعة فيه لأنه لا يجوز للخصي أن ينظر إلى النساء كما لا يجوز للفحل كذا في "بستان العارفين" ، ثم اعلم أن النفس والشيطان والقوى الشريرة في وجود الإنسان كاليهود والنصارى فكما أنه يلزم مجانبتهم وعدم موالاتهم لأن الله تعالى عاداهم وأمر بمعاداتهم فكذلك ما ذكر من النفس وغيرها لا يجوز موالاتها والحمل على هواها لأنها تسوق إلى النار نار جهنم ونار القطيعة فالمؤمن مأمور بالمعاداة لمن عادى الله تعالى مطلقاً وإلا لم يصح إيمانه ، وفي "المثنوي" :
آنه در فرعون بود اندر توهست
ليك ازدرهات محبوس هست
ه خرابت ميكند نفس لعين
دور مي اندازدت سخت اين قرين
آتشت را هيزم فرعون نيست
زانكه ون فرعون اوراعون نيست
يعني : أن فرعون ساعده أسباب الدعوى والهوى ولذلك قال ما قال وفعل ما فعل وأما أنت فليس لك الأسباب مساعدة ولا تجد عوناً في هواك ولذا لا تظهر صورة ما أظهره يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} هذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ روي ـ أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه
404
(2/324)
وسلّم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو أسود العنسي كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده حتى أخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل معاذ بن جبل وسادات اليمن فكتب عليه السلام إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النهوض إلى حرب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر فأتى الخبر النبي عليه السلام من السماء الليلة التي قتل فيها فقال عليه الصلاة والسلام : "قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك" قيل ومن هو قال : "فيروز" فبشر عليه السلام أصحابه بهلاك الأسود وقبض عليه السلام من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه والفرقة الثانية من المرتدين بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في آخر سنة عشر من الهجرة زعم أنه أشرك مع رسول الله في النبوة وكتب إلى النبي عليه السلام من مسلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك وبعث بذلك الكتاب رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله عليه السلام : "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" ثم أجاب "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد : فإن الأرضيورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" فمرض عليه السلام وتوفي فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي قاتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام يريد في جاهليتي وإسلامي.
والفرقة الثالثة بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة في حياة عليه السلام وأول من قوتل بعد وفاته عليه السلام من أهل الردة فبعث أبو بكر خالد بن الوليد فهزمهم خالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمر على وجهه هارباً نحو الشام ثم أنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ثم أن الله تعالى لما قبض نبيه عليه السلام ارتد عامة العرب إلا أهل مكة وأهل المدينة وأهل البحرين من عبد القيس فقال المرتدون أما الصلاة فنصلي وأما الزكاة فلا نغصب أموالنا فكلم أبو بكر في ذلك فقال : والله لا أفرق بين ما جمع الله تعالى بقوله : {الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا} (البقرة : 43) والله لو منعوني عتوداً مما أدوا إلى رسول الله لقاتلتهم عليه فبعث الله عز وجل عصائب مع أبي بكر رضي الله عنه فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله حتى أقروا بالزكاة المفروضة.
قال أنس بن مالك : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة قالوا : هم أهل القبلة فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه في الانتهاء وقيل ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر لقد قام مقام نبي في قتال أهل الردة ، قال الشيخ العطار في نعت أبي بكر رضي الله عنه :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
هره بود از باركاه كبريا
ريخت در صدر شريف مصطفا
آن همه درسينه صديق ريخت
لا جرم تابود ازو تحقيق ريخت
405
(2/325)
وقال الحسن : لولا ما فعل أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة ، قال في "الأشباه" : المعتمد في المذهب عدم الأخذ كرهاً ، قال في "المحيط" ومن امتنع عن أداء الزكاة فالساعي لا يأخذ منه كرهاً ولو أخذ لا يقع المأخوذ عن الزكاة لكونها بلا اختيار ولكن يجبره بالحبس ليؤدي بنفسه.
{فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ} مكانهم بعد إهلاكهم {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} أي : يريد بهم خير الدنيا والآخرة {وَيُحِبُّونَهُ} أي : يريدون إطاعته ويتحرزون عن معاصيه قيل هم أهل اليمن قال عليه السلام : "الإيمان يمان والحكمة يمانية" وإنما نسب الإيمان إليهم إشعاراً بكماله فيهم لأن من اتصف بشيء وقوي قيامه به نسب ذلك الشيء إليه لا أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام : "الإيمان في أهل الحجاز" ثم إن المراد بذلك الموجودون منهم في ذلك الزمان لا كل أهل اليمن في كل الأحيان كذا في "شرح المشارق" لابن الملك ، وقيل هم الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ ، وقيل هم أهل فارس وفي الحديث "لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله أبناء فارس" وفيه فضيلة لهذه القبيلة {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جمع ذليل أي أرقاء ورحماء متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى لتضمين معنى العطف والحنو.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ} أي : أشداء متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه {يُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} صفة أخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها ليكفية عزتهم.
{وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لا ـاِمٍ} عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين.
وفيه تعريض بالمنافقين فإنهم إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءهم اليهود فلا يكادون يعملون شيئاً يلحقهم فيه لوم من جهتهم واللومة المرة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان كأنه قيل لا يخافون من شيء من اللومات الواقعة من أي لائم كان فالمبالغة الأولى انتفاء الخوف من جميع اللومات والثانية انتفاء الخوف من جميع اللوام كل ذلك لأن النكرة في سياق النفي تعم.
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة التي وصف بها القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة في سبيل الله وانتفاء خوف اللوم من كل واحد.
{فَضْلُ اللَّهِ} أي لطفه وإحسانه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} إيتاءه إياه ويوفقه لكسبه وتحصيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} كثر الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل للفضل والتوفيق ، قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
سكندررا نمي بخشند آبي
بزور وزر ميسر نيست اين كار
واعلم أن من السالكين من يقطع العقبات ويحرق الحجب في سبعين سنة ومنهم من يقطعها في عشرين سنة ومنهم من يحصل له في سنة ومنهم من يقطعها في شهر بل في جمعة بل في ساعة حتى أن منهم من تحصل له في لحظة بتوفيق خاص وعناية سابقة أما تذكر سحرة فرعون ما كان مدتهم إلا لحظة حيث رأوا معجزة موسى قالوا : آمنا برب العالمين فأبصروا الطريق وقطعوه حقه فصاروا من ساعة إلى ساعة بل أقل من العارفين بالله.
ـ وحكي ـ أن إبراهيم بن أدهم كان على ما كان عليه من أمر الدنيا فعدل عن ذلك وقصد
406
الطريق الحق فلم يكن إلا مقدار سيره من بلخ إلى مرو الروذ حتى صار بحيث أشار إلى رجل سقط من القنطرة في الماء الكثير هنالك أن قف فوقف الرجل مكانه في الهواء فتخلص ، وأن رابعة البصرية كانت أمة كبيرة يطاف بها في سوق البصرة لا يرغب فيها أحد لكبر سنها فرحمها بعض التجار فاشتراها بنحو مائة درهم فأعتقها فاختارت الطريق الحق فأقبلت على العبادة فما تمت لها سنة حتى زارها قراء البصرة وعلماؤها لعظم منزلتها.
وأما الذي لم تسبق له العناية ولا توجهت له ولم يعامل بالفضل فيوكل إلى نفسه فربما يبقى في شعب من عقبة واحدة من العقبات سبعين سنة ولا يقطعها وكم يصيح وكم يصرخ ما أظلم هذا الطريق وأشكله وأعسر هذا الأمر وأعضله ، فإن قلت لم اختص هذا بالتوفيق الخاص وحرم هذا وكلاهما مشتركان في ربقة العبودية فعند هذا السؤال تنادي من سرادق الجلال أن ألزم الأدب وأعرف سر الربوبية وحقيقة العبودية فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ذلك تقدير العزيز العليم وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
رضا بداده بده وزجبين كره بكشاي
كه بر من وتوردر اختيار نكشادست
اللهم اجعلنا ممن سبقت له العناية وتقدم في حقه التوفيق الخاص والهداية آمين يا رب العالمين.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} أي لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تخطئوهم إلى الغير.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/326)
قال في "التأويلات النجمية" : فموالاة الله في معاداة ما سوى الله كما قال الخليل عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) وموالاة الرسول في معاداة النفس ومخالفة الهوى كما قال عليه السلام : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" وقال : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين" وموالاة المؤمنين في مؤاخاتهم في الدين كقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) وقال عليه السلام : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه وَالَّذِينَ} بدل من الذين آمنوا {وَهُمْ رَاكِعُونَ} حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعونتعالى والمقصود تمييز المؤمن المخلص ممن يدعي الإيمان ويكون منافقاً لأن الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظباً على الصلاة والزكاة في حال الركوع أي في حال الخشوع والإخباتتعالى {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَه وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} أي ومن يتخذهم أولياء {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَـالِبُونَ} أي فإنهم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على البرهان عليه وكأنه قيل ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتشريفاً لهم بإضافتهم إليه تعالى وتعريضاً بمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان وحزب الرجل أصحابه والحزب الطائفة يجتمعون لأمر حزبهم أي أصابهم.
واعلم أن الغلبة على أعداء الله الظاهرة والباطنة كالهوى والنفس والشيطان إنما تحصل بنصرة الله تعالى كما قال تعالى : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد : 7) وليست النصرة والغلبة إلا بتأثير الله تعالى وهو المعز وكل العزة منه تعالى.
ـ وروي ـ أن الله تعالى شكا من هذه الأمة ليلة المعراج شكايات :
الأولى : أني لم أكلفهم عمل الغد وهم يطلبون مني رزق الغد.
407
والثانية : أني لا أرفع أرزاقهم إلى غيرهم وهم يرفعون عملهم إلى غيري.
والثالثة : أنهم يأكلون رزقي ويشكرون غيري ويخونون معي ويصالحون خلقي.
والرابعة : أن العزة لي وأنا المعز وهم يطلبون العزة من سواي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
والخامسة : أني خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها فمن اتبع هوى النفس ولم يهتم لتزكيتها فقد سعى في إلحاق نفسه بزمرة الأعداء فلم يكن منصوراً البتة إذ لا يحصل من الجسارة إلا الخسارة والهوى مقتضى النفس والنفس ظلمانية ولا يتولد من الظلماني إلا الظلمة ، قال في "المثنوي" :
عكس توراني همه روشن بود
عكس ظلماني همه كلخن بود
عكس هركس رابدان اي دور بين
هلوي جنسي كه خواهي مي نشين
فعلى المؤمن أن يجتهد بالصوم والصلاة ووجوه العبادات إلى أن يزكي نفسه عن سفساف الأخلاق ويغلب الأعداء الباطنة والغلبة عليها مفتاح الغلبة على الأعداء الظاهرة ولذا ترى الأنبياء والأولياء منصورين مظفرين على كل حال وهذه النصرة والولاية من آثار عناية الله السابقة فكما أن من رش عليه من نور الأزل لم ير ظلمة أبداً كذلك من لم يهتد بذلك النور في بداية الأمر لم يصل إلى المراد إلى آخر العمر ، قال الحافظ :
باب زمزم وكوثر سفيد نتوان كرد
كليم بخت كسى راكه فافتند سياه
(2/327)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} ـ روي ـ أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المؤمنين يوادونهما فنهاهم الله تعالى عن الموالاة وقال : {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} قوله الذين اتخذوا مفعول أول لقوله لا تتخذوا ومفعوله الثاني قوله أولياء ودينكم مفعول أول لقوله اتخذوا وهزؤاً مفعوله الثاني.
والهزؤ السخرية والاستهزاء واللعب بالفارسية (بازى) ومعنى اتخاذهم دين المسلمين مهزواً به وتلاعبهم به إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب وقد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزؤاً ولعباً إيماء إلى العلة وتنبيهاً على أن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} بيان للمستهزئين ومن قبلكم متعلق بأوتوا {وَالْكُفَّارَ} بالنصب عطف على الموصول الأول والمراد المشركون خصوا به لتضاعف كفرهم فالنهي عن موالاة من ليس على الحق رأساً سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين {أَوْلِيَآءَ} وجانبوهم كل المجانبة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في ذلك بترك موالاتهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي : حقاً لأن الإيمان يقتضي الاتقاء {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ اتَّخَذُوهَا} أي الصلاة والمناداة {هُزُوًا وَلَعِبًا} كان المؤذنون إذا أذنوا للصلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم وتغامزوا سفهاً واستهزاء بالصلاة وتجهيلاً لأهلها وتنفيراً للناس عنها وعن الداعي إليها {ذَالِكَ} أي : الاستهزاء المذكور المستقر {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي بسبب عدم عقلهم فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
كشتى بي لنكر آمد مردشر
كه زباد ك نيابد أو حذر
408
لنكر عقلست عاقل را أمان
لنكري دريوزه كن ازعاقلان
قال العلماء ثبوت الأذان ليس بالمنام وحده بل هو ثابت بنص هذه الآية فإن المعنى إذا دعوتم الناس إلى الصلاة بالأذان والنداء الدعاء بأرفع الصوت.
وفي الأذان حكم منها إظهار شعائر الإسلام وكلمة التوحيد والإعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها والدعاء إلى الجماعة إلى غير ذلك ولو وجد مؤذن حسن الصوت يطلب على أذانه الأجر والرزق وآخر يتبرع بالأذان لكن غير حسن الصوت فأيهما يؤخذ ففيه وجهان : أصحهما أنه يرزق حسن الصوت فإن لحسن الصوت تأثيراً كما أن لقبحه تغييراً وتنفيراً ، وفي "المثنوي" :
يك مؤذن داشت بس او آزبد
در ميان كافرستان بانك زد
ند كفتندش مكو بانك نمار
كه شود جنك وعداوتها دراز
اوستيزه كرد وبس بي احتراز
كفت در كافرستان بانك نماز
خلق خائف شد زفتنه عامه
خود بيامد كافري باجامه
شمع وحلوا بانان جامه لطيف
هديه آورد وبيامد ون أليف
رس رسان كين مؤذن كوكجاست
كه صلا وبانك او راحت فزاست
دختري دارم لطيف وبس سني
آرزو مي بود اورا مؤمني
هي اين سود انمي رفت ازسرش
ندها مي داد ندين كافرش
هي اره مي ندانستم دران
تافر وخواند اين مؤذن آن أذان
كفت دختر يست اين مكروه بانك
كه بكوشم آمداين دوار دانك
من همه عمر اين نين آواز زشت
هي نشنيدم درين ديرو كنشت
خواهرش كفتا كه اين بانك أذان
هست اعلام درشعار مؤمنان
باورش نامد برسيد ازدكر
آن ديكرهم كفت آرى اي در
ون يقين كشتش رخ اوزرد شد
از مسلماني دل او سرد شد
بازرستم من زتشويش وعذاب
دوش خوش خفتم دران بي خوف خواب
راحتم اين بود از آواز او
هديه آوردم بشكر آن مردكو
ون بديدش كفت اين هديه ذير
كه مراكشتي مجيرو دستكير
كربمال ملك وثروت فردمي
من دهانت را راززر كردمي
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ورد في التأذين فضائل وفي الحديث "أول الناس دخولاً الجنة الأنبياء ثم الشهداء ثم بلال" مع مؤذني الكعبة ثم مؤذنوا بيت المقدس ثم مؤذنوا مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم سائر المؤذنين على قدر أعمالهم وفي الحديث "ثلاثة لا يكترثون من الحساب ولا تفزعهم الصيحة ولا يحزنهم الفزع الأكبر حامل القرآن العامل بما فيه يقدم على الله سيداً شريفاً ومؤذن أذن سبع سنين لا يأخذ على أذانه طعماً وعبد مملوك أحسن عبادة ربه وأدى حق مولاه" وإذا اجتمع الأذان والإمامة في شخص فالإمامة أفضل لمواظبة النبي عليه السلام عليها وإنما أمَّ ولم يؤذن لأنه عليه السلام لو أذن لكان كل من تخلف عن الإجابة كافراً ولأنه لو كان داعياً لم يجز
409
(2/328)
أن يشهد لنفسه ولأنه لو أذن وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لتوهم أن ثمة نبياً غيره ولأن الأذان رآه غيره في المنام فولاه إلى غيره وأيضاً أنه عليه السلام كان إذا عمل عملاً أثبته أي جعله ديمة وكان لا يتفرغ لذلك لاشتغاله بتبليغ الرسالة وهذا كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه لولا الخليفي لأذنت ، وكره اللحن في الأذان لما روي أن رجلاً جاء إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال : إني أحبك فقال : إني أبغضك في الله فقال : لِمَ؟ فقال : لأنه بلغني أنك تغني في أذانك يعني تلحن وذلك مثل أن يقول آ بمد الألف الأولى لأنه استفهام وشك وأن يقول أكبار بمد الباء لأنه اسم الشيطان وغير ذلك إلى آخر كلمات الأذان ، وإجابة المؤذن واجبة على كل من سمعه وإن كان جنباً أو حائضاً إذ لم يكن في الخلاء أو في الجماع ، وذكر تاج الشريعة أن إجابة المؤذن سنة ، وقال النووي مستحبة فيقول بمثل ما يقول المؤذن وضعف تقبيل ظفري إبهاميه مع مستبحتيه والمسح على عينيه عند قوله محمد رسول الله لأنه لم يثبت في الحديث المرفوع لكن المحدثين اتفقوا على أن الحديث الضغيف يجوز العمل به في الترغيب والترهيب فقط ويقول عند حي على الصلاة "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" وعند حي على الفلاح "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" وعند قوله الصلاة خير من النوم "صدقت وبالخير نطقت" وفي قوله قد قامت الصلاة "أقامها الله وأدامها" وحين ينتهي إلى قوله قد قامت الصلاة يجيب بالفعل دون القول.
ـ وروي ـ عن ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام بين صف الرجال والنساء فقال : "يا معشر النساء إذا سمعتن أذان هذا الحبشي وإقامته فقلن كما يقول فإن لكن بكل حرف ألف درجة" قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : هذا في النساء فما للرجال قال : "ضعفان يا عمر" قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي : حبذا الكلام ونعم النداء الأذان فعند قوله الله أكبر الله أكبر "لو انكشف وتجلى عظمة الله تعالى وكبرياؤه" وعند قوله أشهد أن لا إله إلا الله "لو انكشف وحدانيته" وعند أشهد أن محمداً رسول الله "لو انكشف حقانيته" وعند الحيعلتين "لو ظهر الطلب من الطالب إلى المطلوب" وعند الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله "لو تجلى الذات لتم المقصود وحصل المراد" انتهى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ومن فضائل الأذان أنه لو أذن خلف المسافر فإنه يكون في أمان إلى أن يرجع.
وإن أذن في أذن الصبي وأقيم في أذنه الأخرى إذا ولد فإنه أمان من أم الصبيان وإذا وقع هذا المرض أيضاً وكذا إذا وقع حريق أو هجم سيل أو برد أو خاف من شيء كما في "الأسرار المحمدية" والأذان إشارة إلى الدعوة إلى الله حقيقة والداعي هو الوارث المحمدي يدعو أهل الغفلة والحجاب إلى مقام القرب ومحل الخطاب فمن كان أصم عن استماع الحق استهزأ بالداعي ودعوته لكمال جهالته وضلالته ومن كان ممن ألقى السمع وهو شهيد يقبل إلى دعوة الله العزيز الحميد وينجذب إلى حضرة العزة ويدرك لذات شهود الجمال ويغتنم مغانم أسرار الوصال :
جوانا سرمتات ازند يران
كه رأى يرت ازبخت جوان به
{قُلْ يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ} ـ روي ـ أن نفراً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن دينه فقال عليه السلام : "أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق
410
ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا : لا نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله هذه الآية أي قل لهؤلاء اليهود الفجرة {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} من نقم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه أي ما تعيبون وما تنكرون منا ديننا لعلة من العلل {إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} أي : إلا لأن آمنا بالله فهو مفعول له لتنقمون على حذف المفعول به الذي هو الدين {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن المجيد {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ} أنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـاسِقُونَ} عطف على أن آمنا أي ولان أكثركم متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به وإسناد الفسق إلى أكثرهم مع أن كلهم فاسقون لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرد والفساد وقيل هو عطف على أن آمنا على أنه مفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين بل هو ما يلزمهما من المخالفة كأنه قيل ما تكرهون من جهتنا إلا الإيمان بالله وبجميع كتبه المنزلة وإلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/329)
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم} الخطاب لليهود {بِشَرٍّ مِّن ذَالِكَ} والإشارة إلى المنقوم وهو الإيمان والمنقوم منهم المؤمنون أي هل أخبركم بما هو شر في الحقيقة لا ما تعتقدونه شراً وإن كان في نفسه خيراً محضاً ، قال ابن الشيخ : ومن المعلوم قطعاً أنه لا شر في دين الإسلام فالمراد الزيادة المطلقة {مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ} أي : جزاء ثابتاً في حكمه تعالى والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة مختصة بالشر فوضعت ههنا موضعها على طريق التهكم ونصبها على التمييز من بشر.
{مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير إليه بكلمة ذلك أي هو دين من لعنه الله وهو اليهود وأبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات.
{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي : مسخ بعضهم قردة في زمن داود عليه السلام بدعائه عليهم حين اعتدوا في السبت واستخلوه ومسخ بعضهم خنازير في زمن عيسى عليه السلام بعد أكلهم من المائدة وحين كفروا بعد ما رأوا الآيات البينة ، وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم وافتضحوا.
{وَعَبَدَ الطَّـاغُوتَ} عطف على صلة من وضميره المستكن يعود إلى من أي أطاع الشيطان فيما سول له {أولئك} الموصوفون بتلك القبائح والفضائح {شَرٌّ مَّكَانًا} جعل مكانهم شراً ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} عطف على شر مقرر له أي أكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم.
وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالاً مبيناً لا غاية وراءه وصيغة التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصل الشرارة والضلال.
واعلم أن كل صنف من الناس يفرح بما لديه ويبغض الآخر بما هو عليه ولكن الحق أحق أن يتبع فالمؤمن يحب المؤمن فإن المحبة من
411
الأخلاق الحسنة والأوصاف الشريفة وفي الحديث "إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء وشهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى" قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم قال : "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطون فوالله إن وجوههم أنوار وأنهم يعلون منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس".
وسئل عبد الله السالمي بأي شيء يعرف أولياء الله من بين عباده؟ فقال : بلطافة اللسان وحسن الخلق وبشاشة الوجه وسخاوة النفس وقلة الاعتراض وقبول الاعتذار وكمال الشفقة على عامة الخلق ، قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
تاج شاهي طلبي كوهر ذاتي بنماي
ورخوداز كوهر جمشيد وفريدون باشي
قال حضرة الشيخ الشهير فأفتاده أفندي : لا تزال البغضاء بين البيراميين وبين الخلوتية وكذا بينهم وبين اتباع السيد البخاري مع أن البغضاء لا تليق بأهل الحق ألا يرى أنا لم نسمع من دور آدم إلى خاتم النبيين عليهم السلام نوع بغض بين نبيين أصلاً مع أنه قد يتفق في بعض الأوقات أن يجتمع ثلاثة وأربعة من الأنبياء وكذا اتباعهم لا يطعنون في واحد منهم ، قال السعدي :
دلم خانه مهر يارست وبس
ازان مي نكنجد دروكين كس
قال بعضهم : القلوب ثلاثة : قلب يطير في الدنيا حول الشهوات ، وقلب يطير في العقبى حول الكرامات ، وقلب يطير في سدرة المنتهى حول المناجاة ، قال الحافظ :
غلام همت رندان بي سروايم
كه هردو كون نير زد به يش شان يك كاه
فعلى العاقل أن يشتغل بالتوحيد كي يتخلص من ظلمات النفس وهواها والشيطان ووساوسه ، نظر عمر بن الخطاب إلى شاب فقال : يا شاب إن وقيت شر ثلاثة فقد وقيت شر الشيطان ، إن وقيت لقلقك وقبقبك وذبذبك.
قال الأصمعي اللقلق اللسان والقبقب البطن والذبذب الفرج {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا} نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يظهرون له الإيمان نفاقاً فالخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والجمع للتعظيم أوله مع من عنده من المسلمين أي إذا جاؤكم أظهروا الإسلام.
{وَقَد} أي : والحال أنهم قد {دَّخَلُوا} ملتبسين {بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا} من عندك ملتبسين {بِهِ} أي بالكفر كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} من الكفر وصيغة التفضيل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يظن نفاقهم من إماراته اللائحة عليهم ويتوقع أنه يظهره الله ، وفي "المثنوي" :
نيست بازى بامميز خاصه او
كه بود تمييز عقلش غيب كو
هي سحر وهي تلبيس ودغل
مي نبندد رده بر هل دول
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/330)
{وَتَرَى} يا محمد رؤية بصرية {كَثِيرًا مِّنْهُم} أي من اليهود والمنافقين حال كونهم {يُسَـارِعُونَ فِى الاثْمِ} أي الكذب على الإطلاق وإيثار كلمة في على كلمة إلي للدلالة على أنهم مستقرون في الإثم وإنما مسارعتهم من بعض مراتبه إلى بعض آخر منها كقوله تعالى :
412
{أولئك يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} (المؤمنون : 61) لا أنهم خارجون منه متوجهون إليه كما في قوله تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (آل عمران : 133) {وَالْعُدْوَانِ} أي الظلم المتعدي إلى الغير {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي الحرام {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لبئس شيئا كانوا يعملونه والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار {لَوْلا} حرف تحضيض {يَنْهَاهُمُ الرَّبَّـانِيُّونَ وَالاحْبَارُ} المراد بهم العلماء إلا أن الرباني الزاهد العارف الواصل والحبر العالم العامل المقبول {عَن قَوْلِهِمُ الاثْمَ} وهو قولهم آمنا وليسوا بمؤمنين {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} مع علمهم بقبحها ومشاهدتهم لمباشرتهم لها {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} هو أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون لأن الصنع أقوى من العمل فإن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقراً راسخاً متمكناً فجعل جرم من عمل الإثم والعدوان وأكل السحت ذنباً غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنباً راسخاً وفي الآية مما ينعي على العلماء من توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفى ، قال الشيخ السعدي :
كرت نهى منكر بر آيد زدست
نشايد وبى دست وايان نشست
و دست وزبانرا نماند مجال
بهمت نمانيد مردى رجال
قال عمر بن عبد العزيز : إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن إذا أظهروا المعاصي فلم ينكروا استحق القوم جميعاً للعقوبة ولولا حقيقة هذا المعنى في التوبيخ على المشايخ والعلماء في ترك النصيحة لما اشتغل المحققون بدعوة الخلق وتربيتهم لاستغراقهم في مشاهدة الحق ومؤانستهم به.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : السالك إذا وصل إلى الحقيقة إما أن يرسل للإرشاد أو يبقى في حضور الوصلة ولا يريد الفرقة كالشيخ أبي يزيد البسطامي فإنه لا يختر الإرشاد ولكن الإرشاد طريقة الأنبياء عليهم السلام فإنه ما من نبي إلا وهو قد بعث وأرسل لإرشاد الخلق ولم يبق في عالم الحضور ، قال في "المثنوي" خطاباً من قبل الله تعالى إلى حضرة النبي عليه السلام :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
هين بمكذار اي شفا رنجوررا
تو زخشم كور عصاي كوررا
ني توكفتي قائد أعمى براه
صد ثواب واجر يابد ازاله
هركه أو ل كام كورى باكشد
كشت آمر زيده ويابد رشد
س بكش توزين جهان بي قرار
وق كورانرا قطار اندر قطار
كار هادي اين بود توهاديء
ماتم آخر زمانرا شادي
هين روان كن أي إمام المتقين
اين خيال انديشكانرا تايقين
خيز دردم توبصور سهمناك
تاهزاران مرده بررويد زخاك
وأهل الحقيقة والعلماء العاملون المتجردون عن الغرض سوى إعلاء كلمة الله تعالى محفوظون في أقوالهم وأفعالهم.
ـ وحكي ـ أن زاهداً من التابعين كسر ملاهي مروان بن الحكم الخليفة فأتي له به فأمر بأن يلقي بين يدي الأسد فألقي فلما دخل ذلك الموضع افتتح الصلاة فجاءت الأسد وجعلت تحرك ذنبها حتى اجتمع عليه ما كان في ذلك الموضع من الأسد فجعلت تلحسه بألسنتها
413(2/331)
وهو يصلي ولا يبالي فلما أصبح مروان قال : ما فعل بزاهدنا قيل : ألقي بين يدي الأسد قال : انظروا هل أكلته فجاءوا فوجدوا الأسد قد استأنست به فتعجبوا من ذلك فأخرجوه وحملوه إلى الخليفة فقال له أما كنت تخاف منها قال لا كنت مشغولاً متفكراً طول الليل لم أتفرغ إلى خوفهم فقال له فيماذا تتفكر؟ قال : في هذه الأسد حيث جاءتني تلحسني بألسنتها فكنت أتفكر ألعابها طاهر أم نجس فتفكري في هذا منعني عن الخوف منها فتعجب منه فخلي سبيله كذا في "نصاب الاحتساب" {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} قال المفسرون : إن الله تعالى قد بسط النعمة على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذبوه كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة فعند ذلك قالت اليهود {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي : مقبوضة ممسكة عن العطاء.
وغل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يد وغل أو بسط قال الله تعالى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (الإسراء : 29) أي : لا تمسكها عن الإنفاق {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكة أي أمسكت أيديهم عن الإنفاق في الخير وجعلوا بخلاء واليهود أبخل الناس ولا أمة أبخل منهم.
{وَلُعِنُوا} أي : أبعدوا وطردوا من رحمة الله تعالى {بِمَا قَالُوا} أي : بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء وهذا الدعاء عليهم تعليم للعباد وإلا فهو أثر العجز تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي : ليس شأنه عز وجل كا وصفتموه بل هو موصوف بغاية الجود ونهاية الفضل والإحسان وهذا المعنى إنما يستفاد من تثنية اليد فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه جميعاً ويد الله من المتشابهات وهي صفة من صفات الله تعالى كالسمع والبصر والوجه ويداه في الحقيقة عبارة عن صفاته الجمالية والجلالية وفي الحديث : "كلتا يديه يمين" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغما ه دشمن ه دوست
{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيق عليهم ، وفي "المثنوي" :
و نكه بد كردى بترس ايمن مباش
زانكه تخسمت وبروياند خداش
ند كاهي او بوشاند كه تا
آيدت زان بدشيمان وحيا
بارها وشد ي إظهار فضل
باز كيرد ازي إظهار عدل
تاكه اين هر دوصفت ظاهر شود
آن مبشر كردد اين منذر شود
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم} وهو علماؤهم ورؤساؤهم.
قوله كثيراً مفعول أول ليزيدن {مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} وهو القرآن وما فيه من الأحكام وهو فاعل يزيدن.
{طُغْيَـانًا وَكُفْرًا} مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغياناً على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين ، إما من حيث الشدة والغلو وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضاً {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة أما الجبرية فهم الذين ينسبون فعل العبد إلى الله تعالى ويقولون لافعل للعبد أصلاً ولا اختيار
414
وحركته بمنزلة حركة الجمادات.
وأما القدرية فهم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله.
وأما المرجئة فهم الذين لا يقطعون على أهل الكبائر بشيء من عفو أو عقوبة بل يرجعون الحكم في ذلك أي يؤخرونه إلى يوم القيامة وأما المشبهة : فهم الذين شبهوا الله تعالى بالمخلوقات ومثلوه بالمحدثات.
{الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ} أي : جعلناهم مختلفين في دينهم متباغضين كما قال تعالى : {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر : 14) فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم والجملة مبتدأة مسوقة لإزاحة ما عسى يتوهم في ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين.
قيل : العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض بلا عكس كلي {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} متعلق بألقينا {كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ} أي كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلّم وإثارة شر عليه {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي : ردهم الله وقهرهم بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم ، وفي "المثنوي" خطاباً من قبل الله تعالى إلى حضرة صاحب الرسالة عليه السلام :
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
هركه درمكر تودارد دل كرو
كردنش را من زنم توشاد شو
بر سر كوريش كوربهانهم
أو شكر بندارد وزهرش دهم
يست خود آلاجق آن تركمان
يش اي نره يلان جهان
آن راغ أو به يش صرصرم
خوده باشد أي مهين يغمبرم
(2/332)
{وَيَسْعَوْنَ فِى الارْضِ فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب.
وفساداً إما مفعول له أو في موضع المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ولذلك أطفأ نائرة إفسادهم ولا يجازيهم إلا شراً.
واعلم أن الله تعالى مهما وكل الإنسان إلى حساسة طبعه وركاكة نظره وعقله فلا يترشح منه إلا ما فيه من الأقوال الشنيعة والأفعال الرذيلة ولذلك قالت اليهود يد الله مغلولة ، ونعم ما قال في "المثنوي" :
درزمين كرنيشكر ورخودني است
ترجمان هر زمين نبت وي است
وأهل الحسد يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ولكن لا يزيدهم الحسد إلا الطغيان فكما أن مصائب قوم عند قوم فوائد كذلك فوائد قوم عند قوم مصائب.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : إن جماعة السيد البخاري حسدوا لنا حتى قصدوا القتل بالسلاح واشتغلوا بالأسماء القهرية على حسب طريقهم فلم أقاتل دفعاً للفتنة ثم رأيت في موضع قرب جامع السيد البخاري قد أخذ طريقي ماء عظيم فلم يبق إلا طريق ضيق فلما قربت منه لم يبق أثر من الماء ثم إنه مات كثير من تلك الجماعة ولكن لم أباشر أنا في حقهم شيئاً قال : كيف أميل إلى مشيختهم وتصرف ثمانية عشر ألف عالم بيدي بقدرة الله تعالى في الباطن وإن كنت عاجزاً في الظاهر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
ـ وحكي ـ أن مولانا جلال الدين اشتغل عند صلاح الدين شركوه بعد المفارقة من شمس الدين التبريزي فلما سمعه بعض أتباع مولانا أرادوا قتله فأرسل إليه مولانا ابنه السلطان ولد فقال الشيخ صلاح الدين : إن الله تعالى أعطاني قدرة على قلب السماء إلى الأرض
415
فلو أردت أهلكتهم بقدرة الله تعالى لكن الأولى أن ندعو لإصلاحهم فدعا الشيخ فأمن السلطان ولد فلانت قلوبهم واستغفروا اللهم بحق أصفيائك خلصنا من رذائل الأوصاف وسفساف الأخلاق إنك أنت القادر الخلاق.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَـابِ} أي اليهود والنصارى {ءَامَنُوا} بما يجب به الإيمان {وَاتَّقُوا} من المعاصي مثل الكذب وأكل السحت ونحو ذلك {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} أي : لعفونا عنهم وسترنا عليهم ذنوبهم وهو الخلاص من العذاب {وَلادْخَلْنَـاهُمْ جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} أي ولجعلناهم خالدين فيها وهو الظفر بالثواب.
وفيه تنبيه على أن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وإن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ} أي : عملوا بما فيهما من التصديق بسيد المرسلين والوفاءتعالى بما عاهدوا فيهما وإقامة الشيء عبارة عن رعاية حقوقه وأحكامه كإقامة الصلاة {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ} من القرآن المجيد المصدق لكتبهم وإيراده بهذا العنوان للتصريح ببطلان ما كانوا يدعون من عدم نزوله إلى بني إسرائيل.
{لاكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي : لوسع الله عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض بإنزال المطر وإخراج النبات.
وفيه تنبيه على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض ، وفي "المثنوي" :
هين مراقب باش كردل بايدت
كزي هر فعل يزى زايدت
اين بلا از كودني آيدترا
كه نكردي فهم نكته ورمزها
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/333)
وكأنه قيل هل كلهم كذلك مصرون على عدم الإيمان والتقوى والإقامة فقيل : {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة كعبد الله بن سلام وأضرابه ممن آمن من اليهود وثمانية وأربعين ممن آمن من النصارى.
والاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} مقول في حقهم {سَآءَ مَا} كانوا {يَعْمَلُونَ} وفيه تعجب بحسب المقام أي ما أسوء عملهم من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه.
وفي الآية بيان أن التقوى سبب لتوسعة الرزق واستقامة الأمر في الدنيا والآخرة.
قال عبد الله القلانسي ركبت سفينة في بعض أسفاري فبدت ريح شديدة فاشتغل أهل السفينة بالدعاء والنذور وأشاروا إليّ بالنذر أيضاً فقلت أني مجرد عن الدنيا فالحوا عليّ فقلت إن خلصني الله لا آكل لحم الفيل فقالوا من يأكل لحم الفيل حتى تكفه عن نفسك فقلت : هكذا خطر ببالي فخلصني الله بجماعة ورمانا إلى ساحل البحر فمضى أيام لم نجد ما نأكل فبينا نحن جياع إذ ظهر جرو فيل فقتلوه وأكلوا لحمه ولم آكل رعاية لنذري وعدي فألحوا عليّ فقالوا : إنه مقام اضطرار فلم أقبل قولهم ثم ناموا فجاءت أم الجرو ورأت عظام ولدها وشمت الجماعة فرداً فرداً فكل من وجدت رائحته أهلكته ثم جاءتني فلما لم تجد الرائحة وجهت إليّ ظهرها وأشارت إليّ بالركوب فركبت فحملتني وأوصلتني تلك الليلة إلى موضع وأشارت إليّ بالنزول فنزلت ولقيت وقت السحر جماعة فأخذوني إلى البيت وأضافوني فأخبرتهم قصتي على لسان ترجمان فقالوا : من ذلك الموضع إلى هنا مسيرة ثمانية أيام وقد قطعتها في ليلة واحدة فظهر من هذه الحكاية أنه برعاية جانب التقوى والوفاء بالعهد يستقيم أمر المرء من جهة الدين والدنيا وأن شهوة واحدة من
416
شهوات الدنيا لها حزن طويل وكيد عظيم بل هلاك كما وقع لتلك الجماعة التي أكلوا جرو الفيل (وقتي زنبوري موريرا ديدكه بهزار حيله دانه بخانه ميكشد ودران رنج بسيارمي ديداورا كفت أي مور أين ه رنجست كه برخود نهادة بياكه مطعم ومشرب من ببين كه هر طعامكه لطيف ولذيذ ترست تا ازمن زياده نيابد بادشاهان نرسد هرانجاكه خواهم نشينم وآنه خواهم كزينم وخورم ودرين سخن بودكه بريريد وبدكان قصابي برمسلوخي نشست قصاب كه كارد دردست داشت بران زنبور مغرور زدد واره كرد برزمين انداخت ومور بيامد واي كشان اورا مي بردو كفت "رب شهوة ساعة أورثت صاحبها حزناً طويلاً" زنبور كفت مرابجايي مبركه نخواهم مور كفت هركه از روى حرص وشهوت جايي نشيندكه خواهد).
3
واعلم أن قوله تعالى : {لاكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} إشارة إلى ما يحصل بالوهب الرحماني وما يحصل بالكسب الإنساني فمن عمل بما عمل واجتهد في طريق الحق كل الاجتهاد ينال مراتب الأذواق والمشاهدات فيحصل له جنتان جنّة العمل وجنة الفضل وهذا الرزق المعنوي هو المقبول ، وفي "المثنوي" :
اين دهان بستي دهاني بازشد
كه خورنده لقمهاي رازشد
كر زشيرو ديوتن را وأبرى
در فطام او بسي نعمت خوري
اللهم أمدنا بفيض فضلك وإحسانك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/334)
يا اأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} جميع {مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} مما يتعلق بمصالح العباد فلا يرد ان بعض الاسرار الآلهية يحرم افشاؤهقال ابو هريرة حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين من العلم فاما احدهما فقد بثثته واما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم والتحقيق ان ما يتعلق بالشريعة عام تبليغه وما يتعلق بالمعرفة والحقيقة خاص ولكل منهما اهل فهو كالامانة عند المبلغ يلزم دفعها الى اربابها {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} اى ان لم تبلغ جميعه خوفا من ان ينالك مكروه {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} لان كتمان بعضها ككتمان الكل والرسالة لا سبيل لها ان يبلغها الا باللسان فلذلك لم يرخص له فى تركها وان خاف فهذا دليل لقولنا فى المكره على الطلاق والعتاق اذا تكلم به وقع لان تعلق ذلك باللسان لا بالقلب والاكراه لا يمنع فعل اللسان فلا يمنع النفاذ كذا فى التيسير {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} امان من الله تعالى للنبى عليه السلام كيلا يخاف ولا يحذر كما روى فى الخبر ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخل المدينة قالت اليهود يا محمد انا ذووا عدد وبأس فان لم ترجع قتلناك وان رجعت ذودناك واكرمناك فكان عليه السلام يحرسه مائة من المهاجرين والانصار يبيتون عنده ويخرجون معه خوفا من اليهود فلما نزل قوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} علم ان الله يحفظه من كيد اليهود وغيرهم فقال للمهاجرين والانصار انصرفوا الى رحالكم فان الله قد عصمنى من اليهود فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يخرج وحده فى اول الليل وعند السحر الى اودية المدينة وحيث ما شاء يعصمه الله مع كثيرة اعدائه وقلة اعوانه وكان الشج والرباعية قبل ذلك او لان المراد العصمة من القتل وقد حفظه من ذلك واما سائر البلايا والمحن فذلك مما كان يجرى على سائر الانبياء والاولياءقال الكرمانى ما وقع من الابتلاء
417
والسقم فى الانبياء عليهم السلام لنيل جزيل الاجر وليعلم انهم بشر تصيبهم محن الدنيا وما يطرأ على الاجسام وانهم مخلوقون فلا يفتتن بما ظهر على ايديهم من المعجزات انتهى
جزء : 2 رقم الصفحة : 417
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} تعليل لعصمته عليه السلام اى لا يمكنهم مما يريدون لك من الاضرار.
وفيه اشارة الى ان من سنة الله تعالى ان لا يهدى الى حضرته قوما جحدوا نبوة الانبياء وماقبلوا رسالة الرسل ليبلغوا اليهم من ربهم او انكروا على الاولياء وما استمسكوا بعروة ولايتهم ليوصلوهم الى الله تعالى سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وفى الآية ايضا اشارة الى ان من امتثل لامر الخالق يعصمه من مضرة المخلوق كما عصم النبى عليه السلام وابو بكر الصديق رضى الله عنه فى الغار حين الهجرة فاذا عصم الله من امتثل لامره يعصم ايضا من يستشفع برسوله عليه السلام ويهديه الى سواء الصراط ـ حكى ـ ان سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطأ الجيش بارض الروم واسر فانطلق هاربا يلتمس الجيش فاذا بالاسد فقال يا ابا الحارث انا سفينة مولى رسول الله فكان مرادى كيت وكيت فاقبل الاسد يتبصبص حتى قام الى جنبه كما سمع صوتا اهوى اليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الاسد : قال السعدى فى البستان
يكى ديدم از عرصه رودبار
كه بيش آمدم بريلنكى سوار
جنان هول ازان حال برمن نشست
كه ترسيدنم باى رفتن ببست
تبسم كنان دست برلب كرفت
كه سعدى مدار انجه آيد شكفت
توهم كردن از حكم داور مييج
كه كردن نبيجد زحكم توهيج
محالست جون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذارد ترا
وعن جابر رضى الله عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض الغزوات فنزل مع قومه فى واد فتفرق الناس يستظلون بالاشجار وينامون واستظل عليه السلام بشجرة معلقا سيفه بغصنها فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فلما حضرنا رأينا اعرابيا فقال عليه السلام ان هذا اخترط على سيفى وانا نائم فاستيقظت وهو فى يده صلتا فقال يمنعك منى فقلت الله يعنى يمنعنى الله منك فسقط السيف من يده فاخذته فقلت من يمنعك منى فقال كن خير آخذ قال الراوى قال له النبى عليه السلام أتشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله قال لا ولكن اعاهدك على ان لا اقاتلك ولا اكون مع قوم يقاتلونك فخلى عليه السلام سبيله وفى الحديث كمال توكل النبى عليه السلام وتصديق قوله {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} واستحباب مقابلة السيئة بالحسنة كذا فى شرح المشارق لابن الملك رحمه الله تعالى
جزء : 2 رقم الصفحة : 417
(2/335)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} تعليل لعصمته عليه السلام اى لا يمكنهم مما يريدون لك من الاضرار.
وفيه اشارة الى ان من سنة الله تعالى ان لا يهدى الى حضرته قوما جحدوا نبوة الانبياء وماقبلوا رسالة الرسل ليبلغوا اليهم من ربهم او انكروا على الاولياء وما استمسكوا بعروة ولايتهم ليوصلوهم الى الله تعالى سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وفى الآية ايضا اشارة الى ان من امتثل لامر الخالق يعصمه من مضرة المخلوق كما عصم النبى عليه السلام وابو بكر الصديق رضى الله عنه فى الغار حين الهجرة فاذا عصم الله من امتثل لامره يعصم ايضا من يستشفع برسوله عليه السلام ويهديه الى سواء الصراط ـ حكى ـ ان سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطأ الجيش بارض الروم واسر فانطلق هاربا يلتمس الجيش فاذا بالاسد فقال يا ابا الحارث انا سفينة مولى رسول الله فكان مرادى كيت وكيت فاقبل الاسد يتبصبص حتى قام الى جنبه كما سمع صوتا اهوى اليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الاسد : قال السعدى فى البستان
يكى ديدم از عرصه رودبار
كه بيش آمدم بريلنكى سوار
جنان هول ازان حال برمن نشست
كه ترسيدنم باى رفتن ببست
تبسم كنان دست برلب كرفت
كه سعدى مدار انجه آيد شكفت
توهم كردن از حكم داور مييج
كه كردن نبيجد زحكم توهيج
محالست جون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذارد ترا
وعن جابر رضى الله عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض الغزوات فنزل مع قومه فى واد فتفرق الناس يستظلون بالاشجار وينامون واستظل عليه السلام بشجرة معلقا سيفه بغصنها فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فلما حضرنا رأينا اعرابيا فقال عليه السلام ان هذا اخترط على سيفى وانا نائم فاستيقظت وهو فى يده صلتا فقال يمنعك منى فقلت الله يعنى يمنعنى الله منك فسقط السيف من يده فاخذته فقلت من يمنعك منى فقال كن خير آخذ قال الراوى قال له النبى عليه السلام أتشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله قال لا ولكن اعاهدك على ان لا اقاتلك ولا اكون مع قوم يقاتلونك فخلى عليه السلام سبيله وفى الحديث كمال توكل النبى عليه السلام وتصديق قوله {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} واستحباب مقابلة السيئة بالحسنة كذا فى شرح المشارق لابن الملك رحمه الله تعالى
جزء : 2 رقم الصفحة : 417
{قل} يا محمد مخاطبا ليهود والنصارى يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ} اى دين يعتد به ويليق بان يسمى شيأ لظهور بطلانه ووضوح فساده {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ} ومن اقامتهما الايمان بمحمد والاذعان لحكمه فان الكتب الآلهية باسرها آمرة بالايمان بما صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد اقامة اصولهما وما لم ينسخ من فروعهما {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} اى القرآن المجيد بالايمان به ونسب الانزال اليهم لانهم كانوا يدعون عدم نزوله الى نبى
418
اسرائيل {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم} وهم علماؤهم ورؤساؤهم {مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} اى القرآن {طُغْيَـانًا وَكُفْرًا} على طغيانهم وكفرهم القديمين وهو مفعول ثان ليزيدن {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} اى فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه اليهم فان ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفى المؤمنين مندوحة لك عنهموفى الآية اشارة الى ان حقيقة الدين انما هى احكام ظاهرة وباطنة والتزين بالاعمال ظاهرا وبالاحوال باطنا وهذا لا يتصور الا بمقدمتين ونتائج اربع فاما المقدمتان فاولاهما الجذبة الآلهية وثانيتهما التربية الشيخية واما النتائج فاولاها الاعراض عن الدنيا وما يتعلق بها كلها وثانيتها التوجه الى الحق بصدق الطلب وهما من نتائج الجذبة ثم تزكية النفس عن الاخلاق الذميمة وتحلية القلب بالاخلاق الآلهية وهما من نتائج التربية الشيخية باستمداد القوة النبوة والقوم الكافرون هم اهل الانكار يتعلقون بظاهر الدين ولا يعرفون وراءه غاية وليس الامر كذلك فان لكل ظاهر باطنا : وفى المثنوى
جزء : 2 رقم الصفحة : 418
فائده هرظاهرى خود باطنست
همجو نفع اندر دواها كامنست
هيج خطاطى نويسد خط بفن
بهر عبن خط نه بهر خواندن
كند بينش مى نبيند غير اين
عقل اوبى سيرجون نبت زمين
نبت راجه خوانده جاه ناخوانده
هست باى اوبكل درمانده
كرسرش جنبد بسير بادرو
توبسر جنبانيش غره مشو
آن سرش كويد سمعنا اى صبا
باى او كويد عصينا خلنا
(2/336)
والحامل على الانكار هو الحسد كما كان لطائفة اليهود والنصارى فلا بد من تزكية النفس من مثل هذا القبيح ـ حكى ـ ان تلميذا للفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسه وقرأ سورة يس فقال يا استاذ لا تقرأ هذه ثم سكت ثم لقنه فقال لا اله الا الله فقال لا اقولها لانى بريىء منها ومات على ذلك فدخل الفضيل منزله وجعل يبكى اربعين يوما لم يخرج من البيت ثم رآه فى النوم وهو يسحب الى جهنم فقال بأى شىء نزع الله المعرفة عنك وكنت اعلم تلاميذى فقال بثلاثة.
اولها بالنميمة فانى قلت لاصحابى بخلاف ما قلت لك.
والثانى بالحسد حسدت اصحابى.
والثالث كان لى علة فجئت الى الطبيب وسألته عهنا فقال تشرب فى كل سنة قدحا من الشراب فان لم تفعل بقيت بك العلة فكنت اشربه نعوذ بالله من سخطه الذى لا طاقة لنا به كذا فى منهاج العابدين
جزء : 2 رقم الصفحة : 418
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} اى بألسنتهم فقط وهم المنافقون {وَالَّذِينَ هَادُوا} اى دخلوا فى اليهودية {وَالصَّابِئُونَ} اى الذين صبت قلوبهم ومالت الى الجهل وهم صنف من النصارى يقال لهم السائحون يحلقون اوساط رؤسهم وقد سبق فى سورة البقرة {وَالنَّصَارَى} جمع نصران وهو معطوف على الذين هادوا.
وقوله والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والجملة معطوفة على جملة قوله {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} الخ والتقدير ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك وانما لم يعطف على ما قبله جعل مع خبره المحذوف جملة مستقلة اتى بها فى خلال الجملة الاولى
419
على نية التأخير للدلالة على ان الصابئين مع كونهم اشد الفرق المذكورين فى هذه الآية ضلالا اذا قبل توبتهم وغفر ذنوبهم على تقدير الايمان الصحيح والعمل الصالح فقبول توبة باقى الفرق اولى واخرى {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} اى من احدث من هذه الطوائف ايمانا خالصا بالمبدأ والمعاد {وَعَمِلَ صَالِحًا} حسبما يقتضيه الايمان بهما.
قوله من فى محل الرفع بالابتداء وخبره فلا خوف الخ والجملة خبر ان {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} حين يخاف الكفار العقاب {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهماقال الحدادى فى تفسيره اما نفى الحزن عن المؤمنين ههنا فقد ذهب بعض المفسرين الى انه لا يكون عليهم حزن فى الآخرة ولا خوف ونظيره قوله تعالى {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} وقال بعضهم ان المؤمنين يخافون ويحزنون لقوله تعالى {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} وقوله {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّه وَأَبِيهِ} وقال صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة فقالت عائشة واسوءتاه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم اما سمعت قول الله تعالى لكل امرىء منهم يومئذ شان يغنيه قالوا وانما نفى الله تعالى فى هذه الآية الحزن عن المؤمنين لان حزنهم لما كان فى معرض الزوال ولم يكن له بقاء معهم لم يعتد بذلك انتهى : وفى المثنوى
جزء : 2 رقم الصفحة : 419
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
مردل ترشنده راساكن كنند
لاتخافوا هست نزل خائفان
هست درخور از براى خائف آن
آنكه خوفش نيست جون كويى مترس
درس جه دهى نيست او محتاج درس
واعلم ان اولياء الله لا خوف عليهم فيما لا يكون على شىء لانهم يقيمون القرآن عملا بالظاهر والباطن ولا هم يحزنون على ما يقاسون من شدائد الرياضات والمجاهدات ومخالفات النفس فى ترك الدنيا وقمع الهوى ولا على ما اصابهم من البلاء والمحن والمصيبات والآفات لانهم تخلصوا من التقليد وفازوا بالتحقيق وارتفع عنهم تعب التكاليف فهم مع الله فى جميع احوالهم فعلى المؤمن معالجة مرضه القلبى من الاوصاف الرذيلة والتخلص من النفاق واللحاق باهل الاتفاققال ابراهيم الخواص قدس سره دواء القلب خمسة.
قراءة القرآن بالتدبر.
وخلاء البطن.
وقيام الليل والتضرع.
الى الله عند السحر.
ومجالسة الصالحينقال حضرة الشيخ الشهير بالهدائى قدس سره ونحن نقول المصلح فى الحقيقة هو الله ولكن اشد الاشياء تأثيرا هو الذكر قال الله تعالى {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} قال على رضى الله عنه [يأتى على الناس زمان لا يبقى من الاسلام الا اسمه ولا من القرآن الا رسمه يعمرون مساجدهم وهى خراب من ذكر الله شر اهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة واليهم تعود] : قال السعدى
علم جند انكه بيشتر خوانى
جون عمل در ونيست نادانى
نه محقق بود نه دانشمند
جاربايى برو كتابى جند
آن تهى مغزرا جه علم وخبر
كه بروهيز مست ويا دفتر
واعلم ان زبدة العلوم هى العلم بالله وما سواه فمن محسناته ومن علم فهو كامل فى نفسه الا ان العمل
420(2/337)
هو المقصود ومجرد القراءة لا يغنى شيأ ولا يجلب نفعا لمن صاحب رفيق التوفيق
جزء : 2 رقم الصفحة : 419
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} اى بالله قد اخذنا عهدهم بالتوحيد وسائر الشرائع والاحكام المكتوبة عليهم فى التوراة {وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلا} ذوى عدد كثير واولى شأن خطير ليذكروهم وليبينوا لهم امر دينهم {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولُا بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ} جواب شرط محذوف كأنه قيل فماذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من اولئك الرسل بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف عصوه وعادوه كأنه قيل كيف عصوهم فقيل {فَرِيقًا كَذَّبُوا} اى فريقا منهم كذبوهم من غير ان يتعرضوا لهم بشىء آخر من المضار {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} اى فريقا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم ايضا كزكريا ويحيى عليهما السلام
جزء : 2 رقم الصفحة : 420
{وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} اى حسب بنوا اسرائيل وظنوا ان لا يصيبهم من الله تعالى بلاء وعذاب بقتل الانبياء وتكذيبهم وجه حسبانهم انهم وان اعتقدوا فى انفسهم انهم مخطئون فى ذلك التكذيب والقتل الا انهم كانوا يقولون نحن ابناؤه واحباؤه وكانوا يعتقدون ان نبوة اسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العذاب الذى يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب {فَعَمُوا} عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها اى آمنوا بأس الله تعالى فتمادوا فى فنون الغى والفساد وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل الى المعاملة الظاهرة وبينوا لهم مناهجة الواضحة اى عملوا معاملة الاعمى الذى لا يبصر {وَصَمُّوا} عن استماع الحق الذى القوه عليهم اى عملوا معاملة الاصم الذى لا يسمع ولذلك فعلوا بهم ما فعلواقال المولى ابو السعود وهذا اشارة الى المرة الاولى من مرتى افساد بنى اسرائيل حين خالفوا احكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيبا وقيل حبسوا ارمياء عليه السلام {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد وبعدما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر اسارى فى غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس الى بيت المقدس ليعمره وينجى بقايا بنى اسرائيل من اسر بخت نصر بعد مهلكهم وردهم الى وطنهم وتراجع من تفرق منهم فى الاكناف فعمروه فى ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كاحسن ما كانوا عليه {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} وهو اشارة الى المرة الاخرى من مرتى افسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} بدل من الضمير فى الفعلينقال الحدادى قوله {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} يقتضى فى المرة الثانية انهم لم يكفروا كلهم وانما كفر اكثرهم كما قال تعالى {لَيْسُوا سَوَآءًا مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} وقال تعالى {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم وفق اعمالهم ومن اين لهم ذلك الحسبان الباطل ولقد وقع ذلك فى المرة الاولى حيث سلط عليهم بخت نصر فاستولى على بيت المقدس فقتل من اهله اربعين الفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية الى ارضه فبقوا هناك على اقصى ما يكون من الذل والنكد الى ان احدثوا توبة صحيحة فردهم الله عز وعلا الى ما حكى عنهم من حسن الحال ثم عادوا الى المرة الاخرى من الافساد فبعث الله عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ففعل بهم ما فعل.
قيل دخل
421
صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما صدقتمونى فقتل عليه الوفا منهم ثم قال ان لم تصدقونى ما تركت منكم احدا فقالوا انه دم يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا ينتقم الله منكم ثم قال يا يحيى قد علم ربى وربك ما اصاب قومك من اجلك فاهدأ باذن الله تعالى قبل ان لا ابقى احدا منهم فهدأواعلم ان من مقتضى النفس نسيان العهد بينها وبين الله ونسيان نعمه بالكفران وكيف الكفران والانسان غريق فى بحر كرمه ولطفه فيجب عليه شكر ذلك وارسال الرسل وتوضيح السبل ونزول المطر وانبات الارض وصحة البدن وقوة القلب واندفاع الموانع ومساعدة الاسباب كل ذلك من النعم الجليلة ـ وحكى ـ ان دانيال عليه السلام وجد خاتمه فى عهد عمر رضى الله عنه وكان على فصه اسدان وبينهما رجل يلحسانه وذلك ان بخت نصر لما تتبع الصبيان وقتلهم وولد هو القته امه فى غيضة رجاء ان ينجو منه فقيض الله سبحانه اسدا يحفظه ولبوة ترضعه وهما يلحسانه فلما كبر صور ذلك فى خاتمه حتى لا ينسى نعمة الله عليه ولا بد فى قطع طريق الآخرة من تحمل المشاق والقيام بالحقوق الواجبة بينه وبين الخلاقذكر عن الفضيل انه قال من عزم على طريق الآخرة فليجعل فى نفسه اربعة الوان من الموت الابيض والاحمر والاسود والاخضر.
(2/338)
فالموت الابيض الجوع.
والاسود ذم الناس.
والاحمر مخالفة الشيطان.
والاخضر الوقائع بعضها على بعض الى المصائب والاوجاع واذا كان المرء اعمى واصم فى هذا الطريق فلا جرم يضل ولا يهتدى : قال فى المثنوى
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
كوررا هر كام باشد ترس جاه
باهزاران ترس مى آيد براه
مرد بينا ديده عرض راه را
بس بداند او مغاك و جاه را
ماهيا نرا بحر نكذارد برون
خاكيانرا بحر نكذارد درون
اصل ما هى آب وحيوان از كلست
حيله وتدبير اينجا باطلست
قفل زفتست و كشاينده خدا
دست درتسليم زن اندر رضا
والعصيان وإن كان سبباً للنسيان ورين العمى والصمم إلا أن ما قضاه الله وقدره لا يتغير فليبك على نفسه من ضاع عمره في الهوى وتتبع الشهوات فلم يجد إلى طلب الحق سبيلاً وإلى طريق الرشد دليلاً اللهم إنك أنت الهادي {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما وهم المار يعقوبية قالوا : إن الله حل في ذات عيسى واتحد بذاته تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
{وَقَالَ الْمَسِيحُ} أي : قالوا ذلك والحال قد قال المسيح مخاطباً لهم {يَابَنِى إسرائيل اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ} فإني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم {أَنَّهُ} أي : الشان {مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} أي : شيئاً في عبادته أو فيما يخص به من الصفات والأفعال {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} فلن يدخلها أبداً كما لا يصل المحرم عليه إلى المحرم فإنها دار الموحدين {وَمَأْوَاـاهُ النَّارُ} فإنها هي المعدة للمشركين {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ} بالإشراك {مِنْ أَنصَارٍ} أي : من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة وهو من تمام كلام عيسى ، ثم حكى ما قاله النسطورية والملكانية من النصارى فقال :
422
{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ} أي : أحد ثلاثة آلهة والإلهية مشتركة بينهم وهم الله وعيسى ومريم {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} أي : والحال ليس في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث أنه مبدأ جميع الموجودات الإلهية موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} عن مقالتهم الأولى والثانية ولم يوحدوا.
{لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أي : والله ليمسنهم ووضع الموصول موضع الضمير لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن بيانية حال من الذين {عَذَابٌ أَلِيمٌ} نوع شديد الألم من العذاب يخلص وجعه إلى قلوبهم {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} أي : أيصرون فلا يتوبون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطنة وهمزة الاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم وتحضيض على التوبة {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة يغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي ما هو إلا مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها كالرسل الماضية من قبله خصه الله تعالى بآيات كما خصهم بها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو أعجب وإن خلقه من غير أب فقد خلق الله آدم من غير أب وأم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابه عز وجل وإنما موسى وعيسى مظاهر شؤونه وأفعاله {وَأُمُّه صِدِّيقَةٌ} أي : ما أمه أيضاً إلا كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أي صدق الأقوال في المعاملة مع الخلاق وصدق الأفعال والأحوال في المعاملة مع الخالق لا يصدر منهن ما يكذب دعوى العبودية والطاعة {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ويفتقران إليه افتقار الحيوانات فكيف يكون إلهاً من لا يقيمه إلا أكل الطعام {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الايَـاتِ} الباهرة المنادية ببطلان ما تقولوا عليهما نداء يكاد يسمعه صم الجبال {ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن استماعها والتأمل فيها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
(2/339)
وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي أن بياننا الآيات أمر بديع في بابه وإعراضهم عنها مع تعاضد ما يوجب قبولها أبدع {قُلْ} يا محمد الزاماً لهؤلاء النصارى ومن سلك طريقتهم من اتخاذ غير الله إلهاً {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي متجاوزين إياه {مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} يعني عيسى وهو وإن ملك ذلك بتمليك الله إياه لكنه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله به من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال : ما مع أن أصله أن يطلق على غير العاقل نظراً إلى ما هو عليه في ذاته فإنه عليه الصلاة والسلام في أول أحواله لا يوصف بعقل ولا بشيء من الفضائل فكيف يكون إلهاً {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بالأقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وهو حال من فاعل تعبدون {قُلْ يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي : غلواً باطلاً فترفعوا عيسى إلى أن تدعوا له الألوهية كما ادعته النصارى أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة كما زعمته اليهود {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ} يعني : أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد عليه السلام في شريعته {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} أي من تابعهم على يديهم وضلالهم.
{وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} عن قصد السبيل الذي
423
هو الإسلام بعد مبعثه لما كذبوه وبغوا عليه وحسدوه.
قال الشيخ نجم الدين في "تأويلاته" : إن النصارى لما أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم الفعل وينظروا إلى أحوال الأنبياء بنظر العقل تاهوا في أودية الشبهات وانقطعوا في بوادي الهلكات جل جناب القدس عن إدراك عقول الإنس هيهات هيهات وهذا حال من يحذو حذوهم ويقفوا أثرهم فأطرت النصارى عيسى عليه السلام إذ نظروا بالعقل في أمره فوجدوه مولوداً من أم بلا أب فحكم عقلهم أن لا يكون مولود بلا أب فينبغي أن يكون هو ابن الله واستدلوا على ذلك بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ويبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخبر عما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون وهذا من صفات الله تعالى ولو لم يكن المسيح ابن الله لما أمكنه هذا وإنما أمكنه لأن الولد سر أبيه وقال بعضهم : إن المسيح لما استكمل تزكية النفس عن صفات الناسوتية حل لاهوتية الحق في مكان ناسوتيته فصار هو الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
ثم اعلم أن أمة محمد لما سلكوا طريق الحق بإقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الحبيبية أسقط عنهم كلفة الاستدلال ببراهين الوصول والوصال كما كان حال الشبلي حين غسل كتبه بالماء وكان يقول : نعم الدليل أنتم ولكن اشتغالي بالدليل بعد الوصول إلى المدلول محال ، وفي "المثنوي" :
ون شدي بر بامهاي آسمان
سرد باشد جست وجوى نردبان
آينه روشن كه شد صاف وجلي
جهل باشد بر نهادن صيقلي
يش سلطان خوش نشسته درقبول
جهل باشد جستن نامه ورسول
فهؤلاء القوم بعدما وصلوا إلى سرادقات حضرة الجلال شاهدوا بأنوار صفات الجمال أن الإنسان هو الذي حمل أمانة الحق من بين سائر المخلوقات وهي نور فيض الألوهية بواسطة الأنبياء فهم مخصوصون بأحسن التقويم في قبول هذا الكمال فتحقق لهم أن عيسى عليه السلام صار قابلاً بعد التزكية للتخلية بفيض الخالقية والمحبية كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ويبرى الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله لا بإذنه أعني كان صورة الفعل منه ومنشأ صفة الخالقية حضرة الألوهية وهذا كما أن الكرة البلور المخروط استعداداً في قبول فيض الشمس إذا كانت في محاذاتها فتقبل الفيض وتحرق المحلوج المحاذي لها بذلك الفيض فمصدر الفعل المحرق من الكرة ظاهراً ومنشأ الصفة المحرقية حضرة الشمس حقيقة فصار للكرة بحسن الاستعداد قابلية لفيض الشمس وظهر منها صفات الشمس وما حلت الشمس في كرة البلور تفهم إن شاء الله وتغتنم فكذلك حال الأنبياء في المعجزات وكبار الأولياء في الكرامات والفرق أن الأنبياء مستقلون بهذا المقام والأولياء متبعوه.
قال الإمام الغزالي في قول أبي يزيد انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فإذا أنا هو إذ من انسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها لا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له هم سوى الله وإذا لم يحل في القلب إلا جلال الله وجماله صار مستغرقاً كأنه هولا أنه هو تحقيقاً.
وقوله أيضاً سبحاني ما أعظم شأني يحمل على أنه قد شاهد كمال حظه من صفة القدس فقال سبحاني ورأى عظيم شأنه بالإضافة إلى شأن عموم الخلق فقال : ما أعظم شأني وهو مع ذلك يعلم قدسه وعظم شأنه بالإضافة
424
إلى الخلق ولا نسبة له إلى قدس الرب وعظم شأنه وقول من قال من الصوفية : أنا الحق فوارد على سبيل التجوز أيضاً كما قال الشاعر :
(2/340)
أنا من أهوى ومن أهوى أنا وذلك متأول عند الشاعر فإنه لا يعني به أنه هو تحقيقاً بل كأنه هو فإنه مستغرق بالهم به كما يكون مستغرق الهم بنفسه فيعتبر هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز.
قال الشيخ أبو القاسم الجرجاني : إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافاً للعبد السالك وهو بعد في السلوك غير واصل ، فإن قلت : ما معنى الوصول؟ قلت : معنى السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد في جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه إلا أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول وإنما الوصول هو أن ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقاً به فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه فيكون كله مشغولاً لا بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة وباطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البداءة وأما النهاية فأن ينسلخ عن نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
كار كاه كنج حق در نيستيست
غره هستي ه داني نيست يستآب كوزه ون در آب جوشود
محو كردد دروي وجو او شود {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} حال كونهم {مِنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي : طردوا وأبعدوا من رحمة الله تعالى {عَلَى لِسَانِ دَاوُادَ} متعلق بلعن يعني أهل ايلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام : اللهم العنهم واجعلهم آية ومثلاً لخلقك فمسخوا قردة {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي : على لسان عيسى ابن مريم يعني كفار أصحاب المائدة لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى : اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي كأنه قيل بأي سبب وقع ذلك فقيل : {ذَالِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسح بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} استئناف أي لا ينهى بعضهم بعضاً عن قبيح يعملونه واصطلحوا على الكف عن نهي المنكر {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} تعجيب من سوى فعلهم مؤكداً بالقسم {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ} أي : من أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأضرابه حيث خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النبي عليه السلام والرؤية بصرية {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} حال من كثيراً لكونه موصوفاً أي يوالون المشركين بعضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي لبئس شيئاً قدموا ليردوا عليه يوم القيامة {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـالِدُونَ} هو المخصوص بالذم بتقدير المضاف أي موجب سخط الله والخلود في العذاب لأن نفس السخط المضاف إلى الباري تعالى لا يقال له إنه المخصوص بالذم إنما المخصوص بالذم هو الأسباب الموجبة له {وَلَوْ كَانُوا} أي : الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِالْلَّهِ وَالنَّبِىِّ} أي : نبيهم {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ} أي : إلى ذلك النبي من التوراة والإنجيل {مَا اتَّخَذُوهُمْ} أي : المشركين
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{أَوْلِيَآءَ}
425
لأن تحريم ذلك مصرح في شريعة ذلك النبي وهو الكتاب المنزل إليه فالإيمان يمنع من التولي قطعاً {وَلَـاكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم.
وفي الآيات أمور :
الأول : أن الإنسان الكامل الذي يصلح لخلافة الحق هو مظهر صفات لطف الحق وقهره فقبولهم قبول الحق وردهم رد الحق ولعنهم لعن الحق وصلاتهم صلاة الحق فمن لعنوه فقد لعنه الحق ومن صلوا عليه فقد صلى الحق عليه لقوله تعالى لنبيه عليه السلام {إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة : 103) وقال : {هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ} (الأحزاب : 43) فمظهر اللعن كان لسان داود وعيسى وكانت اللعنة من الله حقيقة لقوله : {كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ} (النساء : 47) وهم الذين لعنهم داود وصرح ههنا أن اللعن كان منه تعالى وإن كان على لسان داود عليه السلام ، في "المثنوي" :
اين نكردي توكه من كردم يقين
أي صفاتت در صفات مادفينما رميت إذ رميت كشته
خويشتن درموج ون كف هشته
وفي محل آخر :
كه ترا ازتوبكل خالي كند
توشوي ست او سخن عالي كندكره قرآن ازلب ييغمبر است
هركه كويد حق نكفت او كافرست
(2/341)
والثاني أن الله تعالى سمى العصيان منكراً لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفاً لأنها توجب المعرفة والإقدام على الفعل المنكر معصية والإصرار على المعصية كالكفر في كونه سبباً للرين المحيط بجوانب القلب ومن ذلك ترك النهي عن المنكر وفي الحديث "يحشر يوم القيامة أناس من أمتي من قبورهم إلى الله تعالى على صورة القردة والخنازير بما؟ بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون" فالمداهنة من أعمال الكفار والدعوة إلى الله من أخلاق الأخيار ، وفي "المثنوي" :
هركسي كواز صف دين سركش است
ميرود سوى صفي كان واس استتوز كتار تعالوا كم مكن
كيمياي س شكر فست آن سخن
كرمسي كردد ز كفتارت نفير
كيميارا هي ازوي وامكير
اين زمان كربست نفس ساحرش
كفت توسودش دهددر آخرش
قل تعالوا قل تعالوا أي غلام
هين كه ان الله يدعو بالسلام
والثالث : أن المؤمن والكافر ليسا من جنس واحد وتولى الكافر موجب لسخط الله لأن موالاة الأعداء توجب معاداة الأولياء فينبغي للمؤمن الكامل أن ينقطع عن صحبة الكفار والفجار وأهل البدع والأهواء وأرباب الغفلة والإنكار ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
ميل مجنون يش آن ليلى روان
ميل ناقه س ي طفلش دوانكفت أي ناقه وهردو عاشقين
مادو ضد س همره نا لا يقيم
نيستت بروفق من مهر ومهار
كرد بايد ازتو صحبت اختيار
جان زهجر عرش اندر فاقه
تن زعشق خاربن ون ناقة
جان كشايد سوى بالا بالها
درزده تن درزمين نكالها
اللهم خلصنا من خلاف الجنس مطلقاً {لَتَجِدَنَّ} يا محمد {أَشَدَّ النَّاسِ} مفعول أول
426
للوجدان {عَدَاوَةً} تمييز {لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا} متعلق بعداوة {الْيَهُودَ} مفعول ثان للوجدان {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني : مشركي العرب معطوف على اليهود {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـارَى} إعرابه كإعراب ما سبق.
أما عداوة اليهود والمشركين المنكرين للمعاد فلشدة حرصهم الذي هو معدن الأخلاق الذميمة فإن من كان حريصاً على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال جاهاً أو مالاً.
وأما مودة النصارى فلأنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والكبر والترفع وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الإنقياد له انظر إلى كفر النصارى مع كونه أغلظ من كفر اليهود لأن كفر النصارى في الألوهية وكفر اليهود في النبوة وأما قوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} فإنما قاله طائفة منهم ومع ذلك خص اليهود بمزيد اللعنة دونهم وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا ويؤيده قوله عليه السلام : "حب الدنيا رأس كل خطيئة" ، قال البغوي لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم لا مودة ولا كرامة لهم بل الآية نزلت فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه وكان النجاشي ملك الحبشة نصرانياً قبل ظهور الإسلام ثم أسلم هو وأصحابه قبل الفتح ومات قبله أيضاً ، وقال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما حل بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال : "إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً" وأراد به النجاشي واسمه أصحمة بالمهملتين وهو بالحبشية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم قيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس فخرج إليها سراً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة منهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذه هي الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
سعديا حب وطن كره حد يثست صحيح
نتوان مرد بسختي كه من اينجازادم
فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم فعصمهم الله فلما انصرفا خائبين وأقام المسلمون هناك بخير دار وحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله وعلا أمره وذلك في سنة ست من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال
(2/342)
427
لها نزهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إياها فأعطتها أوضحاً لها سروراً بذلك وأمرها أن توكل من يزوجها فوكلت خالد بن سعيد بن العاص فأنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله النجاشي فأنفذ إليها على يد نزهة أربعمائة دينار فلما جاءتها بها أعطتها خمسين ديناراً فردتها وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمداً صلى الله عليه وسلّم وآمنت به فحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام قالت : نعم ثم أمر الملك نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة بما عندهن من عود وعنبر وكان عليه السلام يراه عليها وعندها فلا ينكر قالت أم حبيبة فخرجنا في سفينتين وبعث معنا النجاشي الملاحين فلما خرجنا من البحر ركبنا الظهر إلى المدينة ورسول الله عليه السلام بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي عليه السلام فدخلت عليه فكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من نزهة السلام فرد عليها السلام فأنزل الله {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم} (الممتحنة : 7) يعني : أبا سفيان {مَّوَدَّةً} يعني تزويج أم حبيبة ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة برسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ذاك الفحل لا يقرع انفه ثم قال عليه السلام : "لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر" وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله ابنه أزهر بن أصحمة بن الحر في ستين رجلاً من الحبشة وكتب إليه يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمترب العالمين وقد بعثت ابني أزهر وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه فلما بلغوا أواسط البحر غرقوا وكان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصل في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام منهم بحيراً الراهب فقرأ عليهم رسول الله سورة يس إلى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن فآمنوا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـارَى} يعني وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع {ذَالِكَ} أي : كونهم أقرب مودة للمؤمنين.
{بِأَنَّ مِنْهُمْ} أي بسبب أن منهم {قِسِّيسِينَ} وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم.
والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه وطلبه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب.
وقال قطرب القسيس العالم بلغة الروم.
وعن عروة بن الزبير أنه قال : ضيعت النصارى الإنجيل وادخلوا فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين وكان اسمه قسيساً فمن كان على مذهبه ودينه فهو قسيس {وَرُهْبَانًا} هو جمع راهب كراكب وركبان وقيل إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع.
والترهب التعبد مع الرهبة في صومعة والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضاً إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة بجنس الخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضاً قوم مهتدون ألا يرى إلى عبد الله بن سلام وأضرابه قال تعالى : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران : 113) الخ لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون
428
عند قبول الحق إذا فهموه ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود.
وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت في كافر.
أقول ذكر عند حضرة شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة رجولية بعض أهل الذمم ومروته فقال : إنه من آثار السعادة الأزلية ويرجى أن ذلك يدعوه إلى الإيمان والتوحيد ويصير عاقبته إلى الفلاح ، قال الحافظ :
كارى كنيم ورنه خجالت بر آورد
روزي كه رخت جان بجهان دكر كشيم
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
(2/343)
{وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا عند سماع القرآن وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأنفهم عنه {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} أي : تملأ بالدمع فاستعير له الفيض الذي هو الإنصباب من الامتلاء مبالغة ومن الدمع متعلق بتفيض ومن لابتداء الغاية والمعنى تفيض من كثرة الدمع والرؤية بصرية وتفيض حال من المفعول {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} من الأولى لابتداء الغاية متعلق بمحذوف على أنها حال من الدمع والثانية لبيان الموصول في قوله ما عرفوا أي حال كونه ناشئاً ومبتدأ من معرفة الحق حاصلاً من أجله وبسببه كأنه قيل : ماذا يقولون عند سماع القرآن فقيل : {يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا} بهذا القرآن {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي اجعلنا في جملة الذين شهدوا بأنه حق أي : أيُّ شيء حصل لنا {لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} حال من الضمير في لنا أي غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب والمسبب جميعاً {وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ} عطف على الجلالة أي بالله وما جاءنا من الحق حال من فاعل جاءنا أي جاءنا في حال كونه من جنس الحق أو من لابتداء الغاية متعلقة بجاءنا ويكون المراد بالحق الباري تعالى {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين وإنما قدر المبتدأ ليكون الحال هو الجملة الإسمية لأن المضارع المثبت لا يقع حالاً بالواو إلا بتأويل تقدير المبتدأ {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ} أي : أعطاهم وجازاهم {بِمَا قَالُوا} أي : عن اعتقادهم بدليل قوله مما عرفوا من الحق {جَنَّاتِ} أي : بساتين {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ} أي : تجري من تحت أشجارها ومساكنها وغرفها أنهار الماء والعسل والخمر واللبن {خَالِدِينَ فِيهَا وَذَالِكَ} الثواب {جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} أي : الذين أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور.
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} فماتوا على ذلك عطف التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين
429
{أولئك أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أهل النار الشديدة الوقود وهم الذين استتروا بحجب أوصاف البهيمة والسبعية والشيطانية فأصمهم الله وأعمى أبصارهم سمعوا ولم يستمعوا وشاهدوا ولم يبصروا بخلاف من قال لهم الله ألست بربكم فاسمعهم كلامه ووفقهم للجواب حتى شهدوا ربوبيته فقالوا : بلى شهدنا فكذلك ههنا أسمعهم كلامه وعرفهم حقيقة كلامه فاشتاقوا إليه وتذكر قلوبهم ما شاهدوا عند الميثاق من تلك المشاهدة فكبوا بكاء الشوق وبكاء المعرفة ، وفي "المثنوي" :
خوي بددر ذات تواصلي نبود
كزبد أصلي مي نيابد جز جحود
آن بدي عاريتي باشد كه او
آرد اقررا وشود أو توبه جو
همو آدم ذلتش عاريه بود
لا جرم اندر زمان توبه نمود
ونكه اصلي بودجرم آن بليس
ره نبودش جانب توبه نفيس
ـ حكي ـ أن سلطاناً زار قبر أبي يزيد قدس سره فسأل عن حاله من بعض أصحاب أبي يزيد فقال : من رآه لم يدخل النار فقال السلطان : إن أبا جهل رأى النبي عليه السلام ومع ذلك يدخل النار وليس شيخك فوق النبي عليه السلام فقال : أيها السلطان أن أبا جهل لم ير النبي صلى الله عليه وسلّم بل رأى يتيم أبي طالب فلو رأى أنه رسول الله لآمن به وخلص من النار وبنور العرفان آمنت بلقيس فإنها لما رأت كتاب سليمان شاورت قومها فقالوا : نقاتله فقالت : إنه يدعي النبوة والأنبياء عباد الله المكرمون لا يقاتلهم أحد فبعد الامتحان آمنت به ، قال المولوي قدس سره :
ون سليمان سوى مرغان سبا
يك صفيري كرد بست آن جمله را
جزمكر مرغي كه بدبي جان ور
يا و ما هي كنك بود از اصل كر
نى غلط كفتم كه كر كرسر نهد
يش وحي كبريا شمعش دهد
ونكه بلقيس ازدل وجان عزم كرد
بر زمان رفته هم افسوس خورد
ترك مال وملك كرد او آننان
كه بترك نام وننك آن عاشقان
آن غلامان وآن كنيزان بناز
يش شمش همو وسيده ياز
باغهاو قصرها وآب رود
يش شم ازعشق او كلخن نمود
عشق درهنكام استيلا وخشم
زشت كر داند لطيفاً نرا بشم
هر زمردرا نمايد كندنا
غيرت عشق اين بود معنى لا
لا إله إلا هو اينست اي ناه
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
كه نمايد دمه تراويك سياه(2/344)
واعلم أنه في العالم العلمي وفق من وفق فجرى على ذلك التوفيق في هذا العالم العيني الشهادي ثم لا يزال على ذلك في جانب الأبد حتى يدخل الجنة الصورية الحسية مع أذواق الروحانية المعنوية خالداً فيها فهذا هو ثمرة ذلك البذر ومحصول ذلك الزرع والحرث كما قال الله تعالى : {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} الخ فعلى المؤمن أن يجتهد في تحصيل اليقين ويدخل الجنة العاجلة التي هي المعرفة الإلهية كما قال مما عرفوا من الحق ويتخلص من نار البعد والفراق كما قال : {أولئك أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} أي لا تمنعوا ما طاب ولذ منه أنفسكم كمنع التحريم {وَلا تَعْتَدُوا} أي لا تتجاوزوا حدود ما أحل لكم
430
إلى ما حرم عليكم فإن محرم ما أحل الله يحل ما حرم الله أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات فإن الإسراف تجاوز إلى الحرام كتناول المحرمات {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي لا يرضى عمل المعتدين على أنفسهم المتجاوزين حدود الله {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالا طَيِّبًا} أي ما أحل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالاً مفعول كلوا ومما رزقكم الله حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة ، قال عبد الله بن المبارك الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غذي ونمى فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِه مُؤْمِنُونَ} تأكيد للوصية بما أمر به فإن قوله : {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا} وإن كان المراد به ههنا الإباحة والتحليل إلا أنه إنما أباح أكل الحلال فيفيد تحريم ضده فأكد التحريم المستفاد منه بقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وزاده تأكيداً بقوله : {الَّذِى أَنتُم بِه مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمان يوجب التقوى بالانتهاء عما نهى عنه وعدم التجاوز عما حد له.
قال الإمام قوله تعالى : {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يدل عى أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد فإنه لو لم يتكفل برزقه لما قال : {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} وإذا تكفل برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعده وإحسانه فإنه أكرم من أن يخلف الوعد ولذلك قال عليه السلام : "فاتقوا اللهوأجملوا في الطلب" ، قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
ما ابروي فقر وقناعت نمي بريم
با دشه بكوى كه روزي مقدرست
وقال الصائب :
رزق اكر بر آدمي عاشق نمي باشد را
از زمين كندم كريبان اك مي آيدرا
قال أهل التفسير : ذكر النبي عليه السلام يوماً النار ووصف القيامة وبالغ في الإنذار فرق له الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أمية واسمها خولة وكانت عطارة "أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه فكرهت أن تكذب على رسول الله وكرهت أن تبدي خبر زوجها" فقالت : يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق فرجع رسول الله فلما جاء عثمان أخبرته زوجته بذلك فمضى إلى رسول الله فسأله النبي عليه السلام عن ذلك فقال : نعم فقال عليه السلام : "أما إني لم آمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم أنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثم جمع الناس وخطبهم وقال : "ما بال قوم حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لا آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهباناً فإنه ليس من ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الاجتهاد فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من هلك قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع" فأنزل
431
الله هذه الآية.
ـ وروي ـ أن عثمان بن مظعون جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله إن نفسي تحدثني بأن أختصي فائذن لي في الاختصاء قال : "مهلاً يا عثمان فإن اختصاء أمتي الصيام" ، وفي "المثنوي" :
هين مكن خودرا خصي رهبان مشو
زانكه عفت هست شهوت را كرو
بي هوا نهى از هوا ممكن نبود
غازي بر مردكان نتوان نمود
س كلو از بهر دام شهوتست
بعد ازان لا تسرفوا آن عفتست
ونكه رنج صبر نبود مرترا
شرط نبود س فرو نايد را
حبذا آن شرط وشادا آن جزا
آن جزاي دلنواز جان فزا
جزء : 2 رقم الصفحة : 421(2/345)
قال يا رسول الله إن نفسي تحدثني بأن أترهب في رؤوس الجبال قال : "مهلاً يا عثمان فإن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة" قال : يا رسول الله إن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله قال : "مهلاً يا عثمان فإن صدقتكم يوماً بيوم وتعف نفسك وعيالك وترحم المساكين واليتيم فتعطيها أفضل من ذلك" قال : يا رسول الله إن نفسي تحدثني أن أطلق امرأتي خولة قال : "مهلاً يا عثمان فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله عليه أو هاجر إلي في حياتي أوزار قبري بعد وفاتي أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع" قال : يا رسول الله فإن نهيتني أن لا أطلقها فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها قال : "مهلاً يا عثمان فإن المسلم إذا غشي امرأته أو ما ملكت يمينه فلم يكن له من وقعته تلك ولد كان له وصيف في الجنة وإن كان له من وقعته تلك ولد فمات قبله كان له فرطاً وشفيعاً يوم القيامة وإن مات بعده كان له نوراً يوم القيامة" قال : يا رسول الله إن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال : مهلاً يا عثمان فإني أحب اللحم وأكله إذا وجدته ولو سألت ربي أن يطعمنيه في كل يوم لأطعمنيه قال : يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب قال : "مهلاً يا عثمان فإن جبرائيل عليه السلام أمرني بالطيب غبا وقال يوم الجمعة لا مترك له يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة" ، وعن أبي موسى الأشعري قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدجاج ورأيته يأكل الرطب والبطيخ.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان يأكل الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال : "إن المؤمن حلو يحب الحلاوة" قال : "إن في بطن المؤمن زاوية لا يملأها إلا الحلو" وجاء رجل إلى الحسن فقال له إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج قال : ولم قال لئلا يؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد قال : نعم قال : إن جارك هذا جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذج ، وسئل فضيل عن ترك الطيبات من الحواري واللحم والخبيص للزهد وقال لمن قال لا آكل الخبيص ليتك تأكل وتتقي إن الله لا يكره أن تأكل الحلال الصرف كيف برك لوالديك وصلتك للرحم؟ كيف عطفك على الجار؟ كيف رحمتك للمسلمين؟ كيف كظمك للغيظ؟ كيف عفوك عمن ظلمك؟ كيف إحسانك إلى من أساء إليك؟ كيف صبرك واحتمالك للأذى؟ أنت إلى أحكام هذا أحوج منك إلى ترك الخبيص ، والحاصل أن الإفراط
432
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
في الرهبانية والاحتراز التام عن الذات والطيبات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ وإذا وقع الضعف فيها اختلت الفكرة وباختلالها تفوت عنها الكمالات المتعلقة بالقوة النظرية رأساً وينتقص كمالاتها المتعلقة بالقوة العملية فإن تمامها وكمالها يبني على كمال القوة النظرية ، وأيضاً الرهبانية التامة توجب خرابية الدنيا وانقطاع الحرث والنسل فلما كانت عمارة الدنيا والآخرة منوطة بترك تلك الرهبانية والمواظبة على المعرفة والمحبة والطاعة اقتضت الحكمة أن لا يحرم الإنسان ما طاب ولذ مما أحل الله كما نطقت الآية به ، ولكن إشارة الآية أيضاً إلى الاعتدال كما قال : {وَلا تَعْتَدُوا} فالاعتدال في التناول وكذا في الرياضة ممدوح جداً ولذا ترى المرشد الكامل يأمر في ابتداء أمره بترك اللحم والدسم والجماع وغيرها ولكن على الاعتدال بحسب مزاجه فإن للرياضات تأثيراً عظيماً في إصلاح الطبيعة وهو أمر مهم في باب السلوك جداً فلا متمسك لأرباب الظاهر في ترك الرياضة مطلقاً وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام في وصاياه لعثمان بن مظعون إلى جملة من الأمر فافهم وارشد إلى طريق الصواب ولا تفريط ولا إفراط في كل باب {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ} اليمين تقوية أحد الطرفين بالمقسم به واللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عند الإمام الأعظم أن يحلف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن مثل أن يرى الشيء من بعيد فيظن أنه كذا فيقول والله إنه كذا فإذا هو بخلافه فلا مؤاخذة في هذا اليمين بإثم ولا كفارة وأما الغموس وهي حلفه على أمر ماض أو حال كذباً عمداً مثل قوله والله لقد فعلت كذا وهو لم يفعله وعكسه ومثل والله ما لهذا علي دين وهو يعلم أن له عليه ديناً فحكمها الإثم لأنها كبيرة قال عليه السلام : "من حلف كاذباً أدخله الله النار" ولا كفارة فيها إلا التوبة قوله في أيمانكم صلة يؤاخذكم كما أن باللغو صلة له أي لا يؤاخذكم في حق إيمانكم بسبب ما كان لغواً منها بأن لا يتعلق بها حكم دنيوي ولا أخروي {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَ} أي بتقيدكم الأيمان وتوثيقاً بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا خنثتم أو بنكث أي نقض ما عقدتم فحذف للعلم به وهذا اليمين هي اليمين المنعقدة وهي الحلف على فعل أمر أو تركه في المستقبل
(2/346)
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{فَكَفَّـارَتُهُ} أي الفعلة التي تذهب إثمه وتستره وعند الإمام لا يجوز التكفير قبل الحنث لقوله عليه السلام : "من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} محل من أوسط النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره أن تطعموا عشرة مساكين طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون من في عيالكم من الزوجة والأولاد والخدم أي من أقصده في النوع أو المقدار وهو نصف صاع من بر لكل مسكين كالفطرة ولو أطعم فقيراً واحداً عشرة أيام أجزأه ولو أعطاه دفعة لا يجوز إلا عن يوم واحد {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على إطعام فيكسو كل واحد من العشرة ثوباً يستر عامة بدنه وهو الصحيح ولا يجزىء السراويل لأن لابسه يسمى عرياناً عرفاً {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي : أو إعتاق إنسان كيف ما كان مؤمناً كان أو كافراً ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً ولا يجوز الأعمى والأصم الذي
433
لا يسمع أصلاً والأخرس لفوات جنس المنفعة ومقطوع اليدين أو إبهاميهما أو الرجلين أو يد ورجل من جانب واحد ومجنون مطبق لأن الانتفاع ليس إلا بالعقل ومدبر وأم ولد لاستحقاقهما الحرية بجهة فكان الرق فيهما ناقصاً ومكاتب أدى بعضاً لأنه تحرير بعوض فيكون تجارة والكفارة عبادة فلا بد أن تكون خالصةتعالى وكذا لا يجوز معتق بعضه لأنه ليس برقبة كاملة.
ومعنى أو في الآية إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً وخيار التعيين للمكلف أي لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الأمور الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعاً ومتى أتى بواحدة منها فإنه يخرج عن العهدة فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي : شيئاً من الأمور المذكورة {فَصِيَامُ} أي : فكفارته صيام {ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ} متتابعات عند الإمام الأعظم {ذَالِكَ} أي الذي ذكرت لكم وأمرتكم به {كَفَّارَةُ أَيْمَـانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم {وَاحْفَظُوا أَيْمَـانَكُمْ} بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر وبأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير فإن عجز عن البرّ أو رأى غير المحلوف عليه خيراً منه فله حينئذٍ أن يحنث ويكفر كما قال الفقهاء : من اليمين المنعقدة ما يجب فيه البر كفعل الفرائض وترك المعاصي لأن ذلك فرض عليه فيتأكد باليمين.
ومنها ما يجب فيه الحنث كفعل المعاصي وترك الواجبات وفي الحديث : "من حلف أن يطيع الله فليطعه ومن حلف أن يعصيه فلا يعصه".
ومنها ما يفضل فيه الحنث كهجران المسلم ونحوه وما عدا هذه الأقسام الثلاثة من الإيمان التي يستوي فيها الحنث والبر يفضل فيه البر حفظاً لليمين ولا فرق في وجوب الكفارة بين العامد والناسي والمكره في الحلف والحنث لقوله عليه السلام : "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين"
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{كَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيين آخر مفهوم مما سبق والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير يبين الله تبييناً كائناً مثل ذلك التبيين فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة أي مثل ذلك البيان البديع {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ} أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج.
والإشارة أن من عقداليمين على الهجران من الله تعالى فكفارته إطعامه عشرة مساكين وهم الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة فإنها مدخل الآفات ومؤئل الفترات {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وهم القلب والروح والسر والخفي وطعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضى والأنس والهيبة والشهود والكشوف وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والتشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء فإطعام الحواس الظاهرة والقوى الباطنة هذه الأطعمة باستعمالها في التعبد بها والتحفظ عما ينافيها أو كسوتهم وهي الباس الحواس والقوى بلباس التقوى أو تحرير رقبة النفس عن عبودية الهوى والحرض على الدنيا ، فمن لم يجد السبيل إلى هذه الأشياء فصيام ثلاثة أيام وذلك لأن الأيام لا تخلو عن ثلاثة إما يوم مضى أو يوم حضر أو يوم قد بقي فصيام اليوم الذي قد مضى بالإمساك عما عقد عليه أو قصد إليه أو بالصبر على التوبة
434
عنه وصيام الذي قد حضر بالإمساك عن التغافل عن الأهم وبالصبر على الجد والاجتهاد ببذل الجهد في طلب المراد وصيام اليوم الذي قد بقي بالإمساك عن فسخ العزيمة في ترك الجريمة ونسخ الإخلاص في طلب الخلاص وبالصبر على قدم الثبات في تقديم الطاعات والمبرات وصدق التوجه إلى حضرة الربوبية بمساعي العبودية :
مكن وقت ضايع فافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
قال ابن الفارض قدس سره :
(2/347)
وكن صارماً كالوقت فالمقت في عسى
وإياك علّ فهي أخطر علة
وفي "المثنوي" :
أي كه صبرت نيست از دنياي دون
ونت صبرست ازخداي دوست ون
ونكه بي اين شرب كم داري سكون
ون زابراري خدا وزيشرون
اعلم أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وجلاله أن يرزقه شظية من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضى لغو وفي مذهب التسليم سهو فيعفو عنه رحمة عليه لضعف حاله ولا يؤاخذه بمقاله وأن الأولى الذوبان والجمود بحسن الرضى بحسب جريان أحكام المولى في القبول والرد والإقبال والصدّ إيثار الاستقامة في أداء حقوقه على الكرامة وعلى لذة تقريبه وإقباله وشهوده ووصوله ووصاله كما قال قائلهم :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
أريد وصاله ويريد هجري
فاترك ما أريد لما يريد
كذا في "التأويلات النجمية".
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} هذه هي الآية الرابعة من الآيات الأربع التي نزلت في الخمر وقد سبق التفصيل في سورة البقرة ويدخل في الخمر كل مسكر {وَالْمَيْسِرُ} أي : القمار كله فيدخل فيه النرد والشطرنج والأربعة عشر والكعب والبيضة وغير ذلك مما يقامرون به {وَالانصَابُ} أي الأصنام المنصوبة للعبادة واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد {وَالازْلَـامُ} هي سهام مكتوب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي يطلبون بها علم ما قسم من الخير والشر ، قال المفسرون كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً أو غزواً أو تجارة أو غير ذلك طلب علم أنه خير أو شر من الأزلام وهي قداح كانت في الكعبة عند سدنة البيت على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي وبعضها غفل لا كتابة عليها ولا علامة فإن خرج السهم الآمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي يجتنبون عنه وإن خرج الغفل أجالوها ثانياً فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم وهي جمع زلم {رِجْسٌ} قذر يعاف عند العقول أي تكرهه وتنفر منه العقول السليمة.
والرجس بمعنى النجس إلا أن النجس يقال في المستقذر طبعاً والرجس أكثر ما يقال في المستقذر عقلاً وسميت هذه المعاصي رجساً لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشيء المستقذر {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} صفة لرجس أي رجس كائن من عمله أي من تزيينه لأنه هو الداعي إليه والمرغب فيه والمزين له في قلوب فاعليه {فَاجْتَنِبُوهُ} أي : الرجس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي : راجين فلاحكم أمر بالاجتناب وهو تركه جانباً وظاهر الأمر على الوجوب.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} وهو
435
إشارة إلى المفاسد الدنيوية ، أما العداوة في الخمر فهي أن الشاربين إذا سكروا عربدوا وتشاجروا كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل.
وأما العداوة في الميسر فهي أن الرجل كان يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال مغتاظاً على حرفائه والفرق بين العداوة والبغضاء أن كل عدو مبغض بلا عكس كلي.
وقوله تعالى في الخمر متعلق بيوقع على أن تكون كلمة في هنا لإفادة معنى السببية كما في قوله عليه السلام : "إن امرأة دخلت النار في هرة" أي : يوقع بينكم هذين الشيئين في الخمر بسبب شربها وتخصيص الخمر والميسر تنبيهاً على أنهما المقصودان بالبيان لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إليهما مع أن تعاطيهما مختص بأهل الجاهلية تأكيداً لقبح الخمر والميسر وإظهاراً لكون هذه الأربعة متقاربة في المفسدة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ} أي : يمنعكم عنهما وهو إشارة إلى المفاسد الدينية فإن شرب الخمر يورث الطرب واللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت في اللذة غفلت عن ذكر الله وعن الصلاة وكذا من يقامر بالميسر إن كان غالباً صار استغراقه في لذة الغلبة يورثه الغفلة عن العبادة وإن صار مغلوباً صار شدة اهتمامه بأن يحتال بحيلة يصير بها غالباً مانعاً من أن يخطر بباله شيء سواه وتخصيص الصلاة بالأفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} لفظه استفهام ومعناه أمر أي انتهوا وهذا نهى بألطف الوجوه ليكون أدعى إلى الانتهاء فلما سمعها عمر رضي الله عنه قال : انتهينا يا رب وحرمت الخمر في سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فيما أمرا به وهو عطف على اجتنبوه {وَاحْذَرُوا} عما نهيا عنه {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن الامتثال والطاعة {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} وقد فعل ذلك بما لا مزيدة عليه وخرج عن عهدة الرسالة أي خروج وقامت عليكم الحجة انتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقي بعد ذلك إلا العقاب.
(2/348)
اعلم أن الله تعالى قرن الخمر والميسر بالأصنام ففيه تحريم بليغ لهما ولعل قوله عليه السلام : "شارب الخمر كعابد الوثن" مستفاد من هذه الآية وفي الحديث "من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساود وسم العقارب إذا شربه تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها تفسخ لحمه كالجيفة يتأذى به أهل الموقف ومن مات قبل أن يتوب من شرب الخمر كان حقاً على الله أن يسقيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنم" وفي الحديث : "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها" وفي الحديث : "من شرب الخمر بعد أن حرمها الله على لساني فليس له أن يزوج إذا خطب ولا يصدق إذا حدث ولا يشفع إذا تشفع ولا يؤمن على أمانة فمن ائتمنه على أمانته فاستهلكها فحق على الله أن لا يخلف عليه" ، قال الحسين الواعظ الكاشفي في تفسيره :
بي نمكي دان جكر آميخته
بر جكر بي نمكان ريخته
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
بي خبر آن مردكه يزي شيد
كش قلم بي خبري دركشيد
436
والإشارة يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيماناً حقيقياً مستفاداً من كتابة الحق بقلم العناية في قلوبهم {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالانصَابُ وَالازْلَـامُ} فأما الخمر فإنها تخمر العقل وهو نور روحاني علوي من أوليات المخلوقات ومن طبعه الطاعة والإنقياد والتواضع لربه كالملك وضده الهوى وهو ظلماني نفساني سفلي من أخريات المخلوقات ومن طبعه التمرد والمخالفة والآباء والاستكبار عن عبادة ربه كالشيطان فإذا خمر الخمر نور العقل صار مغلوباً لا يهتدي إلى الحق وطريقه ثم يغلب ظلمة الهوى فتكون النفس أمارة بالسوء وتستمد من الهوى فتتبع بالهوى السفلي جميع شهواتها النفسانية ومستلذاتها الحيوانية السفلية فيظفر بها الشيطان فيوقعها في مهالك المخالفات كلها ولهذا قال عليه السلام : "الخمر أم الخبائث" لأن هذه الخبائث كلها تولدت منها ، وأما الميسر فإن فيه تهيج أكثر الصفات الذميمة وهي الحرص والبخل والكبر والغضب والعداوة والبغض والحقد والحسد وأشباهها وبها يضل العبد عن سواء السبيل ، وأما الأنصاب فهي تعبد من دون الله فهي تصير العبد مشركاً بالله ، وأما الأزلام فما يلتفت إليه عند توقع الخير والشر والنفع والضر من دون الله تعالى من المضلات فإن الله هو الضار والنافع ثم قال تعالى : {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} يعني : هذه الأشياء أخبث شيء من أعمال الشيطان التي يغوي بها العباد ويضلهم عن صراط الحق وطريق الرشاد {فَاجْتَنِبُوهُ} أي : اجتنبوا الشيطان ولا تقبلوا وساوسه واتركوا هذه الأعمال الخبيثة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تخلصون من مكايد الشيطان وخباثة هذه الأعمال كذا في "التأويلات النجمية" {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جُنَاحٌ} أي إثم وحرج {فِيمَا طَعِمُوا} أي : تناولوا أكلاً أو شرباً فيتناول شرب الخمر وأكل مال الميسر فأنزل الله تعالى هذه الآية {إِذَا مَا اتَّقَوا} أن يكون في ذلك شيء من المحرمات {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ} أي : واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{ثُمَّ اتَّقَوا} عطف على اتقوا داخل معه في حيز الشرط أي اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق {وَّءامَنُوا} أي : بتحريمه {ثُمَّ اتَّقَوا} أي : ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل على أن الشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة كل ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذٍ {وَّأَحْسَنُوا} أي : عملوا الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فلا يؤاخذهم بشيء وفيه أن من فعل ذلك صار محسناً ومن صار محسناً صارمحبوباً ومقام المحبوبية فوق جميع المراتب ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم حبيب الله وقد فسر الإحسان "بأن تعبد الله كأنك تراه" يعني : أن الإحسان مرتبة المشاهدة فإذا ترقى العبد من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الشهودي ثم فني عن كل قيد حتى عن الإطلاق فقد تم أمره وكان طعمه وشربه وتصرفه في المكونات مما لا يضره لأنه قد استوفى الشرائط كلها فلا يقاس عليه غيره ثم إن المحسن مطلقاً يتناول كل أهل ويستحق المدح والثناء :
وفي "المثنوي" :
محسنان مردندو إحسانها بماند
أي خنك آن راكه اين مركب براند
437
ظالمان مردندو ماند آن ظلمها
وأي جاني كوكند مكرودهان
كفت يغمبر خنك آنراكه او
شد زدنيا ماندازو فعل نكو
مرد محسن ليك احسانش نمرد
نزد يزدان دين وإحسان نيست خرد
وأي آن كو مرد وعصيانش نمرد
تاننداري بمرك أو جان ببرد
(2/349)
وورد في فضائل عشر ذي الحجة "أن من تصدق في هذه الأيام بصدقة على مسكين فكأنما تصدق على رسل الله وأنبيائه ومن عاد فيه مريضاً فكأنما عاد أولياء الله وبدلاءه ومن شيع جنازة فكأنما شيع جنائز شهداء بدر ومن كسا مؤمناً كساه الله تعالى من حلل الجنة ومن ألطف يتيماً أظله الله في القيامة تحت عرشه ومن حضر مجلساً من مجالس العلم فكأنما حضر مجالس أنبياء الله ورسوله" كذا في "روضة العلماء" ، قال السعدي قدس سره :
بإحساني آسوده كردن دلي
به ازالف ركعت بهر منزلي
ـ حكي ـ أنه وقع القحط في بني إسرائيل فدخل فقير سكة من السكك وكان فيها بيت غني فقال : تصدقوا علي لأجل الله فأخرجت إليه بنت الغني خبزاً حاراً فاستقبله الغني فقال : من دفع إليك هذا الخبز؟ فقال : ابنة من هذا البيت فدخل وقطع يد ابنته اليمنى فحول الله حاله فافتقر ومات فقيراً ثم إن شاباً غنياً استحسن الابنة لكونها حسناء فتزوجها وأدخلها داره فلما جن الليل أحضرت مائدة فمدت اليد اليسرى فقال الفتى : سمعت أن الفقراء يكونون قليلي الأدب فقال : مدي يدك اليمنى فمدت اليسرى ثانياً وثالثاً فهتف بالبيت هاتف اخرجي يدك اليمنى فالرب الذي أعطيت الخبز لأجله رد عليك يدك اليمنى فأخرجت يدها اليمنى بأمر الله تعالى وأكلت معه كذا في "الروضة" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
تونيكي كن بآب انداز اي شاه
اكر ما هي نداند داند الله
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} نزلت عام الحديبية في السنة السادسة من الهجرة.
والحديبية بتخفيف الياء الأخيرة وقد تشدد موضع قريب من مكة أراد عليه السلام زيارة الكعبة فسار مع أصحابه من المدينة وهم ألف وخمسمائة وأربعون رجلاً فنزلوا بالحديبية فابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم فهموا بأخذها فأنزل الله يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} يقال بلوته بلواً جربته واختبرته واللام جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف أحوالكم {بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} أي بتحريم شيء حقير هو الصيد بمعنى المصيد كضرب الأمير فمن بيانية قطعاً والمراد صيد البر مأكولاً وغير مأكول ما عدا المستثنيات من الفواسق فاللام للعهد وفي الحديث : "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور" وأراد بالكلب العقور الذئب على ما ورد في بعض الروايات {تَنَالُه أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} أي تصل إليه أيديكم ورماحكم بحيث تأخذون بأيديكم وتطعنون برماحكم فالتأكيد القسمي في ليبلونكم إنما هو لتحقيق ما وقع من أن عدم توحش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوع المبتلى به كما لو كان
438
النزول قبل الابتلاء وتنكير شيء للتحقير المؤذن بأن ذلك ليس من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك يوم السبت وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند ما هو أشد منه من المحن {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُه بِالْغَيْبِ} الخوف من الله بمعنى الخوف من عقابه وبالغيب حال من مفعول يخافه وهو عقاب الله أي ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخاف كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه فعلم الله تعالى لما كان مقتضى ذاته وامتنع عليه التجدد والتغير كما امتنع ذلك على ذاته جعل ههنا مجازاً عن تميز المعلوم وظهوره على طريق إطلاق السبب على المسبب حيث قال القاضي ذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره وأبو السعود إنما عبر عن ذلك بعلم الله اللازم له إيذاناً بمدار الجزاء ثواباً وعقاباً فإنه أدخل في حملهم على الخوف {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ} أي بعد بيان أن ما وقع ابتلاء من جهته تعالى بما ذكر من الحكمة والمعنى فمن تعرض للصيد بعدما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤدّ إلى تميز المطيع من العاصي {فَلَه عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة وعدم مبالاة بتدبير الله وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية والمراد عذاب الآخرة إن مات قبل التوبة والتعزير والكفارة في الدنيا بنزع ثيابه فيضرب ضرباً وجيعاً مفرقاً في أعضائه كلها ما خلا الوجه والرأس والفرج ويؤمر بالكفارة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
(2/350)
والإشارة في الآية أن الله تعالى جعل البلاء للولاء كاللهب للذهب فقال : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيمان المحبين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} في أثناء السلوك {بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} وهو ما سنح من المطالب النفسانية الحيوانية والمقاصد الشهوانية الدنيوية {تَنَالُه أَيْدِيكُمْ} أي : ما يتعلق بشهوات نفوسكم ولذات أيدانكم {وَرِمَاحُكُمْ} أي : ما يتعلق بالمال والجاه {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُه بِالْغَيْبِ} وهو يعلم ويرى أي ليظهر الله ويميز بترك المطالب والمقاصد في طلب الحق من يخافه بالغيبة والانقطاع عنه ويحترز عن الالتفات لغيره {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ} أي : تعلق بالمطالب بعد الطلب {فَلَه عَذَابٌ أَلِيمٌ} من الرد والصد والانقطاع عن الله كذا في "التأويلات النجمية".
قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي قدس سره رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول من عرف طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين ، يقول الفقير سمي الذبيح الحقي غفر الله ذنوبه إنما كان عذابه أشد لأنه رجع عن طريقه بعد معرفته أنه الحق الموصل إلى الله تعالى وليس من يعلم كمن لا يعلم وسبب الرجوع الامتحانات في الطريق ، قال في "المثنوي" :
قلب ون آمد سيه شد در زمان
زر در آمد شد زرىء اوعيان
دست وا انداخت زر دروته خش
در رخ آتش همي خندد رخش
قال الحافظ :
439
ترسم كزين من نبري آستين كل
كز كلشنش تحمل خاري نميكني
فينبغي للطالب الصادق أن يتحمل مشاق الرياضات ويزكي نفسه عن الشهوات ويحترز عن أكل ما يجده من الحلال فضلاً عما حرم الله الملك المتعال فإن إصلاح الطبيعة والنفس وإن كان بفضل الله وعنايته لكن الصوم وتقليل الطعام من الأسباب القوية في هذا الباب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
ـ يحكى ـ أن سالكاً خاطب نفسه بعد رياضات شديدة فقال : من أنت ومن أنا؟ فقالت له نفسه : أنت أنت وأنا أنا فاشتغل بالتزكية ثانياً حتى حج ماشياً مرات فسأل أيضاً فأجابت بما أجابت به أولاً ، فاشتغل أشد من الأول وعالج بتقليل الطعام حتى أمات نفسه فسأل من أنت فقالت : أنت أنت وأنا صرت فانية ولم يبق من وجودي أثر فاستراح بعون الله تعالى.
وسئل حضرة المولوي هل يعصي الصوفي قال : لا إلا أن يأكل طعاماً قبل الاشتهاء فإنه سم له وداء اللهم أعنا على إصلاح هذه النفس الأمارة يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} وهو عند أبي حنيفة اسم لكل ممتنع متوحش من الحيوانات سواء كان مأكول اللحم أو لم يكن والمراد ما عدا الفواسق وهي العقرب والحية والغراب والفارة والكلب العقور فإنها تقتل في الحل والحرم {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} جمع حرام وهو المحرم وإن كان في الحل وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالاً أي لابس حله فالمحرم لا يتصيد أصلاً سواء كان في الحل أو في الحرم بالسلاح أو بالجوارح من الكلاب والطير والحلال يتصيد في الحل دون الحرام أي حرم مكة ومقداره من قبل المشرق ستة أميال ومن الجانب الثاني اثنا عشر ميلاً ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلاً ومن الجانب الرابع أربعة وعشرون ميلاً هكذا قال الفقيه أبو جعفر.
وإنما ذكر القتل دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة فكل ما يقتله المحرم من الصيد لا يكون مذكي وغير المذكي لا يجوز أكله والمعنى لا تقتلوه والحال أنتم محرمون {وَمَنْ} شرطية {قَتَلَهُ} أي : الصيد المعهود البري مأكولاً كان أو غير مأكول حال كون القاتل كائناً {مِّنكُمْ} أي من المؤمنين ولعل المقصود من التقييد بالحال توبيخ المؤمن على عدم جريانه على مقتضى إيمانه {مُّتَعَمِّدًا} حال أيضاً من فاعل قتله أي ذاكراً لإحرامه عالماً بحرمة قتل ما يقتله والتقييد بالتعمد مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها الخطأ والعمد لأن الأصل فعل المتعمد والخطأ لا حق به للتغليظ {فَجَزَآءٌ} أي : فعليه جزاء وفدية {مِّثْلُ مَا قَتَلَ} أي : مماثل لما قتل فهو صفة الجزاء والمراد به عند أبي حنيفة وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة لا باعتبار الخلقة والهيئة فيتقوم الصيد حيث صيد أو في أقرب الأماكن إليه إن قتل في بر لا يباع ولا يشتري فيه فإن بلغت قيمته قيمة هدى تخير الجاني بأن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوماً كاملاً لأن الصوم مما لا يتبعض فيكون قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
(2/351)
{مِنَ النَّعَمِ} بياناً للهدي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم والنعم في اللغة من الإبل والبقر والغنم فإذا انفردت الإبل قيل إنها نعم وإذا انفردت البقر والغنم لم تسم نعماً {يَحْكُمُ بِهِ} أي : بمثل ما قتل صفة لجزاء {ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} أي رجلان عدلان من
440
المسلمين {هَدْيَا} الهدي ما يهدي إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى من النعم أيسره شاة وأوسطه بقرة وأعلاه بدنة أي ناقة وهو حال مقدرة من الضمير في به والمعنى مقدراً أنه يهدي {بَـالِغَ الْكَعْبَةِ} صفة لهديا لأن الإضافة لفظية والأصل بالغاً الكعبة ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم حتى لو دفع الهدى المماثل للمقتول إلى فقراء الحرم لم يجز بالاتفاق بل يجب عليه ذبحه في الحرم وله أن يتصدق به بعد ذبحه في الحرم حيث شاء عند أبي حنيفة {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على محل من النعم على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة ثانية الجزاء {طَعَامُ مَسَـاكِينَ} عطف بيان لكفارة عند من لا يخصصه بالمعارف {أَوْ عَدْلُ ذَالِكَ صِيَامًا} عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام أيام بعددهم فحينئذٍ تكون المماثلة وصفاً لازماً للجزاء يقدر به الهدى والطعام والصيام.
أما الأولان فبلا واسطة ، وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلاً منها بدلاً من الآخرين ، قال الفراء العدل بالكسر المثل من جنسه والعدل بالفتح المثل من غير جنسه فعدل الشيء ما عادله من جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام وصياماً تمييز للعدل والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف وللحكمين عند محمد {لِّيَذُوقَ} متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور أي فعليه جزاء ليذوق قاتل الصيد {وَبَالَ أَمْرِهِ} أي : سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال في الأصل المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سولته نفسه {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
من قتل الصيد محرماً قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم ومن شرطية {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي فهو ممن ينتقم الله منه لأن الفعل إذا وقع جزاء لا يحتاج إلى الحرف بخلاف الجملة الإسمية فقدر المبتدأ لئلا تصير الفاء الجزائية لغواً والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة وأما الكفارة فعن بعضهم أنها واجبة على العائد وعن بعضهم أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر وأصل الانتقام الانتصار والانتصاف وإذا أضيف إلى الله تعالى أريد به المعاقبة والمجازاة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب لا يغالب {ذُو انتِقَامٍ} شديد ممن أصر على العصيان والاعتداء قال الله تعالى مخاطباً لخليله (يا إبراهيم خف مني كما تخاف من السبع الضاري) يعني إن الله تعالى إذا أراد إجراء قضائه على أحد لا يفرق بين نبي وولي وعدو كما لا يفرق السبع المفترس بين نفاع وضرار فهوتعالى شديد البطش فكيف يتخلص المجرمون من يد قهره وانتقامه فليحذر العاقل من المخالفة والعصيان بقدر الاستطاعة والإمكان أينما كان فإن الإنسان لا يحصد إلا ما يزرع ، قال في "المثنوي" :
جمله دانند اين اكر تونكروي
هره مي كاريش روزي بدروي
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
والعجب أن الإنسان الضعيف كيف يعصي الله القوي وليس إلا من الانهماك في الشهوات والغفلة عن الله تعالى والنكتة في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أنه أباح الصيد لمن كان حلالاً وهم أهل السلو من العوام الذين رضوا من الكمالات الدينية بالأعمال البدنية من قصور هممهم الدنية وحرم الصيد على من كان حراماً وهم أهل
441
(2/352)
المحبة المحرمون من الدنيا لزيارة كعبة الوصلة يعني من قصدنا فعليه بحسم الاطماع جملة ولا ينبغي أن يكون له مطالبة بحال من الأحوال إلا طلب الوصال ويقال العارف صيد الحق ولا يكون للصيد صيد {وَمَن قَتَلَه مِنكُم} أي من الطلاب إذا التفت لشيء من الدنيا {مُّتَعَمِّدًا} وهو واقف على مضرته وعالم بما فيه فيغلب عليه الهوى ويقع فيه بحرص النفس {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} يجازي نفسه برياضة ومجاهدة ويماثل ألمها تلك اللذة والشهوة {يَحْكُمُ بِه ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} وهو القلب والروح يحكمان على مقدار الإيمان وعلى أنواع الرياضات بتقليل الطعام والشراب أو ببذل المال أو بترك الجام أو بالعذلة والخلوة وضبط الحواس {هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ} أي خالصاًتعالى فيما يعمل بحيث يصلح لقبول الحق من غير ملاحظة الخلق {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـاكِينَ} وهم العقل والقلب والسر والروح والخفي فإنهم كانوا محرمين من أغذيتهم الروحانية من صدق التوجه إلى الحق وخلوص الاعراض عن الخلق وتجرع الصبر على المكروهات والفطام عن المألوفات والشكر على الموهوبات والرضى بالمقدرات والتسليم للأحكام الأزليات {أَوْ عَدْلُ ذَالِكَ صِيَامًا} والصيام هو الإمساك عن ملاحظة الأغيار وطلب الاختيار والركون إلى غير الملك الجبار {لِّيَذُوقَ} النفس الأمارة {وَبَالَ أَمْرِهِ} أي : تتألم بألم هذه المعاملات التي على خلاف طبعها جزاء وكفارة لما نالت من لذائذ الشهوات وحلاوة الغفلات {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} من الطالبين قبل إقدامهم على الطلب {وَمَنْ عَادَ} إلى تعلق شيء من الدنيا بعد الخروج عنها بقدم الصدق {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} بالخذلان في الدنيا والخسران في العقبى {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} لا يوجد لمن تعلق بالكونين حتى يتجرد الطالب عن القليل والكثير والصغير والكبير {ذُو انتِقَامٍ} ينتقم من أحبائه باحتجاب التعزز بالكبرياء والعظمة على قدر التفاتهم إلى غيره وملاحظتهم ما سواه وينتقم من أعدائه بما قاله {وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ وَأَبْصَـارَهُمْ} (الأنعام : 110) الآية من "التأويلات النجمية" وفي "المثنوي" :
[
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
عاشق صنع توام درشكر وصبر
عاشق مصنوع كي باشم وكبر
عاشق صنع خدا بافر بود
عاشق مصنوع او كافر بود
فعلى الطالب الصادق أن ينقطع عن الالتفات إلى الغير ويتصل إلى من بيده الخير والله الموفق والمعين.
{أُحِلَّ لَكُمُ} الخطاب للمحرمين {صَيْدُ الْبَحْرِ} أي : ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً أو غديراً وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً كان أو غير مأكول ، فما يعيش في البر كالبط والضفدع والسرطان والسلحفاة وجميع طيور الماء لا يسمى صيد البحر بل ذلك صيد البر ويجب الجزاء على قاتله.
قال الإمام جميع ما يصطاد في البحر ثلاثة أجناس : السمك وجميع أنواعه حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، واختلفوا فيما سوى هذين الجنسين.
فقال أبو حنيفة : أنه حرام ، وقال الأكثرون إنه حلال لعموم هذه الآية وقال محيى السنة جملة حيوانات الماء على قسمين سمك وغيره.
أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها قال النبي عليه الصلاة والسلام : "أحلت لنا ميتتان
442
السمك والجراد" ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب وعند أبي حنيفة يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك.
وأما غير السمك فقسمان قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ولا يحل أكله وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح فاختلف فيه فذهب قوم إلى أن لا يحل شيء منها إلا السمك وهو قول أبي حنيفة وذهب قوم إلى أن ميتة الكل حلال لأن كلها سمك وإن اختلف صورها كالجريت يقال له حية الماء لكونه على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق {وَطَعَامُهُ} أي : طعام البحر وهو ما قذفه البحر ولفظه أو نضب عنه الماء أي غار وبقي هو في أرض يابسة فيؤخذ من غير معالجة في أخذه.
وقال المولى أبو السعود : وطعامه أي : ما يطعم من صيده وهو تخصيص بعد التعميم والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به انتهى {مَتَـاعًا لَّكُمْ} نصب على أنه مفعول له.
قال المولى أبو السعود مختص بالطعام كما أن نافلة في قوله تعالى : {وَوَهَبْنَا لَه إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} (الأنبياء : 72) حال مختصة بيعقوب أي : أحل لكم طعامه تمتعاً للمقيمين يأكلونه طرياً {وَلِلسَّيَّارَةِ} منكم يتزودونه قديداً
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
(2/353)
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} ما مصدرية ظرفية أي : مدة دوامكم محرمين لا خلاف في الاصطياد أنه حرام على المحرم في البر فأما عين الصيد فظاهر الآية يوجب حرمة ما صاد الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه لكن مذهب أبي حنيفة أنه يحل له ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يشر إليه ولم يدل عليه وكذا ما ذبحه قبل إحرامه لأن الخطاب للمحرمين وكأنه قيل حرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما نهاكم عنه من جميع المعاصي التي من حملتها أخذ الصيد في الإحرام {الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إليه كما قال تعالى : {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (القيامة : 30) أي : المنتهى والمرجع بسوق الملائكة إلى حيث أمرهم الله إما إلى الجنة وإما إلى السعير وفي الحديث "من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من عذاب جهنم كف نفسه عن المحرمات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات" ومن أراد سهولة الموت فليبادر إلى الخيرات فمن لم يترك شهوة لم يرض عنه ربه بطاعته ومن لم يتق الله في سره لم ينتفع بما أبداه من علامة التقوى ، وفي "المثنوي" :
كافرم من كرزيان كردست كس
درره ايمان وطاعت يكنفسكار تقوى دارد ودين وصلاح
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
كه بدان باشد بد وعالم فلاح والإشارة في الآية {أُحِلَّ لَكُمُ} أيها المستغرقون في بحر الحقائق {صَيْدُ الْبَحْرِ} ما تصيدون من بحر المعرفة بالمشاهدات والكشوف {وَطَعَامُه مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني تشبعون بما يرد عليكم من وارد الحق وتجلي الصفات كما قال عليه السلام : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وتطعمون منه السائرين إلى الله من أهل الإرادة كقوله تعالى : {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآاـاِسَ الْفَقِيرَ} (الحج : 28) وهذا حال المشايخ وأهل التربية من العلماء الراسخين {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
443
ايها الطلاب {صَيْدُ الْبَرِّ} وهو ما سنح فى اثناء السير الى الله من مطالب الدنيا والآخرة كما قال عليه السلام الدنيا حرام على اهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وكلتاهما حرامان على اهل الله {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} اى ما دمتم محرمين الى كعبة الوصول متوجهين الى حضرة الوصال فان حكم المتوجه ينافى حكم الواصل الكامل لان من وصل صار محوا والمتوجه صاح وبون بين الصاحى والماحى فان افعال الصاحى به ومنه واحوال الماحى ليست به ولا منه والله غالب على امره فبى يسمع وبى ينطق وبى يبطش ولهذا قال تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} اى اذا فرغتم من مناسك الوصول وسلكتم مسالك الاصول سقط عنكم كلف المحرمين ومؤونات المسافرين وثبت لكم لزوم العاكفين واحكام الطائفين كما قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يعنى اتقوا بالله الذى اليه تجمعون وتصلون عما سواه لكيلا تحوروا بعدما تكوروا نعوذ بالله من الحور بعد الكور كذا فى التأويلات النجمية المسماة ببحر الحقائق اللهم افض علينا من بركات اوليائك وادر علينا من كاسات احبائك واودائك
جزء : 2 رقم الصفحة : 421(2/354)
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} اى صيرها وانما سمى البيت كعبة لتكعبه اى لتربعه والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة تشبيها له بكعب الرجل الذى عند ملتقى الساق والقدم فى كونه على هيئته فى التربيع.
وقيل سميت كعبة لارتفاعها عن الارض واصلها من الخروج والارتفاع وسمى الكعب كعبا لنتوه وخروجه من جانبى القدم ومنه قيل للجارية اذا قاربت البلوغ وخرج ثدياها كاعب والكعبة لما ارتفع ذكرها فى الدنيا واشتهر امرها فى العالم سميت بهذا الاسم ولذلك انهم يقولون لمن عظم قدره وارتفع شأنه فلان علا كعبهقال صاحب اسئلة الحكم جعل الله لبيته العتيق اربعة اركان وهى فى الحقيقة ثلاثة اركان لانه شكل مكعب ولذلك سميت بالكعبة تشبيها بالكعب فسرّ كونه على اربعة اركان بالوضع الحادث اشارة الى قلوب المؤمنين لان قلب المؤمن لا يخلو من اربعة خواطر آلهى وملكى ونفسانى وشيطانى فركن الحجر بمنزلة الخاطر الالهى واليمانى بمنزلة الملكى والشامى بمنزلة النفسانى والركن العراقى بمنزلة الشيطانى لان الشرع شرع ان يقال عنده اعوذ بالله من الشقاق والنفاق وبالذكر المشروع تعرف مراتب الاركانواما سر كونه مثلث الشكل المكعب فاشارة الى قلوب الانبياء عليهم السلام ليميز الله رسله وانبياءه بالعصمة التى اعطاهم والبسهم اياها فليس لنبى الا ثلاثة خواطر الهى وملكى ونفسى ولغيرهم هذه وزيادة الخاطر الشيطانى فمنهم من ظهر حكمه عليه فى الظاهر وهم عامة الخلق ومنهم من يخطر له ولا يؤثر فى ظاهره وهم المحفوظون من اوليائه بالعصمة الوجوبية للانبياء والحفظ الجوازى للاولياء {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة كذلك وسمى البيت الحرام لان الله تعالى حرمه وعظم حرمته فالحرام بمعنى المحرم وفى الحديث ان الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والارض قال بان ملك اعلم ان مكة شرفها الله حرمها ابراهيم عليه السلام لما صح عن النبى عليه الصلاة والسلام انه قال ان ابراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة وما روى انه عليه السلام قال ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات فالمراد به كتابته فى اللوح المحفوظ ان ابراهيم سيحرمه انتهى كلامهيقول الفقير ان حرمته العرضية وان كانت حادثة لكن حرمته الذاتية
444
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
قديمة وتلك الكتابة من الحرمة الذاتية عند الحقيقة.
وقد جاء في بعض التفاسير في قوله تعالى {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11) أنه لم يجبه بهذه المقالة من الأرض إلا أرض الحرم فلذلك حرمها فصارت حرمتها كحرمة المؤمن إنما حرم دمه وعرضه وما له بطاعته لربه فارض الحرم لما قالت أتينا طائعين حرم صيدها وشجرها وخلاها فلا حرمة إلا لذي طاعة وفي الخبر : لم يأكل الحيتان الكبار صغارها في أرض الحرم في الطوفان لحرمتها.
{قِيَـامًا لِّلنَّاسِ} مفعول ثان للجعل ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدار لقيام أمر دينهم ودنياهم.
أما الأول فلأنه يتوجه إليه الحجاج والعمار فيكون ما في البيت من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة سبباً لحط الخطيآت وارتفاع الدرجات ونيل الكرامات.
وأما الثاني فلأنه يجبي إلى الحرم ثمرات كل شيء يربح فيه التجار وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ولا يتعرض لهم أحد بسوء في الحرم حتى أن الرجل إذا أصاب ذنباً في الجاهلية والإسلام أو قتل قتيلاً لجأ إلى الحرم ويأمن فيه ، قال المحيى في فتوح الحرمين مدحاً لحضرة الكعبة :
هي نبي هي ولي هم نبود
كه اونه برين دررخ اميد سود
هادىء ره نيست بجز لطف دوست
آمدنت را طلب از نزد اوست
تا نزند سر ز من نو كلي
نغمه سراً يى نكند بلبلي
(2/355)
{وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي : وجعل الشهر الحرام الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة قياماً لهم أيضاً فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر ووجه كون الشهر الحرام سبباً لقيام الناس أن العرب كان يتعرض بعضهم لبعض بالقتل والغارة في سائر الأشهر فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على سفر الحج والتجارات آمنين على أنفسهم وأموالهم فكان سبباً لاكتساب منافع الدين والدنيا ومصالح المعاش والمعاد ، وقد فضل الله الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب إلى إدراكها واحترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق في فضائلها.
قال الإمام النيسابوري عشر ذي الحجة أفضل الأيام وأحبها عند الله تعالى بعد شهر رمضان لأنها هي التي ناجى فيها كليم الله موسى ربه وفيها أحرم جميع الخلق بالحج ووجد آدم التوبة في أيام العشر وإسماعيل الفداء وهود النجاة ونوح الانجاء ومحمد الرسالة وأصحابه الرضوان في البيعة وبشارة خيبر وفتح الحديبية ونزول المغفرة بقوله تعالى : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح : 2) وغير ذلك من الآيات والكرامات وصيام يوم من العشر كصيام ألف يوم وقيام ليلة منها كعبادة من حج واعتمر طول سنته فصوم هذا العشر مستحب استحباباً شديداً لا سيما التاسع وهو يوم عرفة لكن يستحب الفطر يوم عرفة للحجاج لئلا يلحقهم فتور عن أداء الطاعات المشروعة في ذلك اليوم ويؤدوها على الحضور والكمال وفي الحديث "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" {وَالْهَدْىَ} أي : وجعل الهدي أيضاً قياماً لهم وهو ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه بين الفقراء فإنه نسك المهدي وقوام لمعيشة الفقراء فكان سبباً لقيام أمر الدين والدنيا ، يقول الفقير :
445
ومنه يعرف أن المقصود من القربان دفع حاجة الفقراء ولذا يستحب للمضحي أن يتصدق بأكثر أضحيته بل بكلها :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
هر كسى از همت والاي خويش
سود برد اودر خور كالاي خويش
وللحجاج يوم عيد القربان مناسك الذهاب من منى إلى المسجد الحرام فلغيرهم الذهاب إلى المصلى موافقة لهم والطواف فلغيرهم صلاة العيد لقوله عليه السلام : "الطواف بالبيت صلاة" وإقامة السنن من الحلق وقص الأظفار ونحوها فلغيرهم إزالة البدعة وإقامة السنة والقربان فلغيرهم أيضاً ذلك ولكن ليس كل مال يصلح لخزانة الرب ولا كل قلب يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب ، وفي "المثنوي" :
آن تو كل كو خليلان ترا
تا نبرد تيغت اسماعيل را
آن كرامت ون كليمت ازكجا
تاكنى شهراه قعر نيل را
{وَالْقَلَائدَ} أي : وجعل الله القلائد أيضاً قياماً للناس وهي جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له بركوب أو حمل والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن وهي الناقة والبقرة مما يجوز في الهدي والأضاحي وخصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاء الحج بها أظهر ولذا ضحى عمر رضي الله عنه بنجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار لقوله تعالى : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج : 32) ووجه كون القلائد سبباً لقيام الناس أن من قلد هدياً لم يتعرض له أحد وربما كانوا يقلدون رواحلهم إذا رجعوا من مكة من لحاء شجر الحرم فيأمنون بذلك وكان أهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدي والقلائد فلا يتعرض له تعظيماً له {ذَالِكَ} إشارة إلى الجعل منصوب بفعل مقدر أي : شرع الله ذلك وبين {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الأولوية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وعلى عدم خروج شيء من علمه المحيط {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} تعميم بعد تخصيص للتأكيد {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وعيد لمن انتهك محارمه وآصر على ذلك{وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو انقطع عن الانتهاك بعد تعاطيه {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ} أي : تبليغ الرسالة في أمر الثواب والعقاب وهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي : الرسول قد أتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي : ما تظهرون من القول والعمل وما تخفون فيؤاخذكم بذلك نقيراً وقطميراً ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه نهان ويدا بنزدش يكيست(2/356)
والإشارة في الآية أن الله تعالى كما جعل الكعبة في الظاهر قياماً للعوام والخواص يلوذون به ويستنجحون بالتضرع والابتهال هناك حاجاتهم الدنيوية والأخروية كذلك جعل كعبة القلب في الباطن قياماً للخواص وخواص الخواص ليلوذوا به بطريق دوام الذكر ونفي الخواطر بالكلية وإثبات
446
الحق بالربوبية والواحدية بأن لا موجود إلا هو ولا وجود إلا له ولا مطلوب ولا محبوب إلا هو وسماه البيت الحرام ليعلم أنه بيت الله على الحقيقة وحرام أن يسكن فيه غيره فيراقبه عن ذكر ما سوى الحق وحبه وطلبه إلى أن يفتح الله أبواب فضله ورحمته والشهر الحرام هو أيام الطلب والسير إلى الله حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق والهدى هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع القلائد وهي أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ولذاتها الحيوانية وفي قوله تعالى : {ذَالِكَ لِتَعْلَمُوا} الآية إشارة إلى أن العبد إذا وصل إلى كعبة القلب فيرى بيت الله ويشاهد أنوار الجمال والجلال فبتلك الأنوار يشاهد ما في السموات وما في الأرض لأنه ينظر بنور الله فيعلم على التحقيق {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} يسدل الحجاب لغير الأحباب ممن ركنوا إلى الدنيا واغتروا بزينتها وشهواتها {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لطالبيه وقاصدي حضرته بفتح الأبواب ورفع الحجاب {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ} بالقال والحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من الإيمان بأقدار اللسان وعمل الأركان {وَمَا تَكْتُمُونَ} من تصديق الجنان أو التكذيب وصدق التوجه وخلوص النية في طلب الحق كذافي "التأويلات النجمية" {قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم وقد أتى المدينة في السنة السابقة واستاق سرح المدينة فخرج في العام القابل وهو عام عمرة القضاء حاجاً فبلغ ذلك أصحاب السرح فقالوا للنبي عليه السلام هذا الحطيم خرج حاجاً مع حجاج اليمامة فخل بيننا وبينه فقال عليه السلام : "إنه قلد الهدي" ولم يأذن لهم في ذلك بسبب استحقاقهم الأمن بتقليد الهدايا فنزلت الآية تصديقاً له عليه السلام في نهيه إياهم عن تعرض الحجاج وإن كانوا مشركين وقد مضت هذه القصة في أول السورة عند قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللَّهِ} الآية وبقي حكم هذه الآية إلى أن نزلت سورة البراءة فنسخ بنزولها لأنه قد كان فيها {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا} (التوبة : 28) وفيها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 5) فنسخ حكم الهدي والقلائد والشهر الحرام والإحرام وأمنهم بها بدون الإسلام وسبب النزول وإن كان خاصاً لكن حكمه عام في نفي المساواة عند الله بين الدري وبين الجيد ففيه ترغيب في الجيد وتحذير على الدري ويتناول الخبيث والطيب أموراً كثيرة : منها الحرام والحلال فمثقال حبة من الحلال أرجح عند الله من ملىء الدنيا من الحرام لأن الحرام خبيث مردود والحلال طيب مقبول فهما لا يستويان أبداً كما أن طالبهما كذلك إذ طالب الخبيث خبيث وطالب الطيب طيب والله تعالى يسوق الطيب إلى الطيب كما أنه يسوق الخبيث إلى الخبيث كما قال : {الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـاتِا وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـاتِ} (النور : 26) والطيب عند سادات الصوفية قدس الله أسرارهم ما كان بلا فكر وحركة نفسانية سواء سيق من طرف صالح أو فاسق لأنه رزق من حيث لا يحتسب وهو مقبول وخلافه مردود ولا بعد في هذا لأن حسنات الأبرار سيآت المقربين وبينهما بون بعيد وأيضاً الخبيث من الأموال ما لم يخرج منها حق الله والطيب ما أخرجت منه
447
الحقوق والخبيث ما أنفق في وجوه الفساد والطيب ما أنفق في وجوه الطاعات والطيب من الأموال ما وافق نفع الفقراء في أوقات الضرورات والخبيث ما دخل عليهم في وقت استغنائهم فاشتغلت خواطرهم بها.
ومنها المؤمن والكافر والعادل والفاسق فالمؤمن كالعسل والكافر كالسم والعادل كشجرة الثمرة والفاسق كشجرة الشوك فلا يستويان على كل حال.
ومنها الأخلاق الطيبة والأخلاق الخبيثة فمثل التواضع والقناعة والتسليم والشكر مقبول ومثل الكبر والحرص والجزع والكفران مردود لأن الأول من صفات الروح والثاني من صفات النفس والروح طيب علوي والنفس خلافه ، وفي "المثنوي" :
هين مرواندر ي نفسي وزاغ
كو بكورستان برد نه سوى باغنفس اكره زيركست وخرده دان
(2/357)
قبله اش دنياست اورامرده دان ومن أخلاق النفس حب المال والكبار قد عدوا المال الطيب حجاباً فما ظنك بالخبيث منه فلا بد من تصفية الباطن وتخليته عن حب ما سوى الله تعالى.
ومنها العلوم النافعة والعلوم الغير النافعة فالنافعة كعلوم الشريعة وغير النافعة كعلوم الفلاسفة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
علم دين فقهست وتفسير وحديث
هركه خواند غير ازين كردد خبيث ومنها الأعمال الصالحة والأعمال الغير الصالحة فما أريد به وجه الله تعالى فهو صالح وما أريد به الرياء والسمعة فهو غير صالح :
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
قال في "التأويلات النجمية" الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله.
وأيضاً الطيب هو الله الواحد والخبيث ما سواه وفيه كثرة {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} الواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر أي : لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبتك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل لا يستوي أي : لا يستويان كائنين على كل حال مفروض وجواب لو محذوف والمعنى والتقدير أن الخبيث ولو أعجبتك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيث كان أخبث ومعنى الإعجاب السرور بما يتعجب منه يقال : يعجبني أمر كذا أي : يسرني والخطاب في أعجبك لكل واحد من الذين أمر النبي عليه السلام بخطابهم {فَاتَّقُوا اللَّهَ} في تحري الخبيث وإن كثروا وآثروا الطيب وإن قل يا اأُوْلِى الالْبَـابِ} يا ذوي العقول الصافية وهم في الحقيقة من تخلصت قلوبهم وأرواحهم من قشور الأبدان والنفوس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح وهو سعادة الآخرة ، ثم إن التقوى على مراتب ، قال ابن عطاء : التقوي في الظاهر مخالفة الحدود وفي الباطن النية والإخلاص وقال في قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران : 102) وهو صدق قولك لا إله إلا الله وليس في قلبك شيء سواه ، ومن وصايا حضرة المولوي قبيل وفاته (أوصيكم بتقوى الله في السر والعلانية وبقلة الطعام وقلة المنام وقلة الكلام وهجر المعاصي والآثام وترك الشهوات على الدوام واحتمال الجفاء من جميع الأنام وترك مجالسة السفهاء والعوام ودوام مصاحبة الصالحين الكرام فإن خير الناس من ينفع الناس وخير الكلام ما قل
448
ودل).
واعلم أن النافع هو التقوى والسبب المنجي هو الإيمان والعمل الصالح دون الحسب والنسب فلا يغرنك الشيطان بكثرة أموالك وأولادك ووفرة مفاخر آبائك وأجدادك فأصل البول الماء الطيب والصافي والله تعالى يخرج الميت من الحي يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْـاَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ} .
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/358)
ـ روي ـ أنه لما نزلت {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قال سراقة بن مالك أكل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أعاد ثلاثاً فقال : "لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإن أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فنزلت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلا أجبت فقال رجل : أين أبي فقال : "في النار" وقال آخر من أبي فقال : "حذاقة" وكان يدعي لغيره فنزلت {إِن تُبْدَ لَكُمْ} الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمساءة معلقة بالإبداء والإبداء معلق بالسؤال.
فالمعنى لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكن وإن تظهر لكم تغمكم والعاقل لا يفعل ما يغمه.
قال البغوي : فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يأمر به في كل عام فيسوءه ومن سأل عن نسبه لم يؤمن أن يلحقه بغيره فيفتضح {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أي : عفا الله عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي : مبالغ في مغفرة الذنوب والأغضاء عن المعاصي ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم فالجملة اعتراض تذييلي مقرر لعفوه تعالى {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} أي : سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم التصريح بالمثل للبالغة في التحذير {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق بسألها {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا} أي : بسببها {كَـافِرِينَ} فإن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء فإذا أمروا تركوها فهلكوا كما سأل قوم ثمود صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى مائدة ، قال أبو ثعلبة : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
قال الحسين الواعظ الكاشفي في تفسيره : (س نيكبخت آنست كه از حال ديكران عبرت كيرد بقول وفعل فضولي اشتغال ننمايد ودرين باب كفته اند) :
بكوى آنه كفتن ضرورت شود
دكر كفته هارا فروبنددر
بجاي آر فعلى كه لازم بود
زافعال بي حاصل اندر كذر
وكان رجل يحضر مجلس أبي يوسف كثيراً ويطيل السكوت فقال له يوماً مالك لا تتكلم ولا تسأل عن مسألة قال : أخبرني أيها القاضي متى يفطر الصائم؟ قال إذا غابت الشمس قال : فإن لم تغب إلى نصف الليل فتبسم وتمثل ببيت جرير :
449
وفي الصمت زين للخلي وإنما
صحيفة لب المرء أن يتكلما
وفي الحديث : "عجبت من بني آدم وملكاه على نابيه فلسانه قلمهما وريقه مدادهما كيف يتكلم فيما لا يعنيه".
والإشارة في الآيتين أن الله تعالى نهى أهل الإيمان أن يتعلموا العلوم اللدنية وحقائق الأشياء بطريق السؤال لأنها ليست من علوم القال وإنما هي من علوم الحال فقال : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ} أي : عن حقائق أشياء {إِن تُبْدَ لَكُمْ} بيانها بطريق القال {تَسُؤْكُمْ} إذا لم تهتدوا إلى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المشوبة بآفات الهوى والوهم والخيال في الشبهات فتتهالكوا في أوديتها كما كان حال طوائف الفلاسفة إذ طلبوا علوم حقائق الأشياء بطريق القال والبراهين المعقولة فما كانت منها مندرجة تحت نظر العقول المجردة عن شوائب الوهم والخيال أصابوها وما ضاق نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث عن الصراط المستقيم وأوقعهم في أودية الشبهات وبوادي الهلكات فهلكوا وأهلكوا خلقاً عظيماً بتصانيفهم في العلوم الإلهية وبعضهم خلطوها بعلم الأصول وقرروا شبهاتهم فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وما علموا أن تعلم علوم الحقائق بالقال محال وأن تعلمها إنما يحصل بالحال كما كان حال الأنبياء مع الله فقد علمهم علوم الحقائق بالإراءة لا بالرواية فقال تعالى : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 75) وقال في حق النبي عليه السلام : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ} (الإسراء : 1) وقال : {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وقال عليه السلام : "أرنا الأشياء كما هي" وكما كان حال الأمة مع النبي عليه السلام كان يعلمهم الكتاب بالقال والحكمة بالحال بطريق الصحة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس وأخلاقها كقوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/359)
{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران : 164) وقال تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحة على موائد المتابعة {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) ثم قال : {وَإِن تَسْـاَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ} أي : وإن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق الأشياء فاسألوا عنها بعد نزول القرآن أي : من القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم.
أما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فإنها بيان حقائق الأشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بقولهم طلباً للتأويل فإنه لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم وهم الخواص.
وأما أخص الخواص فيفهمون مما يشير القرآن إليه من حقائق الأشياء بالرموز والإشارات والمتشابهات ما لا يفهم غيرهم كما أشار بقصة موسى والخضر إلى أن تعلم العلم اللدني إنما يكون بالحال في الصحة والمتابعة والتسليم وترك الاعتراض على الصاحب المعلم لا بالقال ولا بالسؤال لقوله تعالى : {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} (الكهف : 66 ـ 67) يعني في المتابعة وترك الاعتراض.
{قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلا تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ} (الكهف : 69 ـ 70) يعني إن من شرط المتابعة ترك السؤال عن أفعال المعلم وغيرها فلما لم يستطع موسى معه صبراً ليتعلم بالحال وفتح باب القال والسؤال فقال : أخرقتها لتغرق أهلها أقتلت نفساً زكية فما واساه الخضر وقال : {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} (الكهف : 75) يعني : موسى
450
{إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى} (الكهف : 76) يشير إلى أن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال والسؤال وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة فافهم جداً فلما عاد إلى الثالثة إلى السؤال وقال : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} (
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
الكهف : 77) ثم قال : {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي : عما سألتم وطلبتم من علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تاب ورجع إلى الله في طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال {حَلِيمٌ} لمن يطلب بالحال يحلم عنهم في أثناء ما يصدر منهم مما ينافي أمر الطلب إلى أن يوفقهم لما يوافق الطلب ثم قال : {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} يعني من مقدمي الفلاسفة فقد شرعوا في طلب العلوم الإلهية بالقال ونظر العقل فوقعوا في أودية الشبهات {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَـافِرِينَ} أي : بسبب الشبهات التي وقعوا فيها بتتبع القيل والقال وكثرة السؤال وترك متابعة الأنبياء عليهم السلام كذا في "التأويلات النجمية" {مَا جَعَلَ اللَّهُ} هو الجعل التشريعي ويتعدى إلى واحد أي : ما شرع وما وضع وما سن {مَنْ} مزيدة لتأكيد النفي {بَحِيرَةٍ} كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي : شقوا وحرموا ركوبها ودرها ولا تطرد عن ماء ولا مرعى فهي فعيلة من البحر وهو الشق بمعنى المفعولة {وَلا سَآاـاِبَةٍ} كان الرجل منهم يقول إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها فهي فاعلة من قولهم ساب الماء يسيب سيباً إذا جرى على وجه الأرض ويقال أيضاً سابت الحية فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب حيث شاءت {وَلا وَصِيلَةٍ} كانوا إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر من أجل الأنثى فلا يذبح لآلهتهم.
فمعنى الآية ما جعل الله أنثى تحلل ذكراً محرماً عند الانفراد فهي فعيلة بمعنى فاعلة {وَلا حَامٍ} كانوا إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فهو اسم فاعل من حمى يحمي أي : منع يقال حماه يحميه إذا حفظه {وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي : يكذبون عمداً حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحي الخزاعي فإنه كان أقدم من ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
(2/360)
ـ روي ـ أنه عليه السلام قال في حقه : "رأيت عمرو بن لحى الخزاعي يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه" والقصب المعي هذا شأن رؤسائهم وكبارهم {وَأَكْثَرُهُمْ} وهم أراذلهم الذين يوقعونهم في معاصي رسول الله صلى الله عليه وسلّم {لا يَعْقِلُونَ} أنه اقتراء باطل حتى يخالفون ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقون في أسر التقليد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي : للأكثر على سبيل الهداية والإرشاد.
{تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من الكتاب المبين للحلال والحرام {وَإِلَى الرَّسُولِ} الذي أنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ} بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال.
وحسبنا مبتدأ وما وجدنا خبره وهو في الأصل مصدر والمراد
451
به اسم الفاعل أي : كافينا الذي وجدنا عليه آباءنا.
{أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَلا يَهْتَدُونَ} الواو للعطف على شرطية أخرى مقدرة قبلها والتقدير أيحسبهم ذلك أي أيكفيهم وجدان آبائهم على هذا المقال أو أيقولون هذا القول ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب والمعنى أن الاقتداء إنما يكون بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة.
قال الحسين الواعظ في تفسيره : (يعني ايشان جاهل وكمراه بودند تقليد إيشان نافع نيست بلكه تقليد عالم مي بايد تاكار بتحقيق آنجامد) قال جلال الدين رومي قدس سره في الثثنوي :
از مقلد تا محقق فرقها ست
اين يكي كوهست وإن ديكر صداستدست در بينا زنى آيى براه
دست در كوري زنى افتى باه قال الشيخ علي دده في "أسئلة الحكم" : أما ما ورد في الأحاديث النبوية في حق الدجاجلة وظهورها بين الأمة فلا شك عند أهل العلم أن الدجاجلة هم الأئمة المضلون لا سيما من متصوفة الزمان أو متشيخيهم وقد شاهدناهم في عصرنا هذا قاتلهم الله حيثما كانوا انتهى.
قال بعضهم قلت لمتشبه بالصوفية ظاهراً بعني جبتك لما علم من أحواله فقال : إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يتصيد :
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا در تواني فروخت
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
بنزديك من شبرو راهزن
به از فاسق يا رسا ويرهن
والإشارة أن الشيطان كلما سلط على قوم أغراهم على التصرف في إنعام أجسامهم ونفوسهم مبتدعين غير متبعين وهم يزعمون أن هذه التصرفاتوفي الله وفي قوله {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنا بَحِيرَةٍ} إشارة إلى من يتصرف بما لم يؤمر به كمن يشق أذنه أو يثقبها ويجعل فيها الحلقة من الحديد أو يثقب صدره أو ذكره ويجعل عليه القفل أو يجعل في عنقه الغل أو يحلق لحيته مثل ما يفعل هؤلاء القلندرية قال الحافظ قدس سره :
قلندري نه بريشست وموي يا ابرو
حساب راه قلندر بدانكه موى بموست
كذشتن از سرمو در قلندري سهلست
و حافظ آنكه زسر بكذر قلندراوست
{وَلا سَآاـاِبَةٍ} وهم الذين يدورون في البلاد مسيبين خليعي العذار يرتعون في مراتع البهيمية والحيوانية بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة وهم يدعون أنهم أهل الحق قد لعب الشيطان بهم فاتخذوا إلههم هواهم {وَلا وَصِيلَةٍ} وهم الذين يبيحون المحرمات ويستحلون الحرمات ويتصلون بالأجانب من طريق الأخوة والأبوة والزنادقة فيغتر به ويظن أنه بلغ مقام الوحدة وأنه محمي عن النقصان بكل حال ولا يضره مخالفات الشريعة إذ هو بلغ مقام الحقيقة فهذا كله من وساوس الشيطان وهواجس النفس ما أمر الله بشيء من ذلك ولا رخص لأحد فيه فهؤلاء الذين وضعوا هذه الطريقة وابتدعوها لا يعلمون شيئاً من الشريعة والطريقة ولا يهتدون إلى الحقيقة فإنهم أهل الطبيعة وأرباب الخديعة ولقد شاعت في الآفاق فتنهم وكملت فيهم غرتهم ومالهم من دافع ولا مانع ولا وازع على أن الخرق قد اتسع على الراقع :
أرى ألف بأن لا يقوم بهادم
فكيف ببان خلفه ألف هادم
452
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي : الزموا إصلاح أنفسكم وحفظها مما يوجب سخط الله وعذاب الآخرة {لا يَضُرُّكُم} ضلال {مَّن ضَلَّ} بالفارسي (زياني نرساند شمارا بي راهيء آنكس كه كمراه شد) {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إذا كنتم مهتدين.
والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم وفيهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعوون عنه بالأمر والنهي {إِلَى اللَّهِ} لا لأحد سواه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم يوم القيامة {جَمِيعًا} الضلال والمهتدي {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من أعمال الهداية والضلال أي : فيجازيكم على ذلك فهو وعد ووعيد للفريقين المهتدين والضالين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره ولا يتوهّمنّ أن في الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر على المنكر حسب الطاقة :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
(2/361)
اكر بيني كه نابينا واهست
اكر خاموش بنشيني كناهست
وفي الحديث "من رأى منكم منكراً إن استطاع أن يغيره فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وقد روي أن الصديق قال يوماً على المنبر يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإنما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمهم الله بعقاب" فامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقوله الله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ} الآية فيقول أحدكم عليّ نفسي والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعن خياركم فلا يستجاب لهم.
ولو قيل لرجل لم لا تأمر بالمعروف قال : (مراه كارست) أو قيل لرجل (فلا نرا أمر معروف كن) فقال : (مرا اوه كرده است) أو قال : (من عافيت كزيده أم) أو قال : (مرا با اين فضولي ه كار) يخاف عليه الكفر في هذه الصور ، قال المولوي قدس سره :
توز كفتار تعالوا كم مكن
كيمياي بس شكر فست اين سخن
كرمسي كردد ز كفتارت نفير
كيميارا هين ازوي وامكير
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض لا يسقط إلا عند العجز عن ذلك وكان السلف معذورين في بعض الأزمان في ترك الإنكار باليد واللسان :
و دست وزبانرا نماند مجال
بهمت نمايند مردي رجال
والحاصل أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات فعلى المحب أن لا يتجاوز عن الحد ويراعي حكم الوقت فإن لكل زمان دولة ورجالاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
والإشارة يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي إيمان الطالبين الموقنين بأن الوجدان في الطلب كما قال تعالى : "ألا من طلبني وجدني" {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} فاشتغلوا بتزكيتها فإنه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فلا تشتغلوا قبل تزكيتها بتزكية نفوس الخلق ولا تغتروا بإرادة الخلق وبقولهم وحسن ظنهم فيكم وتقربهم إليكم فإنها للطالب سم الساعة وإن مثل السالك المحتاج إلى المسلك والذي يدعي إرادته ويتمسك به كمثل غريق في البحر محتاج إلى سابح كامل في صنعته لينجيه من الغرق فيتشبث به
453
غريق آخر في البحر وهو يأخذ بيده لينجيه فيهلكان جميعاً فالواجب على الطالب المحق أن يتمسك بذيل إرادة صاحب دولة في هذا الشأن مسلك كامل ويستسلم للأحكام ولا يلتفت إلى كثرة الهالكين فإنه لا يهلك على الله إلا هالك {لا يَضُرُّكُم} أيها الطالبون {مَّن ضَلَّ} من المغرقين {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى الحق به {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أيها الطالبون بجذبات العناية على طريق الهداية والمضلون بسلاسل القهر والخذلان على طريق المكر والعصيان {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي : فيذيقكم لذة ثواب أعمالكم والمعنى ليس للطالب أن يلتفت في أثناء سلوكه إلى أحد من أهل الصدق والإرادة بأن يقبله ليربيه ويغتربانه شيخ يقتدي به إلى أن يتم أمر سلوكه بتسليك مسلك كامل واصل ثم أن يرى شيخه أن له رتبة الشيخوخة فيثبته بإشارة التحقق في مقام التربية ودعوة الخلق فحينئذٍ يجوز له أن يكون هادياً مرشداً للمريدين باحتياط وافر فقد قال تعالى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد : 7) فأما في زماننا هذا فقد آل الأمر إلى أن من لم يكن مريداً قط يدعي الشيخوخة ويخبر بالشيخوخة الجهال والضلال من جهالته وضلالته حرصاً لانتشار ذكره وشهرته وكثرة مريديه وقد جعلوا هذا الشأن العظيم والثناء الجسيم لعب الصبيان وضحكة الشيطان حتى يتوارثونه كلما مات واحد منهم كانوا يجلسون ابنه مقامه صغيراً كان أو كبيراً ويلبسون منه الخرق ويتبركون به وينزلونه منازل المشايخ فهذه مصيبة قد عمت ولعل هذه طريقة قد تمت فاندرست آثارها والله أعلم بأخبارها إلى ههنا من الإشارة من "التأويلات النجمية" يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} تصديره بحرف النداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
(2/362)
ـ روي ـ أن تميم بن أوس الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذٍ نصرانيين ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً فلما قدما إلى الشام مرض بديل فكتب كتاباً فيه أسماء جميع ما معه وطرحه في درج الثياب ولم يخبرهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناء من فضة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشاً بالذهب فغيباه ودفعا المتاع إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فقالوا لهما هل باع صاحبكما شيئاً من متاعه؟ قالا : لا قالوا فهل طال مرضه فانفق شيئاً على نفسه قالا لا إنما مرض حين قدم البلد فلم يلبث أن مات قالوا : فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه وفيها إناء منقوش مموّه بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال قالا ما ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع ولا كتما فحلفا على ذلك فخلى صلى الله عليه وسلّم سبيلهما ثم أنه وجد الإناء في مكة فقال من بيده : اشتريته من تميم وعدي وقيل لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك بني سهل أولياء بديل فطلبوه منهما فقالا : كنا اشتريناه من بديل فقالوا : ألم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيئاً فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل قوله تعالى : {فَإِنْ عُثِرَ} الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كذبا وخانا فدفع الإناء إليهما.
واتفق العلماء على أن
454
هذه الآية أشكل ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً {شَهَـادَةُ بَيْنِكُمْ} أي : شهادة الخصومات الجارية بينكم فبين ظرف أضيف إليه شهادة على طريق الاتساع في الظروف بأن يجعل الظرف كأنه مفعول للفعل الواقع فيه فيضاف ذلك الفعل إليه على طريق إضافته إلى المفعول نحو يا سارق الليلة أي : يا سارق في الليلة وارتفاع الشهادة على أنها مبتدأ {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي : شارفه وظهرت علائمه ظرف للشهادة {حِينَ الْوَصِيَّةِ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
(2/363)
بدل من الظرف وفي إبداله منه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها {اثْنَانِ} خبر للمبتدأ بتقدير المضاف لئلا يلزم حمل العين على المعنى أي : شهادة بينكم حينئذٍ شهادة اثنين أو فاعل شهادة بينكم على أن خبرها محذوف أي : فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان.
واختلفوا في هذين الاثنين.
فقال قوم هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي.
وقال آخرون هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان ولا يلزم الشاهدين الإيصاء وإن صح إلى واحد إلا أنه ورد في الآية الإيصاء إلى اثنين احتياطاً واعتضاداً لأحدهما بالآخر.
فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك شهدت وصية فلان بمعنى حضرت والشهيد الذي حضرته الوفاة في الغزو حتى لو مضى عليه وقت صلاة وهو حي لا يسمى شهيداً لأن الوفاة لم تحضره في الغزو {ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} هما صفتان للاثنان أي : صاحبا أمانة وعقل من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحري ما هو أصلح له أو من أهل دينكم يا معشر المؤمنين وهذه جملة تامة تتناول حكم الشهادة على الوصية في الحضر والسفر {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} عطف على اثنان أو شهادة عدلين آخرين من غيركم أي : من الأجانب أو من غير أهل دينكم أي : من أهل الذمة وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ثم نسخ بقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} فلا يقبل شهادة الذمي على المسلم لعدم ولايته عليه والشهادة من باب الولاية وتقبل شهادة الذمي على الذمي لأن أهل الذمة بعضهم أولياء بعض {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرْضِ} أي : سرتم وسافرتم فيها {فَأَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} عطف على الشرط وجوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : إن سافرتم فقاربكم الأجل حينئذٍ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام من يتولى لأمر الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار فشهادة بينكم شهادة آخرين أو فإنه يشهد آخران فقوله تعالى : {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ} تقييد لقوله {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} {تَحْبِسُونَهُمَا} استئناف وقع جواباً عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إن ارتبنا بالشاهدين فقيل تحبسونهما أي : تقفونهما وتصيرونهما للتحليف {مِنا بَعْدِ الصَّلَواةِ} من صلة واللام للعهد الخارجي أي : بعد صلاة العصر لتعينها عندهم للتحليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ولأن جمع أهل الإيمان يعظمون ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقد روي أن النبي عليه السلام وقتئذٍ حلف من حلف.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر بمكة بين الركن والمقام وفي المدينة عند المنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة
455
وفي سائر البلدان في أشرف المساجد وقال أبو حنيفة لا يختص الحلف بزمان ولا مكان.
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} عطف على تحبسونهما {إِنِ ارْتَبْتُمْ} شرطية محذوفة الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والأقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترضة بين القسم وجوابه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أي : إن ارتاب فيهما الوارث منكم بخيانة وأخذ شيء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله {لا نَشْتَرِى بِه ثَمَنًا} جواب القسم أي مقسم عليه فإن قوله فيقسمان يتضمن قسماً مضمراً فيه.
والاشتراء استبدال السلعة بالثمن أي : أخذها بدلاً منه ثم استعير لأخذ شيء بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبر في المستعار منه والضمير في به .
والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله أي : من حرمته عرضاً من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب أي : لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وطمع الدنيا {وَلَوْ كَانَ} أي : المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام وهو الميت {ذَا قُرْبَى} أي : قريباً منا في الرحم تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذباً ومبالغة في التنزه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فقد انضم إليها ما هو أقوى منها وأدعى إلى الحلف كاذباً وهي صيانة حظ أنفسهما فلا يتحقق ما قصداه من المبالغة في التنزه عنه والتبري منه.
قلت : صيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمة للمال بل راجعة إليه {وَلا نَكْتُمُ شَهَـادَةَ اللَّهِ} معطوف على لا نشتري به داخل معه في حكم القسم وشهادة الله منصوب على أنها مفعول بها أضيفت إليه تعالى لأنه هو الآمر بها وبحفظها وعدم كتمانها وتضييعها {إِنَّآ إِذًا} إذ كتمناها {لَّمِنَ الاثِمِينَ} أي : العاصين {فَإِنْ عُثِرَ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
(2/364)
أي : اطلع بعد التحليف {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْمًا} أي : فعلاً ما يوجب إثماً من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه {فَـاَاخَرَانِ} أي : رجلان آخران وهو مبتدأ خبره {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي : مقام اللذين عثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق {مِنَ الَّذِينَ} حال من فاعل يقومان أي : من أهل الميت الذين {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاوْلَيَـانِ} من بينهم أي : الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة أي : باليمين ومفعول استحق محذوف أي : استحق عليهم أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام الأولين على وضع المظهر مقام المضمر فاستحق مبني للفاعل والأوليان فاعله وهو تثنية الأولى بالفتح بمعنى الأقرب.
وقرىء على البناء للمفعول وهو الأظهر أي : من الذين استحق عليهم الإثم أي : جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته فالأوليان مرفوع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل ومن هم فقيل الأوليان {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} عطف على يقومان {لَشَهَـادَتُنَآ} المراد بالشهادة اليمين كما في قوله تعالى : {فَشَهَـادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـادَاتا بِاللَّهِ} (النور : 6) أي : ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها {أَحَقُّ} بالقبول {مِن شَهَـادَتِهِمَا} أي : من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة فصيغة التفضيل مع أنه لا حقيقة
456
في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قبولها في الجملة باعتبار احتمال صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما {وَمَا اعْتَدَيْنَآ} عطف على جواب القسم أي : ما تجاوزنا فيها شهادة الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما {إِنَّآ إِذًا} أي : إذا اعتدينا في يميننا
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
{لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ} أنفسهما بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المحتضر ينبغي أن يشهد على وصيته عدلين من ذوي نسبه أو دينه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم ثم إن وقع ارتياب بهما اقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت فإن اطلع بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا تملكه من جهة الميت حلف الورثة وعمل بأيمانهم وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا انهما ابتاعاه والوصي إذا أخذ شيئاً من مال الميت وقال أنه أوصى به حلف الوارث إذا أنكر ذلك وتحليف المنكر ليس بمنسوخ {ذَالِكَ} أي : الحكم الذي تقدم تفصيله {أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَـادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} أي : أقرب إلى أن تؤدي الشهود الشهادة على وجهها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفاً من العذاب الأخروي هذا كما ترى حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور {أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَـانُا بَعْدَ أَيْمَـانِهِمْ} بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة معطوف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح على رؤوس الأشهاد بإبطال إيمانهم والعمل بأيمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأي الخوفين وقع حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في شهادتكم فلا تحرفوها وفي أيمانكم فلا تحلفوا أيماناً كاذبة وفي أماناتكم فلا تخونوها وفيما بينه الله من الأحكام فلا تخالفوا حكمه {وَاسْمَعُوا} ما توعظون به كائناً ما كان سمع طاعة وقبول {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة أي : فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهدي القوم الفاسقين أي : إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم.
(2/365)
واعلم أن الشهادة في الشرع الأخبار عن أمر حضره الشهود وشاهدوه إما معاينة كالأفعال نحو القتل والزنى أو سماعاً كالعقود والإقرارات فلا يجوز له أن يشهد إلا بما حضره وعلمه وسمعه ولهذا لا يجوز له أداء الشهادة حتى تذكر الحادثة وفي الحديث : "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع" وفي الشهادة إحياء حقوق الناس وصون العقود عن التجاحد وحفظ الأموال على أربابها وفي الحديث : "أكرموا شهودكم فإن الله يستخرج بهم الحقوق" ومن تعين للتحمل لا يسعه أن يمتنع إذا طلب لما فيه من تضييع الحقوق إلا أن يقوم الحق بغيره بأن يكون في الصك سواه ممن يقوم الحق به فيجوز له الامتناع لأن الحق لا يضيع بامتناعه وهو مخير في الحدود بين الشهادة والستر لأن إقامة الحدود حسبة والستر على المسلم حسبة والستر أفضل وفي الحديث "من ستر على مسلم ستره الله عليه في الدنيا والآخرة".
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
ثم اعلم أن اليمين الفاجرة تبقى الديار بلاقع فينبغي لطالب الآخرة أن يجتنب عن الكذب لطمع الدنيا وأن يختار الصدق في كل قول وفعل ، قال الحافظ :
طريق صدق بياموز ازآب صافي دل
براستي طلب آزادكي و سرومن
457
والأمانة من الأوصاف الجميلة والله تعالى يأمر بأداء الأمانات وإن قل أصحابه في هذا الزمان ولله در القائل :
أمين مجوي ومكوباً كسى أمانت عشق
درين زمانه مكر جبرئيل أمين باشد
وعاقبة الخيانة الافتضاح ، كما قال الصائب :
خيانتهاي نهان ميكشد آخر برسوايى
كه دزد خانكي را شحنه دربازار ميكردد
فلا بد من التقوى وسماع الأحكام الأزلية والله لا يهدي إلى حضرته القوم الفاسقين يعني الذين كانوا خارجين عند رشاش النور وإصابته كما قال عليه السلام : "فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل" عصمنا الله وإياكم من مخالفة أمره ولا يجعلنا ممن ضاع أنفاس عمره إنه هو الموفق والمرشد والوهاب {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} أي : اذكروا يوم يجمع الله الرسل وهو يوم القيامة والمراد جمعهم وجمع أممهم وإنما لم يذكر الأمم لأنهم اتباع لهم {فَيَقُولُ} أي : الله تعالى للرسل {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي : أي إجابة أجبتم من جهة الأمم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي أإجابة إقرار وتصديق أم إجابة إنكار وتكذيب؟ فماذا في محل النصب على أنه مفعول مطلق للفعل المذكور بعده.
وفيه إشارة إلى خروجهم من عهدة الرسالة كما ينبغي وإلا لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتم رسالتي ولم يقل ماذا أجابوا بناء على كمال تحقير شأنهم وشدة الغيظ والسخط عليهم.
فإن قلت ما وجه السؤال مع أنه تعالى لا يخفى عليه شيء.
قلت توبيخ القوم كما أن قوله تعالى : {وَإِذَا الْمَوْءُادَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنابٍ قُتِلَتْ} (التكوير : 8 ـ 9) المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل بها {قَالُوا} كأنه قيل فماذا يقول الرسل هنالك فقيل يقولون {لا عِلْمَ لَنَآ} بما كنت أنت تعلم {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} تعليل لذلك أي : لأنك تعلم ما أضمروه وما أظهروه ونحن لا نعلم إلا ما أظهروه فعلمنا في علمك كالمعدوم وهذا الجواب يتضمن التشكي من الأمم كأنه قيل علمك محيط بجميع المعلومات فتعلم بما ابتلينا من قبلهم وكابدنا من سوء إجابتهم فلنلتجىء إليك في الانتقام منهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا الجواب إنما يكون في بعض مواطن القيامة وذلك عند زفرة جهنم وجثّوا الأمم على الركب لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا قال نفسي نفسي فعند ذلك تطير القلوب من أماكنها فيقول الرسل من شدة هول المسألة وهول الموطن {لا عِلْمَ لَنَآا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} وترجع إليهم عقولهم فيشهدون على قومهم أنهم بلغوهم الرسالة وأن قومهم كيف ردوا عليهم فإن قيل كيف يصح ذهول العقل مع قوله تعالى : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103) قيل : إن الفزع الأكبر دخول جهنم ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
دران روزكز فعل رسند وقول
أولو العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد أنبياء
توعذر كنه را ه داري بيا
برادر زكار بدان شرم دار
كه درروى نيكان شوي شر مسار
سراز جيب غفلت بر آور كنون
كه فرداً نماند بخجلت نكون
وقيل قولهم {لا عِلْمَ لَنَآ} ليس المقصود منه نفي العلم بجوابهم حال التبليغ ولا وقت حياة الأنبياء بل المقصود نفي علمهم بماكان من الأمم بعد وفاة الأنبياء في العاقبة وآخر الأمر الذي به
458(2/366)
الاعتبار لأن الثواب والعقاب إنما يدوران على الخاتمة وذلك غير معلوم لهم فلهذا المعنى قالوا {لا عِلْمَ لَنَآ} وفي الحديث : "إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم والله ليقطعن دوني رجال فلأقولن أي ربي مني ومن أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم" وهو عبارة عن ارتدادهم أعم من أن يكون من الأعمال الصالحة إلى السيئة أو من الإسلام إلى الكفر وفي الحديث "يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت؟ فيقول : نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ" فذلك قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143) إنما شهد محمد وأمته بذلك مع أنهم بعد نوح لعلمهم بالقرآن أن الأنبياء كلهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به وقد جاء في الرواية "ثم يؤتى بمحمد فيسأل عن حالة أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم" فذلك قوله تعالى : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة : 143) فعلى العاقل أن يجيب إلى دعوة الحق وينتصح بنصيحة الناصح الصدق :
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب رواه ناصح ما ازتو شادباد
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
واعلم أن القيامة يوم يتجلى الحق فيه بالصفة القهارية قال تعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر : 16).
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة هذا ترتيب أنيق فإن الذات الأحدي يدفع بوحدته الكثرة وبقهره الآثار فيضمحل الكل فلا يبقى سواه تعالى وقيامة العارفين دائمة لأنهم يكاشفون الأمور ويشاهدون الأحوال في كل موطن على ما هي عليه وهي القيامة الكبرى وحشر الخواص بل الأخص اللهم اجعلنا ممن مات بالاختيار قبل الموت بالاضطرار {إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} أي : اذكروا أيها المؤمنون وقت قول الله تعالى لعيسى ابن مريم وهو يقوم القيامة {اذْكُرْ نِعْمَتِى} أي : إنعامي {عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} وليس المراد بأمره عليه السلام يومئذٍ بذكر النعم تكليف الشكر إذ قد مضى وقته في الدنيا بل ليكون حجة على من كفر حيث أظهر الله على يده معجزات كثيرة فكذبته طائفة وسموه ساحراً وغلاً آخرون فاتخذوه إلهاً فيكون ذلك حسرة وندامة وعليهم يوم القيامة والفائدة في ذكر أمه أن الناس تكلموا فيها ما تكلموا ثم عد الله تعالى عليه نعمة نعمة فقال : {إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي اذكر أنعامي عليكما وقت تأييدي لك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي بجبريل الطاهر على أن القدس الطهور وأضيف إليه الروح مدحاً له بكمال اختصاصه بالطهر كما في رجل صدق ومعنى تأييده به أن جبريل عليه السلام يجعل حجته ثابتة مقررة {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا} استئناف مبين لتأييده عليه السلام والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء أي : من غير أن يوجد تفاوت بين كلامه طفلاً وبين كلامه كهلاً في كونه صادراً عن كمال العقل وموافقاً لكمال الأنبياء والحكماء فإنه تكلم حال كونه في المهد أي : في حجر الأم والذي يربي فيه الطفل بقوله : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِىَ الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم : 31) وتكلم كهلاً بالوحي والنبوة فتكلمه في تينك الحالتين على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت معجزة عظيمة حصلت له وما حصلت
459
لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده وكل معجزة ظهرت منه كما أنها نعمة في حقه فكذلك هي نعمة في حق أمه لأنها تدل على براءة ساحتها مما نسبوها إليه واتهموها به وحمل مريم ما كان من الرجال كسائر النساء وإنما كان بروح منه كما قال تعالى : {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (التحريم : 12) فهذه نعمة خاصة بمريم وكذلك ولادة عيسى وخلفته ما كان من نطف الرجال وإنما كانت كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فهذه نعمة خاصة بعيسى.
والكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب أي : خالطه وقيل المراد بتكلمه كهلاً أن يكلم الناس بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان بناء على أنه رفع قبل أن أكهل فيكون قوله تعالى : {وَكَهْلا} دليلاً على نزوله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/367)
ـ وروي ـ أن الله تعالى أرسله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله تعالى إليه وينزل على هذا السن ثم يكهل {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ} أي : اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان بالذكر هو دخولهما في الجنس إظهاراً لشرفهما والمراد بالحكمة العلم والفهم لمعاني الكتب المنزلة وأسرارها وقيل هي استكمال النفس بالعلم بها وبالعمل بمقتضاها {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} أي : تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير {بِإِذْنِى} أن بتسهيل وتيسيري {فَتَنفُخُ فِيهَا} أي : في الهيئة المصورة {فَتَكُونُ} أي : تلك الهيئة {بِإِذْنِى فَتَنفُخُ} فالخلق حقيقةتعالى ظاهر على يده عليه السلام عند مباشرة الأسباب كما أن النفخ في مريم كان من جبريل والخلق من الله تعالى سألوا منه عليه السلام على وجه التعنت فقالوا له اخلق لنا خفاشاً واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك فأخذ طيناً وجعل منه خفاشاً ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض وإنما طلبوا منه خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله ضرع يخرج منه اللبن ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة فلما رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا هذا سحر {وَتُبْرِئُ الاكْمَهَ وَالابْرَصَ بِإِذْنِى} الأكمه الذي ولد أعمى والأبرص هو الذي به برص أي : بياض في الجلد ولو كان بحيث إذا غرز بإبرة لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج ولذا خصا بالذكر وكلاهما مما أعيى الأطباء ، وفي "المثنوي" :
صومعه عيسى است خوان أهل دل
هان وهان اي مبتلا اين درمهلجمع كشتندي زهر أطراف خلق
از ضرير وشل ولنك واهل دلق
او و فارغ كشتى از اوراد خويش
اكشتكه بيرون شدي آن خوب كيش
س دعا كردي وكفتي ازخدا
حاجت ومقصود جمله شدروا
خوش روان وشادمانه سوى خان
از دعاي او شدندي اروان
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
آز مودي توبسي آفات خويش
يا فتى صحت ازين شاهان كيش
460
ند آن لنكىء تورهوار شد
ند جانت بي عم وآزار شد
{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى} أي : تحيي الموتى وتخرجهم من قبورهم أحياء قيل اخرج سام بن نوح ورجلين وجارية كما سبق تفصيله في سورة آل عمران.
قال الكلبي : كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى بيا حي ويا قيوم وهو الاسم الأعظم عند العلماء المحققين {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ} أي : منعت اليهود الذي أرادوا لك السوء عن التعرض لك {إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} بالمعجزات الواضحة ظرف لكففت {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي : ما هذا الذي جئت به إلا سحر ظاهر رداً وإنكاراً فبقوا على مرض الكفر ولم يعالجوا بعلاج الإيمان على يد الحكيم الإلهي الحاذق.
ـ حكي ـ عن الشبلي أنه اعتل فحمل إلى البيمارستان وكتب علي بن عيسى الوزير إلى الخليفة في ذلك فأرسل الخليفة إليه مقدم الأطباء ليداويه فما أنجحت مداواته قال الطبيب للشبلي والله لو علمت أن مداواتك في قطعة لحم من جسدي ما عسر على ذلك قال الشبلي دوائي فيما دون ذلك قال الطبيب وما هو قال بقطعك الزنار فقال الطبيب أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال نفذنا طبيباً إلى مريض وما علمنا أنا نفذنا مريضاً إلى طبيب ، قال اليافعي هذا هو الطبيب الحاذق وحكمته من الحكمة التي بها العلل تزول وفيه أقول :
إذا ما طبيب القلب أصبح جسمه
عليلاً فمن ذا للطبيب طبيب
فقل هم أولوا علم لدني وحكمة
آلهية يشفي بذاك قلوب
وكل مرشد كامل فهو عيسى وقته ، فإن قلت إن أولياء الله هم الأطباء حقيقة ومن شأن الطبيب أن يعالج ويبرىء دون أن يهلك ويمرض فما شأن إبراهيم الخواص أشار بإصبعيه إلى عيني رجل في برية أراد أن يسلب منه ثيابه فسقطتا ، قلت : إنما دعا إبراهيم على اللص بالحمى ودعا إبراهيم بن أدهم على الذي ضربه بالجنة لأن الخواص شهد من اللص أنه لا يتوب إلا بعد العقوبة فرأى العقوبة أصلح له وابن أدهم لم يشهد توبة الظالم في عقوبته فتفضل عليه بالدعاء فتوة منه وكرماً فحصلت البركة والخير بدعائه للظالم فجاءه مستغفراً متعذراً فقال له إبراهيم الرأس الذي يحتاج إلى الاعتذار تركته ببلخ وقد كان الأنبياء يدعون مطلقاً بحسب الأحوال والمصالح وكل ذلك بإذن الله تعالى فهم في دعائهم فانون عن أنانيات وجودهم لا يصدر من لسانهم إلا حق مطابق للواقع والحكمة والأولياء تلو لهم في ذلك ولكن الناس لا يعلمون ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
ون بباطن بنكري دعوى كجاست
(2/368)
او ودعوى يش آن سلطان فناست
مات زيد زيد اكر فاعل بود
ليك فاعل نيست كوعاطل بود
اوز روى لفظ نحوي فاعلست
ورنه أو مفعول وموتش قاتلست
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّانَ} جمع حواري يقال فلان حواري فلان أي : صفوته وخالصته من الحور وهو البياض الخالص سمي به أصحاب عيسى عليه السلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم وكان بعضهم من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين اذكر يا محمد وقت أن أمرتهم على ألسنة رسلي أو ألهمت إياهم وألقيت في قلوبهم {أَنْ} مفسرة لمافي الإيحاء من معنى
461
القول {بِى وَبِرَسُولِى} أي : بوحدانيتي في الربوبية والألوهية {وَبِرَسُولِى} أي : وبرسالة رسولي ولا تزيلوه عن حيزه حطاً ولا رفعاً {قَالُوا} كأنه قيل فماذا قال حين أوحى إليهم ذلك فقيل قالوا : {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ} أي : مخلصون في إيماننا من أسلم وجههأي : أخلص {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} منصوب باذكر يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآااِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} هذا السؤال كان في ابتداء أمرهم قبل أن يستحكم معرفتهم بالله ولذلك أساءوا الأدب مع عيسى عليه الصلاة والسلام حيث لم يقولوا يا رسول الله أو يا روح الله وخاطبوه باسمه ونسبوه إلى أمه ولو وفقوا للأدب لقالوا يا روح الله ونسبوه إلى الله ثم رفضوا الأدب مع الله وقالوا هل يستطيع ربك كالمتشكك في استطاعته وكمال قدرته على ما يشاء كيف يشاء ثم أظهروا دناءة همتهم وخساسة نهمتهم إذ طلبوا بواسطة مثل عيسى من الله تعالى مائدة دنيوية فانية وما رغبوا في فائدة دينية باقية ولو رغبوا في الفائدة الدينية لنالوا المائدة الدنيوية أيضاً قال الله تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
الشورى : 20) والمائدة الخوان الذي عليه الطعام من ماده إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليها ونظيره قولهم شجرة مطعمة ، قال في "الشرعة" : وضع الطعام على الأرض أحب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم على السفرة وهي على الأرض والأكل على الخوان فعل الملوك أي : آداب الجبارين لئلا يتطأطأ عند الأكل وعلى المنديل فعل العجم أي : أهل فارس من المتكبرين وعلى السفرة فعل العرب وهي في الأصل طعام يتخذه المسافر للسفر ثم سمي بها الجلد المستدير المحمول هو فيه {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال : {اتَّقُوا اللَّهَ} أي : من أمثال هذا السؤال {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي : بكمال قدرته تعالى أو بصحة نبوتي {قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال لا نريد بالسؤال إزالة شبهتنا في قدرته تعالى على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكل منها أي : أكل تبرك يتشفى بسببها مرضاناً ويتقوى بها أصحاؤنا ويستغني بها فقراؤنا وقيل مرادهم أكل احتياج لأنهم قالوا ذلك في زمن المجاعة والقحط {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} لكمال قدرته تعالى بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال {وَنَعْلَمَ} علماً يقيناً {أَنْ} مخففة أي : أنه {قَدْ صَدَقْتَنَا} في دعوى النبوة وأن الله يجب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقيناً ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} لما رأى عليه السلام أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه أزمع على استدعائها واستنزالها وأراد أن يلزمهم الحجة بكمالها {اللَّهُمَّ} أي يا الله والميم عوض عن حرف النداء وهي كلمة عظيمة من قالها فقد ذكر الله تعالى بجميع أسمائه وفي الميم سبعون اسماً من أسمائه تعالى قد اندرجت فيها {رَبَّنَآ} ناداه سبحانه مرتين إظهاراً لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء
462
{أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآااِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} متعلق بأنزل {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} صفة لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها عيداً ولنا حال منه أي : يكون يوم نزولها عيداً نعظمه وإنما أسند ذلك إلى المائدة لأن شرف اليوم مستفاد من شرفها وقيل العيد : السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً {لاوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} بدل من لنا بإعادة العامل أي : عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/369)
ـ روي ـ أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذه النصارى عيداً {وَءَايَةً} كائنة {مِّنكَ} دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي {وَارْزُقْنَا} أي : المائدة والشكر عليها {وَأَنتَ خَيْرُ الراَّزِقِينَ} تذييل جار مجرى التعليل أي : خير من يرزق لأنه خالق الأرزاق ومعطيها بلا عوض {قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} إجابة إلى سؤالكم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي : بعد تنزيلها {مِّنكُمْ} حال من فاعل يكفر {فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ} بسبب كفره بعد معاينة هذه الآية الباهرة {عَذَابًا} اسم مصدر بمعنى التعذيب أي : تعذيباً {لا أُعَذِّبُهُ} صفة لعذاباً والضمير له أي : أعذبه تعذيباً لا أعذب ذلك التعذيب أي : مثل ذلك التعقيب {أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} أي : من عالمي زمانهم أو من العالمين جميعاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذب مثل ذلك غيرهم.
ـ روي ـ أن عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره ثم دعا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اجعلها رحمة للعالمين ولا تجعلها مثلة وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل الذي عليها وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوكة يسيل دسمها وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريين يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ولكنه اخترعه الله بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله فقالوا : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة أحيى بإذن الله فاضطربت ثم قال لها : عودي كما كنت فعادت مشوية فلبث المائدة يوماً واحداً فأكل من أكل منها ثم طارت ولم تنزل بعد ذلك اليوم وقيل : كانت تأتيهم أربعين يوماً غباً أي : تنزل يوماً ولا تنزل يوماً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيىء طارت وهم ينظرون في ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبداً ثم أوحى الله إلى عيسى أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء الأصحاء فاضطرب الناس بذلك أي : تعاظم على الأغنياء والأصحاء حتى شكوا وشككوا الناس في شأن المائدة ونزولها من السماء حقيقة فمسخ منهم من مسخ فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازير عيسى بكت وجعلت تطوف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحداً بعد واحد فيبكون ويشيرون برؤوسهم فلا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا
463
وكذلك كل ممسوخ.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
والإشارة أن الله تعالى سلخ صورة الإنسانية عن حقائق صفات الحيوانية وألبسوا الصور من حقائق صفاتهم فمسخوا خنازير ليعتبر الخلق ويتحقق لهم أن الناس يحشرون على صور صفاتهم يوم تبلى السرائر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه كما قال عليه السلام : "يموت الناس على ما عاشوا فيه ويحشرون على ما ماتوا عليه" يعني يحشرون على صورة صفاتهم التي ماتوا عليها ، وفي "المثنوي" :
هر خيالي كوكند در دل وطن
روز محشر صورتي خواهد شدنزانكه حشر حاسدان روز كزند
بي كمان بر صورت كركان كنندحشر ر حرص وخس ومرادار خوار
صورت خوكي بود روز شمار
زانيانرا كنده اندام نهان
خمر خوارانرا همه كنده دهان
سيرتي كاندر وجودت غالبست
هم بران تصوير حشرت واجبست(2/370)
قال القاضي في تفسيره : وعن بعض الصوفية المائدة عبارة عن حقائق المعارف فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها وقال لهم عيسى : إن حصلتم الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها فلم يقلعوا عن السؤال والجواب فيها فسأل لأجل اقتراحهم فيبين الله تعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يتحمله ولا يستقر له فيضل به ضلالاً بعيداً انتهى كلام القاضي.
قال حضرة الشيخ الشهير فأفتاده أفندي قدس سره : إن قوم عيسى عليه السلام عصوا مرة فرفعت المائدة وأنا نعصي في كل وقت مع أن نعم الله تعالى مترادفة وذلك لأن المائدة التي نزلت عليهم من مرتبة الصفة والنعم الفائضة علينا مرتبة الذات وما هو من الذات لا يتغير ولا يتبدل وإنما التغير في الصفة وقد بقي هنا شيء وهو أن الأعياد أربعة لأربعة أقوام : أحدها عيد قوم إبراهيم كسر الأصنام حين خرج قومه إلى عيد لهم ، والعيد الثاني عيد قوم موسى وإليه الإشارة بقوله تعالى في سورة طه {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} (طه : 59) ، والعيد الثالث عيد قوم عيسى وإليه الإشارة بقوله تعالى : {رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآااِدَةً} الآية ، والعيد الرابع عيد أمة محمد عليه السلام وهو ثلاثة : عيد يتكرر كل أسبوع وعيدان يأتيان في كل عام مرة من غير تكرر في السنة فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة وهو عيد الأسبوع وهو مرتب على إكمال الصلوات المكتوبات لأن الله فرض على المؤمنين في اليوم والليلة خمس صلوات وأن الدنيا تدور على سبعة أيام فكلما كمل دور أسبوع من أيام الدنيا واستكمل المسلمون صلواتهم شرع لهم في يوم استكمالهم يوم الجمعة وهو اليوم الذي كمل فيه الخلق وفيه خلق آدم وأدخل الجنة وأخرج منها وفيه ينتهي أمر الدنيا فتزول وتقوم الساعة فيه وفيه الاجتماع على سماع الذكر والموعظة وصلاة الجمعة وجعل ذلك لهم عيداً ولذلك نهى عن إفراده بالصوم وفي شهود الجمعة شبه من الحج ويروى أنها حج المساكين.
وقال سعيد بن المسيب شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة والتكبير فيها يقوم مقام الهدي على قدر السبق والشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين
464
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجة الأخرى ، وقد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام.
وأما العيدان اللذان يتكرران في كل عام إنما يأتي كل واحد منهما مرة واحدة فأحدهما عيد الفطر من صوم رمضان وهو مرتب على إكمال الصيام وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم استوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وآخره عتق من النار والعيد الثاني عيد النحر وهو أكبر العيدين وأفضلهما وهو مرتب على إكمال الحج وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه فإذا أكمل المسلمون حجتهم غفر لهم وإنما يكمل الحج يوم عرفة والوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم.
ـ وروى ـ أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال : قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما الفطر والأضحى" ، واجتمعت الأمة على هذا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا بلا نكير منكر فهذه أعياد الدنيا تذكر أعياد الآخرة وقد قيل كل يوم كان للمسلمين عيداً في الدنيا فهو عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه فيوم الجمعة في الجنة.
يدعي يوم المزيد ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجمعة فيهما للزيارة هذا لعوام أهل الجنة وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا والخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعياداً فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعياداً.
وأما أخص الخواص فكل نفس عيد لهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/371)
قال في "التأويلات النجمية" {رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآااِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} أي : مائدة الأسرار والحقائق التي تنزلها من سماء العناية عليها أطعمة الهداية {تَكُونُ لَنَا} يعني لأهل الحق وأرباب الصدق {عِيدًا} نفرح بها {لاوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} أي : لأول أنفاسنا وآخرها فإن أرباب الحقيقة يراقبون الأنفاس أولها وآخرها لتصعد مع الله وتهوى مع الله ففي صعود النفس مع الله يكون عيداً لهم وفي هويه مع الله عيداً لهم ، كما قال بالفارسية : (صوفيان دردمي دوعيد كنند) {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} أي : اذكر يا محمد للناس وقت قول الله تعالى لعيسى عليه السلام في الآخرة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم بإقراره عليه السلام على رؤوس الاشهاد بالعبودية وأمرهم لهم بعبادته تعالى {ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَاهَيْنِ} مفعول ثاني للاتخاذ {مِن دُونِ اللَّهِ} حال من فاعل اتخذوني كأنه قيل صيروني وأمي إلهين أي : معبودين متجاوزين عن ألوهية الله تعالى ومعبوديته والمراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} (البقرة : 165) لأن أحداً منهم لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول بنفي إلهية الله تعالى ولما لم يكن المقصود إنكار نفس القول بل قصد توبيخ من قال به ولي حرف الاستفهام المبتدأ ولم يقل كذا لأنه يفيد إنكار نفس القول.
قال المولى أبو السعود رحمه الله ليس مدار أصل الكلام أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى : {ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِاَالِهَتِنَا} (الأنبياء : 62) ونظائره بل على أن المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى :
465
{ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (الفرقان : 17) انتهى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
قال في "التأويلات النجمية" : الإثبات بعد الاستفهام نفي كما أن النفي بعد الاستفهام إثبات كقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي : أنا ربكم ونظير النفي في الإثبات قوله تعالى : {مَّعَ اللَّه بَلْ} أي : ليس مع الله إله فمعناه ما قلت أنت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ولكنهم بجهلهم قد بالغوا في تعظيمك حتى أطروك وجاوزوا حدك في المدح ولهذا قال النبي عليه السلام : "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" انتهى.
فإن قيل ما وجه هذا السؤال مع علمه تعالى أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقله ، قيل ذلك لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة.
قال أبو روق إذا سمع عيسى هذا الخطاب ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع عيسى ولكن كان حقيقة مع الأمة لأن سنة الله أن لا يكلم الكفار يوم القيامة ولا ينظر إليهم {قَالَ} كأنه قيل فماذا يقول عيسى حينئذٍ فقيل يقول : {سُبْحَانَكَ} علم للتسبيح أي : أنزهك تنزيهاً لألقابك من أن أقول ذلك أو من أن يقال في حقك ذلك {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ} أي : ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله {إِن كُنتُ قُلْتُهُ} أي : هذا القول {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأني لا أقدر على هذا القول إلا بأن توجده فيّ وتكونه بقولك كن فصدوره عني مستلزم لعلمك به قطعاً فحيث انتفى العلم انتفى الصدور حتماً ضرورة أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى} أي : ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه {وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} أي : ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك فعبر عما يخفيه الله من معلوماته بقوله ما في نفسك للمشاكلة لوقوعه في صحبة قوله تعلم ما في نفسي فإن معلومات الإنسان مختفية في نفسه بمعنى كون صورها مرتسمة فيها بخلاف معلومات الله تعالى فإن علمه تعالى حضوري لا تنقطع صورة شيء منها في ذاته فلا يصح أن يحمل النفس على المعنى المتبادر {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/372)
تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه أي : ما أمرتهم إلا ما أمرتني به وإنما قيل ما قلت لهم نزولاً على قضية حسن الأدب ومراعاة لما ورد في الاستفهام {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ} تفسير للضمير في به وفي أمرت معنى القول وليس تفسيراً لما في قوله ما أمرتني لأنه مفعول لصريح القول والتقدير إلا ما أمرتني به بلفظ هو قولك أن اعبدوا الله ربي وربكم {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} رقيباً أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي : مدة دوامي فيما بينهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} أي : قبضتني إليك من بينهم ورفعتني إلى السماء {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي : أنت لا غيرك كنت الحافظ لأعمالهم والمراقب لها فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا {وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} مطلع عليه مراقب له فعلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} أي : فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه.
وفيه
466
تنبيه على أنهم استحقوا التعذيب حيث عبدوا غيره تعالى {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي : فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر والقوي على الثواب والعقاب الذي لا يثبت ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل.
فإن قلت مغفرة المشرك قطعية الانتفاء بحسب الوجود وتعذيبه قطعي الوجود فما معنى أن المستعمل فيما كان كل واحد من جانبي وجوده وعدمه جائزاً محتمل الوقوع ، قلت كون غفران المشرك قطعي الانتفاء بحسب الوجود لا نافي كونه جائز الوجود بحسب العقل فصح استعمال كلمة أن فيهما لأنه يكفي في صحة استعمالها مجرد الإمكان الذاتي والجواز وقيل الترديد بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم وإن تغفر لهم أي من آمن منهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
ـ روي ـ أنه لما نزلت هذه الآية أحيى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بها ليلته وكان بها يقوم وبها يقعد وبها يسجد ثم قال : "أمتي أمتي يا رب" فبكى فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : الله يقرئك السلام ويقول لك إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك {قَالَ اللَّهُ} أي : يقول الله تعالى يوم القيامة عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم {هَاذَآ} أي : يوم القيامة وهو مبتدأ وخبره ما بعده {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} المراد الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف فالجاني المعترف يوم القيامة بجنايته لا ينفعه اعترافه وصدقه وكذا الجاني المعترف في الدنيا بجنايته لا ينفعه يومئذٍ اعترافه وصدقه فإنه ليس المراد كل من صدق في أي : شيء كان بل في الأمور الدينية التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به والصادقون الرسل الناطقون بالصدق الداعون إلى ذلك والأمم المصدقون لهم المعتقدون بهم عقداً وعملاً {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} كأنه قيل مالهم من النفع فقيل لهم نعيم دائم وثواب خالد وهو الفوز الكبير.
قوله أبداً أي : إلى الأبد تأكيد للخلود يعني بالفارسية (زمان بود ايشان نهايت ندارد) {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بالطاعة {وَرَضُوا عَنْهُ} بنيل الكرامة والرضوان فيض زائد على الجنات لا غاية وراءه ولذلك قال تعالى : {ذَالِكَ} أي : نيل الرضوان {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي : النجاة الوافرة وحقيقة الفوز نيل المراد وإنما عظم الفوز لعظم شأن المطلوب الذي تعلق به الفوز وهو الرضى الذي لا مطلب وراءه أصلاً {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا فِيهِنَّ} تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في حق المسيح وأمه أي : له تعالى خاصة ملك السموات والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإماتة وإحياء وأمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ} بالغ في القدرة منزه عن العجز والضعف ومقدس تبارك وتعالى وتقدس :
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
نيست خلقش را دكركس مالكي
شركتش دعوى كندجز هالكي
واحد اندر ملك واورا يارني
بندكانش را جزاو سالارني
واعلم أن الآية نطقت بنفع الصدق يوم القيامة فلا ينفع الكذب والرياء بوجه من الوجوه أصلاً.
467
دلا دلالت خيرت كنم براه نجات
مكن بفسق مباهات وزهد هم مفروش
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الصدق فإن الصدق بعد الإيمان يجر إلى الإحسان وقبل الإيمان إلى الإيمان.(2/373)
ـ كما حكي ـ عن إبراهيم الخواص قدس سره أنه كان إذا أراد سفراً لم يعلم أحداً ولم يذكره وإنما يأخذ ركوته ويمشي قال حامد الأسود فبينما نحن معه في مسجد إذ تناول ركوته ومشى فاتبعته فلما وافيا القادسية قال لي يا حامد إلى أين؟ قلت : يا سيدي خرجت بخروجك قال : أنا أريد مكة إن شاء الله تعالى قلت : وأنا أريد مكة إن شاء الله تعالى فلما كان بعد أيام إذا بشاب قد انضم إلينا فمشى يوماً وليلة معنا لا يسجدتعالى سجدة فقربت من إبراهيم وقلت : إن هذا الغلام لا يصلي فجلس وقال : يا غلام مالك لا تصلي والصلاة أوجب عليك من الحج فقال : يا شيخ ما على صلاة قلت ألست بمسلم قال : لا قلت فأي شيء أنت قال نصراني ولكن إشارتي في النصرانية إلى التوكل وادعت نفسي أنها أحكمت حال التوكل فلم أصدقها فيما ادعت حتى أخرجتها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود أثير ساكني وامتحن خاطري فقام إبراهيم ومشى وقال : دعه معك فلم يزل سائراً معنا حتى وافينا بطن مرو فقام إبراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له : ما اسمك قال : عبد المسيح فقال : يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعني الحرم وقد حرم الله على أمثالك الدخول إليه قال الله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا} (التوبة : 28) والذي أردت أن تكشف من نفسك قد بان لك فاحذر أن تدخل مكة فإن رأيناك بمكة انكرنا عليك قال حامد : فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا إلى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات إذا به قد أقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح وجوه الناس حتى وقف علينا فأكب على إبراهيم فقبل رأسه فقال له ما وراءك يا عبد المسيح فقال له هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له إبراهيم حدثني حديثك قال : جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحجاج فقمت وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم فساعة وقعت عيني على الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى دين الإسلام فأسلمت فاغتسلت وأحرمت وها أنا أطلبك يومي فالتفت إلي إبراهيم وقال : يا حامد انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام ثم صحبناه حتى مات بين الفقراء رحمه الله سبحانه وتعالى :
سلام على السادات من كل صادق
سلام على ذي الوجد من كل عاشق
سلام على ذي الصحو من سكر غفلة
سلام على الناجين من كل كلفة
سلام على من مات من قبل موته
سلام على من فات من قبل فوته
اللهم اجعلنا من الناجين فإننا من زمرة المحتاجين آمين يا معين.
468
جزء : 2 رقم الصفحة : 444(2/374)
سورة الأنعام
وهي مكية وآيها مائة وخمس وستون ، وقيل : ست آيات أو ثلاث من قوله :
{قُلْ تَعَالَوْا} مدينة ومن الله أرجو إتمامه بفضله وكرمه وهو قاضي الحاجات
سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين ولهم زجل ، أي : صوت بالتسبيح والتحميد والتمجيد حتى كادت الأرض ترتج فقال النبي : سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخرّ ساجداً وروي عنه مرفوعاً من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ، ثم دعا عليه السلام بالكتاب وأمر بكتابتها من ليلته تلك وروي عنه عليه السلام مرفوعاً : من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله : تكسبون} حين يصبح وكّل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه ، وكتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة ، وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد كلما أراد الشيطان أن يلقي في قلبه شيئاً من الشر ضربه بها ، وجعل بينه وبين الشيطان سبعين ألف حجاب فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى يا بن آدم امش تحت ظلي وكلْ من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك لا حساب عليك ولا عذاب" ، كذا رواه الإمام الواحدي في "الوسيط".
جزء : 2 رقم الصفحة : 468(3/1)
{الْحَمْدُ} الألف واللام في الحمد لاستغراق الجنس واللام فيللاختصاص لأنه تعالى قال : {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ودفع تسويتهم بربهم مما جعل مقصوداً بالذات.
وفي "التأويلات النجمية" : اللام لام التمليك ، يعني : كل حمد يحمده أهل السموات والأرض في الدنيا والآخرة ملك له وهو الذي أعطاهم استعداد الحمد ليحمدوه بآثار قدرته على قدر استعدادهم واستطاعتهم لكنّ حمدَ الخلق له مخلوق فاننٍ وحمده لنفسه قديم باققٍ.
فإن قيل : أليس شكر
2
المنعم واجباً مثل شكر الأستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على إحسانه قال عليه السلام : "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" ، فالجواب أن الحمد والتعظيم المتعلق بالعبد المنعم نظراً إلى وصول النعمة من قبله وهو في الحقيقة راجع إليه تعالى ؛ لأنه تعالى لو لم يخلق نفس تلك النعمة ولم لم يحدث داعية الإحسان في قلب العبد المحسن لما قدر ذلك العبد على الإحسان والإنعام فلا محسن في الحقيقة إلا الله ولا مستحق للحمد إلا هو تعالى.
وفي تعليق الحمد باسم الذات المستجمع لجميع الصفات إشارة إلى أنه المستحق له بذاته سواء حمده حامد أو لم يحمده.
قال البغوي : حمد الله نفسه تعليماً لعباده أي احمدوه : وفي "المثنوي".
ونكه آن خلاق شكر وحمد جوست
آدمى را مدح جويي نيز خوست
خاصه مرد حق كه در فضلست ست
رشود زان بادون خيك درست
ورنباشد أهل زان باد دروغ
خيك بدريد است كي كيرد فروغ
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
{الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} بما فيها من الشمس والقمر والنجوم {وَالارْضِ} بما فيها من البر والبحر والسهل والجبل والنبات والشجر خلق السموات ، وما فيها في يومين يوم الأحد ويوم الاثنين ، وخلق الأرض وما فيها في يومين يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وفي تعليق : الحمد بالخلق تنبيه على استحقاقه تعالى باعتبار أفعاله وآلائه أيضاً وتخصيص خلق السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبرة والمنافع لهم وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن ؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات قالوا ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام.
السماء الدنيا موج مكفوف ، أي : متصادم بعضه على بعض يمنع بعضه بعضاً أي ممنوع من السيلان ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة حديدة ، والرابعة نحاس أو صفر ، والخامسة فضة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء وأما الأرض فهي تراب لا غير.
والأكثرون على تفضيل الأرض على السماء ؛ لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا فيها ودفنوا فيها ، وإن الأرض دار الخلافة ومزرعة الآخرة ، وأفضل البقاع على وجه الأرض البقعة التي ضمت جسم الحبيب صلى الله عليه وسلّم في المدينة المنورة لأن الجزء الأصلي من التراب محل قبره صلى الله عليه وسلّم ثم بقعة الحرم المكي ، ثم بيت المقدس والشام منه ، ثم الكوفة وهي حرم رابع وبغداد منه {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ} الجعل : هو الإنشاء والإبداء كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة وللتشريعي أيضاً كما في قوله : {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنا بَحِيرَةٍ} الآية ، أي : ما شرع وما سن وجمع الظلمات لكثرة أسبابها فإن سببها تخلل الجرم الكثيف بين النير والمحل المظلم وذلك التخلل يتكثر بتكثر الأجرام المتخللة بخلاف النور فإن سببه ليس إلا النار حتى أن الكواكب منيرة بناريتها فهي أجرام نارية وإن الشهب منفصلة من نار الكوكب.
قال الحدادي : وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى ـ ـ روي ـ ـ أن هذه الآية نزلت تكذيباً للمجوس في قولهم : الله خالق النور والشيطان خالق الظلمات.
وفي "التيسير" : إنه رد على الثنوية في إضافتهم خلق النور إلى يزدان وخلق الظلمات إلى اهرمن وعلى ذلك خلق كل خير
3
وشر {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} عطف على الجملة السابقة ، وثم لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية ببطلانه.
والباء متعلقة بيعدلون وقدم المعمول على العامل للاهتمام وتحقيق الاستبعاد ويعدلون من العدل وهو التسوية يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته والمعنى إنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه ، أي : يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد مع كون كل ما سواه مخلوقاً له غير متصف بشيء من مبادىء الحمد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
(3/2)
والإشارة أن الله تعالى خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات في النفوس وهي صفاتها البهيمية والحيوانية وأخلاقها السبعية والشيطانية والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية وأخلاقها الروحانية الباقية فمن غلب عليه النور وهو صفة الملكية الروحانية يميل إلى عبودية الحق تعالى ويقبل دعوة الأنبياء ويؤمن بالله ورسوله ويتحلى بحلية الشريعة فالله تعالى يكون وليه فيخرجه من ظلمات الصفات الخلقية الحيوانية إلى الصفات الملكية كقوله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة : 257) ومن غلب عليه الظلمات البشرية الحيوانية واتبع طاغوت الهوى واستلذ بشهوات الدنيا فالطاغوت يكون وليه فيخرجه من نور الصفات الروحانية إلى ظلمات الصفات الحيوانية كقوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ} (البقرة : 257) فهذا معنى قوله تعالى : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يعني : بعد أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل فيهن الظلمات النفسانية والنور الروحاني مال نفوس الكفار بغلبات صفاتها إلى طاغوت الهوى فعبدوه وجعلوه عديلاً لربهم كذا في "التأويلات النجمية" ـ ـ حكي ـ ـ أنه جاء جماعة من فقهاء اليمن إلى الشيخ العارف بالله أبى الغيث بن جميل قدس سره يمتحنونه في شيء فلما دنوا منه قال مرحباً بعبيد عبدي فاستعظموا ذلك فلحقوا شيخ الطريقين وإمام الفريقين أبا الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي قدس سره فأخبروه بما قاله الشيخ أبو الغيث : المذكور لهم فضحك ، وقال صدق الشيخ أنتم عبيد الهوى والهوى عبده.
غلام همت آنم كه زير رخ كبود
زهره رنك تعلق ذيرد آزادست
{هُوَ} أي : الله تعالى.
{الَّذِى خَلَقَكُمْ} أي : ابتدأ خلقكم أيها الناس.
{مِن طِينٍ} أي : تراب مخلوط بالماء فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ لآدم الذي هو أصل البشر.
قال السعدي : بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت : الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع جبرائيل ولم يأخذ شيئاً.
قال جلال الدين رومي قدس سره في "المثنوي" :
معدن شرم وحيا بد جبرائيل
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
بست آن سوكندها بروى سبيل قال : يا رب.
إنها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت كالمرة الأولى فرجع :
خاك لرزيد و در آمد در كريز
كشت اولابه وكنان اشك ريزرفت ميكائيل سوى رب دين
خالي از مقصود دست وآستين
كفت إسرافيل را يزدان ما
كه بروازان خاك ركن كف بيا
4
آمد إسرافيل هم سوى زمين
باز آغازيد خاكستان حنين
زود إسرافيل باز آمد بشاه
كفت عذر وما جرا نزد آله
فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف ألوان ابن آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمرّ فلذلك اختلف أخلاقهم ، فقال الله تعالى لملك الموت رحم جبرائيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك
كفت يزدان كه بعلم روشنم
من ترا جلاد اين خلقان كنم
ـ ـ وروي ـ ـ عن أبي هريرة خلق الله آدم من تراب وجعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأ مسنوناً ، أي : أسود متغيراً منتناً ثم خلقه وصوره وتركه حتى كان صلصالاً كالفخار ، أي : يابساً مصوتاً كالمطبوخ بالنار ثم نفخ فيه من روحه وإنما خلق من تراب لأن مقام التراب مقام التواضع والمسكنة ومقام التواضع الرفعة والثبات ولذا ورد "من تواضعرفعه الله" وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلّم "أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً".
وهو الحكمة في تعذيب الإنسان بالنار لا بالماء لأن الظرف المعمول من التراب إذا تنجس ببول أو قذر آخر لا يطهر بالماء فالإنسان المتنجس بنجاسة المعاصي لا يطهر إلا بالنار.
وهو الحكمة أيضاً في التيمم عند عدم الماء ويقبر كل جسد في الموضع الذي أخذت منه طينته التي خمرت في أول نشأة أبناء آدم عليه السلام.
(3/3)
قال الإمام مالك : لا أعرف أكبر فضل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من أنهما خلقا من طينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقرب قبرهما من حضرة الروضة المقدسة المفضلة على الأكوان بأسرها زادها الله تشريفاً وتعظيماً ومهابة.
{ثُمَّ قَضَى} أي : كتب لموت كل واحد منكم {أَجَلا} خاصاً به ، أي : حدّاً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله لا محالة وثم للإيذان بتفاوت ما بين خلقهم وبين تقدير آجالهم {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي : حدّ معين لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ خبره قوله : {عِندَهُ} أي : مثبت معين في علمه لا يتغير ولا يقف على وقت حلوله أحد لا مجملاً ولا مفصلاً ، وأما أجل الموت فمعلوم إجمالاً وتقريباً بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان وتسميته أجلاً إنما هي باعتبار كونه غاية لمدة لبسهم في القبور ، لا باعتبار كونه مبدأ لمدة القيامة كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونه آخر مدة الحياة لا كونه أول مدة الممات لما أن الأجل في اللغة عبارة عن آخر المدة لا عن أولها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
قال حكماء الإسلام : إن لكل إنسان أجلين : أحدهما : الآجال الطبيعية.
والثاني : الآجال الاخترامية.
أما الآجال الطبيعية فهو الذي لو بقى الشخص على طبيعته ومزاجه ولم يعترضه العوارض الخارجية والآفات المهلكة لانتهت مدة بقائه إلى أن تتحلل رطوبته وتنطفىء حرارته الغريزيتان.
وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المنفصلة.
قال بعض الأفاضل : الأجل هو الوقت المضروب لطريان الزوال على كل ذي روح ولا يطرأ عليه إلا عند حلول ذلك الوقت لا يتأخر عنه ولا يسبقه كما يدل عليه قوله تعالى {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ} (الحجر : 5).
فإن قلت قوله تعالى : {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (نوح : 3 ، 4)
5
صريح في الدلالة على السبق على المسمى.
قلت : تعدد الأجل إنما هو بالنسبة إلينا وأما بالنسبة إليه تعالى فهو واحد قطعاً تحقيقه أنه تعالى عالم في الأزل كل الموجودات ومقدر لها حسبما شمله علمه فهو يقول في الأزل مثلاً إن فلاناً إن اتقى وأطاع يبلغ إلى أجله المسمى ، والمراد بالأجل ههنا الأجل الثاني الأطول وتوصيفه بالمسمية ليس للتخصيص لأن الأجل المسمى على كل حال ، وإن لم يتق ولم يطع لم يبلغ هذه المرتبة لكن يعلم أنه يفعل أحد الفعلين معيناً فيقدر له الأجل المعين فيكون المقدر في علم الله الأجل المعين وإنّا لعدم اطلاعنا في علم الله تعالى لم نعلم أن ذلك الفلان أي الفعلين فعل وأيما الأجلين قضى له فإذا فعل أحدهما المعين وحل الأجل المرتب عليه علمنا أن ذلك هو المقدر المسمى فالتردد بالنسبة إلينا لا في التقدير وإلا يلزم أن لا يكون علم الله تعالى بما فعل العبد قبل الوقوع وعلى هذا قول الله للكافر أسلم تدخل الجنة ولا تكفر تدخل النار مع علمه وتقديره عدم إسلامه في الأزل ، والأمر والنهي لإظهار الإطاعة أو المخالفة في الظاهر كمن يريد إظهار عدم إطاعة عبده له للحاضرين فيأمره بشيء وهو يعلم أنه لا يفعله والعلم بعدم الإطاعة للحاضرين المترددين إنما يحصل بأمره وكذا صورة الطاعة وجميع المقدرات الإلهية من أفعال العباد الاختيارية من هذا القبيل فظهر أن التردد بالنسبة إلينا دون علم الله إلا أن يطلعنا عليه بإخباره الواقع في علمه كما أطلع نبيه عليه السلام على بعض ما وقع من حال الكفار في زمانه بقوله : {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى} (البقرة : 6) وقوله : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة : 7) وقوله : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يس : 9) فهذا إخبار بما في علمه من أنهم لا يختارون الإيمان هذا غاية ما يقال في هذا المقام والعلم عند الله الملك العلام.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعاد لامترائهم في البعث بعد ما تبين أنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإبداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً ، والمرية : هي الشك المجتلب بالشبهة أصلها من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها ليدر لبنها للحلب والمري استخراج اللبن من الضرع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
قال أبو السعود : وصفهم بالامتراء الذي هو الشك وتوجيه الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاء البعث مصرون على إنكاره كما ينبىء عنه قولهم {قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (الواقعة : 47) ونظائره للدلالة على أن جزمهم المذكور في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار.
(3/4)
واعلم أن الإنسان وقت كونه نطفة ينكر صيرورته بشراً سوياً في الزمان الآتي وعند تصوره بصورة البشر يلزمه الحجة فإنكاره الحشر إنكار عين ما كان فيه : وفي "المثنوي" :
س مثال توو آن حلقه زنيست
كزدرونش خواجه كويدخواجه نيست
حلقه زن زين نيست دريابدكه هست
س زحلقه برندارد هي دست
س هم انكارت مبّين ميكند
كز جماد اوحشر صدفن ميكند
والإشارة {ثُمَّ} إن الله تعالى {قَضَى} للروح من حكمته {أَجَلا} لأيام فراقه عن الحضرة وبعده عن وطنه الحقيقي {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} وهو أجل الوصلة بعد الفرقة في مقام العندية كقوله
6
{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} (القمر : 55) فلأجل الفرقة مدى ومنتهى ولأجل الوصلة لا مدى ولا منتهى ، وإنما قال مسمى : لأن وقت الوصلة مسمى عنده وهو حين يجذبه إليه بجذبة ارجعي إلى ربك ولأيام الوصلة ابتداء وهو حين تطلع شمس التوحيد من مشرق القلوب إلى أن تبلغ حد استواء الوحدة ، ثم تتسرمد فلا غروب لها.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} يا أهل الوصلة كما يمتري أهل الفرقة هذا محال جداً فعلى العاقل الاجتهاد قبل حلول الأجل والتهيؤ للوصول بحسن التوجه والعمل.
قال بعض المشايخ : من ضيع حكم وقته فهو جاهل ، ومن قصر فيه فهو غافل وفي الحديث : "إنخواص يسكنهم الرفيع من الجنان ، كانوا أعقل الناس كان هممهم المسابقة إلى ربهم عز وجل والمسارعة إلى ما يرضيه زهدوا في الدنيا وفي فضولها وفي رياستها ونعيمها فهانت عليهم فصبروا قليلاً واستراحوا طويلاً" ـ ـ روي ـ ـ أن السري السقطي قدس سره دخل عليه أبو القاسم الجنيد قدس سره وهو يبكي فقال له : ما يبكيك؟ قال : جاءتني البارحة الصبية ، فقالت : يا أبت هذه ليلة حارّة وهذا الكوز تعلقه ههنا ، قال السري : فغلبتني عيناي فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء ، فقلت : لمن أنتتِ؟ قالت : لمن لا يشرب الماء المبرد في الكيزان فتناولت الكوز وضربت به الأرض ، قال الجنيد : فرأيت الخزف المكسور ولم يرفعه حتى عفا عليه التراب يا هذا انظر إلى تركهم النعيم لم يرضوا لأنفسهم أن يشربوا ماء بارداً أو يأكلوا طعاماً لذيذاً فحين راقبوا الأوقات عوضهم الله حالات خارجة عن حسابات الساعات فلا انتهاء لأذواقهم أصلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
{وَهُوَ} أي : الله تعالى مبتدأ خبره قوله : {اللَّهِ} باعتبار المعنى الوصفي أي المعبود ولذا تعلق به قوله : {فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الأرْضِ} والمعنى وهو المعبود والمستحق للعبادة فيهما ولا يلزم من كونه تعالى معبوداً فيهما كونه متحيزاً فيهما فإنه منزه عن الزمان والمكان ـ ـ روي ـ ـ أن إمام الحرمين أستاذ الإمام الغزالي نزل ببعض الأكابر ضيفاً فاجتمع عنده العلماء والأكابر فقام واحد من أهل المجلس فقال ما الدليل على تنزهه عن المكان وهو قال : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه : 5) فقال : الدليل عليه قول يونس في بطن الحوت {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الإمام إن ههنا فقيراً مديوناً بألف درهم أدِّ عنه دينه حتى أبينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال إن رسول الله لما ذهب في المعراج إلى ما شاء الله من العلي قال هناك "لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ولما ابتلى يونس عليه السلام بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال : {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} فكل منهما خاطبه بقوله أنت وهو خطاب الحضور ولو كان هو في مكان لما صح ذلك فدل ذلك على أنه ليس في مكان {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} خبر ثان ، أي : ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي : ما تفعلون لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب أو بالجوارح سراً وعلانية فيجازيكم على كل ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ} أي : في سموات الوجود {وَفِى الأرْضِ} أي في أرض النفوس {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} الذي أودع فيكم وهو سر الخلافة الذي اختص به الإنسان لقبول الفيض الإلهي {وَجَهْرَكُمْ} أي ما هو
7
ظاهر منكم من الصفات الحيوانية والأحوال النفسانية {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات من الخير والشر وقد خص الإنسان بهذا الكسب أيضاً دون الملك والحيوان فإن الملك لا يقدر إن يكتسب من الصفات الحيوانية شيئاً ولا الحيوان قادر على إن يكتسب من الصفات الملكية شيئاً والإنسان متصرف في هاتين الصفتين وله اكتساب التخلق بأخلاق الله بالتقرب إلى الله بأداء ما افترض عليه والتزام النوافل واجتناب النواهي إلى أن يصير من خير البرية وله أيضاً أن يكتسب من الشر ما يصير به شر البرية انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
(3/5)
قال حسين الواعظ الكاشفي في تفسيره} الفارسي : (در نقد النصوص فرموده كه إنسان مرآتيست ذات وجهين دريك رويش خصائص ربوبيت ودرروى ديكر نقايص عبوديت ون خصائص نكرى ازهمه موجودات بزركوارتر وون نقائص عبوديت شمارى ازهمه خوارتر وبيمقدارتر
ون در خودازاوصاف تويابم اثرى
حاشاكه بود نكوتراز من دكرى
وآن دم كه فتد بحال خويشم نظرى
درهر دوجهان نباشد ازمن بترى
س حق سبحانه وتعالى مى فرمايد كه من أسرار خصائص شمادرتيه غيب ميدانم وآثار نقائص شما درعالم شهادت مى شناسم وديكر ميدانم آنه شما ميكنيد ازعلاكه سبب ترقى باشدبر درجات إنسانية يا موجب تنزل بدركات حيوانية ودانستن اين داناي سالك رابران دارد كه باصلاح وتزكية أعمال مشغول شده ازحيز استيفاء حظوظ حيواني برذروه استئناس بانعيم روحاني متصاعد كردد)
حيف باشد كه عمر إنساني
ون بهايم بخواب وخور كذرد
آدمي ميتوائد ازكوشش
كه مقام فرشته در كذرد
انتهى.
قال شيخنا العلامة.
أبقاه الله بالسلامة عند تأويل الحديث القدسي : "سر الإنسان سري وسري سره" يعني : سره ظاهر سري ، وصورة سري ، وسري باطن سره وحقيقة سره ، ثم قال : واعلم سر الإنسان عبارة عن الحقيقة الإنسانية الظاهرة على صورة الحقيقة الإلهية كما قال عليه السلام : "خلق الله آدم على صورته" ولما نزلت تلك الحقيقة الإنسانية من مرتبة الغيب إلى منزلة الشهادة وتجلى لها الحق سبحانه بجماله وجلاله أودع في جانبها الشرقي نور جماله وجانبها الغربي ظلمة جلاله ، وأقام في الأول ملكاً يهدي إلى الحق ، وفي الثاني : شيطاناً يدعو إلى الباطل والملك سادن قبضة الجمال ويد اللطف والشيطان خادم قبضة الجلال ويد القهر ، وإذا أراد الحق أن يصرف تلك الحقيقة الإنسانية إلى الحق يأمر الملك أن يلهمها إياه فتراه بالنور الإلهي الجمالي الذي فاض من تجلي الجمال فتتبعه وتقبله وتكون روحاً ما دام وتكون على الحق ثابتة ويصير قالبها الذي هو لوحه في إثبات الحق قلباً ترتعي في روضته ، ويتجلى لها الحق سبحانه بالتجليات الجمالية والألطاف الخالصة المورثة طمأنينتها وسكينتها وتكون على الاستسلام والطاعة والصبر والرضى وغير ذلك من الأخلاق الحميدة ، وأما إذا أراد أن يصرفها إلى الباطل فيخلى بينها وبين الشيطان فيلقنها إياه فلا تراه ولا تفهمه ، أي : لا تعلم أنه باطل يحجبها عن الحق لأن الظلمة الحاصلة من تجلي الجلال تمنعها عن ذلك فلا تجتنبه بل تأخذه وتصير نفساً مظلمة بعد
8
كونها روحاً نورانياً فتجريه في قالبها الذي هو محل لذلك ويكون ذلك القالب طبيعة مظلمة بعد كونه قلباً نورانياً فيتجلى الحق تعالى بالتجليات الجلالية ، والأحوال القهرية التي تورث الاضطراب وعدم الاستسلام فتكون على المخالفة والإعراض وتتصف بالأوصاف الذميمة بعد الاتصاف بالحميدة هكذا إلى آخر الأمر إذ ذلك سنته القديمة وعادته الأزلية إلى ما شاء الله تعالى فإنه إذا أراد بعبده خيراً يفقهه في الدين ويجذبه إلى نفسه مما سواه ولا يسلط الشيطان عليه كما قال : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) بل للملائكة السادنة لقبضة الجمال عليهم سلطان بسلطاني عليهم وأحكام القبضتين جارية في العوالم في الأنفس والآفاق على أيدي سدنتهما إلى تمام الأمر والحكم في التقلب للغالب انتهى كلام حضرة الشيخ قدس سره ، وهو الذي ما جاء مثله بعد الصدر القنوي والله أعلم اللهم اجعلني من تابعيه حقيقة ومتبعيه شريعة وطريقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
قال حسين الواعظ الكاشفي في تفسيره} الفارسي : (در نقد النصوص فرموده كه إنسان مرآتيست ذات وجهين دريك رويش خصائص ربوبيت ودرروى ديكر نقايص عبوديت ون خصائص نكرى ازهمه موجودات بزركوارتر وون نقائص عبوديت شمارى ازهمه خوارتر وبيمقدارتر
ون در خودازاوصاف تويابم اثرى
حاشاكه بود نكوتراز من دكرى
وآن دم كه فتد بحال خويشم نظرى
درهر دوجهان نباشد ازمن بترى
س حق سبحانه وتعالى مى فرمايد كه من أسرار خصائص شمادرتيه غيب ميدانم وآثار نقائص شما درعالم شهادت مى شناسم وديكر ميدانم آنه شما ميكنيد ازعلاكه سبب ترقى باشدبر درجات إنسانية يا موجب تنزل بدركات حيوانية ودانستن اين داناي سالك رابران دارد كه باصلاح وتزكية أعمال مشغول شده ازحيز استيفاء حظوظ حيواني برذروه استئناس بانعيم روحاني متصاعد كردد)
حيف باشد كه عمر إنساني
ون بهايم بخواب وخور كذرد
آدمي ميتوائد ازكوشش
كه مقام فرشته در كذرد
انتهى.
(3/6)
قال شيخنا العلامة.
أبقاه الله بالسلامة عند تأويل الحديث القدسي : "سر الإنسان سري وسري سره" يعني : سره ظاهر سري ، وصورة سري ، وسري باطن سره وحقيقة سره ، ثم قال : واعلم سر الإنسان عبارة عن الحقيقة الإنسانية الظاهرة على صورة الحقيقة الإلهية كما قال عليه السلام : "خلق الله آدم على صورته" ولما نزلت تلك الحقيقة الإنسانية من مرتبة الغيب إلى منزلة الشهادة وتجلى لها الحق سبحانه بجماله وجلاله أودع في جانبها الشرقي نور جماله وجانبها الغربي ظلمة جلاله ، وأقام في الأول ملكاً يهدي إلى الحق ، وفي الثاني : شيطاناً يدعو إلى الباطل والملك سادن قبضة الجمال ويد اللطف والشيطان خادم قبضة الجلال ويد القهر ، وإذا أراد الحق أن يصرف تلك الحقيقة الإنسانية إلى الحق يأمر الملك أن يلهمها إياه فتراه بالنور الإلهي الجمالي الذي فاض من تجلي الجمال فتتبعه وتقبله وتكون روحاً ما دام وتكون على الحق ثابتة ويصير قالبها الذي هو لوحه في إثبات الحق قلباً ترتعي في روضته ، ويتجلى لها الحق سبحانه بالتجليات الجمالية والألطاف الخالصة المورثة طمأنينتها وسكينتها وتكون على الاستسلام والطاعة والصبر والرضى وغير ذلك من الأخلاق الحميدة ، وأما إذا أراد أن يصرفها إلى الباطل فيخلى بينها وبين الشيطان فيلقنها إياه فلا تراه ولا تفهمه ، أي : لا تعلم أنه باطل يحجبها عن الحق لأن الظلمة الحاصلة من تجلي الجلال تمنعها عن ذلك فلا تجتنبه بل تأخذه وتصير نفساً مظلمة بعد
8
كونها روحاً نورانياً فتجريه في قالبها الذي هو محل لذلك ويكون ذلك القالب طبيعة مظلمة بعد كونه قلباً نورانياً فيتجلى الحق تعالى بالتجليات الجلالية ، والأحوال القهرية التي تورث الاضطراب وعدم الاستسلام فتكون على المخالفة والإعراض وتتصف بالأوصاف الذميمة بعد الاتصاف بالحميدة هكذا إلى آخر الأمر إذ ذلك سنته القديمة وعادته الأزلية إلى ما شاء الله تعالى فإنه إذا أراد بعبده خيراً يفقهه في الدين ويجذبه إلى نفسه مما سواه ولا يسلط الشيطان عليه كما قال : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) بل للملائكة السادنة لقبضة الجمال عليهم سلطان بسلطاني عليهم وأحكام القبضتين جارية في العوالم في الأنفس والآفاق على أيدي سدنتهما إلى تمام الأمر والحكم في التقلب للغالب انتهى كلام حضرة الشيخ قدس سره ، وهو الذي ما جاء مثله بعد الصدر القنوي والله أعلم اللهم اجعلني من تابعيه حقيقة ومتبعيه شريعة وطريقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 2
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ} ما نافية ومن الأولى : مزيدة للاستغراق ، والثانية : تبعيضية واقعة بمجرورها صفة لآية والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولها.
والمعنى ما ينزل إلى أهل مكة آية من الآيات القرآنية {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} غير ملتفتين ، أي : على وجه التكذيب والاستهزاء وأما الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات فإتيانها ظهورها لهم.
والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات التكوينية الدالة على وحدانية الله تعالى إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها وعن متعلقة بمعرضين والجملة في محل النصب على أنها حال من مفعول تأتي ففيها دلالة على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له في الإتيان كما يفصح عنه كلمة لما في قوله تعالى.
(3/7)
{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حيث أعرضوا عن كل آية منه وعبر عنه بذلك لكمال قبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحق مما لا يتصور صدوره عن أحد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنه شيء مغاير له في الحقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل عن أن الأول عين الثاني حقيقة وإنما الترتيب بسبب التغاير الاعتباري كما في قوله تعالى : {فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا} (الفرقان : 4) بعد قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَه عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ} (الفرقان : 4) فإن ما جاؤوا أي : فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكي لكنه لما كان مغايراً له مفهوماً وأشنع منه حالاً رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلاً لأمره كذلك مفهوم التكذيب بالحق لما كان أشنع من مفهوم الإعراض المذكور أخرج مخرج اللازم البطلان فرتب عليه بالفاء إظهاراً لغاية بطلانه ثم قيد بذلك لكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته ، والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنابَـاؤُا مَا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} سوف لتأكيد مضمون الجملة والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الذي له عظم وشأن وما عبارة عن الحق المذكور وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة أي سيعلمون ما يؤول إليه عاقبة استهزائهم بالآيات فقتلهم الله يوم بدر بالسيف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 9
{أَلَمْ يَرَوْا} لما ذكر تعالى قبائحهم من الإعراض والتكذيب والاستهزاء أتبعه بما يجري مجرى الموعظة فوعظهم بالقرون الماضية فقال ألم يروا وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية وهي
9
عرفانية مستدعية لمفعول واحد والضمير لأهل مكة أي ألم يعرفوا بمعاينة الآثار وسماع الأخبار {كَمْ} عبارة عن الأشخاص استفهامية كانت أو خبرية {أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم} من متعلقة بأهلكنا والمراد من قبل خلق أهل مكة أو من قبل زمانهم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه {مِّن قَرْنٍ} مميز لكم عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم برهة من الدهر كما في قوله صلى الله عليه وسلّم "خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وأراد بالقرن الأول : الصحابة ، وبالثاني : التابعين ، وبالثالث : تابع التابعين ، وقيل : هو عبارة عن مدة من الزمان ثمانين سنة أو سبعين أو ستين أو أربعين أو ثلاثين ، أو مائة فالمضاف على هذا محذوف أي من أهل قرن لأن نفس الزمان لا يتعلق به الإهلاك {مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الأرْضِ} استئناف لبيان كيفية الإهلاك وتفصيل مباديه مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل كيف كان ذلك فقيل مكناهم وتمكين الشيء في الأرض جعله قارّاً فيها ولما لزمه جعلها مقراً له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكّنه في الأرض وأخرى مكّن له في الأرض حتى أجري كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى : {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} بعد قوله تعالى : {مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الأرْضِ} كأنه قيل في الأول : مكّنا لهم ، وفي الثاني : ما لم نمكن لكم وما نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف محلها النصب على المصدرية أي مكناهم تمكيناً لم نمكنه لكم ويحتمل أن يكون مفعولاً به لمكناهم على المعنى لأن معنى مكناهم أعطيناهم ، أي : أعطيناهم ما لم نعطكم {وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ} أي : المطر أو السحاب {عَلَيْهِمْ} متعلق بأرسلنا {مِّدْرَارًا} مغزاراً أي كثير الدرور والصبّ وهو حال من السماء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 9
(3/8)
قال ابن الشيخ : المدرار مفعال وهو من أبنية المبالغة للفاعل كامرأة مذكار ومئناث وأصله من درّ اللبن دروراً وهو كثرة وروده على الحالب يقال سحاب مدرار ومطر مدرار إذا تتابع منه المطر في أوقات الاحتياج إليه {وَجَعَلْنَا الانْهَـارَ} أي : صيرناها {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} أي : من تحت أشجارهم ومساكنهم وقصورهم والمعنى أعطيناهم من البسط في الأجسام والامتداد في الأعمار والسعة من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضار ما لم نعط أهل مكة ففعلوا ما فعلوا من الكفران والعصيان {فَأَهْلَكْنَـاهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي : أهلكت كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب فما أغنى عنهم تلك العدد والأسباب فسيحل بهؤلاء مثل ما حلّ بهم من العذاب {وَأَنشَأْنَا مِنا بَعْدِهِمْ} أي : أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن {قَرْنًا ءَاخَرِينَ} بدلاً من الهالكين وهو لبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئاً ، بل كلما أهلك أمة أنشأ بدلها أخرى يعمر بهم بلاده ومن عادته تعالى إذهاب أهل الظلم بعد الإمهال ومجيئه بأهل العدل والإنصاف ونفي أهل الرياء والسمعة ، وإثبات أهل الصدق والإخلاص ولن يزال الناس من أهل الخير في كل عصر.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : "إنعباداً يقال لهم الأبدال ، لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية ، ولكن بلغوا بصدق الروع وحسن النية وسلامة الصدر والرحمة بجميع المسلمين ، اصطفاهم الله
10
بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم أربعون رجلاً على مثل قلب إبراهيم عليه السلام ، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه ، واعلم أنهم لا يسبون شيئاً ولا يلعنون ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدونه من فوقهم ، أطيب الناس خبراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً لا تدركهم الخيل المجراة ولا الرياح العواصف ، فيما بينهم وبين ربهم إنما قلوبهم تصعد في السقوف العلى ارتباحاً إلى الله تعالى في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون" وهذا بعض كلامه.
وفي قوله تعالى : {فَأَهْلَكْنَـاهُم بِذُنُوبِهِمْ} إشارة إلى أن الهلاك مطلقاً صورياً ومعنوياً بدنياً ومالياً إنما هو بشؤم المعصية وكفران النعمة ونعم ما قيل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 9
شكر نعمت نعمتت افزون كند
كفر نعمت ازكفت بيرون كند
فمن أعرض عن المعجزات والكرامات والإلهامات لإقباله على الدنيا وزينتها وشهواتها كأنهم الأنعام بل هم أضلّ لأن الأنعام ما كذبت بالحق وهو قد كذب.
دريغ آدمي زاده ر محل
كه باشد وانعام بل هم اضل
وقول تعالى : {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} أي : في الدنيا والآخرة {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنابَـاؤُا مَا} أما في الدنيا فمن استهزائهم بأقوال الأنبياء والأولياء وأحوالهم يصمهم الله ويعمي أبصارهم فلا يهتدون إلى حق ولا إلى حقيقة سبيلاً وأما في الآخرة فيعذبهم بعذاب القطعية والبعد والحرمان والخلود في النيران ـ ـ حكي ـ ـ أن إمام الحرمين كان يدرس يوماً في المسجد بعد صلاة الصبح فمرّ عليه بعض شيوخ الصوفية ومعه أصحابه من الفقراء وقد دعوا إلى بعض المواضع فقال إمام الحرمين في نفسه ما شغل هؤلاء إلا الأكل والرقص فلما رجع الشيخ من الدعوة مرّ عليه وقال يا فقيه ما تقول فيمن صلّى الصبح وهو جنب ويقعد في المسجد ويدرس العلوم ويغتاب الناس فذكر إمام الحرمين أنه كان عليه غسل ثم حسن اعتقاده بعد ذلك في الصوفية.
أقول : وأول الأمر اعتقادهم ثم الاتباع بطريقتهم ثم الوصول إلى مقاماتهم.
وقيل لأبي القاسم الجنيد قدس سره : ممن استفدت هذه العلوم؟ فقال : من جلوسي بين يدي الله تعالى ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة وأشار إلى درجة في داره فهذه الطريقة لا تنكشف أسرارها ولا تتلألأ أنوارها إلا بعد اجتهاد تام وسلوك قوي والله الهادي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 9
(3/9)
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} ـ ـ روي ـ ـ أن بعض المشركين قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله فأنزل الله تعالى قوله : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} {كِتَـابًا فِى قِرْطَاسٍ} أي : مكتوباً في رقّ فالكتاب بمعنى مفعول {فَلَمَسُوهُ} أي الكتاب {بِأَيْدِيهِمْ} بعد ما رأوه بأعينهم بحيث لم يبق لهم في شأنه اشتباه فذكر اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا أي سدّت وذكر الأيدي مع أن اللمس لا يكون عادة إلا بها لدفع التجوز فإنه يتجوز به للتفحص كما في قوله تعالى : {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} (الجن : 8) أي تفحصنا {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} تعنتاً وعناداً لحق بعد ظهوره كما هو دأب المحجوج اللجوج {إِنَّ هَـاذَآ} أي : الكتاب {إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي : بين كونه سحراً على كل أحد ولا شك أن من حرم التوفيق وكذب بالحق غيباً وحدساً كذب به عياناً وحساً فلو أن أهل الإنكار رأوا الأولياء والصالحين
11
يطيرون في الهواء لقالوا هذا سحر وهؤلاء شياطين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 11
{وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} شروع في قدحهم في النبوة صريحاً بعدما أشير إلى قدحهم فيها ضمناً ولولا تحضيضية بمعنى الأمر والضمير في عليه للنبي عليه السلام أي هلاّ أنزل عليه ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبي {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الامْرُ} ولو أنزلنا ملكاً على هيئة حسبما اقترحوه والحال إنه من هول المنظر بحيث لا يطيق مشاهدته قوى الآحاد البشرية لقضي الأمر ، أي : هلاكهم بالكلية {ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} أي : لا يمهلون بعد نزوله طرفة العين ومعنى ثم بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار وجعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة العذاب أشد من نفس العذاب وأشق {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا} الهاء للمطلوب وهو أن يكون الشاهد على نبوته عليه السلام ملكاً {لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا} ، أي : لمثلنا ذلك الملك رجلاً لما مرّ من عدم استطاعة الآحاد لمعاينة الملك على هيكله وكان جبرائيل عليه السلام يأتي النبي عليه السلام في صورة دحية الكلبي وجاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين مختصمين إليه وجاءت الملائكة إلى إبراهيم في صورة الضيفان فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك وصورته وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء لقوتهم القدسية {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} جواب محذوف ، أي : ولو جعلناه رجلاً لخلطنا عليهم بتمثيله رجلاً {مَّا يَلْبِسُونَ} على أنفسهم حينئذٍ بأن يقولوا له إنما أنت بشر ولست بملك والتغيير عن تمثيله تعالى رجلاً باللبس لكونه سبباً للبسهم وفيه تأكيد لاستحالة جعله ملكاً كأنه قيل لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم من لبست الأمر على القوم ألبسه من باب ضرب إذا شبهت وجعلته مشكلاً عليهم وأصله الستر بالثوب.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىاَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} برسل متعلق باستهزىء ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل وهو تسلية لرسول الله عليه السلام عما يلقاه من قومه أي وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأن خطير ، وذوي عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه {فَحَاقَ} عقيبه ، أي : أحاط أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن مناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ما موصولة اسمية والعائد الهاء في به وبه متعلق بيستهزئون والموصول مع صلته فاعل حاق ، أي : فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله فإسناد الإحاطة والإهلاك إلى الرسل من قبيل الإسناد إلى السبب والمعنى أحاط الله بهم وأهلكهم بسبب استهزائهم بالرسل وقد أنجز الله ذلك يوم بدر ، أي إنجاز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 11
{قُلْ سِيرُوا فِى الأرْضِ} أي : سافروا في الأرض لتعرف أحوال الأمم الماضية {ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي : تفكروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال وثم لتفاوت ما بين الواجبين فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلة إلى النظر ومثله قوله توضأ ثم صلّ والعاقبة مصدر وهي منتهى الأمر ومآله.
اعلم أن الاستهزاء من شيم النفوس المتمردة بأرباب الدين من الأنبياء والأولياء في كل زمان وحين ـ ـ يروى ـ ـ أن النبي عليه السلام كان جالساً في المسجد الحرام مع جماعة من المستضعفين بلال وصهيب وعمار
12
وغيرهم فمرّ بهم أبو جهل في ملأ من قريش فقال يزعم محمد أن هؤلاء ملوك الجنة فاستهزأ بفقراء المسلمين وقد فعل الله به ما فعل يوم بدر فنال جزاء استهزائه وذلك محل العبرة لأولى الأبصار.
وفي "المثنوي" :
نى ترا حفظ زبان از رازكس
(3/10)
نى نظر كردن بعبرت يش وس
يش ه بود يا دمرك ونزع خويش
س ه باشد مردن ياران زيش
ـ ـ حكي ـ ـ أن شيعياً يقال له ابن هيلان كان يتكلم بما لا ينبغي في حق الصحابة فبينما هو يهدم حائطاً إذ سقط عليه فهلك فدفن بالبقيع مقبرة المدينة فلم يوجد ثاني يوم في القبر الذي دفن فيه ولا التراب الذي ردم به القبر بحيث يستدل بذلك لنبشه وإنما وجدوا اللبن على حاله حسبما شاهده الجم الغفير حتى كان ممن وقف عليه القاضي جمال الدين ، وصار الناس يجيئون لرؤيته إرسالاً إلى أن اشتهر أمره وعدّ ذلك من الآيات التي يعتبر بها من شرح الله صدره نسأل الله السلامة كذا في "المقاصد الحسنة" للامام السخاوي ، فعلم منه عاقبة الطعن والاستهزاء وأن الله تعالى ينقل جيفة الفاسق من المحل المتبرك به إلى المكان المتشاءم منه كما ورد في الحديث الصحيح "من مات من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله إليهم حتى يحشر معهم".
كما في "الدرر المنتثرة" للامام السيوطي وهذا صريح في نقل جسده لأن الحشر بالروح والجسد جميعاً فكما أن الله تعالى ينقل أجساد الأشرار من مقام شريف إلى محل وضيع كذلك ينقل أجسام الأخيار من مكان وضيع إلى مقام شريف كالبقيع والحجون مقبرتي المدينة ، ومكة فإن الله تعالى يسوق الأهل إلى الأهل وهذا آخر الزمان وقلما يوجد فيه من هو متوجه إلى القبلة في الظاهر والباطن والحياة والممات ، ونعم ما قيل : ذهب الناس وما بقي إلا النسناس وهم الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس وهم يأجوج ومأجوج أو حيوان بحري صورته كصورة الإنسان أو خلق على صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم وقيل هم من بني آدم ـ ـ روي ـ ـ أن حيّاً من عاد عصوا رسولهم فمسخهم الله نسناساً لكل رجل منهم يد ورجل من شق واحد ينقز كما ينقز الطير ويرعون كما ترعى البهائم فأين الأخيار واين أولو الأبصار مضوا والله ما بقي إلا القليل.
قال الحافظ قطعة :
جزء : 3 رقم الصفحة : 11
بدرين ظلمت سراتاكى ببوى دوست بنشينم
كهي انكشت دردندان كهى سر برسر زانوا
تناهى الصبر مذخلت بمأوى الأسد سرحان
وطار العقل اذغنت بمغنى الورق غربان
بيا اي طائر فرخ بياور مده دولت
عسى الأيام إن يرجعن قوماً كالذي كانوا
أي : كالوضع الذي كانوا عليه من الانتظام مطلقاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 11
{قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُل} إلجاء لأهل مكة إلى الإقرار بأن الكل من العقلاء وغيرهمخلقاً وملكاً وتصرفاً كأنه يقول هل لكم سبيل إلى عدم الإقرار بذلك مع كونه من الظهور بحث لا يقدر أحد على إنكاره وفي تصدي السائل للجواب قبل أن يجيب غيره إيماء إلى أن مثل هذا السؤال لكون جوابه متعيناً ليس من حقه أن ينتظر جوابه بل حقه أن يبادر إلى الاعتراف بالجواب {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} جملة مستقلة داخلة تحت الأمر مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد
13
لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة والإنابة ومعنى كتب الرحمة على نفسه التزمها وأوجبها تفضلاً وإحساناً لأنه تعالى منزه عن أن يجب عليه شيء حقيقة وفي التعبير عن الذات بالنفس حجة على من ادعى أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} جواب قسم محذوف ، أي : والله ليجمعكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شرككم وسائر معاصيكم ، وإن أمهلكم بموجب رحمته ولم يعاملكم بالعقوبة الدنيوية.
{لا رَيْبَ فِيهِ} أي : في اليوم أو في الجميع.
{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم} أي : بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم وهو مبتدأ وخبره قوله : {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان ، والخروج عن دائرة الرحمة الخاصة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 13
قال القاضي : والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفر.
وفي "تفسير الكاشفي" : (مراد رحمت ذاتيه باشدكه رحمت مطلقه كونيد واين رحمتيست كه برهمه يز فرا رسيده ونتيجة آن عطاء ادنيست بي سابقه سؤال واستدعا ورابطه حاجت واستحقاق نانه درمثنوىء معنوي واردست)
در عدم ما مستحقان كى بديم
كه برين جان وبرين دانش زديم
ما نبوديم وتقاضا مان نبود
(3/11)
لطف تونا كفته ما مى شنود قال الإمام الأكمل في شرح الحديث : عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حوافرها عن ولدها خشية أن تصيبه".
فهذا مما يدل على كمال الرجاء والبشارة للمسلمين لأنه حصل في هذه الدار من رحمة واحدة ما حصل من النعم الظاهرة والباطنة فما ظنك بمائة رحمة في الدار الآخرة.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم على النبي عليه السلام سبي فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها وتسعى فإذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي عليه السلام : "أترون هذه طارحة ولدها في النار" ، قلنا لا وهي قادرة على أن لا تطرحه فقال : "الله أرحم بعباده من هذه بولدها".
وفي "المثنوي" :
آتش ازقهر خدا خود ذره ايست
بهر تهديد لئيمان دره ايستبانين قهري كه زفت وفايقست
برد لطفش بين برآتش سابقست
رحمت بيون نين دان اي در
جزء : 3 رقم الصفحة : 13
نايد اندر وهم ازوى جزائر قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : وجدنا آية الرحمة وهي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة 1) تتضمن ألف معنى كل معنى لا يحصل إلا بعد انقضاء حول ولا بد من حصول هذه المعنى التي تضمنها بسم الله الرحمن الرحيم لأنه ما ظهر إلا ليعطي معناه فلا بد من كمال ألف سنة لهذه الأمة ، اللهم.
ارحمنا إذا عرق الجبين وكثر الأنين وبكى علينا الحبيب ويئس منا الطبيب ، اللهم ارحمنا إذا وارانا التراب وودعنا الأحباب وفارقنا النعيم ، انقطع النسيم ،
14
اللهم ارحمنا إذا نُسي اسمنا وبلي جسمنا واندرس قبرنا وانطوى ذكرنا ، اللهم ارحمنا يوم تبلى السرائر وتبدى الضمائر وتنشر الدواوين وتحشر الموازين ، اللهم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم برحمتك نستعين.
هذه مناجاة حضرة الشيخ المذكور ولعمري إنها مناجاة شريفة ومناداة لطيفة {وَلَه مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ـ ـ روي ـ ـ أن كفار مكة أتوا رسول الله فقالوا يا رسول الله قد علمنا أنك ما يحملك على ما تدعونا إليه إلا الفقر والحاجة فنحن نجمع لك من القبائل أموالاً تكون أغنانا رجلاً وترجع عما أنت عليه من الدعوة فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : ولله تعالى خاصة جميع ما استقر فيهما واشتملا عليه فإن أراد يعطي رسوله مالاً كثيراً ليكون أغنى الخلق نزل الملوان منزلة المكان فعبر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسكنى فيهما {وَهُوَ السَّمِيعُ} المبالغ في سماع كل مسموع.
{الْعَلِيمُ} المبالغ في العلم بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال وفي الخبر : "إن الله تعالى خلق جوهرتين إحداهما مظلمة ، والأخرى مضيئة فاستخلص من المضيئة كل نور فخلق من نورها النهار ، ومن الباقي النار استخلص من الظلمة كل ظلمة فخلق منها الليل وخلق من الباقي الجنة فالليل من الجنة والنهار من النار" ، ولذلك كان الأنس بالليل أكثر فالليل أنس المحبين وقرة أعين المحبوبين ، وقدم الليل على النهار لأن الليل لخدمة المولى والنهار لخدمة الخلق ومعارج الأنبياء كانت بالليل والقدر في الليل خير من ألف شهر وليس في الأيام مثلها وكان بعض الأولياء يقول : إذا جاء الليل جاء الخلق الأعظم.
يقول الفقير جامع هذه المجالس : أما من حجب عن سرّ الليل وحلاوة المناجاة فيه وذوق الخلوة والوحدة فالمحبوب إليه النهار كعلماء الرسوم ألا ترى إلى ثعلب النحوي يقول وددت أن الليل نهار حتى لا تنقطع عني أصحابي وهذا حرص منه على الكثرة والألفة معها وإلا فكل معلم لم يكن أعلى حالاً من المجتهدين ألا ترى أن أمامنا الأعظم كان يدرس ويحيي الليل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 13
هر كنج سعادت كه اوداد بحافظ
ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود
وعلم من التقرير المذكور أفضلية الليل على النهار.
واعلم أن الكل خلق الله تعالى ولكل منهما ملك موكل به ، وفي الخبر : عن سلمان رضي الله عنه قال : "الليل موكل به ملك يقال له شراهيل ، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب ، فإذا نظرت إليها الشمس حجبت في أسرع من طرفة العين ، وقد أمرت أن لا تغرب حتى ترى الخرزة فإذا غربت جاء الليل وقد نشرت الظلمة من تحت جناحي ملك فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع فإذا رأتها الشمس طلعت في طرفة عين وقد أمرت أن لا تطلع حتى ترى الخرزة البيضاء فإذا طلعت جاء النهار فنشر النور من تحت جناحي ملك فلنور النهار ملك موكل ولظلمة الليل ملك موكل عند الطلوع والغروب" كما وردت الأخبار.
(3/12)
{قُلْ} يا محمد لكفار مكة ونزلت حين دعوه إلى الشرك ودين آبائه {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} أي : معبوداً بطريق الاستقلال أو الاشتراك وقد اتخذني الله في أزليته حبيباً كما قال عليه السلام : "لو كنت متخذاً خليلاً غير الله لاتخذت أبا بكر خليلاً
15
ولكن الله اتخذ صاحبكم خليلاً".
أي : لا أتخذ فالمنكر هو اتخاذ غير الله ولياً لا نفس اتخاذ الولي لكن قدم المفعول لكونه مناط الانكار.
{فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} مبدعهما ، أي : خالقهما ابتداء لا على مثال سبق وهو بدل من الجلالة {وَهُوَ} أي : والحال أنه {يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} ، أي : يرزق الخلق ولا يرزَق وتخصيص الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وجههمخلصاً له لأن النبي إمام أمته في الإسلام.
{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي : وقيل لي لا تكونن من المشركين به تعالى في أمر من أمور الدين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ، وحقيقة الإسلام الإخلاص من حبس الوجود وما خلص منه غيره عليه السلام بالكلية ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وهو يقول أمتي أمتي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 13
{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} أي : بمخالفة أمره ونهيه أيُ عصيان كان.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي : عذاب يوم القيامة مفعول أخاف وفيه قطع لأطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم.
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} أي : من يصرف عنه العذاب في ذلك اليوم العظيم ويومئذٍ ظرف للصرف.
{فَقَدْ رَحِمَهُ} أي : نجاه وأنعم عليه.
{وَذَالِكَ} الصرف {الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أي : النجاة الظاهرة.
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} دليل آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله وليّاً ، أي ببلية كمرض وفقر ونحو ذلك والباء للتعدية وترجمته بالفارسية (واكر برساند خدا بتوسختي).
{فَلا كَاشِفَ لَهُ} أي : فلا قادر على كشف ذلك الضر ورفعه عنك.
{إِلا هُوَ} تعالى وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من صحة ونعمة ونحو ذلك {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فكان قادراً على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على رفعه كقوله : {فَلا رَآدَّ لِفَضْلِهِ} (يونس : 107).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : "أهدي إلى النبي عليه السلام بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني خلفه ثم سار بي ملياً ثم التفت إلى فقال : "يا غلام" فقلت لبيك يا رسول الله فقال : "احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، واعلم أن النصر مع الصبر وأنّ مع الكرب الفرج وأن مع العسر يسراً".
جزء : 3 رقم الصفحة : 16
فإن قلت : قد يتصور أن يكشف الإنسان عن صاحبه كربة من الكرب.
قلت : كاشف الضر في الحقيقة هو الله تعالى إما بواسطة الأسباب أو بغيرها.
قال الحافظ :
كرر نج يشت آيد وكر راحت اي حكيم
نسبت مكن بغير كه اينها خدا كند
وكذا الاستعانة في الحقيقة من الله تعالى ، فالاستعانة من الأنبياء والأولياء إنما هي استشفاع منهم في قضاء الحاجة والموحّد لا يعتقد أن في الوجود مؤثراً غير الله تعالى.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ} أي : القادر الذي لا يعجزه شيء مستعلياً.
{فَوْقَ عِبَادِه وَهُوَ الْحَكِيمُ} في كل ما يفعله ويأمر به {الْخَبِيرُ} بأحوال عباده وخفايا أمورهم.
صور قهره تعالى وعلو شانه بالعلو الحسي فعبر عنه بالفوقية بطريق الاستعارة التمثيلية فقوله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} عبارة عن كمال القدرة
16
كما أن قوله : {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} عبارة عن كمال العلم.
قال المولى الفناري في "تفسيره" : الفوقية من حيث القدرة لا من حيث المكان لعلو شأنه تعالى عن ذلك فإنه تعالى قاهر للممكنات معدومة كانت أو موجودة لأنه يقهر كل واحد منهما بضده فيقهر المعدومات بالإيجاد والتكوين والموجودات بالإفناء والإفساد.
(3/13)
وفي "التأويلات النجمية" : وقد عم قهره جميع عباده فقهر الكفار بموت القلوب وحياة النفوس إذ أخطأهم النور المرشش على الأرواح في بدء الخلقة فضلوا في ظلمات الطبيعة وما اهتدوا إلى نور الشريعة وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فأخرجهم من ظلمات الطبيعة بالقيام على طاعته وقهر قلوب المحبين بلوعات الاشتياق فآنسها بلطف مشاهده وقهر أرواح الصديقين بسطوات تجلي صفات جلاله وبالجملة لا ترى شيئاً سواه إلا وهو مقهور تحت أعلام عزته وذليل في ميادين صمديته فعلى العبد أن يعرف مولاه ويشتغل بعبوديته وهو الله تعالى الذي خلق كل شيء أوجده وقهره ـ ـ.
وحكي ـ ـ عن الشيخ عبد الواحد بن زيد قدس سره قال : كنت في مركب فطرحتنا الريح إلى جزيرة وإذا فيها رجل يعبد صنماً فقلنا له يا رجل من تعبد فأومأ إلى الصنم فقلنا له إن آلهك هذا مصنوع عندنا من يصنع مثله ما هذا بآلة يعبد ، قال : فأنتم من تعبدون قلنا نعبد الذي في السماء عرشه وفي الأرض بطشه وفي الأحياء والأموات قضاؤه تقدست أسماؤه وجلت عظمته وكبرياؤه قال ومن أعلمكم بهذا قلنا وجّه إلينا رسولاً كريماً فأخبرنا بذلك ، قال ما فعل الرسول فيكم قلنا لما أدى الرسالة قبضه الملك إليه واختار له ما لديه قال فهل ترك عندكم من علامة قلنا نعم ترك عندنا كتاباً للملك قال : فأروني كتاب الملك فإنه ينبغي أن تكون كتب الملوك حساناً فأتيناه بالمصحف فقال ما أعرف هذا فقرأنا عليه سورة فلم يزل يبقى حتى ختمنا السورة فقال ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى ثم أسلم وحسن إسلامه ثم مات بعد أيام على أحسن حال والحمدالملك المتعال في الغدو والآصال إنه هو المعبود المقصود وإليه يؤول كل أمر موجود.
جزء : 3 رقم الصفحة : 16
{قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةً} ـ ـ روي ـ ـ أن قريشاً قالوا لرسول الله يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد أنك رسول الله فإنهم أنكروك فأنزل الله تعالى هذه الآية أمر حبيبه عليه السلام بأن يقول لهم أي شيء أعظم من جهة الشهادة {قُلِ اللَّهُ} أي : الله أكبر شهادة فشهادته أكبر من شهادة الخلق فإن شهادة الخلق وعلومهم لا تحيط بحقائق الأشياء كلها والحق سبحانه هو الذي يحيط علمه بجميع حقائق الأشياء أمر له عليه السلام بأن يتولى الجواب بنفسه للإيذان بتعينه وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره.
{شَهِيدٌ} أي : هو شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} على صدقي {أُوحِىَ إِلَيْكَ} من جهته تعالى {هَـاذَا الْقُرْءَانُ} الشاهد بصحة رسالتي {لانذِرَكُم بِهِ} أي : أخوفكم بما فيه من الوعيد أيها الموجودون وقت نزول القرآن {وَمَنا بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين أي بلغه القرآن من الأنس والجن إلى يوم القيامة.
قال محمد بن كعب القرطبي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً عليه السلام وسمع منه.
أئنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} إلجاء لهم إلى الإقرار بإشراكهم إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره لاشتهارهم به والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ والمعنى بالفارسية (آيا شما ييدكه
17
كواهي ميدهيد).
{أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل} لهم {لا أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} تكرير الأمر للتأكيد أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو أي متفرد بالألوهية {وَإِنَّنِى بَرِىاءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} به من الأصنام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 17
{الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} جواب عما سبق من قولهم (لقد سألنا عنك اليهود والنصارى) والمراد بالموصول اليهود والنصارى وبالكتاب الجنس المتنظم للتوراة والإنجيل {يَعْرِفُونَهُ} أي : محمداً عليه السلام بحليته ونعوته في كتابهم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} بحلاهم المعينة لهم ـ ـ روي ـ ـ أن رسول الله لما قدم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبد الله بن سلام أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة فقال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني ؛ لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى فقال عمر وفقك الله يا ابن سلام" {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم} أي : غبنوا أنفسهم من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها وأعرضوا عن البينات الموجبة للإيمان بالكلية وهو مبتدأ خبره قوله : {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} لما أنهم مطبوع على قلوبهم والفاء السببية تدل على أن تضييع الفطرة الأصلية والعقل السليم سبب لعدم الإيمان.
قال البغوي : وذلك أن الله تعالى جعل لكل آدمي منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار وذلك هو الخسران.(3/14)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لوصفهم النبي المنعوت في الكتابين بخلاف أوصافه عليه السلام فإنه افتراء على الله تعالى وبقولهم الملائكة بنات وقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونحو ذلك أي لا أحد أظلم منه.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} كأن كذبوا بالقرآن وبالمعجزات وسموها سحراً وحرفوا التوراة وغيروا نعوته عليه السلام فإن ذلك تكذيب بآياته وكلمة أو للإيذان بأن كلاًّ من الافتراء والتكذيب وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم كيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما أثبته.
{أَنَّهُ} أي : الشأن {لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ} أي : لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حال الظالمين هذا فما ظنك بمن في الغاية القاصية من الظلم.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} يوم منصوب على الظرفية بمضمر مؤخر قد حذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه والحشر جمع الناس إلى موضع معلوم والضمير للكل وجميعاً حال منه ، والمعنى : ويوم نحشر الناس كلهم ، ثم نقول للمشركين خاصة للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد ما نقول كان من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال والعطف بثم للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم.
{أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ} أي : آلهتكم التي جعلتموها شركاءفالإضافة مجازية باعتبار إثباتهم الشركة لآلهتهم.
{الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي : تزعمونها شركاء شفعاء والزعم القول الباطل والكذب في أكثر الكلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 17
{ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا} الفتنة مرفوع على أنه اسم تكن والخبر إلا أن قالوا والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وفتنتهم إما كفرهم مراداً به عاقبته أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي التزموه مدة
18
أعمارهم وافتخروا به شيئاً من الأشياء إلا جحوده والتبري منه بأن يقولوا {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وأما جوابهم عبر عنه بالفتن ؛ لأنه كذب وإنما يقولون مع علمهم بأنه بمعزل من النفع رأساً من فرط الحيرة والدهش كما يقولون ربنا أخرجنا منها وقد أيقنوا بالخلود.
{أَنظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} بإنكار صدور الإشراك عنهم في الدنيا وتعجب من كذبهم فإنه أمر عجيب {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} عطف على كذبوا داخل في حيز انظر ، أي : كيف زال وذهب وبطل افتراؤهم فإنهم كانوا يفترون في حق الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله تعالى فبطل ذلك بالكلية يوم القيامة.
وفي الآيات أمور : الأول : إطلاق لفظ الشيء على الله تعالى لكن بمعنى شاىء لا بمعنى مشييء وجوده فهو الشائي المريد ، والثاني : إنه يلزمه التبري من الشرك عقيب التوحيد.
قال المولى الشهير بأخي لبي في "حواشي صدر الشريعة" : إسلام اليهود والنصارى مشروط بالتبري من اليهودية والنصرانية بعد الإتيان بكلمتي الشهادة وبدون التبري لا يكونان مسلمين ولو أتيا بالشهادتين مراراً لأنهما فسرا قولهما بأنه رسول الله إليكم لكن هذا في الذين اليوم بين ظهراني أهل الإسلام أما إذا كان في دار الحرب وحمل عليه رجل من المسلمين فأتى بالشهادتين أو قال دخلت دين الإسلام أو في دين محمد عليه السلام فهذا دليل توبته انتهى.
قال في "الدر" : المختصر في صفة الإيمان أن يقول : ما أمرني الله تعالى به قبلته وما نهاني عنه انتهيت عنه فإذا اعتقد ذلك بقلبه وأقر بلسانه كان إيماناً صحيحاً وكان مؤمناً بالكل انتهى.
وإيمان المقلد صحيح عند الإمام الأعظم إلا أنه يأثم بترك النظر والاستدلال.
وفي فصل الخطاب من نشأ في بلاد المسلمين وسبح الله تعالى عند رؤية صنائعه فهو خارج عن حد التقليد.
والثالث أن قوله تعالى : {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} (الأنعام : 2) يشير إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء ومبدأ وجود الأبناء منهم فكذلك أهل المعرفة تحقق عندهم أن الله تعالى مصدرهم ومبدأ وجودهم منه.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 17
در مكتب حقائق ويش اديب عشق
هان اي سر بكوش كه روزي درشوى
خواب وخورت زمرتبه خويش دور كرد
آنكه رسى بخويش كه بى خواب وخور شوى
(3/15)
فالوصول إلى المبدأ القديم بعد العبور من جسر الوصف الحادث.
والرابع : أن النافع هو الإيمان والتوحيد والصدق والإخلاص دون الشرك والكذب ـ ـ يروى ـ ـ أن المشركين إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا تنجو مع أهل التوحيد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر فلا يفلحون ، وكذا أهل الرياء من أهل التوحيد يزعمون أنهم على اليقين وكمال الإخلاص وأفعالهم الصادرة عن جوارحهم تدل على خلاف ذلك فإنما خلق الله جهنم لتطهير أهل الشرك مطلقاً لكن أهل الكفر مخلدون فافهم المقام.
واعلم أن الله تعالى واحد وكل شيء يشهد على وحدته وعلى هذه الوحدة يعرفه ويشاهده أهل المعرفة والمشاهدة فإن كثرة الآثار لا تنافي الوحدة كالنواة مع الشجرة.
قال الحافظ :
تادم وحدت زدى حافظ شور يده حال
خامه توحيد كش برورق اين وآن
جزء : 3 رقم الصفحة : 17
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} إذا قرأت القرآن ـ ـ روي ـ ـ أنه اجتمع أبو سفيان
19
والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : للنضر وكان صاحب أخبار يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل : كلا فنزلت فالضمير للمشركين.
{وَجَعَلْنَا} أي : أنشأنا {عَلَى قُلُوبِهِمْ} الضمير راجع إلى من باعتبار المعنى.
{أَكِنَّةً} أي أغطية كثيرة لا يقادر قدرها خارجة مما يتعارفه الناس.
جمع كنان بالكسر وهو ما يستر به الشيء {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعول له بحذف المضاف أي كراهة أن يفقهوا ما يستمعون من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع جعلنا {وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} أي : صمماً وثقلاً كراهة أن يستمعوه حق الاستماع وهذا تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي عليه السلام وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومجّ أسماعهم له وهذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن كما هو مذهب أهل السنة.
وفي الآية : إشارة إلى أن مكافاة من يستمع إلى كلام الله تعالى أو إلى حديث النبي عليه السلام أو إلى كلمات أرباب الحقائق بالإنكار ليأخذوا عليها ويطعنوا فيها أن يجعل الله تعالى حجاباً على قلوبهم وسمعهم حتى لا يصل إليهم أنوارها ولا يجدون حلاوتها ولا يفهمون حقائقها.
قال المولى الجامي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 19
عجب نبودكه ازقر آن نصيبت نيست جز حرفى
كه ازخو رشيد جز كرمى نبيند شم نابينا
{وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ} من الآيات القرآنية أي يشاهدوها بسماعها {لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي كفروا بكل واحدة منها وسموها سحراً وافتراء وأساطير لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم.
{حَتَّى} ابتدائية ومع هذا لا مانع من أن تفيد معنى الغاية أي بلغ بهم ذلك المنع من فهم القرآن إلى أنهم {إِذَا جَآءُوكَ يُجَـادِلُونَكَ} أي حال كونهم مجادلين لك.
{يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : لا يكتفون بمجرد عدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون {إِنَّ هَـاذَآ} أي ما هذا القرآن {إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أي : أباطيلهم وأكاذيبهم ، جمع أسطورة بالضم كالأضاحيك والأعاجيب جمع أضحوكة وأعجوبة.
وفي "المثنوي" :
ون كتاب الله بيامد هم بران
اين نين طعنه طعنه زدند آن كافران
كه اساطيراست وافسانه نند
نيست تعميقي وتحقيقي بلند
توز قرآن اي سر ظاهر مبين
ديو آدم را نبيند غير طين {وَهُمْ} أي : الكفار {يَنْهَوْنَ} الناس {عَنْهُ} أي : عن القرآن والإيمان به.
{وَيَنْـاَوْنَ عَنْهُ} أي : يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم منه وتأكيداً لنهيهم عنه فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي ولعل ذلك هو السر في تأخير النأي عن النهي.
والنأي البعد.
{وَإِن يُهْلِكُونَ} أي : ما يهلكون بالنهي والنأي.
{إِلا أَنفُسُهُمْ} لأن ضرره عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي : والحال إنهم ما يعلمون ، أي : لا بإهلاك أنفسهم ولا باقتضاء ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئاً من القرآن والرسول والمؤمنين.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} الخطاب
20
(3/16)
إما لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل أحد من أهل المشاهدة والعيان ، والوقف : الحبس وجواب لو ومفعول ترى محذوف أي لو تراهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها لرأيت ما لا يساعده التعبير.
{فَقَالُوا يا لَيْتَنَا} للتنبيه يا لَيْتَنَا نُرَدُّ} إلى الدنيا {وَلا نُكَذِّبَ بآيات رَبِّنَا} القرآنية {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بها العاملين بمقتضاها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل ونصب الفعلين على جواب التمني بإضمار أن بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 19
{بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} أي : ليس الأمر على ما قالوه من إنهم لو ردوا إلى الدنيا لآمنوا فإن التمني الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفون في الدنيا وهي النار التي وقفوا عليها والمراد بإخفائها تكذيبهم لها فإن التكذيب بالشيء كفر به وإخفاء له محالة {وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا فرضاً {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} من الشرك ونسوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارهم على الشاهد دون الغائب كإبليس قد عاين من آيات الله تعالى ثم عاند فلا راد لما قضاه الله تعالى ولا مبدل لما حكم في الأزل.
{وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} أي : لقوم دنيهم الكذب في كل ما يأتون وما يذرون وبهذه الآية يفتى بقتل أهل البغي والفساد ؛ إذ لا يؤمن من أن يعودوا لما نهوا عنه.
وفي "المثنوي" :
آن ندامت ازنتيجه رنج بود
نه زعقل روشنى ون كنج بود
ونكه شد رنج آن ندامت شد عدم
مى نيرزد خاك آن توبه وندم
ميكند اوتوبه وير خرد
بانكه لوردوا لعادوا ميزند
{وَقَالُوا} عطف على عادوا داخل في حيز الجواب {إِنْ هِىَ} أي : ما الحياة فالضمير للحياة فإن من الضمائر ما يذكر مبهماً ولا يعلم ما يرجع إليه إلا بذكر ما بعده.
{إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد ما فارقنا هذه الحياة كأن لم يروا ما رأوا من الأحوال التي أولها البعث والنشور.
جزء : 3 رقم الصفحة : 19
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي : حبسوا للسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعتاب والجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً {قَالَ} لهم على لسان الملائكة موبخاً وهو استئناف.
{أَلَيْسَ هَـاذَا} البعث والحساب {بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} إنه لحق {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ} الذي عاينتموه {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي : بسبب كفركم في الدنيا بذلك ، وخص لفظ الذوق للإشارة إلى أن ما يجدونه من العذاب في كل حال هو ما يجده الذائق لكون ما يجدون بعده أشد من الأول.
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ} أي : قد غبن الذين كذبوا بالبعث بعد الموت {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ} غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم فإنه أبدى لا حد له.
{بَغْتَةً} حال من فاعل جاءتهم ، أي : باغتة مفاجئة والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير أن يشعر به الإنسان حتى لو كان له شعور بمجيئه ثم جاءه بسرعة لا يقال فيه بغتة والوقت الذي تقوم فيه القيامة يفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى ، فلذلك سميت ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم وسميت الساعة ساعة لسعيها إلى جانب الوقوع ومسافته الأنفاس والمعنى أنهم قد كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة.
فإن قيل : إنما يكذبون إلى أن يموتوا.
21
(3/17)
والجواب : أن زمان الموت آخر زمان من أزمنة الدنيا وأول زمان من أزمنة الآخرة فمن انتهى تكذيبه إلى هذا الوقت صدق أنه كذب إلى أن ظهرت الساعة بفتة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "من مات فقد قامت قيامته".
{قَالُوا} جواب إذا يا حَسْرَتَنَا} الحسرة هي شدة الندم والتألم ونداؤها مجاز لأن الحسرة لا يتأتى منها الإقبال وإنما المعنى على المبالغة في شدة التحسر كأنهم نادوا الحسرة وقالوا إن كان لك وقت فهذا أوان حضورك ومثله يا ويلتنا والمقصود التنبيه على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.
{عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي : على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتساب الأعمال الصالحة فعلى متعلق بالحسرة وما مصدرية والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على فعله {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} حال من فاعل قالوا ، والأوزار جمع وزر وهو في الأصل الحمل الثقيل يقال وزرته ، أي : حملته ثقيلاً منه وزير الملك لأنه يتحمل أعباء ما قلده الملك من مؤونة رعيته وحشمه سمي به الإثم والذنب لغاية ثقله على صاحبه والحمل من توابع الأعيان الكثيفة لا من عوارض المعاني فلا يوصف به العرض إلا على سبيل التمثيل والتشبيه وذكر الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى : {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى : 30) فإن المعتاد حمل الأثقال على الظهور كما أن المألوف هو الكسب بالأيدي ، والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال إنهم يحملون أوزار ما عملوا من السيئات.
{أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} أي : بئس شيئاً يزرون ، أي : يحملون وزرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
قال السدي وغيره : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طالمنا ركبتك في الدنيا فذلك قوله تعالى : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْدًا} (مريم : 85) أي ركباناً ، وأما الكافر : فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول هل تعرفني فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك فهو معنى قوله تعالى : {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} إلخ.
فيكون الحمل على حقيقته لأن للأعمال صوراً تظهر في الآخرة وإن كان نفسها إعراضاً.
واعلم أن الأوزار كثيرة لكن ذنب الوجود فوق الكل ؛ إذ هو الباعث على سائر الأوزار وهو ثقل مانع عن السلوك فعلى السالك أن يتوب عن الكل ويفنى في طريق الحق فناء كلياً.
قال الحافظ :
فكر خود ورأى خود در عالم رندى نيست
كفرست درين مذهب خود بيني وخودر رأيي
قال بعضهم : لا يمكن الخروج من النفس بالنفس وإنما يمكن الخروج من النفس بالله تعالى.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم قدس سره : ذكر الله تعالى يرطب القلب ويلينه فإذا خلا عن الذكر أصابته حرارة النفس ونار الشهوات فقسا ويبس وامتنعت الأعضاء من الطاعة فإذا مددتها انكسرت ، كالشجرة إذا يبست لا تصلح إلا للقطع وتصير وقوداً للنار أعاذنا الله منها ، فالذكر والتوحيد والاتباع إلى أهله هو أصل الأصول حكي عن علي بن الموفق أنه قال : حججت سنة من السنين في محمل فرأيت رجالاً ، فأحببت المشي معهم فنزلت وأركبت واحداً في المحمل ومشيت معهم فتقدمنا إلى البرية وعدلنا عن الطريق فنمنا ،
22
فرأيت في منامي جواري معهن طشوت من ذهب وأباريق من فضة يغسلن أرجل المشاة ، فبقيت أنا فقالت إحداهن لصواحبها : أليس هذا منهم؟ قلن هذا له محمل ، فقالت : بلى هو منهم ؛ لأنه أحب المشي معهن فغسلن رجلي فذهب عني كل تعب كنت أجده هذه حال من مشى مع ولي باعتقاد صحيح فكيف مع نبي فلو أن كفار مكة ومشركي العرب استمعوا إلى النبي عليه السلام واتبعوا الذكر الذي أنزل إليه لنجوا وأسقطوا كل حمل عن ظهورهم ومشوا إلى جنة الفردوس لكن الله تعالى يهدي من يشاء.
وما الحيوة الدنيا} على حذف المضاف ، أي : ما أعمال الدنيا أي الأعمال المتعلقة بها من حيث هي هي.
{إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} يلهي الناس ويشغلهم بمنفعته الزائلة عن الإيمان والعمل الصالح المؤدي إلى اللذة الدائمة واللعب عما يشغل النفس وينفرها عما تنتفع به واللهو صرفها عن الجد إلى الهزل.
{وَلَلدَّارُ الاخِرَةُ} التي هي محل الحياة الأخرى {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي لأن منافعها خالصة عن المضار ولذاتها غير منغصة بالآلام مستمرة على الدوام.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} الفاء للعطف على مقدر ، أي : أتغفلون فلا تعقلون ، أي الأمرين خير ، وسميت الدنيا بالدنيا لدنوها قبل الآخرة أو لدناءتها ، وسميت الآخرة بالآخرة لتأخرها عن خلقها وإنما جعل الله الآخرة غائبة عن الأبصار لأنها لو كانت حاضرة لما جحدوها ولارتفعت التكاليف والمحن فجعل ما على الأرض زينة للابتلاء وحقيقة الدنيا ما يشغلك عن ربك.
(3/18)
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
قال أهل التحقيق : السموات والأرضون وما فيهما من عالم الكون والفساد يدخل في حد الدنيا.
وأما العرش والكرسي وما يتعلق بهما من الأعمال الصالحة والأرواح الطيبة والجنة وما فيها فمن حد الآخرة وفي الخبر القدسي لما خلق الله الدنيا خاطبها بقوله : "يا دنيا اخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك" ولهذا كانت الدنيا تجيء لبعض أوليائه وتكنس داره في صورة العجوز ولبعض أوليائه تجيء كل يوم برغيف.
فإن قلت إن الله تعالى خلق هذه الدنيا للمؤمن فلم أمر بالزهد فيها.
قلت : السكر إذا نثر على رأس الختن لا يلتقطه لعلو همته ولو التقطه لكان عيباً وفي الحديث : "جوّعوا أنفسكم لوليمة الفردوس" ، والضيف إذا كان حكيماً لا يشبع من الطعام رجاء الحلواء ـ ـ حكي ـ ـ أن قاضياً من أهل بغداد كان ماراً بزقاق كلخان مع خدمه وحشمه كالوزير فطلع الكلخاني وهو يهودي في صورة جهنمي كأن القطران يقطر من جوانبه فأخذ بلجام بغلة القاضي فقال أيد الله القاضي ما معنى قول نبيكم "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" أما ترى أن الدنيا جنة لك وأنت مؤمن محمدي والدنيا سجن لي وأنا كافر يهودي ، والحديث دلالته بالعكس فأجاب القاضي وكان من فضلاء الدنيا وما ترى من زينتها وحشمتها سجن لي بالنسبة إلى ما وعد الله في الجنة وجنة لك بالنسبة إلى الدركات المعودة في النيران.
قيل : مثل الدنيا والآخرة مثل رجل له امرأتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى.
واحتضر عابد فقال : ما تأسفي على دار الآخرة والغموم والخطايا والذنوب ، وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى :
نه عمر خضر بماند نه ملك اسكندر
نزاع برسر دنياي دون مكن درويش
23
فالدنيا لا تبقى والآخرة خير وأبقى ـ ـ يحكى ـ ـ أن جعفر بن سليمان رحمه الله قال : مررت أنا ومالك بن دينار رضي الله عنه بالبصرة فبينما ندور فيها مررنا بقصر يعمر وإذا بشاب حسن يأمر ببناء القصر ، ويقول افعلوا واصنعوا فدخلنا عليه وسلمنا فرد السلام ، قال مالك : كم نويت أن تنفق على هذا القصر؟ قال : مائة ألف درهم ، قال : ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه وأضمن لك على الله تعالى قصراً خيراً من هذا القصر بولدانه وخدمه وقبابه وخيمه من ياقوتة حمراء مرصع بالجوهر ترابه الزعفران بلاطه المسك لم تمسه يدان ولم يبنه باننٍ ، قال له الجليل سبحانه كن فكان فأثر في الشاب كلامه فأحضر البدر ودعا بداوة وقرطاس ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان بن فلان أني ضمنت لك على الله قصراً بدل قصرك صفته كما وصفت والزيادة على الله ، واشتريت لك بهذا المال قصراً في الجنة أفسح من قصرك في ظل ظليل بقرب العزيز الجليل ، ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الشاب وأنفق ما أخذه من المال على الفقراء ، وما أتى على الشاب أربعون ليلة حتى مات ووصى أن يجعل الكتاب بين كفنه وبدنه ، ووجد مالك ليلة وفاته كتاباً موضوعاً في المحراب فأخذه ونشره فإذا هو مكتوب بلا مداد هذه براءة من الله العزيز الحكيم مالك بن دينار ، وفينا الشاب القصر الذي ضمنته له وزيادة سبعين ضعفاً.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
هركه ايان بين ترا ومسعودتر
جدترا وكاردكه افزون ديدبرزانكه دان كين جهان كاشتن
هست بهر محشر و برداشتن
آخرت قطار اشتران بملك
درتبع دنياش همون يشم وشكشم بكزيني شتر نبود ترا
وربود اشتره قيمت شم را
يعني : إن اخترت الدنيا التي هي كصوف الجمل ، وآثرتها على الآخرة التي هي كنفس الجمل تكون محروماً من الآخرة كما أن من اختار الصوف يحرم من الجمل بخلاف من كان الجمل ملكا له فإنه لا قيمة عنده لصوفه ولا زغبه ، وقال قدس سره في محل آخر :
باز كونه أي اسيران جهان
نام خود كرديد اميران جهاناي توبنده اين جهان محبوس جان
ند كويي خويش راخواجه جهان
تخته بندست آنكه تختش خوانده
صدر ندارى وبر در مانده
ادشاهى نيستت برريش خود
ادشاهى ون كنى برنيك وبد
بى مرادتو شود ريشت سيد
شرم در ازريش خود اي كاميد
افتخار از رنك وبو واز مكان
هست شادى و فريب كود كان
كون ميكويد بيامن خوش ي ام
وان فسادش كفته رومن لاشى اماي زخوبىء بهاران لب كزان
بنكر آن سردى وزردىء خزان
روز ديدى طلعت خورشيدخوف
مرك اورا يادكن وقت غروب
بدرراديدى برين خوش ارطاق
حسرتش راهم بين وقت محاق
كودكى از حسن شد مولاى خلق
بعد فردا شد خرف رسواى خلق
24
اي بديده لونها رب وخيز
فضله آثرا بين در آب ريز
مر خبث را كوكه آن خوبيت كو
برطبق آن زوق وآن نغزى وبو
س أنامل رشك استادان شده
در صناعت عاقبت لرزان شده
نركس شم خمار همو جان
آخر اعمش بين وآب ازوى كان
حيدرى كاندر صف شيران رود
آخر أو مغلوب موشى ميشود
زلف جعد مشكبار عقل بر
آخر آن ون ذنب زشت خنك وخر
خوش ببين كونش زاول باكشاد
واخران رسواييش ببين وفساد
(3/19)
والإشارة الحياة التي تكون بالتمتعات الدنيوية النفسانية كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان تزيد في الحجب والسير من البشرية إلى الروحانية بترك الشهوات والأعراض عن غير الحق والإقبال على الله خير للذين يتقون عما سوى الله بالله أفلا تعقلون أن الله تعالى خلقكم لهذا الشأن لا لغيره كما قال : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} (طه : 41) اللهم احفظنا من تضييع العمر واهدنا إلى حقيقة الأمر إنك أنت الوهاب الهادي.
{قَدْ نَعْلَمُ} قد هنا للتكثير والمراد بكثرة علمه تعالى كثرة تعلقه {أَنَّهُ} أي : الشأن.
{لَيَحْزُنُكَ} يا محمد.
{الَّذِى يَقُولُونَ} فاعل يحزنك والعائد محذوف ، أي : الذي يقوله كفار مكة وهو ما حكى عنهم من قولهم {إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} (الأنفال : 31) ونحو ذلك {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} أي : لا تعتد بما يقولون وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم آيات الله لا يكذبونك في الحقيقة.
{وَلَـاكِنَّ الظَّـالِمِينَ بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي : ولكنهم يكذبون بآيات الله وينكرونها فما يفعلون في حقك فهو راجع إليّ في الحقيقة لأنك فاننٍ عما سوى الله باققٍ بالله وأنا انتقم منهم لا محالة أشد انتقام والمراد بالظلم جحودهم والجحود عبارة عن الإنكار مع العلم بخلافه والباء متعلقة بالفعل والتقديم للقصر يقال جحد حقه وبحقه إذا أنكره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فإن البلية إذا عمت طابت أي وبالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وذو عدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك.
{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} أي : على تكذيبهم وإيذائهم.
{حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} أي : كان غاية صبرهم نصر الله تعالى إياهم فتأسّ بهم واصطبر على ما نالك من قومك والنصر الموعود للصابرين يحتمل أن يكون بطريق إظهار الحجج والبراهين ويحتمل أن يكون بطريق القهر والغلبة أو بإهلاك الأعداء.
قال الحافظ :
اي دل صبور باش ومخور غم كه عاقبت
أين شام صبح كردد واين شب سحر شود
وقال أيضاً :
كرت و نوح نبي صبر هست برغم طوفان
بلا بكردد وكان هزار ساله بر آيد
{وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّهِ} أي : مواعيده بالنصرة والغلبة كما قال تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الصافات : 171 ـ 173).
{وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ} أي من خبرهم ما يسكن به قلبك وهو نصره تعالى إياك.
وقال المولى أبو السعود : والجار
25
والمجرور في محل الرفع على أنه فاعل إما باعتبار مضمونه أي بعض نبأ المرسلين أو بتقدير الموصوف أي بعض من نبأ المرسلين.
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي عظم عليك وشق إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن وعدم عدهم له من قبيل الآيات وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوا اقتراحاً لحرصك على إسلامهم {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا} أي : سرباً ومنفذاً {فِى الأرْضِ} تنفذ فيه إلى جوفها.
قال ابن الشيخ : النفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يخرق الأرض إلى القعر ثم يصعد من ذلك إلى وجه الأرض من جانب آخر {أَوْ سُلَّمًا} مصعداً.
{فِى السَّمَآءِ} تعرج به فيها.
{فَتَأْتِيَهُم} منها {بِـاَايَةٍ} مما اقترحوه والجواب محذوف ، أي : فافعل وجملة الشرطية الثانية جواب للشرطية الأولى والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه وإنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء لإيمانهم وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاذه.
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} هدايتهم {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} ولكن لم يشأ ذلك لعدم صرف اختيارهم إلى جانب الهدى مع تمكنم منه ومشاهدتهم للآيات الداعية إليه فلم يؤمنوا فلا تتهالك عليه.
{فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} بالحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة بدقائق شؤونه تعالى التي من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم.
وفي الآية تربية وتأديب للنبي عليه السلام من الله تعالى كما قال عليه السلام : "إن الله أدبني فأحسن تأديبي" لئلا يبالغ في الشفقة على غير أهلها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} أي : يقبل دعوتك إلى الإيمان.
{الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ما يلقى إليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم : قال الحافظ :
كوهر اك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلى لؤلؤ ومرجان نشود(3/20)
{وَالْمَوْتَى} أي : الكفار شبههم بهم في عدم السماع.
{يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} من قبورهم.
{ثُمَّ إِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره.
{يَرْجِعُونَ} أي : يردون للجزاء فحينئذٍ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه {وَقَالُوا} أي : رؤساء قريش.
{لَوْلا} تحضيضية بمعنى هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ} كالناقة والعصا والمائدة من الخوارق الملجئة إلى الإيمان {قُلْ} لهم {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً} كما اقترحوا {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن نزولها بلاء عليهم لوجوب هلاكهم إن جحدوها.
اعلم أن الناس في الأديان على أربعة أقسام : سعيد بالنفس والروح في لباس السعادة وهم الأنبياء وأهل الطاعة ، والثاني : شقي بالنفس في لباس الشقاوة وهم الكفار والمصرّون على الكبائر ، والثالث : شقي بالنفس في لباس السعادة مثل بلعم بن باعورا وبرصيصا وإبليس ، والرابع سعيد بالنفس في لباس الشقاوة كبلال وصهيب وسلمان في أوائل أمرهم ثم بدل لباسهم بلباس التقوى والهداية.
فإن قلت ما الحكمة في أن الله تعالى خلق الخلق سعيداً وشقياً وقال : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الأنعام : 35) {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل : 9).
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
قلنا : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إن الله تعالى علم في الأزل أن فلاناً في خلقه يعصي لعدم سبق استعداده للسعادة فجعله شقياً لسبق القضاء عليه بمقتضى استعداده في الأعيان الثابتة ، ومظهرية
26
استعداده لشؤون الجلال كأنه سأل بلسان الاستعداد كونه شقياً يسأله من في السموات والأرض بلسان القال والحال والاستعداد كل يوم هو في شأن يفيض ويعطي كل شيء ما يستعد من السعادة والشقاوة على حسب الاستعدادات في الأعيان الثابتة الغيبية العلمية وعلم سبحانه وتعالى أن عبده يطيع فجعله سعيداً ، أي : بمقتضى استعداده للسعادة الإجمالي والقابلية المودعة في النشأة الإنسانية بقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف : 172) فتلك الإجابة منهم تدل على الاستعداد السعادي الأزلي فلو لم يكن ذلك لما صح عليهم التكليف والخطاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فإذا عرفت أن الإنسان سعيد وشقي فاستعداد السعيد لا يعطي إلا الأقوال المرضية والأفعال الحسنة والأخلاق الحميدة التي تورث الانبساط واستعداد الشقي لا يعطي إلا التي تورث الانقباض فلذا أمر الله تعالى حبيبه بالصبر وتحمل الإيذاء من أهل الشقاوة والقهر والجلال والابتلاء في الدنيا سبب للغفران وتكميل الدرجات التي لا تنال في الجنان إلا على قدر البلاء وفي الخبر "إن في الجنة مقامات معلقة في الهواء يأوي إليها أهل البلاء كالطير إلى وكره ولا ينالها غيرهم".
وإن الرجل يبتلى على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى وما عليه خطيئة والبلاء سوط الله على عباده كيلا يركنوا إلى الدنيا ولا يشغلوا بها ويفروا إلى الله من ضرب سوطه كما يفر الخيل إلى مستقره والآخرة هي دار القرار.
ما بلارا بكس عطا نكنيم
تاكه نامش زاوليا نكنيم
وبالجملة : فمن ابتلي بشيء من المصائب والبلايا فالعاقبة حميدة في الصبر وبالصبر يكون من الأمة المرحومة حقيقة ويدخل في أثر النبي عليه السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
(3/21)
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأرْضِ} من زائدة لتأكيد الاستغراق وفي متعلقة بمحذوف هو وصف الدابة أي وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض.
{وَلا طَائرٍ} من الطيور من ناحية من نواحي الجوّ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} كما هو المشاهد المعتاد ، فقيدُ الطيران بالجناح تأكيد كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي أو هو قطع لمجاز السرعة لأنه يقال طار فلان في الأرض ، أي : أسرع.
{إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ} محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ} يقال فرّط في الشيء ضيعه وتركه أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي بينا أنه تعالى مراع فيها لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي بل قد بينا كل شيء إما مفصلاً أو مجملاً أما المفصل فكقوله تعالى : {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (المائدة : 45) وأما المجمل : فكقوله تعالى : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَا إِنَّ اللَّهَ} (الحشر : 7) ـ ـ روي ـ ـ أن الامام الشافعي كان جالساً في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجيبكم فيه من كتاب الله تعالى؟ فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور فقال : لا شيء عليه فقال أين هذا في كتاب الله فقال قال الله تعالى : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} الآية ثم ذكر إسناداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله أنه قال : (للمحرم قتل الزنبور) {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم} أي : الأمم {يُحْشَرُونَ} يوم القيامة إلى ربهم لا إلى غيره فيقضي
27
بينهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} أي : القرآن {صُمُّ} لا يسمعونها سمع تدبر وفهم فلذلك يسمونها أساطير الأولين ولا يعدونها من الآيات ويقترحون غيرها.
وهو جمع أصم والمقصود تشبيه حالهم بحال الأصم لكن حذف حرف التشبيه للمبالغة.
{وَبُكْمٌ} لا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك ، وهو جمع أبكم {فِى الظُّلُمَـاتِ} أي : ظلمات الكفر خبر ثالث للمبتدأ.
{مَن يَشَإِ اللَّهُ} إضلاله أي أن يخلق فيه الضلال {يُضْلِلْهُ} أي : يخلقه فيه لكن لا ابتداء بطريق الجبر من غير أن يكون له دخل ما في ذلك بل عند صرف اختياره إلى كسبه وتحصيله {وَمَن يَشَأْ} هدايته {يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل من ذهب إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه.
وفي الآيات أمور :
الأول : إن غير الإنسان من الأمم أيضاً وفي الحديث : "لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم".
وذلك لأن الكلب الأسود شيطان لكونه أعقر الكلاب وأخبثها وأقلها نفعاً وأكثرها نعاساً ومن هذا قال أحمد بن حنبل لا يحل الصيد به والإشارة إن ما يدب في أرض البشرية ويتحرك كالسمع والبصر واللسان والأعضاء كلها والنفس وصفاتها وكذا ما يطير بجناحي الشريعة والطريقة كالقلب والروح وصفاتها أمم أمثالكم في السؤال عن أفعالهم وأحوالهم يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا} (الإسراء : 36).
والثاني : إن الحشر عام كما قال أبو هريرة رضي الله عنه يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء كما في الحديث : "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" ، أي : يقص للشاة التي لا قرن لها من التي لها قرن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 28
قال ابن ملك : وفيه دلالة على حشر الوحوش كما قال الله تعالى : {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (التكوير : 5) لكن القصاص فيها قصاص مقابلة لا قصاص تكليف انتهى ، ثم يقال للبهائم والوحوش والطيور كوني تراباً فتكون تراباً مثل تراب أرض ذلك العالم وعند ذلك يتمنى الكافر ويقول : يا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا} (النبأ : 40).
قال الحدادي : والمراد بهذا الإفناء للبهائم بعد أن أحياها أنه أفناء لا يكون فيه ألم.
والثالث : إن الذين ختم الله على قلوبهم فهم كالأصم والأبكم الأصليين ومن خاصة الأبكم أن يكون أصم ، كما قال في "المثنوي" :
دائماً هرك أصلي كنك بود
ناطق آنكس شدكه ازمادرشود
ون سليمان سوى مرغان سبا
يك صفيرى كردبست آن جمله راجزمكر مرغى كه بدي جان ور
ياوماهى كنك بوداز اصل كر
نى غلط كفتم كه كركر سرنهد
يش وحى كبريا سمعش دهد(3/22)
فقلوب الخلق بيد الله تعالى يصرفها كيف يشاء ـ ـ روي ـ ـ أن كفار مكة اجتمعوا على قتل النبي عليه السلام فبيناهم كذلك إذ دخل عليهم إبليس فقال لماذا اجتمعتم فأخبروه بالقصة فقال لأبي جهل يا أبا الحكم لو أنك حملت صنمك وإلهك الذي تعبده ووضعته بين يدي محمد وسجدت له ربما يسمع محمد منه شيئاً ، وكان صنمه مرصعاً بالجوهر والياقوت فحمل أبو جهل صنمه وضعه بين يدي النبي عليه السلام وسجد له ، وقال : إلهي نعبدك ونتقرب إليك هذا محمد شتمنا بسببك ونطمع منك أن تنصرنا وتشتم محمداً فأخذ الصنم يتحرك ويتكلم ويشتم
28
فدخل في قلب النبي عليه السلام شيء ورجع إلى بيت خديجة فلم يلبث أن دق الباب فإذا شاب دخل وبيده سيف فسلم وقال مرني يا رسول الله حتى امتثل أمرك فقال عليه السلام : "من أنت"؟ قال أنا من الجن قال : "كم تبلغ قوتك" قال : أقدر أن أقلع جبلي حراء وأبي قبيس وأرميهما في البحر قال : "من أين أقبلت الساعة" قال : كنت في جزيرة البحر السابع إذ أتاني جبرائيل فقال : أدرك فلاناً الشيطان دخل في الصنم وشتم النبي عليه السلام فاقتله بهذا السيف فأدركته في الأرض الرابعة فقتلته فقال له عليه السلام : "ارجع فإني استعين بربي من عدوي" وقال الشاب لي إليك حاجة هي أن ترجع إلى مكان كنت فيه أمس فإنهم يستخبرون ذلك الصنم ثانياً فرجع في الغد ومعه أبو بكر الصديق فجاء أبو جهل مع صنمه ففعل كما فعل بالأمس فأخذ الصنم يتحرك ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا صنم لا أنفع ولا أضر ويل لمن عبدني من دون الله فلما سمعوا ذلك قام أبو جهل وكسر صنمه وقال إن محمداً سحر الأصنام فظهر أن الله تعالى يقول الحق من ألسنة المظاهر ولكن لا يسمع المنافق والكافر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 28
{قُلْ} يا محمد لأهل مكة.
{أَرَءَيْتَكُمْ} الكاف حرف خطاب أكد به ضمير الفاعل المخاطب لتأكيد الإسناد لا محل له من الإعراب كالكاف في إياك وذلك الكاف يدل على أحوال المخاطب من الإفراد والتذكير ونحوها فهو يطابق ما يراد به والتاء تبقى على حالة واحدة مفردة مفتوحة أبداً نحو أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصرية لكن المراد به الاستخبار عن متعلقها ، أي أخبروني فجعل العلم أو الإبصار الذي هو سبب الإخبار مجازاً عن الإخبار وجعل الاستفهام الذي للتبكيت والإلجاء إلى الإقرار مجازاً عن الأمر بجامع الطلب.
{إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} في الدنيا كما أتى من قبلكم من الأمم.
{أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} أي : القيامة المشتملة على ذلك العذاب وهو العذاب الأخروي ، والساعة : اسم لوقت تقوم فيه القيامة سمي بها لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم.
{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} هذا مناط الاستخبار ومحط التبكيت.
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} جواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة كما أنها دعواكم المعروفة فأخبروني أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله فإن صدقهم بهذا المعنى من موجبات أخبارهم بدعائهم غيره سبحانه.
{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} عطف على جملة منفية كأنه قيل لا غيره تعالى تدعون بل إياه تدعون {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي : إلى كشفه عطف على تدعون ، أي : فيكشف أثر دعائكم.
{إِن شَآءَ} كشفه فقبول الدعاء تابع لمشيئته تعالى فقد يقبله كما في بعض دعواهم المتعلقة بكشف العذاب الدنيوي ، وقد لا يقبله كما في بعض آخر منها ، وفي جميع ما يتعلق بكشف العذاب الأخروي الذي من جملته الساعة فإنه تعالى لا يغفر أن يشرك به فلا يشاء في الآخرة.
{وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} عطف على تدعون أيضاً أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركاً كلياً لما ركز في العقول إنه القادر على كشف العذاب دون غيره فالنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ} أي : وبالله لقد أرسلنا رسلاً.
{إِلَى أُمَمٍ} كثيرة.
{مِن قَبْلِكَ} أي : كائنة من زمان قبل زمانك فمن لابتداء الغاية في الزمان على مذهب الكوفية مثل نمت
29
من أول الليل وصمت من أول الشهر إلى آخره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 28
وقال المحشي سنان لبي : من زائدة على قول من جوز زيادتها في الموجب وأما عند غيره فهي بمعنى في كما في قوله تعالى : {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة : 9).
{فَأَخَذْنَـاهُمْ} الفاء فصيحة تفصح أن الكلام مبني على اعتبار الحذف أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم {بِالْبَأْسَآءِ} أي بالشدة والفقر {وَالضَّرَّآءِ} أي : الضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يدعو الله في كشفها بالتضرع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 28(3/23)
{فَلَوْلا} هلا {إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ} عذابنا.
{تَضَرَّعُوا} أي : لم يفعلوا ذلك مع قيام المقتضى له فلولا يفيد اللوم والتنديم وذلك عند قيام الداعي إلى الفعل وانتفاء العذر في تركه.
{وَلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراك على المعنى أي لم يتضرعوا ولكن يبست وجفت قلوبهم ولو كان في قلوبهم رقة وخوف لتضرعوا {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : حسّن لهم الكفر والمعاصي بأن أغواهم ودعاهم إلى اللذة والراحة دون التفكر والتدبر ولم يخطر ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} عطف على مقدر أي فانهمكوا فيه ونسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فلما نسوه.
{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ} من فنون النعماء على مناهج الاستدراج.
{حَتَّى} ابتدائية ومع ذلك غاية لقوله فتحنا {إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا} أي : صاروا معجبين بحالهم.
فالفرح فرح البطر كفرح قارون بما أصابه من الدنيا {أَخَذْنَـاهُم} بالعذاب {بَغْتَةً} أي : فجأة ليكون أشد عليهم وقعاً وأفظع هولاً كما قال أهل المعاني إنهم إنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد تحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} متحسرون غاية الحسرة آيسون من كل خير راجون فإذا للمفاجأة.
والإبلاس بمعنى اليأس من النجاة عند ورود المهلكة والمعنى الحسرة والحزن.
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد فالدابر يقال للتابع للشيء من خلفه كالولد للوالد يقال دبر فلان القوم يدبر دبراً ودبوراً إذا كان آخرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 30
قال البغوي : معناه إنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم ، فإن هلاكهم بسبب ظلمهم الذي هو وضع الكفر موضع الشكر ، وإقامة المعاصي مقام الطاعات.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل العرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم عليهم السلام.
وفي الآيات أمور.
منها أن الله تعالى هو المرجع في كل أمر حال الاختيار والاضطرار ، والعاقل لا يلتجىء إلى غيره تعالى ؛ لأن ما سوى الله آلات وأسباب والمؤثر في الحقيقة هو الله تعالى فشأن المؤمن هو النظر إلى بابه والاستعداد من جنابه حال السراء والضراء بخلاف الكافر فإنه يفتح عينيه عند نزول الشدة والمقبول هو الرجوع اختياراً فإن العبد المطيع لا يترك باب سيده على كل حال.
ومنها أن الله تعالى يقلب الإنسان تارة من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء وأخرى يعكس الأمر كما يفعله الأب المشفق بولده
30
يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلباً لصلاحه وإلزاماً للحجة وإزاحة للعلة ففي هذه المعاملة تربية له وفائدة عظيمة في دينه ودنياه إن تفطن : قال الصائب (من) :
نهاد سخت توسوهان بخرد نمى كيد
وكرنه ست وبلند زمان سوهانست
ومنها إن الهلاك بقدر الاستدراج ونعوذ بالله تعالى من المكروه وفي الحديث : "إذا رأيت الله تعالى يعطي عبداً في الدنيا على معصية ما يحب فإن ذلك منه استدراج" ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلّم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} (الأنعام : 44) الآية.
وفي "التأويلات النجمية" : {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ} أي : من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر الباطنة من فتوحات الغيب وإراءة الآيات وظواهر الكرامات ورؤية الأنوار وكشف الأسرار والأشراف على الخواطر وصفاء الأوقات ومشاهدة الروحانية وأشباهها مما يربى به أطفال الطريقة فإن كثيراً من متوسطي هذه الطائفة تعتريهم الآفات في أثناء السلوك عند سآمة النفس من المجاهدات وملالتها من كثرة الرياضات فيوسوسهم الشيطان وتسول لهم أنفسهم أنهم قد بلغوا في السلوك رتبة قد استغنوا بها عن صحبة الشيخ وتسليم تصرفاته فيخرجون من عنده ويشرعون في الطلب على وفق أنفسهم فيقعون في ورطة الخذلان وسخرة الشيطان فيريهم الأشياء الخارقة للعادة وهم يحسبون أنها من نتائج العبادة وكان بعضهم يسير في البادية وقد أصابه العطش فانتهى إلى بئر فارتفع الماء إلى رأس البئر فرفع رأسه إلى السماء وقال أعلم أنك قادر ولكن لا أطيق هذا فلو قيضت لي بعض الأعراب يصفعني صفعاً ويسقيني شربة ماء كان خيراً لي ثم إني أعلم أن ذلك الرفق ليس من جهته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 30
وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي قدس سره : من لم يكن كارهاً لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصي فهي حجاب في حقه وسترها عنه رحمة.
ومنها أن العجب مذموم مهلك وفي الحديث "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه".
(3/24)
مرد معجب زاهل دين نبود
هي خود بين خداي بين نبود
بيخبر ازجهان ومست يكيست
خويشتن بين وت رست يكيست
وعلاجه رؤية التوفيق من الله تعالى.
ومنها أن النعمة لا بد لها من الحمد والشكر وفي الخبر الصحيح "أول من يدعى إلى الجنة الحامدونعلى كل حال" ولما حمد نوح عليه السلام بقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} (المؤمنون : 28) وجد السلامة حيث قال تعالى : يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا} (هود : 48) فلا بد من الحمد على السلامة سواء كانت من جهة الدين أو من جهة الدنيا إذ كل منهما نعمة.
ودخل رجل على سهل بن عبد الله فقال : إن اللص دخل داري وأخذ متاعي ، فقال اشكر الله لو دخل اللص قلبك وهو الشيطان وأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع.
يقول الفقير جامع هذه المجالس الشريفة : سئلت في المنام عن معنى الحمد ، فقلت : الحمد إظهار الكمال بتهيئة أسبابه ، فقال السائل : وهو واحد من سادات المشايخ ما تهيئة الأسباب؟ فقلت : أن ترفع يديك إلى السماء وتنظر إلى جانب الملكوت وتظهر الخضوع والخشوع وأن تثني على الله تعالى ثناء حقاً كما ينبغي
31
ثم استيقظت فجاء التفسير بحمد الله تعالى مشيراً إلى مراتب الشكر ، كما قال بعضهم :
الشكر قيد للنعم
مستلزم دفع النفم
وهو على ثلاثة
قلب يد فاعلم وفم
والحمدتعالى ولي الأنعام على الاستمرار والدوام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 30
{قُلْ} يا محمد لأهل مكة {أَرَءَيْتُمْ} أي : أخبروني أيها المشركون فإن الرؤية بصرية كانت أو علمية سبب الأخبار كما سبق {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} أي : أصمكم {وَأَبْصَـارَكُمْ} : أي أعمالكم بالكلية.
{وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم} بأن غطى علها ما يزول به عقلكم وفهمكم بحيث تصيرون مجانين.
{مَّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ} من استفهامية مبتدأ وإله خبره وغير صفة له.
{يَأْتِيكُم بِهِ} أي : بما أخذه منكم وهي صفة أخرى له والجملة متعلق الرؤية ومناط الاستخبار ، أي : أخبروني إن سلب الله عنكم أشراف أعضائكم من أحد غير الله يأتيكم بها ومن المعلوم أنه لا يقدر عليه إلا الله سبحانه فهو المستحق للعبادة والتعظيم وهو احتجاج آخر على المشركين.
{أَنظُرْ} يا محمد وتعجب.
{كَيْفَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ} أي نكررها ونقررها مصروفة من أسلوب إلى أسلوب تارة بترتيب المقدمات العقلية وتارة بطريق الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين.
قال الحدادي : التصريف توجيه المعنى في الجهات التي تظهرها أتم الإظهار {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} أي يعرضون عنها فلا يؤمنون وثم لاستبعاد صدفهم ، أي إعراضهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديع الموجب للإقبال عليها.
{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ} أي : أخبروني أيها المشركون {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} أي : ليلاً أو نهاراً لما أن الغالب فيما أتى ليلاً البغتة أي الفجأة وفي ما أتى نهاراً الجهرة ، وهو المناسب لما في سورة الأعراف من قوله تعالى : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (الأعراف : 97 ، 98) والقرآن يفسر بعضه بعضاً وهو اللائح بالبال.
{هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّـالِمُونَ} الاستفهام بمعنى النفي ومتعلق الاستخبار محذوف.
أي : أخبروني إن أتاكم عذابه العاجل الخاص بكم بغتة أو جهرة كما أتى من قبلكم من الأمم ماذا يكون الحال ثم قيل بياناً لذلك {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّـالِمُونَ} أي : ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم إلا أنتم ووضع المظهر موضع المضمر إيذاناً بأن مناط هلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم للكفر موضع الإيمان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 32
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالان مقدرتان من المرسلين ، أي : ما نرسلهم إلا مقدراً تبشيرهم وإنذارهم ففيهما معنى العلة الغائية قطعاً ، أي : لم نرسلهم لأن يقترح عليهم الآيات ويتلهى بهم بل لأن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعقاب على المعصية التبشير الإخبار بالخبر السار والإنذار الإخبار بالخبر الضار.
{فَمَنْ ءَامَنَ} بهم {وَأَصْلَحَ} عمله أو دخل في الصلاح {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من العذاب الذي أنذروه دنيوياً كان أو أخروياً.
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل.
(3/25)
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} وهي ما ينطق به الرسل عليهم السلام عند التبشير والإنذار ويبلغونه إلى الأمم.
{يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} الأليم وأسند المس إلى العذاب مع أن حقه أن يسند إلى الإحياء لكونه من الأفعال المسبوقة بالقصد ، والاختيار على طريق الاستعارة بالكناية فجعل كأنه حي يطلب إيلامهم والوصول إليهم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي : بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرار على الخروج عن
32
التصديق والطاعة.
وفي الآيات ترغيب وترهيب : وفي الكلمات القدسية "يا ابن آدم لا تأمن مكري حتى تجوز على الصراط" ـ ـ روي ـ ـ أن الله تعالى قال : يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الذي أراه منك؟ فقال : يا رب كيف لا أوجل وآدم أبي كان محله القرب منك خلقته بيديك ونفخت فيه من روحك وأمرت الملائكة بالسجود له ، فبمعصية واحدة أخرجته من جوارك ، فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم أما عرفت أن معصية الحبيب على الحبيب شديدة وعن مالك ابن دينار قال : دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت كيف حالك.
وكيف أنت؟ قال : يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد ، ثم بكى بكاء شديداً فقلت ما يبكيك؟ فقال : والله ما بكيت حرصاً على الدنيا ولا جزعاً من الموت والبلى ، لكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عمل.
كارى كنيم ورنه خجالت بر آورد
روزي كه رخت جان بجهان دكر كشيم
جزء : 3 رقم الصفحة : 32
أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ، ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أم إلى النار فسمعت منه كلام حكمة ، فقلت إن الناس يزعمون أنك مجنون فقال ما بي جنة ولكن حب مولاي خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي ودمي وعظامي.
درره منزل ليلى كه خطرهاست درو
شرط أول قدم آنست كه مجنون باشى
كاروان فت وتودرخواب وبيابان دريش
كى روى ره كه رسى ه ون باشى
وعلى تقدير الزلة فليبادر العاقل إلى التوبة والاستغفار حتى يتخلص من عذاب الملك القهار كما قال تعالى : {فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلا} إلخ ـ ـ روي ـ ـ أن الملائكة تعرج إلى السماء بسيئات العبد فإذا عرضوها على اللوح المحفوظ يجدون مكانها حسنات فيخرون على وجوههم ويقولون ربنا إنك تعلم أننا ما كتبنا عليه إلا ما عمل فيقول الله تعالى صدقتم ولكن عبدي ندم على خطيئته واستشفع إليّ بدمعته فغفرت ذنبه وجدت عليه بالكرم وأنا أكرم الأكرمين فالإيمان وإصلاح العمل والندم على الزلل سبب النجاة في الدنيا والآخرة.
قال بعض الكبار : إن الإيمان والإسلام يمكن أن يكونا شيئاً واحداً في الحقيقة ولكن خص كل منهما بنوع مجاز عرفياً فكل ما كان فيه التصديق القلبي أطلق عليه الإيمان لوجود أصل معناه فيه كما لا يخفى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 32
{قُلْ} يا محمد للكفرة الذين يقترحون عليك تارة تنزيل الآيات وأخرى غير ذلك {لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ} أي : لا أدّعي أن خزائن مقدوراته تعالى مفوضة إليّ أتصرف فيها كيف أشاء استقلالاً واستدعاء حتى تقترحوا عليّ تنزيل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهباً أو غير ذلك مما لا يليق بشأني فالخزائن جمع خزينة بمعنى مخزونة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
قال الحدادي : وليس خزائن الله مثل خزائن العباد وإنما خزائن الله تعالى خزائن مقدوراته التي لا توجد إلا بتكوينه إياها ويجوز أن يكون جمع خزانة هي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وكانوا يقولون إن كنت رسولاً من عند الله تعالى فوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها ، فالمعنى لا أدّعي أن مفاتيح الرزق بيدي فأقبض وأبسط {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} عطف على محل عندي خزائن الله ولا مزيدة مذكرة للنفي ، أي : ولا أدعي أيضاً أني أعلم الغيب من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت
33
(3/26)
الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما.
{وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ} من الملائكة حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيق به البشر من الرقى إلى السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم {مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ} (الفرقان : 7).
والمعنى إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعاً بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهته عزّ وجل والعمل بمقتضاه فحسب حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ} أي : ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إليّ من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلاً والوحي ثلاثة.
ما ثبت بلسان الملك والقرآن من هذا القبيل.
وما ثبت بإشارة الملك من غير أن يبينه بالكلام وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "إن روح القدس نفث في روعي إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها".
والثالث : ما تبدّى لقلبه أي ظهر لقلبه بلا شبهة إلهاماً من الله تعالى بأن أراه الله بنور من عنده كما قال : {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاـاكَ اللَّهُ} (النساء : 105) وأبى الأشعرية وأكثر المتكلمين أن يحكم عليه السلام بالاجتهاد كما تدل عليه الآية إذ ثبت بها أنه لا يتبع إلا الوحي.
والجواب : أنه جعل اجتهاده عليه السلام وحياً باعتبار المآل فإن تقريره عليه السلام على اجتهاده يدل على أنه هو الحق كما إذا ثبت بالوحي ابتداء.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} مثل للضال والمهتدي فإنه عليه السلام لما وصف نفسه بكونه متبعاً للوحي الإلهي لزم منه أن يصف نفسه بالاهتداء ويصف من عانده واستبعد دعواه بالضلال فالعمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى الوحي يجري مجرى عمل البصير.
{أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} أي : ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه فتهتدوا باتباع الوحي والعمل بمقتضاه فمناط التوبيخ عدم الأمرين معاً أي الاستماع والتفكر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
{وَأَنذِرْ بِهِ} أي : خوف من العذاب بما يوحى.
{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أي : يبعثوا ويجمعوا إلى ربهم ، أي إلى موضع لا ملك أحد فيه نفعهم ولا ضرهم إلا الله تعالى ، وقيل : يخافون يعلمون لأن خوفهم إنما كان من علمهم.
{لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِه وَلِىٌّ} قريب ينفعهم {وَلا شَفِيعٍ} يشفع لهم وجملة النفي ، أي : ليس في موضع الحال من ضمير يحشرون فإن المخوف هو الحشر على هذه الحال.
وقوله : {مِن دُونِهِ} حال من اسم ليس أي : متجاوزاًتعالى والمراد بالموصول المؤمنون العاصون كما في أكثر التفاسير وإنما نفى الشفاعة لغيره من أن الأنبياء والأولياء يشفعون كما هو مذهب أهل السنة لأنهم لا يشفعون إلا بإذنه فكانت الشفاعة في الحقيقة من الله تعالى.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : المراد بالموصول المجوزون من الكفار للحشر سواء كانوا جارمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين ، أو مترددين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آباهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم انتهى فالكلام على هذا ظاهر لأن الظالمين ليس لهم من حميم ولا شفيع يطاع.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل للأمر ، أي :
34
أنذرهم لكي يتقوا الله بإقلاعهم عمّا هم فيه وعمل الطاعات أو يتقوا الكفر والمعاصي.
والإشارة أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يكلم الكفار على قدر عقولهم فقال : {قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ} على أنها عندي ولكن لا أقول لكم وهي علم حقائق الأشياء وماهياتها وقد كان عنده في إراءة {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) وفي إجابة قوله عليه السلام : "أرنا الأشياء كما هي" في قوله : "أوتيت جوامع الكلم" وما أمره الله تعالى إلا أن قل ليس عندي خزائن الله.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : "ولا تبذر الأسرار" يعني : بيان الحقائق الذي هو غذاء القلب والروح كالسمراء ، يعني : الحنطة للجسم "في أرض عميان" يعني : في أرض استعداد هؤلاء الطوائف الذين لا يبصرون الحق ولا يشاهدونه في جميع الأشياء كما في "شرح الفصوص" للمولى الجامي قدس سره : قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
دريغست بأسفله كفت از علوم
كه ضايع شود تخم درشوره بوم
(3/27)
ولا أعلم الغيب فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يخبر عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق وقد قال عليه السلام ليلة المعراج : "قطرت في حلقي قطرة علمت ما كان وما سيكون" فمن قال : إن نبي الله لا يعلم الغيب فقد أخطأ فيما أصاب ولا أقول لكم إني ملك وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبرائيل تقدم فقال لو دنوت أنملة لأحرقت" كما قال السعدي قدس سره :
شبى برنشست ازفلك بركذشت
بتمكين وجاه ازملك دركذشت
حنان كرم درتيه قربت براند
كه درسدره جبريل ازوبازماند
إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، يعني : لا أخبركم عن مقاماتي وأحوالي مما لي مع الله وقد لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا عما يوحى إلى أن أخبركم وكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير ، فلا يستوي الأعمى والبصير ، ثم قال وأنذر به ، يعني : أخبر بهذه الحقائق والمعاني الذين يخافون أي يرجون أن يحشروا إلى ربهم بجذبات العناية ويتحقق لهم ليس لهم في الوصول إلى الله من دونه ولي يعني من الأولياء ولا شفيع يعني من الأنبياء لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق لعلهم يتقون عما سوى الله بالله في طلب الوصول.
قال السري السقطي قدس سره : خرجت يوماً إلى المقابر فإذا ببهلول فقلت له أي شيء تصنع هنا؟ قال أجالس قوماً لا يؤذونني وإن غبت لا يغتابونني ، فقلت له : تكون جائعاً فولّى وأنشأ يقول :
تجوع فإن الجوع من عمل التقي
وإن طويل الجوع يوماً سيشبع
قيل : مثل الصالحين وما زينهم الله به دون غيرهم مثل جند قال لهم الملك : تزينوا للعرض عليّ غداً فمن كانت زينته أحسن كانت منزلته عندي أرفع ، ثم يرسل الملك في السر بزينة عنده ليس عند الجند مثلها إلى خواص مملكته وأهل محبته ، فإذا تزينوا بزينة الملك فخروا سائر الجند عند العرض على الملك فهذا مثل من وفقهم الله تعالى للأعمال الصالحة والأحوال الزكية ولا حاجة لهم أن يصفوا ما عندهم إلى عامة الناس فإن علمهم بذلك كاف وسيظهر يوم العرض الأكبر وعند الكثيب الأحمر.
أولئك خدام كرام وسادة
ونحن عبيد السوء بئس عبيد {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} ـ ـ روي ـ ـ أن رؤساء قريش قالوا لرسول الله
35
صلى الله عليه وسلّم حين رأوا في مجلسه الشريف فقراء المؤمنين مثل صهيب ، وعمار ، وخباب ، وبلال ، وسلمان وغيرهم لو طردت هؤلاء الأعبد وأرواح جبابهم ، وكان عليهم جباب صوف لا غير لجالسناك وحادثناك فقال عليه السلام : "ما أنا بطارد المؤمنين" فقالوا فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا حتى يعرف العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا مع هؤلاء فإذا قمنا عن مجلسك فأقعدهم معك إن شئت فهمّ عليه السلام أن يفعل ذلك طمعاً في إيمانهم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعلمه أنه لا يحب أن تفضل غنياً على فقير ولا شريفاً على وضيع لأن طريقه فيما أرسل به الدين دون أحوال الدنيا.
والطرد الإبعاد وبالفارسية (مران ازمجلس خود آن درويشانراكه ميخوانند روردكار خودرا وذكراو ميكنند بامداد وشبانكاه) والمراد بذكر الوقتين الدوام ومن دام ذكره دام جلوسه مع الله كما قال : "أنا جليس من ذكرني"(2) {يُرِيدُونَ} بذكرهم وعبادتهم {وَجْهَهُ} تعالى ورضاه لا شيئاً من أغراض الدنيا.
حال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له وقيد الدعاء بالإخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغزوست
وإشعاراً بأنه من أقوى موجبات الإكرام المنافي للأبعاد.
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ} لما لم يقتصر المشركون في طعن فقراء المسلمين على وصفهم بكونهم موالي ومساكين بل طعنوا في إيمانهم أيضاً حيث قالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون عندك مأكولاً وملبوساً بهذا السبب وإلا فهم عارون عن دينك والإيمان بك دفع الله تعالى ما عسى يتوهم كونه مسوغاً لطردهم من أقاويلهم فقال : {مَا عَلَيْكَ} أي : ليس عليك إلا اعتبار ظاهر حالهم وهو اتسامهم بسمة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضى كما يقوله المشركون فمضرة حساب إيمانهم لا ترجع إلا إليهم لا إليك لأن المضرة المرتبة على حساب كل نفس عائدة إليها لا إلى غيرها فالمقصود منه دفع طعن الكفار وتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تربية الفقراء وإدنائهم ، وضمير حسابهم ، وعليهم للذين يدعون ربهم وكلمة (من) في قوله : {مِن شَىْءٍ} زائدة وهو فاعل عليك وعليهم لاعتمادها على النفي ومن حسابهم ومن حسابك صفة لشيء ثم قدمت فصارت حالاً.
(3/28)
قال المولى أبو السعود : وذكر قوله تعالى : {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ} مع أن الجواب قد تم بما قبله للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه عليه السلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام عليهم على طريقة قوله تعالى : {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةًا وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف : 34) {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي نحو ما تأتينا فتحدثنا بنصب فتحدث على أن يكون المعنى انتفاء التحديث لانتفاء سببه الذي هو الإتيان والآية الكريمة من هذا القبيل فإنه لو كانت مضرة حسابهم مستقرة على المخاطب لكان ذلك سبباً لإبعاد من يتوهم الوهن في إيمانه فحكم بأن هذا السبب غير واقع حتى يقع مسببه الذي هو الطرد.
{فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ} جواب النهي وهو {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ} الآية.
{وَكَذَالِكَ فَتَنَّا} ذلك إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل الذي هو عبارة عن تقديمه تعالى
36
لفقراء المؤمين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة والمعنى ذلك الفتون الكامل البديع فتنّا ، أي : ابتلينا.
{بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} أي : بعض الناس ببعضهم لافتون غيره حيث قدمنا الآخرين في أمر الدنيا على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً.
{لِّيَقُولُوا} اللام للعاقبة أي ليكون عاقبة أمرهم أن يقول البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحش الدنيوي وتعامياً عما هو مناط التفضل حقيقة.
{أَهَـاؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنا بَيْنِنَآ} بأن وفقهم لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده تعالى من دوننا ونحن المتقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار وقوع المنّ رأساً على طريقة قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
قال الكلبي : إن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد أسلم قبله ، استنكف وأنف أن يسلم وقال قد سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّـاكِرِينَ} رد لقولهم ذلك وإبطال له أي أليس الله بأعلم بالشاكرين لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم.
وفيه إشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون لحق نعمة الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك وتعريض بأن القائلين بمعزل من ذلك كله.
قال في "التأويلات النجمية" : {وَكَذَالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} يعني : الفاضل بالمفضول والمفضول بالفاضل فليشكر الفاضل وليصبر المفضول فإن لم يشكر الفاضل فقد تعرض لزوال الفضل وإن صبر المفضول فقد سعى في نيل الفضل والمفضول الصابر يستوي مع الفاضل الشاكر كما كان سليمان في الشكر مع أيوب في الصبر ، فإن سليمان مع كثرة صورة أعماله في العبودية كان هو وأيوب مع عجزه عن صورة أعمال العبودية متساويين في مقام نعم العبدية فقال لكل واحد منهما.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} (ص : 30) ففتنة الفاضل للمفضول رؤية فضله على المفضول وتحقيره ومنع حقه عنه في فضله وفتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه فإنه انقطع بالخلق أو رأى المنع والعطاء من الخلق وهو المعطي والمانع لا غير.
فعلى العاقل أن يختار ما اختاره الله ولا يريد إلا ما يريده.
قال الكاشفي في "تفسيره" الفارسي : (در كشف الأسرار آوردهكه ارادت برسه وجه است.
اول ارادت دنياي محض كما قال تعالى {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} (الأنفال : 67) ونشان آندويزاست در زيادتىء دنيا بنقصان دين راضي بودن واز درويشان ومسلمانان أعراض نمودن.
ودوم ارادت آخرة محض كما قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} (الإسراء : 19) وآنيزدو علامت دارد در سلامتىء دين بنقصان دنيا رضا دادن ودر مؤانست والفت بروى درويشان كشادن.
سوم ارادت حق محض كما قال {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ونشان آن اي برسر كونين نهادن است واز خود وخلق آزاد كشتن).
مارا خواهى خطى بعالم دركش
در بحر فنا غرقه شو ودم دركش
فهم يريدون وجهه تعالى فكل يريدون منه وهم يريدونه ولا يريدون منه كما قيل :
وكل له سؤل ودين ومذهب
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
ووصلكمو سؤلي وديني رضاكمو
37
وتكلم الناس في الإرادة فأكثروا وتحقيقها اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله تعالى فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً ولا يجد من دون وصوله إليه سكوتا ولا قراراً كما في "التأويلات النجمية".
(3/29)
وفي الآية الكريمة بيان فضل الفقراء : وعن أبي سعيد الخدري قال جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وكان بعضهم يستتر ببعض من العري وقارىء يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقام علينا فلما قام سكت القارىء فسلم رسول الله وقال : "ما كنتم تصنعون"؟ قلنا : يا رسول الله كان قارىء يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى فقال رسول الله : "الحمدالذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم" قال : ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ، ثم قال بيده : هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال فما رأيت رسول الله عرف منهم أحداً غيري فقال : "أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم" ، وذلك مقدار خمسمائة سنة وفي الحديث : "يؤتى بالعبد الفقير يوم القيامة فيعتذر الله عز وجل إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا ، فيقول : وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك عليّ ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف وانظر إلى من أطعمك أو كساك وأراد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك والناس يومئذٍ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل به ذلك في الدنيا فيأخذه بيده ويدخل الجنة" قال الحافظ :
توانكرا دل درويش خود بدست آور
كه مخزن زر وكنج ودرم نخواهدماند
برين رواق زبرجد نوشته اند بزر
كه زنكوى أهل كرم نخواهدماند
وفي الحديث : "لكل شيء مفتاح ومفتاح الجنة حبّ المساكين والفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة" قال الشيخ العطار قدس سره :
حب دريشان كليد جنت است
دشمن ايشان سزاى لعنت است
اللهم أجعلنا من الأحباب ولا تطردنا خارج الباب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
{وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا} ـ ـ روي ـ ـ أن قوماً جاؤوا إلى النبي عليه السلام ، فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما تدارك الاستغفار وتدبير الاعتذار فسكت عنهم ولم يرد عليهم شيئاً فانصرفوا مأيوسين فنزلت.
قال الإمام كل من آمن بالله دخل هذا التشريف {فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} من كل مكروه وآفة والسلام بمعنى التسليم أي الدعاء بالسلامة فمعنى سلام عليكم سلمنا عليكم سلاماً أي دعوت بأن يسلمكم الله من الآفات في دينكم ونفسكم وإنما أمره بأن يبدأهم بالسلام مع أن العادة إن الجائي يسلم على القاعد حتى ينبسط إليهم بالسلام عليهم لئلا يحتشموا من الانبساط إليه هذا هو السلام في الدنيا ، وأما في الآخرة فتسلم عليهم الملائكة عند دخول الجنة كقوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} والله يبتدىء بالسلام عليهم بقوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) وقوله : {فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} يشير إلى السلام الذي سلمه الله على حبيبه عليه السلام ليلة المعراج إذ قال له : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فقال في قبول السلام : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" والذي تاب من بعد ظلمه منتظم في سلك أهل الصلاح فمورد
38
الآية لا ينافي هذا المعنى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي : قضاها وأوجبها على ذاته المقدسة بطريق التفضل والإحسان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
قال ابن الشيخ : كلمة على تفيد الإيجاب وإذا اجتمعا تأكد الإيجاب وهو لا ينافي كونه تعالى فاعلاً مختاراً بل هو عبارة عن تأكيد وبيان لفضله وكرمه اهـ.
قال في "التأويلات النجمية" : قال في حديث رباني للجنة "إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" فيرحم بجنته من شاء من عباده ويرحم بذاته من شاء من عباده {أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا} بدل من الرحمة والتقدير كتب على نفسه أنه من عمل إلخ فإن مضمون هذه الجملة لا شك أنه رحمة والسوء بالفارسية (كاربد).
{بِجَهَـالَةٍ} حال من فاعل عمل ، أي : عمله ملتبساً بجهالة حقيقة بأن يفعله وهو لا يعلم ما يترتب عليه من المضرة والعقوبة أو حكماً بأن يفعله عالماً بسوء عاقبته فإن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو في حكم الجاهل فهو حال مؤكدة لأنها مقررة لمضمون قوله : {مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا} لأن عمل السوء لا ينفك عن الجهالة حقيقة أو حكماً.
(3/30)
قال أهل الإشارة : يشير بقوله {مِّنكُمْ} إلى أن عامل السوء صنفان ، صنف منكم أيها المؤمنون المهتدون ، وصنف من غيركم وهم الكفار الضالون ، والجهالة جهالتان جهالة الضلالة وهي نتيجة أخطاء النور المرشش في عالم الأرواح وجهالة الجهولية وهي التي جبل الإنسان عليها فمن عمل من الكفار سوءاً بجهالة الضلالة فلا توبة له بخلاف من عمل سوءاً من المؤمنين بجهالة الجهولية المركوزة فيه فإن له توبة كما قال تعالى : {ثُمَّ تَابَ} أي رجع عنه {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد عمله.
{وَأَصْلَحَ} أي : ما أفسده والإصلاح هو أن لا يعود ولا يفسد.
{فَإِنَّهُ} خبر مبتدأ محذوف ، أي : فأمره إن الله تعالى {غَفُورٌ} له {رَّحِيمٌ} به.
قال الكشافي في "تفسيره" الفارسي : (امام قشيري رحمه الله فرموده كه اكرملك برتوذلت مى نويسد ملك براى تو رحمت مى نويسد س ترادو كتابت است يكى ازلي ويكي وقى مقررست كه كتابت وقتي كتابت ازلي را باطل نمى تواندساخت مضمون اين آيت شريف شفاست بيماران بيمارستان كناه را وشفا بشرط رهيزست : يعني توبة واستغفار).
دررمندان كنه را روزوشب
شربتي بهتر زاستغفار نيست
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
آزرومندان وصال باررا
اره غير از نالها وزارنيست
{وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ} الكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي هذا التفصيل البديع نفصل الآيات القرآنية ونبينها في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين ليظهر الحق ويعمل به {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي تظهر طريقتهم فيجتنب عنها ، ورفع سبيل على أنه فاعل فإنه يذكر في لغة بني تميم ويؤنث في لغة أهل الحجاز ووجه الاستبانة والإيضاح ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيي عن بينة.
فعلى العاقل أن يسلك طريق الفوز والفلاح ويصل إلى ما وصل إليه أهل الصلاح.
وأول الطريق هو التوبة والاستغفار.
قال العلماء : تذكر أولاً قبح الذنوب وشدة عقوبة الله ثم تذكر ضعفك وقلة حيلتك في ذلك فمن لا يتحمل قرص نملة وحرّ شمس كيف يتحمل نار جهنم ولسع حيات فينبغي أن تجتهد في الخروج من الذنوب على أقسامها التي بينك وبين عباد الله
39
بالاستحلال ورد المظالم ، وأما التي هي من ترك الواجبات من صلاة وصيام وزكاة فتقضي ما أمكن منها ، وأما التي بينك وبين الله كشرب الخمر وضرب المزامير وأكل الربا فتندم على ما مضى منها وتوطن قلبك على ترك العود إلى مثلها أبداً ، فإذا أرضيت الخصوم بما أمكن وقضيت الفوائت بما تقدر عليه وبرأت قلبك من الذنوب فينبغي أن ترجع إليه بحسن الابتهال والضراعة ليكفيك ذلك بفضله فتذهب فتغتسل وتغسل ثيابك فتصلي ركعتين كما في الحديث الصحيح : "ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له" ، وفي حديث آخر : "أيما عبد أو أمة ترك صلاته في جهالته فتاب وندم على تركها فليصل يوم الجمعة بين الظهر والعصر اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل منها الفاتحة وآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين مرة لا يحاسبه الله تعالى يوم القيامة ووجد صحيفة سيئاته حسنات" ذكره في "مختصر الإحياء".
يقول الفقير جامع هذه الفوائد : إن هذا الحديث على تقدير صحته لا ينفهم منه أن هذه الصلاة تكون قضاء لجميع ما فات منه وتقوم بدله كيف؟ وقد ذكر في أوله التوبة والندامة ومن مقتضاها قضاء ما سلف كما مر آنفاً فمعنى إن الله تعالى لا يحاسبه يوم القيامة لا يقول له لم أخرت الصلاة التي فرضت عليك عن أوقاتها وذلك ببركة هذه الصلاة الشريفة التي هي تأكيد لتوبته وزيادة في اعتذاره وقد عرف في الشرع أن العبد كما يحاسب على ترك الصلوات كذلك يحاسب على تأخيرها عن أوقاتها وبهذا البيان انحل ما أشكل على بعض من مواظبة الناس على قضاء صلوات يوم وليلة في آخر جمعة من شهر رمضان بين الظهر والعصر فإن ما يصلونه هي الصلاة المذكورة عند الحقيقة لكنهم يغلطون في زعمهم وفي الكيفية والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
وفي كتاب "الترغيب والترهيب" : إنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال واذنوباه واذنوباه مرتين أو ثلاثاً فقال له عليه السلام "قل اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي ، ورحمتك أرجى عندي من عملي" ، فقالها ثم قال : "عد" فعاد ، ثم قال : "عد" فعاد ، ثم قال : "قم فقد غفر الله لك" ومن استغفر للمؤمنين كل يوم كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة وما الميت في قبره إلا كالغريق المنتظر ينتظر دعوة تلحقه من أب أو أم أو أخ صديق فإذا ألحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها وإن الله تعالى ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم ، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب فإنك مرجع كل تواب وأواب.
(3/31)
{قُلْ إِنِّى نُهِيتُ} كان كفار قريش يدعونه عليه السلام إلى دين آبائه فنزلت أي صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل عليّ من الآيات في أمر التوحيد.
{أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} أي : عن عبادة ما تعبدونه.
{مِن دُونِ اللَّهِ} كائناً ما كان.
{قُل لا أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} إشارة إلى الموجب للنهي كأنهم قالوا لم نهيت عما نحن فيه ولم تمنع عن متابعتنا أجاب بأن ما أنتم عليه هوى وليس بهدى فكيف أتبع الهوى وأترك الهدى.
{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} أي : إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت أي تركت سبيل الحق.
{وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} من الذين سلكوا طريق الهدى عطف على ما قبله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
{قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ} كائنة {مِّن رَّبِّى} والبينة الحجة الواضحة التي تفصل بين الحق والباطل يقال أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتاً عندك بحجة واضحة وشاهد صدق والمراد بها
40
القرآن والوحي.
{وَكَذَّبْتُم بِهِ} جملة مستأنفة سيقت للإخبار بذلك والضمير المجرور للتنبيه والتذكير باعتبار البيان والبرهان والمعنى إني على بينة عظيمة كائنة من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جملتها الوعيد بمجيء العذاب.
{مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} ـ ـ روي ـ ـ أن رؤساء قريش كانوا يستعجلون العذاب بقولهم : {مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (الملك : 25) بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام حتى قام النضر بن الحارث في الحطيم وقال {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال : 32) والمعنى ليس ما تستعجلون به من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعة لتكذيبي في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه أي ليس أمره بمفوض إليّ.
{إِنِ الْحُكْمُ} أي ما الحكم في ذلك وغيره تعجيلاً وتأخيراً.
{إِلا} وحده من غير أن يكون لي دخل ما فيه بوجه من الوجوه.
{يَقُصُّ الْحَقَّ} أي : يقول الحق ويتبعه في بيان جميع أحكامه ولايحكم إلا بما هو حق فتأخير العذاب حق ثابت جار على حكمة بليغة وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي على صاحبه.
{وَهُوَ خَيْرُ الْفَـاصِلِينَ} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي : في قدرتي ومكنتي.
{مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوصاً إليّ من جهته عزّ وجل.
{لَقُضِىَ الامْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي : بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائره ، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذي هو الله سبحانه وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّـالِمِينَ} أي : بحالهم وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوض الأمر إليّ فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب فعابد الأصنام سواء أمهل أو لا يذوق العذاب ولا يتخلص منه أصلاً وكذا عابد الدنيا والنفس والشيطان والهوى فإن ذلك في نار الجحيم وهذا في نار الفراق العظيم.
فعلى العاقل أن لا يتبع الهوى كما أمر الله تعالى فقال : {قُل لا أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
قال بعضهم جزت مرة ببلاد السواد فرأيت شيخاً جالساً في الهواء فسلمت عليه فرد السلام علي ، فقلت له : بم جلست في الهواء؟ قال خالفت الهوى فأسكنت في الهواء.
وجاء جماعة من فقهاء اليمن إلى الشيخ الكبير أبي الغيث قدس سره يمتحنونه في شيء فلما دنوا منه ، قال : مرحباً بعبيد عبدي فاستعظموا ذلك فلحقوا شيخ الطريقين وإمام الفريقين العالم العارف أبا الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي ، فأخبروه بما قال الشيخ أبو الغيث لهم : فضحك الشيخ ، وقال صدق الشيخ أنتم عبيد الهوى والهوى عبده وإنما يتخلص المرء من الهوى بالتقوى.
وفي المثنوي} :
ونكه تقوى بست دو دست هوا
حق كشايد هردودست عقل را
س حواس يره محكوم توشد
ون خرد سالار ومخدوم توشد
واعلم : أن الهوى من أوصاف النفس فالآيات متعلقة بإصلاح النفس ، ومن كان على بينة من ربه ، وهي في الحقيقة النور الذي ينشرح به الصدر يكون على الهدى لا على الهوى وله علامات
41
(3/32)
كما لا يخفى ـ ـ حكي ـ ـ أن بعض الصالحين كان يتكلم على الناس ويعظهم فمر عليه في بعض الأيام يهودي وهو يخوفهم ويقرأ قوله تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} (مريم : 71) فقال اليهودي : إن كان هذا الكلام حقاً فنحن وأنتم سواء فقال له الشيخ لا ما نحن سواء بل نحن نرد ونصدر وأنتم تردون ولا تصدرون ننجو نحن منها بالتقوى وتبقون أنتم فيها جثياً بالظلم ثم قرأ الآية الثانية {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم : 72) فقال اليهودي : نحن المتقون ، فقال له الشيخ كلا بل نحن وتلا قوله تعالى : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍا فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} (الأعراف : 156) إلى قوله تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامِّىَّ} (الأعراف : 157) فقال اليهودي : هات برهاناً على صدق هذا فقال له الشيخ البرهان حاضر يراه كل ناظر وهو أن تطرح ثيابي وثيابك في النار فمن سلمت ثيابه فهو الناجي منها ، ومن أحرقت ثيابه فهو الباقي فيها فنزعا ثيابهما فأخذ الشيخ ثياب اليهودي ولفها ولف عليها ثيابه ورمى الجميع في النار ثم دخل النار فأخذ الثياب ثم خرج من الجانب الآخر ثم فتحت الثياب فإذا ثياب الشيخ المسلم سالمة بيضاء قد نظفتها النار وأزالت عنها الوسخ ، وثياب اليهودي قد صارت حراقة مع أنها مستورة وثياب الشيخ المسلم ظاهرة للنار فلما رأى ذلك أسلم والحمدفهذه الحكاية مناسبة لما ذكر من الآيات إذ كفار قريش كانوا من أهل الظلم والهوى فلم ينفعهم دعواهم فصاروا إلى العذاب والمؤمنون كانوا من أهل العدل والبينة والهدى فأنتج تقواهم ووصلوا إلى جنات مفتحة لهم الأبواب ومن سلم لباسه من النار سلم وجوده بالطريق الأولى بل الثوب في الحقيقة هو الوجود الظاهري الذي استتر به الروح الباطني فلا بد من تطهيره المؤدي إلى تطهير الباطن يسره الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
{وَعِندَهُ} أي الله تعالى خاصة.
{مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} أي : خزائن غيوبه ، جمع مفتح بفتح الميم هو المخزن والكنز والإضافة من قبيل لجين الماء وهو المناسب للمقام كما في "حواشي سعدي لبي" المفتي ويجوز أن يكون جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح أي آلة الفتح فالمعنى ما يتوصل به إلى الغيب شبه الغيب بالخزائن المستوثق بها بالأقفال وأثبت لها مفاتح على سبيل التخييل ولما كان عنده تلك المفاتح كان المتوصل إلى ما في الخزائن من المغيبات هو لا غير كما في "حواشي ابن الشيخ" {لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ} تأكيد لمضمون ما قبله.
قال في "تفسير الجلالين" : وهي الخمسة التي في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) الآية رواه البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما في الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ، ولا يدري بأي أرض تموت النفس إلا الله ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله".
{وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثير أفرادها وهو بيان لتعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيهاً عن أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء في الجلاء {وَمَا تَسْقُطُ مِن} زائدة {وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} يريد ساقطة وثابتة ، يعني : يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه وهي مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات.
{وَلا حَبَّةٍ} عطف على ورقة وهي بالفارسية (دانه).
{فِى ظُلُمَـاتِ الأرْضِ} أي : كائنة في بطونها لا يعلمها.
قال الكاشفي : (مراد تخميست كه
42
در زمين افتد).
{وَلا رَطْبٍ} عطف على ورقة أيضاً وهو بالفارسية (تر).
{وَلا يَابِسٍ} بالفارسية (خشك) ، أي : ما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه.
قال الحدادي : الرطب واليابس عبارة عن جميع الأشياء التي تكون في السموات وفي الأرض لأنها لا تخلو من إحدى هاتين الصفتين انتهى فيختصان بالجسمانيات إذ الرطوبة واليبوسة من أوصاف الجسمانيات.
{إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ فهو بدل اشتمال من الاستثناء الأول أو هو علمه تعالى فهو بدل منه بدل الكل.
وقرىء ولا رطب ولا يابس بالرفع على الابتداء والخبر إلا في كتاب وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذٍ لما ليس من شأنه السقوط.
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
قال الحدادي : فإن قيل ما الفائدة في كون ذلك في اللوح مع أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء وإن كان عالماً بذلك قبل أن يخلقه وقبل أن يكتبه لم يكتبها ليحفظها ويدرسها؟ قيل : فائدته إن الحوادث إذا حدثت موافقة للمكتوب ازدادت الملائكة بذلك علماً ويقيناً بعظيم صفات الله تعالى.
(3/33)
يقول الفقير : إن الملائكة ليست من أهل الترقي والتنزل فقصر الفائدة على ذلك مما لا معنى له بل نقول إن اللوح قلب هذا التعين كقلب الإنسان قد انتقش فيه ما كان وما سيكون وهو من مراتب التنزلات فقد ضبط الله فيه جميع المقدورات الكونية لفوائد ترجع إلى العباد يعرفها العلماء بالله.
قال الحافظ :
معرفت نيست درين قوم خدايا سببي
تابرم كوهر خودرا بخريدار ديكر
والإشارة في الآية إن الله تعالى جعل لكل شيء من المكونات شهادة تناسب ذلك الشيء وغيباً مناسباً له وجعل لغيب كلّ مفتاحاً يفتح به باب غيب ذلك الشيء وشهادته فينفعل ذلك الشيء كما أراده الله في الأزل وقدره.
{وَعِندَه مَفَاتِحُ} ذلك {الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ} لأنه لا خالق إلا هو ليس لنبي ولا لولي مدخل في علم هذه المفاتح ولا في استعمالها لأنه مختص بالخالق فقط ، وسأضرب لك مثلاً تدرك به هذه الحقيقة وذلك مثل نقاش للصورة فإن لكل صورة مما ينقشه شهادة هي هيئتها وغيباً هو علم التصوير ، ومفتاحاً يفتح به باب علم التصوير على هيئة الصورة لتنفعل الصورة كما هي ثابتة في ذهن النقاش هو القلم والقلم بيد النقاش لا مدخل لتصرف غيره فيه ، فالله تعالى هو النقاش المصور والصور هي المكونات المختلفة الغيبية والشهادية وشهادة كل صورة منها خلقتها وتكوينها وقلم تصويرها الذي هو مفتاح يفتح به باب علم تكوينها على صورتها وكونها هو الملكوت فبقلم ملكوت كل شيء يكون كون كل شيء وقلم الملكوت بيد الله تعالى كما قال : {فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس : 83) وكما أن الأشياء مختلفة فالملكوتيات مختلفات وملكوت كل شيء من الجمال والنبات والحيوان والإنسان والملك مناسب لصورته ولهذا جمع المفاتح ووحّد الغيب.
وقال : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} لأن الغيب هو علم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة كما في أقلام المصور فافهم جداً.
بعلم التكوين
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
{وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لأن به كوّن البر وهو عالم الشهادة والصورة والبحر وهو عالم الغيب والملكوت يدل على هذا المعنى قوله لا عالم الغيب والشهادة بهذا العلم {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} لأنه مكونها ومثبتها ومسقطها {وَلا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـاتِ الأرْضِ} أي : حبة الروح في ظلمات
43
صفات أرض النفس وأيضاً ولا حبة في ظلمات الأرض أي : أرض القلب وظلمات صفات البشرية إلا وهو ركبها ويعلم كمالها ونقصانها {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الرطب هو الموجود في الحال واليابس هو المعدوم في الحال وسيكون موجوداً.
وأيضاً الرطب الروحانيات واليابس الجماديات وأيضاً الرطب المؤمن واليابس الكافر.
وأيضاً الرطب العالم واليابس الجاهل.
وأيضاً الرطب العارف واليابس الزاهد.
وأيضاً الرطب أهل المحبة واليابس أهل السلوة.
وأيضاً الرطب صاحب الشهود واليابس صاحب الوجود.
وأيضاً الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنفسه.
{إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} وهو أم الكتاب كذا في "التأويلات النجمية" قدس سره مؤلفها العزيز الشريف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
{وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} الخطاب عام للمؤمن والكافر أي ينيمكم في الليل ويجعلكم كالميت في زوال الاحساس والتمييز ومن هنا ورد "النوم أخ الموت" والتوفي في الأصل قبض الشيء بتمامه ، وعن علي رضي الله عنه : "يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة ، يعني : إن الذي يرى الرؤيا هو الروح الإنساني وإنه يرى في عالم البرزخ ما صدر عن الروح الحيواني من القبيح والحسن وهو ظل الروح الإنساني والتعبير بالحيواني والإنساني اصطلاح الحكماء وأما أهل السلوك فيعبرون عنها بالروح وتنزله.
(3/34)
{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أي : ما كسبتم فيه وجوارح الإنسان أعضاؤه التي يكسب بها الأعمال خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جرياً على العادة.
{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي : يوقظكم في النهار عطف على يتوفاكم وتوسيط قوله ويعلم بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أنه بعد علم ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبة لإبقائهم على التوفي بل لإهلاكهم بالمرة يفيض عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبىء عنه كلمة التراخي كأنه قيل هو الذي يتوفاكم في جنس الليل ثم يبعثكم في جنس النهار مع علمه بما ستجرحون فيه.
{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} أي : ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا وقضاء الأجل فصل الأمر على سبيل التمام فمعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت والأجل آخر مدة الحياة.
{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي : رجوعكم بالموت لا إلى غيره أصلاً.
{ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلك الليالي والأيام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 44
{وَهُوَ الْقَاهِرُ} مستعلياً {فَوْقَ عِبَادِهِ} أي : المتصرف في أمورهم لا غيره يفعل بهم ما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة وتعذيباً وإثابة إلى غير ذلك ، ويجوز أن يكون فوق خبراً بعد خبر وليس معنى فوق معنى المكان لاستحالة إضافة الأماكن إلى الله تعالى وإنما معناه الغلبة والقدرة ونظيره فلان فوق فلان في العلم أي أعلم منه.
وفي "المثنوي" :
دست شد بالاى دست اين تاكجا
تابيزدان كه اليه المنتهى
كان يكى درياست بي غور وكران
جمله درياها و سيلى يش لآن
حيلها وارها كرا هاست
يش إلا الله آنها جمله لاست
{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} عطف على الجملة الاسمية قبلها أي يرسل عليكم خاصة أيها المكلفون ملائكة تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن
44
أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه.
قال الكاشفي :
نه انديشى ازان روزيكه دروى
كرها خون ودلها ريش بيني
دهندت نامه أعمال وكويند
بخوان تاكردهاى خويش بيني
مكن ورميكني باري دران كوش
كه اندر نامه نيكي يش بيني
ورد في الخبر "أن على كل واحد منا ملكين بالليل وملكين بالنهار يكتب أحدهما الحسنات والآخر السيئات وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتب قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه ست ساعات أو سبع ساعات فإن هو استغفر الله لم يكتب عليه وإن لم يستغفر كتب سيئة واحدة".
فإن قلت : هل تعرف هؤلاء الملائكة العزم الباطن كما يعرفون الفعل الظاهر.
قلت : نعم لأن الحفظة تنتسخ من السفرة وهي من الخزنة التي وكلت باللوح وقد كتب فيه أحوال العوالم وأهاليها من السرائر والظواهر فبعد وقوفهم على ذلك يكتبون ثانياً من أول اليوم إلى آخره ومن أول الليل إلى آخره حسبما يصدر عن الإنسان.
وقيل : إذا همّ العبد بحسنة فاح من فيه رائحة المسك فيعلمون بهذه العلامة فيكتبونها وإذا همّ بسيئة فاح منه ريح النتن.
فإن قلت والملائكة التي ترفع عمل العبد في اليوم أهم الذين يأتون غداً أم غيرهم.
قلت قال بعض العلماء الظاهر أنهم هم وأن ملكي الإنسان لا يتغيران عليه ما دام حياً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 44
وقال بعض المشايخ : من جاء أنهم لا يرجع أبداً مرة أخرى ويجيء آخرون مكانهم إلى نفاد العمر واختلف في موضع جلوس الملكين وفي الخبر النبوي : "نقوا أفواهكم بالخلال فإنها مجلس الملكين الكريمين الحافظين ، وإن مدداهما الريق وقلمهما اللسان ، وليس عليهما شيء أمرّ من بقايا الطعام بين الأسنان" ولا يبعد أن يوكل بالعبد ملائكة سوى هذين الملكين كل منهم يحفظه من أذى كما جاء في الروايات.
{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} حتى هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل ويرسل عليكم حفظة يحفظون أعمالكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم كائناً من كان وجاءه أسباب الموت ومباديه.
{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الآخرون المفوض إليهم ذلك وهم ملك الموت وأعوانه وانتهى هناك حفظ الحفظة {وَهُمْ} أي : الرسل.
{لا يُفَرِّطُونَ} أي : لا يقصرون فيما يؤمرون بالتواني والتأخير طرفة عين.
واعلم : أن القابض لأرواح جميع الخلق هو الله تعالى حقيقة ، وأن ملك الموت وأعوانه وسائط ولذلك أضيف التوفي إليهم وقد يكون التوفي بدون وساطتهم كما نقل في وفاة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وغيرها ، وأعوان ملك الموت أربعة عشر ملكاً : سبعة منها ملائكة الرحمة وإليهم يسلم روح المؤمن بعد القبض ، وسبعة منهم ملائكة العذاب وإليهم يسلم روح الكافر بعد الوفاة.
(3/35)
قال مجاهد : قد جعلت الأرض لملك الموت كالطشت يتناول من حيث يشاء.
يقول الفقير : ليس على ملك الموت صعوبة في قبض الأرواح وإن كثرت وكانت في أمكنة مختلفة وكيفية لا تعرف بهذا العقل الجزئي كما لا تعرف كيفية وسوسة الشيطان في قلوب
45
جميع أهل الدنيا ـ ـ روي ـ ـ في الخبر أن رسول الله دخل على مريض يعوده فرأى ملك الموت عند رأسه فقال : "يا ملك الموت ارفق به فإنه مؤمن ، فقال ملك الموت : يا محمد أبشر وطب نفساً وقرّ عيناً فإني بكل مؤمن رفيق إني لأقبض روح المؤمن فيصرخ أهله فأعتزل في جانب الدار فأقول ما لي من ذنب وإني مأمور وإن لي لعودة فالحذر الحذر وما من أهل بيت مدر ولا وبر في بر وبحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ، حتى إني لأعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله لو أردت أن أقبض روح بعوضة لما قدرت عليها حتى يأمرني الله تعالى بقبضها".
جزء : 3 رقم الصفحة : 44
قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار ولما خلق الله الموت على صورة كبش أملح قال له اذهب إلى صفوف الملائكة على هيئتك هذه فلم يبق ملك إلا غشي عليه ألف عام ثم أفاقوا فقالوا يا ربنا ما هذا قال الموت قالوا لمن ذلك قال على كل نفس قالوا لم خلقت الدنيا قال ليسكنها بنو آدم قالوا لم خلقت النساء؟ قال : ليكون النسل ، قالوا : من يسلط عليه هذا هل يشتغل بالنساء والدنيا قال إن طول الأمل ينسيهم الموت حتى يكون منهم أخذ الدنيا وشهوة النساء ولذلك قيل الموت من أعظم المصائب وأعظم منه الغفلة عنه.
{ثُمَّ رُدُّوا} عطف على توفته والضمير للكل المدلول عليه بأحدكم ، أي : ردوهم الملائكة بعد البعث {إِلَى اللَّهِ} أي : إلى حكمه وجزائه في موقف الحساب فالرد إلى الله ليس على ظاهره لكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة بل هو عبارة عن جعلهم منقادين لحكم الله تعالى مطيعين لقضائه بأن يساقوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم فيه سواه.
أي : مالكهم الذي يملك أمورهم على الإطلاق ، وأما قوله تعالى : {وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} فالمولى فيه بمعنى الناصر فلا تناقض وهو بدل من الجلالة {الْحَقِّ} الذي لا يقضي إلا بالعدل وهو صفة للمولى.
{إِلا} أي : اعلموا وتنبهوا {لَهُ الْحُكْمُ} أي القضاء بين العباد يومئذٍ لا حكم لغيره فيه بوجه من الوجوه.
{وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ} يحاسب جميع الخلائق في أسرع زمان وأقصره ، لا يشغله حساب عن حساب ، ولا شأن عن شأن لا يتكلم بآلة ، ولا يحتاج إلى فكرة ورؤية وعقد يد ومعنى المحاسبة تعريف كل واحد ما يستحقه من ثواب وعقاب.
قال بعض العلماء : المحاسبة لتقدير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها فيقدم الحساب على الميزان ولهذا لا ميزان لمن يدخل الجنة بلا حساب.
واعلم : أن الحشر والحساب لا يكون على وجه الأرض وإنما يكون في الأرض المبدلة وهي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ولم يظلم عليها أحد فإذا ثبت الحشر والحساب ، وأن الله تعالى هو المحاسب وجب على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش في الحساب لأنه هو التاجر في طريق الآخرة وبضاعته عمره وربحه صرف عمره في الطاعات والعبادات ، وخسرانه صرفه في المعاصي والسيئات ونفسه شريكه في هذه التجارة ، وهي وإن كانت تصلح للخير والشر لكنها أميل وأقبل إلى المعاصي والشهوات فلا بد له من مراقبتها ومحاسبتها.
قال السعدي قدس سره :
توغافل دارانديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد بايمال
جزء : 3 رقم الصفحة : 44
{قُلْ} يا محمد لأهل مكة.
{مِنْ} استهفام {يُنَجِّيكُم} أي : يخلصكم ويعطي لكم نجاة
46
{مِّن ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} من شدائدهما وأهوالهما في أسفاركم استعيرت الظلمة للمشقة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أي : اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته بناء على أن الليل إذا لم يستنر بنور القمر ظهرت الكواكب صغارها وكبارها وكلما اشتدت ظلمته اشتد ظهور الكواكب.
{تَدْعُونَه تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي : معلنين ومسرّين على أن يكون تضرعاً وخفية مصدرين في موضع الحال من فاعل تدعونه وتدعون حال من فاعل ينجيكم أي داعين إياه تعالى والتضرع إظهار الضراعة وهي شدة الفقر والحاجة إلى الشيء.
{لَّئِنْ أَنجَاـنَا} حال من فاعل تدعون أيضاً على إرادة القول أي تدعونه قائلين والله لئن خلصنا.
{مِنْ هَـاذِهِ} الظلمات والشدائد {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} أي : الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة.
والشكر الاعتراف بالنعمة مع القيام بحقها وحق نعمة الله أن يطاع منعمها ولا يعصى فضلاً عن أن يشرك به ما لا يقدر على شيء أصلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 46(3/36)
{قُلْ} لهم {اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} أي : غم سواها والكرب غاية الغم الذي يأخذ بالنفس {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد ما تشاهدون من هذه النعم الجليلة {تُشْرِكُونَ} بعبادته تعالى غيره ، والمناسب لقولهم {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} أن يقال : ثم أنتم لا تشكرون ، أي : لا تعبدون لكن وضع تشركون موضعه تنبيهاً على أن الإشراك بمنزلة ترك الشكر رأساً.
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} لأجل إشراككم {مِّن فَوْقِكُمْ} أي : عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فعل بقوم نوح عليه السلام بحيث أهلكهم بأن أرسل عليهم الطوفان والصاعقة والريح والصيحة وأهلك قوم لوط وأصحاب الفيل بأن أمطر عليهم حجارة.
{أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أي : من جهة السفل كما أغرق فرعون وخسف بقارون.
وقيل من فوقكم ملوككم وأكابركم ورؤساؤكم ومن تحت أرجلكم عبيدكم السوء وسفلتكم وسفهاؤكم وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معاً كما فعل بقوم نوح {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} من لبست عليه الأمر أي خلطته من باب ضرب وأما لبست الثوب فمن باب علم ومصدر الأول اللبس بالفتح والثاني بالضم والمعنى أو يخطلكم {شِيَعًا} منصوب على أنه حال من مفعول يلبسكم هو جمع شيعة كسدرة وسدر.
والشيعة كل قوم اجتمعوا على أمر أي يخلطكم حال كونكم فرقاً متجزئين على أهواء شتى ومذاهب مختلفة كل فرقة مشايعة لإمام فينشب بينكم القتال أي يهيج ويظهر فهذا الخلط هو خلط اضطراب لا خلط اتفاق.
{وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} يقاتل بعضكم بعضاً ومن سنة الله تعالى أن يذيق الكافرين بأس المؤمنين وبالعكس وأن يذيق بعض الكافرين بأس بعض وبعض المؤمنين بأس بعضهم كما هو في أكثر الأزمان والأعصار عل حسب التربية المبنية على جماله وجلاله تعالى وفي الحديث : "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها فسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" أراد بالسنة قحطاً يعم أمته وبالغرق بفتح الراء ما يكون على سبيل العموم كطوفان نوح عليه السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي البروسوي : تأثير طوفان نوح عليه السلام يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة لكن على الخفة فيقع مطر
47
كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل اهـ.
كلامه وأراد عليه السلام بالبأس الحرب والفتن وفي الحديث : "فناء أمتي بالطعن والطاعون" وفي آخر : "إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع منها إلى يوم القيامة" وفيه معجزة للنبي عليه السلام حيث كان الأمر كما أخبره.
والبأس الشدة في الحرب ، وسبب دخول البأس عدم حكم الأئمة بكتاب الله تعالى وسبب تسلط العدو نقض عهد الله وعهد رسوله كما جاء في بعض الأحاديث.
{أَنظُرْ} يا محمد {كَيْفَ نُصَرِّفُ} لهم {الايَـاتِ} القرآنية من حال إلى حال بالوعد والوعيد أي نبين لهم آية على أثر آية ونوردها على وجوه مختلفة من أول السورة إلى هنا.
{لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} كي يفقهوا ويقفوا على جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد.
{وَكَذَّبَ بِهِ} أي بالعذاب الموعود أو القرآن المجيد الناطق بمجيئه.
{قَوْمِكَ} أي : المعاندون منهم {وَهُوَ الْحَقُّ} أي والحال إن ذلك العذاب واقع لا محالة أو إنه الكتاب الصادق في كل ما نطق.
{قُلْ} لهم {لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} بحفيظ وكل إلى أمركم لأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق إنما أنا منذر وقد خرجت من العهدة حيث أخبرتكم بما سترونه.
{لِّكُلِّ نَبَإٍ} أي : خبر من أخبار القرآن {مُّسْتَقِرٌّ} اسم زمان أي : وقت يقع فيه ويستقر زمن عذابكم.
{وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عند وقوعه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً.
فعلى العاقل أن يتضرع إلى الله تعالى في دفع الشدائد ولا يصرّ على ذنبه فإنه سبب للابتلاء وكل ظلمة إنما تجيء من ظلمات النفس الأمارة ، كما قال في "المثنوي" :
هر ه برتو آيد از ظلمات غم
آن زبى شرمى وكستاخيست هم
قال الصائب :
رازغير شكايت كنم كه همو حباب
هميشه خانه خراب هواي خويشتنم
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
(3/37)
والإشارة : أن البر هو الأجسام والبحر هو الأرواح فالأرواح وإن كانت نورانية بالنسبة إلى الأجسام لكن بالنسبة إلى الحق ونور ألوهيته ظلمانية ، كما قال عليه السلام : "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره" فمعناه إذا خلقتكم في ظلمة الخلقية فمن ينجيكم من ظلمات بر البشرية وظلمات بحر الروحانية إذ تدعونه تضرعاً ، أي : بالجسم وخفية أي بالروح.
{لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـاذِه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} حين تجلى لكم نور من أنوار صفاته فبعضكم يشرك ويقول أنا الحق وبعضكم يقول سبحاني ما أعظم شأني {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} حين تقولون أنا الحق وسبحاني.
{عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} بأن يرخي حجاباً بينه وبينكم يعذبكم به عزة وغيرة.
{أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أي : حجاباً من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم.
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يجعل الخلق فيكم فرقاً فرقة يقولون هم الصديقون وفرقة يقولون هم الزنادقة.
{وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} بالقتل والصلب وقطع الأعراق كما فعل بابن منصور.
قالوا : وكان قد جرى من الحلاج قدس سره كلام في مجلس حامد بن عباس وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر فأفتى بحل دمه وكتب خطه بذلك ، وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء ، وقال له الحلاج : ظهري حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتأولوا عليّ
48
بما يبيحه وإنما اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وبقية العشرة من الصحابة رضي الله عنهم ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين فالله الله في دمي ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه وانفضوا من المجلس وحمل الحلاج إلى السجن وكتب الوزير إلى المقتدر يخبره بما جرى في المجلس ، فعاد جواب المقتدر بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة وليتقدم بضربه ألف سوط فإن مات ، وإلا فيضرب ألف سوط آخر ، ثم ليضرب عنقه فسلمه الوزير إلى الشرطي ، وقال له : ما رسم به المقتدر وقال أيضاً إن لم يتلف بالضرب يقطع يده ثم رجله ثم يحز رأسه وتحرق جثته وإن خدعك وقال لك : أنا أجري لك الفرات ودجلة ذهباً وفضة فلا تقبل منه ذلك ولا ترفع العقوبة عنه فتسلمه الشرطي ليلاً ، وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من سنة تسع وثلاثمائة ، فأخرجه إلى باب الطاق وهو يتبختر في قيوده واجتمع من العامة خلق لا يحصى عددهم وضربه الجلاد ألف سوط ، ولم يتأوه ولما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة ثم حزّ رأسه ثم أحرقت جثته ولما صار رماداً ألقاه في دجلة ونصب الرأس ببغداد على الجسر وادّعى بعض أصحابه أنه لم يقتل ولكن ألقي شبهه على عدو من أعداء الله تعالى كما وقع في حق عيسى عليه السلام والأولياء ورثة للأنبياء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
يقول الفقير : لهذا التشبيه والتخييل نظائر في حكايات المشايخ يجدها من تتبع ومرادي بيان جوازه لا اعتقاد أنه كان كذلك.
فإن قلت من حق ولاية الحلاج أن لا يحترق ولا يكون رماداً؟
قلت : ذلك غير لازم فإن الأجساد مشتركة في قبول العوارض والآفات ألا ترى إلى حال أيوب ويحيى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام وقد ذكر أهل التفسير في أصحاب الرس أنهم قتلوا الأنبياء المبعوثين إليهم وأكلوا لحومهم تمرداً وعناداً ورسوا بئرهم بعظامهم نعم قد يكون في هذه النشأة أمور خارجة عن العادة خارقة كأحوال بعض الأنبياء والأولياء الذين قتلوا مثلاً ثم أحياهم الله تعالى وأما في القبر فقد ثبت أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ومن يليهم.
(3/38)
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا} إذا منصوب بجوابه وهو فأعرض والمراد بالخطاب النبي عليه السلام وأمته.
والخوض في اللغة الشروع في الشيء مطلقاً إلا أنه غلب في الشروع في الشيء الباطل والآيات القرآن.
والمعنى إذا رأيت الذين يشرعون في القرآن بالتكذيب والاستهزاء به والطعن فيه كما هو دأب كفار قريش {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} بترك مجالستهم والقيام عنهم عند خوضهم في الآيات.
{حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي استمر على الإعراض إلى أن يشرعوا في حديث غير آياتنا فالضمير إلى الآيات والتذكير باعتبار كونها حديثاً أو قرآناً.
{وَأَمَّآ} أصله إن ما فأدغمت نون إن الشرطية في ما المزيدة {يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـانُ} أي : ما أمرت به من ترك مجالستهم.
{فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أي : بعد أن تذكره فهو مصدر بمعنى الذكر ولم يجيء مصدر على فعلى غير ذكرى {مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} الذين وضعوا التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم وهذا الإنساء محض احتمال يدل عليه كلمة إن الشرطية فلا يلزم وقوعه مع أن العلماء قد اتفقوا على جواز السهو والنسيان على الأنبياء عليهم السلام والمراد بالشيطان إبليس أو واحد من أكابر جنوده لأن الذي
49
هو قرينه عليه أسلم فلا يأمره إلا بخير بخلاف قرين كل واحد من الأمة وفي الحديث "فضلت على آدم بخصلتين كان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه فأسلم وكان أزواجي عوناً لي وكان شيطان آدم وزوجته عوناً على خطيئته" ولما قال المسلمون : لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ونطوف بالبيت لأنهم يخوضون أبداً رخص الله تعالى في مجالستهم على سبيل الوعظ والتذكير فقال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ} الضمير في حسابهم للخائضين ومن زائدة وشيء في محل الرفع على أنه مبتدأ للخبر المقدم وهو على الذين أي وما على المؤمنين الذين يجتنبون عن قبائح أعمال الخائضين وأقوالهم شيء ممايحاسبون عليه من الجرائم والآثام {وَلَـاكِن ذِكْرَى} أي : ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير فنصب ذكرى على المصدرية والواو للعطف ، ولكن خالص للاستدراك فلا يلزم الجمع بين حرفي العطف كما أن اللام مع سوف تخرج عن كونها للحال وتخلص للتأكيد.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي : يجتنبون الخوض حياء وكراهة لمساءتهم.
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} المراد بالموصول الكفار الخائضون في الآيات ودينهم هو الذي كلفوه وأمروا بإقامة مواجبه وهو دين الإسلام ومعنى اتخاذه لعباً ولهواً أنهم سخروا به واستهزؤوا ، واللعب عمل يشغل النفس وينفرها عما تنتفع به ، واللهو صرفها عن الجد إلى الهزل.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} واطمأنوا بها حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبداً والمعنى أعرض عنهم واترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال : {وَذَكِّرْ بِهِ} أي : بالقرآن من يصلح للتذكر.
{أَن تُبْسَلَ نَفْسُ} أي لئلا تسلم إلى الهلاك وترهن {بِمَا كَسَبَتْ} بسبب ما عملت من القبائح.
وأصل البسل والإبسال المنع ولذا صح استعمال الإبسال في معنى الإسلام إلى الهلاك لأن الإسلام إلى الهلاك يستلزم المنع فإنه إذا أسلم أحد إلى الهلاك كان المسلم إليه وهو الهلاك يمنع المسلم وهو الشخص من الخروج عنه والخلاص منه.
وفي "التفسير الفارسي للكاشفي" (تا تسليم كرده نشود بهلاك يا رسوا نكرده نفس هر كافري بسبب انه كرده است از بديها) {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلا شَفِيعٌ} استئناف مسوق للإخبار بذلك والأظهر أنه حال من نفس كأنه في قوة نفس كافرة أو نفوس كثيرة كما في قوله تعالى : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} ومن دون الله حال من ولي أي ليس لتلك النفس غيره تعالى من يدفع عنها العذاب {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} أي تفد تلك النفس كل فداء بأن جاءت مكانها بكل ما كان في الأرض جميعاً {لا يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أي لا يقبل فقوله كل عدل نصب على المصدر فالعدل ههنا ليس بمعنى ما يفتدى به كما في قوله تعالى : {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} (البقرة : 48) بل المراد المعنى المصدري.
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
فإن قلت : الأخذ يتعلق بالأعيان لا بالمعنى؟.
قلت : نعم إلا أن الإمام قال : الأخذ قد يستعمل بمعنى القبول كما في قوله تعالى : {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ} (التوبة : 104) أي يقبلها وإذا حمل الأخذ في هذه الآية على القبول جاز إسناده إلى المصدر بلا محذور والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص منسدة على تلك النفس ومن أيقن بهذا كيف لا ترتعد فرائصه
50
(3/39)
إذا قدم على المعصية.
{أولئك} المتخذون دينهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا.
{الَّذِينَ أُبْسِلُوا} أي أسلموا إلى العذاب.
{بِمَا كَسَبُوا} بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة.
وفي "التفسير الفارسي" : (آن كروه آن كسانندكه سرده شده اند بملائكه عذاب بسبب آنه كرده انداز قبائح أفعال).
قال أبو السعود : أولئك الذين أسلموا إلى ما كسبوا من القبائح انتهى وهو جعل معنى الباء كما في قوله مررت بزيد.
{لَهُمْ شَرَابٌ} كأنه قيل : ماذا لهم حين أبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شراب {مِّنْ حَمِيمٍ} أي من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم.
{وَعَذَابٌ أَلِيمُ} بنار تشتعل بأبدانهم.
{بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي : بسبب كفرهم المستمر في الدنيا.
واعلم أن التكذيب بآيات الله تعالى والاستهزاء بها هو الكفر وعاقبة الكفر هو العذاب الأليم وكذا الإصرار على المعاصي يجر كثيراً من عصاة المؤمنين إلى الموت على الكفر والعياذ بالله.
وعن أبي إسحاق الفزاري قال : كان رجل يكثر الجلوس إلينا ونصف وجهه مغطى ، فقلت له : إنك تكثر الجلوس إلينا ونصف وجهك مغطى ، أطلعني على هذا ، فقال : وتعطيني الأمان؟ قلت : نعم قال كنت نباشاً فدفنت امرأة فأتيت قبرها فنبشت حتى وصلت إلى اللبن ثم ضربت بيدي إلى الرداء ، ثم ضربت بيدي إلى اللفافة فمددتها فجعلت تمدها هي ، فقلت : أتراها تغلبني فجيت على ركبتي ، فجررت اللفافة فرفعت يدها فلطمتني وكشف وجهه ، فإذا أثر خمس أصابع ، فقلت له : ثم مه؟ قال : ثم رددت عليها لفافتها وإزارها ، ثم رددت التراب وجعلت على نفسي أن لا أنبش ما عشت ، قال : فكتبت بذلك إليّ الأوزاعي فكتب إلى الأوزاعي ويحك سله عمن مات من أهل السنة ووجهه إلى القبلة فسألته عن ذلك ، فقال : أكثرهم حول وجهه عن القبلة فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إليّ إناوإنا إليه راجعون ثلاث مرات ، أما من حول وجهه عن القبلة فإنه مات على غير السنة ، وأراد بالسنة ملة الإسلام نسأل الله تعالى العفو والمغفرة والرضوان.
قال الحافظ قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
يا رب ازابر هدايت برسان باراني
يشتر رانكه وكردى زميان برخيزم
وفي الآيات : إشارة إلى أنه لا يصلح للطالب الصادق المجالسة مع الذين يخوضون في أحوال الرجال ولاحظ لهم منها سوى التزيي بزيهم ، واللبس لخرقتهم لأن الطبع من الطبع يسرق
نفس از هم نفس بكيرد خوى
بر حذر باش از لقاي خبيث
باد ون بر فضاي بد كذر
بوي بد كيرد از هواي خبيث
فلا بد من الصحبة مع الأخيار والاتعاظ بكلمات الكبار.
وعن عبد الله بن الأحنف : قال خرجت من مصر أريد الرملة لزيارة الرود بادي قدس سره فرآني عيسى بن يونس المصري فقال لي : هل أدلك؟ قلت : نعم قال عليك بصور فإن فيها شيخاً وشاباً قد اجتمعا على حال المراقبة فلو نظرت إليهما نظرة لأغنتك باقي عمرك قال فدخلت عليهما وأنا جائع عطشان وليس عليّ ما يسترني من الشمس فوجدتهما مستقبلين القبلة فسلمت عليهما وكلمتهما فلم يكلماني فقلت أقسمت عليكما بالله إلا ما كلمتماني فرفع الشيخ رأسه وقال يا ابن الأحنف ما أقلّ شغلك حتى تفرغت إلينا ثم أطرق فأقمت بين يديهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب عني الجوع والعطش فقلت
51
للشاب عظني بشيء أنتفع به فقال نحن أهل المصائب ليس لنا لسان العظة فأقمت عندهما ثلاثة أيام بلياليها لم نأكل فيها شيئاً ولم نشرب فلما كان عشية اليوم الثالث قلت في قلبي لا بد من سؤالهما في وصية أنتفع بها باقي عمري فرفع الشاب رأسه إليّ وقال عليك بصحبة من يذكرك الله بنظره ويعظك بلسان فعله لا بلسان قوله ثم التفتّ فلم أرهما وأنشد لسان الحال :
شدوا المطايا قبيل الصبح وارتحلوا
وخلفوني على الأطلاق أبكيها ثم إن النصيحة سهلة والمشكل قبولها ومن أراد الله تعالى هدايته وسبقت منه له عناية يجذبه لا محالة إلى باب ناصح له في ظاهره وباطنه فيهتدي بنور العظة والتذكير إلى مسالك الوصول إلى الله الخبير فيترقى من حضيض هوى النفس التي تلعب كالصبيان إلى أوج هدى الروح الذي له وقار واطمئنان وعلو شأن فهذه الآيات الكريمة تنادي على داء النفس ودوائها ومن الله الإعانة في إصلاحها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 46
(3/40)
{قُلْ أَنَدْعُوا} أنعبد والاستفهام للإنكار {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : متجاوزين عبادة الله تعالى.
{مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} أي : ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه وهو الأصنام والقادر على النفع والضر هو الله تعالى.
{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} جمع عقب بالفتح وكسر القاف مؤخر القدم أي نرجع من الإسلام إلى الشرك بإضلال المضل {بَعْدَ إِذْ هَدَاـانَا اللَّهُ} إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك.
{كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَـاطِينُ} حال من فاعل نرد أي أنرد على أعقابنا مشبهين بالذي ذهبت به مردة الجن إلى المهامه وأضلته {فِى الأرْضِ} متعلق باستهوته {حَيْرَانَ} حال من هاء استهوته وهو صفة مشبهة مؤنثة حيرى والفعل منه حار يحار حيرة أي متحيراً ضالاً عن الطريق.
{لَه أَصْحَـابٌ} الجملة صفة حيران ، أي لهذا المستوى رفقة {يَدْعُونَه إِلَى الْهُدَى} أي يهدونه إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر مبالغة كأنه نفس الهدى.
{ائْتِنَا} على إرادة القول على أنه بدل من يدعونه ، أي : يقولون له ائتنا شبه الله تعالى من أشرك وعبد غير الله مع قيام البرهان الفاصل بين الحق والباطل بشخص موصوف بثلاثة أوصاف الأول استهوته مردة الجن والغيلان في المهامه والمفاوز والثاني كونه حيران تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع والثالث أن يكون له أصحاب يدعونه قائلين له ائتنا فقد اعتسفت المهامه وضللت عن الجادة وهو لا يجيبهم ولا يترك متابعة الجن والشياطين.
والجن أجسام لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة وتقدر على أن تنفذ في بواطن الحيوان نفوذ الهواء في خلال الأجسام المتخلخلة.
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} الذي هدانا إليه وهو الإسلام.
{هُوَ الْهُدَى} وحده وما عداه ضلال محض وغي بحت.
قل أيضاً {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} أي : بأن نسلم فاللام بمعنى الباء والعرب تقول أمرتك لتفعل وأن تفعل وبأن تفعل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 52
{وَأَنْ} أي : بأن {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَواةَ} تعالى فالإسلام رئيس الطاعات الروحانية والصلاة رئيس الطاعات الجسمانية والتقوى رئيس ما هو من قبيل التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي {وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة للحساب.
{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} أي : العلويات والسفليات وما فيهما {بِالْحَقِّ} حال من فاعل خلق ، أي : قائماً بالحق والحكمة.
{وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُا قَوْلُهُ الْحَقُّ} يوم ظرف
52
لمضمون جملة قوله : الحق ، والواو بحسب المعنى داخل عليها ، والمعنى وأمره المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء في حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية المعروف بها.
{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ} لا ملك فيه لغيره ولو مجازاً كما في الدنيا.
{عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} أي : هو عالم ما غاب وما شوهد.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} في كل ما يفعله.
{الْخَبِيرُ} بجميع الأمور الجلية والخفية وفي الحديث : "لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش متى يؤمر" ، قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله ما الصور قال "القرن" قلت : كيف هو؟ قال "عظيم الذي نفسي بيده إن عظم دائرة فيه كعرض السماء والأرض" ويقال إن فيه من الثقب على عدد أرواح الخلائق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 52
(3/41)
قالوا : إن النفخة ثلاث : أولاها : نفخة الفزع فإنه إذا سمعوا النفخة يعلمون أنهم يموتون يقيناً ولم يبق من أيام الدنيا شيء فيأخذهم الفزع لأجل العرض والحساب والعذاب ، والنفخة الثانية : الصعق وهو موت الخلائق أجمعين حتى لا يبقى إلا الله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه.
والنفخة الثالثة : نفخة البعث من القبور ومن النفخة إلى النفخة أربعون عاماً فعند موت جميع الخلائق تجعل أرواحهم في الصور وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً لا تأكله الأرض أبداً وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ويجمع الله ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع وحيوانات الماء وبطن الأرض وما أصاب النيران منها بالحرق والمياه بالغرق وما أبلته الشمس وذرته الرياح وذلك بعدما أنزل ماء من تحت العرش يقال له الحيوان فتمطر السماء أربعين سنة حتى يكون من الفوق اثني عشر ذراعاً ثم يأمر الله الأجساد فتنبت كنبات البقل فإذا جمعها وأكمل كل بدن منها ولم يبق إلا الأرواح يحيي حملة العرش ثم يحيي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فينفخ في الصور فتخرج الأرواح من ثقب الصور كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله تعالى ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض ، فأول من يخرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم الأمة شباباً كلهم أبناء ثلاث وثلاثين ، واللسان يومئذٍ بالسريانية سراعاً إلى ربهم هذا في المؤمنين المخلصين ، وأما الكافرون : فيقولون هذا يوم عسير ، فيوقفون خفاة عراة مقدار سبعين عاماً لا ينظر الله إليهم فتبكي الخلائق حتى تنقطع الدموع ثم تدمع دماً حتى يبلغ منهم الأذقان ويلجمهم ، ثم يفعل الله فيهم ما يشاء فعليك بالإسلام الحقيقي والتسليم حتى تنجو وهو ترك الوجود كالكرة في ميدان القدر مستسلماً لصولجان القضاء لمجاري أحكام رب العالمين وهو إنما يحصل بمحض فضل الله تعالى لكن الأنبياء والأولياء وسائط ، كما أشار إليه صاحب "المثنوي" فقال :
سازد اسرافيل روزي ناله را
جان دهد وسيده صد ساله را
اوليارا در درون هم نغمها ست
طالبانرا زان حياة بي بهاست
نشنود آن نغمهارا كوش حس
كزستمها كوش حس باشد نجس
53
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشان حياتست ونما
نغمهاى اندرون اوليا
اولا كويد كه اي اجزاى لا
جزء : 3 رقم الصفحة : 52
هين زلاى نفى سرها بر زنيد
اين خيال ووهم يكسو افكنيد
اي همه وسيده دركون وفساد
جان باقيان نروئيد ونزاد
جزء : 3 رقم الصفحة : 52
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ} اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما سلم قلبه للعرفان ولسانه لإقامة البرهان على فساد طريق أهل الشرك والطغيان ، وسلم بدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ثم إنه سأل ربه وقال : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84) وجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه فأجاب دعاءه وجعل جميع الطوائف وأهل الأديان والملل معترفين بفضله حتى إن المشركين أيضاً يعظمونه ويفتخرون بكونهم من أولاده ولما كانوا معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب أي واذكر يا محمد لأهل مكة وقت قول إبراهيم لأبيه آزر ، آي : موبخاً له على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم.
وآزر عطف بيان لأبيه وهو تارح بفتح الراء وسكون الحاء المهملة علمان لأب إبراهيم كإسرائيل ويعقوب أو آزر لقبه وتارح اسم له وكان من قرية من سواد الكوفة يقال لها كوثة.
{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً} أي : أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما أريد صيغة الجمع باعتبار الوقوع.
{إِنِّى أَرَاـاكَ وَقَوْمَكَ} الذين يتبعونك في عبادتها {فِى ضَلَـالٍ} عن الحق.
{مُّبِينٌ} أي : بين كونه ضلالاً لا اشتباه فيه.
والرؤية إما علمية فالظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 54
(3/42)
ثم اعلم أن عبادة الأصنام كفر فدلت الآية على أن آزر كان كافراً وذلك لا يقدح في شأن نسب نبينا صلى الله عليه وسلّم وأما قوله عليه السلام : "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه من ولد من الزنى ونكاح أهل الجاهلية صحيح كما يدل عليه قوله عليه السلام : "ولدت من نكاح لا من سفاح" أي : زنى وقوله : "لما خلق الله تعالى آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض وجعلني في صلب نوح في السفينة ، وقذفني في صلب إبراهيم ثم لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط" ـ ـ وروي ـ ـ أن حواء لما وضعت شيتا انتقل النور المحمدي من جبهتها إلى جبهته ولما كبر وبلغ مبلغ الرجال أخذ آدم عليه العهود والمواثيق أن لا يودع هذا السر إلا في المطهرات المحصنات من النساء ليصل إلى المطهرين من الرجال فانتقل ذلك النور إلى يانش ويقال أنوش ثم إلى قينان ثم إلى مهلائيل ثم إلى يرد ثم إلى خنوخ على وزن ثمود وهو إدريس عليه السلام ويقال أخنوخ ثم إلى متوشلح ثم إلى لمك ثم إلى نوح عليه السلام ثم إلى سام أبو العرب ثم إلى أرفخشذ ثم إلى شالخ ثم إلى عابر على وزن ناصر ويقال عيبر على وزن جعفر ثم إلى فالخ ويقال فالغ ثم إلى أرغو ويقال راغو ثم إلى شاروخ ، ثم إلى ناخود ثم إلى تارح وهو آزر ثم إلى إبراهيم عليه السلام ثم إلى إسماعيل عليه السلام وفيه لغة أخرى وهي إسمعين
54
بالنون على ما حكاه النوى ثم إلى قندار ثم إلى حمل ، ثم إلى النبت ثم إلى سلامان ثم إلى يشجب على وزن ينصر ثم إلى يعرب على وزن ينصر أيضاً ثم إلى الهميسمع ، ثم إلى اليسع ثم إلى أدد ثم إلى أد وإلى هنا اختلف في أسماء أهل النسب بخلاف ما بعده ثم إلى عدنان ثم إلى معد ثم إلى نزار ، ثم إلى مضر ثم إلى إلياس بفتح الهمزة في الابتداء والوصل وقيل بكسر الهمزة ضد الرجاء ثم إلى مدركة ثم إلى خزيمة ثم إلى كنانة ثم إلى النضر ثم إلى مالك ثم إلى فهر ثم إلى غالب ثم إلى لوي ثم إلى كعب ويجتمع عمر رضي الله عنه مع النبي عليه السلام في النسب في كعب ثم إلى مرة ويجتمع أبو بكر مع النبي عليه السلام في النسب في مرة ثم إلى كلاب ثم إلى قصي ثم إلى عبد مناف ثم إلى هاشم ثم إلى عبد المطلب ثم إلى عبد الله أب السر المصون والدر المكنون محمد المصطفى صلى الله عليه وسلّم ولم يرض بعض أهل العلم بما اشتهر بين الناس من عبادة قريش صنماً استدلالاً بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) في سورة إبراهيم وقوله تعالى في حق إبراهيم : {وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} (الزخرف : 28) في حم الزخرف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 54
والجواب أن الآية الأولى تدل بظاهرها على الأبناء الصلبية ولو سلم دلالتها على الأحفاد أيضاً كما تدل على كل ولد من ذريته.
ومعنى الآية الثانية وجعل الله كلمة التوحيد كلمة باقية في نسله وذريته على أنه لا تخلو سلسلة نسبه عن أهل التوحيد والإيمان فلا تدل على إيمان كل أعقابه وأحفاده وهو اللائح بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.
والإشارة في الآية إن الله تعالى أظهر قدرته في إخراج الحي من الميت بقوله : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً} دون الله إذ الأصل منهمك في الجحود لموت قلبه والنسل مضمحل في الشهود لحياة قلبه والأصنام ما يعبد من دون الله {إِنِّى أَرَاـاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} بما أراني الله ملكوت الأشياء كما في "التأويلات النجمية".
ومن بلاغات الزمخشري كم يحدث بين الخبيثين ابن لا يؤبن والفرث والدم يخرج من بينهما اللبن.
قال السعدي :
و كعانرا طبيعت بي هنر بود
يمبر زادكى قدرش نيفزود
هنر بنماى اكر داري نه كوهر
كل ازخارست وإبراهيم ازآزر
وقال : (خاكستر اكره نسب عالي داركه آتش جوهر علويست وليكن بنفس خودون هنري ندارد باخان برابراست قيمت شكرنه ازنى است كه آن خاصيت وى است) فظهر أن الله تعالى من شأنه القديم إخراج الحي من الميت ولا يختص به نسب وكذا أمر العكس ومن الله التوفيق.
{وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ} ذلك إشارة إلى الإراءة التي تضمنها قوله : {نُرِى} لا إلى إراءة أخرى يشبه بها هذه الإراءة كما يقال ضربته كذلك أي هذا الضرب المخصوص والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة.
والمعنى كذلك التبصير نبصره عليه السلام.
{مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانه القاهر عليهما وكونهما بما فيهما مربوباً ومملوكاً له تعالى لا تبصيراً آخر أدنى منه والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهر والأظهر مختص بملك الله عز سلطانه وهذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة للمعرفة ونظر البصيرة أي عرفناه
55
(3/43)
وبصرناه وصيغة الاستقبال حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها.
فإن قيل : رؤية البصيرة حاصلة لجميع الموحدين كرؤية البصر ومقام الامتنان يأبى ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 54
والجواب : أنهم وإن كانوا يعرفون أصل دليل الربوبية إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا كان عليه السلام يقول في دعائه "أرنا الأشياء كما هي".
قال في "التأويلات النجمية" :
اعلم : أن لكل شيء من العالم ظاهراً.
يعبر عنه تارة بالجسماني لما له من الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق ولتحيزه وقبول القسمة والتجزي ، وتارة بالدنيا لدنوها إلى الحس.
وتارة بالصورة لقبول التشكل ولإدراكه بالحس ، وتارة بالشهادة لشهوده في الحس ، وتارة بالملك لتملكه والتصرف فيه بالحس ، وباطناً يعبر عنه تارة بالروحاني لخلوه عن الأبعاد الثلاثة وعن التحيز والتجزي في الحس ، وتارة بالآخرة لتأخره عن الحس ، وتارة بالمعنى لتعريه عن التشكل وبعده عن الحس ، وتارة بالغيب لغيبوبته عن الحس ، وتارة بالملكوت لملاك عالم الملك والصورة به فإن قيام الملك بالملكوت وقيام الملكوت بقدرة الحق كما قال الله تعالى : {فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس : 83) أي : من طريق الملكوت والملكوت من الأوليات التي خلقها الله تعالى من لا شيء بأمرِكُنْ إذ كان الله ولم يكن معه شيء يدل عليه قوله : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} (الأعراف : 185) فنبه على أن الملكوت لم يخلق من شيء وما سواه خلق من شيء وقد سمى الله تعالى ما خلق بالأمر أمراً وما خلق من الشيء خلقاً فقال : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ} (الأعراف : 54) فالله تعالى أرى إبراهيم ملكوت الأشياء والآيات المودعة فيها الدالة على التوحيد انتهى وقد أطلق العلماء الملك على ما يدرك بالبصر والملكوت على ما يدرك بالبصيرة فالملكوت لا ينكشف لأرباب العقول بل لأصحاب القلوب فإن العقل لا يعطي إلا الإدراك الناقص بخلاف الكشف تلك المكاشفة لا تحصل إلا لأهل المجاهدة فإنها ثمرة المجاهدة وهي مما يعز : مناله جداً اللهم اجعلنا من أهل العيان دون السامعين للأثر.
{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} اللام متعلقة بمحذوف مؤخر والجملة اعتراض مقرر لما قبلها ، أي : ليكن من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور لا لأمر آخر فإن الوصول إلى تلك الغاية القاصية كمال مترتب على ذلك التبصير لا عينه وليس القصر لبيان انحصار فائدته في ذلك كيف لا وإرشاد الخلق وإلزام المشركين من فوائده بل لبيان أنه الأصل الأصيل والباقي من مستتبعاته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 54
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ} أي : ستره بظلامه {رَءَا كَوْكَبًا} جواب لما فإن رؤيته إنما تحقق بزوال نور الشمس عن الحس وهذا صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيق إنه كان قريباً من الغروب قيل كان ذلك هو الزهرة وقيل هو المشتري وكلاهما من الكواكب السبعة السيارة.
{قَالَ} كأنه قيل فماذا صنع عليه السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الموافقة مع الخصم.
{هَـاذَا رَبِّى} وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والمستدل على فساد قول يحكيه على رأي خصمه ثم يكر عليه بالإبطال.
{فَلَمَّآ أَفَلَ} أي : غرب
56
{قَالَ لا أُحِبُّ الافِلِينَ} أي : الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فإنهم بمعزل عن استحقاق الربوبية قطعاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 54
{فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا} أي : مبتدئاً في الطلوع إثر غروب الكوكب {قَالَ هَـاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ} كما أفل النجم {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى} إلى جنابه {لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} تعريض لقومه بأنهم على ضلال ولعله عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان من جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكواكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريباً منه وأفقه الشرقي مكشوف وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس مما لا يكاد يتصور.
(3/44)
{فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً} أي : مبتدئة في الطلوع {قَالَ هَـاذَا} الجرم المشاهد.
{رَبِّى هَـاذَآ أَكْبَرُ} من الكوكب والقمر وهو تأكيد لما رامه من إظهار النصفة بقوله {لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} {فَلَمَّآ أَفَلَتْ} كما أفل الكوكب والقمر وقويت عليهم الحجة ولم يرجعوا {قَالَ} مخاطباً للكل صادعاً بالحق بين أظهرهم.
يا قَوْمِ إِنِّى بَرِىاءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} بالله تعالى من الأصنام والأجرام المحتاجة إلى محدث فقالوا له ما تعبد قال : {إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} ، أي : أخلصت ديني وعبادتي وجعلت قصدي.
{لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} أيالذي خلقهما {حَنِيفًا} أي : مائلاً عن الأديان الباطلة كلها إلى الدين الحق ميلاً لا رجوع فيه.
{وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} به تعالى في شيء من الأفعال والأقوال وهذه حال من كملت صقالة مرآة قلبه عن طبع الطبع وتنزهت عن ظلمة هوى النفس وشهواتها فإنه لا يلتفت إلى الأجرام والأكوان بل إلى اليمين والشمال لأن شوق الخلة إلى الحضرة نصبه في محاذاة ذاته المقدسة عن الجهة.
قال في "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 57
آفتاب از امر حق طباخ ماست
ابلهي باشد كه كوئيم أو خداست
آفتابت كر بكيرد ون كنى
آن سياهى زوتوون بيرون كنى
نى بدركاه خدا آرى صداع
كه سياهى را ببر داده شعاع
كر كشندت نيم شب خورشيدكو
تابنالى يا امان خواهى ازو
حادثات اغلب بشب واقع شود
وان زمان معبودتو غائب شود
سوى حق كرر استانه خم شوى
وارهى از اختران محرم شوى
{وَحَآجَّه قَوْمُهُ} أي : جادلوه في دينه وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها.
{قَالَ أَتُحَـاجُّوانِّى} بنون ثقيلة أصله أتحاجونني بنونين أولاهما نون الرفع والثانية نون الوقاية فاستثقل اجتماعهما فأدغم الأولى في الثانية ، أي : أتجادلونني.
{فِى اللَّهِ} أي في شأنه تعالى ووحدانيته {وَقَدْ هَدَاـانِ} أي : والحال إن الله تعالى هداني إلى الحق.
{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي : ما تشركون به تعالى من الأصنام أن يصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء.
{إِلا أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـاًا} استثناء متصل والمستثنى منه وقت محذوف والتقدير لا أخاف معبوداتكم في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى شيئاً من إصابة مكروه بي من جهتها وذلك إنما يكون من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم فيه أصلاً.
{وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} كأنه تعليل
57
للاستثناء أي أحاط بكل شيء علماً فلا يبعد أن يكون في علمه تعالى أن يحيق به مكروه من قبلها بسبب من الأسباب لا بالطعن فيها.
{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} أي : أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات غير قادرة على شيء ما من نفع ولا ضرّ فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري.
جزء : 3 رقم الصفحة : 57
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} بالله من الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع والاستفهام إنكار الوقوع ونفيه بالكلية.
{وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ} حال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ أي وكيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلاً وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهوالها وهو إشراككم بالله الذي ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته وإنما عبر عنه بقوله : {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أي : بإشراكه.
{عَلَيْكُمْ سُلْطَـانًا} أي : حجة وبرهاناً على طريقة التهكم مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى.
{فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالامْنِ} أنحن أم أنتم.
قال المولى أبو السعود : المراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والفريق الآمن في محل الخوف.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} من أحق به فأخبروني.
{الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي أحد الفريقين الذين آمنوا {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم} أي : لم يخلطوه {بِظُلْمٍ} أي : بشرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله تعالى وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما قالوا : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر : 3) وهذا معنى الخلط {أولئك لَهُمُ الامْنُ} فقط من العذاب.
{وَهُم مُّهْتَدُونَ} إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 58
{وَتِلْكَ} إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله : {فَلَمَّا جَنَّ} (الأنعام : 76) إلى قوله : {وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام : 82) {حُجَّتُنَآ} الحجة عبارة عن الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء {إِبْرَاهِيمَ عَلَى} أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها وهو حال من حجتنا لا صفة لأنها معرفة بالإضافة.
{عَلَى قَوْمِهِ} متعلق بحجتنا.
(3/45)
والإشارة أن محجة السلوك إلى الله تعالى.
إنما هي تحقق بالآيات التي هي أفعاله وهذه مرقاة لهم وهي الرتبة الأولى ثم شهود صفاته بإراءته لهم وهي الرتبة الثانية ثم التحقق بوجوده وذاته عند التجلي لأسرارهم وهذا مبدأ الوصول ولا غاية له فقوله وتلك ، أي : إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والإعراض والتبري مما سواه والخلاص من شرك الإنانية والإيمان الحقيقي والإيقان بالعيان آتيناها إبراهيم وأريناه بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه.
{نَرْفَعُ} إلى {دَرَجَـاتٌ} أي : رتباً عظيمة عالية من العلم والحكمة.
{مَّن نَّشَآءُ} رفعه كما رفعنا درجات إبراهيم حتى فاق في زمن صباه شيوخ أهل عصره واهتدى إلى ما لم يهتد إليه إلا أكابر الأنبياء عليهم السلام :
دار حق را قابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد اوست
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في كل ما فعل من رفع وخفض {عَلِيمٌ} بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة.
ثم إن المقصود من المباحث الجارية بين إبراهيم وبين قومه إنما هو إلزام القوم وإرشادهم إلى طريق النظر والاستدلال وتنبيههم على ضلالهم في أمر دينهم كما هو المختار عند إجلاء المفسرين وعلى هذا المسلك جريت في تفسير الآيات كما وقفت.
وقال بعضهم : المقصود مما حكى الله
58
عن إبراهيم من الاستدلال على وحدانية الله تعالى وإبطال ألوهية ما سواه نظره واستدلاله في نفسه وتحصيل المعرفة لنفسه فيحمل على أن ذلك في زمان مراهقته وأول أوان بلوغه وأن المراد بالملكوت الآيات قال الحدادي وهو الأقرب إلى الصحة.
قال الكاشفي في "تفسيره" الفارسي : {وَكَذالِكَ} ونانكه بدو نموده بوديم كمراهىء قوم اورا همنان {نُرِى إِبْرَاهِيمَ} بنموديم ابراهيم را.
{مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} عجائب وبدائع آسمانها وزمينها ازذروه عرش تاتحت الثرى بروى منكشف ساخته تا استدلال كندبدان در قدرت كامله حق تعالى.
{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} وتا باشد ازبى كما نان يا موفق بود در علم استدلال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 58
در معالم آورده كه نمرود بن كنعانكه ادشاهى روى زمين تعلق بدوداشت درشهر بابل نشستى شبى در واقعه ديدكه كوكبي اذافق آن بلده طلوع نمود كه در شعشه جمال اونور آفتاب وماه نابود كشت ازغايت فزع بيدارشد وكاهنان وحكماء مملكت تعبير اين واقعه برين وجه كردندكه درين سال بولايت بابل مولودى حجسته طالع ازخلوتخانه عدم بفضاء صحراى وجود خرامدكه هلاك تو واهل مملكت تو بدودست اوباشد وهنوزاين مولود از مستقر صلب بمستودع رحم نيوسته نمرود بفرمود تاميان زنان وشوهران تفريق كردند وبر هده يكى برايشان مؤكل ساخت وآزرراكه يكى از محرمان ومقربان نمرود بود شبى بازن خود اوفى بنت نمر نهان زمؤكلان خلوت دست داد وحامله شد وبامدادش راكاهنان بانمرود كفتند امشب آن كودك برحم يوسته است نمرود خشم كرفته بفر مود تا برهر حامله يكى مؤكل ساختند تا كر سر بزايد بكشند زناني كه در تفحص أحوال حامله بودند ون ما در إبراهيم را اثر حمل ظاهر نبود ازو دركذشتند وديكر كسى بدو التفات نكرد تاوقتي كه وضع حمل نزديك رسيد اوفى ترسيدكه اكرسرى زايدنا كاه خبر بكسان نمرود رسد في الحال اورابكشند ببهانه ازشهر بيرون رفت وغارى درميان كوه نشان داشت دران غار إبراهيم را بزاد ودر خرقه يد وهما نجا كذاشته درغار بسنك استوار كرد وآزر راكه ازحمل خبر داشت كفت كه ازترس كماشتكان نرود بصحرا رفتم وسرى بزادم وفي الحال بمرد در خاكش دفن كردم وبازشتم آزر باور كرد وأوفى روز ديكر باغار آمد ديدكه إبراهيم انكشتان خودرا ازيكى شير واز ديكرى عسل بيرون ميكشد ومى نوشد اوفى ون اين حال بديد خوش وقت شد وباشهر مراجعت نمود : القصة إبراهيم ون شير تربيت از ستان عنايت الهي نوشيد بروزي ندان مى باليدكه كودك ديكر درماهى وبماهى ندان بزرك ميشدكه ديكري درسالي.
وماه نوكه باروي دل افروز
بود زاينده نورش روز تاروز
جزء : 3 رقم الصفحة : 58
ون انزده ماهه شد باجوانان انزده ساله مقابل كشت وازخانه بيرون آمد وكفته اند هفت سال باسيزده سال يا هفتده سال درغار بود برهر تقدير ون إبراهيم بزرك شد اوفى بآزر كفت كه سرتو آنروز خبر مرك أو بدروغ دادم جواني رسيده است درغايت خوب رويى ونيكو خويى س آزررا بغار آورد وإبراهيم را بوي نمود آزر بجمال سر خوش آمد
59
(3/46)
وبا او كفت اين را ازغار بخانه آوركه بملازمت نمرود بريم آزر برفت واوفى ازغار بدر آوردنماز شام بود در ايان غار كلهاى اسب واشتر ورمهاى كوسفند جمع بودند إبراهيم ازمادر رسيدكه هر آيينه اين هارا رورد كارى خواهد بودكه آفريده وروزي ميدهد س ما دررا كفت كه هي مخلوقي را ازخالقي اره نيست آفريده كارا وباشد وبمدد تربيت يا بد رمورد كار من كيست ما درش كفت من روردكار توام إبراهيم كفت روردكار توكيست كفت درتو إبراهيم كفت خداي أو كيست كفت نمرود كفت خداي نمرود كيست ما درش بانك بر إبراهيم زدكه مثل اين سخنان مكوكه خطر عظيم دارد در زمان نمرود بعضي ستاره وآفتاب وماه مي رستيدند وبرخى بت رست بودند وجمعي رستش نمرود مى كردند إبراهيم بامادر بشهر روانه شد {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا} س بعضي كه ستاره رست بودندي روى بوي سجده كردند {قَالَ هَـاذَا رَبِّى} أي اينست روردكار من بر سبيل استفهام يا بزعم آن قوم {فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الافِلِينَ} س قدري ديكرراه رفتند وشب هاردهم بودماه طبق سيمين بر كناره خوان سبز فلك نمودار شد {فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا} جمعي ماه رستان يش وى بسجده درفتادند {قَالَ هَـاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ} يعني : ازخط نصف النهار بجانب مغرب ميل كرد {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} س ازآنجا دركذشتند ونزديك شهر رسيدند آفتاب ابتداء طلوع كرد جمعي متوجه أو شده عزم سجود كردند {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـاذَا رَبِّى هَـاذَآ أَكْبَرُا فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يا قَوْمِ إِنِّى بَرِىاءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ حَنِيفًا} در حالتي كه من مائلم ازهمه اديان بدين توحيد {وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} در تفسير منير مذكور راست كه ون إبراهيم عليه السلام بشهر در آمد اورا بديدن نمرود بردند او مردى ديدكه كريه منظر وإبراهيم اورا ديد برتختي نشسته وغلامان ماه منظر وكنيز ان رى يكر كرد تخت أو صف زده ازمادر رسيدكه اين ه كس است كه مرا بدين أو آوريده آيد كفتند خداي همه كس است رسيدكه اين ملازمان بر حوالىء تخت كيانند كفت آفريدكان أويند إبراهيم تبسم فرمود وكفت اي مادر كونه است كه اين خداي شماديكرانرا ازخود خوبتر آفريده است بايستي كه اوازيشان خوبتر بودي كذا في ذلك التفسير للكاشفي مع اختصار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 58
{وَوَهَبْنَا لَهُ} الهبة في اللغة : التبرع والعطية الخالية عن تقدم الاستحقاق والضمير لإبراهيم عليه السلام.
{إِسْحَـاقَ} ابنه الصلبي وهو أب أنبياء بني إسرائيل.
{وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق.
{كُلا هَدَيْنَا} أي كل واحد منما وفقنا وأرشدنا إلى الفضائل الدينية والكلمات العلمية والعملية لا أحدهما دون الآخر.
{وَنُوحًا} منصوب بمضمر يفسره.
{هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي : من قبل إبراهيم وعدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد هدينا {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} أي : ذرية نوح ولم يرد من ذرية إبراهيم لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطاً ولم يكونا من ذرية إبراهيم كذا قال البغوي.
وقال ابن الأثير في "جامع الأصول" : يونس من ذرية إبراهيم لأنه كان من الأسباط في زمن شعيب أرسله الله إلى نينوى من بلد الموصل
60
ولا بعد في عد لوط من ذرية إبراهيم أيضاً باعتبار أنه كان ابن أخيه هاجر معه إلى الشام.
قال سعدي لبي المفتي : ومحيي السنة ، يعني : البغوي أوثق من ابن الأثير.
{دَاوُادُ} ابن ايشا {وَسُلَيْمَـانَ} ابنه وسلسلتهما تنتهي إلى يهودا بن يعقوب {وَأَيُّوبَ} من أموص بن رازخ بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم.
{وَيُوسُفَ} بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم {وَمُوسَى} ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
{وَهَـارُونَ} هو أخو موسى أكبر منه بسنة وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم {وَكَذالِكَ} أي : كما جزيناهم برفعة الدرجات {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم على قدر استحقاقهم.
فاللام للجنس ويجوز أن تكون الكاف مقحمة واللام للعهد والمعنى ذلك الجزاء البديع الذي هو عبارة عما أوتي المذكورون من فنون الكرامات نجزيهم لاجزاء آخر أدنى منه فالمراد بالمحسنين هم المذكورون والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال الحسنة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 58(3/47)
{وَزَكَرِيَّآ} أي : وهديناه أيضاً وهو ابن أذن وسلسلته تنتهي إلى سليمان {وَيَحْيَى} ابنه {وَعِيسَى} ابن مريم بنت عمران من بني ماثان الذين هم ملوك بني إسرائيل.
وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت فيكون الحسن والحسين من ذرية سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلّم مع انتسابهما إليه بالأم ومن آذاهما فقد آذى ذريته عليه السلام.
يقول الفقير : فإذا كان النسب من طرف الأم صحيحاً معتبراً فالذي كانت سادته من طرفها مقبول كما هو من طرف الأب إذ المعتبر انتهاء السلسلة إلى الحسنين ، من أي جانب كان {وَإِلْيَاسَ} ابن أخ هارون أخي موسى.
قال البغوي : الصحيح أن إلياس غير إدريس لأن الله تعالى ذكره في ولد نوح وإدريس هو جد أبي نوح.
{كُلٌّ} منهم {مِّنَ الصَّـالِحِينَ} الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي.
{وَإِسْمَـاعِيلَ} عطف على نوحاً ، أي : وهدينا إسماعيل بن إبراهيم كما هدينا نوحاً ولعل الحكمة في إفراد إسماعيل عن باقي ذرية إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان من ذرية إسماعيل والكائنات كانت تبعاً لوجوده فما جعل الله إسماعيل تبعاً لوجود إبراهيم ولا هدايته تبعاً لهدايته لشرف محمد صلى الله عليه وسلّم فلذا أفرده عنهم وأخره في الذكر.
آنه اول شد بديد از جيب غيب
بود نور جان أو بي هي ريب
بعد ازان ان نور مطلق زد علم
كشت عرش وكرسي ولوح وقلم
يك علم از نور اكش علم اوست
يك علم ذريت آدم ازوست
{وَالْيَسَعَ} بن أخطوب بن العجوز واللام زائدة لأنه علم أعجمي {وَيُونُسَ} بن متى {وَلُوطًا} بن هاران بن أخي إبراهيم.
{وَكُلا} منهم {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـالَمِينَ} أي عالمي عصرهم بالنبوة لا بعضهم دون بعض.
جزء : 3 رقم الصفحة : 58
{وَمِنْ ءَابَآاـاِهِمْ} من تبعيضية ، أي : وفضلنا بعض آباء المذكورين كآدم وشيث وإدريس إذ من الآباء من لم يكن نبياً ولا مفضلاً مهدياً {وَذُرِّيَّـاتِهِمْ} أي وبعض ذرياتهم من بعضهم كأولاد يعقوب ومن جملة ذرياتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم كما في "تفسير الحدادي" وإنما أراد ذريعة بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان
61
ذرية بعضهم من كان كافراً.
{وَإِخْوَانِهِمْ} كإخوة يوسف في عصرهم ويحتمل أن يكون المراد بهم كل من آمن معهم فإنهم كلهم دخلوا في هداية الإسلام.
{وَاجْتَبَيْنَـاهُمْ} عطف على فضلنا أي اصطفيناهم {وَهَدَيْنَـاهُمْ} أي : أرشدناهم {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل من سلك إليه.
{ذَالِكَ} الهدي {هُدَى اللَّهِ} الإضافة للتشريف {يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم مستعدون للهداية والإرشاد.
{وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي : لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو شأنهم {لَحَبِطَ عَنْهُم} أي : بطل وذهب {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الأعمال المرضية الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم وهذا غاية التوبيخ والترهيب للعوام والخواص لئلا يأمنوا مكر الله.
{أولئك} المذكورون من الأنبياء الثمانية عشر.
{الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} أي : جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية والمراد بإيتائه التفهيم التام بما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
{وَالْحُكْمَ} أي : الحكمة أو فصل الخطاب على ما يقتضيه الحق والصواب {وَالنُّبُوَّةَ} أي : الرسالة.
{فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي : بهذه الثلاثة.
{هَـاؤُلاءِ} أهل مكة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي : أمرنا بمراعاتها وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها {قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَـافِرِينَ} في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها وهم أصحاب النبي عليه السلام والباء صلة كافرين وفي بكافرين لتأكيد النفي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 61
{أولئك} الأنبياء المتقدم ذكرهم {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي : هداهم الله إلى الحق والمنهج المستقيم.
{فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ} أي : فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد بغيرهم والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى.
واحتج العلماء بهذه الآية على أنه عليه السلام أفضل جميع الأنبياء عليهم السلام ؛ لأن خصال المال وصفات الشرف كانت متفرقة فيهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلية ، ويوسف كان جامعاً بينهما ، وموسى كان صاحب المعجزات القاهرة ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس كانوا أصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق فكل منهم قد غلب عليه خصلة معينة فجمع الله كل خصلة في حبيبه عليه السلام لأنه إذا كان مأموراً بالاقتداء لم يقصر في التحصيل.
هره بخوبان جهان داده اند
(3/48)
قسم تو نيكوتر ازان داده اند
هره بنازند بدان دلبران
جمله تراهست زيادت بران
وفي "التأويلات النجمية" : {أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّهُ} بصفاته إلى ذاته.
{فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ} لا أنهم سلكوا مسلكاً غير مسلوك حتى انتهى سير كل واحد منهم إلى منتهى قدر له ، كما أخبرت أني رأيت آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم في السماء السابعة فاقتد بهم حتى تسلك مسالكهم إلى أن تنتهي إلى سدرة المنتهى ، وهو منتهى
62
مقام الملائكة المقربين ثم يعرج بك إلى المحل الأدنى والمقام الأرفع حتى تخرج من نفسك وتدنو إليه به إلى أن تصل إلى مقام قاب قوسين ، أو أدنى مقاماً لم يصل إليه أحد قبلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
{قُلْ} لكفار قريش {لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي : على القرآن {أَجْرًا} أي : جعلاً من جهتكم كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم السلام ، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه.
{إِنْ هُوَ} أي : ما القرآن.
{إِلا ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ} أي : إلاّ عظة وتذكير لهم من جهته سبحانه لا يختص بقوم دون آخرين وعلى هذا جرى الأولياء من أهل الإرشاد ، إذ لا أجر للتعليم والإرشاد ؛ إذ الأجر من الدنيا ولا يجوز طمع الدنيا لأهل الآخرة ، ولا لأهل الله تعالى وإنما خدمة الدين مجردة عن الأغراض مطلقاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 61
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أصل القدر السبر والحزر يقال قدر الشيء يقدره بالضم قدراً إذا سبره وحزره ليعلم مقداره ثم استعمل في معرفة الشي مقداره ، وأحواله وأوصافه فقيل لمن عرض شيئاً هو يقدر قدره ولمن لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره ونصب حق قدره على المصدرية وهو في الأصل صفة للمصدر ، أي قدره الحق وضميره يرجع إلى الله تعالى ، وأما ضمير الجمع فإلى اليهود لما روي أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم خرج مع نفر إلى مكة معاندين ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أشياء وكان رجلاً سميناً فأتى رسول الله بمكة ، فقال له عليه السلام "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين قال : نعم قال : فأنت الحبر السمين وقد سمنت من مأكلتك التي تطعمك اليهود ولست تصوم ، أي : تمسك فضحك القوم فخجل مالك بن الصيف فقال غضباً ما أنزل الله على بشر من شيء فلما رجع مالك إلى قومه ، قالوا له : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أليس أن الله أنزل التوراة على موسى فلِمَ قلت ما قلت؟ قال : أغضبني محمد فقلت ذلك قالوا له وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق وتترك دينك فأخذوا الرياسة والحبرية منه وجعلوهما إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية" والمعنى ما عرفوه تعالى حق معرفته في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك ، بل أخلوا بها إخلالاً فعبر عن المعرفة بالقدر لكونه سبباً لها وطريقاً إليها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
{إِذْ قَالُوا} منكرين لبعثة الرسل وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما.
{مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ} أي : كتاب ولا وحي مبالغة في إنكار إنزال القرآن ؛ إذ القائلون من أهل الكتاب كما مر آنفاً.
{قُلْ} لهم على طريق التبكيت وإلقام الحجر.
{مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِه مُوسَى} يعني : التوراة حال كون ذلك الكتاب.
{نُورًا} بيناً بنفسه ومبيناً لغيره.
بالفارسي (روشناى دهنده).
{وَهَدَى} بياناً {لِلنَّاسِ} وحال كونه {تَجْعَلُونَه قَرَاطِيسَ} أي : تضعونه في قراطيس مقطعة وورقات مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم ، وهي جمع قرطاس بمعنى الصحيفة.
{تُبْدُونَهَا} صفة قراطيس أي تظهرون ما تحبون إبداءه منها.
{وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} مما فيها كنعوت النبي عليه السلام وآية الرجم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة.
{وَعُلِّمْتُم} أيها اليهود على لسان محمد {مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ} وهو ما أخذوه
63
من الكتاب من المعلوم والشرائع.
فقوله : {عَلِمْتُمُ} حال من فعل تجعلونه بإضمار قد مفيد لتأكيد التوبيخ فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيع للإبداء والإخفاء شناعة عظيمة في نفسها ، ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفهم أشنع وأعظم.
{قُلِ اللَّهُ} أي : أنزله الله أمره عليه السلام بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره تنبيهاً على أنهم بهتوا وأفحموا ولم يقدروا على التكلم أصلاً.
{ثُمَّ ذَرْهُمْ} أي : دعهم واتركهم.
{فِى خَوْضِهِمْ} أي : في باطلهم الذي يخوضون فيه أي يشرعون فلا عليك بعد إلا التبليغ وإلزام الحجة.
{يَلْعَبُونَ} حال من الضمير الأول والظرف صلة ذرهم أو يلعبون ويقال لكل من عمل ما لا ينفعه إنما أنت لاعب.
(3/49)
{وَهَـاذَآ} القرآن.
{كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ} وصفه به ليعلم أنه هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل وليس تركيب ألفاظه على هذه الفصاحة من قبل الرسول.
{مُّبَارَكٌ} أي : كثير الفائدة والنفع وكيف وقد أحاط بالعلوم النظرية والعملية فإن أشرف العلوم النظرية هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه ، ولا يوجد كتاب يفيد معرفة هذه الأمور مثل ما أفاده القرآن ، وأما العلوم العملية فالمطلوب منها إما إعمال الجوارح وإما إعمال القلوب وهي المسمى بعلم الأخلاق وتزكية النفس فإنك لا تجد شيئاً منهما مثل ما تجده في القرآن العظيم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
قال في "التأويلات النجمية" : {مُّبَارَكٌ} على العوام بأن يدعوهم إلى ربهم.
وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم ، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه وفي كتاب "المحبوب شفاء لما في القلوب" كما قيل :
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي
وفيها شفاء للذي أنا كاتمه
اين ه منشور كريمست كه ازهر شكنش
بوى جان رور احسان وعطامى آيد
اين ه انفاس روان بخش عبير افشانست
كه ازو رائحه مشك خطا مى آيد
{مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة لنزوله حسبما وصف فيها.
{وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} عطف على ما دل عليه مبارك ، أي : للبركات ولإنذارك أهل أم القرى فالمضاف محذوف والمراد بأم القرى مكة وسميت بها لأن الأرض دحيت من تحتها فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل.
قال الكاشفي في "تفسيره الفارسي" قرى جمع قرية است واورا ازقرا كرفته اند بمعنى جمع است س هرجاكه مجتمعي باشد ازشهروده انرا قرية توان كفت.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} أهل الشرق والغرب.
قال في "التأويلات النجمية" : أم القرى هي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق ، وقد دحيت جميع أرض القالب من تحتها ومن حولها من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وبما فيها من أنواع العذاب.
{يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي : بالكتاب لأنهم يخافون العاقبة ولا يزال الخوف يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به.
{وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يعني : المؤمنون بالكتاب يداومون على الصلوات الخمس التي هي أشرف التكاليف والطاعات ولذا خصص محافظتها
64
من بين سائر العبادات.
وفي الآيات أمور :
الأول : أن المخلوق لا يَقْدِر قَدْرَ الخالق ولا يدركه باعتبار كنه ذاته وتجرده عن التعينات الاسمائية والصفاتية.
بخيال درنكنجد توخيال خود مرنجان
فكل من عرف الله بآلة محلوقة فهو على الحقيقة غير عارف ومن عرفه بآلة قديمة كما قال بعضهم عرفت ربي بربي فقد عرف الله ، ولكن على قدر استعداده في قبول فيض نور الربوبية الذي به عرف الله على قدره ؛ لأنها بنيت ذاته وصفاته فالذي يقدر الله حق قدره هو الله تعالى لا غيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
كنه خردم در خور إثبات تونيست
داننده ذات توبخزذات تونيست
ما للترات ورب الأرباب.
والثاني : ذم السمن كما عرف في سبب النزول
قال ابن الملك : السمن المذموم ما يكون مكتسباً بالتوسع في المأكل لا ما يكون خلقة وفي الحديث "ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة واقرؤوا إن شئتم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا} .
قال العلماء : معنى هذا الحديث إنه لا ثواب لهم وأعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار.
قال القرطبي في "تذكرته" : وفيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم بل يدل على تحريم كثرة الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن انتهى.
وفي الفروع : إن الأكل فرض إن كان لدفع هلاك نفسه ، ومأجور عليه إن كان لتمكينه من صومه وصلاته قائماً ، ومباح إلى الشبع ليزيد قوته ، وحرام فوق الشبع إلا لقصد قوة صوم الغد ولئلا يستحيي ضيفه.
قال السعدي قدس سره :
باندازه خورزاد اكرمر دمي
نين رشكم آدمي يا خمي
ندارند تن روان آكهي
كه رمعده باشد زحكمت تهى
قال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" في الحديث : "إن الله يكره الحبر السمين" وفي التوراة "إن الله ليبغض الحبر السمين" وفي رواية "إن الله يبغض القارىء السمين".
قال الشافعي رحمه الله : ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن ، فقيل له : ولِمَ؟ قال لأنه لا يفكر والعاقل لا يخلو من إحدى حالتين إما أن يهمّ لآخرته ومعاده أو لدنياه ومعاشه والشحم مع الهمّ لا ينعقد فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم بعقد الشحم.
(3/50)
ثم قال الشافعي : كان ملك في الزمان الأول كثير اللحم جداً فجمع المتطببين وقال احتالوا حيلة تخف عني لحمي هذا قليلاً فما قدروا فنقبوا له رجلاً عاقلاً أديباً متطبباً وبعثوه فأشخص إليه بصره وقال أيعالجني ذلك الفتى قال أصلح الله الملك أنا رجل متطبب منجم دعني أنظر الليلة في طالعك أي دواء يوافق فأشفيك فهدأ عليه فقال : أيها الملك الأمان قال لك الأمان قال : رأيت طالعك يدل على أن عمرك شهر فمتى أعالجك وإن أردت بيان ذلك فاحبسني عندك فإن كان لقولي حقيقة فخل عني وإلا فاقتص مني قال فحبسه ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس وخلا وحده مغتماً ما يرفع رأسه يعد الأيام كلما انسلخ يوم ازداد غمّاً حتى هزل وخف لحمه ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوماً فبعث إليه فأخرجه فقال ما ترى فقال أعزّ الله الملك أنا أهون على الله من أن أعلم الغيب
65
والله ما أعرف عمري فكيف أعرف عمرك إنه لم يكن عندي دواء إلا الهمّ فم أقدر أجلب إليك الهمّ إلا بهذه العلة فأذابت شحم الكلى فأجازه وأحسن إليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
والثالث : ما في قوله تعالى : {قُلِ اللَّهُ} من لطائف العبارات من أهل الإشارات.
قال في "التفسير الفارسي" : (شيخ أبو سعيد أبو الخير قدس سره در كلمه {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} فرموده كه الله بس وما سواه هوس وانقطع النفس.
وشيخ الإسلام فرموده كه {قُلِ اللَّهُ} دل سوى اوداد {ثُمَّ ذَرْهُمْ} غير اور افرو كذار.
وشبلى بابعض أصحاب خود ميكفت كه عليك بالله ودع ما سواء).
ون تفرقه دلست حاصل زهمه
دلرا بيكي سار وبكسل زهمه
فالآية بإشارتها تدل على أن من أراد الوصول إلى الله تعالى فلينقطع عما سواه فإنه لعب ولهو واللاهي واللاعب ليس على شيء نسأل الله سبحانه أن يحفظنا من اشتغال بما سواه.
والرابع : مدح القرآن وبيان فضيلته وفائدته.
قال أحمد بن حنبل : رأيت ربّ العزة في المنام فقلت يا رب ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك؟ قال كلامي يا أحمد ، قلت يا رب بفهم أم بغير فهم؟ قال : بفهم وبغير فهم والنظر إلى المصحف عبادة برأسه وله أجر على حدته ما عداً أجر القراءة.
وعن حميد بن الأعرج قال : من قرأ القرآن وختمه ، ثم دعا أمن على دعائه أربعة آلاف ملك ، ثم لا يزالون يدعون له ويستغفرون ويصلون عليه إلى المساء أو إلى الصباح.
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يختم القرآن في أوائل الأيام الصيفية والليالي الشتائية ليستزيد في دعائهم واستغفارهم وفي الحديث "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وينبغي أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلّم فلا يطلب عوضاً ولا يقصد جزاء ولا شكوراً ، بل يعلم للتقرب إلى الله تعالى ويقتدي بالأنبياء حيث قدم كل واحد منهم على دعوته قوله : {لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الشورى : 23).
قال في "الأسرار المحمدية" : من أخذ الجراية ليتعلم فهي له حلال ولكن من تعلم ليأخذ الجراية فهي عليه حرام.
وفيه أيضاً لا يتخذ صحيفة القرآن إذا درست وقاية للكتب بل يمحوها بالماء وكان من قبلنا يستشفي بذلك الماء وينبغي لقارىء القرآن أن يجود ويحسن صوته وفي الحديث : "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن" وحسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً قيل : أراد بالتغني الاستغناء ، وقيل الترنم وترديد الألحان ، وهو أقرب عند أهل اللغة كذا في "الأسرار" ـ ـ ويحكى ـ ـ عن ظهير الدين المرغيناني أنه قال : من قال لمقرىء زماننا أحسنت عند قراءته يكفر كذا في "شرح الهداية" لتاج الشريعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
وقال في "البزازية" من يقرأ القرآن بالألحان لا يستحق الأجر ؛ لأنه ليس بقارىء قال الله تعالى : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} (الزمر : 28) انتهى.
وسأل الحجاج بعض جلسائه عن أرقّ الصوت عندهم ، فقال أحدهم : ما سمعت صوتاً أرق من صوت قارىء حسن الصوت يقرأ كتاب الله تعالى في جوف الليل ، قال : ذلك الحسن ، وقال : آخر ما سمعت صوتاً أعجب من أن أترك امرأتي ماخضاً وأتوجه إلى المسجد بكيراً فيأتيني آت ، فيبشرني بغلام ، فقال : واحسناه ، فقال شعبة بن علقمة التميمي : لا والله ما سمعت أعجب إليّ من أن أكون جائعاً فأسمع خفخفة الخوان ، فقال الحجاج : أبيتم يا بني تميم إلا حب الزاد والمقصود من هذه الحكاية بيان اختلاف مشارب الناس فمن أحب الله وأنس بكلامه وتجرد عن الأعراض ، وكان القارىء متحاشياً من الأنغام الموسيقية وألحان أهل الفسق
66
قارئاً على لحون العرب محسناً صوته فلا مجال للطعن فيه والدخل ظاهراً وباطناً والله أعلم.
(3/51)
{وَمِنْ} استفهام مبتدأ ، أي : لا أحد.
{أَظْلَمَ} خبره {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} مفعول افترى ، أي : اختلق كذباً وافتعله فزعم أنه تعالى بعثه نبياً كمسيلمة الكذاب ، والأسود العبسي ، أو اختلق عليه أحكاماً كعمرو بن لحي وهو أول من غير دين إسماعيل عليه السلام ، ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة وسيب السائبة قال عليه السلام في حقه "رأيته يجر قصبة في النار".
قال قتادة كان مسيلمة يسجع ويتكهن ، كما قال في معارضة سورة الكوثر : إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر إنا كفيناك المكابر والمجاهر فانظر كيف كان سافل الألفاظ والبناء فاسد المعاني والجنى فادعى النبوة وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رسولين فقال عليه السلام "أتشهدان أن مسيلمة نبي" قالا نعم فقال عليه السلام : "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" وفي الحديث : "بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض ، فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى إلى أن أنفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة".
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
قال القاضي : وجه تأويلهما بالكذابين أن السوار كالقيد لليد يمنعها عن البطش ، فكذا الكذابان يقومان بمعارضة شريعته ويصدان عن نفاذ أمرها قتل صاحب صنعاء وهو الأسود العبسي في مرض موت النبي عليه السلام قتله فيروز الديلمي فلما بلغ خبر قتله النبي عليه السلام قال : "فاز فيروز" وقتل صاحب اليمامة.
وهو مسيلمة في عهد الصديق قتله الوحشي قاتل حمزة فلما قتله قال : "قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في إسلامي" {أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ} من جهته تعالى {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} أي : والحال إنه لم يوح إليه.
{شَىْءٍ} أصلاً كعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) فلما بلغ {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون : 14) قال عبد الله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون : 14) تعجباً من تفصيل خلق الإنسان فقال عليه السلام "اكتبها فكذلك نزلت" فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقاً أي في قوله فكذلك نزلت لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ففي التحقيق أنا أكون مثله ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال فعليّ أن أدّعي نزول الوحي مثله فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي عليه السلام بمرو.
{وَمِنْ} أي : وممن {قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} وهم المستهزئون الذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ومفعول ترى محذوف لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم.
فالظالمون مبتدأ وما بعده خبره وإذ مضاف إلى الجملة ، والمراد بالظالمين الجنس فيدخل فيهم المتلبئة وغيرهم وجواب لو محذوف أي لو ترى الظالمين في هذا الوقت لرأيت أمراً عظيماً.
{فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي : شدائده وسكراته.
جمع غمرة وهي الشدة الغالبة من غمره الماء إذا علاه وغطاه.
{والملائكة} أي : ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
{بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أي كالغريم الملازم الملح الذي يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنفه عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إليّ ما لي عليك الساعة ولا أزال من مكاني
67(3/52)
حتى أنزعه من كبدك وحدقتك أو باسطوها بالعذاب قائلين.
{أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} أي : أرواحكم إلينا من أجسادكم وهذا القول منهم تغليظ وتعنيف وإلا فلا قدرة لهم على الإخراج المذكور أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا.
{الْيَوْمَ} أي : وقت الإماتة أو الوقت الممتد بعده إلى ما لا نهاية له.
{تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي : العذاب المتضمن لشدة وإهانة والهون الهوان ، أي : الحقارة.
{بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} كاتخاذ الولد ونسبة الشريك وإدعاء النبوة والوحي كذباً.
{وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَـاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها ، وفي الحديث : "إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك ، وضبائر من الريحان ، وتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ، ويقال : لها أيتها النفس الطيبة اخرجي راضية مرضية ومرضياً عنك إلى روح الله ، وكرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين ، وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعاً شديداً ، ويقال لها : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطاً عليك إلى هوان الله وعذابه ، فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وإن لها نشيجاً ، أي : صوتاً ويطوي عليها المسح ويذهب بها إلى سجين" كذا في "تفسير أبي الليث" رحمه الله.
والإشارة إن الذين يراؤون في التأوه والزعقات وإظهار المواجيد والحالات لهم من الله خطرات ونظرات وليس لهم منها نصيب إلا الزفرات والحسرات والمتشبع بما لم يملك كلابس ثوبي زور وفي معناه أنشدوا :
إذا انسكبت دموع في خدود
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
تبين من بكى ممن تباكى والذي نزل نفسه منزلة المحدثين وأهل الإشارة ولم يلق إلى أسرارهم خصائص الخطاب ولم تلهم نفوسهم بها والذين يتشدقون ويتفيهقون في الكلام الذين يدعون أنهم يتكلمون بمثل ما أنزل الله من الحقائق والأسرار على قلوب عباده الواصلين الكاملين فكلهم من الظالمين وتظهر مضرة ظلمهم وافترائهم عند انقطاع تعلق الروح عن البدن وإخراج النفس من القالب كرهاً لتعلقها بشهوات الدنيا ولذاتها وحرمانها من لذة الحقائق الغيبية والشهوات الأخروية ؛ إذ الملائكة يبسطون أيديهم بالقهر إليهم لنزع أنفسهم بالهوان والشدة ، وهي متعلقة بحسب الافتراء والكذب واستحلاء رفعة المنزلة عند الخلق وطلب الرياسة بأصناف المخلوقات فتكون شدة النزع والهوان بقدر تعلقها بها كما قال : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ} يعني : آياته المودعة في أنفسكم تعرضون عنها وتراؤون بما ليس لكم ولعل تعلق النفس يتقطع عن البدن بيوم أو يومين أو ثلاثة أيام وتعلقها عن أوصاف المخلوقات لا ينقطع بالسنين ولعله إلى الحشر والكفار إلى الأبد وهم في عذاب النزع بالشدة أبداً وهو العذاب الأليم والعذاب الشديد ومن نتائج هذه الحالة عذاب القبر فافهم جداً ـ ـ وحكي ـ ـ عن بعض العصاة أنه مات فلما حفروا قبره وجدوا فيه حية عظيمة فحفروا له قبراً آخر فوجدوها فيه ثم كذلك قبراً بعد قبر إلى أن حفروا نحواً من ثلاثين قبراً وفي كل قبر يجدونها فلما رأوا إنه لا يهرب من الله هارب ولا يغلب الله غالب دفنوه معها وهذه الحية هي عمله.
قال الحافظ :
68
كارى كنيم ورنه خجالت برآورد
روزي كه رخت جان بجهان دكر كشيم
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب والجزاء وهو بمعنى المستقبل ، أي : تجيئوننا وإنما أبرز في صورة الماضي لتحققه كقوله تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (النحل : 1) والخطاب لكفار قريش لأنها نزلت حين قالوا افتخاراً واستخفافاً للفقراء نحن أكثر أموالاً وأولاداً في الدنيا وما نحن بمعذبين في الآخرة.
{فُرَادَى} جمع فرد أي منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا.
{كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال من ضمير فرادى أي : مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلاً بهما أي ليس بهم شيء مما كان في الدنيا نحو البرص والعرج ، كذا في "القاموس" وفي الخبر : "إنهم يحشرون يوم القيمة عراة حفاة غرلاً" قالت عائشة رضي الله عنها واسوءتاه الرجل والمرأة كذلك فقال عليه السلام : "لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ} ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة ، والتخويل تمليك الخول ، أي : الخدم والأتباع واحدهم خائل أو الإعطاء على غير جزاء.
{وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ} ما قدمتم منه شيئاً ولم تحملوا نقيراً بخلاف المؤمنين فإنهم صرفوا همتهم إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة فبقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في محفل القيامة فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى.
(3/53)
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
ون ازنيجا وارهى انجاروى
درشكر خانه ابد شاكر شوى
{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} الأصنام {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـاؤُا} أي : شركاء الله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم.
{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي : وقع التقطع بينكم كما يقال جمع بين الشيئين ، أي : أوقع الجمع بينهما.
قال الكاشفي : (منقطع كشت آنه ميان شما بود ازوصلت ومودت) {وَضَلَّ عَنكُم} أي : بطل وضاع.
{مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم فلم يقدروا على دفع شيء من العذاب عنكم ، أو أنها شركاؤكمفي ربوبيتكم وهو الأنسب لسياق النظم ألا ترى إلى قوله تعالى : {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـاؤُا} .
اعلم أن للإنسان أعداء أربعة هي : المال والأهل والأولاد والأصدقاء ، وهي لا تدخل في القبر مع الميت فيبقى فريداً وحيداً منهم ، وأصدقاء أربعة هي : كلمة الشهادة والصلاة والصوم وذكر الله هي تدخل في القبر وتشفع عند الله تعالى فتصحب الميت فلا يبقى وحيداً.
فعلى العاقل أن يتفكر في تجرده وتفرده فيسعى في تحصيل لباس له هو التقوى ومصاحب هو العمل الصالح ، وفي الحديث : "إن عمل الإنسان يدفن معه في قبره ، فإن كان العمل كريماً أكرم صاحبه ، وإن كان لئيماً أسلمه ، وإن كان عملاً صالحاً آنس صاحبه وبشره ووسع عليه قبره ونوره وحماه من الشدائد والأهوال والعذاب والوبال ، وإن كان عملاً سيئاً فزع صاحبه وروّعه وأظلم عليه قبره وضيقه وعذبه وخلّى بينه وبين الشدائد والأهوال والعذاب والوبال".
قال اليافعي : وقد سمعت عن بعض الصالحين في بعض بلاد اليمن أنه لما دفن بعض الموتى وانصرف الناس سمع في القبر صوتاً ودقّاً عنيفاً ثم خرج من القبر كلب أسود فقال له الشيخ الصالح ويحك ايش أنت؟ فقال : أنا عمل الميت فقال : فهذا الضرب فيك أم فيه؟ قال : بل فيّ وجدت عنده سورة يس وأخواتها فحالت بيني وبينه وضربت وطردت فانظر إنه لما قوي عمله الصالح غلب على عمله الصالح
69
وطرده عنه بكرم الله تعالى ولو كان عمله القبيح أقوى لغلب عليه وأفزعه وعذب.
قال السعدي :
غم وشادماني نماند وليك
جزاى عمل ماندو نام نيك
مكن تكيه برملك وجاه وحشم
كه يش ازتوبودست وبعد ازتوهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
قال القشيري : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} أي : دخلتم الدنيا بخرقة وخرجتم منها بخرقة ألا وتلك الخرقة أيضاً لبسه وما دخلت إلا بوصف التجرد وما خرجت إلا بحكم التجرد ثم الأثقال والأوزار والأعمال والأوصال لا يأتي عليها حصر ولا مقدار فلا مالكم أغنى ولا حالكم يدفع عنكم ولا شفيع يخاطبنا فيكم ، ولقد تفرق وصلكم وتبدد شملكم وتلاشى ظنكم وخاب سعيكم انتهى كلام القشيري.
والإشارة أن المجيء إلى الله يكون بالتجريد ثم بالتفريد ثم بالتوحيد ، فالتجريد هو التجرد عن الدنيا وما يتعلق بها ، والتفريد هو التفرد عن الدنيا والآخرة رجوعاً إلى الله خالياً عن التعلق بهما كما كان في بدء الخلقة روحاً مجرداً عن تعلقات الكونين كقوله : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعين أول خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب فإنه خلقه ثانية كما قال : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون : 14) وقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـاكُمْ} (الأعراف : 11) فللعبد في السير إلى الله كسب وسعي بالتجريد والتفريد عن الدنيا والآخرة كما قال : {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ} يعني من تعلقات الكونين {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـاؤُا} يعني : الأعمال والأحوال التي ظننتم إنها توصلكم إلى الله تعالى {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وبينها عند انتهاء سيركم {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها توصلكم إلى الله فإذا وصل العبد إلى سرادقات العزة انتهى سيره كما انتهى سير جبرائيل ليلة المعراج عند سدرة المنتهى وهو منتهى سير السائرين من الملك والأنس والتوحيد هو التوحد لقبول فيض الوحدانية عن التجلي بصفات الواحدية لتوصل العبد بجذبة ارجعي إلى ربك إلى مقام الوحدة ولو لم تدركه العناية الأزلية بجذبات الربوبية لانقطع عن السير في الله بالله وبقي في السدرة وهو يقول وما منا إلا له مقام معلوم فافهم كذا في "التأويلات النجمية".
(3/54)
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ} الفلق الشق بإبانة ، والحبّ : جمع حبة وهي اسم لجميع البزور المقصودة بذواتها كالبر والشعير والذرة ونحوها ، والمعنى شاق الحب بالنبات أي يشق الحبة اليابسة فيخرج منها ورق أخضر.
{وَالنَّوَى} واحدتها نواة وهي الشيء الموجود في داخل الثمر مثل نواة الخوج والمشمش والتمر ونحوها والمعنى شاق النوى بالشجر ، أي : يشق النواة الصلبة فيخرج شجرة ذات أوراق وأغصان.
{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} بيان لما قبله أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحب.
{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ} كالنطفة والحب {مِنَ الْحَىِّ} كالحيوان والنبات وهو معطوف على فالق الحب ، فالحي والميت مجاز عن النامي والجامد تشبيهاً للنامي بالحي والحي حقيقة فيما يكون موصوفاً بالحياة المستتبعة للحس والحركة الإرادية والميت حقيقة فيما يكون خالياً عن صفة الحياة ممن تكون الحياة من شأنه ، ومنهم من حمل اللفظ على الحقيقة وقال يخرج من النطفة الميتة بشراً حياً ومن الدجاجة بيضة ميتة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم عليه السلام والكافر من المؤمن كما في حق ولد نوح عليه السلام والعاصي من المطيع وبالعكس والعالم من
70
الجاهل وبالعكس والعاقل من الأحمق وبالعكس.
والإشارة يخرج نخل الإيمان من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله.
{ذالِكُمْ} القادر العظيم الشأن.
{اللَّهِ} المستحق للعبادة وحده.
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته إلى غيره ولا سبيل إليه أصلاً.
والإفك في اللغة قلب الشيء وصرفه والخطاب لكفار قريش لأن السورة مكية.
{فَالِقُ الاصْبَاحِ} خبر آخر لإن.
والإصباح : بكسر الألف مصدر بمعنى الدخول في ضوء النهار سمي به الصبح أي فالق عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره.
{وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به أو سكن فيه الخلق من قوله تعالى : {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} (يونس : 67) {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي : وجعلهما.
{حُسْبَانًا} أي : على أدوار مختلفة يحسب بها الأوقات فإنه تعالى قدر حركه الشمس بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم دورتها في سنة وقدر حركة القمر بحيث تتم الدورة في شهر وبهذا التقدير تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة كنضج الثمار وأمور الحرث والنسل ونحو ذلك مما يتوقف عليه قوام العالم وباختلاف منازل القمر وتجدد الأهلة في كل شهر يعلم آجال الديون ومواقيت الأشياء فمعنى جعل الشمس والقمر حسباناً جعلهما علمي حساب.
فالحسبان بالضم مصدر بمعنى الحساب والعد وبابه نصر ، وأما الحسبان : بكسر الحاء فهو من باب علم ومعناه الظن والتخمين وتقديم الشمس لضيائها على القمر لأنها معدن الأنوار الفلكية من البدور والنجوم وأصلها في النورانية وإن أنوارهم مقتبسة من نور الشمس على قدر تقابلهم وصفوة أجرامهم.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي قدس سره : نور القمر ليس من نفسه وإنما هو من عالم الأنوار فهو ليس بناقص في ذاته وإنما ذلك بسبب عروض الكثافة بالتدريج ولولا ذلك لم تعرف الشهور والسنون والشمس والقمر عينا هذا التعين وظاهرهما إلى الفوق والذي نراه جانبهما الداخل فهو تارة يفتح عينيه وأخرى يغمض كما أنا نفعل كذلك والكواكب ليست مركوزة فيه وإنما هي بانعكاس الأنوار في بعض عروقه اللطيفة والذي يرى كسقوط النجم فكدفع الشمس من موضع إلى موضع وهذا لا يطلع عليه الحكماء ، وإنما يعرفه أهل السلوك ثم قال الليل والنهار في عالم الآخرة ليسا بالظلمة والضياء بل لهما علامة أخرى بتجلى من التجليات فيعرفون به الليل والنهار وكيف يكون الليل هنا بالظلمة وقد قال عليه السلام : "لو خرج ورق من أوراقها إلى الدنيا لأضاء العالم" انتهى كلامه {ذَالِكَ} إشارة إلى جعلهما حسباناً ، أي : ذلك التسيير البديع بالحساب المعلوم.
{تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص.
{الْعَلِيمُ} بما فيهما من المنافع والمصالح المتعلقة بمعاش الخلق ومعادهم.
قال السعدي :
ابر وباد ومه وخورشيد وفلك دركارند
تاتو نانى بكف آرى وبغفلت نخورى
همه ازبره توسر كشته وفرمان بردار
شرط انصاف نباشد كه توفرمان مبرى
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
{وَهُوَ الَّذِى} (واوست خداونديكه بقدرت كامله) {جَعَلَ لَكُمُ} أي : أنشأ لأجلكم وأبدع.
{النُّجُومِ} التي تختلف مواضعها من جهة الشمال والجنوب والصبا والدبور.
71
{لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي : في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما تحقق عند ذلك.
(3/55)
قال الحدادي : لتعرفوا بها الطرق من بلد إلى بلد في المفاوز ولجج البحار في الليالي المظلمة في السفن فإن من النجوم ما يجعله السائر تلقاء وجهه ، ومنها ما يجعله على يمينه.
ومنها ما يجعله على يساره ، ومنها ما يجعله خلفه ليظهر له الطريق التي تؤديه إلى بغيته ، وللنجوم فوائد أخر : وهي أنها زينة السماء ورمي الشياطين وغير ذلك.
{قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ} أي بينا الآيات الدالة على قدرتنا فصلاً فصلاً.
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فإنهم المنتفعون بها.
{وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم} مع كثرتكم {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} من نفس آدم وحدها فإنه خلقنا جميعاً منه وخلق أمّنا حواء من ضلع من أضلاع آدم فصار كل الناس محدثة مخلوقة من نفس واحدة حتى عيسى فإن ابتداء تكوينه من مريم التي هي مخلوقة من ماء أبويها ، وإنما منّ علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى أن يألف بعضهم بعضاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
قال أهل الإشارة : إن الله تعالى كما خلق آدم ابتداء وجعل أولاده منه كذلك خلق روح محمد صلى الله عليه وسلّم قبل الأرواح كما قال : "أول ما خلق الله روحي" ثم خلق الأرواح من روحه فكان آدم أبا البشر وكان محمد صلى الله عليه وسلّم أبا الأرواح وإليه يشير قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} كل واحد منهما مصدر ميمي مرفوع على الابتداء والخبر محذوف أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض وجعل صلب الأب مستقر النطفة ورحم الأم مستودعاً لها لأن النطفة حصلت في صلب الأب لا من قبل الغير وحصلت في رحم الأم بفعل الغير فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان مستقراً عنده.
وقال الحسن : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبكم وأنشد قول لبيد :
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يوماً أن ترد الودائع والقلب أيضاً من الودائع والأمانات.
قال الصائب :
ترا بكوهر دل كرده اند امانتدار
نه دزد امانت حق را نكاه دار مخسب
{قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ} المبينة لتفاصيل خلق البشر من هذه الآية ونظائرها {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} غوامض الدقائق باستعمال الفطنة وتدقيق النظر وإنما ذكر مع ذكر النجوم يعلمون ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن ذلك إشارة إلى آيات الآفاق وهذا إلى آيات الأنفس ولا شك أن آيات الآفاق أظهر وأجلى وآيات الأنفس أدق وأخفى فكان ذكر الفقه لها أنسب وأولى لأن الفقه عبارة عن الوقوف على المعنى الخفي وأصل تركيب الفقه يدل على الشق والفتح والفقيه العالم الذي يشق الأحكام ويفتش عن حقائقها ويفتح ما استغلق منها فالفقه إنما يطلق حيث يكون فيه حذاقة وتدقيق نظر.
قال الحدادي : الفقه في اللغة هو الفهم لمعنى الكلام إلا أنه قد جعل في العرف عبارة عن علم الغيب على معنى إنه استدراك معنى الكلام بالاستنباط من الأصول ولهذا لا يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه فقيه لأنه لا يوصف بالعلم على جهة الاستنباط ولكنه عالم جميع الأشياء على وجه أحد انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
ثم هذه الآيات الآفاقية والأنفسية تفصح عن صنع الله البديع وتدعو أهل الشرك إلى التوحيد والايمان وأهل الإخلاص إلى الشهود
72
والعيان وأهل المعصية إلى الطاعة والتوبة باللسان والجنان فإن الامتنان بذكر النعم الجليلة يستدعي شكراً لها ومعرفة لحقها ولكل قوم وفريق سلوك إلى طريق التحقيق على حسب ما أنعم عليه من توحيد الأفعال والصفات والذات فعلى العاقل أن يجتهد في طلب الحق فإن المقصود من ترتيب مقدمات العوالم آفاقية كانت أو أنفسية هو الوصول إلى الظاهر من جهة المظاهر وإنما أصل الحجاب هو الغفلة ـ ـ وحكي ـ ـ أن الشيخ أبا الفوارس شاهين بن شجاع الكرماني رحمه الله خرج للصيد وهو ملك كرمان فامعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع فلما رأته ابتدرت نحوه فزجرها الشاب عنه فلما دنا إليه سلم عليه وقال له يا شاه ما هذه الغفلة عن الله اشتغلت بدنياك عن آخرتك وبلذتك وهواك عن خدمة مولاك إنما أعطاك الله الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة إلى الاشتغال عنه فبينما الشاب يحدثه إذ خرجت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب فدفع باقيه إلى الشاه فشربه فقال ما شربت شيئاً ألذّ منه ولا أبرد ولا أعذب ثم غابت العجوز فقال الشاب هذه الدنيا وكّلها الله إلى خدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إليّ حين يخطر ببالي أما بلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها : (يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه) فلما رأى ذلك تاب وكان منه ما كان وأنشد بعضهم :
خدمت لما إن صرت من خدمك
ودار عندي السرور من نعمك
وكانت الحادثات تطرقني
فاستحشمتني إذ صرت من حشمك اللهم اجعلنا من الملازمين لبابك ولا تقطعنا عن جنابك.
(3/56)
{وَهُوَ} أي : الله تعالى {الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} خاصاً هو المطر ثم التفت من الغيبة إلى التكلم فقال {فَأَخْرَجْنَا} بعظمتنا فالنون للعظمة لا الجمع فإن الملك العظيم يعبر عن نفسه بلفظ الجمع تعظيماً له {بِهِ} أيّ : بسبب ذلك الماء مع وحدته.
{نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ} ينبت كنبات الحنطة والشعير والرمان والتفاح وغيرها فشيء مخصص فلا يلزم أن يكون لكل شيء نبات كالحجر مثلاً والنبت والنبات ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن كالنجم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
فإن قيل : كيف جعل الله المطر سبباً للنبات والفاعل بالسبب يكون مستعيناً بفعل السبب والله تعالى مستغن عن الأسباب.
قيل : لأن المطر سبب يؤدي إلى النبات وليس بمولود له والله تعالى قادر على إنبات النبات بدون المطر وإنما يكون الفاعل بالسبب مستعيناً بذلك السبب إذا لم يمكنه فعل ذلك الشيء إلا بذلك السبب كما أن الإنسان إذا لم يمكنه أن يصعد السطح إلا بالسلم فإن السلم آلة للصعود والظاهر أنه إذا صعد السطح بالسلم لم يكن السلم آلة له لأنه يمكنه أن يصعد السطح بدون السلم.
{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} شروع في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئاً غضاً.
{خُضْرًا} بمعنى أخضر وهو ، الشيء الأخضر الخارج من النبات ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة.
{نُّخْرِجُ مِنْهُ} صفة لخضراً أي نخرج من ذلك الخضر المتشعب.
{حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} هو السنبل المنتظم للحبوب المتراكبة بعضها فوق بعض على هيئة مخصوصة.
{وَمِنَ النَّخْلِ} شروع في تفصيل حال
73
الشجر إثر بيان حال النجم وهو خبر مقدم.
{مِن طَلْعِهَا} بدل منه بإعادة العامل وهو وشيء يخرج من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود.
{قِنْوَانٌ} مبتدأ ، أي : وحاصلة من طلع النخل قنوان جمع قنو وهو للثمر بمنزلة العنقود للعنب {دَانِيَةٌ} سهلة المجتنى قريبة من القاطف فإنها وإن كانت صغيرة ينالها القاعد تأتي بالثمر لا تنتظر الطول أو ملتفة متقاربة وفيه اختصار معناه من النخل ما قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكبر وفي الحديث : "أكرموا عماتكم النخل فإنها خلقت من فضلة طينة آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فأطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" انتهى.
فظهر أن السبب في إطعام النفساء رطباً أن مريم رضي الله عنها كان أول ما أكلت حين وضع عيسى عليه السلام هو الرطب كما قال تعالى في سورة مريم : {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَـاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (مريم : 25) وورد في فضيلة السفرجل أيضاً أنه شكا بعض الأنبياء إلى الله تعالى من قبح أولاد أمته فأوحى الله إليه مُرْهم أن يطعموا نساءهم الحبالى السفرجل في الشهر الثالث والرابع لأن فيه تصور الجنين فإنه يحسن الولد.
أخرجنا به {جَنَّـاتُ} بساتين كائنة {مِّنْ أَعْنَابٍ} فهو عطف على نبات كل شيء ولعل زيادة الجنات هنا من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالباً إلا عند اجتماع طائفة من أفراده وكل نبت متكاثف يستر بعضه بعضاً فهو جنة من جنّ إذا استتر والأعناب جمع عنب وهو بالفارسية (انكور).
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أي : وأخرجنا أيضاً شجر الزيتون وشجر الرمان.
{مُشْتَبِهًا} أوراقهما ومشتملاً على الغصن من أوله إلى آخره في كليهما وهو حال.
{وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ} ثمرهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
وفي "التفسير الفارسي".
({مُشْتَبِهًا} در حالتي كه آن درختان بعضي ببعضي ما نند دربرك {وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ} ونه ما نند يكديكر در طعم ميوه ه بعضي بغايت ترش ميباشد وبعضي شيرين وبرخي ترش وشيرين).
{انظُرُوا} يا مخاطبين نظر اعتبار {إِلَى ثَمَرِهِ} (بميوه هردرختي) {إِذَآ أَثْمَرَ} إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً لا يكاد ينتفع به {وَيَنْعِهِ} وإلى حال نضجه كيف يعود ضخماً ذا نفع ولذة والينع في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت.
وقوله إذا أثمر ظرف لقوله انظروا أمر بالنظر في أول حال حدوث الثمرة وفي كمال نضجها مع كونها نابتة من أرض واحدة ومسقية بماء واحد ليعلم كيف تتبدل وتنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة وحصول هذه التغيرات مسند إلى القادر الحكيم العليم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والحكمة والمصلحة.
(3/57)
قال القرطبي : هذا الينع هو الذي يتوقف عليه جواز بيع الثمرة وهو أن يطيب أكل الفاكهة وتأمن العاهة وهو عند طلوع الثريا بما أجرى الله تعالى عادته عليه ـ ـ روى ـ ـ أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال : "إذا طلعت الثريا صباحاً رفعت العاهة عن أهل البلد" وطلوعها صباحاً في اثنتي عشرة تمضي من شهر أيار وهو آخر الشهور الثلاثة من أول فصل الربيع وهي آذار ونيسان وأيار {إِنَّ فِى ذَالِكُمْ} إشار إلى ما أمر بالنظر إليه {لايَـاتٍ} عظيمة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون
74
بالاستدلال بها والاعتبار.
والإشارة في الآية إن الله تعالى ينزل من سماء العناية ماء الهداية فيخرج به أنواع المعارف والأسرار على حسب مراتب أهل الزهد والفتوى وأهل العشق والتقوى إذ القلب كالروضة ينشأ منه ما هو مستعد له وكل نبت يترجم عن ترابه ، كما قال في "المثنوي" :
درزمين كرنى شكر ورخود نى است
ترجمان هر زمين نبت وى است
والنخل أعلى من غيره ولذا يقال إنه إشارة إلى أصحاب الولايات فمن ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين والمريدين يعني منهم من يكون مريباً فينتفع بثمرات ولايته ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المتمسكين به وجملة شؤونهم ناظرة إلى أمر الله تعالى وإذنه ولذا لا يطعن فيهم إلا جاهل وهم في خلواتهم وجلواتهم يتفكهون من روضات القلوب ويتلذذون بلذائذ حبات الغيوب وأمرهم مستور عن الخلق وأعينهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
وعن بعضهم قال : رأيت عند قبر النبي عليه السلام تسعة من الأولياء فتبعتهم فالتفت إليّ أحدهم وقال أين تمر؟ قلت : أسير معكم لحبي فيكم فإني سمعت عمن زرتموه عليه السلام أنه قال : "المرء مع من أحبّ" فقال أحدهم إنك لا تقدر على المسير إلى هذا الموضع الذي نقصده فإنه لا يقدر عليه إلا من بلغ سنه أربعين سنة فقال آخر دعه لعل الله يرزقه فسرت معهم والأرض تطوى من تحتنا طياً فلم نزل حتى انتهينا إلى مدينة مبنية بالذهب والفضة وأشجارها متكاثفة وأنهارها مطردة رائقة وفواكهها كبيرة فائقة فدخلنا وأكلنا من ثمرها وأخذت معي ثلاث تفاحات فلم يمنعوني من أخذها فسألتهم عند الانصراف عن المدينة قالوا مدينة الأولياء إذا أرادوا التنزه ظهرت لهم أينما كانوا ما دخلها أحد قبل الأربعين غيرك وكنت كلما جعت أكلت من التفاحة وهي لا تتغير ورجعت إلى أهلي وقد بقي معي تفاحة واحدة غير التي ادخرتها لنفسي فعانقتني أختي وقالت أين الذي أطرفتنا به من سفرك فقلت وما الذي أطرفكم به وأنا بعيد عن الدنيا وعن الراحة قالت فأين التفاحة فعميت عليها وقلت وأي تفاحة قالت يا مسكين والله لقد أدخلوني تلك المدينة وأنا بنت عشرين سنة وأما أنت فلم ترها إلا بعد أن طردوك وأنا والله جذبت إليها جذبة وخطبت إليها خطبة قلت أي أخت فالبدل الكبير منهم يقول لي لم يدخلها أحد لم يبلغ أربعين سنة غيرك قالت نعم من المريدين وأما المرادون فيدخلونها ولا يرضون بها ومتى شئت أريتكها فقلت قد شئت فقالت يا مدينتي احضري فوالله لقد رأيت المدينة بعينها تتدلى إليها وترف عليها فمدت يدها وقالت أين تفاحك قال فتساقط عليّ من التفاح ما علاني فضحكت ثم قالت من عنده من الملك هذا يحتاج إلى تفاحتك قال فاستحقرت والله نفسي عند ذلك وما كنت أعلم أن أختي منهم رضي الله عنها وعنهم.
قال السعدي :
نه هركس سزاوار باشد بصدر
كرامت بفضلست ورتبت بقدر
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
قال الكاشفي : الأصح أنها نزلت في الزنادقة ، أعني : المجوس ويقال لهم الثنوية أيضاً قالوا إن الله تعالى وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام وكل خير ويعبرون عن الله بيزدان وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب وكل شر ويعبرون عن إبليس باهرمن وهذا كقوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} (الصافات : 158) وإبليس من الجنة والمعنى وجعلوا الجن شركاءفي اعتقادهم الباطل.
{وَخَلَقَهُمْ} حال من فاعل
75
(3/58)
جعلوا بتقدير قد أي والحال إنهم قد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق فالضمير للجاعلين ويحتمل أن يكون للجن أي والحال إنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له.
{وَخَرَقُوا لَهُ} أي : افتعلوا وافتروا له تعالى يقال خرق واخترق واختلق وافترى إذا كذب.
{بَنِينَ وَبَنَـات} فقالت اليهود : عزير بن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت طائفة من العرب الملائكة بنات الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب بل رمياً بقول عن عمي وجهالة من غير فكر ورؤية.
والباء متعلقة بمحذوف هو حال من فاعل خرقوا أي خرقوا ملتبسين بغير علم.
{سُبْحَـانَه} أي : تنزه تعالى بذاته تنزهاً لائقاً به ، {وَتَعَـالَى} من العلو ، أي : استعلى ويجوز في صفات الله تعالى علا ولا يجوز ارتفع لأن العلو قد يكون بالاقتدار والارتفاع يقتضي الجهة والمكان ولما في السبحان والتعالي من معنى التباعد قيل {عَمَّا يَصِفُونَ} أي تباعد عما يصفونه من أن له شريكاً أو ولداً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
{بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : هو مبدع من غير مثال سبق لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالمرة والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يكون له ولد فالفعيل بمعنى المفعل كالأليم والحكيم بمعنى المؤلم والمحكم والإضافة حقيقية وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق.
{أَنَّى يَكُونُ لَه وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّه صَـاحِبَةٌ} أي : من أين أو كيف يوجد له ولد والحال أن أسباب الولادة منتفية فإن وجود الولد بلا والدة محال وإن أمكن بلا والد كعيسى عليه السلام والمراد بالصاحبة الزوجة.
وفي "المثنوي" :
لم يلد لم يولد است أو ازقدم
نى در دارد نه فرزندونه عم
{وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ} انتظم بالتكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً له تعالى فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه :
خالق أفلاك وانجم برعلا
مردم وديو ورى ومرغ را
{وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ} من شأنه أن يعلم كائناً ما كان مخلوقاً أو غير مخلوق.
{عَلِيمٌ} مبالغ في العلم أزلاً وأبداً فلا يخفى عليه خافية مما كان وما سيكون من الذوات والصفات والأحوال التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز من المحالات التي كان ما زعموه فرداً من أفرادها.
{ذالِكُمْ} أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة أيها المشركون.
{اللَّهِ} المستحق للعبادة خاصة مبتدأ وخبره.
{رَبُّكُمْ} أي : مالك أمركم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
نيست خلقش را دكركس مالكي
شركتش دعوى كند جزهالكى
{لا إله إِلا هُوَ} أي : لا شريك له أصلاً {خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} مما كان وما سيكون فلا تكرار هذه أخبار مترادفة.
{فَاعْبُدُوهُ} حكم مسبب عن مضمونها فإن من جمع هذه الصفات استحق العبادة خاصة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} أي : وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم الدنيوية والأخروية ورقيب على أعمالكم فيجازيكم.
قال الإمام الغزالي قدس سره : والوكيل ينقسم إلى من يفي بما وكل إليه وفاء تاماً من غير قصور وإلى من لا يفي بالجميع والوكيل المطلق هو الذي يفي بالأمور الموكولة
76
إليه وهو ملى بالقيام بها وفي بإتمامها وذلك هو الله تعالى فقط وقد فهمت من هذا مقدار مدخل العبد في معنى هذا الاسم انتهى كلامه.
وعن الشيخ أبي حمزة الخراساني رحمه الله قال : حججت سنة من السنين فبينما أنا أمشي إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن استغيث فقلت : لا والله لا أستغيث فما استتم هذا الخاطر حتى مرّ برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر : تعالى حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه أحد فأتيا بقصب وبارية وطمسا رأس البئر فهممت أن أصيح ، ثم قلت في نفسي ألجأ إلى من هو أقرب منهما وسكت وفوضت أمري إلى الله تعالى فبينما أنا بعد ساعة إذا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة منه كنت أعرف منها ذلك فتعلقت به فأخرجني فإذا هو سبع فمر وهتف بي هاتف يا أبا حمزة أليس هذا أحسن نجيناك من التلف بالتلف فالله تعالى قادر على ذلك وهو على كل شيء وكيل.
والإشارة في الآيات أن الله تعالى كما أخرج بماء اللطف والهداية من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات أخرج بماء القهر والخذلان من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات حتى أشركوا بالله تعالى وقالوا ما قالوا من أسو المقال مع أنه تعالى متفرد بالذات والصفات والأفعال.
فعلى العاقل أن يستعيذ بالله من مكره وقهره ويستجلب بطاعته مزيد رضائه ورحمته ويقطع النظر عن الغير في كل شر وخير فإن الكل من الله تعالى وإن كان لا يرضى لعباده الكفر.
كناه اكره نبود اختيار ما حافظ
(3/59)
تودر طريق ادب كوش وكوكناه منست
اللهم لا تؤمنا مكرك فإنه لا يأمن منه إلا القوم الكافرون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
{لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} البصر حاسة النظر وقد تطلق على العين من حيث إنها محله وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إليه والإحاطة به أي لا تصل إليه الأبصار ولا تحيط به.
{وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَ} أي : يحيط بها علمه {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فيدرك ما لا تدركه الأبصار ولهذا خص الأبصار بإدراكه تعالى إياها مع أنه يدرك كل شيء لأن الأبصار لا تدرك نفسها ولا يجوز في غيره أن يدرك البصر وهو لا يدركه ففيه دليل على أن الخلق لا يدركون بالأبصار كنه حقيقة البصر وهو الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه.
اعلم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به والرؤية المعاينة وقد تكون الرؤية بلا إدراك لأنه يصح أن يقال رآه وما أدركه ، فالإدراك أخص من الرؤية ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فالله يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به يعني إن معرفة الله تعالى ممكنة من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما لا تفيه الطاقة البشرية وهو ما وقع به الكمل في ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة وقالوا ما عرفناك حق معرفتك فذات الله تعالى من حيث تجرده عن النسب والإضافات لا يدرك ولهذا سئل النبي عليه السلام هل رأيت ربك قال : "نور إني أراه" أي : النور المجرد لا يمكن رؤيته وكذا أشار الحق في كتابه لما ذكر ظهور نوره في مراتب المظاهر قال الله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (النور : 35) فلما فرغ من ذكر مراتب التمثيل قال : {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور : 35) فأحد النورين هو الضياء
77
والآخر هو النور المطلق الأصلي ولهذا تمم فقال : {يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ} (النور : 35) أي : يهدي الله بنوره المتعين في المظاهر والساري فيها إلى نوره المطلق الأحدي فإنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات فأما في المظاهر ومن ورائية حجابية المراتب فالإدراك ممكن كما قيل :
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجهها
فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا وإلى مثل هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلّم في بيان الرؤية الجنانية المشبهة برؤية الشمس والقمر فأخبر عن أهل الجنة أنهم يرون ربهم وأنه ليس بينه وبينهم حجاب إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فنبه صلى الله عليه وسلّم على بقاء الرتبة الحجابية وهي رتبة المظهر وتحقيقه إن أهل الاعتزال بالغوا في نفي الرؤية واستدلوا على مذهبهم بما ورد في الصحيحين عن أبي موسى "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه" قالوا إن الرداء حجاب بين المرتدي والناظرين فلا تمكن الرؤية وجوابهم إنهم حجبوا وإن المرتدى لا يحتجب عن الحجاب إذ المراد بالوجه الذات وبرداء الكبرياء وإضافته للبيان والكبرياء رداؤه الذي يلبسه عقول العلماء بالله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
(3/60)
يقول الفقير في شرح هذا المقام : قوله : ولكنهم حجبوا إلخ وذلك لأن المرآة لا تكون حجاباً للناظر كما أن اللباس كذلك بالنسبة إلى البدن نفسه إذ لا واسطة بينهما فالرداء من المرتدي بمنزلة المرآة من النظر وكذا المرتدي من الرداء بمنزلة الناظر من المرآة إذ المراد بالوجه الذات بطريق إطلاق اسم الجزء على الكل فالمرتدي وهو الذات لا يحتجب عن حجابه وإنما يحتجب به عن الغير كالقناع للعروس فإنه كشف بالإضافة إليها وحجاب بالنسبة إلى غيرها وبرداء الكبرياء إلخ.
الحقيقة المحمدية التي هي حقيقة الحقائق ولكل موجود حصة من تلك الحقيقة بقدر قابليته لكنها في نفسها حقيقة واحدة ، وهو الوجود العام الشامل ، كالحيوان الناطق فإنه معنى واحد عام شامل لجميع الأفراد وكثرته بالنسبة إلى تلك الأفراد لا تنافي وحدته الحقيقية ، فمعنى قوله عليه السلام : "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه" حقيقة كل منهما التي تجلى الذات فيها بحسب صفاء مرآتها ومعرفتها وتلك الحقيقة ليست بحجاب بين القوم وبين الذات الأحدية إذ ما وراء تلك الحقيقة مع قطع النظر عن التجلي فيها وكونها مرآة له إطلاق صرف لا يتعلق به رؤية رداء أيا كان فكل ناظر ينكشف له جمال الذات من حقيقة نفسه فينظر إليه من تلك الحقيقة وهي ليست بحجاب للنظر ولا للذات ؛ إذ هي كالمرآة فالنظر الظاهري قيد تام وما وراء تلك الحقيقة من الذات إطلاق صرف فلا مناسبة بينهما بوجه من الوجوه وتلك الحقيقة بين التقييد والإطلاق برزخ جامع لهما ، كما قال عليه السلام : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" فالعارف إذ لم يتعلق عرفانه بنفسه الكلية وحقيقته الجامعة لا يتأتى منه عرفان ربه لأن ربه مطلق عن القيود والنسب والإضافات وهو بهذا الاعتبار لا تتعلق به المعرفة وأما نفسه المتجلى فيها الرب بحقائق أسمائه فتتعلق بها تلك الرؤية من تلك الحيثية فتكون حقيقة نفسه ومعرفتها مرآة معرفة ربه فلا حجاب بين المرتدي وردائه
78
أصلاً وإنما غلط من غلط بقياس الغائب على الشاهد وهو ممنوع باطل لأنه لا يلزم أن يكون هناك رداء مانع وبرزخ بين الناظر والمرتدي ولذا قال : الكبرياء رداؤه الذي يلبسه عقول العلماء بالله.
فالتردد في أن الرداء حجاب بين المرتدي والناظرين فلا يمكن الرؤية إنما هو من عمى البصيرة والعياذ بالله وهو في ثلاثة أشياء إرسال الجوارح في معاصي الله والتصنع بطاعة الله والطمع في خلق الله فالحق ليس بمحجوب عنك لثبوت إحاطته وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه بما تراكم على بصيرتك من العيوب العارضة وما يلازم بصرك من العيب اللازم الذي هو الفناء الحسي الذي لا يرتفع إلا في الدار الآخرة فلذلك كانت الرؤية موقوفة عليها وإلا فالحجاب في حقه تعالى ممتنع غير متصور فلا تكن ممن يطلب الله لنفسه ولا يطالب نفسه لربه فذلك حال الجاهلين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
وقال بعض المفسرين : إن الإدراك إذا قرن بالبصر كان المراد منه الرؤية فإنه يقال أدركت ببصري ورأيت ببصري بمعنى واحد فمعنى قوله : {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} أي : لا تراه في الدنيا فهو مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة لقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 22) وحديث الشيخين "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي أي في الجهة وإنما يرونه في الآخرة لأنها قلب الدنيا فالبصيرة هناك كالبصر في الدنيا فيكون البصر الظاهر في الدنيا باطناً في الآخرة والبصيرة الباطنة ظاهرة فيستعد الكل للرؤية بحسب حاله وأما في الدنيا فالرؤية غاية الكرامة فيها وغاية الكرامة فيها لأكرم الخلق ، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم صاحب المقام المحمود الذي شاهد ربه ليلة المعراج بعيني رأسه يعني رآه بالسر والروح في صورة الجسم فكان كل وجوده الشريف عيناً لأنه تجاوز في تلك الليلة عن عالم العناصر ثم عن عالم الطبيعة ثم عن عالم الأرواح حتى وصل إلى عالم الأمر وعين الرأس من عالم الأجسام فانسلخ عن الكل ورأى ربه بالكل فافهم هداك الله خير السبل فإن العبارة ههنا لا تسع غير هذا.
(3/61)
قال في "التأويلات النجمية" : {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} أي لا تلحقه المحدثات لا الأبصار الظاهرة ولا الأبصار الباطنة تقدست صمديته عن كل لحوق ودرك ينسب إلى مخلوق ومحدث بل {وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَا وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن} من أن يدركه المحدثات أو يلحقه المخلوقات.
{الْخَبِيرُ} بمن يستحق أن يتجلى له الحق ويدرك أبصارها باطلاعه عليها فيستعدها للرؤية ومن لطف الله أنه أوجد الموجودات وكون المكونات فضلاً منه وكرماً من غير أن يكون استحقاقها للوجود انتهى ولو رآه إنسان في الموطن الدنيوي لوجب عليه شكره ولو شكره لاستحق الزيادة ولا مزيد على الرؤية ولذلك حرمها وهذا هو المعنى في قوله عليه السلام : لن تروا ربكم حتى تموتوا.
قال ابن عطاء : إتمام النعيم بالنظر إلى وجه الله الكريم على الوجه اللائق بجلاله في الدار الآخرة حسبما جاء الوعد الصدق بذلك كما في الدنيا إذ غالب النصوص يقتضي منع ذلك بل يكاد يقع الإجماع على نفي وقوع ذلك ومنعه شرعاً وإن جاز عقلاً انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
وأما الرؤية في المنام : فقد
79
حكيت عن كثير من السلف كأبي حنيفة.
وعن أبي يزيد رحمه الله : رأيت ربي في المنام فقلت له كيف الطريق إليك؟ فقال : اترك نفسك ثم تعال.
وروي عن حمزة القارىء أنه قرأ على الله القرآن من أوله إلى آخره في المنام حتى إذا بلغ إلى قوله : وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام : 18) قال الله تعالى يا حمزة وأنت القاهر ولا خفاء في أن الرؤية في المنام نوع مشاهدة يكون بالقلب دون العين وفي الحديث : "رأيت ربي في المنام في صورة شاب امرد" وسر تجليه في صورة الإنسانية بصفة الربوبية أن الحقيقة الإنسانية أجمع الحقائق فإنه تعالى لما استخلف الإنسان وجعله خاتماً على خزائن الدنيا والآخرة ظهر جيمع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في النشأة الإنسانية الجامعة بين النشأة العنصرية والروحانية وإليه يشير قوله عليه السلام : "إن الله خلق آدم على صورته" وإطلاق الصورة على الحق مجاز باعتبار أهل الظاهر إذ لا تستعمل في الحقيقة إلا في المحسوسات ففي المعقولات مجاز ، وأما عند المحققين فحقيقة لأن العالم الكبير بأسره صورة الحضرة الإلهية ومظاهر أسمائها بحضراتها تفصيلاً وإجمالاً والإنسان الكامل صورته جمعاً.
فإن قلت : الرؤية أقوى أنواع الإدراك أم العلم.
قلت : قد قيل بالأول ولهذا يتلذذ المؤمنون برؤية الله تعالى فوق ما يتلذذون بمعرفته.
قال الإمام في "الإحياء" : إن الرؤية نوع كشف وعلم إلا أنها أوضح وأتم من العلم فإذا جاز تعلق العلم به ليس في جهة جاز تعلق الرؤية من غير جهة وكما جاز أن يعلم من غير كيفية وصورة جاز أن يرى كذلك من غير كيفية وصورة.
قال بعضهم : الرؤية أعلى من المعرفة لأن العارفين مشتاقون إلى منازل الوصال والواصلون لا يشتاقون إلى منازل المعرفة.
وقال بعضهم : المعرفة ألطف والرؤية أشرف.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي قدس سره : وصلة العلماء على قدر علمهم واستدلالهم ووصلة الكمل على قدر مشاهدتهم وعيانهم لكن لا على وجه مشاهدة سائر الأشياء فإنه تعالى منزه عن الكيف والأين بل هي عبارة عن ظهوره وانكشاف الوجود الحقيقي عند اضمحلال وجود الرائي وفنائه انتهى.
أقول : فظهر من هذا أن من فنى عن ذاته وصفاته وأفعاله واضمحل عن بشريته وهويته فجائز أن يرى الله تعالى في الدنيا بالبصيرة بعد الانسلاخ التام.
ون تجلى كرد اوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث راكليم
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
وذلك كالشمس في الجلاء لا يكابر فيه أحد أصلاً ؛ لأن القلب من عالم المكوت والبصيرة كالبصر له وعالم الملكوت مطلق عن قيود الأمور الوهمية التي هي الزمان والمكان والجهة والكيفية وغيرها ؛ لأنها من أحكام عالم الملك فأين هذا من ذاك ولا يقاس أحدهما على الآخر وحقيقة ذوق هذا المطلب الأعلى لا تعرف إلا بالسلوك.
قال الحافظ :
شكر كمال حلاوت س از رياضت يافت
نخست درشكن ننك ازان مكان كيرد
ثم اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دقّ منها وما لطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف وإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلاتعالى وحظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله تعالى والتلطف بهم في الدعوة إلى الله تعالى والهداية إلى سعادة الآخرة
80
من غير إزراء وعنف ومن غير تعصب وخصام وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسير المرضية والأعمال الصالحة فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة.
قال الشيخ الأكبر قدس سره قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يقل صلوا كما قلت لكم لأن الفعل أرجح في نفس التابع المقتدي من القول كما قيل :
وإذا المقال مع الفعال وزنته
رجح الفعال وخف كل مقال انتهى : وفي "المثنوي" :
(3/62)
بند فعلى خلق را جذاب تر
كه رسد درجان هربا كوش كر
والخبير : هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجرى في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ، ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها وهو بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ، وسمي صاحبه خبيراً وحظ العبد من ذلك أن يكون خبيراً بما يجري في عالمه وعالمه قلبه وبدنه والخفايا التي يتصف القلب بها من الغش والخيانة والطواف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير والتجمل بإظهار الإخلاص والإفلاس عنه لا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحادبها وتشمر لمعاداتها وأخذ الحذر منها فذلك من العباد جدير بأن يسمى خبيراً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76
{قَدْ جَآءَكُمُ} أي قل يا محمد للناس وخصوصاً لأهل مكة قد جاءكم.
{بَصَآاـاِرَ} كائنة {مِّن رَّبِّكُمْ} أي : دلائل التوحيد وحقية النبوة ودلائل البعث والحساب والجزاء وغير ذلك.
والبصائر جمع بصيرة وهي نور تبصر به النفس كما أن البصر نور تبصر به العين فاستعير لفظ البصيرة من القوة المودعة في القلب لإدراك المعقولات للحجة البينة لكون كل واحدة منهما سبب الإدراك {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي ألحق بتلك البصائر وآمن به.
{فَلِنَفْسِهِ} أبصر لأن نفعه لها {وَمَنْ عَمِىَ} أي لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك ظهوراً بيناً وضل عنه وإنما عبر بالعمى عنه تقبيحاً له وتنفيراً عنه {فَعَلَيْهَا} وباله.
والإشارة أن الله تعالى : أعطى لكل عبد بصيرة لقلبه يبصر بها الحقائق المودعة في الغيوب والكمالات المعدة لأرباب القلوب كما أعطى بصراً لقالبه يبصر به الأعيان في الشهادة ، وما أعد لهم فيها من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح ، فمن نظر ببصر البصيرة إلى المراتب العلوية الأخروية الباقية وأبصر كمالات القرب ، وما أعد الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيشتغل بتحصيله ، ويقبل على الله بسلوك سبيله ، ويعرض عن الدنيا الدنية ويترك زينتها شهواتها الفانية فذلك تحصيل سعادة وكرامة لنفسه فإن الله غني عن العالمين ومن عمي عن النظر بالبصيرة ، وغير هذه الكمالات لما أبصر ببصر القالب إلى الدنيا وزينتها واستلذ بشهواتها واستحلى مراتعها الحيوانية فعميت بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فذلك تحصيل شقاوة وخسارة على نفسه كذا في "التأويلات النجمية".
{وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} وإنما أنا منذر ومبلغ والله هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 81
{وَكَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ} أي : ومثل هذا التصريف البديع نصرف الآيات
81
الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن المعاني الفائقة ولا تصرف أدنى منه من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال.
{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} علة لمحذوف ، واللام للعاقبة والدرس القراءة والتعلم ، أي : وليقولوا في عاقبة أمرهم درست صرفنا أي قرأت وتعلمت من غيرك نحو سيار وجبير كانا عبدين لقريش من سبي الروم كان قريش يقولون له عليه السلام : إنك تتعلم هذه الأخبار منهما ثم تقرأ علينا على زعم أنها من عند الله.
{وَلِنُبَيِّنَهُ} عطف على ليقولوا واللام على الأصل أي التعليل لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار القرآن.
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وتخصيص التبيين بهم لما أنهم المنتفعون به.
{اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي : دم يا محمد على ما أنت عليه من اتباع القرآن الذي عمدة أحكامه التوحيد وإن قدحوا في تصريف آياته.
{لا إله إِلا هُوَ} لا شريك له أصلاً {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ولا تبال بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم فإنه لا يجوز الفتور في تبليغ الدعوة والرسالة بسبب جهل الجاهلين.
بكوى آنه داني سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
كه ردا شيمان برآرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} توحيدهم وعدم إشراكهم.
{مَآ أَشْرَكُوا} وهو دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرف اختياره الجزئي نحو الإيمان وإصراره على الكفر {وَمَا جَعَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ} متعلق بما بعده وكذا عليهم الآتي.
{حَفِيظًا} رقيباً مهيمناً من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالحهم.
(3/63)
قال الحدادي : وإنما جمع بين حفيظ ووكيل لاختلاف معناهما.
فإن الحافظ للشيء هو الذي يصونه عما يضره ، والوكيل بالشيء هو الذي يجلب الخير إليه فقد ظهر أن عدم قبول الحق من الشقاوة الأصلية ولذا لم يشأ الله سعادتهم وهدايتهم ، وعلامة الشقاوة : جمود العين وقساوة القلب وحبّ الدنيا وطول الأمل ، وعلامة السعادة : حبّ الصالحين والدنو منهم وتلاوة القرآن وسهر الليل ومجالسة العلماء ورقّة القلب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 81
وعن إبراهيم المهلب السائح رحمه الله قال : بينا أنا أطوف إذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول : بحبك لي ألا ردت عليّ قلبي ، فقلت : يا جارية من أين تعلمين أنه يحبك؟ قالت بالعناية القديمة جيش في طلبي الجيوش وأنفق الأموال حتى أخرجني من بلاد الشرك ، وأدخلني في بلاد التوحيد وعرّفني نفسي بعد جهلي إياها فهل هذا يا إبراهيم إلا لعناية أو محبة.
قال الحافظ :
ون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست
آن به كه كار خود بعنايت رهاكنند
والواجب على العبد أن يسارع إلى الأعمال الصالحة فإنها من علامات السعادة والتأخير وطول الأمل من علامات الشقاوة ـ ـ حكي ـ ـ أن بعض العباد كان يسأل الله تعالى أن يريه إبليس فقيل له اسأل الله العافية فأبى إلا ذلك فأظهره الله تعالى له فلما رآه العابد قصده بالضرب فقال له إبليس : لولا أنك تعيش مائة سنة لأهلتك ولعاقبتك فاغترّ بقوله : فقال في نفسه إن عمري بعيد فأفعل ما أريد.
ثم أتوب فوقع في الفسق وترك العبادة وهلك وهذه الحكاية تحذرك طول الأمل فإنه آفة عظيمة.
قال الصائب :
82
در اين غافلان طول امل داني كه يست
آشيان كردست مارى در كبوتر خائه
واعلم أنه ما على الرسول عليه السلام إلا التبليغ ودلالة كل قوم إلى ما خلق له.
فيدعو العوام إلى التوحيد.
والخواص إلى الوحداية.
وخواص الخواص إلى الوحدة وكذا حال الولي الوارث لكن الوصول إلى هذه المقامات إنما يكون بهداية الله ومشيئته فليس في وسع المرشد أن يوصل كل من أراد إلى ما أراده فيبقى من يبقى في الاثنينية ويصل من يصل إلى عالم الوحدة والسبب الموصل هو التوحيد فكما أن الكافر لا يكون مؤمناً إلا بكلمة التوحيد فكذا المؤمن لا يكون مخلصاً إلا بتكرارها لأن الشرك مطلقاً جلياً كان أو خفياً لا يزول إلا بالتوحيد مطلقاً فالمؤمن الناقص كما أنه لا يلتفت إلى المشرك بالشرك الجلي وحاله كذلك المؤمن الكامل لا ينظر إلى جانب المشرك بالشرك الخفي ، ولذا قال تعالى : {لا إله إِلا هُوَا وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} لكن الإعراض من حيث الحقيقة لا ينافي الإقبال من حيث الظاهر لأجل الدعوة حتى يلزم الحجة ويحصل الإفحام {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ} (يونس : 35) فالسلام على من اتبع الهدى والملام على من اتبع الهوى.
قال الحافظ :
ه شكرهاست درين شهركه قانع شده اند
شاهبازان طريقت بمقام مكسى
جزء : 3 رقم الصفحة : 81
{وَلا تَسُبُّوا} أي : لا تشتموا أيها المؤمنون {الَّذِينَ} أي : الأصنام {يَدَّعُونَ} أي : يدعونها آلهة ويعبدونها {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : متجاوزين عبادة الله تعالى والمراد بالداعين كفار مكة.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : أي لا تشتموهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تباً لكم ولما تعبدونه مثلاً.
{فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا} أي : تجاوزاً عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثل قولكم لهم وهو منصوب على المصدر لكونه نوعاً من عامله لأن السبب من جنس العدو أو على أنه مفعول له أي لأجل العدو.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال أي يسبونه غير عالمين بالله تعالى وبما يجب أن يذكر به أي مصاحبين للجهل لأنهم لو قدروا الله حق قدره لما أقدموا عليه.
فإن قلت : إنهم كانوا مقرّين بالله وعظمته وإن الأصنام إنما تعبد ليكونوا شفعاء عند الله فكيف يسبونه.
قلت : إنهم لا يفعلون ذلك صريحاً لكن ربما يفضي فعلهم إلى ذلك وأيضاً إن الغيظ والغضب إنما يحمل الإنسان على التكلم بما ينافي العقل ألا يرى أن المسلم قد يتكلم لشدة غضبه بما يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله.
وفي الآية : دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشرّ شرّ ألا يرى أن سبّ الأصنام وطعنها من أصول الطاعات وقد نهى الله تعالى عنه لكونه مؤدياً إلى معصية عظيمة وهي شتم الله وشتم رسوله وفتح باب السفاهة.
قال الحدادي : وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا أراد أن يأمر غيره بالمعروف ويعلم أن المأمور يقع بذلك في أشد مما هو فيه من شتم أو ضرب أو قتل كان الأولى أن لا يأمره ويتركه على ما هو فيه.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 83
مجال سخن تانيابى مكوى
و ميدان نبيني نكهدار كوى
{كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك التزيين القوي وهو تزيين المشركين سبّ الله تعالى وعبادة الأوثان.
83
(3/64)
{زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من الخير والشر والطاعة والمعصية بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم} مالك أمرهم {مَرْجِعُهُمْ} أي : رجوعهم بالبعث بعد الموت.
{فَيُنَبِّئُهُم} (س خبر دهد ايشانرا) من غير تأخير {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزينة لهم وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة وهي إن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة يستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة ولذلك قال عليه السلام : "حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات" فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة يستحسنها الطغاة وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلاً منهما سبب للعلم بحقيقتهما ، كما هي كذا في "تفسير الإرشاد" ، ويظهر صور الأعمال القبيحة لأهل السلوك في البرزخ الدنيوي فيجتهدون في تبديلها ـ ـ حكي ـ ـ عن الشيخ أبي بكر الضرير رحمه الله قال : كان في جواري شاب حسن الوجه يصوم النهار ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فجاءني يوماً وقال يا أستاذ إني نمت عن وردي الليلة فرأيت كأن محرابي قد انشق وكأني بجوارٍ قد خرجن من المحراب لم أر أحسن أوجهاً منهن وإذا فيهن واحدة شوهاء لم أر أقبح منها منظراً فقلت لمن أنتن ولمن هذه فقلن نحن لياليك التي مضين وهذه ليلة نومك فلو متّ في ليلتك هذه لكانت هذه حظك ثم أنشأت الشوهاء تقول :
اسأل لمولاك وارددني إلى حالي
فأنت قبحتني من بين أشكالي
وقد أردت بخير إذا وعظت بنا
أبشر فأنت من المولى على حال
جزء : 3 رقم الصفحة : 83
قالت جارية من الحسان :
نحن الليالي اللواتي كنت تسهرها
تتلو القرآن بترجيع ورنات
وقد قال بعض الكبار : انكشاف عيب النفس خير من انكشاف الملكوت إذ المقصود إصلاح الطبيعة والنفس والأكل والشرب والمنام من الصفات البهيمية التي هي مقتضى الطبيعة.
وفي "التأويلات النجمية" : {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من المقبولين أعمال أهل القبول ومن المردودين أعمال أهل الرد {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} أي بأقدام تلك الأعمال كلا الفريقين يذهبون إلى ربهم [الأنعام : 108]{فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أما أهل القبول فيسلكون على أقدام الأعمال الصالحة طريق اللطف فينبئهم بالفضل والإحسان أنهم كانوا يحسنون وأما أهل الرد فيقطعون على أقدام المخالفات في بوادي القهر والهلكات فينبئهم بالعدل والخسران أنهم كانوا يسيئون انتهى وفي "المثنوي" :
جمله دانند هين اكرتو نكروى
هره مى كاريش روزي بدوري
وعن بعض الصالحين قال : كانت في جانبي عجوز قد أضنتها العبادة فسألتها أن ترفق بنفسها ،
84
فقالت : يا شيخ أما علمت أن رفقي بنفسي غيبني عن باب المولى ومن غاب عنه مشتغلاً بالدنيا عرض نفسه للمحن والبلوى ، وما قدر عملي إذا اجتهدت فكيف إذا قصرت ثم قالت واسوأتاه من حسرة السباق وفجعة الفراق.
فأما حسرة السباق فإذا قام القائمون من قبورهم وركب الأبرار نجائب الأنوار وساروا إلى قصر من العز والجلال ورفعت لهم منازل المحبين وقدمت بين أيديهم نجائب المقربين وبقي المسبوق في جملة المخزونين فعند ذلك ينقطع فؤاده حسرة وتأسفاً ويذوب ندامة وتلهفاً ، وأما فجعة الفراق فعند تمييز الناس والافتراق وذلك أن الله سبحانه إذا جمع الخلق في صعيد واحد أمر ملكاً فنادى أيها المجرمون امتازوا إن المتقين قد فازوا وهو قوله تعالى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) فيتميز الرجل من زوجته والولد من والدته والحبيب من حبيبه هذا يحمل مبجلاً إلى رياض النعيم وهذا يساق مسلسلاً مغلغلاً إلى عذاب الجحيم وقد طال منهم التلفت والوداع ودموعهم تجري كالأنهار بفجعة الفراق وأنشدوا بالبين والفراق.
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا
ورأيت كيف نكرر التوديعا
جزء : 3 رقم الصفحة : 83
لعلمت أن من الدموع لأبحراً
تجري وعاينت الدماء دموعاً
(3/65)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} ـ ـ روي ـ ـ أن قريشاً قالوا يا محمد إنك تخبرنا أن موسى عليه السلام كانت معه عصا فيضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن صالحاً عليه السلام أخرج الناقة من الجبل فائتنا أنت أيضاً بآية بينة فإن فعلت ذلك لنصدقنك ونؤمنن لك وحلفوا على ذلك وبالغوا في تأكيد الحلف فقال عليه السلام : "أي شيء تحبون" قالوا تجعل لنا الصفا ذهباً أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل أو أرنا الملائكة يشهدون لك فقال عليه السلام : "فإن فعلت بعض ما تقولون تصدقونني" قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فهمّ عليه السلام بالدعاء فجاء جبريل عليه السلام فقال : إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوا عنده ليعذبنهم بعذاب الاستئصال ولئن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية" أي حلف كفار قريش بالله تعالى {جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ} مصدر في موقع الحال أي جاهدين في إيمانهم وجهد الإيمان أغلظها وأشدها {لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ} من مقترحاتهم {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ} لهم {إِنَّمَا الايَـاتُ} كلها {عِندَ اللَّهِ} أي : هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي وإنما أنا نذير ثم بيّن تعالى الحكمة في عدم مجيء الآيات فقال مخاطباً للمسلمين.
{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} أي : أيُّ شيء يعلمكم أن الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقون على ما كانوا عليه من الكفر والعناد أي لا تعلمون ذلك فتتمنون مجيئها طمعاً في إيمانهم فأنكر السبب أي الإشعار مبالغة في نفي المسبب ، أي الشعور وفيه بيان أن إيمانهم فاجرة وأنه لا يغني وضوح الأدلة لمن لم يساعده سوابق الرحمة.
{وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ} عطف على لا يؤمنون أي وما يشعركم أنا حينئذٍ نحول قلوبهم عن الحق فلا يفهمون {وَأَبْصَـارِهِمْ} عن اجتلائه فلا يبصرونه
85
فلا يؤمنون بها.
{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} أي : بما جاء من الآيات.
{أَوَّلَ مَرَّةٍ} من انشقاق القمر ونحوه.
{وَنَذَرُهُمْ} أي : ندعهم عطف على لا يؤمنون داخل في حكم الاستفهام الإنكاري.
{فِي طُغْيَـانِهِمْ} ضلالهم متعلق بنذرهم.
{يَعْمَهُونَ} أي : متحيرين لانهديهم هداية المؤمنين فهو حال من الضمير المنصوب في نذرهم ووجه هذا التقليب والترك فساد استعدادهم وإعراضهم عن الحق بالكلية ، فإن الله تعالى لا يفعل بهم ذلك مع توجههم إلى الحق واستعدادهم لقبوله فإنه إجبار محض فإن كان مقهوراً مطبوعاً على قلبه فليعلم أن ذلك لعدم تأثير اللطف فيه أصلاً فلله الحجة البالغة ومن الله الهداية والتوفيق.
تم الجزء السابع في أوائل شهر ربيع الآخر من سنة ألف ومائة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 83
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} تفصيل ما ذكر على الإجمال بقوله : {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} أي ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم لو أنزل علينا الملائكة فنراهم عياناً.
{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} وشهدوا بحقية الإيمان بعد أن أحييانهم حسبما اقترحوه بقولهم فائت بآية.
قال صاحب "التيسير وأحيينا" : لهم كل الموتى فكلموهم بأن شهدوا لك وإن كانوا سألو منك إحياء اثنين من موتاهم قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو وكانا كبيرين منهم وصدوقين حيث قالوا لئن أحييتهما فشهدا لك بالنبوة لشهدنا نحن أيضاً.
{وَحَشَرْنَا} أي : جمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلا} جمع قبيل بمعنى كفيل وانتصابه على الحالية من المفعول أي كفلاء بصحة الأمر وصدق النبي عليه السلام أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات أي وحشرنا كل شيء نوعاً نوعاً وفوجاً فوجاً من سائر المخلوقات.
وفي "التيسير" : أي : وبعثنا كل حيوان من الفيل إلى البعوض أي أممنا القيامة {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} في حال من الأحوال الداعية إلى الإيمان.
{إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أي : إلا في حال مشيئة الله لإيمانهم وهيهات ذلك وحالهم حالهم من التمادي في العصيان والغلو في التمرد والطغيان {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي : ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعاً فيما لا يكون فالجملة مقررة لمضمون قوله تعالى : {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 86(3/66)
واعلم أن الآية وإن عظمت لا تضطر إلى الإيمان إن لم يشأ الله تعالى فإنه لا آية أعظم من قيام الساعة والله تعالى يقول : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) وجملة الأمر أن المشيئة تغير السجية وعدمها من فساد الاستعداد فلذا بقي أهل الضلال في يد القهر والجلال.
قال السعدي :
زوحشى نه يايدكه مردم شود
بسعى اندر اوتربيت كم شود
توان اك كردن زنك آيينه
ولكن نيايد زسنك آيينه
86
وقال الحافظ :
كرجان بدهد سنك سيه لعل نكردد
باطينت اصلي ه كند بدكهر افتاد
وأما قول المولوي قدس سره في "المثنوي" :
كرتو سنك خاره ومرمر شوى
ون بصاحب دل رسى كوهر شوى
فإشارة إلى المستعبد بحكم الأصل فإن التربية تنفع فيه فجميع المعجزات من الأنبياء والكرمات من الأولياء علمية كانت أو كونية تربية لمن في زمانهم فمن حسن استعداده مال واهتدى ومن فسد أعرض وضلّ وترى كثيراً من المغرورين المشغولين بأحكام طبائعهم الخبيثة ونفوسهم المتمردة يقولون كالطلبة ، لو أنا صادفنا المرشد الكامل ورأينا منه العلامة واضحة لكنا أول من يسلك بطريقتهم ويتمسك بأذيال حقيقتهم فقل لهم إن الشمس شمس ، وإن لم يرها الضرير والعسل عسل ، وإن لم يجد طعمه الممرور والطالب المستعد لا يقع في الأمنية ، ولا يضيع نقد عمره بخسارة بل يجتهد كل حين بما أمكن له من الطاعات ويكون في طريق الطلب فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
قال في "المثنوي" :
كركران وكرشتابنده بود
عاقبت جوينده يابنده بود
ثم هذا الاستعداد وانشراح الصدر في طريق الحق نور من الله تعالى يقذفه في قلب أيّ عبد شاء وليس بحداثة السن ولا بالشيخوخة وكم رأيت وسمعت من غلبه الحال في عنفوان عمره وعنوان أمره.
وعن بعض الصالحين قال : حججت سنة من السنين وكانت سنة كثيرة الحر والسموم فلما كان ذات يوم وقد توسطنا أرض الحجاز ، انقطعت عن الحاج وغفلت قليلاً فلم أشعر ليلاً إلا وأنا وحدي في البرية فلاح لي شخص أمامي فأسرعت إليه ولحقته ، وإذا به غلام أمرد لا نبات بعارضيه كأنه القمر المنير والشمس الضاحية وعليه أثر الدلال والترف ، فقلت له : السلام عليك يا غلام ، فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا إبراهيم فعجبت منه كل العجب ورابني أمره ، فلم أتمالك أن قلت له يا غلام سبحان الله من أين تعرفني ولم ترني قبلها؟ فقال لي : يا إبراهيم ما جهلت مذ عرفت ولا قطعت مذ وصلت ، فقلت : ما الذي أوقعك في هذه البرية في مثل هذه السنة الكثيرة الحر والقيظ؟ فأجابني يا إبراهيم ما آنس بسواه ولا رافقت غيره وأنا منقطع إليه بالكلية مقرّ له بالعبودية ، فقلت له : من أين المأكول والمشروب فقال لي : تكفل به المحبوب فقلت والله إني خائف عليك لأجل ما ذكرت لك فأجابني ودموعه تتحدر على خديه كاللؤلؤ الرطب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 86
فلو أجوع فذكر الله يشبعني
ولا أكون بحمد الله عطشانا
وإن ضعفت فوجد منه يحملني
من الحجاز إلى أقصى خراسانا
فقلت له : بالله عليك يا غلام إلا ما أعلمتني حقيقة عمرك؟ فقال اثنتا عشرة سنة ثم رجوته فدعا لي باللحوق إلى أصحابي فلما وقفنا بعرفة ودخلنا الحرم إذا أنا بالغلام وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يبكي ويناجي ثم وقع ساجداً ومات إلى رحمة الله تعالى ، ثم رأيته في المنام فقلت ما الذي فعل بك إلهك فقال أوقفني بين يديه وقال لي ما بغيتك فقلت إلهي وسيدي أنت بغيتي ، فقال لي :
87
أنت عبدي حقاً ولك عندي أن أحجب عنك ما تريد ، فقلت : أريد أن تشفعني في القرن الذي أنا فيه ، قال شفعتك فيه ثم إنه صافحني فاستيقظت بعد المصافحة فلم أر أحداً إلا ويقول لي يا إبراهيم لقد أزعجت الناس من طيب رائحة يدك.
قال بعض المحدثين : ولم تزل رائحة الطيب تخرج من يد إبراهيم حتى قضى نحبه رحمه الله رحمة واسعة.
{وَكَذالِكَ} أي : كما جعلنا لك عدواً كأبي جهل وغيره من كفار قريش {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ} قبلك {عَدُوًّا} وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث إن عداوتهم وما يبتنى عليها مما لا خير فيه من الأقاويل الكاذبة والأفاعيل الباطلة ليس مختصاً به عليه السلام بل كما ابتلى هو وأمته بكيد الأعداء ابتلى جميع الأنبياء وأممهم.
{شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} أي : مردة الفريقين على أن الإضافة بمعنى من البيانية وهو بدل من عدواً ، والشياطين جمع شيطان وهو يطلق عل كل عات متمرد من الإنس والجن والشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الأنس فأغراه على المؤمن ليفتنه.
(3/67)
وعن مالك بن دينار أنه قال : شياطين.
الإنس أشد عليّ من شياطين الجن وذلك أني إن تعوذت بالله من شياطين الجن ذهبت عني وشياطين الإنس تجيئني فتجرني إلى المعاصي عياناً {يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم وتحقيق وجه الشبه بين المشبه والمشبه به.
والوحي الكلام الخفي والقول السريع الذي يلقى سراً أي يلقى يوسوس شياطين الجن والأنس أو بعض الجن إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض.
{زُخْرُفَ الْقَوْلِ} أي : المموه منه المزين ظاهره والباطل باطنه يقال فلان زخرف كلامه إذا زينه بالكذب والباطل.
{غُرُورًا} مفعول له ليوحي أي ليغرّوهم.
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} عدم ما ذكر من العداوة والإيحاء.
{مَّا فَعَلُوهُ} أي ما ذكر فأعيد ضمير الواحد إلى الاثنين باعتباره.
{فَذَرْهُمْ} أي : إذا كان ما فعلوه في حقك بمشيئته تعالى فاتركهم.
{وَمَا يَفْتَرُونَ} وافتراءهم ، أي : كفرهم وسائر مكائدهم فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته تعالى على الحكم البالغة ألبتة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 86
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} إلى زخرف القول علة أخرى للإيحاء معطوفة على غروراً وإنما لم ينصب لفقد شرطه إذ الغرور فعل الموحي وإصغاء الأفئدة فعل الموحى إليه أي يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم به ولتميل إليه.
{أَفْـاِدَةُ} قلوب {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وأما المؤمنون بها فلا يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها.
{وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم.
{وَلِيَقْتَرِفُوا} أي : يكتسبوا بموجب ارتضائهم له.
{مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} له من القبائح التي لا يليق ذكرها وهي ما قضى عليهم في اللوح المحفوظ يقال اقترف فلان ذنباً إذا عمله ومالاً إذا اكتسبه.
وفي الآية : إشارة إلى أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا وأن أشد البلاء شماتة الأعداء فلما كانت رتبة الأنبياء أعلى كانت عداوة الكفار لهم أوفى وفي ذلك ترقيات لهم وتجليات.
قال الحافظ :
ه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكر نوبهار باز آيد
والإشارة في شيطان الإنس إلى النفس الأمارة بالسوء وهي أعدى الأعداء ولهذا قدم
88
ذكره على الجن ههنا بخلاف المواضع الأخر وليعلم أن عداوة النفس وأصحاب النفوس أشد وأصعب من عداوة شياطين الجن فإن كيد الشيطان مع كيد الإنسان ضعيف وأرباب القلوب لا يصغون إلى زخارف أقوال أصحاب النفوس بل كلما تشتد عداوة الأعداء يقوى إيمان الأولياء.
وفاكنيم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافريست رنجيدن
وإنما يتسلط الشيطان على ابن آدم بفضول النظر والكلام والطعام وبمخالطة الناس ومن اختلط فقد استمع إلى الأكاذيب.
وعن بعض الشيوخ : أن الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات من بعض أهله لما فاته من افتتانه إياه في الدنيا وإذا عرج بروح المؤمن إلى السماء قالت الملائكة سبحان الذي نجّى هذا العبد من الشيطان يا ويحه كيف نجا.
فعلى المؤمن أن يحترز من وساوسه وحديث نفسه أيضاً كيلا يفتضح عند الله وعند الناس فإنه روي أن الوسواس الخناس يخبر بما وقع في قلب ابن آدم وحدث به نفسه وإن لم يخبره لغيره كما حكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر امرأة في نفسه فجعل الناس يتحدثون به فيما بينهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 86
(3/68)
واعلم أن قرين المرء من الجنّ إذا أسلم سلم من شره ومن الجن قوم مؤمنون منتفعون بعلوم كل البشر محبون ـ ـ حكي ـ ـ عن إبراهيم الخواص قال : حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي مع أصحابي إذا عارضني عارض من سري يقتضي الخلوة وخروجاً عن الطريق الجادة فأخذت طريقاً غير الطريق الذي عليه الناس فمشيت ثلاثة أيام بليالهن ما خطر على سري ذكر طعام ولا شراب ولا حاجة فانتهيت إلى برية خضراء فيها من كل الثمرات والرياحين ، ورأيت في وسطها بحيرة فقلت كأنها الجنة وبقيت متعجباً فبينا أنا أتفكر إذا أنا بنفر قد أقبلوا سيماهم سيما الآدميين عليهم المرقعات الحسان فحفوا بي وسلموا عليّ ، فقلت : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فوقع في خاطري أنهم من الجن فقال قائل منهم قد اختلفنا في مسألة ونحن نفر من الجن قد سمعنا كلام الله تعالى من محمد صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن وسلبتنا نغمة كلامه جميع أمور الدنيا وقد عين الله لنا هذه البحيرة في هذه البرية قلت وكم بيننا وبين الموضع الذي تركت فيه أصحابي فتبسم بعضهم وقال يا أبا إسحاقعز وجل عجائب وأسرار الموضع الذي أنت فيه لم يحضره آدمي قبلك إلا شاب من أصحابهم توفي ههنا وذاك قبره ، أشار إلى قبر على شفير البحيرة حوله روضة ورياحين لم أر مثلها قبل ثم قال بينك وبين القوم الذين فارقتهم مسيرة كذا وكذا شهراً ، أو قال كذا وكذا سنة فقلت أخبروني عن الشاب ، فقال قائل منهم : بينما نحن قعود على شفير البحيرة نتذاكر المحبة إذ بشخص قد أقبل إلينا وسلم علينا فرددنا عليه السلام فقلنا له من أين أقبل الشاب قال من مدينة نيسابور قلنا له ومتى خرجت منها قال منذ سبعة أيام قلنا له وما الذي أزعجك على الخروج من وطنك قال سمعت قول الله تعالى : {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} (الزمر : 54) قلنا له ما معنى الإنابة وما معنى الإسلام وما معنى العذاب فقال الإنابة أن ترجع بك منك إليه والإسلام أن تسلم نفسك له وتعلم أنه أولى بك منك والعذاب الفرقة ثم صاح صيحة عظيمة فمات فواريناه ، وهذا قبره رضي الله عنه قال إبراهيم : فتعجبت مما وصفوا ثم دنوت من قبره وإذا عند
89
رأسه باقة نرجس ، كأنها رحى عظيمة وعلى قبره مكتوب هذا حبيب الله فتيل الغيرة وعلى ورقها مكتوب صفة الإنابة ، فقرأت ما هو على النرجس مكتوب فسألوني أن أفسره لهم ففسرته فوقع فيهم الطرب فلما أفاقوا وسكنوا قالوا قد كفينا جواب مسألتنا قال ووقع عليّ النوم فما انتبهت إلا وأنا قريب من مسجد عائشة رضي الله عنها وإذا في وعائي باقة ريحان فبقيت معي سنة كاملة لم تتغير فلما كان بعد فقدتها رضي الله عنه وعنهم وعن جميع الصالحين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 86
(3/69)
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر وغير مفعول أبتغي وحكماً حال وتقديم المفعول للإيذان بأن مدار الإنكار هو ابتغاء غيره حكماً لا مطلق الابتغاء والحكم أبلغ من الحاكم وأدل على الرسوخ لما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم ، وفي الكلام إرادة القول وإضماره ـ ـ روي ـ ـ أن مشركي مكة قالوا : يا محمد اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى يفصل بين المحق والمبطل فإنهم قرؤوا الكتب قبلك فأنزل الله هذه الآية وقال قل يا محمد أأميل عن الحق فأطلب غير الله تعالى حال كون ذلك الغير قاضياً بيني وبينكم.
{وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـابَ} الجملة حال من فاعل أبتغي ، أي : والحال أن الله تعالى هو الذي أنزل إليكم وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون القرآن الناطق بالحق والصواب.
{مُفَصَّلا} أي : مبيناً فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغننٍ عن غيره بيانه وتفصيله.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ} كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مبين أن الذين وثقوا بهم ورضوا بحكميتهم من علماء أهل الكتابين عالمون بحقية القرآن ، ونزوله من عند الله تعالى ، والمعنى وعلماء اليهود النصارى الذين فهمناهم التوراة والإنجيل يعلمون أن ذلك الكتاب أي القرآن منزل من ربك حال كونه ملتبساً.
{بِالْحَقِّ} والصدق وهو بالفارسي (براستى ودرستى) وهو متعلق بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكن في منزل.
{فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي : من الشاكين في أنهم يعلمون بحقية القرآن لما لا تشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآن ، وفي أنه منزل من ربك بالحق فيكون من باب التوبيخ والإلهاب أي الثبات على اليقين كقوله : {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (الأنعام : 35) فالفاء لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
ثم إنه تعالى لما بين كمال الكتاب المذكور من حيث إضافته إليه تعالى بكونه منزلاً منه بالحق بين أيضاً كماله من حيث ذاته فقال.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} عبر عن الكتاب أي القرآن بالكلمة لأنها الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها يظهر الآثار من الحكم {صِدْقًا وَعَدْلا} مصدران نصبا على الحال أي صادقة وعادلة ومعنى تمامها عبارة عن بلوغها الغاية في كونها كافية في بيان ما يحتاج إليه المكلفون إلى يوم القيامة علماً وعملاً وفي كونها صدقاً وعدلاً ، والمعنى أنها بلغت الغاية القاصية صدقاً في الأخبار والمواعيد كالخبر عن وجود ذات الله تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية ، وكالخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب
90
والعقاب ، وكالخبر عن أحوال المتقدمين وعن الغيوب المستقبلة وعدلاً في الأقضية والأحكام المتعلقة بالمكلفين من الجن والإنس كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر التكاليف الشرعية سواء كانت أمراً أو نهياً {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِهِ} لا أحد يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدق وأعدل ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى {وَهُوَ السَّمِيعُ} لكل ما يتعلق به السمع {الْعَلِيمُ} بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولاً أولياً.
ومحصول الآية : أن القرآن حكم الله تعالى وحجته الغالبة بين الناس فلا عدول عنه إلى غيره ؛ إذ لا يعدل عنه إلا المنكر سواء كان إنكاره عنادياً كالعالم بحقيته أو تكذيباً ، كالجاهل بها وأما المقر فهو له جذبة إلهية ينجذب بالعمل بما فيه إلى درجات العلم والعرفان ، وكمال الإيقان ؛ إذ هو كلمة حق وصدق والصدق يهدي إلى الجنة والقربة والوصلة ولا ترتفع التكليفات عن العبد وإن وصل إلى تجلي الذات ما دام في عالم الدنيا لا كما زعمه بعض الزاعمين ، وأما في عالم الآخرة فترتفع التكليفات فعبادة ذلك العالم التوحيد ليس إلا ، ولا بد من رعاية الشريعة في جميع المراتب فإن الكمال فيه ، وإلا فهو ناقص ولذلك ترى المجاذيب لا يخلون عن نقصان ألا يرى أن الأنبياء عليهم السلام لم يسمع عن واحد منهم عروض السفه والجنون فكامل العقل يحس صرير الباب وصوت الذباب في حال استغراقه.
ـ ـ حكي ـ ـ أن الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر قال يوماً لمريديه هل صدر مني شيء يخالف الشريعة قالوا لا فحمد الله تعالى وقال ما كنت ههنا منذ ثلاثين سنة والإنسان أشرف المخلوقات وأشرف الإنسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم ولذلك صار مظهراً للفرقان الكريم من المبتدأ القديم وهو الحكم الذي نصبه الله تعالى لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
(3/70)
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
ألا أي أحمد مرسل شود هر مشكل ازتوحل
كنم وصف ترا مجمل تويى سلطان هر مولى
شريعت ازتو روشن شد طريقت هم مبرهن شد
حقيقت خود معين شد زهى سلطان بى همتا
واعلم : أن هذه الآية متعلقة بمرتبة النفس وإصلاحها فإن ابتغاء حكم غير الله تعالى من هوى النفس فإصلاحها بالانقياد والتسليم وكل من له حظ من علم القرآن ظاهراً أو باطناً فهو وارث النبي عليه السلام بقدر حاله والحاكم هو عالم أمر الله لا الجاهل.
قال علي كرم الله وجهه "من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض".
وسألت ابنت عليّ البلخي أباها عن القيء إذا خرج إلى الحلق ، فقال : يجب إعادة الوضوء فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : لا يا علي حتى يكون ملء الفم ، فقال : علمت أن الفتوى تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فآليت على نفسي أن لا أفتي أبداً.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال : لا أعلم ، فقيل : ألا تستحيي وأنت فقيه العراقيين؟ قال : ولم لا أستحيي مما لا تستحيي منه الملائكة حيث قالت : {لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} (البقرة : 32) فعلى العامة أن يرجوا في الأمور الظاهرة إلى أعلم البلدة أو العصر بقدر الإمكان وعلى الخاصة أن يستفتوا في الأحوال الباطنة من الأعرف ، وإن كان أمياً لا يعرف اصطلاحات العلماء ؛ إذ له حكمة معنوية تغني عن الاصطلاحات ، وهو الذي يليق بأن يسمى حكيماً وقد اتفق أهل الله تعالى على أن العبد إذا وصل إلى الله فالله تعالى يعلمه ويلهمه فيميز بين الحق والباطل ولا
91
يكون ما يتكلمه خارجاً عن الشريعة وإليه يشير قول من قال ما اتخذ الله من ولي جاهل ولو اتخذه لعلمه وكما أن الأصحاب ما خرجوا عن حكم النبي عليه السلام كما قال تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء : 65) وقال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُه أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب : 36) كذلك أهل الإرادة ما خرجوا عن أمر المرشد الكامل ؛ إذ الحكم وإن كانتعالى في الحقيقة كما نطقت به الآية إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو خليفة الله تعالى وكذا من ورثه قولاً وحالاً.
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرْضِ} وذلك أن أهل مكة كانوا يستحلون أكل الميتة ويدعون المسلمين إلى أكلها وكانوا يقولون إنما ذلك ذبح الله فهو أحل مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى إن تطع الكفار يا محمد لأنهم أكثر من في الأرض {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي : دينه وشريعته كأنه قيل كيف يضلون فقيل : {إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون في أمور دينهم ومجادلتهم لك في أمر الميتة.
{إِلا الظَّنَّ} وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون ، فيضلون ضلالاً مبيناً ولا ريب أن الضال المتصدي للإرشاد إنما يرشد غيره إلى مسلك نفسه فهم ضالون مضلون فإن سبيل الحق لا يسلك بالظن والتقليد والهوى وإنما يسلك بالصدق والتحقيق والهدى.
{وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي : ما هم إلا يكذبون على الله تعالى في تحليل الميتة وغيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} بعلم {مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فيجازي كلاً منهم بما يستحقون فاحذر أن تكون من الفريق الأول.
قال الحدادي : وإنما قال : اعلم ؛ لأن الله يعلم الشيء من كل جهاته وغيره يعلم الشيء من بعض جهاته.
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـاَايَـاتِه مُؤْمِنِينَ} مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام.
والمعنى كلوا أيها المؤمنون مما ذكر اسم الله تعالى خاصة على ذبحه ، لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسم الله تعالى أو مات حتف أنفه فإن الإيمان بالآيات القرآنية يقتضي استباحة ما أحله الله والاجتناب عما حرمه.
{وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وأي : سبب حاصل لكم في أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.
(3/71)
قال الإمام : إن المشركين كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه وإنما النزاع في أنهم أيضاً كانوا يبيحون أكل الميتة ، والمسلمون كانوا يحرمونها ، وإذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثاً ؛ لأنه يقتضي إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه ، فأجاب بأن معنى كلوا اجعلوا أكلكم مقصوراً على ماذكر اسم الله عليه ومعنى أن لا تأكلوا أن لا تجعلوا أكلكم مقصوراً عليه فيفيد تحريم أكل الميتة فقط.
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} أي : والحال إنه تعالى قد بيّن لكم.
{مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} مما لم يحرمه بقوله تعالى في هذه السورة {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} (الأنعام : 145) الآية.
فبقي ما عدا ذلك على الحل لا بقوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} (المائدة : 3) الآية.
لأنها مدنية وهذه السورة مكية.
فإن قلت قوله تعالى : {قُل لا أَجِدُ} (الأنعام : 145) الآية.
مذكور بعده هذه الآية وصيغة فصل تقتضي التقدم.
قلت : إن التأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النزول ، ويجوز أن يحمل على التفصيل بالوحي
92
الغير المتلو كما ذهب إليه سعدي لبي المفتي وجعله أولى عنده.
{إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة فالاستثناء متصل والمستثنى منه ما حرم ، وما مصدرية بمعنى المدة ، أي : وقد فصل لكم الأشياء التي حرمت عليكم في جميع الأوقات إلا وقت الاضطرار إليها وإن جعلت موصولة تعين أن يكون الاستثناء منقطعاً ؛ لأن ما اضطر إليه حلال فلا يدخل تحت ما حرم عليهم.
{وَإِنَّ كَثِيرًا} من الكفار {لَّيُضِلُّونَ} الناس {بِأَهْوَآئِهِم} بما تهواه أنفسهم من تحليل الميتة وغيرها {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقتبس من الشريعة الشريفة مستند إلى الوحي.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
اعلم : أن أهل الهوى على أنواع فالمعتزلة والشيعة ونحوهما من أهل القبلة أهل هوى لأنهم يخالفون أهل السنة والجماعة بتأويل الكتاب والسنة على حسب هواهم ، فيضلون الناس بهواهم كما يضل الكفار وأهل الشرك ، وأما أخذ الإشارات من الآيات والأحاديث على وجه يطابق الشرع الشريف فذلك ليس بهوى بل هو عرفان محض.
قال في "المثنوي" :
تو زقرآن اي سر ظاهر مبين
دو آدم را نبييند جزكه طين
ظاهر قرآن وشخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
فالتقليد لأصحاب الإشارات ليس كالتقليد لأصحاب الضلالات ؛ لأنهم بنوا أمرهم على العيان واليقين لا على الظن والتخمين ، وكذا أهل الدنيا أهل هوى بالنسبة إلى أهل العقبى فإن الكون كله خيال وتابع الخيال لا يعد من العقلاء والرجال.
وعن بهلول رحمه الله قال : بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع البصرة ؛ إذ الصبيان يلعبون بالجوز واللوز ، وإذا أنا بصبي ينظر إليهم ويبكي ، فقلت : هذا صبي يتحسر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه ، فيلعب به ، فقلت له : أي بني ما يبكيك أأشترِ لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؟ فرفع بصره إليّ ، وقال : يا قليل العقل ما للعب خلقنا ، فقلت : أي بني فلماذا خلقنا؟ فقال : للعلم والعبادة فقلت من أين لك ذلك بارك الله فيك قال من قول الله عز وجل : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون : 115) وكذا أهل العقبى أهل هوى بالنسبة إلى أهل المولى فأهل المولى تجردوا عن تعلق الكونين وتجاوزوا عن اعتبار الوصل والبين وما نزلوا إلى شيء غيره.
قال صاحب "المحمدية" :
سالكان دركهت را هردو عالم يك نفس
والهان حضرتت را ازحور جنت ملال
وقد حرم الله الدنيا على أهل الآخرة والآخرة على أهل الدنيا وحرم كلاً منهما على أهل الله تعالى لكن من تناول من الدنيا قدر ما يسد به جوعته ويستر به عورته فإنه ليس من أهل الدنيا لأن ذلك من الضرورات البشرية وفيه إذن الله تعالى لمحافظة الدائرة البدنة التي هي الأس.
والإشارة في قوله تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـاَايَـاتِه مُؤْمِنِينَ} يعني : إن من أمارات الإيمان أن تأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع وتذيبوه بذكر الله كما قال عليه السلام : "أذيبوا طعامكم بذكر الله" فإن الأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان ، والحرمان من الجنان ، وفي هذا الحديث إشارة إلى مشروعية
93
الجهر ؛ إذ ذوبان الطعام في صورة الجهر أظهر ، ويدل عليه ما ورد أيضاً من الركعتين بعد الطعام أو من تلاوة عشر آيات من القرآن ؛ إذ الحركة البدنية تفضي إلى استمراء الطعام وانهضامه الذي به تحصل قوة البدن وبقوة البدن يقوى المرء على العبادة ، وفي العبادة بعد الطعام شكر للنعمة والشكر إما بالقلب أو باللسان أو بالأعضاء والجوارح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
(3/72)
{وَذَرُوا} أي : اتركوا أيها المؤمنون {ظَـاهِرَ الاثْمِ وَبَاطِنَه} من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : الإثم الظاهر والإثم الباطن والمراد بالإثم ما يوجب الإثم وهو المعاصي كلها ؛ لأنها لا تخلو من هذين الوجهين فيدخل فيه ما يعلن وما يسر سواء كان من أعمال القلوب أو الجوارح ، فأعمال الجوارح ظاهرة كالأقوال والأفعال وأعمال القلوب باطنة كالعقائد الفاسدة والعزائم الباطلة ، وحقيقة ظاهر الإثم طلب نعم الدنيا وباطنه الميل إلى نعم العقبى لأن كلاً منهما يصير سبباً للبعد عن حضرة المولى.
ظاهر وباطن خود اك كن ازلوث كناه
تاكه اكيزه شوى درصف مردان اله
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ} أي : يعملون المعصية ظاهراً وباطناً {سَيُجْزَوْنَ} سيعاقبون في الآخرة {بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} أي : يكسبون في الدنيا كائناً ما كان فلا بد من اجتنابهما.
جمله دانند اين اكر تونكروى
هره ميكاريش روزي بد روى
والإشارة أن الله تعالى كما خلق للإنسان ظاهراً هو بدن جسماني وباطناً هو قلب روحاني فكذلك جعل للإثم ظاهراً هو كل قول وفعل موافق للطبع مخالف للشرع وباطناً هو كل خلق حيواني وسبعي وشيطاني جبلت النفس عليه.
{وَذَرُوا ظَـاهِرَ الاثْمِ وَبَاطِنَه} أي : اتركوا الأعمال الطبيعية باستعمال الأعمال الشرعية واتركوا الأخلاق الذميمة النفسانية بالتخلق بالأخلاق الملكية الروحانية.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ} ظاهره وباطنه بالأفعال والأخلاق.
{سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} وآجلاً أما عاجلاً فلكل فعل وقول طبيعي ظلمة تصدأ مرآة القلب بها فيخرف مزاج الأخلاق القلبية الروحانية ، ويتقوى مزاج الأخلاق النفسانية الظلمانية وبه يغلب الهوى ويميل إلى الدنيا وشهواتها ، فبإظهار كل خلق منها على وفق الهوى يزيد ريناً وقسوة في القلب فيحتجب به عن الله تعالى كما قال تعالى : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين : 14) وأما آجلاً فبهذه الموانع والحجب ينقطع العبد عن الله ويبقى محجوباً معذباً في النار خالداً مخلداً كما قال تعالى : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين : 15) كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
اعلم : أن العصاة كلهم في خطر المشيئة بل الطائعون لا يدرون بماذا يختم لهم فيا أيها العاصي لا تغتر فإن العناية لا تحصل لكل عاص ولا تدري أنك ممن أراد الله تعالى عفوه فإن المعفو من أول الأمر وقع قليلاً ـ ـ كما حكي ـ ـ عن مالك بن دينار قال : رأيت بالبصرة قوماً يحملون جنازة وليس معه أحد ممن يشيع الجنازة فسألتهم عنه قالوا هذا رجل من كبار المذنبين قال : فصليت عليه وأنزلته في قبره ، ثم انصرفت إلى الظل فنمت فرأيت ملكين قد نزلا من السماء فشقا قبره ، ونزل أحدهما إليه ، وقال لصاحبه : اكتبه من أهل النار فما فيه جارحة سلمت من المعاصي والأوزار فقال له صاحبه يا أخي لا تعجل عليه اختبر عينيه قال : قد اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بالنظر إلى محارم الله قال : فاختبر سمعه قال قد اختبرته فوجدته
مملوءاً بسماع الفواحش والمنكرات قال : فاختبر لسانه قال : قد اختبرته فوجدته
94
مملوءاً بالخوض في المحظورات وارتكاب المحرمات قال : فاختبر يديه قال : اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بتناول الحرام وما لا يحل من الشهوات واللذات قال : فاختبر رجليه قال : قد اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بالسعي في النجاسات والأمور المذمومات قال : يا أخي لا تعجل عليه ودعني أنزل إليه فنزل إليه الملك الثاني وأقام عنده ساعة وقال : يا أخي قد اختبرت قلبه فوجدته مملوءاً إيماناً فاكتبه مرحوماً سعيداً ففضل الله تعالى يستغرق ما عليه من الذنوب والخطايا.
قال السعدي قدس سره :
عروسي بود نوبت ما تمت
كرت نيك روزي بود خاتمت
يعني : يوم وفاتك يكون يوم فرح وسرور إن كنت ممن قبض على الإيمان تسأل الله عفوه ورجاه.
الهي بحق بني فاطمة
كه برقول ايمان كنم خاتمه
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي : عمداً إذ الناسي حال نسيانه لا يكون مكلفاً وذكر الله تعالى في قلب كل مؤمن ، وأما العامد فلأنه لما ترك التسمية عمداً فكأنه نفى ما في قلبه ويدخل فيه الميتة لأنها مما لم يذكر اسم الله عليه وكذا ما ذبح على اسم غيره تعالى.
{وَأَنَّهُ} أي الأكل منه أو عدم ذكر التسمية.
{لَفِسْقٌ} أي : خروج لما لا يحل فإن من ترك التسمية عامداً حال الذبح لا يحل أكل ذبيحته عند الإمام الأعظم.
(3/73)
واعلم : أن المشركين جادلوا المسلمين ، فقالوا : أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله؟ فأنزل الله الآية وأجاب بجواب أعم وبنى الحرمة على وصف يشمل الكل وهو ترك الذكر.
{وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ} أي : إبليس وجنوده.
{لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآاـاِهِمْ} أي : يوسوسون إلى المشركين ، والوحي : إلقاء المعنى إلى النفس مع الخفية.
{لِيُجَـادِلُوكُمْ} أيها المؤمنون في تحليل الميتة بالوساوس الشيطانية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ضرورة إن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك به تعالى بل آثره عليه سبحانه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
والإشارة : لا تأكلوا طعاماً إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته وإن ظلمة الطعام وشهوته مؤدية إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الظلمة النفسانية وفي الحديث : "إن الشيطان يستحل الطعام إلا بذكر اسم الله عليه" أي : لأنه لا يذكر اسم الله عليه بعد الشروع وما لم يشرع فيه أحد لايتمكن الشيطان من استحلاله.
وفيه إشارة : إلى أنه إن سمى واحد من الآكلين حصل أصل السنة ، ومن نسى التسمية في أول الطعام فإنه يقول : حين يذكر بسم الله أوله وآخره ، فإذا قال ذلك ، فقد تدارك تقصيره وهذا بخلاف الوضوء ، فإن التسمية سنة في أوله بحيث لو نسيها في أوله ثم تذكر في وسطه لم يكن هذا تداركاً لسنة التسمية ، وذلك لأن الوضوء كله عمل واحد بخلاف الأكل فإن كل لقمة أكلة ، وكان رجل يأكل فلم يسم حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال بسم الله أوله وآخره فضحك النبي عليه السلام ثم قال : "ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله تعالى استقاء ما في ما بطنه" وهذا الحديث يدل على أن الشيطان يأكل بمضغ وبلع كما ذهب إليه قوم وقال آخرون أكل الشيطان صحيح لكنه تشمم واسترواح وإنما المضغ والبلع لذوي الجثث والشياطين أجسام رقاق.
قال في "آكام المرجان" : كل ما لم يسم عليه من طعام أو شراب أو لباس أو غير ذلك مما ينتفع به فللشيطان
95
تصرف واستعمال إما بإتلاف عينه كالطعام وإما مع بقاء عينه.
قال ثعلبة بن سهيل : كنت أصنع شراباً لي أشربه في السحر ، فإذا جاء السحر جئت فلا أجد شيئاً فوضعت شراباً آخر وقرأت عليه يس ، فلما كان السحر جئت فإذا الشراب على حاله ، وإذا شيطان أعمى يدور حول البيت وفي الحديث : "إن الشيطان حساس لحاس فاحذروه على أنفسكم ، من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شيء فلا يلومنّ إلا نفسه" قال بعض أرباب الإشارة : إنما حرم أكل ما لم يذكر اسمه عليه لأن العارف حبيب الله والحبيب لا يذبح ولا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفرش ولا يفعل شيئاً إلا باسم حبيب ، ألا ترى أن يعقوب عليه السلام كان يقول في جميع أحواله يوسف ، وإنما وجبت التسمية عند الذبائح ؛ لأن مرارة النزع شديدة وذكر اسم الله تعالى أحلى من كل شيء ، فأمرنا بالتسمية عند الذبائح كي تسمع الشاة ذكر الله عند الموت فلا تشتد مرارة النزع مع حلاوة اسم الله ، ولذلك قال عليه السلام : "لقنوا موتاكم بشهادة أن لا إله إلا الله يسهل عليكم سكرات الموت" فلما كان الإحياء والإماتة من الله تعالى وحده ، لم يجز أن يذبح باسم غيره تعالى "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أكل ما ذبح للجن وعلى اسمها" واستنبط بعض الخلفاء عيناً وأراد إجراءها وذبح للجن عليها لئلا يغور ماؤها ، فأطعم ذلك ناساً فبلغ ذلك ابن شهاب فقال : أما إنه قد ذبح ما لم يحل له وأطعم الناس ما لا يحل لهم وكان من عادة الجاهلية قبل الإسلام تزيين جارية حسناء وإلباسها أحسن ثيابها وإلقاءها في النيل ، حتى يطلع ثم قطع تلك السنة الجاهلية على يدي من أخاف الجن وقمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهكذا هذه العين ، لو حفرها رجل عمري لم يذبح لهم عصفوراً فما فوقه ولكن لكل زمان رجال فلو داوم إنسان على اسم الله لا تحرقه النار ، ولا تغرقه البحار ولا تنهشه الحياة ، ولا تضره السموم ، لأن كل مضر خلق مخوفاً لمن يخاف الله فإذا خاف العبد من الله بكماله فله التسخير والتأثير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
توهم كردن از حكم داور مي
ه كردن نيد زحكم توهي
محالست ون دست دارد ترا
كه در دست دشمن كذارد ترا
وقد ظهر لك من هذا كله أن إحراق البخور ، وإلقاء ماء الورد ، ورشه وذبح شيء من مكان يتوهم فيه الجن ، كله شرك يجب أن يحترز عنه ، وكذا من ذبح دجاجة لتصويتها مثل الديك أو ذبح ديكاً لتصويته قبل الوقت وهو السحر وألقاها في مكان فقد ذبح ذلك للجن في اعتقاده ؛ لأنه أراد به صيانة نفسه وأهله وأولاده وماله من إصابة الجن والبلاء ، ولو كانتعالى لأكلها بل لو كان مخلصاً لما فعل مثل هذا.
(3/74)
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا} ـ ـ روي ـ ـ عن ابن عباس أن أبا جهل رمى النبي عليه السلام بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من الصيد بيده قوس وكان يومئذٍ لم يؤمن بعد فلقي أبا جهل فضرب رأسه بالقوس ، فقال أبو جهل : أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا فقال حمزة : وأنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله تعالى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت هذه الآيات ، والهمزة للإنكار والنفي والواو لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام ، أي : أنتم أيها المؤمنون مثل المشركين ومن كان ميتاً.
{فَأَحْيَيْنَـاهُ} أعطيناه الحياة وما يتبعها من القوى المدركة
96
والمتحركة {وَجَعَلْنَا لَهُ} مع ذلك من الخارج {نُورًا} عظيماً.
{يَمْشِي بِهِ} أي : بسببه {فِى النَّاسِ} أي : فيما بينهم آمنا من جهتهم.
{كَمَن مَّثَلُهُ} أي صفته العجيبة {فِى الظُّلُمَـاتِ} خبر مبتدأ محذوف ، أي هو في الظلمات {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} بحال وهو حال من المستكن في الظرف فمن الأولى موصولة مبتدأة وكمن خبرها وهي أيضاً موصولة صلتها الجملة الاسمية الواقعة بعدها ، فالأولى تمثيل لمن هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات ، يتأمل بها في الأشياء فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل كحمزة رضي الله عنه والثانية تمثيل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها أصلاً كأبي جهل.
{كَذَالِكَ} أي : كما زين للمؤمن من إيمانه.
{زُيِّنَ} أي : من جهة الله تعالى بطريق الخلق أو من جهة الشيطان بطريق الوسوسة.
{لِلْكَـافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي وبهذا التزيين بقوا في ظلمات الكفر والضلالة ، ولم يهتدوا إلى نور الإيمان والهداية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
قال أرباب الحقيقة : الموت بهوى النفس والحياة بمحبة الحق ، وأيضاً الموت بالنكرة والحياة بالمعرفة وفرق بين حياة المعرفة وحياة البشرية ، فأهل العموم حي بحياة البشرية لكنه كالميت في قبر قالبه لا يمكنه الخروج من ظلمات وجوده المجازي ، وأهل الخصوص حي بحياة المعرفة فحياة البشرية تزول لقوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185) بخلاف حياة المعرفة لقوله تعالى : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} (النحل : 97) وقوله عليه السلام : "المؤمن حيّ في الدارين".
نميرد هر كرا جانش توباشي
خوشا جانى كه جانانش توباشى
قال الحافظ :
هركز نميزد آنكه دلش زنده شد بعشق
ثبت است بر جريده عالم دوام ما
وفي "التفسير الفارسي" : (شاه كرمان اين آيت برخواندكه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} كفت نشان اين آيت سه يزاست ازخلق عزلت وباحق دعوت ودوام ذكر برزبان ودل وبزركي اين معنى را نظم فرموده).
برورى خلائق در صحبت مكشاى
مى باش بكلى متوجه بخداي
غافل مشو اذوق دل وذكر زبان
تازنده جاويد شوى دردو سراي
واعلم : أن الحي الحقيقي الذي ما كان ميتاً ولا يموت أبداً هو الله تعالى وما سواه فهو ميت لأنه كان ميتاً في العدم وسيموت أيضاً قال الحافظ :
من هماندم كه وضو ساختم ازشمه عشق
ار تكبير زدم يكسره تر هره كه هست
يعنيشاهدت جيمع الخلق موتى بسبب الوصول إلى مقام العشق والفناء.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : من شهد الخلق لا فعل لهم فاز ، ومن شهدهم لا حياة لهم فقد فاز ، ومن شهدهم عين العدم فقد وصل.
وعن عبد الواحد بن زيد رحمه الله قال : مررت براهب فسألته منذ كم أنت في هذا الموضع؟ فقال : منذ أربع وعشرين سنة ، قلت : من أنيسك؟ قال : الفرد الصمد ، قلت : ومن المخلوقين؟ قال : الوحش فسألته وما طعامك؟ قال : ذكر الله تعالى ، قلت : ومن المأكولات؟ قال : ثمار هذه الأشجار ونبات الأرض ، قلت : أفلا تشتاق إلى أحد؟ قال : نعم إلى حبيب قلوب
97
العارفين ، قلت : ومن المخلوقين قال من كان شوقه إلى الله تعالى سبحان كيف يشتاق إلى غيره؟ قلت : فلِمَ اعتزلت عن الخلق؟ قال : لأنهم سراق العقول وقطاع طريق الهدى ، قلت : ومتى يعرف العبد طريق الهدى؟ قال : إذا هرب إلى ربه من كل شيء سواه واشتغل بذكره عن ذكر ما سواه ، ولكل سالك خطوة في السلوك إلى ملك الملوك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
(3/75)
ـ ـ كما حكي ـ ـ أيضاً عن الشيخ عبد الواحد بن زيد قال : قصدت بيت المقدس فضلت الطريق فإذا بامرأة أقبلت إليّ ، فقلت لها : يا غريبة أنت ضالة؟ فقالت : كيف يكون غريباً من يعرفه وكيف يكون ضالاً من يحبه؟ ثم قالت : خذ رأس عصاي وتقدم بين يدي فأخذت رأس عصاها وتقدمت بين يديها ست أقدام أو أقل أو أكثر ، فإذا أنا بمسجد بيت المقدس فدلكت عيني وقلت لعل هذا غلط مني ، فقالت : يا هذا سيرك سير الزاهدين وسيري سير العارفين فالزاهد سيار ، والعارف طيار ، ومتى يلحق السيار بالطيار ، ثم غابت عني فلم أرها بعد ذلك ، فظهر من هذه الحكاية أن للعارف نوراً يمشي به إلى حيث شاء ، والجاهل يبقى في وادي الحيرة ولا يجد سبيلاً إلا بتوفيق الله تعالى وهدايته ، فكما أن الأعمى والبصير ليسا على سواء ، فكذلك البصير الجاهل والعالم سواء كان جهله وعلمه في مرتبة الشريعة أو الطريقة ، أو المعرفة أو الحقيقة فالله تعالى باين بين أهل الحال ، كما باين بين أهل المقام وعظم النور وسعته بالنسبة إلى فسحة القلب ومعرفته فالقلب بيد الله تعالى يقلبه كيف يشاء ، ولذلك زين لأهل الإيمان وجوه الخير والطاعات وزين لأهل الكفر صنوف الشر والسيئات لكن العباد ليسوا بمجبورين فلهم اختيار في الخروج من الظلمات ، فإذا لم يصرفوا استعدادتهم إلى ما خلقوا لأجله بقوا في ظلمات الطبيعة والنفس هذا هو الكلام بالنسبة إلى ظاهر الحال ، وأما إن نظرت إلى إسناد الإحياء والجعل في الآية المذكورة إلى الله تعالى فمقتضى التوحيد أن الكل بيد الله ، ولا تأثير إلا من عند الله فإن وجدت خيراً فلحمد الله كثيراً فقد سبقت لك العناية وساعدك التوفيق فرب تقليد يوصل إلى التحقيق والله الهادي.
{وَكَذالِكَ} أي كما صيرنا في مكة فسّاقها أكابر.
{جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} متعلق بالفعل {أَكَـابِرَ} مفعول ثان جمع أكبر بمعنى عظيم.
{مُجْرِمِيهَا} مفعول أول جمع مجرم.
بالفارسية (كنهكار) {لِيَمْكُرُوا فِيهَا} أي : ليفعلوا المكر في تلك القرية لأنهم لأجل رياستهم أقدر على المكر والغدر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم وكان صناديد قريش ومجرموها أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم يقولون لكل من تقدم إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
قال البغوي : وذلك سنة الله تعالى أن جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} (الشعراء : 111) وجعل فساقهم أكابرها ليمكروا فيها والمكر السعي بالفساد في خفية ومداجاة والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ} لأن وباله عليهم.
{وَمَآ} والحال إنهم لا {يَشْعُرُونَ} بذلك أصلاً بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم.
{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ} لما بيّن أن فساق كل قرية يكونون رؤساءها المتميزين بكثرة المال والجاه بّين ما كان من رؤساء مكة من الجرم والفسق وهو أنه إذا جاءتهم {ءَايَةً} دالة على صحة النبوة
98
{قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ} من الوحي والكتاب لما روي أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فأرادوا أي قوم مكة أن تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلتا لمحمد عليه السلام وأن يكونوا متبوعين لا تابعين.
قال صاحب "التيسير" : وهذه غاية السفه أن يقال لرجل آمن فيقول لا أومن حتى يجعلني الله نبياً.
قال الامام الثعلبي : المراد برسل الله هو حضرة النبي عليه السلام كما أنه المخاطب في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ} (المؤمنون : 51) وصيغة الجمع للتعظيم.
وفي "شرح التعرف" : إن الله تعالى لم يجمع شمائل جميع الأنبياء إلا في النبي صلى الله عليه وسلّم خاطبه بقوله : يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ} من كل شيء يعلم {حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي الموضع الصالح لوضعها فيه ويضعها وهؤلاء ليسوا أهلالها لأن الأهلية بالفضائل النفسانية لا بالنسب والمال فحيث نصب على المفعولية بيعلم المقدر توسعاً.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} أي : يصيبهم البتة مكان ما تمنوه من عز النبوة وشرف الرسالة.
{صَغَارٌ} أي ذلة وحقارة بعد كبرهم {عِندَ اللَّهِ} أي : يوم القيامة فهو منصوب بقوله سيصيب مجاز عن حشرهم يوم القيامة {وَعَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} أي : بسبب مكرهم المستمر وحيث كان هذا من معظم مواد إجرامهم صرح بسببيته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
(3/76)
واعلم : أن النبوة اختصاص إلهي عطائي غير كسبي ، كالسلطنة فلا ينالها المجاهد وإن أتى بجميع الشرائط والأسباب وكذا الولاية لكنها كالوزارة فيجوز أن ينالها بعض المجاهدين فليس كل مجاهد واصلاً وقد يكون الوصول بدون المجاهدة أيضاً إذا كمل الاستعداد وسبقت العناية ـ ـ كما روي ـ ـ عن بعض شيوخ اليمن أنه خرج يوماً من زبيد إلى نحو الساحل المعروف بالأهواز ، ومعه تلميذ له فمر في طريقه على قصب ذرة كبار ، فقال للتلميذ : خذ معك من هذا القصب ففعل المريد وتعجب في نفسه ، وقال ما مراد الشيخ بهذا ، ولم يقل له الشيخ شيئاً حتى إذا بلغ إلى محلة لعبيد يقال لهم السناكم ، يأكلون الميتات ويشربون المسكرات ، ولا يعرفون الصلوات وإذا بهم يشربون ويلعبون ويلهون ويطربون ويغنون ويضربون ، فقال الشيخ للتلميذ : ائتني بهذا الشيخ الطويل الذي يضرب الطبل ، فأتاه التلميذ ، فقال له : أجب الشيخ فرمى الطبل من رقبته ومشى معه إلى الشيخ فلما وقف بين يديه ، قال الشيخ للتلميذ : اضربه فضربه حتى استوفى منه الحد ، ثم قال له الشيخ : امش قدامنا فمشى حتى بلغوا البحر فأمره الشيخ أن يغسل ثيابه ويغتسل وعلمه كيفية ذلك ، وكيفية الوضوء ففعل ثم علمه كيف يصلي وتقدم الشيخ فصلى بهما الظهر ، فلما فرغوا من الصلاة قام الشيخ ووضع سجادته على البحر ، وقال له تقدم فقام ووضع قدميه على السجادة ومشى على الماء حتى غاب عن العين فالتفت التلميذ إلى الشيخ ، وقال وامصيبتاه واحسرتاه لي معك كذا وكذا سنة ما حصل لي من هذا شيء.
وهذا في ساعة واحدة حصل له هذا المقام وهذه
99
الكرامات العظام فبكى الشيخ ، قال : يا ولدي وايش كنت أنا هذا فعل الله تعالى ، قيل لي فلان من الأبدال توفي فأقم فلاناً مقامه فامتثلت الأمر كما يمتثل الخدام ، وودت أنه حصل لي هذا المقام فظهر أن الله تعالى أعلم حيث يجعل ولايته أيضاً قال الحافظ :
ون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست
آن به كه كارخود بعنايت رها كنند
والإشارة {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَـابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} أن القرية هي القالب.
وأكابر مجرميها ، أي : مفسدي حسن الاستعداد بقبول الشقاوة هي النفس والهوى والشيطان يمكرون فيها بمخالفات الشرع وموافقات الطبع.
{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ} لأن فساد استعدادهم عائد إلى أنفسهم بحصول الشقاوة وفوات السعادة.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} ولا شعور لهم على ما يفعلون بأنفسهم وإن مرجعهم إلى النار.
{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ} أي : النفس والهوى والشيطان من دأبهم أن لا يؤمنوا برؤية الآيات إذ جبلوا على التمرد والإباء والإنكار ولسان حالهم يقول لن نؤمن.
{حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ} أي : القلب والسر والروح لأنهم مهبط أسرار الحق وإلهاماته.
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} يخص بها القلب والسر والروح ونفساً تطمئن بذكر الله فتستحق رسالة ارجعي إلى ربك.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} يعني : أصحاب النفس الأمارة بالسوء لهم ذلة البعد من عند الله.
{وَعَذَابٌ شَدِيدُ} وهو عذاب الفرقة والانقطاع {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} أي : بما أفسدوا استعداد الوصلة وهو جزاء مكرهم وكيدهم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 95
{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ} معناه بالفارسية (س هركرا خواهد خداى).
{أَن يَهْدِيَهُ} أي : يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان.
{يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} فيتسع له وينفسح وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة بحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه ، فالمعنى : من أراد الله منه الإيمان قوى صوارفه عن الكفر ودواعيه إلى الإيمان وجعل قلبه قابلاً لحلول الإيمان مهيئاً لتحليه به صافياً خالياً عما ينافيه ويمنعه ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر فقال : "نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح" فقالوا هل لذلك أمارة يعرف بها فقال : "نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله".
واعلم أن العلم علمان : علم المعاملة ، وعلم المكاشفة ، فالأول : هو العلم بما يقرب إليه تعالى وما يبعد عنه وهو مقدم على الثاني ، الذي هو نور يظهر في القلب فيشاهد به الغيب لأنه الشرط له قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69) ولا ينفك عنه لأن الحديث المذكور صرح بأن الإنابة والتجافي والاستعداد التي هي من علم المعاملة علامة ذلك النور وفي فضل المكاشفة ورد قوله عليه السلام : "فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي" ؛ إذ غير المكاشفة تبع للعمل لثبوته شرطاً له.
(3/77)
قال في "التأويلات النجمية" : كلما كان الحجاب أرقّ كان الإيمان أقوى والقلب أنور وأصفى إلى أن يصير الإيمان إيقاناً لكمال رقة الحجاب وتنور القلب إلى أن يصير الإيقان عياناً عند رفع الحجاب وتجلي الحق بصفة جماله إلى أن يصير العيان عيناً بتجلي صفة جلاله.
{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي : يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه {يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا} بالفارسية (تنك) {حَرَجًا} بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان أي من أراد الله منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان
100
وقوى دواعيه إلى الكفر ، والحرج : بالفتح مصدر وصف به مبالغة وبالكسر اسم الفاعل وهو المتزايد في الضيق فهو أخص من الأول فكل حرج ضيق من غير عكس قيل الحرج موضع الشجر الملتف ، يعني : أن قلب الكافر لا يصل إليه الإيمان كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف فيه الشجر {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 100
قال الإمام : في كيفية هذا التشبيه وجهان : الأول : كما أن الإنسان إذا كلف الصعود إلى السماء نقل ذلك التكليف عليه عظم وقعه عليه وقويت نفرته منه فكذلك الكافر يثقل عليه الإيمان وتعظم نفرته منه ، والثاني : أن يكون التقدير إن قلبه يتباعد عن الإسلام ويتباعد عن قبول الإيمان فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء انتهى.
كما قال الكاشفي في "تفسيره الفارسي" (كويى بالا ميرود درآسمان يعني ميكريزد از قبول حق ميخواهدكه بآسمان رود).
واعلم : أن القلوب متفاوتة.
فمنها ما يشق عليه الإيمان وهي قلوب الكفرة.
ومنها ما يشق عليه الذوق والوجدان وهي قلوب أهل النقصان من أهل الإيمان فإن بعض الناس منهم من يتباعد عن الكلمات العرفانية بل ينكر أحوال أصحاب الفضائل النفسانية ، وهذا لأن من انهمك في الصفات الحيوانة وحكم عليه الصفات السبعية والشيطانية لا يسوغ له الشرب من المشارب الروحانية ، ولذا يوصى بكتم ما يتعلق بالأسرار عن الأغيار.
را صدف نكند اك سينه را صائب
درين زمانه كه جوهر شناس نايابست
{كَذَالِكَ} أي : مثل الجعل المذكور {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} أي العذاب والخذلان أو اللعنة أو الشيطان أي يسلطه.
{عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أي عليهم فوضع الظاهر موضع المضمر للإشعار بأن جعله تعالى معلل بما في حيز الصلة من كمال نبوهم عن الإيمان وإصرارهم على الكفر والطغيان.
{وَهَـاذَآ} أي : البيان الذي جاء به القرآن.
{صِرَاطُ رَبِّكَ} أي : طريقه الذي ارتضاه حال كونه.
{مُّسْتَقِيمًا} لمن يسلكه فلا يعوج به حتى يورده إلى الجنة.
{قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ} أي : ذكرناها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر.
{لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي : يتعظون وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بتفصيل الآيات.
{لَهُمْ} كأن سائلاً يسأل عما أعدّ الله تعالى للمتذكرين بما في تضايعف الآيات فقيل لهم : {دَارُ السَّلَـامِ} أي : السلامة من كل المكاره وهي الجنة.
{عِندَ رَبِّهِمْ} حال من دار السلام ، أي : نزله وضيافته كما تقول نحن اليوم عند فلان ، أي : في كرامته وضيافته.
وقيل العندية : كناية عن وعدها والتكفل بها.
{وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي : مولاهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي : بسبب الأعمال الصالحة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 100
واعلم : أن الله تعالى بيّن حسن الإيمان وقبح الكفر وحال السعيد والشقي ، ورغب في طريق الأنبياء والأولياء وجعل العمل الصالح ، وهو ما أريد به وجه الله سبباً لمحبة الله ودخول دار السلام ، وهي دار القرار التي يأمن من دخلها من العذاب مطلقاً ، فالله تعالى ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ـ ـ روي ـ ـ أن عمر بن الخطاب جهز جيشاً إلى فتح بعض حصون ديار العجم أربعة آلاف فارس ، وأمّر عليهم ابنه عبد الله رضي الله عنهما ، قال : فسرنا حتى حاصرنا قلعة على جبل عاللٍ لا يصل إليه أسلحتنا فحاصرناها ، وكان فيها جيش
101
(3/78)
من الكفار وكانت أميرتهم امرأة حسناء فحصل لنا تعب شديد ، ففي ذات يوم نظرت أميرتهم من المنظرة عسكرنا فرأت شاباً حسناً من شبان العرب ، وكان شاباً فارساً ماهراً في الحرب فلما وقع نظرها عليه تأوهت فقالت لها بعض جواريها : لِمَ تأوهت يا ملكة وأنت في حصار ومنعة ، فقالت : إن حصننا هذا يفتحه هذا الشاب ، قالت : وكيف ذلك؟ قالت : سترين بعد ساعة ثم أرسلت إليه الملكة رسولاً تقول هل أجد إليك سبيلاً ، فتكون لي وأكون لك؟ فقال الشاب : نعم بشرطين أن تسلمي الحصن الخارج إلينا والداخل إليه ، فأرسلت مع الرسول تستفهم أما الخارج فعرفنا ، وأما الداخل فما عرفنا ، قال لها : تسليم قلبك إلى الله تعالى وتقرّين له بالوحداينة ، فأرسلت إليه قوماً أدخل بعسكرك فإني قد فتحت لك الباب فلما دخل الحصن عرض عليها الإسلام ، فقالت : اعلم أني ملكة ذات همة عالية فهل في عسكرك من هو أكبر منك حتى أسلم على يديه؟ قال : نعم أميرنا وكبيرنا وهو ابن أمير المؤمنين فلما حضرت بين يدي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عرض عليها الإسلام ، فقالت : كالأول هل أحد أكبر منك في المسلمين حتى أسلم بين يديه؟ فقال لها : نعم والدي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فقالت : أرسلني إليه حتى أسلم بين يديه ، فأرسلها ومعها عسكر وأموال جزيلة أخرجتها معها من الحصار ، فلا زالت حتى وصلت إلى عمر رضي الله عنه ، فقالت : له يا أمير المؤمنين هل هنا أحد أكبر منك؟ قال : نعم محمد رسول الله وهذا قبره الشريف ، وأشار إلى الروضة المطهرة فقالت لا أسلم إلا بين يديه فأجابها لما قالت ، فلما أتت الروضة المنورة سلمت وجلست بأدب ووقار في حضرة النبي عليه السلام وقالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم قالت خرجت من الظلمات إلى النور وأنا أخشى يا رسول الله أن يدنس إيماني المعاصي ، فاسأل ربك الذي أرسلك إلينا بالحق أن يقبض روحي قبل أن أعصيه مرة أخرى ، ثم وضعت رأسها على عتبة المصطفى صلى الله عليه وسلّم فماتت من ساعتها فبكى عمر رضي الله عنه من حسن حالها وأمر بغسلها وتجهيزها ودفنها بالبقيع بين الصحابة رضي الله عنهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 100
بروزواقعه تابوت من زسر وكنيد
كه ميروم بهواى بلند بالاني
اللهم اجعلنا من الذين سلكوا الصراط المستقيم ووصلوا إلى جنابك بالقلب السليم فنجوا من عذابك الأليم آمين يا كريم يا رحيم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 100
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي : واذكر يا محمد لأهل مكة وغيرهم يوم يحشر الله الثقلين جميعاً ويجمعهم في موقف القيامة فيقول بطريق التوبيخ ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ} أي : يا جماعة الشياطين ، فإن المعشر الجماعة التي تضبطهم جهة واحدة وحصل بينهم معاشرتهم ومخالطتهم ويجمع على معاشر.
قال بعضهم : سميت الجماعة بالمعشر لبلوغها غاية الكثرة ، فإن العشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بتركيبه بما فيه من الآحاد فتقول : أحد عشر واثنا عشر ، فإذا قيل معشر فكأنه قيل محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
وسمي الجن : جنّاً لاجتنانهم أي : استتارهم عن أعين الناس.
{قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الانسِ} أي : من إغوائهم وإضلالهم أي : أضللتم خلقاً كثيراً من الإنس.
{وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم} أي : أولياء الشياطين الذين أطاعوهم حال كونهم.
{مِّنَ الانسِ} فهو حال من أولياؤهم.
{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي : انتفع الإنس بالجن والجن بالإنس ، أما انتفاع الإنس بالجن فمن حيث
102
إن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات وما يتوصل به إليها ويسهلون طريق تحصيلها عليهم ، وأما انتفاع الجن بالإنس فمن حيث إن الإنس أطاعوهم ولم يضيعوا سعيهم والرئيس المطاع ينتفع بانقياد أتباعه له.
{وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} أي : أدركنا الوقت الذي وقت لنا ، وهو يوم القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
كنون بايد اي خفته بيدار بود
ومرك اندر آرد زخوابت ه سود
ه خوش كفت باكودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روزكار
ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضاليّن للإيذان بأن المضلّين قد أقحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً.
{قَالَ} كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذٍ فقيل قال {النَّارُ مَثْوَاـاكُمْ} أي : منزلكم فهو اسم مكان بمعنى مكان الإقامة.
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخلق أربعة : فخلق في الجنة كلهم ، وخلق في النار كلهم ، وخلقان في الجنة والنار ، أما الذي في الجنة كلهم فالملائكة ، وأما الذي في النار كلهم فالشياطين ، وأما الذي في الجنة والنار فالإنس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب ، {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} .
(3/79)
قال في "التأويلات النجمية" : {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} أن يتوب ويرجع إلى الله فلا تكون النار مثواه فالاستثناء راجع إلى أهل التوبة في الدنيا لا إلى أهل الخلود في النار انتهى.
وقال بعضهم : ما مصدرية بتقدير مضاف كما في آتيك خفوق النجم والاستثناء من مضمون الجملة التي قبله ، وهي قوله : {النَّارُ مَثْوَاـاكُمْ خَـالِدِينَ فِيهَآ} كأنه قيل يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا أوقات مشيئة الله تعالى أن ينقلوا من النار إلى الزمهرير ـ ـ فقد روي ـ ـ أنهم ينقلون من عذاب النار ويدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ففي الاستثناء تهكم بهم.
وفي "تفسير الجلالين" : {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} من الأوقات التي يخرجون فيها لشوب من حميم فإنه خارجها ، كما قال الله : {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لالَى الْجَحِيمِ} وقيل : يفتح لهم وهم في النار باب إلى الجنة فيسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سدّ عليهم الباب ، وقيل : {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} قبل الدخول ، كأنه قيل : النار مثواكم أبداً إلا وقت إمهالكم إلى وقت الإدخال والخلود ، كما ينتقص من الآخر ، كذلك ينتقص من الأول هذا ما ذهب إليه علماء الظاهر في توجيه الاستثناء ، إلا أن حضرة الشيخ نجم الدين قدس سره قال في ذلك : حفظاً لظاهر الشرع وللعلماء بالله تحقيق بديع في هذه المقام لا يتحمله عقول العوام ، ونحن نشير إلى نبذ من ذلك ونوصي بالستر إلا على السالك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
قال المولى رمضان في "شرح العقائد" : اعلم أن أهل النار لم يقنطوا من الخلاص حتى إذا ذبح كبش الموت بين الجنة والنار ، ونودي أهلهما بالخلود أيس أهل النار من الخلاص فاعتدوا بالعذاب ولم يتألموا حتى آل أمرهم إلى أن يتلذذوا به ، حتى لو صبّ عليهم نسيم الجنة استنكروه وتعذبوا به ، كالجعل يستطيب الروث ويتألم من الورد انتهى كلامه ، وهذا معنى ما قال الشيخ الأكبر : والمسك الأذفر والكبريت الأحمر قدس سره الأطهر تبقى جهنم خالية وإن العذاب من العذب انتهى ، ولا يغرنك ظاهر هذا الكلام الأكبرى
103
فإن اتفاق العلماء من الطرفين على أن المخلد لا يخرج من النار ولا تبقى جهنم خالية من جسده.
قال حضرة شيخنا وسندنا الذي فضله الله تعالى على العالمين بما خصه من كمالات الدين : فكما إذا استقر أهل دار الجمال فيها يظهر عليهم أثر الجمال ويتذوقون دائماً أبداً ، ويختفي منهم جلال الجمال ، وأثره بحيث لا يحسونه ولا يرونه ، ولا يتألمون به قطعاً سرمداً ، فكذلك إذا استقر أهل دار الجلال فيها بعد مرور الأحقاب يظهر على بواطنهم أثر جمال الجلال ويتذوقون به أبداً ، ويختفي منهم أثر نار الجلال بحيث لا يحسونه ولا يرونه ولا يتألمون به سرمداً ، لكن كما عرفت ليس كذلك إلا بعد انقطاع إحراق النار بواطنهم وظواهرهم بعد مرور الأيام والأحقاب ، وكل منهم تحرقه النار خمسين ألف سنة من سني الآخرة لشرك يوم واحد من أيام الدنيا ، والظاهر عليهم بعد مرور الأحقاب هو الحال الذي يدوم عليهم أبداً ، وهو الحال الذي كانوا عليه في الأزل وما بينهما ابتلاءات رحمانية والابتلاء حادث قال تعالى : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةًا وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء : 35) عصمنا الله وإياكم من دار البوار انتهى كلام الشيخ رضي الله عنه.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في أفعاله ومنها تخليد أولياء الشياطين في النار.
{عَلِيمٌ} بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء.
{وَكَذالِكَ} أي : كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض {نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـالِمِينَ بَعْضَا} أي : نسلط بعضم على البعض فنأخذ من الظالم بالظالم {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي وجاء "من أعان ظالماً سلطه الله عليه" وعن ابن عباس رضي الله عنهما "إذا أراد الله بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم" وجاء في بعض الكتب الإلهية : إني أنا الله ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلته عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم ، وفي الحديث : "الظالم عدل الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه" وفي المرفوع "يقول الله عز وجل أنتقم ممن أبغض بمن أبغض ثم أصير كلاً إلى النار" وفي الزبور : إني لأنتقم من المنافق بالمنافق ثم أنتقم من المنافقين جميعاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
وقول القائل : كيف يجوز وصفه بالظلم وينسب إلى أنه عدل من الله تعالى؟
(3/80)
جوابه أن المراد بالعدل هنا ما يقابل بالفضل ، فالعدل أن يعامل كل أحد بفعله إن خيراً فخير وإن شراً فشر والفضل أن يعفو مثلاً عن المسيىء ، وهذا على طريق أهل السنة بخلاف المعتزلة فإنهم يوجبون عقوبة المسيىء ويدعون أن ذلك هو العدل ومن ثمة سموا أنفسهم أهل العدل وإلى ما صار إليه أهل السنة يشير قوله تعالى : {قَـالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} (الأنبياء : 112) أي : لا تمهل الظالم ولا تتجاوز عنه ، بل عجل عقوبته لكن الله تعالى يمهل من يشاء ويتجاوز عمن يشاء ويعطي من يشاء لا يسأل عما يفعل كذا في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
وفي "المثنوي" :
ونكه بدكردى بترس ايمن مباش
زانكه تخمست وبرو ياند خداش
ند كاهى اوبوشاند كه تا
آيد زان بد شيمان وحيا
بارها وشد ى اظهار فضل
باز كيرد از ي اظهار عدل
تاكه اين هردو صفت ظاهر سود
آن مبشر كردد اين منذر شود
104
واعلم : أن الظلم مطلقاً مفسد للاستعداد الفطري الروحاني القابل للفيض الرباني ولذا لا ينجع في الظالم الكلام الحق وأكثر ما يكون من أرباب الرياسة للقدرة والغلبة وفي الحديث : "إن من أشراط الساعة إماتة الصلوات واتباع الشهوات وأن تكون الأمراء خونة والوزراء فسقة" فوثب سلمان فقال : بأبي وأمي أهذا كائن قال : "نعم يا سلمان عندها يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء ولا يستطيع أن يغير" قال أو يكون ذلك قال : "نعم يا سلمان إن أذل الناس يومئذٍ المؤمن يمشي بين أظهرهم بالمخافة إن تكلم أكلوه وإن سكت مات بغيظه" كذا في "روضة الأخبار" قال السعدي قدس سره :
خبر دارى از خسروان عجم
كه كردند بر زير دستان ستم
نه آن شوكت وادشاهى بماند
نه آن ظلم برروستايى بماند
مكن تاتوانى دل خلق ريش
وكر ميكنى ميكنى بيخ خويش
اللهم احفظنا من الظلم والفساد إنك حافظ العباد والبلاد.
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالانسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي : يقول الله تعالى يوم القيامة للثقلين جميعاً ألم يأتكم في الدنيا ، أي كل فريق منكم {رُسُلُ} أي : رسول معين من الله تعالى {مِّنكُمْ} صفة لرسل أي كائنة منكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
اعلم : أن الجن والإنس مكلفون بالاتفاق لكن الرسول إليهم يحتمل أن يكون من جنسهم كما كان جبريل ونحوه رسل الملائكة من جنسهم وخواص البشر رسل الإنس من أنفسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل والاستفادة ، والاستئناس في الجنسية أظهر ويحتمل أن يكون من غير جنسهم بأن يكون من البشر ، وذلك لا يمنع الاستفادة لأنه يجوز أن يستفيد خواصهم من الرسل ويكونوا رسل الرسول إلى قومهم كاستفادة خواص البشر من خواص الملائكة وقد قام الإجماع على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلّم مرسل إلى الثقلين ودعا كل واحد من الفريقين إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وقد كان الأنبياء قبله يبعثون إلى قومهم خاصة وأما سليمان عليه السلام فإنه لم يبعث إلى الجن بالرسالة العامة بل بالملك والضبط والسياسة التامة فقوله تعالى : {رُسُلٌ مِّنكُمْ} (الطلاق : 12) في كل أرض نبي مثل نبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى وصححه صاحب "آكام المرجان" كيف وابن عباس رضي الله عنهما سلطان المفسرين بالاتفاق ولا معنى لقول السخاوي في "المقاصد الحسنة" أنه أخذه من الإسرائيليات وهذا كما قالوا : إن في كل سماء كعبة حيالها يطوفها أهلها ، وكذا في كل أرض ويناسب هذا ما قاله حضرة الشيخ الشيهر بأفتاده أفندي قدس سره خطاباً لحضرة الهدائي الآن عوالم كثيرة يتكلم فيها محمود وافتداه كثير ، وإما محمول على المعنى الثاني وهو الذي ادعوا فيه الإجماع وفيه تفصيل شأن البشر فالرسل من الإنس خاصة لكن لما جمعوا مع الجنّ في الخطاب صح ذلك ، ونظيره {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن : 22) والمرجان يخرج من الملح دون العذب ، وقيل : الرسل يعم رسل الرسل وقد ثبت أن نفراً من الجن قد استمعوا
105
القرآن وأنذروا به قومهم هذا ما وفقني الله تعالى لترتيبه وتهذيبه في هذا الباب والله يقول الحق ويهدي إلى الصواب.
{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِى} أي : يقرؤون عليكم كتبي {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا} يعني : يوم القيامة.
{قَالُوا} جواباً عند ذلك التوبيخ الشديد.
{شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} أن قد بلغنا وهو اعتراف منهم بالكفر واستحقاق العذاب وشهدنا إنشاء الشهادة ، مثل بعتُ واشتريتُ فلفظ الماضي لا يقتضي تقدم الشهادة.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} فلم يؤمنوا {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} في الآخرة.
{إِنَّهُمْ كَانُوا} في الدنيا {كَـافِرِينَ} أي : بالآيات والنذر التي أتى بها الرسل وهو ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.
(3/81)
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
{ذَالِكَ} أي : إرسال الرسل.
{ءَانٍ} اللام مقدرة وهي مخففة ، أي : لأن الشأن {لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أي : بسبب ظلم منها {وَأَهْلُهَا غَـافِلُونَ} لم يرسل إليهم رسول يبين لهم.
قال البغوي : وذلك أنّ الله تعالى أجرى السنة أي لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر ونهي فلم ينته ويكون ذلك بعد إنذار الرسل.
وفي "التفسير الفارسي" : (استئصال هي قوم نباشد الأبعد از تقدم وعيد واكرنه ايشانرا برحق حجت باشدكه لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك).
قال في "التأويلات النجمية" : الاستعداد الروحاني لا يفسد باستيفاء الحظ الحيواني في الطفولية إلا بعد أن يصير العبد مستعداً لقبول فيض العقل ، وفيض إلهام الحق عند البلوغ فيخالف الإلهام ، ويتبع الهوى فيسفد بذلك حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي ، كقوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص : 26) وهذا كما أنه تعالى لا يعذب قوماً ما بلغتهم الدعوة حتى يبعث فيهم رسولاً فيخالفونه فيعذبهم بها ، وقد عبر لسان الشرع عن هذا المعنى بأن لا يجري عليه قلم تكاليف الشريعة إلا بعد البلوغ بالأوامر والنواهي ؛ لأنه أوان ترقي الروح باستعمال المأمورات ونقصانه باستعمال المنهيات انتهى.
فعلى العاقل أن يتدارك حاله ويخاف من الخطاب القهري يوم القيامة.
كر بمحشر خطاب قهر كند
انبيارا ه جاى معذرتست
قال الحسن البصري رحمه الله : الناس في هذه الدنيا على خمسة أصناف : العلماء وهم ورثة الأنبياء ، والزهاد وهم الأدلاء ، والغزاة وهم أسياف الله ، والتجار وهم أمناء الله ، والملوك وهم رعاة الخلق فإذا أصبح العالم طامعاً وللمال جامعاً فبمن يقتدي ولذا قال من قال :
شيخ ون مائل بمال آيدمريد أو معاش
مائل دينار هر كز مالك ديدار نيست
وإذا أصبح الزاهد راغباً فبمن يستدل ويهتدي.
اززاهدان خشك رسائي طمع مدار
سيل ضعيف واصل دريا نميشود
وإذا أصبح الغازي مرائياً والمرائي لا عمل له فمن يظفر بالأعداء.
عبادت بالإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
وإذا كان التاجر خائناً فمن يؤمن ويرتضى.
106
درين زمانه مكر جبرئيل امين باشد
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
وإذا أصبح الملك ذئباً فمن يحفظ الغنم ويرعى
اشاهى كه طرح ظلم افكند
اي ديوار ملك خويش بكند
نكند جور يشه سلطاني
كه نيايد زكرك وباني
والله ما أهلك الناس إلا العلماء المداهنون ، والزهاد الراغبون والغزاة المراؤون والتجار الخائنون والملوك الظالمون.
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء : 227) ثم إن الأحكام الإلهية قد بلغت إلى كل إقليم وبلغ الشاهد الغائب إلى يومنا هذا من قديم وامتلاء الآذان من سماع الحق والكلام المطلق ، فلم يبق للسلطان ولا للوزير ولا لغيرهما من الوضيع والخطير عذر ينجيه من الهلاك ، وقهر مالك الأملاك والتنبيه مقدم لكل خامل ونبيه فهلاك القرى وأهلها وظهور الظلمات فرعها ، وأصلها إنما هو من غفلة الإنسان أيقظه الله الملك المنان فلا تلومن عند وجود التنزل إلا نفسك الأبية ، وظهور التسفل إلا طبيعتك الغبية فقد استبان البرهان والحجة ووضع لسالكيها المحجة ألم تسمع إلى قوله تعالى : {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَـالِغَةُ} (الأنعام : 149) وأراك أنك ألقمت الحجر ولا تدري ما فعل بك بل تتمادى في تعبك وتتمرغ في غضبك ، فعالج نفسك أيها المريض قبل الحلول إلى الحضيض.
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
{وَلِكُلِّ} من المكلفين من الثقلين مؤمنين كانوا أو كفاراً.
{دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} أي : مراتب كائنة من أعمالهم صالحة كانت ، أو مسيئة فلأهل الخير درجات في الجنة بعضها فوق بعض ، ولأهل الشرك دركات في النار بعضها أشد عذاباً من بعض ، وفسروا الدرجات بالمراتب ؛ لأن الدرجات غلب استعمالها في الخير والثواب ، والكفار لا ثواب لهم {وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيخفى عليه عمل من أعمالهم طاعة أو معصية والمقصود إن الله يجزي كل عامل بما عمل.
{وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ} عن العباد والعبادة.
والغني : هو الذي لا يحتاج إلى شيء فيكون وجود كل شيء عنده وعدمه سواء وغيره تعالى لا يسمى غنياً إلا إذا لم يبق له حاجة إلا إلى الله تعالى ، فأصل الحاجة لا ينقطع عن غير الله ؛ لأنه في وجوده وغناه يحتاج إلى الغنى الحقيقي.
{ذُو الرَّحْمَةِ} يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويمهلهم على المعاصي.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني مع غناه عن الخلق له رحمة قد اقتضت إيجاد الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم.
قال في "المثنوي" :
ون خلقت الخلق كي يربح على
لطف توفر مود أي قيوم وحي
لا لأن أربح عليهم جود تست
كه شود زو جمله ناقصها درست
عفو كن اين بند كان تن رست
عفو از درياي عفو أولى ترست
عفو خلقان همو جو وهمو سيل
(3/82)
هم بدان درياي خود تازند خيل
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها العصاة ، أي : يهلككم {وَيَسْتَخْلِفُ} بالفارسي (خليفه وجانشين شما سازد) {مِنا بَعْدِكُم} أي : من بعد إذهابكم وإهلاككم.
{مَا يَشَآءُ} أي : خلقاً آخر أطوعمنكم ، وإيثار (ما) على (من) لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء.
{كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ} أي : من قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام لكنه أبقاكم ترحماً عليكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 107
وفي "التفسير الفارسي" : (همنانكه شمارا يدا
107
كرد از ذرية قومي ديكركه دران شمابودند) {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} أي : الذي توعدون من البحث والعذاب ، {لاتٍ} لواقع لا محالة لا خلف فيه {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي : بفائتين ذلك وإن ركبتم في الهرب متن كل صعب وذلول.
{قُلْ} لأهل مكة يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} المكانة مصدر بمعنى التمكن وهو القوة والاقتدار ، أي : اعملوا على غاية تمكنكم ونهاية استطاعتكم يعني اعملوا ما أنتم عاملون واثبتوا على كفركم وعداوتكم.
{إِنِّى عَـامِلٌ} ما كتب عليّ من المصابرة والثبات على الإسلام ، والاستمرار على الأعمال الصالحة ، والأمر للتهديد من قبيل الاستعارة تشبيهاً للشر المهدد عليه بالمأمور به الواجب الذي لا بد أن يكون.
قال في "التأويلات النجمية" : {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي على ما جبلتم عليه نظيره قوله : {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء : 84) {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن} استفهامية أو موصولة {تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ} أي : أينا تكون له العاقبة المحمودة التي خلق الله تعالى هذه الدار لها أو فسوف تعرفون الذي له العاقبة الحسنى ، فالدار دار الدنيا ، والعاقبة الأصلية لهذه الدار هي عاقبة الخير ، وأما عاقبة السوء فمن نتائج تحريف الفجار.
{أَنَّهُ} أي : إن الشان {لا يُفْلِحُ} يسعد {الظَّـالِمُونَ} أي : الكافرون أي لا يظفرون بمرادهم وبالفارسي (بدرستى كه يروزي ورستكارى نيابند ستمكاران يعني كفار.
صاحب كشف الأسرار فرمدوه كه هم درين روزي بدانيدكه دنيا كجارسد ودولت فلاح كرا رسد بينيدكه درويشان شكسته بال را بسراي كرامت ون خوانند وخواجكان صاحب إقبال را سوى زندان ندامت ون رانند) :
باش تاكل يابي آنهاراكه امر وزند جزو
باش تاكل بيني أنهاراكه امر وزندخار
تاكه ازدار الغروري ساختن دار السرور
تاكى ازدار الفراري ساختن دار القرار
وليس الفلاح إلا في العلم والعمل ، وترك الدنيا والكسل والذلل ـ ـ حكي ـ ـ عن بعضهم أنه دخل عليه بعض الفقرا ولم يجد في بيته شيئاً من المتاع فقال أما لكم شيء؟ قال : بلى لنا داران إحداهما دار أمن والأخرى دار خوف فما يكون لنا من الأموال ندخره في دار الأمن يعني نقدمه للدار الآخرة ، فقال له : إنه لا بد لهذا المنزل من متاع فقال إن صاحب هذا المنزل لا يدعنا فيه وذلك أن الدنيا عارية ، ولا بد للمعير أن يرجع في عاريته فعاقبة الدار إنما هي للأخيار الأبرار الذين عملوافي ليلهم ونهارهم ، ولم ينقطعوا عن التوجه إليه حال سكونهم وقرارهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 107
وكان شاب يجتهد في العبادة ، فقيل له في ذلك ، فقال : رأيت في منامي قصراً من قصور الجنة مبنياً بلبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وكذلك شراريفه وبين كل شرافتين حورية لم ير الراؤون مثلها لما بها من الحس والجمال ، وقد أرخين ذوائب شعورهن فتبسمت إحداهن في وجهي فأنارت الجنة بنور ثناياها ، ثم قالت : يا فتى جدّتعالى في طلبي لأكون لك وتكون لي فاستيقظت فحقيق عليّ أن أجد فإذا كان هذا الاجتهاد في طلب حورية فكيف بمن يطلب ربّ الحورية.
فداى دوست نكرديم عمرو مال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
فظهر أن الاجتهاد في طريق الحق له عاقبة حميدة ، فإنه موصل إلى الجنة والقربة والوصلة فسيظهر أثره في الدار الآخرة ، وأما الظالمون الذين أفسدوا استعداداتهم بما عملوا من المعاصي
108
فإنهم لا يفلحون بمثل هذه السعادة ، بل يرجعون إلى دار البوار وحالهم في الدنيا هي الخسارة لا غير فإن الباطل يفور ، ثم يغور والدولة في الدنيا والآخرة لأهل الإيمان والخلاص من التنزل لا يحصل إلا بالإيمان ، فمن دخل في حصن الإيمان وقوة اليقين يترقى إلى ما شاء الله تعالى من الدرجات والشيطان ، وإن كان ينبح عليه خارج الحصن لكنه لا يضره وفي الحديث : "جددوا إيمانكم" والمراد الانتقال من مرتبة إلى مرتبة فإن أصل الإيمان قد تم بالأول ، ولكن الإيمان على ثماني عشرة مرتبة والعناية من الله تعالى وتوحيد كل شخص على قدر يقينه وهو قد يكون على قدر يقينه في ملك وجوده ، وقد لا يكون على قدر هذا اليقين فالذين يظهرون الدعوى فتوحيدهم في ملك وجودهم فقط فلو أنهم جاوزوا إلى هذا اليقين لندموا عليها ورغبوا عن أنفسهم.
(3/83)
فعلى العاقل أن لا يسامح في باب الدين ، بل يجتهد في تحصيل اليقين فإن الاجتهاد باب لهذا التحصيل ووسيلة في طريقة التكميل ، وإن كان الله تعالى هو الموصل برحمته الخاصة والمؤثر في كل الأمور اللهم اجعلنا من أهل التوحيد الحقاني وشرفنا بالإيمان العياني فإنك الغني ونحن الفقراء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 107
{وَجَعَلُوا} أي : مشركوا العرب.
{مِمَّا ذَرَأَ} أي : خلق {مِنَ الْحَرْثِ} أي : الزرع {وَالانْعَـامِ نَصِيبًا} ولشركائهم أيضاً نصيباً.
{فَقَالُوا هَـاذَآ} النصيب {بِزَعْمِهِمْ} أي : بادعائهم الباطل من غير أن يكون ذلك بأمر الله تعالى.
{وَهَـاذَا لِشُرَكَآاـاِنَا} أي : آلهتنا التي شاركونا في أموالنا من المتاجر والزروع والأنعام وغيرها فهو من الشركة لا من الشرك ، والإضافة إلى المفعول ـ ـ روي ـ ـ إنهم كانوا يعينون شيئاً من الحرث والنتاج ، ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين وشيئاً منهما لآلهتهم ، وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها ، ثم إن رأوا ما عينوا الله أزكى رجعوا وجعلوه لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه معتلين بأن الله تعالى غني ، وما ذلك إلا لحب آلهتهم وإيثارهم لها.
{فَمَا كَانَ لِشُرَكَآاـاِهِمْ} من نماء الحرث والأنعام {فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي : إلى المساكين والأضياف ، وقالوا : لو شاء الله زكى نصيب نفسه.
{وَمَا كَانَ} من ذلك النماء {فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآاـاِهِمْ} بذبح النسائك عندها والأجراء على سدنتها ؛ لأنهم إذا لم ينم نصيب الآلهة يبدلون ذلك النامي الذي عينوهتعالى ويجعلونه لآلهتهم.
{سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي : ساء الذي يحكمون حكمهم فيما فعلوا من إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم بما لم يشرع لهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 109
{وَكَذالِكَ} ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى وبين آلهتهم.
{زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} أي : أولياؤهم من الجن أو من السدنة فقوله : قتل مفعول زين وشركاؤهم فاعله وكان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفاً من الفقر أو من التزويج أو من السبي وكان الرجل منهم يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرنّ أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله ـ ـ روي ـ ـ أن عبد المطلب رأى في المنام أنه يحفر زمزم ونعت له موضعها وقام يحفر وليس له ولد يومئذٍ إلا الحارث ، فنذر لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا لينحرن أحدهمتعالى عند الكعبة ، فلما تموا عشرة أخبرهم بنذره فأطاعوه وكتب كل واحد منهم اسمه في قدح فخرج على
109
عبد الله فأخذ الشفرة لينحر فقامت قريش من أنديتها ، فقالوا لا تفعل حتى ننظر فيه فانطلق به إلى عرّافة ، فقالت : قربوا عشراً من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها القداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإذا خرجت على الإبل فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم فقربوا من الإبل عشراً فخرج على عبد الله فزاد عشراً عشراً ، فخرجت في كل مرة على عبد الله إلى أن قرب مائة فخرج القدح على الإبل فنحرت ، ثم تركت لا يصدّ عنها إنسان ولا سبع ولذلك قال عليه السلام : "أنا ابن الذبحين" يريد أباه عبد الله وإسماعيل عليه السلام.
{لِيُرْدُوهُمْ} أي : ليهلكوهم بالإغواء {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام ، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين ، وللعاقبة إن كان من السدنة لظهور أن قصد السدنة لم يكن إلا رداء واللبس وإنما كان ذلك قصد الشياطين.
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} أي : عدم فعلهم ذلك.
{مَّا فَعَلُوهُ} أي : ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل.
{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} الفاء فصيحة أي : إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم على الله أنه أمرهم بدفن بناتهم أحياء فإن الله تعالى مع قدرته عليهم تركهم فاتركهم أنت فإن لهم موعداً يحاسبون فيه ولله تعالى فيما شاء حكم بالغة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 109
(3/84)
{وَقَالُوا هَـاذِهِ} إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم {أَنْعَـامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي : حرام {لا يَطْعَمُهَآ} بالفارسي (نشد وتخورد آنرا) {إِلا مَن نَّشَآءُ} يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء.
{بِزَعْمِهِمْ} أي قالوه ملتبسين بزعمهم الباطل من غير حجة {وَأَنْعَـامٌ} خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله تعالى هذه أنعام أي قالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم أي وهذه أنعام.
{حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي.
{وَأَنْعَـامٌ} أي : وهذه أنعام كما مر وقوله تعالى.
{لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} صفة لأنعام لكنه غير واقع في كلامهم المحكي كنظائره بل مسوق من جهته تعالى تعييناً للموصوف وتمييزاً له عن غيره ، كما في قوله تعالى : {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} (النساء : 157) على أحد التفاسير كأنه قيل وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر عليها اسم الله وإنما يذكر عليها الأصنام {افْتِرَآءً عَلَيْهِ} أي : افتروا على الله افتراء ، يعني : أنهم يفعلون ذلك ويزعمون أن الله تعالى أمرهم به.
{سَيَجْزِيهِم} بالفارسي (زود باشدكه خدا جزادهد ايشانرا).
{بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بسبب افترائهم.
{وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَـاذِهِ الانْعَـامِ} يعنون به أجنة البحائر والسوائب {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} أي : حلال للرجال خاصة دون الإناث وتأنيث خالصة محمول على معنى ما تذكير محرم محمول على لفظه وهذا الحكم منهم إن ولد ذلك حياً.
{وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} أي : ولدت ميتة.
{فَهُمْ فِيهِ} أي : ما في بطون الأنعام.
{شُرَكَآءَ} يأكلون منه جميعاً ذكورهم وإناثهم {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي : جزاء وصفهم الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم.
{إِنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تعليل للوعد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 109
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَـادَهُمْ} جواب قسم محذوف وهم ربيعة ومضر وأضرابهم من العرب الذين كانوا يئدون بناتهم
110
محافظة السبي والفقر ، أي : خسروا دينهم ودنياهم بالفارسي (زيان كردند).
{سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بقتلوا على أنه علة له وبغير علم صفة لسفهاً ، أي : لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله تعالى هو الرزاق لهم ولأولادهم {وَحَرَّمُوا} على أنفسهم {مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} من البحائر ونحوها.
{افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ} أي : افتروا على الله افتراء حيث قالوا إن الله أمرهم بها.
{قَدْ ضَلُّوا} عن الطريق المستقيم {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إليه وإن هدوا بفنون الهدايات ـ ـ روي ـ ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن رجلاً من أصحابه كان لا يزال مغتماً بين يديه فقال عليه السلام : "مالك تكون محزوناً" فقال يا رسول الله إني قد أذنبت في الجاهلية ذنباً ، فأخاف أن لا يغفر لي وإن إسلمت فقال عليه السلام : "أخبرني عن ذنبك" فقال : يا رسول الله إني كنت من الذين يقتلون بناتهم ، فولدت لي بنت فشفعت إليّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت فصارت من أجمل النساء فخطبوها ، فدخلتْ عليّ الحمية ولم يتحمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج ، فقلت للمرأة : إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي فسرّتْ بذلك وزينتها بالثياب والحلل ، وأخذت عليّ المواثيق بأن لا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ، ففطنت الجارية بي أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي ، وتقول يا أبي أي شيء تريد أن تفعل بي؟ فرحمتها ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحمية ، ثم التزمتني وجعلت تقول يا أبي لا تضيع أمانة أمي؟ فجعلت مرة أنظر إلى البئر ومرة أنظر إليها وأرحمها وغلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة ، وهي تنادي في البئر يا أبي قتلتني فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله وقال : "لو أمرت أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك بما فعلت".
واعلم أنهم لما انسد عليهم طريق الثقة بالله حملتهم خشية الفقر على قتل الأولاد ، ولذلك قال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 109
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : من دخل هذا الطريق وهو ذو زوج فلا يطلق أو عزب فلا يتزوج حتى يكمل فإذا كمل فهو في ذلك على ما يلقى إليه ربه انتهى ، واختار أكثر الكمل موت أولادهم لأن كل ما يشغل الطالب عن الله من الأموال والأولاد فهو فتنة.
(3/85)
ومنهم إبراهيم بن أدهم حيث اجتمع بولده بمكة فرأى في قلبه ميلاً إليه ، فقال : إلهي أمتني أو هذا مشيراً إلى ولده فمات ، والأنسب أن يدفعه من قلبه بالتوحيد ولا يدعو عليه بالموت لأن الدعاء تصرف من عند نفسه والمتصرف في الحقيقة هو الله فإذا أدخل عبده في أمر لا يتولى العبد إخراج نفسه منه بل يصبر وينتظر إلى أمر الله تعالى ، وقلة المال مع كثرة العيال والصبر عليها من المجاهدات المعتبرة عند السلاك.
قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي : خطاباً لحضرة الهدائي إذا أظهر أهل بيتك جوعاً شديداً ورأيتهم قد أشرفوا على الهلاك فعليك أن تتوكل على الله وتسلم الأمر إليه بأن تقول عن صميم قلبك لا بمجرد لسانك إلهي ، أنا عبد ذليل مثلهم ، وهم عبادك فأمري وأمرهم إليك لا أحل أنا بينك وبين عبادك يتم المقصود بالسهولة ، ويقضي الرب جميع حوائجك ، قال : ويكون توكل الطالب على وجه لو أن أولاده ماتوا من الجوع لما
111
عليهم ، بل قال هذا الرب وهذا عبده وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد قال الصائب :
فكر آب أو دانه در كنج قفس بيجاصلست
زير رخ انديشه روزي را اشد مراد
جزء : 3 رقم الصفحة : 109
{وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ} أي : خلق يقال نشأ الشيء نشأة إذا ظهر وارتفع وأنشأه الله تعالى ، أي : أظهره ورفعه.
{جَنَّـاتُ} أي : بساتين من الكروم.
{مَّعْرُوشَـاتٍ} أي : مرفوعات على ما يحملها من خشب ونحوه.
{وَغَيْرَ مَعْرُوشَـاتٍ} ملقيات على وجه الأرض ، فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش بل يلقى على وجه الأرض منبسطاً أو المعروشات الأعناب التي يجعل لها عروش وغير المعروشات كل ما نبت منبسطاً على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ ، أو المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه ، وهو الكرم وما يجري مجراه وغير المعروش ما لا يحتاج إليه بل يقوم على ساقه كالنخل والزرع ، ونحوهما من الأشجار والبقول أو المعروشات ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يهتم به الناس ويغرسونه وغير المعروشات ما أنبته الله تعالى في البراري والجبال.
{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} أي : أنشأهما وإفرادهما بالذكر مع أنهما داخلان في الجنات لكونهما أعم نفعاً من جملة ما يكون في البساتين ، والمراد بالزرع ههنا جميع الحبوب التي يقتات بها ، {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} حال مقدرة ؛ إذ ليس كذلك وقت الإنشاء ، أي : أنشأ كل واحد منهما في حال اختلاف ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
قال البغوي : ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أي : أنشأهما {مُتَشَـابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ} نصب على الحالية ، أي : يتشابه بعض أفرادهما في اللون والهيئة والطعم ولا يتشابه بعضها مثل الرمانين لونهما واحد وطعمهما مختلف.
{كُلُوا مِن ثَمَرِهِ} أي : من ثمر كل واحد من ذلك.
{إِذَآ أَثْمَرَ} وإن لم يدرك ولم يينع بعد ففائدة التقييد بقوله : إذا أثمر إباحة الأكل منه قبل إدراكه وينعه.
{وَءَاتُوا حَقَّه يَوْمَ حَصَادِهِ} أشهر الأقوال على أن المراد ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد ، أي : يوم قطع العنب والنخل ونحوهما بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار حتى نسخه افتراض العشر فيما يسقى بماء السماء ونصف العشر فيما يسقي بالدلو والدالية أو نحوهما.
{وَلا تُسْرِفُوا} أي : في التصدق كما روي أن ثابت بن قيس جذ خمسمائة نخلة فقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً وقد جاء في الخبر "ابدأ بمن تعول" وقيل : الخطاب للسلاطين ، أي : لا تأخذوا فوق حقكم.
{إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي : لا يرضى فعلهم.
{وَمِنَ الانْعَـامِ} أي : أنشأ من الأنعام.
{حَمُولَةً} ما يحمل عليه الأثقال {وَفَرْشًا} وما يفرش للذبح أو يتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش ولعله من قبيل التسمية بالمصدر {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من تبعيضية وما عبارة عن الحمولة والفرش ، أي : كلوا بعض ما رزقكم الله ، أي : حلاله وفيه تصريح بأن إنشاءها لأجلهم ومصلحتهم وتخصيص الأكل بالذكر من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها لكونه معظم ما ينتفع به ويتعلق به الحل والحرمة.
{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ} أي : لا تسلكوا الطريق التي سولها الشيطان لكم في أمر التحليل والتحريم فإنه لا يدعوكم إلا إلى المعصية.
{إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي : ظاهر العداوة وقد أبان عداوته لأبيكم آدم عليه السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
{ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بدل من حمولة وفرشاً
112
(3/86)
والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل فالاثنان المصطحبان يقال لهما زوجان لا زوج فعلى هذا يقول مقراضان ومقصان لا مقراض ومقص ؛ لأنهما اثنان والمراد بالأزواج الثمانية الأنواع الأربعة لأنها باعتبار مزاوجها ثمانية.
{مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} بدل من ثمانية أزواج ، أي أنشأ من الضأن زوجين الكبش والنعجة والضأن معروف ، وهو ذو الصوف من النعم.
{وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} أي : أنشأ من المعز زوجين التيس والعنز والمعز ذو الشعر من النعم.
{قُلْ} لهم يا محمد {ءَآلذَّكَرَيْنِ} من ذينك النوعين وهما الكبش والتيس.
{حَرَّمَ} أي : الله تعالى كما تزعمون أنه هو المحرم.
{أَمِ الانثَيَيْنِ} وهما النعجة والعنز.
{أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ} أي : أم ما حملت إناث النوعين حرم ذكراً كان أو أنثى.
{نَبِّـاُونِى بِعِلْمٍ} أي : أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبار الأنبياء يدل على أنه تعالى حرم شيئاً مما ذكر.
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في دعوى التحريم عليه سبحانه.
{وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ} عطف على قوله تعالى من الضأن اثنين ، أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة.
{وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} ذكراً وأنثى.
{قُلْ} إفحاماً لهم أيضاً {ءَآلذَّكَرَيْنِ} منهما {حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ} من ذينك النوعين ، والمعنى إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة ذكراً وأنثى أو ما يحمل إناثها رداً عليهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام ، تارة كالحام فإنه إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموه ولم يمنعوه ماء ولا مرعى ، وقالوا : إنه قد حمى ظهره ، وكالوصيلة فإن الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم ، وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها ويحرمون إناثها تارة كالبحيرة ، والسائبة فإنه إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب ، وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها ، وكانوا إذا ولدت النوق البحائر والسوائب فصيلاً حياً حرموا لحم الفصيل على النساء دون الرجال ، وإن ولدت فصيلاً ميتاً اشترك الرجال والنساء في لحم الفصيل ، ولا يفرقون بين الذكور والإناث في حق الأولاد.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} أم منقطعة بمعنى بل والهمزة ، ومعنى الهمزة الإنكار والتوبيخ ، ومعنى بل الاضراب عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر ، أي : بل أكنتم حاضرين شاهدين.
{إِذْ وَصَّـاكُمُ اللَّهُ بِهَـاذَا} أي : حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم حسبما يؤول إليه مذهبكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسب إليه تحريم ما لم يحرم.
{لِّيُضِلَّ النَّاسَ} متعلق بافترى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
قال سعدي لبي المفتي : الظاهر أن اللام للعاقبة.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من فاعل يضل ، أي : ملتبساً بغير علم بما يؤدي بهم إليه.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} كائناً من كان إلى ما فيه صلاح حالهم عاجلاً وآجلاً فإذا نفى الهداية عن الظالم فما ظنك بمن هو ظلم.
{قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ} طعاماً {مُحَرَّمًا} من المطاعم التي حرموها.
{عَلَى طَاعِمٍ} أي : طاعم كان من ذكر أنثى رداً على قولهم ومحرم على أزواجنا ، وقوله تعالى : {يَطْعَمُهُ} لزيادة التقرير {إِلا أَن يَكُونَ} ذلك الطعام {مَيْتَةً} لم تذك وهي التي تموت حتف أنفها.
113
{أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} أي : مصبوباً كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد فإنهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما ، وفي الحديث : "أحلت لنا ميتتان ودمان" والمراد من الميتتين السمك والجراد ومن الدمين الكبد والطحال ، وما اختلط باللحم من الدم وقد تعذر تخلصه من اللحم عفو مباح لأنه ليس بسائل أيضاً {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي : الخنزير {رِجْسٌ} أي : قذر لتعوده أكل النجاسة.
قال الحدادي : كل ما استقذرته فهو رجس ويجوز أن يعود الضمير إلى اللحم وتخصيصه مع أن لحمه وشحمه وشعره وعظمه وسائر ما فيه كله حرام لكونه أهم ما فيه فإن أكثر ما يقصد من الحيوان المأكول اللحم فالحل والحرمة يضاف إليه أصالة ولغيره تبعاً.
قال سعدي لبي المفتى : الأصل عود الضمير إلى المضاف ؛ لأنه المقصود والمضاف إليه لتعريفه وتخصيصه.
{أَوْ فِسْقًا} عطف على لحم خنزير {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} صفة موضحة ، أي ذبح على اسم الأصنام وإنما سمى ذلك فسقاً لتوغله في الفسق.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} أي : إصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك.
{غَيْرَ بَاغٍ} على مضطر مثله {وَلا عَادٍ} قدر الضرورة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذ بذلك.
(3/87)
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
والآية محكمة ؛ لأنها تدل على أنه عليه السلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير بالميتة إلى ميتة الدنيا فإنها جيفة مستحيلة ، كما قال بعضهم :
وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها وفي الحديث : "أوحى الله إلى داود يا داود مثل الدنيا كمثل جيفة اجتمعت عليها يجرونها أفتحب أن تكون كلباً مثلهم فتجرّ معهم" قال الحافظ :
همايى ون توعالى قدر حرص استخوان حيفست
دريغاسايه همت كه بر نا هل افكندي
والدم المسفوح هو الشهوات واللذات التي يهراق عليها دم الدين ولحم الخنزير هو كل رجس من عمل الشيطان كما قال : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالانصَابُ وَالازْلَـامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وحقيقة الرجس الاضطراب عن طريق الحق والبعد منه كما جاء في الخبر "لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ارتجس إيوان كسرى" ، أي : اضطرب وتحرك حركة سمع لها صوت فالرجس ما يبعدك عن الحق أو فسقاً أهل لغير الله به ، أي : خروجاً عن طلب الحق في طلب غير الحق.
قال السعدي :
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند ازخدا جز خدا
فالشروع في هذه الأشياء محرم ؛ لأنها تحرمك من الله وقرباته إلا أن يكون بقدر ما يدفع الحاجة الإنسانية فإن الضرورات تبيح المحظورات.
قال بعضهم في قوله عليه السلام : "تمعددوا واخشوشنوا" أي اقتدوا بمعدّ بن عدنان والبسوا الخشن من الثياب وامشوا حفاة فهو حث على التواضع ونهى عن الإفراط في الترفه والتنعم كما قال عليه السلام : "إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
بناز ونعمت دنيا منه دل
كه دل برداشتن كاريست مشكل
114
فعلى العاقل أن يكون أزهد الناس في الدنيا ويتجرد عن الأسباب كالأنبياء وكمل الأولياء.
وعن بعضهم قال : رأيت فقيراً ورد على بئر ماء في البادية ، فأدلى ركوته فيها فانقطع حبله ووقعت الركوة فيها فأقام زماناً ، وقال وعزتك لا أبرح إلا بركوتي ، أو تأذن لي في الانصراف عنها قال فرأيت ظبية عطشانة جاءت إلى البئر ونظرت فيها وفاض الماء وطفح على البئر ، وإذا بركوته على فم البئر فأخذها وبكى ، وقال : إلهي ما كان لي عندك محل ظبية ، فهتف به هاتف يا مسكين جئت بالركوة والحبل وجاءت الظبية ذاهبة عن الأسباب لتوكلها علينا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
ففي هذه الحكاية ما يدل على كمال الانقطاع عن غير الله تعالى.
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} أي : على اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين.
{حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} كل ما له أصبع سواء كان ما بين أصابعه منفرجاً كأنواع السباع والكلاب والسنانير ، أو لم يكن منفرجاً كالإبل والنعام والإوز والبط وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا عمّ التحريم.
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ} متعلق بقوله : {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} لا لحومهما فإنها باقية على الحل.
والشحوم الثروب وشحوم الكليتين.
{إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ} استثناء من الشحوم ، أي : إلا ما اشتملت على الظهور والجنوب من شحم الكتفين إلى الوركين من داخل وخارج.
{أَوِ الْحَوَايَآ} عطف على ظهورهما ، أي : أو إلا الذي حملته الأمعاء واشتمل عليها.
جمع الحوية كما في "الصحاح" وهي المباعر والمصارين.
{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} عطف على ما حملت وهو شحم الألية واختلاطه بالعظم اتصاله بالعصص وهو عجب الذنب أي عظمه وأصله ويقال إنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى.
{ذَالِكَ} الجزاء {جَزَيْنَـاهُم} أي : اليهود {بِبَغْيِهِمْ} أي : بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم ، وقد أنكروا ذلك وادعوا أنها لم تزل محرمة على الأمم الماضية فرد عليهم ذلك وأكد بقوله تعالى : {وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ} أي : في الإخبار عن كل شيء لا سيما في الإخبار عن التحريم المذكور وفي الإخبار عن بغيهم.
{فَإِن كَذَّبُوكَ} أي : اليهود والمشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم.
{فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال.
{وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} حين ينزل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
(3/88)
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ} عدم إشراكنا {مَآ أَشْرَكْنَا} نحن {وَلا ءَابَآؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ} أرادوا به أن ما فعلوه حق مرضى عند الله تعالى.
{كَذَالِكَ} أي : كهذا التكذيب وهو قولهم إنا إنما أشركنا وحرمنا لكون ذلك مشروعاً مرضياً عند الله تعالى وإنك كاذب فيما قلت من أن الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرمتموه.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي : متقدموهم الرسل.
{حَتَّى ذَاقُوا} غاية لامتداد التكذيب {بَأْسَنَآ} الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم.
{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ} زائدة {عِلْمٍ} من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم.
{فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ} فتظهروه لنا.
{إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي : ما تتبعون فيما أنتم عليه من الشرك والتحريم إلا الظن الباطل من غير علم ويقين.
{وَإِنْ أَنتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} تكذبون على الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَـالِغَةُ} الفاء جواب شرط محذوف
115
أي وإذا قد ظهر أن لا حجة لكم فللَّه الحجة البالغة أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه والمراد بها الكتاب والرسول والبيان.
{فَلَوْ شَآءَ} هدايتكم جميعاً {لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ} بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم لصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين لصرف هممهم إلى خلاف ذلك.
{قُلْ هَلُمَّ} اسم فعل ، أي أحضروا {شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَـاذَا} وهم قدوتهم الذين ينصرون قولهم ومذهبهم ولا من يشهد بصحة دعواهم كائناً من كان ولذلك قيد الشهداء بالإضافة إليهم وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم.
{فَإِن شَهِدُوا} بعدما حضروا بأن الله تعالى حرم هذا.
{فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي : فلا تصدقهم فإنه كذب محض وبيّن لهم فساده.
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} كعبدة الأوثان والموصول الثاني عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتخاذ الموصوف ، فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس.
{وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي : يجعلون له عديلاً عطف على لا يؤمنون ، والمعنى : لا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله وبين الكفر بالآخرة وبين الإشراك به سبحانه لكن لا على أن يكون مدار النهي المذكور بل عن أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها.
واعلم : أن الله تعالى أحل الطيبات وردَّ ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من تحريم من عند أنفسهم ؛ لأن الدين يبتنى على الوحي لا على الهوى وحرم الخبائث كالخمر والميتة والدم والخنزير وغير ذلك ، أي : تناولها وبيعها لأن ما يحرم تناوله يحرم بيعه وأكل ثمنه بخلاف ما إذا كان الانتفاع بغير ذلك كشحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس فإن ذلك ليس بحرام ، وما حرمه الله تعالى إما أن يكون بلاء ونقمة كما فعل اليهود وجزاء على أنفسهم ، وإما أن يكون رحمة ومنة لعلمه أن فيه ضرراً نفسانياً أو روحانياً ، فالنفساني كضرر السم وأمثاله ، والروحاني كضرر لحوم السباع والمؤذيات وأمثالها فإنه بتعدي أخلاقها تغير الأخلاق الروحانية كما قال عليه السلام : "الرضاع يغير الطباع".
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
ومن ثَمَّ لما دخل الشيخ أبو محمد الجويني بيته ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرتضع ثدي غير أمه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه ، وأدخل أصبعه في فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن قائلاً : يسهل عليّ موته ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه ، ثم لما كبر الإمام كان إذا حصلت له كبوة في المناظرة يقول هذه من بقايا تلك الرضعة فعلم أن من ارتضع امرأة فالغالب عليه أخلاقهما من خير وشر ، وكذا لحوم الحيوانات لها تأثير عظيم وفي الحديث : "عليكم بألبان البقر وسمنانها ، وإياكم ولحومها فإن ألبانها وسمنانها دواء وشفاء ولحومها داء" وقد صح أن النبي عليه السلام "ضحى عن نسائه بالبقر".
قال الحليمي : هذا ليبس الحجاز ويبوسة لحم البقر ورطوبة لبنها وسمنها فكأنه يرى اختصاصه ذلك به وهذا التأويل المستحسن وإلا فالنبي عليه السلام لا يتقرب إلى الله تعالى بالداء ، فهو إنما قال ذلك في البقر لتلك اليبوسة.
وجواب آخر إنه عليه السلام ضحى بالبقر لبيان الجواز أو لعدم تيسر غيره كذا في "المقاصد الحسنة".
ومن فوائد سمن البقر أنه لو شرب منه على الريق خمسين درهماً
116
ينفع للجنون ويؤثر في دفعه.
(3/89)
قال الفقيه أبو الليث : يستحب للرجل أن يعرف من الطب مقدار ما يمتنع به عما يضر ببدنه ، لأن العلم علمان علم الأبدان ثم علم الأديان ، وأجاز عامة العلماء التداوي بالمحرمات عند الضرورة كإساغة اللقمة بالخمر إذا غص.
وفي "الأشباه" : الطعام إذا تغير واشتد تغيره تنجس وحرم واللبن والزيت والسمن إذا نتن لا يحرم أكله والدجاجة إذا ذبحت ونتف ريشها ، وأغليت في الماء قبل شق بطنها صار الماء نجساً وصارت نجسة بحيث لا طريق لأكلها إلا أن تحمل الهرة إليها لأن إن تحمل إلى الهرة.
فعلى العاقل أن يحترز عن الحرام وعما يضر بالبدن ومن المضر الامتلاء كما قال عليه السلام : "رأس الداء الامتلاء ورأس الدواء الاحتماء".
آن حكيمى كه در حكمت سفت
كل قليلا تعش كثيرا كفت
قال السعدي قدس سره :
ندارند تن روران آكهى
كه رمعده باشدز حكمت تهى
ومن الله التوفيق.
{قُلْ} يا محمد لكفار مكة.
{تَعَالَوْا} أمر من تعالى والأصل فيه أن يقوله من في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم اتسع فيه بالتعميم فتكلم به كل من تطلب أن يتقدم ويقبل إليه شخص سواء كان الطالب في علو أو سفل أو غيرهما.
{اتْلُ} جواب الأمر أي : أقرأ.
{مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} أي : الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه.
{عَلَيْكُمْ} متعلق بحرم {ءَانٍ} مفسرة {لا} ناهية {تُشْرِكُوا بِهِ} تعالى {شَيْـاًا} من الأشياء فتقدير الكلام ذلك التحريم هو قوله : {وَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
اعلم : أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تشتمل على عشر خصال جامعة للخير كله لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب فهن محرمات على بني آدم كلهم لم يختلفن باختلاف الأمم والأعصار ، من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
أولاهن قوله : {وَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا} قدم الشرك لأنه رأس المحرمات ، ولا يقبل الله تعالى معه شيئاً من الطاعات وهو ينقسم إلى جلي وخفي فالجلي عبادة الأصنام والخفي رؤية الأغيار مع الله الواحد القهار.
تادم وحدت زدى حافظ شوريده حال
خامه توحيد كش برورق اين وآن
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا} أي : وأحسنوا بهما إحساناً ، أي : لا تسيئوا إليهما لأن المحرم هو الإساءة ، والأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده ، وكذا معنى أوفوا لا تبخسوا وإنما وضع الأمر موضع النهي للمبالغة في إيجاب مراعاة حقوقهما ، فإن مجرد ترك الإساءة غير كاف في قضاء حقوقهما ، وهذا هو الأمر الثاني من الأحكام العشرة وإنما ذكر بعد تحريم الشرك تحريم العقوق لأن الوالدين سببان قريبان لوجوده كما أن الله تعالى موجده فالتقاعد عن أداء حقوقهما عقوق فهو أكبر الكبائر بعد الشرك.
قال بعض الأولياء : كنت في تيه بني إسرائيل ، فإذا رجل يماشيني فتعجبت منه وألهمت أنه الخضر ، فقلت له : بحق الحق من أنت قال أنا أخوك الخضر قلت بأي وسيلة رأيتك قال ببرك أمك.
جنت كه سراى ما درانست
زير قد مات ما درانست
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} أي : لا تدفنوا بناتكم حية {مِّنْ إِمْلَـاقٍ} من أجل فقر.
والإملاق
117
نفاد الزاد والنفقة ، يقال : أملق الرجل إذا نفد زاده ونفقته من الملق وهو بذل المجهود في طلب المراد.
{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على عجزكم عن تحصيل الرزق.
وهذا هو الحكم الثالث من الأحكام العشرة ، وإنما حرم قتل الأولاد لما فيه من هدم بنيان الله وملعون من هدم بنيانه ، وفيه إبطال ثمرة شجرته ومحصوده وقطع نسله وترك التوكل في أمر الرزق يؤدي إلى تكذيب الله تعالى لأنه قال : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6).
ما آبروى فقر وقناعت نمى بريم
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
با ادشه بكوى كه روزي مقدرست
{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} أي : الزنى وجيء بصيغة الجمع قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أبدل منها بدل اشتمال قوله : {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي : ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أرذالهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدان ، كما هو عادة أشرافهم.
وهذا هو الحكم الرابع منها وتوجيه النهي إلى قربانها للمبالغة في النهي عنها ويدخل في ذلك ما يبعده من الجنة ويدنيه من النار ، وهو ما ظهر وما يبعده من الحق ويحجبه عنه ، وإن لم يحجبه عن الجنة ولم يبعده منها وهو ما بطن ، وأيضاً ما ظهر منها بالفعل وما بطن بالنية ومن الزنى زنى النظر.
اين نظر ازدور ون تيراست وسم
عشقت افزون ميشود صبر توكم
(3/90)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : "أن الشيطان من الرجل في ثلاثة منازل في عينيه وفي قلبه وفي ذكره وهو من المرأة في ثلاثة منازل في عينيها وفي قلبها وفي عجزها" {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ} أي : حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج منها الحربي {إِلا بِالْحَقِّ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها ، وذلك بالكفر بعد الإيمان ، والزنى بعد الإحصان ، وقتل النفس المعصومة ، وهذا هو الحكم الخامس ، وفي القتل ترك تعظيم أمر الحق وترك الشفقة على الخلق وهما ملاك الدين.
والإشارة : أن القتل الحق هو القتل في طلب الحق والمقتول في سبيل الله هو حي عند ربه.
وعن أبي سعيد الخراز : كنت بمكة فجزت يوماً بباب بني شيبة ، فرأيت شاباً حسن الوجه ميتاً فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي ، وقال لي : يا أبا سعيد أما علمت أن الأحباب أحياء وإن ماتوا وإنما ينقلون من دار إلى دار.
مشو بمرك زامداد أهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
{ذالِكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من التكاليف الخمسة.
{وَصَّـاكُم بِهِ} أي : أمركم ربكم بحفظه أمراً مؤكداً.
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي : تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المذكورة {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} أي : لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه واليتيم من الإنسان من لا أب له ومن الحيوان من لا أم له والخطاب للأولياء والأوصياء.
{إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره.
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل احفظوه حتى يصير بالغاً رشيداً فحينئذٍ سلموه إليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
وجعل أبو حنيفة غاية الأشد خمساً وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله ما لم يكن معتوهاً.
قال الجوهري : {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي : قوته وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين وهو واحد جاء على
118
بناء الجمع مثل آنك وهو الأسرب ولا نظير لهما وكان سيبويه يقول واحدته شدة ، وهذا هو الحكم السادس ، وإنما وصى الله تعالى بحفظ مال اليتيم لأنه عاجز فتولى الله أمره وأمر بالشفقة والنظر في حقه.
ألا تانكريدكه عرش عظيم
بلرزد همي ون بكريديتيم
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} في المكيلات أي أتموه ولا تنقصوا منه شيئاً {وَالْمِيزَانَ} في الموزونات وهو بالفارسي (ترازو) {بِالْقِسْطِ} حال من فاعل أوفوا ، أي : أوفوهما مقسطين أي ملتبسين بالقسط وهو العدل.
فإن قيل إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما فائدة التكرير؟.
قلنا إن الله تعالى أمر المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذه من غير طلب زيادة.
{لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إلا ما يسعها ولا يعسر عليها ، وذكره عقيب الأمر للإيذان بأن مراعاة العدل عسير فعليكم بما في وسعكم ، وما وراءه معفو عنكم فإذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن ووقعت فيه زيادة يسيرة أو نقصان يسير لم يؤاخذه به إذا اجتهد جهده ، وإن أعيد الكيل على ذلك فزاد أو نقص لم يثبت التراجع إذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين ، وأما التقصير القصدي فليس بمعفو وينبغي الاحتياط بقدر الإمكان ـ ـ روي ـ ـ عن بعضهم أنه قال لبعض الناس وهو في النزع وكان يعامل الناس بالميزان ، قل : لا إله إلا الله فقال : ما أقدر أقولها ، لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها ، قال فقلت له : أما كنت توفي الوزن؟ قال : بلى ولكن ربما كان يقع في الميزان شيء من الغبار لا أشعر به.
وعن مالك بن دينار أنه دخل على جار له احتضر فقال يا مالك جبلان من النار بين يدي أكلف الصعود عليهما ، قال مالك : فسألت أهله ، فقالوا كان له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتى كسرتهما ، ثم سألت الرجل ، فقال : ما يزداد الأمر إلا شدة.
وهذا هو الحكم السابع.
والإشارة أوفوا بكيل العمر ، وميزان الشرع حقوق الربوبية ، واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية لا نكلف نفساً في إيفاء الحقوق واستيفاء الحظوظ إلا بحسب استعدادها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
هركس بقدر بال ور خويش مى رد
{وَإِذَا قُلْتُمْ} قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوهما.
{فَاعْدِلُوا} فيه {وَلَوْ كَانَ} المقول له أو عليه.
{ذَا قُرْبَىا} أي : ذا قرابة منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاً لأن مداد الأمر اتباع الحق المشروع وطلب مرضاة الله تعالى فلا فرق بين ذي قرابة وأجنبي ، وهذا هو الحكم الثامن وحقيقة العدل في الكلام أن يذكر الله ، ولا يذكر معه غيره وأن يتكلموفي الله وبالله وهذا لا يتيسر إلا لأرباب التحقيق فإن كلام غيرهم مشوب بالغرض والدعوى.
بأنك هدهدكر بياموزد فتى
راز هدهكوو يغام سبا
(3/91)
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أي : ما عهد إليكم أي عهد كان من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع وغيرهما فهو مضاف إلى الفاعل أو ما عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور ، فهو مضاف إلى المفعول ويحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين ، ويكون إضافته إلى الله تعالى من حيث
119
إنه أمر بحفظه والوفاء به.
وفاء عهد نكو باشد اربياموزى
وكرنه هركه توبيني ستمكرى داند
وهذا هو الحكم التاسع ، وحقيقة العهد أن لا يعبد إلا مولاه ولا يحب إلا إياه ولا يرى سواه.
ازدم صبح ازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
{ذالِكُمْ} إشارة إلى ما فصل من التكاليف الأربعة.
{وَصَّـاكُم بِهِ} أمركم به أمراً مؤكداً {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه.
{وَأَنْ} بتقدير اللام علة للفعل المؤخر أي ولأن {هَـاذَآ} أي : ما ذكر في هذه السورة من إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.
{صِرَاطِي} أي : مسلكي وشريعتي ، وسمي الشرع طريقاً لأنه يؤدي إلى الثواب في الجنة ومعنى إضافته إلى ضمير عليه السلام انتسابه إليه من حيث السلوك لا من حيث الوضع كما في صراط الله {مُّسْتَقِيمًا} حال مؤكدة ، أي مستوياً قويماً.
{فَاتَّبِعُوه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي : الطريق المختلفة التي عدا هذا الطريق مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل.
{فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي ، أصله فتتفرق حذفت منه إحدى التاءين والباء للتعدية ، أي : فتفرقكم وتزيلكم.
{عَن سَبِيلِهِ} أي : عن دين الله الذي ارتضى وبه أوصى وهو الإسلام ، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيله تعالى.
وهذا هو العاشر من الخصال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
خلاف يغمبر كسى ره كزيد
كه هر كز بمنزل نخواهد رسيد
محالست عدى كه راه صفا
توان رفت جزدري مصطفا
{ذالِكُمْ} أي : اتباع سبيله وترك اتباع سائر السبل.
{وَصَّاكُم بِه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} اتباع سبيل الكفر والضلالة.
ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية خط خطاً فقال : "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال : "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه".
واعلم : أن الشرع ههنا هو الصراط المستقيم وهو أحدّ من السيف وأدقّ من الشعر ، ولذا لا نزال في كل ركعة من الصلاة نقول اهدنا الصراط المستقيم ، ومن زلّ عن هذا الصراط في الدنيا زل عن صراط الآخرة.
أيضاً قال عليه السلام : "الزالون عن الصراط كثير وأكثر من يزل عنه النساء" وأكثر الرجال في هذا الزمان في حكم النساء في اتباع الشهوات والأخذ بالعادات والدين بدأ غريباً وعاد غريباً فلا يوجد من يستأنس به ويستأهل له إلا نادراً.
قال في "التفسير الفارسي" : (محققان بر آنندكه صراط متعين نكردد الاميان بدايتي ونهايتي وعارف داندكه بدايت همه ازكيست ونهايت همه يكيست وحضرت شيخ صدر الدين قو نوى قدس سره وإعجاز البيان فرموده كه إحاطه حق بهمه اشيا ثابت است والله بكل شيء محيط وآن احاطه وجودى است يا علمي باختلاف أفعال وأقوال متنهاى سر صراط وغايت سر سالك خواهدبو نانه فرمود {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} .
هرجا قدمى زديم در كوى توبود
هركوشه كه برفتيم سوى توبود
120
كفتيم مكر سوى ديكر راهى هست
هر راه كه ديديم همه سوى تو بود
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
{ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} عطف على مقدر أي فعلنا تلك التوصية باتباع صراط الله ثم آتينا موسى الكتاب أي التوراة وثم للتراخي في الأخبار ، كما في قولك : بلغني ماصنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب.
{تَمَامًا} مصدر من أتم بحذف الزوائد ، أي : إتماماً للكرامة والنعمة.
{عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ} أي : على من أحسن القيام به كائناً من كان من الأنبياء والمؤمنين.
{وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ} وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه في الدين وهذا لا ينافي الاجتهاد في شريعتهم كما لا ينافي قوله تعالى : في آخر سورة يوسف {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ} (يوسف : 111) في شريعتنا لأن التفصيل في الأصول والاجتهاد في الفروع.
{وَهَدَى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} نجاة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه {لَعَلَّهُمْ} أي : بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى.
{بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} الباء متعلقة بيؤمنون ، أي كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
{وَهَـاذَآ} أي : القرآن {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ} ليس من قبل الرسول كما يزعم المنكرون.
{مُّبَارَكٌ} أي : كثير النفع ديناً ودنيا.
(3/92)
قال في "التأويلات النجمية" : {مُّبَارَكٌ} عليك وبركته أنه أنزل على قلبك بجعل خلقك القرآن ومبارك على أمتك بأنه حيل بينهم وبين ربهم ليوصلهم إليه بالاعتصام.
{فَاتَّبَعُوهُ} واعملوا بما فيه {وَاتَّقَوْا} مخالفته {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بواسطة أتباعه والعمل بموجبه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 121
{أَن تَقُولُوا} على حذف المضاف كما هو رأي البصريين ، أي : أنزلناه كراهة أن تقولوا يا أهل مكة يوم القيامة لم تنزله {إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـابُ} أي : التوراة والإنجيل.
{عَلَى طَآئِفَتَيْنِ} كائنتين {مِن قَبْلِنَا} وهما اليهود والنصارى ولعل الاختصاص في إنما اشتهار الكتابين يومئذٍ فيما بين الكتب السماوية.
{وَأَنْ} مخففة أي وإنه.
{كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} قراءتهم ولم يقل عن دراستهما لأن كل طائفة جماعة {لَغَـافِلِينَ} لا ندري ما في كتابهم ؛ إذ لم يكن على لغتنا فلم نقدر على قراءته.
{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَـابُ} كما أنزل عليهم {لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما في تضاعيفه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقها لحدة أذهاننا ونقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنوناً من العلم كالقصص والأشعار والخطب مع أنا أميون.
{فَقَدْ جَآءَكُمُ} متعلق بمحذوف معلل به أي لا تعتذروا بذلك القول فقد جاءكم {بَيِّنَةً} كائنة {مِّن رَّبِّكُمْ} أي : حجة واضحة {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عبر عن القرآن بالبينة إيذاناً بكمال تمكنهم من دراسته لأنه على لغتهم ثم بالهدى والرحمة.
{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي : لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَّبَ بآيات اللَّهِ} أي : القرآن {وَصَدَفَ عَنْهَا} أي : صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال.
في "القاموس" : صدف عنه يصدف أعرض وفلاناً صرفه.
{سَنَجْزِى الَّذِينَ} بالفارسي (زود باشدكه جزادهم آنراكه) {يَصْدِفُونَ} الناس.
{عَنْ ءَايَـاتِنَا} وعيد لهم ببيان جزاء إضلالهم بحيث يفهم منه جزاء ضلالتهم أيضاً.
{سُواءُ الْعَذَابِ} أي : شدته {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف والصرف على التجدد والاستمرار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 121
فعلى العاقل أن يعمل بالقرآن ويرغب غيره بقدر الإمكان ؛ لأنه يكون شريكه في الثواب الفائض من الله الوهاب ، والمعرض عن القرآن الذي هو غذاء الأرواح ، كالمعرض عن شراب السكر الذي هو غذاء الأشباح ، وله ظاهر فسره العلماء وباطن حققه أهل التحقيق وكل
121
قد علم مشربه وفي الحديث : "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي : على سبع لغات وهي لغات العرب المشهورين بالفصاحة من قريش وهذيل وهوازن واليمن وطي وثقيف ، تسهيلاً وتيسيراً ليقرأ كل طائفة بما يوافق لغتهم بشرط السماع من النبي عليه السلام ؛ إذ لو كلفوا القراءة بحرف واحد لشق عليهم إذ الفطام عن المألوف شاق أو على سبع قراءات ، وهي التي استفاضت عن النبي عليه السلام وضبطتها الأمة وأضافت كل حرف منها إلى من كان أكثر قراءة به من الصحابة ، ثم أضيفت كل قراءة منها إلى من اختارها من القراء السبعة وهم : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي.
ويقال إن جاحد القراءات السبع كافر وجاحد الباقي آثم مبتدع.
ولما تنزل القرآن العظيم من عالم الحقيقة كتب في جميع الألواح وفي لوح هذا التعين ، حتى في لوح وجودك وأودع القابلية في كل منها لقراءته ومعرفته ، والمقصود الأصلي هو العمل به والتخلف بأخلاقه دون تصحيح المخرج ورعاية ظاهر النظم فقط.
ونعم قول من قال :
نقد عمرش زفكرت معوج
خرج شد در رعايت مخرج
صرف كردش همه حيات سره
در قراآت سبعه وعشره
قال الحافظ :
عشقت رسد بفرياد كر خود بسان حافظ
قرآن زبر بخواني درازده روايت
وفي الحديث : "لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار" قال القاضي البيضاوي ، أي : لو صور القرآن وجعل في إهاب وألقي في النار ما مسته ولا أحرقته ببركة القرآن ، فكيف بالمؤمن الحامل له المواظب على تلاوته.
وعن علي رضي الله عنه : "من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة ، ومن قرأ على غير وضوء فعشر حسنات" ـ ـ وروي ـ ـ عن بعض الأخيار من أهل التلاوة للقرآن الكريم أنه لما حضرته الوفاة كان كلما قالوا قل : {لا إله إِلا اللَّهُ} قال : {طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} (طه : 1 ، 2) إلى قوله : {اللَّهُ لا إله إِلا هُوَا لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} (طه : 8) فلم يزل يعيدها كلما أعادوا عليه حتى مات على هذه الآية الكريمة فظهر أن الموت على ما عاش عليه الشخص.
جزء : 3 رقم الصفحة : 121
وكان حرفة رجل بيع الحشيش وهو غافل عن الله فلما حضرته الوفاة كان كلما قيل له قل لا إله إلا الله ، قال : حزمة بفلس نسأل الله تعالى التوفيق للموت على الإسلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 121
(3/93)
{هَلْ يَنظُرُونَ} هل استفهامية معناها النفي وينظرون بمعنى ينتظرون فإن النظر يستعمل في معنى الانتظار ، كأنه قيل إني أقمت على أهل مكة الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا فما ينتظرون.
{إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة} أي : ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم.
{أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} أي : أمره بالعذاب والانتقام.
وقال البغوي : {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} بلا كيف لفضل القضاء بين موقف القيامة انتهى ، أو المراد بإتيان الرب إتيان كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي بقرينة قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ} يعني : أشراط الساعة التي هي : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، والدجال ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى عليه السلام ، ونار تخرج من عدن وهم ما كانوا منتظرين لأحد هذه الأمور الثلاثة وهي مجيء الملائكة أو مجيء الرب أو مجيء الآيات القاهرة من الرب لكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظرين شبهوا
122
بالمنتظرين.
{يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَـاتِ رَبِّكَ} ظرف لقوله : {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} كالمحتضر فإن معاينة أشراط الساعة بمنزلة نفسها ووقوع العيان يمنع قبول الإيمان لأنه إنما يقبل إذا كان بالغيب.
{لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} صفة نفساً ، أي : من قبل إتيان بعض الآيات.
{أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـانِهَا خَيْرًا} الآية تقتضي أن لا ينفع الإيمان بدون العمل الصالح ومذهب أهل السنة أنه نافع حيث إن صاحبه لا يخلد في النار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
قال حضرة الشيخ الشهير بالهدائي الاسكداري في "الواقعات" : لاح لي في توفيق هذه الآية على مذهب أهل السنة وجهان : الأول : أن يكون قوله : {أَوْ كَسَبَتْ} معطوفاً على آمنت المقدر لا على آمنت المذكور والتقدير لا ينفع نفساً إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل سواء آمنت إيماناً مجرداً أو كسبت في إيمانها خيراً ، والثاني : أن يعطف على آمنت المذكور ولكن يعتبر في اللف مقدر فيكون النشر أيضاً على أسلوبه ، والتقدير لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها خيراً لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
{قُلِ انتَظِرُوا} ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أيُّ شيء تنتظرون {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} لذلك وحينئذٍ لنا الفوز ، وعليكم الوبال بما حل بكم من سوء العاقبة.
قال البغوي : المراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها وعليه أكثر المفسرين.
قال الحدادي في "تفسيره" : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة ، وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تطلع أمن مطلعها أو من مغربها ، وكذا القمر فلا تزال كذلك حتى يأتي الله بالوقت الذي وقتّه لتوبة عباده ، وتكثر المعاصي في الأرض ، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد وينتشر المنكر فلا ينهى عنه أحد ، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس تحت العرش ، فإذا مضى مقدار ليلة سجدت واستأذنت ربها من أين تطلع ، فلم يجر لها جواباً حتى يوافيها القمر فيسجد معها ويستأذن من أين يطلع فلا يجر له جواباً ، فيحبسان مقدار ثلاث ليال فلا يعرف مقدار تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض وهم يومئذٍ عصابة قليلة في هوان من الناس ، فينام أحدهم تلك الليلة مثل ما ينام قبلها من الليالي ، ثم يقوم فيتهجد ورده فلا يصبح ، فينكر ذلك فيخرج وينظر إلى السماء فإذا هو بالليل مكانه والنجوم مستديرة ، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون ، فيقول : أخففت قراءتي أم قصرت صلاتي ، أم قمت قبل حيني ، ثم يقوم فيعود إلى مصلاه فيصلي نحو صلاته في الليلة الثانية ، ثم ينظر فلا يرى الصبح فيشتد به الخوف فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مساجدهم ويجأرون إلى الله بالبكاء والتضرع فيرسل الله جبريل إلى الشمس والقمر ، فيقول لهما : إن الله يأمركما أن ترجعا إلى مغربكما فتطلعا منه فإنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وجلاً من الله ، بكاء يسمعه أهل السموات السبع وأهل سرادقات العرش ، ثم يبكي من فيهما من الخلائق من خوف الموت والقيامة فبينما المتهجدون يبكون ويتضرعون والغافلون في غفلاتهم إذا بالشمس والقمر قد طلعا من المغرب أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر كصفتهما في كسوفهما ، فذلك قوله تعالى
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة : 9) فيرتفعان كذلك مثل البعيرين ينازع كل واحد منهما صاحبه استباقاً فيتصارخ أهل الدنيا حينئذٍ ويبكون ، فأما الصالحون فينفعهم بكاؤهم ويكتب لهم عبادة ، وأما الفاسقون : فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذٍ ويكتب ذلك عليهم حسرة وندامة ،
123
(3/94)
فإذا بلغ الشمس والقمر سرة السماء ومنتصفها جاء جبريل فأخذ بقرونهما فردهما إلى المغرب فيغربان في باب التوبة" فقال عمر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما باب التوبة فقال : "يا عمر خلق الله باباً للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب وما بين المصراع إلى المصراع أربعون سنة للراكب ، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس من مغربها ، فإذا غربا في ذلك الباب رد المصراعان والتأم بينهما ، فيصير كأن لم يكن بينهما صدع ، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل للعبد توبة بعد ذلك ، ولم ينفعه حسنة يعملها إلا من كان قبل ذلك محسناً ، فإنه يجزى كما قبل ذلك اليوم فذلك قوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً" وإنما لم يقبل الإيمان في ذلك الوقت لأنه ليس بإيمان اختياري في الحقيقة وإنما هو إيمان لخوف الهلاك قال الله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غافر : 85) قال السعدي قدس سره :
ه سود ازدزد آنكه توبه كردن
كه نتواند كمند انداخت بركاخ
بلند ازميوه كو كوتاه كن دست
كه اين كوته ندارد دست برشاخ
وعدم قبول الإيمان والتوبة غير مخصوص بمن يشاهد طلوع الشمس من المغرب وهو الأصح ، والظاهر أن من تولد بعد طلوعها أو ولد قبله ولم يكن مميزاً بعد ذلك يقبل إيمانه وجعله في "شرح المصابيح" أصح قالت عائشة رضي الله عنها "إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وحبست الحفظة وشهدت الأجساد بالأعمال".
قال الإمام السيوطي رحمه الله يظهر المهدي قبل الدجال بسبع سنين ، ويخرج الدجال قبل طلوع الشمس بعشر سنين ، ويقوم المهدي سنة مائتين بعد الألف أو أربع ومائتين ، والله أعلم وقبل ظهور المهدي أشراط أخر من خروج بني الأصفر وغيرها.
وفي "التأويلات النجمية" : إن الله تعالى جعل نفس الإنسان وقلبه أرضاً صالحاً لقبول بذر الإيمان وإنباته وتربيته كما قال عليه السلام : "لا إله إلا الله ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة" فالبذر هو قول المرء أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عند تصديق القلب بشهادة اللسان ، وإنما كان زمان هذه الزراعة زمان الدنيا لا زمان الآخرة ولهذا قال عليه السلام : "الدنيا مزرعة الآخرة" فلا ينفع نفساً في زمان الآخرة بذر إيمانها لم تكن بذرت من قبل في زمان الدنيا أو كسبت في إيمانها خيراً من الأعمال الصالحة التي ترفع الكلمة الطيبة ، وهي لا إله إلا الله وتجعلها شجرة طيبة مثمرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من ثمار المعرفة والمحبة والكشف والمشاهدة والوصول والوصال ونيل الكمال انتهى ما في "التأويلات" ونسأل الله أن يرزقنا التوفيق لتحقيق التوحيد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
{إِنَّ الَّذِينَ} أي : اليهود والنصارى.
{فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي : بدّدوه وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم.
{وَكَانُوا شِيَعًا} جمع شيعة يقال شايعه على الأمر إذا اتبعه أي فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها قال عليه السلام : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة ، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة" واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ ،
124
وأما بعده فالكل في الهاوية.
{لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ} لست من البحث عن تفرقهم والتعرض لمن يعاصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة في شيء.
{إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} تعليل للنفي المذكور ، أي هو يتولى وحده أولاهم وأخراهم ويدبرهم كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة.
{ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} أي : يوم القيامة.
{بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه من سوء عاقبته ، أي : يظهر لهم على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء.
(3/95)
واعلم أن كل فعل شنيع وعمل قبيح في الدنيا يتصور بصورة قبيحة في الآخرة ، وهو قد كان بصورة قبيحة في الدنيا أيضاً لكنه برز لفاعله في صورة مستحسنة امتحاناً وابتلاء ، فصار كالشهد المختلط بالسم نعوذ بالله من سيئات الأعمال حفت الجنة بمكروهاتنا ، وحفت النيران بشهواتنا يعني جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكروهة لنا وجعلت النار محاطة بالأشياء التي كانت محبوبة لنا ، يعني : أن نفوسنا تميل إلها وتحب أن تفعلها لكونها على وفق هواها فكما أن في الآفاق فرقاً مختلفة ينفي بعضهم الصانع ، وبعضهم صفاته ، وبعضهم يعتقد في حقه تعالى ما لا يجوز اعتقاده وبعضهم يجري على ما جرى عليه الأنبياء والأولياء من حسن العقيدة وصالح العمل ، كذلك في الأنفس قوى مختلفة لا تتحد في البنية ولا تجتمع على أمر واحد ، فالطبيعة على التشهي والنفس على الهوى والروح على الإقبال إلى المولى ، والدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان إنما يوجد بتوافق الظاهر والباطن فمن فارقه بقلبه وتمسك ببعض شعاره وبظاهره رياء وسمعة فهو من فرق أهل الدعوى من غير المعنى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي : مخاطباً لحضرة الهدائي قدس الله أسرارهما أشكر الله على عدم اقترانك بالملاحدة ، فإن الإلحاد كمرض الجذام بعيد عن الإصلاح ، قال : وأظن أنهم لا يخرجون من النار لأنهم في دعوى المقال بدون الحال انتهى.
ومن المدعين القلندرية وهم الذين يقصون لحاهم وشعورهم بل يحلقون.
قلندرى نه بريشست وموى ويا برو
حساب راه قلندر بدانكه موى بموست
كذشتن ازسر مو درقلندرى سهلست
و حافظ آنكه زسر بكذرد قلندر اوست
ومن الفرق المبتدعة الجوالقية : وهم الذين يحلقون لحاهم ويلبسون الجوالق والكساء الغليظ وقد نهى النبي عليه السلام عن لباس الشهرة سواء كان من جنس الرقيق أو الغليظ لأنه اشتهار بذلك وامتيازه عن المسلمين وقد قال عليه السلام : "كن كواحد من الناس" ولا ينفع الجوالق والكساء إذا كان المرء صاحب الرياء.
قال السعدي قدس سره :
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا در توانى فروخت
كر آوازه خواهى در اقليم فاش
برون حله كن كودرون حشو باش
وقال :
درغزا كند مرد بايد بود
بر مخنث سلاح جنك ه سود
وكان الشيخ قطب الدين حيدر مجذوباً صاحب حال جداً حتى حكي أنه أخذ حديداً
125
حاراً من كير حداد صار كقطعة نار وألقاه على عنقه ساعة فلم يحترق فأخذ الحيدرية بذلك ولبسوا الحديد تقليداً ولبس الحديد أكثر إثماً من لبس الذهب.
فعلى العاقل أن يجتنب عن البدعة وأهلها ـ ـ وروي ـ ـ أن ابن المبارك رؤي في المنام فقيل له ما فعل ربك فقال : عاتبني وأوقفني ثلاثين سنة بسبب أني نظرت باللطف يوماً إلى مبتدع ، فقال : إنك لم تعاد عدوي في الدين فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
واعلم : أن أهل الهوى والبدعة ليس مخصوصاً بالبشر كما قال الأعمش تزوج إلينا جني ، فقلت له : ما أحب الطعام إليكم؟ فقال : الأرز فقال فائتنا به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً فقلت هل فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال : نعم قلت فما الرافضة فيكم قال شرّنا.
والروافض : هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لعدم تبريه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولزم هذا اللقب كل من غلا في مذهبه واستجاز الطعن في الصحابة ، وأصله أن زيداً خرج بالكوفة داعياً لنفسه فبايعه جماعة من أهلها ، وأتاه طائفة من أهل الكوفة وقالوا تبرأ من أبي بكر وعمر نبايعك فأبى فقالوا إذاً نرفضك فمن ذلك سموا الروافض ، وقالت طائفة من أهل الكوفة : نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما وخرجوا مع زيد فسموا الزيدية.
وسبب بغضهم للأصحاب أنه لما وقعت الهزيمة في غزوة أحد ونادى الشيطان أن قد مات محمد اعتقده الأصحاب غير علي رضي الله عنه حتى وقع النزاع.
فقال كرم الله وجهه : هل أقتلكم لو لم يكن واقعاً؟ قالوا : نعم فلما ظهر خلافه عفا عنهم فمن ثم أحبوا علياً وتركوا الباقي وأبغضوه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
ون خدا خواهدكه رده كس درد
ميلش اندر طعنه اكان برد
فعلى العاقل أن يحب الصالحين حباً شديداً ، كي ينال منهم شفاعة يوم القيامة فويل لمن كان شفعاؤه خصماءه اللهم اعصمنا ولا تزغ قلوبنا واهدنا وسددنا فمنك التوفيق لسلوك طريق التحقيق.
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} أي : من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذ لا حسنة بغير إيمان.
قال القاضي عياض : انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ، ولا تخفيف عذاب لكن بعضهم يكون أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم انتهى ، نعم إذا أسلموا يثابون على الخيرات المتقدمة لما ورد في الحديث "حسنات الكفار مقبولة بعد إسلامهم".
(3/96)
وفي "تفسير الكاشفي" : (هركه بيايد دردنيا بنكويى) {فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أي : فله عشر حسنات أمثالها فضلاً من الله تعالى فالأمثال ليس مميزاً للعشر ، بل مميزها هو الحسنات والأمثال صفة لمميزها ، ولذا لم يذكر التاء للعشر.
وقيل : إنما أنث عشر وإن كان مضافاً إلى ما مفرده مذكر لإضافة الأمثال إلى مؤنث هو ضمير الحسنة كقوله تعالى : {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} (يوسف : 10) {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي : بالأعمال السيئة كائناً من كان من العالمين.
{فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} بحكم الوعد واحدة بواحدة.
فإن قيل : كفر ساعة يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ فما وجه المماثلة.
وأجيب : بأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد فلما كان العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد بخلاف المسلم المذنب ، فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بنقص الثواب وزيادة العقاب.
قال الحدادي :
126
وإنما قال ذلك لأن التفضل بالنعم جائز والابتلاء بالعقاب لا يجوز انتهى.
واعلم أن الحسنات العشر أقل ما وعد من الأضعاف.
قال السعدي قدس سره :
نكو كارى از مردم نيك راى
يكى را بده مينويسد خداي
تونيز اي سر هر كرايك هنر
به بيني زده عيبش اندر كذر
وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ، ولذلك قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص كما يقول القائل لئن أسديت إليّ معروفاً لأكافئنّك بعشر أمثالها وحكمة التضعيف لئلا يفلس العبد إذا اجتمع الخصماء في طاعته فيدفع إليهم واحدة ويبقى له تسع فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من أصل حسناته ؛ لأن التضعيف فضل من الله تعالى وأصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة وفي الحديث : "ويل لمن غلب آحاده على أعشاره" أي سيئاته على حسناته ، وفي الحديث : "الأعمال ستة موجبتان ، ومثل بمثل وحسنة بحسنة وحسنة بعشر وحسنة بسبعمائة فأما الموجبتان فهو من مات ولا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات وهو مشرك بالله دخل النار ، وأما مثل بمثل فمن عمل سيئة فجزاء سيئة مثلها ، وأما حسنة بحسنة فمن همّ بحسنة حتى تشعر بها نفسه ويعلمها الله من قلبه كتبت له حسنة ، وأما حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل الله".
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
كنون بركف دست نه هره هست
كه فردا بدندان كزى شت دست
قال في "أسئلة الحكم" : اعلم أن الشارع قد يرتب الثواب للعمل لئلا يترك ، بل يرغب فيه فلا يكون ذلك العمل أفضل من العمل المؤكد عليه الذي لم يترتب عليه ذلك الثواب ، فمن ذلك قوله عليه السلام : "من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة من ذهب" مع أن السنة الراتبة لفرض الظهر أفضل من الضحى ومن ذلك قوله عليه السلام : "من صلى ست ركعات بين المغرب والعشاء كتب الله له عبادة اثنتي عشرة سنة" مع سنة المغرب أفضل من ذلك وإنما رتب الثواب على ذلك لكثرة الغفلة فيه وأمثال ذلك كثيرة في الأخبار ، فلا يفضل على الراتب المؤكد وإن لم يعين أجره غير الراتب من النوافل ، وإن رتب أجره ، وقد اتفق أهل العلم أنه لا يبلغ حد الفرض واجب وسنة راتبة أو غير راتبة في الأجر ، والفضيلة في علم أو حكم ولا يبلغ مرتبة الراتبة نفل من الأحكام وإن لم يتعين قدر أجرها ، فإن السنن شرعت لتتميم نقائض الفرائض والنوافل الغير الراتبة لتتميم نقائص السنن الراتبة ، فلا ينوب نفل مناب فرض يجب قضاؤه فقضاء فرض لا يسقط بالنوافل ، كما يزعم بعض العوام يترك الفرائض ، ويرغب في النوافل مما ورد كثرة الأجر عليه كالصلاة بعد المغرب يزعم سقوط الفرائض بها وتنوب مناب القضاء وذلك غير مشروع أصلاً ، وترتيب أجور الأعمال والأذكار موقوف على الوحي والإلهام لا قدم فيه لتخمين العقول.
والإشارة في الآية إن الله تعالى من كمال إحسانه مع العبد أحسن إليه بعشر حسنات قبل أن يعمل العبد حسنة واحدة فقال تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} يعني : قبل أن يجيء بحسنة أحسن إليه بعشر حسنات حتى يقدر أن يجيء بالحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم وحسنة الاستعداد بأن خلقه في أحسن تقويم مستعداً للإحسان ،
127
وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل ، وحسنة إنزال الكتب ، وحسنة تبيين الحسنات والسيئات ، وحسنة التوفيق وحسنة الإخلاص في الإحسان وحسنة قبول الحسنات ، {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} والسر فيه أن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة ؛ لأنها أمارة بالسوء والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب ؛ لأن بذكر الله تطمئن القلوب وقد قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} (الأعراف : 85) وأما ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت الجزاء للحسنات.
(3/97)
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
فاعلم أنه كما أن للأعداد أربع مراتب آحاد وعشرات ومئات وألوف والواحد في مرتبة الآحاد واحد بعينه.
وفي مرتبة العشرات عشرة وفي مرتبة المئات مائة ، وفي مرتبة الألوف ألف فكذلك للإنسان مراتب أربع النفس والقلب والروح والسرّ فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر منها يكون واحداً بعينه كما قال : {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} إذ هي في مرتبة الآحاد وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها لأنه بمرتبة العشرات ، وفي مرتبة الروح يكون بمائة لأنه بمرتبة المئات وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى ؛ لأنه بمنزلة الألوف والله أعلم.
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} المعنى : أن الله تعالى قد أحسن إليهم قبل أن يحسنوا بعشر حسنات شاملات للحسنات الكثيرة ، فلا يظلمهم بعد أن أحسنوا بل يضاعف حسناتهم ، يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍا وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 40) كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
{قُلْ} يا محمد لكفار مكة الذين يدعون أنهم على الدين الحق وقد فارقوه بالكلية.
{إِنَّنِى هَدَاـانِى رَبِّى} أي : أرشدني بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات التكوينية.
{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق.
{دِينًا} بدل من محل إلى صراط والمعنى هداني صراطاً.
{قَيِّمًا} مصدر بمعنى القيام وصف به الدين مبالغة ، والقياس قوماً كعوض فاعل لإعلال فعله كالقيام.
{مِّلَّةِ إِبْرَاهِامَ} عطف بيان لديناً والملة من أمللت الكتاب ، أي : أمليته وما شرعه الله لعباده يسمى ملة من حيث إنه يدّون ويملى ويكتب ويتدارس بين من اتبعه من المؤمنين ويسمى ديناً باعتبار طاعتهم لمن شرعه وسنّه ، أي : جعله لهم سنناً وطريقاً.
{حَنِيفًا} حال من إبراهيم ، أي مائلاً عن الأديان الباطلة ميلاً لا رجوع فيه.
{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي : ما كان إبراهيم منهم في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً ، وإنما أضاف هذا الدين إلى إبراهيم لأن إبراهيم كان معظماً في عيون العرب ، وفي قلوب أهل سائر الأديان ؛ إذ أهل كل دين يزعمون أنهم ينتحلون إلى دين إبراهيم عليه السلام فرد الله تعالى بقوله : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} على الذين يدعون أنهم على ملته عليه السلام عقداً وعملاً من أهل مكة واليهود المشركين بقولهم : {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة : 30) والنصارى المشركين بقولهم : {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة : 30) والمشرك في الحقيقة هو الذي يطلب مع الله تعالى شيئاً آخر ومن الله غير الله.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
{قُلْ} أعيد الأمر لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها {إِنَّ صَلاتِى} يعني الصلوات الخمس المفروضة {وَنُسُكِى} أي : عبادتي كلها.
وأصل النسك : كل ما تقربت به
128
إلى الله تعالى ومنه قولهم للعابد ناسك.
ويقال أراد بالصلاة صلاة العيد وبالنسك الأضحية وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله أنه قرب كبشاً أملح أقرن فقال "لا إله إلا الله والله أكبر إن صلاتي ونسكي" إلى قوله تعالى : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، ثم ذبح فقال : "شعره وصوفه فداء لشعري من النار وجلده فداء لجلدي من النار ، ودمه فداء لدمي من النار ، ولحمه فداء للحمي من النار وعظمه فداء لعظمي من النار وعروقه فداء لعروقي من النار" فقالوا يا رسول الله هنيئاً مريئاً هذا لك خاصة قال : "لا بل لأمتي عامة إلى أن تقوم الساعة.
أخبرني به جبريل عليه السلام عن ربي عز وجل".
{وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} أي : وما أنا عليه في حياتي وأكون عليه عند موتي من الإيمان والطاعة فالتقدير ذا محياي وذا مماتي فجعل ما يأتي به في حياته وعند موته ذا حياته وذا موته كقولك ذا إنائك تريد الطعام فإضافته بأدنى ملابسة.
{رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
{لا شَرِيكَ لَهُ} أي : خالصة له تعالى لا أشرك فيها غيره {وَبِذَالِكَ} الإخلاص {أُمِرْتُ} لا بشيء غيره.
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته ، وفيه بيان مسارعته عليه السلام إلى الامتثال بما أمر به وإن ما أمر به ليس من خصائصه عليه السلام بل الكل مأمورون به يقتدي به عليه السلام من أسلم منهم.
(3/98)
والإشارة {إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى} أي سيري على منهاج الصلاة هو معراجي إلى الله تعالى وذبيحة نفسي {وَمَحْيَاىَ} حياة قلبي وروحي.
{وَمَمَاتِى} ، أي : موت نفسي {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} لطلب الحق والوصول إليه {لا شَرِيكَ لَهُ} في الطلب من مطلوب سواه {وَبِذَالِكَ أُمِرْتُ} أي ليس هذا الطلب والقصد إلى الله من نظري وعقلي وطبعي إنما هو من فضل الله ورحمته وهدايته وكمال عنايته إذ أوحى إلي وقال : {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} (المزمل : 8) وقال : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} يعني : أول من استسلم عند الإيجاد لأمر كن وعند قبول فيض المحبة لقوله : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) والاستسلام للمحبة في قوله يحبونه دل عليه قوله عليه السلام : "أول ما خلق الله نوري" كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
وفي الآية : حث على التوحيد والإخلاص وعلامتهما التبري من كل شيء سواه تعالى ظاهراً وباطناً ولو من نفسه والتحقق بحقائق المحبة الذاتية.
وعن مالك بن دينار قال : خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وإذا شاب يمشي في الطريق بلا زاد ولا راحلة فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت : أيها الشاب من أين؟ قال : من عنده ، قلت : وإلى أين؟ قال : إليه ، قلت : وأين الزاد؟ قال : عليه قلت : إن الطريق لا يقطع إلا بالماء والزاد وهل معك شيء؟ قال : نعم قد تزودت عند خروجي بخمسة أحرف ، قلت : وما هذه الخمسة الأحرف قال قوله تعالى : {كاهيعاص} قلت : وما معنى كهيعص قال : أما قوله كاف فهو الكافي ، وأما الهاء فهو الهادي ، وأما الياء فهو المؤدي ، وأما العين فهو العالم ، وأما الصاد فهو الصادق ومن كان صاحبه كافياً وهادياً ومؤدياً وعالماً وصادقاً لا يضيع ولا يخشى ولا يحتاج إلى حمل الزاد والماء ، قال مالك : فلما سمعت هذا الكلام نزعت قميصي على أن ألبسه إياه فأبى أن يقبله وقال : أيها الشيخ العري خير من قميص دار الفناء حلالها حساب وحرامها عقاب ، وكان إذا جنّ الليل يرفع وجهه نحو السماء ، ويقول : يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصي هب لي ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك فلما أحرم الناس ولبوا
129
قلت : لم لا تلبي فقال يا شيخ أخشى أن أقول لبيك فيقول لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك ، ولا أنظر إليك ، ثم مضى فما رأيته إلا بمنى وهو يقول : اللهم إن الناس ذبحوا وتقربوا إليك بضحاياهم وهداياهم وليس لي شيء أتقرب به إليك سوى نفسي فتقبلها مني ، ثم شهق شهقة فخرّ ميتاً ، وإذا قائل يقول هذا حبيب الله هذا قتيل الله قتل بسيف الله فجهزته وواريته ، وبت تلك الليلة متفكراً في أمره ونمت فرأيته في منامي فقلت ما فعل الله بك قال فعل بي كما فعل بشهداء بدر قتلوا بسيف الكفار وأنا قتلت بسيف الجبار.
جان كه نه قربانيء جانان بود
جيفه تن بهتر ازآنان بود
هركه نشد كشته شمشير دوست
لاشه مردار به ازجان اوست
نسأل الله الكريم أن يجعلنا على الصراط المستقيم.
{قُلْ} يا محمد لمن يقول من الكفار ارجع إلى ديننا.
{أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى} أطلب حال كونه {رِّبًا} آخر فأشركه في عبادته.
{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ} أي : والحال أن ما سواه مربوب له مثلي ، فكيف يتصور أن يكون شريكاً له في العبودية؟ {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم ، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا فهذا رد له بالمعنى الأول ، أي : لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر حتى يتأتى ما ذكرتم ، وقوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} رد له بالمعنى الثاني ، أي : لا تحمل يومئذٍ نفس حاملة حمل نفس أخرى حتى يصح قولكم ولنحمل خطاياكم.
والوزر في اللغة : هو الثقل.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} أي : إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة.
{فَيُنَبِّئُكُم} يومئذٍ.
{بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي : يبين الرشد من الغيّ ويميز المحق من المبطل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
وفي الآية أمور :
الأول : إن غاية المبتغى ونهاية المرام هو الله الملك العلام ، فمن وجده فقد وجد الكل ومن فقده فقد فقد الكل ، والعاقل العاشق لا يطلب غير الله ؛ لأنه الحبيب والمحب لا يتسلى بغير المحبوب.
قال الحافظ :
دردمرا طبيب نداند دواكه من
بى دوست خسته خاطر وبادرد خوشترم
والثاني : إن كل ما تكسب النفس من خير أو شر فهو عليها ، أما الشر فهي مأخوذة به ، وأما الخير فمطلوب منها صحة القصد ، والخلو من الرياء والعجب والافتخار به.
قال السعدي قدس سره :
ه قدر آورد بنده بدرديس
كه زير قبادارد اندام يس
(3/99)
والنفس أمارة بالسوء فلا تكسب إلا سواء والسوء عليها لا لها ، وهذا دأب النفس ما وكلت إلى نفسها إلا أن رحمها ربها كما قال : {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى} (يوسف : 53) ولهذا كان من دعائه عليه السلام : "رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقلّ من ذلك" وهي أي : النفس مأمورة بالسير إلى الله بقدم العبودية والأعمال الصالحة.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل : العجب ممن يقطع الأودية والمفاوز والقفار ليصل إلى بيته وحرمه ؛ لأن فيه آثار أنبيائه كيف لا يقطع بالله نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه فإن فيه آثار مولاه.
والثالث : إن كل نفس مؤاخذ بذنبه لا بذنب غيره.
130
فإن قلت قوله عليه السلام : "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض ، أو شيء فليستحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".
يدل على خلاف ذلك وكيف يجوز في حكم الله وعدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها ، وتؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها؟.
فالجواب على ما قال الإمام القرطبي في "تذكرته" : إن هذا لمصلحة وحكمة لا نطلع عليها والله تعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد ولو كان كل ما لا تدركه العقول مردوداً لكان أكثر الشرائع مستحيلاً على موضوع عقول العباد انتهى.
يقول الفقير : إن الذنب ذنبان ذنب لازم وذنب متعد ، فالذنب اللازم : كشرب الخمر مثلاً يؤخذ به صاحبه دون غيره فهذا الذنب له جهة واحدة فقط ، والذنب المتعدي : كقتل النفس مثلاً فهذا وإن كان يؤخذ به صاحبه أيضاً ، لكن له جهتان : جهة التجاوز عن حد الشرع ، وجهة وقوع الجناية على العبد : فحمل سيئاته وطرح حسناته عليه حمل سيئات نفسه في الحقيقة وما طرح حسنات غيره في نفس الأمر ولا ظلمة أصلاً ، فالآية والحديث متحدان في المآل والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
والرابع : كما أن الاختلاف واقع بين أهل الكفر والإيمان ، كذلك بين أهل الإخلاص والرياء والشرع ، وإن كان محكماً يميز بين المحقق والمبطل إلا أن انكشاف حقيقة الحال وظهور باطن الأقوال والأفعال إنما يكون يوم تبلى السرائر وتبدى الضمائر.
وفي "المثنوي" :
ون كند جان بازكونه يوستين
جند واويلا برآيد زاهل دين
بردكان هر زرنما خندان شده است
زانكه سنك امتحان نهان شده است
قلت هلومي زند بازر بشب
انتظار روز مى دارد ذهب
باز زبان حال زر كويدكه باش
أي مزور تا برآيد روز فاش
وفي الحديث : "يخرج في آخر الزمان أقوام يجتلبون الدنيا بالدين" يعني : يأخذونها ويلبسون لباس جلود الضأن من اللين "ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب فيقول الله تعالى أبي تقترفون أم عليّ تجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيها حيران" فعلى المؤمن أن يصحح الظاهر والباطن ويرفع الاختلاف فإن الحق واحد فماذا بعد الحق إلا الضلال.
وأما اختلاف الأئمة فرحمة لعامة الناس وليس ذلك من قبيل الاختلاف بحسب المراء والجدال بل بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال فالحق أحق أن يتبع عصمنا الله وإياكم من الاختلاف المفسد للدين والجدل المزيل لأصل اليقين وجعلنا من أهل التوفيق للصواب إنه الكريم المفيض الوهاب.
{وَهُوَ} أي : الله تعالى {الَّذِى جَعَلَكُمْ} أيها الناس {خَلَئففَ الأرْضِ} من بعد بني الجان أو خلائف الأمم السابقة البشرية أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها.
والخلائف جمع الخليفة كالوصائف جمع الوصيفة وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفته لأنه يخلفه.
قال في "التأويلات النجمية" : هو جعل كل واحد من بني آدم آدم وقته وخليفة ربه في الأرض وسر الخلافة أنه صوره على صورة صفات نفسه حياً قيوماً سميعاً بصيراً عالماً قادراً متكلماً مريداً.
آدمي يست بررخ جامع
صورت خلق وحق در وواقع
131
متصل بادقائق جبروت
مشتمل بر حقائق ملكوت
{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ} في الشرف والغنى {فَوْقَ بَعْضٍ} إلى {دَرَجَـاتٌ} كثيرة متفاوتة {لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَاكُمْ} من المال والجاه ، أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم ويمتحنكم لينظر ماذا تعملون من الشكر وضده ـ ـ حكي ـ ـ أن جنيداً كان يلعب مع الصبيان في صباوته فمرّ به السري السقطي فقال ما تقول في حق الشكر يا غلام؟ قال : الشكر أن لا تستعين بنعمه على معاصيه.
{إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {سَرِيعُ الْعِقَابِ} أي : عقابه سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه الله ولم يشكره ، وإنما قال : سريع العقاب مع أنه موصوف بالحلم والإمهال لأن كل ما هو آت قريب.
قال الحافظ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
بمهلتي كه سهرت دهد زراه مرو
تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كرد(3/100)
{وَإِنَّه لَغَفُورٌ رَّحِيمُ} لمن راعاها كما ينبغي وفي الحديث : "يؤتى بالرجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام ، فيقال : اذهبوا به إلى النار ، ويؤتى بالرجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال ، فيقال له : قف لعلك فرطت في هذا في شيء مما فرض عليك من صلاة لم تصلها لوقتها أو فرطت في ركوعها وسجودها ووضوئها ، فيقول : لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ، ولم أضيع شيئاً مما فرضت ، فيقال لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به ، فقال : لا يا رب لم أختل ولم أباه في شيء ، فيقال لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فيقول : لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ، ولم أضيع شيئاً مما فرضت عليّ ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطه قال : فجيء بأولئك فيخاصمونه ، فيقولون : يا رب أعطيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا فإنه أعطانا وما ضيع شيئاً من الفرائض ، ولم يختل في شيء ، فيقال : قف الآن هات شكر نعمة أنعمتها عليك في أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسأل".
واعلم : أن الله تعالى كما أعطى المال وجاه ليتميز من هو على الشكر ومن هو على الكفران كذلك أعطى الحال ، أي استعداد الخلافة ليظهر من المتخلق بأخلاق الله القائم بأوامره في العباد والبلاد ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم والأنعام ، فمن أضاع صفات الحق بتبديلها بصفات الحيوانات عوقب بالختم على قلبه وسمعه وبصره ، فهو لا يرجع إلى مكان الغيب الذي خرج منه بل حبس في أسفل سافلين الطبيعة ، ومن تاب عن متابعة النفس والهوى ومخالفة الحق والهدى وآمن وعمل عملاً صالحاً للخلافة فقد اهتدى ولم يرجع القهقرى ـ ـ حكي ـ ـ عن إبراهيم بن أدهم أنه حج إلى بيت الله الحرام فبينما هو في الطواف ؛ إذ بشاب حسن الوجه قد أعجب الناس حسنه وجماله ، فصار إبراهيم ينظر إليه ويبكي ، فقال بعض أصحابه : إناوإنا إليه راجعون غفلة دخلت على الشيخ بلا شك ثم قال : يا سيدي ما هذا النظر الذي يخالطه البكاء؟ فقال له إبراهيم : يا أخي إني عقدت مع الله تعالى عقداً لا أقدر على فسخه ، وإلا كنت أدني هذا الفتى وأسلم عليه فإنه ولدي وقرة عيني تركته صغيراً ، وخرجت فارّاً إلى الله تعالى وها هو قد كبر كما ترى وإني لأستحيي من الله سبحانه أن أعود لشيء ، خرجت عنه قال : ثم قال لي امض وسلم عليه لعلي أتسلى بسلامك عليه وأبرد ناراً على كبدي قال : فأتيت الفتى فقلت له بارك الله لأبيك فيك فقال : يا عم وأين أبي إن أبي
132
خرج فارّاً إلى الله تعالى ليتني أراه ، ولو مرة واحدة وتخرج نفسي عند ذلك هيهات وخنقته العبرة وقال والله أودّ أني رأيته وأموت في مكاني ، قال : ثم رجعت إلى إبراهيم وهو ساجد في المقام وقد بلّ الحصى بدموعه وهو يتضرع إلى الله تعالى ويقول :
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
هجرت الخلق طراً في هواك
وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إرباً
لما سكن الفؤاد إلى سواك
قال : فقلت له ادع له ، فقال : حجبه الله عن معاصيه وأعانه على ما يرضيه انتهى فانظر إلى حال من ترك السلطنة واختار الفقر والقناعة وأنت تؤثر الغنى والمقال على الفقر والحال وفي الحديث "اللهم اجعل رزق آل محمد قوثا" أي قدر ما يمسك الرمق وقيل : القوت هو الكفاية من غير إسراف وفيه بيان أن الكفاف أفضل من الغنى ؛ لأن النبي عليه السلام إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال قال الحافظ :
درين بازاركر سوديست يا درويش خر سندست
الهي منعمم كرداف بدرويشى وخرسندى
جعلنا الله وإياكم من المقتفين لآثار سنة سيد المرسلين ، وحقق آمالنا من الوصول إلى مقام التوكل واليقين ، إنه لا يخيب رجاء سائله وداعيه ولا يقطع أجر عبده في كل مساعيه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 128(3/101)
سورة الأعراف
وهي مكية إلا ثماني آيات منقوله : {وَإِذ نَتَقْنَا} محكم كلها وقيل إلى قوله : وأعرض عن الجاهلين
وآياتها مائتان وخمس
جزء : 3 رقم الصفحة : 132
{المص} (ا) إشارة إلى الذات الأحدية ، (ل) إلى الذات مع صفة العلم ، (م) إلى معنى محمد صلى الله عليه وسلّم أي : نفسه وحقيقته ، (ص) إلى الصورة المحمدية وهي جسده وظاهره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما "(ص) جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار" أشار بالجبل إلى جسد محمد صلى الله عليه وسلّم وبعرش الرحمن إلى قلبه كما ورود في الحديث : "قلب المؤمن عرش الله".
وقوله : حين لا ليل ولا نهار ، إشارة إلى الوحدة ، لأن القلب إذا وقع في ظل أرض النفس واحتجب بظلمة صفاتها كان في الليل ، وإذا طلع عليه نور شمس الروح واستضاء بضوئه كان في النهار ، وإذا وصل إلى الوحدة الحقيقية بالمعرفة والشهور الذاتي واستوى عنده النور والظلمة لفناء الكل فيه كان وقته لا ليل ولا نهار ولا يكون عرش الرحمن إلا في هذا الوقت ، فمعنى الآية : أن وجود الكل من أوله إلى آخره كتاب أنزل إليك علمه كذا في "التأويلات القاشانية".
وقال الشيخ نجم الدين : إنه تعالى بعد ذكر ذاته وصفاته بقوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عرف نفسه بقوله : {المص} يعني : الله إله من لطفه فرد عبده للمحبة والمعرفة ، وأنعم عليه بالصبر والصدق لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة كتاب أنزل إليك انتهى.
وقال في "تفسير الفارسي" : (المص : نام قرآنست.
يا اسم ابن سوره.
133
يا هر حرفي أشارتست باسم ار اسماي الهي ون اله ولطيف وملك وصبور.
يا هر حرفي كنايتست از صفتي ون اكرام ولطف ومجد وصدق.
يا ايمايست باسم المصور.
يا بعض حروف دلالت براسما دارد بعض برافعال وتقدير نان بودَكه أنا الله أعلم وأفضل منم خداي كه ميدانم وبيان ميكنم يا ازهمه داناترم وحق از باطل جدا ميكردانم.
در حقايق سلمى كويدكه.
الف ازلست.
ولام ابد.
وميم ما بين ازل وابد.
وصاد اشارتست باتصال هر متصلي وانفصال هر منفصلي وفي الحقيقة نه اتصال را مجال كنجايش ونه انفصال محل نمايش).
اين ه راهست اين برون از فصل ووصل
كاندرونى فرع مى كنجد نه اصل
جزء : 3 رقم الصفحة : 133
نى معاني نى عبارت نى عيان
نى حقائق نى اشارت نى بيان
بر ترست ازمدركات عقل ووهم
لا جرم كم كشت دروى فكر وفهم
ون بكلى روى كفت وكوى نيست
هيكس راجز خموشى روى نيست
يقول الفقير غفر الله ذنوبه : إن الحروف المقطعة من المتشابهات القرآنية التي غاب علمها عن العقول ، وإنما أعطي فهمها لأهل الوصول ، وكل ما قيل فيها فهو من لوازم معانيها وحقائقها فلنا أن نقول : إن فيها إشارة إلى أن هذا التركيب الصفاتي والفعلي الواحدي الأبدي كان إفراداً في مرتبة الوحدة الذاتية الأزلية ، فبالتجلي الإلهي صار المفرد مركباً ، والمقطع موصلاً ، والقوة فعلاً والجمع فرقاً وتعين النسب والإضافات ، كما أن أصل المركبات الكلامية هو حروف التهجي ثم بالتركيب يحصل أب ثم أبجد ثم الحمد ، وكما أن أصل الإنسان بالنسبة إلى تعين الجسم هو النطفة ، ثم بالتصوير يحصل التركيب الجسمي والله أعلم.
{كِتَابٌ} أي : هذا كتاب.
{أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي : من جهته تعالى {فَلا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} أي : شك ما في حقيته كما في قوله تعالى : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} (يونس : 94) خلا إنه عبر عنه بما يلازمه من الحرج فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه خاطب به النبي عليه السلام والمراد الأمة ، أي : لا ترتابوا ولا تشكوا.
قوله : (منه) متعلق بحرج يقال حرج منه ، أي : ضاق به صدره ويجوز أن يكون الحرج على حقيقته ، أي لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك ، فإنه عليه السلام كان يخاف تكذيب قومه له ، وإعراضهم عنه فكان يضيق صدره من الأداء ، ولا ينبسط له فأمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة بهم.
{لِتُنذِرَ بِهِ} أي : بالكتاب المنزل المتعلق بأنزل.
{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي : ولتذكر المؤمنين تذكيراً.
{اتَّبَعُوا} أيها المكلفون {مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} يعني : القرآن.
{وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ} أي : من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق ، وهو حال من الفاعل أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى.
{أَوْلِيَآءَ} من الجن والإنس بإطاعتهم في معصية الله.
{قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين ، وما مزيد لتأكيد العلة أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً ، تذكرون لا كثيراً حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دين الله تعالى وتتبعون غيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 133
ثم شرع في التهديد إن لم يتعظوا بما جرى على الأمم الماضية بسبب إصرارهم على اتباع دين أوليائهم ، فقال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 133
{وَكَمْ} للتكثير مبتدأ والخبر هو جملة ما بعدها.
{مِن قَرْيَةٍ} تمييز {أَهْلَكْنَاهَآ} الضمير راجع إلى معنى كم ، أي كثير من القرى أردنا
134(3/102)
إهلاكها أو كثيراً منها على أن يكون كم في موضع نصب بأهلكناها ، كما في قوله تعالى : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) {فَجَآءَهَا} أي : فجاء أهلها.
{بَأْسَنَآ} أي : عذابنا {بَيَـاتًا} مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال أي : بائتين كقوم لوط.
قال الحدادي : سمي الليل بياتاً ؛ لأنه يبات فيه والبيتوتة خلاف الظلول ، وهو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم وهي بالفارسية (شب كذاشتن).
{أَوْ هُمْ قَآاـاِلُونَ} عطف على بياتاً ، أي : قائلين من القيلولة نصف النهار ، كقوم شعيب أهلكهم الله في نصف النهار ، وفي حرّ شديد وهم قائلون.
قال في "التفسير الفارسي" : (تخصيص اين دووقت بجهت آنست كه زمان آسايش واستراحتند وتصور وتوقع عذاب دران نيست س بليه غير منتظر صعبتر وسخت تراست نانه نعمت غير مترقب خوبتر ولذيذ ترست).
{فَمَا كَانَ دَعْوَاـاهُمْ} أي : دعاؤهم وتضرعهم {إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ} عذابنا وعاينوا أماراته.
{إِلا أَن قَالُوا} جميعاً.
{إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ} أي : إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسراً عليه وندامة وطمعاً في الخلاص ، وهيهات لأنه لا تنفع التوبة وقت نزول العذاب ؛ إذ هو وارتفاع التكليف مقارنان وقوم يونس مستثنى من هذا ، كما يجيء ، وفي "المثنوي" :
همو آن مرد مفلسف روز مرك
عقل را مى ديد بس بى بال وبرك
بى غرض مى كرد آندم اعتراف
جزء : 3 رقم الصفحة : 134
كزدكاوت رانده ايم اسب ازكزاف
از غروري سر كشيديم از رجال
آشنا كرديم در بحر خيال
آشنا هيجست اندر بحر روح
نيست انجا اره جز كشتى نوح
اينين فرموده آن شاه رسل
كه منم كشتى درين درياى كل
باكى كودر بصيرتهاى من
شد خليفه راستين برجاى من
كشتى نوحيم در درياكه تا
رو نكردانى زكشتى اي فتى
{فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ، أي : لنسألن الأمم قاطبة يوم الحشر قائلين ماذا أجبتم المرسلين.
{وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عما أجيبوه أو المراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم ، والذي نفى بقوله تعالى : {وَلا يُسْـاَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص : 78) سؤال الاستعلام ، أو الأول في موقف الحساب ، والثاني في موقف العقاب.
وفي "التفسير الكبير" : إنهم لا يسألون عن الأعمال ولكن يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتهم عنها.
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} أي : على الرسل حين يقولون لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب.
{بِعِلْمِ} أي : عالمين بظواهرهم وبواطنهم.
{وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أعمالهم وأحوالهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 134
واعلم : أن الرسل يقولون يوم الحشر : اللهم سلم سلم ، ويخافون أشد الخوف على أممهم ، ويخافون على أنفسهم ، والمطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ولا ظواهرهم أيضاً بالمخالفات الشرعية آمنون ، يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن لما هم أي النبيون عليه من الخوف على أممهم فمن لقي الله تعالى في ذلك اليوم شاهداً له بالإخلاص مقراً بنبيه صلى الله عليه وسلّم بريئاً من الشرك ، ومن السحر ، بريئاً من إهراق دماء المسلمين ناصحاًتعالى ولرسوله محباً لمن أطاع الله ورسوله مبغضاً لمن عصى الله
135
(3/103)
ورسوله ، استظل تحت ظل عرش الرحمن ونجا من الغم ، ومن حاد عن ذلك ووقع في شيء من هذه الذنوب بكلمة واحدة أو تغير قلبه أو شك في شيء من دينه بقي ألف سنة في الحر والهم والعذاب ، حتى يقضي الله فيه بما يشاء ـ ـ روي ـ ـ أن ملكاً من ملوك كندة كان طويل المصاحبة للهو واللذات كثير العكوف على اللعب فركب يوماً للاصطياد أو غيره ، فانقطع عن أصحابه فإذا هو برجل جالس قد جمع عظاماً من عظام الموتى ، وهي بين يديه يقلبها ، فقال : ما قصتك أيها الرجل وما الذي بلغ بك ما أرى من سوء الحال ويبس الجلد وتغير اللون والانفراد في هذه الفلاة؟ فقال : أما ما ذكرت من ذلك فلأني على جناح سفر بعيد ، وبي موكلان مزعجان يحدوان بي إلى منزل كبيت النمل مظلم القعر كريه المقر يسلماني إلى مصاحبة البلى ومجاورة الهلكى تحت أطباق الثرى ، فلو تركت بذلك المنزل مع ضيقه ووحشته وارتعاء حشاش الأرض من لحمي حتى أعود رفاتاً وتصير أعظمي رماماً ، لكان للبلى انقضاء وللشقاء نهاية ، ولكني أدفع بعد ذلك إلى صيحة الحشر وارداً طول مواقف الجرائم ، ثم لا أدري إلى أي الدارين يؤمر بي فأي حال يلتذ به من يكون هذا الأمر مصيره ، فلما سمع الملك كلامه ألقى نفسه عن فرسه وجلس بين يديه ، وقال : أيها الرجل لقد كدّر مقالك عليّ صفو عيشي وملك قلبي فأعد عليّ بعض قولك ، فقال : له أما ترى هذه التي بين يدي؟ قال : بلى ، قال هذه عظام ملوك غرّتهم الدنيا بزخرفتها واستحوذت على قلوبهم بغرورها ، فألهتهم عن التأهب لهذه المصارع حتى فاجأتهم الآجال وخذلتهم الآمال وسلبتهم بهاء النعمة وستنشر هذه العظام فتعود أجساماً ، ثم تجازى بأعمالها ، فإما إلى دار النعيم والقرار ، وإما إلى دار العذاب والبوار ، ثم غاب الرجل فلم يدر أين ذهب وتلاحق أصحاب الملك به ، وقد تغير لونه وتواصلت عبراته فلما جنّ عليه الليل نزع ما عليه من لباس الملك ولبس طمرين وخرج تحت الليل فكان آخر العهد به وأنشدوا :
جزء : 3 رقم الصفحة : 134
أفنى القرون التي كانت منعمة
كر اللييلات إقبالاً وإدباراً
يا راقد الليل مسروراً بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً
لا تأمنن بليل طاب أوله
فرب آخر ليل أجج النارا قال الإمام زين العابدين : عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ويكون غداً جيفة ، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه ، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الآخرة ، وهو يرى النشأة الأولى ، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء ، وترك دار البقاء.
فعلى العاقل أن يعتبر بمن مضى قبل أن يجيء على رأسه القضاء ويجتهد في طريق الحق ذاكراً له في الغدو والرواح ويتهيأ للموت قبل نزوله ، والوقت يمضي كالرياح فأين الذين وقعوا في إنكار الرسل وتكذيب الأنبياء؟ مضوا والله إلى دار الجزاء ، وسينقضي الزمان كله فلا يبقى أحد على بساط العالم من ملك وجن وبنى آدم ، وتطوى صحائف الأعمال وتنشر يوم السؤال ويظهر كل جليل ودقيق فيا شقاوة أهل الخذلان ، ويا سعادة أهل التوفيق اللهم إنا نسألك مراقبة الأوقات ومحافظة الطاعات والتمشي على الصراط السوي في الملك الصوري ، والمعنوي فأعن الضعفاء يا قوى آمين يا معين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 134
{وَالْوَزْنُ} أي : وزن الأعمال والتمييز بين
136
راجحها وخفيفها وجيدها ورديها والمعنى بالفارسية.
"سنجيدن أعمال هريك".
{يَوْمَئِذٍ} أي : يوم القيامة {الْحَقِّ} بالفارسية (راستست وبودنى) {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي : حسناته التي توزن فهو جمع موزون ويجوز أن يكون جمع ميزان باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن.
وقال في "التأويلات النجمية" : وإنما قال موازينه بالجمع لأن كل عبد ينصب له موازين بالقسط تناسب حالاته ، فلبدنه ميزان يوزن به أوصافه ، ولورحه ميزان يوزن به نعوته ، ولسره ميزان يوزن به أحواله ولخفيه ميزان يوزن به أخلاقه ، والخفي لطيفة روحانية قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا قال عليه السلام : "ما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق" وذلك لأنه ليس من نعوت المخلوقين ، بل هو من أخلاق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه.
فأولئك الجمع باعتبار معنى من {هُمْ} ضمير فصل يفيد اختصاص المسند بالمسند إليه.
{الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنجاة والثواب.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} بالفارسية (عملهاى وزن كرده او وآن سبكى بمعصيت خواهد بود {فأولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم} بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها واقتراف ما عرضها للعذاب.
قال الحدادي : الخسران إذهاب رأس المال ورأس مال الإنسان نفسه ، فإذا هلك بسوء عمله فقد خسر نفسه {بِمَا كَانُوا بآياتنا يَظْلِمُونَ} يعني : وضعوا التكذيب بها موضع التصديق.
قوله : {بِمَآ} متلعق بخسروا وما مصدرية وبآياتنا متعلق بيظلمون على تضمين معنى التكذيب.
(3/104)
قال في "التأويلات النجمية" : الوزن عند الله يوم القيامة لأهل الحق وأرباب الصدق وأعمال البر فلا وزن للباطل وأهله ويدل عليه قوله تعالى : {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا} ـ ـ وروي ـ ـ أنه "يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فيوزن فلا يزن جناح بعوضة" انتهى وهذه الرواية تدل على أن الموزون هو الأشخاص ، كما ذهب إليه بعض العلماء ، ولكن الجمهور على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة وقطعاً للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد وكما تثبت في صحائفهم فيقرؤوها في موقف الحساب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 136
ويؤيده ما روي "أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعون سجلاً مدى البصر ، فتخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة ، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فيطيش السجلات وتثقل البطاقة" والبطاقة رقعة صغيرة وهي ما يجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه ـ ـ روي ـ ـ أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان الذي ينصب يوم القيامة فرأى كل كفة ملء ما بين المشرق والمغرب فغشى عليه فلما أفاق قال إلهي من يقدر أن يملأ كفته بالحسنات فقال الله تعالى يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة من صدقة.
وقال في "التفسير الفارسي" : (درتبيان از ابن عباس نقل ميكندكه درازى عمود ميزان نجاه هزار ساله راهست وكفين اويكى از نورست ويكى ازظلمت حسنات درله نورنهند وسيآت درله ظلمت).
ـ ـ ويحكى ـ ـ عن بعضهم أنه قال : رأيت بعضهم في المنام ، فقلت ما فعل الله بك؟ فقال : وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات ، فجاءت صرة من السماء وسقطت في كفة الحسنات فرجحت فحللت
137
الصرة ، فإذا فيها كف تراب ألقيته في قبر مسلم ، ويجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فترجح ، فيقال : له أتدري ما هذا؟ فيقول : لا فيقال له هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس وتستوي كفتا الميزان لرجل ، فيقول الله تعالى : لستَ من أهل الجنة ولا من أهل النار ، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان فيها مكتوب أف ، فيترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق ترجح بها جبال الدنيا ، فيؤمر به إلى النار فيطلب الرجل أن يرد إلى الله تعالى ، فيقول : ردوه ، فيقول : أيها العبد العاق لأي شيء تطلب الرد إليَّ؟ فيقول : إلهي رأيت أني سائر إلى النار ، وأن لا بدّ لي منها ، وكنت عاقاً لأبي وهو سائر إلى النار مثلي فضَعّفْ عليّ به عذابي وأنقذه منها ، فيضحك الله تعالى ، ويقول عققته في الدنيا وبررته الآخرة خذ بيد أبيك وانطلق إلى الجنة.
قال الحافظ :
طمع زفيض كرامت مركه خلق كريم
كنه ببنخشد وبر عاشقان ببخشايد
واعلم : أن السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان ، وكذا يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان فيصبّ لهم الأجر صبّاً حتى أن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسامهم قد قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله فهم يكونون تحت شجرة في الجنة تسمى شجرة البلوى.
قال الله تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر : 10) قال أرباب التحقيق : التوحيد الرسمي يدخل في الميزان ؛ لأنه يوجد له ضد كما أشير إليه بحديث صاحب السجلات ، وأما التوحيد الحقيقي : فلا يدخل في الميزان لأنه لا يعادله شيء ؛ إذ لا يجتمع إيمان وكفر بخلاف إيمان وسيئات ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الأذكار ، فالذكر بها أفضل من الذكر بكلمة الله الله وهو هو عند العلماء بالله لأنها جامعة بين النفي والإثبات وحاوية على زيادة العلم والمعرفة فمن نفى بلا إله عين الخلق حكماً لا علما ، فقد أثبت كون الحق حكماً وعلماً والإله من له جميع الأسماء وما هو إلا عين واحدة هي مسمى الله الذي بيده ميزان الرفع والخفض.
جزء : 3 رقم الصفحة : 136
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : لا تُدخل الموازين إلا أعمال الجوارح ، وهي : سبع السمع ، والبصر ، واللسان ، واليد ، والبطن ، والفرج ، والرجل.
وأما الأعمال المعنوية : فلا تدخل الميزان المحسوس لكن يقام فيها العدل ، وهو الميزان المعنوي فحس لحس ، ومعنى لمعنى يقابل كل شيء بشاكلته.
قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ؛ لأن الوزن للجزاء ينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها كذا في "تفسير الفاتحة" للمولى الفناري.
فعلى العاقل أن يسارع إلى الطاعات ويبادر إلى الحسنات خصوصاً إلى أحسن الحسنات وهو كلمتا الشهادة ليكون ممن ثقلت موازينه ويدخل في زمرة المفلحين.
(3/105)
{وَلَقَدْ مَكَّنَّـاكُمْ فِى الأرْضِ} أي : جعلنا لكم منها مكاناً وقراراً وأقدرناكم على التصرف فيها على أي وجه شئتم.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ} أي : أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها أسباباً تعيشون بها جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما ، والخطاب لقريش فإنه تعالى فضّلهم على العرب بأن مكنهم من الرحلة إلى الشام أوان الصيف ومن الرحلة إلى اليمن أوان الشتاء آمنين بسبب كونهم سكان حرم الله
138
تعالى ومجاوري بيته الشريف ، ويتخطف الناس من حولهم فيتجرون بتينك الرحلتين ويكسبون ما يكون سبباً لحياتهم من المآكل والمشارب والملابس وغيرها.
{قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} فيما صنعت إليكم.
والإشارة أن التمكين لفظ جامع للتمليك والتسليط والقدرة على تحصيل أسباب كل خير وسعادة دنيوية كانت أو أخروية ، وكمال استعداد المعرفة والمحبة والطلب والسير إلى الله ونيل الوصول ، والوصال ما تشرف بهذا التمكين إلا الإنسان وبه كرم وفضل وبه يتم أمر خلافته ، ولهذا أمر الملائكة بسجود آدم وبه منّ الله على أولاده بقوله : {وَلَقَدْ مَكَّنَّـاكُمْ فِى الأرْضِ} أي : سيرناكم ووهبنا لكم في خلافة الأرض ما لم نمكن أحداً غيركم في الأرض من الحيوانات ولا في السماء من الملائكة وجعلنا لكم خاصة فيها معايش ، أي : جعلنا لكل صنف من الملك والحيوان والشيطان معيشة يعيش بها ، أو جعلنا لكم فيها معايش ؛ لأن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ، فمعيشة الملك هي معيشة روحه ، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه ، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء ، ولما حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وأنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان ، وهي القلب والسرّ والخفي فمعيشة قلبه هي الشهود ومعيشة سره هي الكشوف ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول قليلاً ما تشكرون ، أي : قليلاً منكم من يشكر هذه النعم ، أي : نعمة التمكن ونعمة المعايش برؤية هذه النعم والتحدث بها ، فإن رؤية النعم شكرها والتحدث بالنعم أيضاً شكر كذا في التأويلات النجمية :
جزء : 3 رقم الصفحة : 136
نعمت بسى وشكر كزارنده اندكست
كوينده ساس الهي زصد يكست
واعلم أن النعمة إنما تسلب ممن لا يعرف قدرها ولا يؤدي شكرها ـ ـ روي ـ ـ أن بعض الأنبياء عليهم السلام سأل الله تعالى عن أمر بلعم وطرده بعد تلك الآيات والكرامات ، فقال الله تعالى : لم يشكرني يوماً من الأيام على ما أعطيته ، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته فتيقظ أيها الرجل واحتفظ بركن الشكر جداً جداً ، واحمد الله على مننه التي أعلاها الإسلام والمعرفة وأدناها مثلاً توفيق لتسبيح أو عصمة من كلمة لا تعنيك ، عسى أن يتم نعمه عليك ولا يبتليك بمرارة الزوال فإن أمر الأمور ، وأصعبها الإهانة بعد الإكرام ، والطرد بعد التقريب والفراق بعد الوصال.
قال السعدي قدس سره :
نداند كسى قدر روز خوشى
مكر روزي افتد بسختي كشى
مكن تكيه برد ستكاهى كه هست
كه باشد كه نعمت نماند بدست
بسا اهل دولت ببازى نشت
كه دولت برفتش ببازى زدست
فضيحت بود خوشه اندوختن
س ازخر من خويشتن سوختن
تويش ازعقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زيروب
اكر بنده كوشش كند بنده وار
عز يزش ندارد خداونه كار
وكر كند رايست در بندكى
ز جاندارى افتد بخر بندكى
اللهم احفظنا من الكفران ووفقنا للشكر كل حين وآن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 136
{وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـاكُمْ} أي :
139
خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصور بصورته المخصوصة ، ثم صورناه عبر عن خلق نفس آدم وتصويره بخلق الكل وتصويرهم تنزيلاً لخلقه ، وتصويره منزلة خلق الكل ، وتصويرهم من حيث أن المقصود من خلقه وتصويره تعمير الأرض بأولاده ، فكان خلقه بمنزلة خلق أولاده فالإسناد في ضمير الجمع مجازي.
{ثُمَّ قُلْنَا للملائكة} كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص.
{اسْجُدُوا لادَمَ} سجدة تحية وتكريم ؛ لأن السجود الشرعي وهو وضع الجبهة على قصد العبادة ، إنما هوتعالى حقيقة.
{فَسَجَدُوا} أي : الملائكة بعد الأمر من غير تلعثم.
{إِلا إِبْلِيسَ} أي : لكن إبليس.
{لَمْ يَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ} أي : ممن سجد لآدم ، وإلا فهو كان ساجداًتعالى.
{قَالَ} استئناف كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذٍ فقيل قال {مَآ} أي : أي شيء.
{مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} أي : أن تسجدو لا صلة كما في قوله تعالى : {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَـابِ} (الحديد : 29) أي : ليتحقق علم أهل الكتاب.
{إِذْ أَمَرْتُكَ} أي : وقت أمري إياك به.
{قَالَ} إبليس.
{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} أي : الذي منعني من السجود هو أني أفضل منه لأنك {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} والنار جوهر لطيف نوراني ، والطين جسم كثيف ظلماني فهو خير منه ، ولقد أخطأ اللعين حيث لاحظ الفضيلة باعتبار المادة والعنصر.
(3/106)
جزء : 3 رقم الصفحة : 139
زآدمي إبليس صورت ديد وبس
غافل ازمعنى شد آن مردود خسنيست صورت شم را نيكو بمال
تا ببيني شعشع نور جلال ونعم ما قيل أيضاً :
صورت خاك اره دارد تيركى در تيركى
نيك بنكر كزره معنى صفا اندر صفاست
اين ما يون خاك كاندر وصف أو صاحب دلى
نكته كفتش كه ازوى ديده جانر اجلاست
جستن كوكرد احمر عمر ضايع كردنست
روى برخاك سياه آوركه يكسر كيمياست
وفي "المثنوي" :
كفت نار ازخاك بي شك بهترست
من زنارو او ز خاك اكدرست
س قياس فرع بر اصلش كنيم
أو ز ظلمت من زنور روشنيم
كفت حق نى بلكه لا أنساب شد
زهد وتقوى فضل را محراب شد
اين نه ميراث جهان فانيست
كه بانسابش بيان جانيست
بلكه اين ميراثهاى انبياست
وارث اين جانهاى اتقياست
ور آن بوجهلشد مؤمن عيان
ور آن نوح نبي از كمرهان
زاده خاكى منور شد وماه
زاده آتش توئى اى رو سياه
اين قياسات وتحرى روز ابر
يا بشب مر قبله را كردست جبر
ليك با خورشيد وكعبه يش رو
اين قياس واين تحرى را مجو
كعبه ناديده مكن رو زومتاب
از قياس الله أعلم بالصواب
وفي "التأويلات النجمية" : أن شرف مسجودية آدم وفضيلته على ساجديه ، لم يكن بمجرد خواصه الطينية وأن تشرفه بشرف التخمير بغير واسطة ، كقوله تعالى :
140
{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} (ص : 75) وكقوله عليه السلام : "خمر الله طينة آدم بيده أربعين صباحاً" وإنما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح المشرف بالإضافة إلى الحضرة فيه من غير واسطة ، كما قال {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (ص : 72) ولاختصاصه بالتجلي فيه عند نفخ الروح كما قال عليه السلام : "إن الله تعالى خلق آدم فتجلى فيه" ولهذا السر ما أمر الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين بل أمرهم بالسجود بعد نفخ الروح فيه ، كما قال الله تعالى : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} (ص : 71 ، 72) وذلك لأن آدم بعد أن نفخ فيه الروح صار مستعداً للتجلي لما حصل فيه من لطافة الروح ، ونورانيته التي يستحق بها التجلي ، ومن إمساك الطين الذي يقبل الفيض الإلهي ويمسكه عند التجلي فاستحق سجود الملائكة ، فإنه صار كعبة حقيقة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 139
{قَالَ} الله تعالى {فَاهْبِطْ} يا إبليس.
{مِنْهَآ} أي : من الجنة والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها وكانوا في جنة عدن ، لا في جنة الخلد ، وفيها خلق آدم وهذا أمر عقوبة على معصية.
{فَمَا يَكُونُ لَكَ} أي : فما يصح ويستقيم لك ولا يليق بشأنك.
{أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي : في الجنة ولا دلالة فيه على جواز التكبر في غيرها.
{فَاخْرُجْ} تأكيد للأمر بالهبوط.
{إِنَّكَ مِنَ الصَّـاغِرِينَ} أي : من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى ، وعلى أوليائه لتكبرك.
وفي الآية : تنبيه على أن الله تعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه وفي الحديث : "من تواضعرفعه الله ومن تكبر وضعه الله" وفي "المثنوي" :
علتي بدتر ز ندار كمال
نيست اندرجانت اي مغرو رضال
ازدل وازديده ات بس خون رود
تاز تواين معجبي بيرون شود
علت إبليس أنا خير بدست
وين مرض در نفس هر مخلوق هست
كره خودرا بس شكسته بينداو
آب صافي دان وسركين زيرجو
ون بشوراني مراوراز امتحان
آب سركين رنك كردد در زمان
درتك جوهست سركين اي فتى
كره جو صافي نمايد مر ترا
وكان الأصحاب رضي الله عنهم يبكون دماً من أخلاق النفس ـ ـ وذكر ـ ـ أن قاضياً جاء إلى أبي يزيد البسطامي يوماً ، فقال : نحن نعرف ما تعرفه ولكن لا نجد تأثيره ، فقال : أبو يزيد : خذ مقداراً من الجوز وعلق وعاءه في عنقك ، ثم ناد في البلد كل من يلطمني ادفع له جوزة حتى لا تبقي منه شيئاً ، فإذا فعلت ذلك تجد التأثير فاستغفر القاضي ، فقال أبو يزيد : قد أذنبت لأني أذكر ما يخلصك من كبر نفسك وأنت تستغفر من ذلك لكمال كبرك.
قال أبو جعفر البغدادي : ست خصال لا تُحسن بست رجال : لا يحسن الطمع في العلماء ، ولا العجلة في الأمراء ، ولا الشح في الأغنياء ، ولا الكبر في الفقراء ، ولا السفه في المشايخ ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب فعليك بالتوحيد فإنه سيف صارم يقطع عرق كل خلق مذموم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 139
{قَالَ} الشيطان بعد كونه مطروداً.
{أَنظِرْنِى} أي : أمهلني ولا تمتني.
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي : آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وهو وقت النفخة الثانية ، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لاستحالته بعد الموت.
{قَالَ} الله تعالى.
{إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} أي : من جملة الذين أخرت آجالهم
141
(3/107)
إلى وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول كما بيّن مدة المهلة في قوله تعالى : {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (ص : 80 ، 81) وهو يوم النفخة الأولى يموت الخلق فيه ويموت إبليس معهم وبين النفخة الأولى والثانية أربعون سنة فاستجيب بعض دعائه لا كله.
والفتوى على أن دعاء الكافر يستجاب استدراجاً ودلّ ظاهر قوله : {إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} على أن ثمة مُنظرين غير إبليس ، وعن ابن عباس قال : "إن الدهر يمر بإبليس فيهرم ثم يعود ابن ثلاثين".
غافلان از مرك مهلت خواستند
عاشقان كفتند نى نى زود باد
وإنما أنظره ابتلاء للعباد وتمييزاً بين المخلصومتبع الهوى ، وتعريضاً للثواب بمحالفته ، وقيل : أنظره مكافأة له بعبادته التي مضت في السماء وعلى وجه الأرض ؛ ليعلم أنه لا يضيع أجر العاملين وقيل أمهله وأبقاه إلى آخر الدهر استدراجاً له من حيث لا يعلم ليتحمل من الأوزار ما لا يتحمل غيره من الأشرار والكفار ، فأنظره إلى يوم القرار ليحصل الاعتبار به لذوي الأبصار بأن أطول الأعمار في هذه الدار لرئيس الكفار وقائد زمرة الفجار.
واختلف العلماء هل كلم الله تعالى إبليس بغير واسطة أو لا؟ والصحيح أنّه كلّمه بواسطة ملك لأن كلام الباري لمن كلمه رحمة ورضى وتكرم وإجلال ألا ترى أن موسى عليه السلام فضل بذلك على الأنبياء ما عدا الخليل ومحمداً صلى الله عليه وسلّم
جزء : 3 رقم الصفحة : 141
فإن قيل : أليس رسالته أيضاً تشريفاً وقد كانت لإبليس على غير وجه التشريف ، كذلك كلامه يكون تشريفاً لغير إبليس ولا يكون تشريفاً لإبليس.
قيل : مجرد الإرسال ليس بتشريف وإنما يكون لإقامة الحجة بدلالة أن موسى عليه السلام أرسله الله إلى فرعون وهامان ولم يقصد إكرامهما وإعظامهما لعلمه بأنهما عدوان ، وكان كلامه إياه تشريفاً له ، وقوله تعالى : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} (القصص : 62) أي : على لسان بعض ملائكته.
{قَالَ} إبليس {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى} الباء متعلقة بفعل القسم المحذوف.
والإغواء الإضلال عن المنهج القويم ، والهمزة فيه للصيرورة ، أي : بسبب أن صيرتني غاوياً ضالاً عن الهدى محروماً من الرحمة لأجلهم أقسم بعزتك.
{لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي : لآدم وذريته ترصداً بهم كما يقعد القطاع للقطع على السابلة.
{صِرَاطَكَ} أي : على صراطك {الْمُسْتَقِيمَ} الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام فالقعود كناية عن الاجتهاد في إغواء بني آدم ، فإن من هلك بسبب الاجتهاد في تكميل أمر من الأمور يقعد حتى يصير فارغ البال عما يشغله عن إتمام مقصوده ويتوجه إليه بكليته
{ثُمَّ لاتِيَنَّهُم} (س بيايم بديشان).
{مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي : من قبل الآخرة فأشككهم فيها ، وأيضاً من قبل الحسد فأزين لهم الحسد على الأكابر من العلماء والمشايخ في زمانهم ليطعنوا في أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم.
{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من جهة الدنيا أرغبهم فيها ، وأيضاً من قبل العصبية ليطعنوا في المتقدمين من الصحابة والتابعين والمشايخ الماضين ويقدحوا فيهم ويبغضوهم {وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ} من جهة الحسنات وأوقعهم في العجب والرياء.
وأيضاً من قبل الانبساط فأحرض المريدين على سوء الأدب في صحبة المشايخ وترك الحشمة والتعظيم والتوسع في الكلام والمزاح لأنزلهم عن رتبة القبول.
{وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ} من جهة السيئات فأزينها لهم ، وأيضاً من قبل المخالفة فآمرهم بترك أوامر المشايخ ونواهيهم لأوردهم به موارد الرد وأهلكهم بسطوات غيرة الولاية ، وردها بعد القبول والمقصود من الجهات
142
الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها ، مثل قصده إياهم للتسويل والإضلال من أي وجه يتيسر بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يذكر الفوق والتحت ، وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة ، فإن الآتي منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المار على عرضهم وجانبهم ، كما تقول : جلست عن يمينه ، إذا جلست متجافياً عن جانب يمينه غير ملاصق له فكأنك انحرفت عنه وتجاوزت.
{وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ} أي : مطيعين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 141
وفي "التفسير الفارسي" : (يعني كافران باشندكه منعم را نشناسد) ، وإنما قال : ظناً لا علماً لقوله تعالى : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} (سبأ : 30) لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً وهو الشهوة والغضب ومبدأ الخير واحداً وهو العقل.
قال السعدي قدس سره :
نه ابليس در حق ما طعنه زد
كزينان نيايد بجز كاربد
فغان ازبديها كه در نفس ماست
كه ترسم شود ظن إبليس راست
وملعون سند آمدش قهرما
خدايش بر انداخت ازبهرما
كجاسر برآريم ازين عاروننك
كه با او بصلحيم وباحق بجنك
(3/108)
{قَالَ} الله تعالى لإبليس {أَخْرَجَ مِنْهَا} أي : من الجنة حال كونك.
أي : مذموماً من ذأمه إذا ذمه ، فالذام من المهموز العين والذم من المضاعف كلاهما بمعنى واحد وهو التعييب البليغ.
{مَّدْحُورًا} أي : مطروداً ، فاللعين مطرود من الجنة ومن كل خير لعجبه ونظره إلى نفسه ، ففيه عبرة لكل مخلوق بعده.
{لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} اللام لتوطئة القسم ، ومن شرطية ومعناه بالفارسية (بخداى كه هركه دربى توبيا يد از اولاد آدم) {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط ، ومعنى منكم ، أي : منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم وفي الحديث : "تحاجت النار والجنة ، فقالت هذه يدخلني الجبارون المتكبرون ، وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين ، فقال الله تعالى : لهذه أنت عذابي أعذّب بك من أشاء ، وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها" ، والتابعون للشيطان هم الذين يأتيهم من الجهات الأربع المذكورة فيقبلون منه ما أمره فليحذر العاقل عن متابعته وليجتهد في طاعة الله وعبادته حتى لا يدخل النار مع الداخلين ، وفي الحديث : "إذا كان يوم القيامة رفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل فقيل هذا فداؤك من النار" وفي هذا الحديث دليل على كمال لطف الله بعباده وكرامتهم عليه حيث فدى أوليائه بأعدائه ، ويحتمل أن يكون معنى الفداء أن الله تعالى وعد النار ليملأها من الجِنّة والناس فهي تستنتجز الله موعده في المشركين وعصاة المؤمنين ، فيرضيها الله تعالى بما يقدم إليها من الكفار فيكون ذلك كالمفاداة عن المؤمنين.
وقال بعضهم : معناه أن المؤمنين يتوقّون بالكفار من نفح النار إذا مروا على الصراط فيكونون وقاية وفداء لأهل الإسلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 141
قال بعضهم : رأيت أبا بكر بن الحسين المقري في المنام في الليلة التي دفن فيها ، فقلت له أيها الأستاذ ما فعل الله بك قال : إن الله تعالى أقام أبا الحسن العامري صاحب الفلسفة فدائي ، وقال هذا فداؤك من النار ، وقد كان أبو الحسن توفي في الليلة التي توفي فيها أبو بكر المقري وفي الحديث : "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين
143
بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى" ، ولا يستبعد من فضل الله مع أهل الإسلام والإيمان أن يفديهم بأهل الكفر والطغيان وذلك عدل من الله مع أهل المعصية ، وفضل على أهل طاعته خلافاً للمعتزلة فإنهم أنكروا هذه واستدلوا بقوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام : 164) والذي صاروا إليه خلاف الكتاب والسنة.
قال الله تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} (العنكبوت : 13) فلا يصح استدلالهم بالآية لأن كل كافر معاقب بوزره والله أعلم بحقيقة الحال وإليه المآل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 141
{وَيَـاـاَادَمُ} أي : وقلنا لآدم بعد إخراج إبليس من الجنة يا آدم.
{اسْكُنْ أَنتَ} أي : لازم الإقامة على طريق الإباحة والتكريم {وَزَوْجُكَ} حواء والزوج في كلام العرب هو العدد الفرد المزاوج لصاحبه فأما الاثنان المصطحبان ، فيقال لهما زوجان.
{الْجَنَّةِ} أي : فيها وهي إما جنة الخلد التي جعلت دار الجزاء وعليه أكثر أهل العلم لوجوه ذكروها في كتبهم أو جنة في السماء هبطا منها أو جنة في الأرض كانت مرتفعة على سائر بقاع الأرض ذات أشجار ، وأثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور أعدها الله لهما ، وجعلها دار ابتلاء ، وعليه بعض المحققين من أهل الظاهر والباطن ، لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ولا تكليف في الجنة الجزائية ، ولأنه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها ولا نوم في الجنة ولا خروج بعد الدخول ولا يجوز دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج ولقول قابيل : أنا من أولاد الجنة كما لا يخفى ، ولما روي أن آدم لما احتضر اشتهى قطفاً من عنب الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الملائكة ، فقالوا أين تريدون يا بني آدم؟ فقالوا : إن أبانا اشتهى قطفاً من عنب الجنة ، فقالوا لهم : ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفونه وصلى عليه جبرائيل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم في موتاكم قالوا : فلولا أن الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف كان ممكناً لما ذهبوا يطلبون ذلك فدل على أنها في الأرض لا في السماء ، وقد ثبت أن النيل يخرج من الجنة ولا شك أنها من جنان الأرض وبساتينها والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
(3/109)
{فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} من أي مكان شئتما ، ومن أي شيء شئتما من نعم الجنة وثمارها موسعاً عليكما.
{وَلا تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ} اختلفوا في هذه الشجرة أيضاً وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها ، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها كذا في "آكام المرجان".
{فَتَكُونَا مِنَ الظَّـالِمِينَ} أي : فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَـانُ} قال في "الصحاح" : فوسوس لهما الشيطان يريد إليهما ، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل انتهى.
والوسوسة : الكلام الخفي المكرر يلقيه الشيطان إلى قلب البشر ليزين له ما هو المنكر شرعاً ، وأول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها فقالا له : ما يبكيك ، قال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة فوقع ذلك في نفسهما ، ثم أتاهما فوسوس إليهما وقال ما نهاكما كما يجيء.
{لِيُبْدِيَ لَهُمَا} أي : ليظهر لهما.
واللام للعاقبة لأن اللعين إنما وسوس لهما ليوقعهما في المعصية لا لظهور عورتهما لكن لما كان عاقبة وسوسته ظهور سوءاتهما شبه ظهورهما بالغرض الحامل على الوسوسة ، ويحتمل أن يكون اللام لام الغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما ،
144
أي يخزيهما بانكشاف عورتهما عند الملائكة ، وكان قد علم أن لهما سوءة بقراءته كتب الملائكة ولم يكن آدم يعلم ذلك ، وفي كون الانكشاف غرضاً لإبليس دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع ، ولم يقع نظر علي رضي الله عنه إلى عورته حذراً من أن يراها بالعين التي يرى بها جمال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا كان النظر إلى سوءته بهذه المرتبة فما ظنك بالنظر إلى سوءة الغير ، وما أشد قبح كشف العورة قالت عائشة رضي الله عنها "ما رأى مني ولا رأيت منه" أي العورة.
{مَا وُارِيَ عَنْهُمَا} أي : الذي ستر عنهما وهو مجهول وارى.
{مِن سَوْءَاتِهِمَا} أي : عورتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ؛ لأنهما قد ألبسا ثوباً يستر عورتهما.
والسوءات جمع السوءة والتعبير بلفظ الجمع عن اثنين لكراهة اجتماع لفظي التثنية ، ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أن كل عورة هي الدبر والفرج ، وذلك أربعة فهي جمع وسميت العورة سوءة ؛ لأنه يسوء الإنسان انكشافها ؛ {وَقَالَ} عطف على وسوس بياناً وتفصيلاً لكيفية وسوسته.
{مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ} أي : عن أكلها لأمر مّا.
{إِلا} كراهة {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أي : كالملائكة في لطافة البنية والاستغناء عن التغذي بالأطعمة والأشربة ونحوهما ، وفضل الملائكة من بعض الوجوه لا يدل على فضلهم على الأنبياء مطلقاً لجواز أن يكون لنوع البشر فضائل أخر راجحة على ما للملك ، فليس المراد انقلاب حقيقتهما البشرية إلى الحقيقة الملكية فإنه محال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
قال سعدي المفتي : فيه بحث إذ لا مانع منه عند الأشاعرة لتجانس الأجسام انتهى.
واعلم : أن الله تعالى باين بين الملائكة والجن والإنس في الصورة والأشكال فمن حصل على بنية الإنسان ظاهراً وباطناً ، فهو إنسان فلو قلب الإنسان إلى بنية الملك لخرج بذلك عن كونه إنساناً لكن الملك والشيطان لا يخرجان بالتشكلات الظاهرية المختلفة عن حقيقتهما ، {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ} الذين لا يموتون ويخلدون في الجنة.
{وَقَاسَمَهُمَآ} أي : أقسم لهما ، فالقسم إنما وقع من إبليس فقط إلا أنه عبر عن إقسامه بزنة المفاعلة للدلالة على أنه اجتهد في القسم اجتهاد المقاسم ، وهو الذي حلف في مقابلة حلف شخص آخر.
{إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ} فيما أقول ، والنصح بذل المجهود في طلب الخير في حق غيره.
فنزلهما إلى الأكل من الشجرة وحطهما من المرتبة العالية وهي مرتبة الطاعة إلى المنزلة السافلة ، وهي الحالة المغضبة والتدلية إرسال الشيء من الأعلى إلى الأسفل كإرسال الدلو في البئر.
{بِغُرُورٍ} أي : بسبب تغريره إياهما باليمين بالله كاذباً ، وكان اللعين أول من حلف بالله كاذباً ، وظن آدم أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً فاغترّ به فإن شأن المؤمن أن يعتقد بصدق من حلف بالله لتمكن عظمة اسم الله تعالى في قلبه وكان بعض العلماء.
يقول : من خادعنا بالله خدعنا وفي الحديث : "المؤمن غرّ كريم والفاجر خبّ لئيم" {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي : فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما لباسهما ، وظهرت لهما عوراتهما فاستحيا.
وفي الأخبار أن غيرهما لم ير عورتهما ، قيل كان لباسهما في الجنة ظفراً في أشد اللطافة واللين والبياض ، يكون حاجباً من النظر إلى أصل البدن
145
(3/110)
فلما أصابا الخطيئة نزع ذلك عن بدنهما وبقى عند رؤوس الأصابع ، تذكيراً لما فات من النعم وتجديداً للندم ، وقيل : كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر إلى حد البدن ، وقيل : كان حلة من حلل الجنة.
{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} أي : أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة.
{عَلَيْهِمَا} أي : على بدنهما أو على سوءاتهما من قبيل صغت قلوبكما في التعبير عن المثنى بالجمع لعدم التباس المراد ، فجاز أن يرجع إليه ضمير التثنية {مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} قيل : كان ذلك ورق التين ولم يستره من الشجر إلا شجر التين ، فقال الله تعالى "كما سترت آدم أخرج منك المعنى قبل الدعوى" وسائر الأشجار يخرج منها الدعوى قبل المعنى ، فلهذه الحكمة يخرج ثمر سائر الأشجار في كمامها أولاً ، ثم تظهر الثمرة من الكمام ثانياً وشجرة التين أول ما يبدو ثمره يبدو بارزاً من غير كمام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
وفي الآية.
دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم عليه السلام ، ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ} مالك أمرهما بطريق العتاب والتوبيخ يحتمل أن يكون ذلك بأن أوحى إليهما بواسطة الملك ذلك الكلام أو بأن ألهمهما ذلك في قلبهما ، قيل : كانت بهذا العتاب أشد عليهما من كل محنة أصابتهما {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} وهو تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب.
{عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ} عطف على أنهكما ، أي ألم أقل لكما ، {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} إشارة إلى قوله تعالى : {إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه : 117) ولكما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل ـ ـ روي ـ ـ أن الله تعالى قال لآدم : "ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً ، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كداً" فأهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
{قَالا} اعترافاً بالخطيئة وتسارعاً إلى التوبة.
{رَبَّنَآ} أي : يا ربنا.
{ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} أي : ضررناها بالمعصية وعرضناها للإخراج من الجنة {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} تستر علينا ذنبنا {وَتَرْحَمْنَا} بقبول توبتنا.
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} أي : الهالكين الذين باعوا حظهم في الآخرة بشهوة ساعة ، وهو دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر والمغفرة مشكوك فيها ، فكان ذنب آدم صغيرة لأنه لم يأكل من الشجرة قصداً لمخالفة حكم الله تعالى بل إنما أكل بناء على مقالة اللعين حيث أورثت فيه ميلاً طبيعياً ، ثم إنه كفّ نفسه عنه مراعاة لحكم الله إلى أن نسي ذلك وزال المانع عن أكله فحمله طبعه عليه ، ولأنه إنما أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظن أن النهي للتنزيه ، أو أن الإشارة في قوله : {وَلا تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ} إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها وقد كان المراد بها الإشارة إلى النوع كما روي أنه عليه السلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال : "هذان حرامان على ذكور أمتي حلّ لإناثها".
{قَالَ} الله تعالى {اهْبِطُوا} خطاب لآدم وحواء وذريتهما أولهما ولإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} جملة حالية من فاعل اهبطوا ، أي : متعادين فطبع إبليس عن العداوة ، كطبع العقرب على اللّدغ والذئب على السلب ، فعادى آدم لذهاب رياسته بين الملائكة بسبب خلافة آدم ، وأمرنا بمعاداة إبليس لأن الابن يعادي عدو أبيه.
{وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ} (قرار كاهى وآرام جايى).
{وَمَتَـاعٌ}
146
أي : تمتع وانتفاع {إِلَى حِينٍ} هو حين انقضاء آجالهم فاغتم آدم وظن أنه لا يرجع الجنة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 146
{قَالَ} الله تعالى {فِيهَا تَحْيَوْنَ} أي : في الأرض تعيشون {وَفِيهَا تَمُوتُونَ} وتقبرون {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} للجزاء فعلم آدم من مضمون هذا الخطاب أنه يعود إلى الجنة فصار متسلياً بفضل الله تعالى ووعده.
قال الإمام القشيري : ونعم ما قال : أصبح آدم عليه السلام محسود الملائكة مسجوداً لكافتهم على رأسه تاج الوصلة ، وعلى جسده لباس الكرامة ، وفي وسطه نطاق القربة ، وفي جيده قلادة الزلفى لا أحد من المخلوق فوقه من الرتبة ، ولا شخص مثله في الرفعة يتوالى عليه النداء كل لحظة يا آدم فلم يمس حتى نزع عنه لباسه وسلب استئناسه ، وتبدل مكانه وتشوش زمانه فإذا كان شؤم معصية واحدة على من أكرمه الله بكل كرامة هكذا فكيف شؤم المعاصي الكثيرة علينا انتهى.
قال الحافظ :
ه كونه دعوىء وصلت كنم بجانكه شدست
سم وكيل قضا ودلم ضمان فراق
وقضاء الله تعالى يجري على كل أحد نبياً كان أو ولياً.
نه من ازرده تقوى در افتادم وبس
(3/111)
درم نيز بهشت ابد از دست بهشت
واعلم : أن آدم تناول من شجره المحبة حقيقة فوقع في شبكة المحنة ، وأمر بالصبر على الهجر ووعد بالوجد بعد الفقد ، فكان ما كان من الترقيات المعنوية بعد التنزلات الصورية.
مقام عيش ميسر نمى شود بى رنج
بلى بحكم بلا بسته اند حكم الست
وشجرة العلم المجرد منهي عن أن يقربها أحد بدون المكاشفة والمشاهدة والمعاينة ، فإن صاحبه محجوب ومحروم من لذات ثمرات الحقيقة ، فلتكن المشاهدة همته من أول أمره إلى أن يصل إلى ذروة الكمال قبل مجيء الآجال ، فإن فاجأه الموت وهو في الطريق فالله تعالى يوصله إلى مطلبه ولو في البرزخ ، وأيضاً لا ينبغي لأحد أن يقرب من شجرة التدبير فإن التقدير كاف لكل غني وفقير ، ألا ترى إلى قيام الصلاة فإنه إشارة إلى التقدير الأزلي وهو التفويض ، والركوع إشارة إلى التدبير الأبدي وهو التسليم ، والسجدة إشارة إلى الفناء الكلي عنهما ؛ إذ كما لا بد من التخلق بمثل هذه الصفات لا بد من الفناء عنها في غاية الغايات.
قال تعالى : {فِيهَا تَحْيَوْنَ} أي : في المحبة وصدق الطلب ، وقرع باب الفرج بالصبر والثبات على العبودية ، وفي طلب الحق تموتون على جادة الشريعة بإقدام الطريقة ، ومنها تخرجون إلى عالم الحقيقة يدل عليه قوله عليه السلام : "كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون".
جزء : 3 رقم الصفحة : 146
بكوش خواجه واز عشق بى نصيب مباش
كه بنده را نخرد كس بعيب بى هنري
مرادرين ظلمات آنكه رهنمايى كرد
دعاى نيم شبى بود وكريه سحرى
جزء : 3 رقم الصفحة : 146
يا بَنِى ءَادَمَ} خطاب للناس كافة ـ ـ روي ـ ـ أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها فنزلت إلى آخر الآيات الثلاث.
{قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} أي : خلقناه لكم بإنزال سببه من السماء وهو ماء المطر فما تنبته الأرض من القطن والكتان من ماء السماء ، وما يكون من الكسوة من أصواف الأنعام فقوام الأنعام أيضاً من ماء السماء.
واعلم : أن السماء فاعلة والأرض قابلة والحوادث الأرضية منسوبة إلى السماء فكل ما في الأرض إنما هو
147
بتدبيرات سماوية.
{يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ} أي : يستر عوراتكم فكشف العورة مع وجود ما يسترها من اللباس في غاية القباحة ، ولا شك أن الشيطان أغوى من فعل ذلك ، كما أغوى آدم وحواء فبدت لهما سوءاتهما ونستعيذ بالله من شره.
{وَرِيشًا} هو من قبيل ما حذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، كأنه قيل ولباساً ريشاً ، أي ذا ريش وزينة تتجملون به عبر عن الزينة بالريش تشبيهاً لها بريش الطائر ؛ لأن الريش زينة الطائر كما أن اللباس زينة لبني آدم ، كأنه قيل : أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزينكم فإن الزينة غرض صحيح.
قال تعالى : {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
قال الحسين الكاشفي : (در تفسير امام زاهد فرموده كه لباس آنست كه از نيه باشد وريش ازابرشيم وكتان وشم).
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} أي : خشية الله تعالى مبتدأ خبره قوله : {ذَالِكَ خَيْرٌ} شبهت التقوى بالملبوس من حيث إنها تستر صاحبها وتحفظه مما يضره كما حفظه الملبوس.
قال قتادة والسدي : هو العمل الصالح لأنه يقي من العذاب ؛ كأنه قال لباس التقوى خير من الثياب لأن الفاجر وإن كان حسن الثياب فهو بادي العورة.
قال الشاعر :
إنى كأني أرى من لا حياء له
ولا أمانة وسط القوم عريانا قال الحافظ :
قلندران حقيقت بنيم جو نخرند
قباى اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
وفي "التفسير الفارسي" : ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى} ووشش تقوى يعني لباس كه براى تواضع وشند ون شيمينها وجامها درشت.
{ذَالِكَ خَيْرٌ} آن بهتراست كه ازلباسهاى نرم) وفي الحديث : "من رقّ ثوبه رقّ دينه" وقيل : أول من لبس الصوف آدم وحواء حين خرجا من الجنة.
وكان عيسى عليه السلام يلبس الشعر ، ويأكل من الشجر ، ويبيت حيث أمسى فلبس الصوف والشعر علامة التواضع ، وفيه تشبيه بالمساكين والعاقل من اختار ما اختاره الصلحاء.
قال الصائب :
جمعي كه شت كرم بعشق نيند
ناز سمور ومنت سنجاب ميكشند
واعلم أن لكل جزء من أجزاء الإنسان لباساً يواري سوءاة ذلك الجزء من ظاهره وباطنه ، فلباس الشريعة يواري سوءاة الأفعال القبيحة بأحكام الشريعة في الظاهر ، وسوءاة الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن ، والتقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي.
(3/112)
فلباس القلب من التقوى هو الصدق في طلب المولى يواري سوءاة طبع الدنيا وما فيها ، ولباس الروح من التقوى محبة الحق تعالى يواري به سوءاة التعلق بغير المولى ، ولباس السرّ هو شهود أنواع اللقاء يواري به سوءاة رؤية ما سوى الله تعالى ، ولباس الخفي هو البقاء بهوية الحق يواري به سوءاة هوية الخلق (يعني همه تعينات مضمحل ومتلاشى كردد وحجاب ندار ازسر وجودات متكثرة دركشيده آيد وسر) {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} (غافر : 16) برغرفه وحدت قهاري جلوه نمايد).
ملك ملك اوست او خود مالكست
غير ذاتش كل شيء هالكست
كل شيء ما خلا الله باطل
إن فضل الله غيم هاطل
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
هالك آيديشى وجهش هست نيست
هستى اندرنيسنى خود طرفه ايست
148
{ذَالِكَ} أي : إنزال اللباس {مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ} الدالة على فضله ورحمته {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرفون نعمته حيث أغناهم باللباس عن خصف الورق ، أو يتعظون فيتورعون عن القبائح نحو كشف العورة.
وفي "الأسرار المحمدية" : العالم مشحون بالأرواح فليس فيه موضع بيت ، ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله وما يعلم جنود ربك إلا هو.
قال حجة الإسلام في كتابه "معراج السالكين" : والدليل على ذلك أمر النبي عليه السلام "بالتستر في الخلوة وأن لا يجامع الرجل امرأته عريانين".
وكان الحسن ، والحسين ، وعبد الله بن جعفر ، يدخلون الماء وعليهم السراويلات تستراً عن سكان الماء ـ ـ يحكى ـ ـ عن أحمد بن حنبل قال : كنت يوماً مع جماعة يتجردون ويدخلون الماء فاستعملت خبر النبي عليه السلام : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر" فلم أتجرد فرأيت تلك الليلة في المنام ، كأن قائلاً يقول : أبشر يا أحمد فإن الله تعالى قد غفر لك باستعمال السنة فقلت ، ومن أنت؟ قال : أنا جبرائيل فقد جعلك الله إماماً يقتدى بك.
قال في "الشرعة" : وينوي بلبس الثياب ستر العورة والعيب الواقع في البدن والتزين بها تودداً إلى أهل الإسلام ، لا لحظ النفس فإن ذلك اللبس بتلك النية يصفي وينور العقل عن الكدورات تصفية بحيث لا يشوبه شيء من أهوية النفس وحظوظها ويؤجر عليه بتلك النية.
قيل : الأعمال البهيمية ما كان بغير نية.
فعلى العاقل جمع الهمم بحيث لا يسخ في السر ذكر غيره تعالى :
يا بَنِى ءَادَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ} أي : لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعكم من دخول الجنة بإغوائكم {كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} نعت لمصدر محذوف ، أي : لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم آدم وحواء من الجنة ، فإنه إذا قدر بكيده على إزلالهما فإن يقدر على إزلال أولاده أولى فوجب عليكم أن تحترزوا عن قبول وسوسته ، والنهي في اللفظ للشيطان ، والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتتان به وهو أبلغ من لا تقبلوا فتنة الشيطان.
{يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} حال من أبويكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن لباسهما كان من الظفر" أي كان يشبه الظفر فإنه كان مخلوقاً عليهما خلقة الظفر وأسند نزع اللباس إلى الشيطان مع أنه لم يباشر ذلك لكونه سبباً في ذلك النزع.
{لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} أي : ليظهر لهما عوراتهما وكانا قبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ، كما روي أن آدم كان رجلاً طوالاً وكأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع بالخطيئة بدت سوءاته ، وكان لا يراها ، فانطلق هارباً في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره ، فقال : لها أرسليني فقالت لست مرسلتك فناداه ربه يا آدم أمني تفرّ قال لا ولكني استحييت {أَنَّهُ} أي : الشيطان أو الشأن {يَرَاـاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} أي : جنوده وذريته {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} من لابتداء غاية الرؤية وحيث ظرف لمكان انتفاء الرؤية ومعناه بالفارسية (ازجايى كه شما اورانمى بينيد يعني أجسام ايشان از غايت رقت ولطافت در نظر شما نمى آيد وايشان أجسام شماراً بواسطه غلظت وكثافت مى بينند حذر از نين دشمن لازمست) ، وفي "المثنوي" :
ازنبى برخوان كه ديو وقوم او
مى برنداز حال سى خفيه بو
ازرهى كه انس ازان آكاه نيست
زانكه زين محسوس وزين أشباه نيست
149
مسلكي دارند ازديده درون
ما زدزديهاى ايشان سرنكون
دمبدم خبط وزياني ميكنند
صاحب نقب وشكاف زوربند
ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة ، أي : في بعض أحوالهم وهو حال بقائهم على صورهم الأصلية لا يقتضي امتناع رؤيتنا إياهم بأن يتمثلوا لنا كما تواتر من أن بعض الناس رأى الجن جهاراً علناً.
(3/113)
قال في "آكام المرجان في أحكام الجان" : لو كثف الله أجسامهم وقوّى شعاع أبصارنا لرأيناهم ، أو لو كثفهم وشعاع أبصارنا على ما هو عليه من غير أن يقوى لرأيناهم ، ألا ترى أن الريح ما دامت رقيقة لطيفة لا ترى فإذا كشفت باختلاف الغبار رأيناهم ولم يمتنع دخولهم في أبداننا كما يدخل الريح والنفس المتردد الذي هو الروح في أبداننا من التخرق والتخلخل ، وفي الحديث : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" وقد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب إنما يقع على الجني ولا يحس به المصروع ، ولو كان على الأنسي لقتله وكذا يجوز دخولهم في الأحجار إذا كانت مخلخلة كما يجوز دخول الهواء فيها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
فإن قلت لو دخل الجنّ في جسد ابن آدم لتداخلت الأجسام ولاحترق الإنسان؟.
قلت : الجسم اللطيف يجوز أن يدخل إلى مخاريق الجسم الكثيف كالهواء الداخل في سائر الأجسام ، ولا يؤدي ذلك إلى اجتماع الجواهر في حيز واحد ؛ لأنها لا تجتمع إلا على طريق المجاورة لا على سبيل الحلول ، وإنما يدخل في أجسامنا كما يدخل الجسم الرقيق في الظروف ، والجن ليسوا بنار محرقة ، بل هم خلقوا من نار في الأصل ، كما خلق آدم من التراب فالنسبة باعتبار الجزء الغالب.
قال في "بحر الحقائق" : الإشارة إنهم إنما يرونكم من حيث البشرية التي هي منشأ الصفات الحيوانية ، وإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة ، فإنهم لا يرونكم في هذا المقام وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنظر الرباني انتهى ، ثم قوله : {إِنَّه يَرَاـاكُمْ} تعليل للنهي ببيان أنه عدو صعب الاحتراز عن ضرره فإن العدو الذي يراك ولا تراه شديد المؤونة لا يتخلص منه إلا من عصمه الله فلا بد أن يكون العاقل على حذر عظيم من ضرره.
فإن قيل : كيف نحاربهم ونحترز عنهم ونحن لا نراهم؟.
قلنا : لم نؤمر بمحاربة أعيانهم وإنما أمرنا بدفع وسوستهم ، وعدم قبول ما ألقاه في قلوبنا بالاستعاذة منه إلى الله تعالى ـ ـ روي ـ ـ عن ذي النون المصري أنه قال : إن كان هو يراك من حيث لا تراه ، فإن الله يراه من حيث لا يرى الله ، فاستعن بالله عليه فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} بما أوجدنا بينهم من التناسب في الخذلان والغواية ، فصار بعضهم قرين بعض وأغواه ، فالأولياء : جمع ولي بمعنى الصديق ضد العدو يقال منه تولاه أي اتخذه صديقاً وخليلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
وذكر عن وهب بن منبه أنه قال : أمر الله تعالى إبليس أن يأتي محمداً عليه السلام ويجيبه عن كل ما يسأله فجاء على صورة شيخ وبيده عكازة فقال له : "من أنت"؟ قال أنا إبليس قال : "لماذا جئت"؟ قال : أمرني ربي أن آتيك وأجيبك فأخبرك عما تسألني ، فقال عليه الصلاة والسلام : "فكم أعداؤكم من أمتي"؟ قال : خمسة عشر أنت يا محمد ، وإمام عادل ، وغني متواضع ، وتاجر صدوق ، وعالم متخشع ، ومؤمن ناصح ، ومؤمن
150
رحيم القلب ، وثابت على التوبة ، ومتورع عن الحرام ، ومديم على الطهارة ، ومؤمن كثير الصدقة ، وحسن الخلق مع الناس ، ومن ينفع الناس ، وحامل القرآن مديم عليه ، وقائم الليل والناس نيام قال : "فكم رفقاؤك من أمتي"؟ فقال عشرة.
سلطان جائر ، وغني متكبر ، وتاجر خائن ، وشارب الخمر والقتال ، وصاحب الرياء ، وآكل مال اليتيم ، وآكل الربا ، ومانع الزكاة ، والذي يطيل الأمل فهؤلاء أصحابي وإخواني" فظهر أن الشياطين كما أنهم أولياء لأهل الكفر كذلك هم أولياء لمن هو في حكم أهل الكفر من أهل المعصية ونسأل الله العناية والتوفيق ـ ـ ويحكى ـ ـ أن الخبيث إبليس تبدى ليحيى بن زكرياء عليهما السلام فقال : إني أريد أن أنصحك ، قال : كذبت أنت لا تنصحني ، ولكن أخبرني عن بني آدم قال : هم عندنا على ثلاثة أصناف : أما الصنف الأول : منها فأشدّ الأصناف علينا نقبل عليه حتى نفتنه ونتمكن منه ثم يفزع إلى الاستغفار والتوبة ، فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه ، ثم نعود له فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن من ذلك في عناء.
وأما الصنف الثاني ، فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا أنفسهم ، وأما الصنف الآخر : فهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء ، قال يحيى : بعد ذلك هل قدرت مني على شيء قال : لا إلا مرة واحدة فإنك قدمت طعاماً تأكله ، فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد فنمت تلك الليلة فلم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها ، فقال له يحيى : لا جرم أني لا أشبع من طعام أبداً قال له الخبيث لا أنصح آدمياً بعدك.
(3/114)
ولقى يحيى بن زكريا إبليس في صورته أيضاً ، فقال له : أخبرني من أحبّ الناس إليك وأبغض الناس إليك ، فقال : أحبّ الناس إليّ المؤمن البخيل ، وأبغضهم إليّ الفاسق السخي قال يحيى : وكيف ذلك؟ قال لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخاه فيقبله ثم ولّى ، وهو يقول لولا أنك يحيى لم أخبرك كذا في "آكام المرجان في أحكام الجان".
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
{وَإِذَا فَعَلُوا} أي : كفار قريش.
{فَـاحِشَةً} أي : فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف ونحوهما.
{قَالُوا} جواباً للناهين عنها محتجين على حسنها بأمرين الأول تقليد الآباء وهو قولهم : {وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ} والثاني الافتراء على الله ، وهو قولهم : {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فأعرض الله تعالى عن رد احتجاجهم الأول لظهور فساده ، فإن التقليد لا يعتبر دليلاً على صحة الفعل الذي قام الدليل على بطلانه ، وإن كان معتبراً في غيره ورد الثاني بقوله : {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ} لأن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال.
{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} إنه أمركم بذلك ، وذلك لأن طريق العلم إما السماع من الله تعالى.
ابتداء : أي : من غير توسط رسول يبلغهم أن الله تعالى أمرهم بذلك وانتفاؤه ظاهر ، وإما المعرفة بواسطة الأنبياء : وهم ينكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق ، فلا طريق لهم إلى العلم بأحكام الله تعالى فكان قولهم والله أمرنا بها قولاً على الله بما لا يعملون ، وهو أي : قوله {أَتَقُولُونَ} من تمام القول المأمور به والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.
والإشارة في الآية أن الفاحشة طلب الدنيا وحبها والحرص على جمعها فإن أفحش الفواحش حب الدنيا لأنه رأس كل خطيئة ، والمعنى إذا وقع أهل الغفلة في طلب الدنيا وزينتها
151
والتمتع بها بتلقين الشياطين وتدبيرهم وتزيينهم ، فيدعوهم داع إلى الله وطلبه وترك الدنيا وطلبها.
{قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا} أي : على محبة الدنيا وشهواتها.
{وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} أي : بطلبها بالكسب الحلال.
{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ} أي : لا يأمر بحب الدنيا والحرص على جمعها وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوة ، واللباس ليقوم بأداء حق العبودية.
{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي : تفترون على الله ما لا تعلمون آفته ولاوبال عاقبته ولا تعلمون أن ذلك من فتنة الشيطان وتزيينه وإغوائه كذا في "التأويلات النجمية".
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
اين جهان جيفهاست ومردار رخيص
برنين مردار ون باشم حريص
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند إليه أمره به تعالى من الأمور المنهي عنها ، والقسط العدل وهو الوسط من كل شيء المتجاوز عن طرفي الإفراط والتفريط وفي الخبر "خير الأمور أوساطها".
توسط إذا ما شئت أمراً فإنه
كلا طرفي قصد الأمور ذميم {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} معطوف على أمر بتقدير قل لئلا يلزم عطف الإنشاء على الأخبار ، أي وقل : لهم توجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها أو أقيموا وجوهكم نحو القبلة.
{عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يحتمل أن يكون اسم زمان ، وأن يكون اسم مكان أي في كل وقت سجود أو مكان سجود والمراد بالسجود الصلاة بطريق ذكر الجزء وإرادة الكل.
وقال الكلبي : معناه إذا حضرت الصلاة وأنتم في مسجد فصلوا فيه ، ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي ، وإذا لم يكن عند مسجد فليأت أي مسجد شاء وليصل فيه.
وفي الفروع : مسجد المحلة أفضل من الجامع إذا كان الإمام عالماً ، ومسجد المحلة في حق السوقي نهاراً ما كان عند خانوته نهاراً وليلاً ما كان عند منزله.
قال الحدادي : وهذه الآية تدل على وجوب فعل الصلاة المكتوبة في الجماعة ، وفي الحديث : "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر".
وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ، وذلك لأن كل صلاة أقيمت في الجماعة كصلاة يوم وليلة إذا أقيمت بغير جماعة ، لأن فرائض اليوم والليلة سبع عشرة ركعة والرواتب عشر فالجميع سبع وعشرون.
قال العلماء : كل ما شرعت فيه الجماعة كالفرائض والتراويح ونحوهما فالمسجد فيه أفضل من ثواب المصلين في البيت بالجماعة ؛ لأن فيه إظهار شعائر الإسلام كما أن ثواب المصلين في البيت وحداناً دون ثواب المصلين في البيت بالجماعة.
{وَادْعُوهُ} أي : واعبدوه فهو من إطلاق الخاص على العام فإن الدعاء من أبواب العبادة ، وهو الخضوع للباري مع إظهار الافتقار والاستكانة وهو المقصود من العبادة والعمدة فيها.
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي : الطاعة فإن مصيركم إليه في الآخرة.
فردا كه يشكاه حقيقت شود بديد
شر منده رهروى كه عمل بر مجاز كرد
(3/115)
{كَمَا بَدَأَكُمْ} أي : أنشأكم ابتداء {تَعُودُونَ} إليه بإعادته فيجازيكم على أعمالكم والكاف في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف ، تقديره تعودون عوداً مثل ما بدأكم وهو بالهمزة بمعنى
152
أنشأ واخترع وإنما شبه الإعادة بالإبداء تقريراً لإمكانها والقدرة عليها ، يعني : قيسوا الإعادة بالإبداء فلا تنكروها فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ؛ إذ ليس بعثكم أشد من ابتداء خلقكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
{فَرِيقًا} منصوب بما بعده {هُدًى} بأن وفقهم للإيمان {وَفَرِيقًا} نصب بفعل مضمر يفسره ما بعده من حيث المعنى ، أي وأضل فريقاً.
{حَقَّ عَلَيْهِمُ} (سزاوار كشت برايشان).
{الضَّلَـالَةُ} بمقتضى القضاء السابق التابع للمشيئة المبنية على الحكم البالغة.
{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ} تعليل لما قبله ، أي : حقت عليهم الضلالة لاتخاذهم الشياطين أولياء وقبولهم ما دعوا إليه بدون التأمل في التمييز بين الحق والباطل وكل واحد من الهدى والضلال ، وإن كان يحصل بخلق الله تعالى إياه ابتداء إلا أن يخلق ذلك حسبما اكتسبه العبد وسعى في حصوله فيه.
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي : يظنون أنهم على الهدى ، وفيه دلالة على أن الكافر المخطىء المعاند سواء من حيث أنه تعالى ذم المخطىء الذي ظن أنه في دينه على الحق بأنه حق عليه الضلالة ، وجعله في حكم الجاحد والمعاند فعلم منه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين ، بل لا بد فيه من الجزم واليقين لأنه تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون أنهم مهتدون ولو كفى مجرد الحسبان فيه لما ذمهم بذلك.
فعلى العاقل تحصيل اليقين وترك التقليد والاقتداء بأصحاب التحقيق والتوحيد فإن المرء لا يعرف حاله ومقامه إلا بالتعريف.
ونعم ما قال الصائب :
واقف نميشوند كه كم كرده ندراه
تا رهروان براهنمايى نمى رسند
وكل واحد من التقليد الباطل والشك والرياء وحبّ الدنيا وحبّ الخلق مذموم لا يجدي نفعاً.
وعن ذي النون رضي الله عنه قال : بينما أنا في بعض جبال لكان إذا برجل قائم يصلي والسباع حوله ترتبض ، فلما أقبلت نحوه نفرت عنه السباع ، فأوجز في صلاته وقال : يا أبا الفيض لو صفوت لطلبتك السباع وحنت إليك الجبال ، فقلت ما معنى قولك لو صفوت؟ قال تكونخالصاً حتى يكون لك مريداً قال : فقلت فبِمَ الوصول إلى ذلك؟ قال : لا تصل إلى ذلك حتى تخرج حب الخلق من قلبك كما خرج الشرك منه ، فقلت هذا والله شديد علي ، فقال : هذا أيسر الأعمال على العارفين فولاية الخلق مطلقاً إذا كانت سبيلاً للضلالة فما ظنك بولاية الشياطين سواء كانوا شياطين الإنس أو شياطين الجن ، فلا بد من محبة الله تعالى ، فويل لمن جاوز محبة الله تعالى إلى محبة ما سواه ، وقد ذمه الله بقوله : من دون الله نسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعدما هدانا إلى محبته وأرشدنا إلى طريق طاعته وعبادته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
يا بَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الزينة وإن كانت اسماً لما يتزين به من الثياب الفاخرة إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالزينة ههنا الثياب التي تستر العورة استدلالاً بسبب نزول الآية ، وهو أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وقالوا لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ودنسناها بها ، فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا عند كل مسجد سواء دخلوه للصلاة أو للطواف وكانوا قبل ذلك يدعون ثيابهم وراء المسجد عند قصد الطواف.
وفي "تفسير الحدادي" : كانوا
153
إذا قدموا منى طرح أحدهم ثيابه في رحله فإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه ، وكانت المرأة تطوف بالليل عريانة إلا أنها كانت تتخذ سيوراً مقطعة تشدها في حقويها فكانت السيور لا تسترها ستراً تاماً.
وهذه الآية ، أصل في وجوب ستر العورة في الصلاة ، والمعنى خذوا ثيابكم لمواراة عورتكم عند كل مسجد لطواف أو صلاة.
قال شيخ الإسلام خواهر زاده : فيه دليل على أن اللبس من أحسن الثياب مستحب حالة الصلاة ؛ لأن المراد من الزينة الثوب بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب انتهى ، فأخذ الثوب واجب ولباس التجمل مسنون ، وكان أبو حنيفة رحمه الله اتخذ لباساً لصلاة الليل وهو قميص وعمامة ورداء وسراويل قيمة ذلك ألف وخمسمائة درهم يلبسه كل ليلة ويقول التزينتعالى أولى من التزين للناس.
قال الفقهاء : ولا اعتبار لستر الظلمة لأن الستر وجب لحق الصلاة وحق الناس.
وفي "التفسير الفارسي" : (كفته اند بزبان علم ستر عورتست براى نماز وبزبان كشف حضور دلست براى عرض راز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
ذوق طاعت بي حضور دل نيابد هيكس
طالب حق را دل حاضر برين دركاه بس
(3/116)
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} ما طاب لكم من الأطعمة والأشربة روي أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به فنزلت.
والإشارة كلوا مما يأكل أهل البيات في مقام العبودية واشربوا مما يشربون ، كما قال عليه السلام : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وكان عليه السلام يخص رمضان من العبادات بما لا يخص به غيره من الشهور ، حتى إنه كان يواصل أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة ، وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له فإنك تواصل فيقول : "لست كأحدكم إني أبيت" وفي رواية "أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" ، وقد اختلف العلماء في هذا الطعام والشراب المذكور على قولين : أحدهما إنه طعام وشراب حسي بالفم ، قالوا وهذا حقيقة اللفظ ولا يجب العدول عنه وكان يؤتى بطعام من الجنة ، والثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه لقربه ونعيم محبته ، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة الأعين وبهجة النفوس ـ ـ حكي ـ ـ أن مريداً خدم الشيخ منصور الحلاج في الكعبة حين كان مجاوراً سنتين ، قال : كان يجيء له طعام من أرباب الخيرات فأضعه عنده ثم أجده في الصبح من غير نقصان فأطعمه فقيراً فما رأيته في السنتين أكل لقمة.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي : أن النبي عليه السلام إنما أكل في الظاهر لأجل أمته الضعيفة ، وإلا فلا احتياج له إلى الأكل والشرب ، وما روي من أنه ، كان يشد الحجر" فهو ليس من الجوع بل من كمال لطافته لئلا يصعد إلى الملكوت فكان يشد الحجر حتى يحصل الاستقرار في عالم الإرشاد ، قال يعني : إنه صلى الله عليه وسلّم كان ينظر إلى حدوث العالم فيتنعم بتجل البقاء انتهى كلامه.
{وَلا تُسْرِفُوا} بتحريم الحلال فإن بتحريم الحلال يتحقق تضييع المال وهو إسراف أو بالتعدي إلى الحرام بأن يتناول ما حرمه الله عليه من المأكول والمشروب والملبوس ، أو بإفراط الطعام والشره عليه بأن يتناول
154
ما لا يحتاج إليه البدن في قوامه ، فإن ذلك أيضاً من قبيل الإسراف ، {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} لا يرتضي فعلهم ولا يثني عليهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
قال بعضهم : الإسراف هو أن يأكل الرجل كل ما يشتهيه ، ولا شك أن من كان تمام همته مصروفاً إلى فكر الطعام والشراب كان أخس الناس وأذلهم.
خواجه را بين كه ازسحر تاشام
دارد انديشه شراب وطعام
شكم ازخوش دلى وخوش حالي
كاه ر ميكند كهى خالي
فارغ ازخلد وايمن از دوزخ
جاى أو مزبلست ويا مطبخ
(شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري فرموده كه اكرهمه دنياراً لقمه سازى ودردهان درويشى نهى إسراف نباشد إسراف آن بودكه نه برضاى حق تعالى صرف كنى)
يك جوانراكه خير دائم داشت
ند ميداد راهبى در دير
كاى سر خير نيست دراسراف
كفت اسراف نيست اندرخير
قال في "التأويلات النجمية" : الإسراف نوعان : إفراط وتفريط فالإفراط ما يكون فوق الحاجة الضرورية ، أو على خلاف الشرع أو على وفق الطبع والشهوة أو على الغفلة ، أو على ترك الأدب أو بالشره أو على غير ذلك ، والتفريط : أن ينقص من قدر الحاجة الضرورية ويقصر في حفظ القوة والطاقة للقيام بحق العبودية ، أو يبالغ في أداء حق الربوبية بإهلاك نفسه فيضيع حقها ، أو يضيع حقوق الربوبية بحظوظ نفسه أو يضيع حقوق القلب والروح والسر التي هي مستعدة لحصولها بحظوظ النفس فالمعنى لا تسرفوا ، أي : لا تضيعوا حقوقنا ولا حقوقكم لحظوظكم انتهى ويروى أن هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن حسين بن واقد ، ليس في كتابكم من علم الطب شيء؟ والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان ، فقال له : إن الله تعالى قد جمع الطب كله في نصف آية من كتابنا قال : وما هي قال قوله تعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} فقال النصراني : وهل يؤثر عن رسولكم شيء من الطب قال : نعم جمع رسولنا صلى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة قال : وما هي قال قوله : "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وعودوا كل جسم ما اعتاد" فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
وعن ابن عباس : "كل ما شئت وإلبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة" وينبغي لأهل الرخصة أن يقتصروا على أكلتين في اليوم والليلة في غير شهر رمضان ولأهل العزيمة على أكلة واحدة ، فإن ما فوق الأكلتين للطائفة الأولى وما فوق الأكلة للثانية تجاوز عن الحد ، وميل إلى الاتصاف بصفات البهائم.
والهند : جل معالجتهم الحمية يمتنع المريض عن الأكل والشرب والكلام عدة أيام فيبرأ فجانب الاحتماء أولى.
(3/117)
{قُلْ} لما طاف المسلمون في ثيابهم وأكلوا اللحم والدسم عيّرهم المشركون لأنهم كانوا يطوفون عراة ، ولا يأكلون اللحم والدسم حال الإحرام فأمر الله حبيبه صلى الله عليه وسلّم أن يقول لهم : {مِنْ} استفهام إنكار {حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} من الثياب وسائر ما يتجمل به {الَّتِى أَخْرَجَ} بمحض قدرته.
{لِعِبَادِهِ} من النبات كالقطن والكتان ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع.
{وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ} عطف على زينة الله ، أي : من حرم أيضاً المستلذات من المآكل والمشارب كاللحوم والدسوم والألبان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
اعلم : أن الرجل إذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن
155
وجوار جميلة فلا بأس به ، فمن قنع بأدنى المعيشة وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى ؛ لأن ما عند الله خير وأبقى لأن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة ، وما زاد عليه من التنعم ونيل اللذة رخصة دلت عليها هذه الآية ودلت أيضاً على أن الأصل في المطاعم والملابس والتجمل بأنواع التجملات الإباحة ؛ لأن الاستفهام في من إنكاري كما هو مذهب الشافعي ، وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا إن الأصل في الأشياء الإباحة ، وذهب بعضهم إلى التوقف وبعضهم إلى الحظر ووجه قول القائلين بالإباحة أنه سبحانه وتعالى غني على الحقيقة جواد على الإطلاق والغني الجواد لا يمنع ماله عن عبيده إلا ما كان فيه ضرر فتكون الإباحة هي الأصل باعتبار غناه سبحانه وجوده والحرمة لعوارض فلم تثبت فبقي على الإباحة ، ووجه القول بالحظر أن الأشياء كلها مملوكةتعالى على الحقيقة والتصرف في ملك الغير لا يثبت إلا بإباحة المالك ، فلما لم تثبت الإباحة بقي على الحظر لقيام سببه ، وهو ملك الغير ووجه القول بالتوقف أن الحرمة والإباحة لا تثبت إلا بالشرع فقبل وروده لا يتصور ثبوت واحدة منهما فلا يحكم فيها بحظر ولا إباحة.
قال عبد القاهر البغدادي : وتفسير الوقف عندهم أن من فعل شيئاً قبل ورود الشرع لم يستحق بفعله من الله تعالى ثواباً ولا عقاباً.
{قُلْ هِىَ} أي : الزينة والطيبات كما في "التفسير الفارسي" {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : مستقره لهم {فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} متعلق بآمنوا أو بالاستقرار الذي تعلق به للذين ، والمقصود الأصلي من خلق الطيبات تقوية المكلفين على طاعة الله تعالى لا تقويتهم على الكفر والعصيان فهي مختصة لأصالة للمؤمنين والكفار تبع لهم في ذلك قطعاً لمعذرتهم ولذا لم يقل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الدنيا.
{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} لا يشاركهم فيها غيرهم ، وإن اشترك فيها المؤمنون والكفار في الدنيا وانتصابها على الحال من المنوي في قوله : (للذين آمنوا) ، ويوم القيامة متعلق بخالصة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
والإشارة في الآية : من يمنعكم عن طلب كمالات أخرجها الله تعالى من غير الغيب لخواص عباده من الأنبياء والأولياء ، ومن حرم عليكم نيل هذه الكرامات والمقامات فمن تصدى لطلبها وسعى لها سعياً فهي مباحة له من غير تأخير ولا قصور ، وإضافة الزينة إلى الله لأنه أخرجها من خزائن ألطافه وحقائق أعطافه ، فزين الأبدان بالشرائع وآثارها وزين النفوس بالآداب وأقدارها وزين القلوب بالشواهد وأنوارها وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها ، وزين الأسرار بالطوالع وأثمارها بل زين الظواهر بآثار التوفيق وزين البواطن بأنوار التحقيق ، بل زين الظواهر بآثار السجود وزين البواطن بأنوار الشهود ، بل زين الظواهر بآثار الجود وزين البواطن بأنوار الوجود والطيبات من الرزق ، وإن أرزاق النفوس بحكم أفضاله ، وأرزاق القلوب بموجب إقباله والطيبات من الرزق على الحقيقة ما لم يكن مشوباً بحقوق النفس وحظوظها ، ويكون خالصاً من مواهبه وحقوقه ، قل : هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا ، أي : هذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادات في الدنيا مشوبة بشوائب الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية خالصة يوم القيامة من هذه الآفات والكدورات كما قال : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (الأعراف : 43) {كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي : كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} أي : ما تفاحش قبحه من الذنوب وتزايد
156
(3/118)
وهي الكبائر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بدل من الفواحش ، أي : جهرها وسرها كالكفر والنفاق وغيرهما {وَالاثْمَ} أي : ما يوجب الإثم وهو يعم الصغائر والكبائر {وَالْبَغْىَ} أي : الظلم أو الكبر أفرده بالذكر مع دخوله في الإثم للمبالغة في الزجر عنه.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} متعلق بالبغي مؤكد له ؛ لأن البغي لا يكون بالحق.
{وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} معطوف على مفعول حرم ، أي : وحرم عليكم إشراككم به تعالى {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أي : بإشراكه وعبادته.
{سُلْطَـانًا} أي : حجة وبرهاناً وهوتهكمٌ بالمشركين ؛ لأنه إذا لم يجز إنزال البرهان بالإشراك كان ذكر ذلك تهكماً بهم واستهزاء ومعلوم أنه لا برهان عليه حتى ينزل.
{وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم والله أمرنا بها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
وفي "التأويلات النجمية" : الفواحش ما يقطع على العبد طريق الرب ويمنعه عن السلوك ففاحشة العوام ما ظهر منها ارتكاب المناهي وما بطن خطورها بالبال ، وفاحشة الخواص ما ظهر منها ما لأنفسهم نصيب فيه ولو بذرة ، وما بطن الصبر عن المحبوب ولو بلحظة ، وفاحشة الأخص ما ظهر منها ترك أدب من الآداب أو التعلق بسبب من الأسباب ، وما بطن منها الركون إلى شيء من الدارين والالتفات إلى غير الله من العالمين ، والإثم هو الإعراض عن الله ولو طرفة عين والبغي هو حب غير الله فإنه وضع في غير موضعه وأن تشركوا بالله يعني : وأن تستعينوا بغير الله ما لم ينزل به سلطاناً ، أي : ما لم يكن لكم به حجة ورخصة من الشريعة المنزلة ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي وأن تحكموا بفتوى النفس وهواها أو تقولوا بنظر العقل على الله ما لا تعلمون حقيقته وفيه معنى آخر ، وأن تقولوا في معرفة الله وبيان أحوال السائرين ، وشرح المقامات وإثبات الكرامات ما أنتم عنه غافلون ولستم به عارفين انتهى ، ثم هدد الله المشركين المكذبين للرسل بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم المهلكة {أَجَلٌ} حد معين من الزمان مضروب لمهلكهم.
{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} الضمير لكل أمة خاصة حيث لم يقل آجالهم ، أي : إذا جاءها أجلها الخاص بها والوقت المعين لنزول عذاب الاستئصال عليها.
{لا يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجل.
{سَاعَةِ} أي : شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مثل في غاية القلة منه ، أي لا يتأخرون أصلاً وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم من ذلك مع طلبهم له {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي : لا يتقدمون عليه.
اجل ون فردا آيدت يش وس
يش وس نكذاردست يكنفس
روي أن بعض الملوك كان متنسكاً ثم رجع ومال إلى الدنيا ورياسة الملك وبنى داراً وشيدها وأمر بها ففرشت ونجدت ، واتخذ مائدة ووضع طعاماً ودعا الناس فجعلوا يدخلون عليه ويأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويتعجبون من ذلك ، ويدعون له وينصرفون فمكث بذلك أياماً ثم جلس هو ونفر من خاصة أصحابه ، فقال : قد ترون سروري بداري هذه وقد حدثت نفسي أن أتخذ لكل واحد من أولادي مثلها فأقيموا عندي أياماً أستأنس بحديثكم ، وأشاوركم فيما أريد من هذا البناء فأقاموا عنده أياماً يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني وكيف يصنع ويرتب ذلك فبينما هم ذات ليلة في لهوهم إذ سمعوا قائلاً من أقصى الدار يقول :
يا أيها الباني الناسي لميتته
لا تأمنن فإن الموت مكتوب
157
هذي الخلائق إن سروا وإن فرحوا
فالموت حتف لدى الآمال منصوب
لا تبنين دياراً لست تسكنها
وراجع النسك كيما يغفر الحوب ففزع لذلك وفزع أصحابه فزعاً شديداً وراعهم فقال هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا : نعم قال : فهل تجدون ما أجد؟ قالوا : وما تجد قال : مسكة على فؤادي وما أراها إلا علة الموت ، فقالوا : كلا بل البقاء والعافية ، فبكى ثم أمر بالشراب فأهريق وبالملاهي فأخرجت ، أو قال فكسرت وتاب إلى الله سبحانه ولم يزل يقول الموت الموت حتى خرجت نفسه رحمه الله.
قال السعدي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 157
خواجه دربند نقش ايوانست
خانه از اي بست ويرانست
وقال :
آنكه قرارش نكرفتى وخواب
تاكل ونسرين نفشاندى نخست
كردش كيتي كل رويش بريخت
خاربنان بر سرخا كش برست
والإشارة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي : لك قوم من السائرين إلى الله وإلى الجنة وإلى النار مدة معلومة ومهلة موقتة.
{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} مدتهم كما قدر الله في الأزل {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةًا وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} هذا وعد للأولياء استمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء سياسة لنفوسهم كذا في "التأويلات النجمية".
(3/119)
يا بَنِى ءَادَمَ} خطاب لكافة الناس {أَمَّآ} أصله إن ما ضمت كلمة ما إلى إن الشرطية تأكيداً لما فيها من معنى الشرط.
{يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ} كائنون {مِّنكُمْ} أي : من جنسكم فهو صفة لرسل {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِى} صفة أخرى لرسل ، أي : يبينون لكم أحكامي وشرائعي ومقتضى الظاهر كلمة إذا بدل إن لكون الإتيان محقق الوقوع في علم الله تعالى لكنه سيق المعلوم مساق المشكوك للتنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب عقلاً ، حتى لا يقدر على عدم إرساله ؛ ولا واجب شرعاً حتى يأثم بترك إرساله لأنه لا يجب على الله شيء لا عقلاً ولا شرعاً لكن مقتضى الحكمة إرسال الرسل لما فيه من الحكم والمصالح.
{فَمَنْ} شرطية بالفارسية (س هركه) {اتَّقَى} منكم التكذيب.
{وَأَصْلَحَ} عمله وأطاع رسوله الذي يقص آياته.
{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي : لا يخافون ما يلحق العصاة في المستقبل.
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم في الدنيا لاستغراقهم في الاستلذاذ بما أعد للمتقين في دار الكرامة والرضوان.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا} منكم {بآياتنا} يعني : (تكذيب رسل كردند).
{وَاسْتَكْبَرُوا} (وكبر آوردند وتعظم كردند يعني سركشى نمودند) {عَنْهَا} (ازايمان بدلائل وحدت ما).
{أولئك أَصْحَـابُ النَّارِ} (ملازمان آتش اند) {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (باقى اند ببقاء ابدى).
جزء : 3 رقم الصفحة : 157
{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي : فمن أعظم ظلماً ، أي لا أحد {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي : ممن تقول عليه ما لم يقل ويدخل في التقول عليه إثبات الشريك والصاحبة والولد.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} أي : كذب ما قاله وقد جعل الله الكذب عليه والتكذيب بآياته مساوياً في الإثم حيث قال : {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب {يَنَالُهُمُ} (برسد بديشان) {نَصِيبَهُمْ} كائناً {مِّنَ الْكِتَـابِ} أي : مما كتب لهم من الأرزاق والأعمال.
{حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} أي : ملك الموت وأعوانه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي : حال كونهم متوفين لأرواحهم قابضين لها وحتى ،
158
وإن كانت هي التي يبتدأ بها الكلام لكنها غاية لما قبلها من الفعل ، أي ينالهم نصيبهم من الكتاب إلى أن تأتيهم ملائكة الموت فإذا جاءتهم {قَالُوا} توبيخاً لهم {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ، وما وصلت بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة {قَالُوا} أي : الكفار {ضَلُّوا عَنَّا} أي : غابوا عنا أي لا ندري مكانهم {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} عطف على قالوا أي اعترفوا على أنفسهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا} أي : في الدنيا {كَـافِرِينَ} أي عابدين لمن لا يستحق العبادة أصلاً حيث شاهدوا مآله وضلاله ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 158(3/120)
وفي الإرشاد : ولعله قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي كما ينبىء عنه قوله عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته" وإلا فهذا السؤال والجواب وما يترتب عليهما من الأمر بدخول النار ، وما جرى بين أهلها من التلاعن والتقاول إنما يكون بعد البعث لا محالة.
{قَالَ} الله تعالى لهم يوم القيامة أحد من الملائكة {ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ} أي : كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم {قَدْ خَلَتْ} أي مضت {مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالانسِ} يعني كفار الأمم الماضية من النوعين {فِى النَّارِ} متعلق بقوله : (ادخلوا) وإنما قدم الجن على الإنس لتقدمهم عليهم في الخلقة وذلك أن الله تعالى لما خلق الجن ، فمنهم مؤمن ومنهم كافر ، فلما استولى أهل الكفر منهم على أهل الإيمان حتى استأصلوهم بعث الله إليهم جنداً من الملائكة كان رئيسهم إبليس فسلطهم الله عليهم حتى أهلكوا جميعهم ، ثم خلق الله آدم بعدهم فخلق منه ذريته فمنهم كافر كقابيل ، ومنهم مؤمن كهابيل إذ كان في كل زمان منهم أمة كافرة مستحقة لدخول النار ، وأمة مؤمنة مستحقة لدخول الجنة حتى الآن إلى انقراض العالم كما قال عليه السلام : "لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول الله الله".
{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من الأمم السابقة واللاحقة ، أي : في النار.
{لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} التي ضلت بالاقتداء بها فلعنت المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والمجوس المجوس وعلى هذا القياس ، ويلعن الأتباع القادة يقولون لعنكم الله أنتم غررتمونا ، فالمراد الأخت في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنه أراد الأمة والجماعة.
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} غاية لما قبلها ، والمعنى : أنهم يدخلونها فوجاً فوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها وأصل اداركوا تداركوا أدغمت التاء في الدال فاجتلبت همزة الوصل {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} أي : دخولاً وهم الأتباع وأخرى ههنا بمعنى آخرة مؤنث آخر مقابل أول لا مؤنث آخر بمعنى غير كقوله تعالى : {وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام : 164) أي : لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله تعالى.
{رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا} أي : سنوا لنا الضلال عن الهدى بإلقاء الشبهة علينا فاقتدينا بهم.
{قَالَ ادْخُلُوا فِى} أي : مضاعفاً {مِنَ النَّارِ} لأنهم ضلوا وأضلوا {قَالَ} الله {لِكُلِّ} من الأولين والآخرين {ضِعْفَ} أما القادة فبكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم فليس المراد تضعيف ما يستحق كل واحد من العذاب لأنه ظلم بل تضعيفه عذاب الضلال بأن يضم إليه عذاب الإضلال والتقليد {وَلَـاكِن لا تَعْلَمُونَ} ما لكم
159
وما لكل فريق من العذاب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 158
{وَقَالَتْ أُولَـاهُمْ} أي : مخاطبين حين سمعوا جواب الله لهم.
{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} من حيث الاجتناب عن الكفر والضلال فكيف تطمعون أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ، ويكون عذابنا ضعف عذابكم والحال أنا ما ألجأناكم على الكفر ، بل كفرتم لكون الكفر موافقاً لهواكم.
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ} المعهود المضاعف وهو قول القادة على سبيل التشفي.
{بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} (بسبب آنكه بوديدكه كسب مى كرديد از كفر اكنون أحواله عذاب بديكرى ميكنيد).
جمله داننداين اكرتونكروى
هره مى كاريش روزى بدروى
واعلم : أن الكفار أهل الإنكار أعرضوا عن إرشاد الأخبار واكتسبوا سنناً سيئة وذهلوا عن السنن الحسنة التي سنتها الأنبياء العظام ، والأولياء الكرام ، ثم آل أمرهم إلى الاعتراف بجرائمهم وضلالهم حين لا ينفع الإقرار.
فعلى العاقل تدارك الحال قبل حلول الآجال ، وفي الحديث : "جددوا إيمانكم" والمراد الانتقال من مرتبة إلى مرتبة فإن أصل الإيمان ، قد تم بالأول ولكن الإيمان على ثماني عشرة مرتبة فالعناية من الله تعالى.
وفي "المثنوي" :
تازه كن ايمان نه ازقول زبان
اي هوارا تازه كرده درنهان
تاهواتزه است وايمان تازه نيست
كين هو اجز قفل آن دروازه نيست
فالله تعالى دعا الخلق إلى الإيمان بواسطة الأنبياء عليهم السلام ، فمن أجاب اهتدى إلى طريق الجنة ومن لم يجب سقط في النار.
قيل : إنما خلق الله النار لغلبة شفقته وموالاته كرجل يضيف الناس ، ويقول من جاء إلى ضيافتي أكرمته ومن لم يجيء ليس عليه شيء ، ويقول مضيف آخر من جاء إليّ أكرمته ومن لم يجيء ضربته وحبسته ليبين غاية كرمه وهو آكد وأتم من الإكرام الأول.
قال بعضهم : نار جهنم خير من وجه وشر من وجه كنار نمرود شر في أعينهم وبرد وسلام على إبراهيم ، كالسوط في يد الحاكم السوط خير للطاغي ، وشر للمطيع فمن أراد أن يسلم من عذاب النار فعليه بطريق الأخيار.
(3/121)
وكان المولى جلال الدين قدس سره : يعظ يوماً لأهل قرامان ، ويحكي أن من كان عاصياً ومات قبل التوبة من العصيان ، فإنه يدخل النار بعدله تعالى فبعد احتراقه بقدر خطاه يخرجه الله تعالى منها ويعتقه ويدخله الجنة ، فقال شخص كان في ذلك المجلس ليت هذا حصل قبل أن يهدم عرض المرء وينكسر ، فادع الله تعالى أيها المولى حتى يشرفنا بالجنة قبل انكسار الأعراض نسأل الله تعالى أن يعاملنا بلطفه وكرمه إنه ولي الهداية والتوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 158
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} وهي الحجج الدالة على أصول الدين من التوحيد ونبوة الأنبياء والبعث والجزاء.
{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ} أي : تعظموا وترفعوا عن الإيمان بها والعمل بمقتضاها وهم الكفار.
{لا تُفَتَّحُ} التشديد لكثرة الأبواب.
{لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} أي : لا تقبل أدعيتهم ولا أعمالهم أو لا تعرج إليها أرواحهم كما هو شأن أدعية المؤمنين وأعمالهم وأرواحهم ، وفي الحديث : "إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب إلى أن تنتهي إلى السماء السابعة ، ويستفتح لروح الكافر ، فيقال لها : ارجعي ذميمة فيهوي بها إلى سجّين" وهو
160
مقر إبليس الأبالسة تحت الأرض السابعة ، فالأوراح كلها سعيدها وشقيها متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم الأجساد منه كالشمس في السماء ونورها في الأرض.
واعلم : أن أرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض بعضها في الهواء وبعضها في أفنية القبور إلى سبعة أيام إلى سنة إلى غير ذلك من الزمان حتى تصعد وتتخلص بدعوات الأحياء وأمداد الحسنات وتصل إلى المقر السماوي الدنيوي.
{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} أي : حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير في ما هو مثل في ضيق المسلك وهو ثقب الإبرة وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه.
(هر كارى موقوف محالست محالست).
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
والعرب إذا أرادت تأكيد النفي علقته بما يستحيل كونه كما قال الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب والجمل : زوج الناقة وإنما يسمى جملاً إذا أربع ، أي إذا دخل في السنة السابعة ، فإنه يقال له في السنة السابعة رباع وللأنثى رباعية بالتخفيف.
والخياط : ما يخاط به فسم الخياط بالفارسية (سوارخ سوزن) ، وقرىء الجمل بضم الجيم وتشديد الميم ، وهو الحبل الغليظ من القنب أو حبل السفينة التي يقال له القلس ، وهي حبال مجموعة مفتولة.
{وَكَذالِكَ} أي مثل ذلك الجزاء الفظيع وهو الحرمان من الجنة.
{نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ} أي : جنس المجرمين فدخلوا في زمرتهم دخولاً أولياً {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} من جهنم حال من مهاد ومعناه فراش من النار يضطجعون ويقعدون فيه.
{وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي : أغطية جمع غاشية وهو ما يغشي الشيء ويستره ، ومعنى الآية الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب حيث كانت غطاء لهم ووطاء وفي الحديث : "الكافر يكسى لوحين من نار في قبره".
{وَكَذالِكَ} أي : مثل ذلك الجزاء الشديد وهو التعذيب بالنار.
{نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} ولما كان التعذيب المؤبد بنار جهنم أشد العقوبات دل ذكر الظلم معه على أنه أعظم الأجرام.
واعلم أن فوت النعيم أيسر من مقاساة الجحيم والمصيبة العظمى هي الخلود.
وذكر عند الحسن البصري : أن آخر من خرج من النار رجل يقال له : هناد عذب ألف عام ، ينادي يا حنان ويا منان فبكى الحسن ، وقال : ليتني كنت هناداً فتعجبوا منه ، فقال : ويحكم أليس يوماً يخرج.
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
والإشارة {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} وهي السنن الحسنة المنزلة على الأنبياء وما أظهره الله تعالى على يد الأولياء من الكرامات والعلوم اللدنية فأنكروها.
{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ} أي : تكبروا عن قبولها والإيمان بها.
{لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} أي : أبواب سماء القلوب إلى الحضرة.
{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} أي : جنة القربة والوصلة.
{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} أي : جمل النفس المتكبرة.
{فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} وهو مدخل الطريقة التي بها تربى النفوس الأمارة وتزكى لتصير مطمئنة فتستحق بها خطاب ارجعي إلى ربك ، فالمعنى : أن النفس المتكبرة لما صارت كالجمل لتكبرها لا تصلح لدخول جنة الحقيقة إلا بعد تزكيتها بأحكام الشريعة وآداب الطريقة ، حتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة ، وقطع تعلقات ما سوى الله تعالى أدق من الشعر بألف مرة ، فيلج في سم خياط الفناء فيدخل الجنة جنة البقاء فافهم جداً.
{وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ} الذي أجرموا على أنفسهم الضعيفة اللطيفة حتى صارت من الأوزار كالجمل بأن نجعل {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ} المجاهدة والرياضة فراشاً ، وهو
161
(3/122)
قوله : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} يعني : من مخالفة النفس وقمع الهوى يكون فراشهم ولحافهم حتى تحيط بهم فتذيبهم وتحرق منهم أنانيتهم مع أثقال أوزارهم ليستحقوا دخول الجنة.
{وَكَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} يعني : بهذه الطريقة نضع عنهم أوزارهم ونرد مظالمهم في الدنيا ليردوا القيامة مستعدين لدخول الجنة ، ومن لم نجزه في الدنيا بهذه الطريقة فنجزه في الآخرة ، كما قال : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} (السجدة : 21) في الآخرة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة : 21) فيه كذا في "التأويلات النجمية" : فالمجاهدة وسلوك طريق التصفية من دأب الأخيار.
ذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه لما أراد أن يدخل البادية أتاه الشيطان فخوفه أن هذه بادية مهلكة ، ولا زاد معك ولا مركب فعزم على نفسه رحمه الله أن يقطع البادية على تجرده ذلك وإن لا يقطعها حتى يصلي تحت كل ميل من أميالها ألف ركعة ، وقام بما عزم عليه وبقي في البادية اثنتي عشرة سنة حتى أن الرشيد حج في بعض تلك السنين فرآه تحت ميل يصلي فقيل له هذا إبراهيم بن أدهم ، فأتاه فقال كيف نجدك يا أبا إسحاق؟ فأنشد إبراهيم بن أدهم يقول :
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربه
وجاء بدنياه لما يتوقع
قال الحافظ :
دع التكاسل تغنم فقد جرى مثل
كه زاد رهروان ستيست والاكى
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بالآيات.
{وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي : الأعمال الصالحات التي شرعت بالآيات وهي ما أريد به وجه الله تعالى.
{لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي : طاقتها وقدرتها هو اعتراض بين المبتدأ والخبر للدلالة على أن استحقاق الخلود في النعيم المقيم بسبب اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح على حسب ما تسعه طاقتهم ، وإن لم يبذلوا مجهودهم فيه ، {أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} (ملازمان بهشت اند) {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} حال من أصحاب الجنة.
{وَنَزَعْنَا} النزع قلع الشيء عن مكانه.
{مَا فِى صُدُورِهِم} قلوبهم {مِّنْ غِلٍّ} وهو الحقد الكامن والبغض المختفي في الصدور ، أي : تخرج من قلوبهم أسباب الحقد الذي كان لبعضهم في حق بعض في الدنيا ، فإن ذلك الحقد إنما نشأ من التعلق بالدنيا وما فيها ، وبانقطاع تلك العلاقة انتهى ما يتفرع عليه من الحقد ومن جملة أسبابه أيضاً أن الشيطان كان يلقي الوساوس إلى قلوب بني آدم في الدنيا ، وقد انقطع ذلك في الآخرة بسبب أن الشيطان لما استغرق في عذاب النيران لم يتفرغ لإلقاء الوسوسة في قلب الإنسان ، ويجوز أن يكون المراد نطهر قلوبهم من الغل نفسه حتى لا يكون بينهم إلا التواد ، يعني : لا يحسد بعض أهل الجنة بعضاً إذا رآه أرفع درجة منه ولا يغتم بسبب حرمانه من الدرجات الرفيعة العالية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار بن ياسر وسلمان وأبي ذر ، ينزع الله في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم والأمر الذي اختلفوا فيه فيدخلون إخواناً على سرر متقابلين.
162
اك وصافي شو وازاه طبيعت بدرآى
كه صفايى ندهد آب تراب آلوده
{تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} أي من تحت شجرهم وغرفهم {الانْهَـارَ} زيادة في لذتهم وسرورهم {وَقَالُوا} أي : أهل الجنة إذا رأوا منازلهم.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاـانَا} بفضله {هَـاذَا} أي : لدين وعمل جزاؤه هذا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} أي : لهذا المطلب الأعلى {لَوْلا أَنْ هَدَاـانَا اللَّهُ} ووفقنا له :
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
كر بدرقه لطف تو ننمايد راه
ازراه تو هيكس نكرد آكاه
آنكه كه بره رسند وبايد رفتن
توفيق رفيق نشد واو يلاه
روي عن السدي أنه قال في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل وهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعده أبداً ، والشعث انتشار شعر الرأس ، والأشعث : مغبر الرأس ، ويقال شحب جسمه يشحب بالضم إذا تغير وشربوا واغتسلوا ويبشرهم خزنة الجنة قبل أن يدخلوها بأن يقولوا لهم : {أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فإذا دخلوها واستقروا في منازلهم منها قالوا {الْحَمْدُ} الآية.
(3/123)
واعلم : أن الغل ظلمة الصفات البشرية وكدورتها وطهارة القلوب بنور الإيمان والأرواح بماء لعرفان والأسرار بشراب طهور تجلى صفات الجمال ، وليس في صدور أهل الحقيقة من غل وغش أصلاً لا في الدنيا ولا في العقبى.
{لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا} جواب قسم مقدر أي والله لقد جاؤوا {بِالْحَقِّ} فالباء للتعدية ، أو لقد جاؤوا ملتبسين بالحق فهي للملابسة يقوله : أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً واستقروا فيه إظهاراً لكمال نشاطهم وسرورهم.
قال الحدادي : شهادة منهم بتبليغ الرسل للحق إليهم ، أي جاؤوا بالصدق فصدقناهم {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} يعني : أن الملائكة ينادونهم حين رأى المؤمنون الجنة من بعيد بأن يقولوا لهم : إن تلك التي رأيتموها هي الجنة التي وعدتهم بها في الدنيا فإن مفسرة أو مخففة وتلك مبتدأ أشير به إلى ما رأوه من بعيد والجنة خبره واللام فيها للعهد {أُورِثْتُمُوهَا} أي : أعطيتموها والجملة حال من الجنة.
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحة أي بسبب أعمالكم.
فإن قيل : هذه الآية تدل على أن العبد يدخل الجنة بعمله ، وقد قال عليه السلام : "لن يدخل الجنة أحدكم بعمله وإنما تدخلونها برحمة الله تعالى وفضله" فما وجه التوفيق بينهما.
أجيب : بأن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته وإنما يوجبه من حيث أنه تعالى وعد للعاملين أن يتفضل بها بمحض رحمته وكمال فضله وإحسانه ولمّا كان الوعد بالتفضل في حق العاملين بمقابلة عملهم كان العمل بمنزلة السبب المؤدي إليها فلذلك قيل أورثتموها بأعمالكم كذا في "حواشي ابن الشيخ" وفي الخبر إنه يقال لهم يوم القيامة "جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم" ، وهي جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر سواء كان الفاضل بهذه الحالة دون المفضول ، أو لم يكن فما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها ورد في الحديث
163
الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال لبلال يا بلال : "بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ فما وطئت منها موضعاً إلا سمعت خشخشتك" فقال يا رسول الله : ما أحدثت قط إلا توضأت وما توضأت إلا صليت ركعتين فقال عليه السلام : "بهما" فعلمنا أنها كانت مخصوصة بهذا العمل فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
والتفاضل على مراتب : فمنها بالسنّ : ولكن في الطاعة والإسلام فيفضل الكبير السنّ على الصغير السنّ إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل ، ومنها بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر الزمان ، ومنها بالمكان : فالصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد المدينة وهي من الصلاة في المسجد الأقصى وهي منها في سائر المساجد ، ومنهما بالأحوال : فإن الصلاة بالجماعة أفضل من صلاة الشخص وحده ، ومنها بنفس الأعمال : فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى ومنها في العمل الواحد فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة ، وكذا من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل ممن أهدى لغيره أو أحسن إليه ، ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما يبتغي في زمان صومه وصدقته بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس له ذلك.
ومن الجنات جنة اختصاص إلهي : وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل وحدّه من أول ما يولد ، أي : يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء ، ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا ، ومن أهلها أهل التوحيد العلمي ، ومن أهلها أهل الفترات ومن لم يصل إليهم دعوة رسول.
ومن الجنات جنة ميراث : ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها وفي الحديث : "كل من أهل النار يرى منزله في الجنة ، فيقولون لو هدانا الله ، فيكون عليهم حسرة ، وكل من أهل الجنة يرى منزله في النار ، فيقولون لولا أن الله هدانا".
واعلم : أن الجنة صورية ومعنوية صورية محسوسة مؤجلة ومعنوية معقولة معجلة وأهلها أهل الفناء في الله والبقاء بالله : قال الحافظ :
جنت نقدست اين جا عشرت وعيش وحضور
زانكه درجنت خدا بربنده ننويسد كناه
اللهم شرفنا بالجنان إنك أنت المنان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
(3/124)
{وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ} سروراً بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيراً لهم لا لمجرد الإخبار بحالهم والاستخبار عن حال مخاطبهم ، ووجه تيسر المناداة والمكالمة بين أهل الجنة وأهل النار مع أن بعد ما بين الجنة والنار لا يعلم مقداره إلا الله تعالى ؛ إذ كل درجة من درجات الجنان يقابلها درجة من دركات النيران ، فأي درجة فيها العامل بسبب عمله يستحق تارك ذلك العمل بسبب تركه إياه دركة من دركات الجحيم فيكون أهل الدرجة مشرفاً على أهل الدركة التي تقابلها ، كما قال تعالى : {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 55) فأمكن لهم تقريع أهل النار وتحسيرهم بقولهم : {ءَانٍ} تفسيرية للمنادى له لأن النداء في معنى القول أو مخففة.
{قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الثواب والكرامة {حَقًّا} بالفارسية
164
(راست ودرست) {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من العذاب ، والوعد يستعمل في الخير والشر ، {حَقًّا} حذف المفعول من الفعل الثاني حيث لم يقل ما وعدكم كما قال : ما وعدنا إسقاطاً لهم عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد.
{قَالُوا نَعَمْ} أي : وجدناه حقاً فاعترفوا في وقت لا ينفعهم الاعتراف : ولذا قيل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
كنون بايد اي خفته بيدار بود
و مرك اندر آرد زخوابت ه سود
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زير وب
{فَأْذَن} (س آواز دهد) {مُؤَذِّنٌ} (آواز دهنده) وهو ملك ينادي من قبل الله تعالى نداء يسمعه كل واحد من أهل الجنة وأهل النار ، وقيل : هو صاحب الصور ، أي : إسرافيل عليه السلام.
{بَيْنَهُمْ} منصوب بأذن أي أوقع ذلك الأذان بين الفريقين أي في وسطهم.
{ءَانٍ} تفسيرية لأن التأذين في معنى القول أو مخففة {لَّعْنَةُ اللَّهِ} استقرت {عَلَى الظَّـالِمِينَ} أي : على الكافرين دون المؤمنين ؛ لأن الظلم إذا ذكر مطلقاً يصرف إلى الكمال ، وكمال الظلم هو الشرك وهو إخبار ، وقيل : هو ابتداء لعن منه عليهم.
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ} يعرضون فهو لازم لأن جعله متعدياً بمعنى يمنعون الناس محوج إلى تقدير المفعول ولا يصار إليه من غير ضرورة.
{عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الدين الذي هو طريق الله إلى جنته ، والسبيل الطريق وما وضح منه كذا في "القاموس" : {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي : يبغون لها عوجاً بأن يصفوها بالزيغ والميل عن الحق وهي أبعد شيء منهما.
{وَهُم بِالاخِرَةِ كَـافِرُونَ} جاحدون بالبعث بعد الموت فلما كان الظالمين بمعنى الكافرين كانت الأوصاف الجارية عليه من قبيل الصفات المؤكدة ، فإن الظالم وصف في الآية بثلاث صفات مختصة بالكفار ، الأولى : كونهم صادين معرضين عن سبيل الله ، والثانية : كونهم طالبين إمالة سبيل الله ودينه الحق وتغييره إلى الباطل بإلقاء الشكوك والشبهات في دلائل حقيته ، والثالثة : كونهم منكرين للآخرة مختصين بهذا الوصف وكل واحدة من هذه الصفات الثلاث مقررة لظلمهم بمعنى الكفر.
والإشارة {وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} أي : أرباب المحبة {أَصْحَـابِ النَّارِ} يعني : نار القطيعة {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} أي فيما قال "ألا من طلبني وجدني" {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} أي فيما قال : "ومن يطلب غيري لم يجدني" {قَالُوا نَعَمْ} فأجابوهم بلى وجدناه حقاً {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ} العزة والعظمة بينهم {أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلبه وصرفوه في غير مصرفه.
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ} أي : وهم الذين يصدون القلب والروح.
{عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وطلبه.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي : يصرفون وجوههم إلى الدنيا وما فيها {وَهُم بِالاخِرَةِ كَـافِرُونَ} أي : وهم ينكرون على أهل المحبة فيما يطلبون مما تأخر من حسهم وهم يطلبون ما يدركون بالخواس الظاهرة دون ما في الآخرة كذا في "التأويلات النجمية" فالناس على مراتب بحسب إقرارهم وإنكارهم وسلوكهم وقعودهم.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
كودكان كره بيك مكتب درند
در سبق هريك زيك بالاترند
خود ملائك نيز تاهمتا بدند
زين سبب بر آسمان صف صف شدند
165
فعلى السالك الاجتهاد في طلب الحق إلى ظهور كنز الحقيقة فإن المطلب الأعلى عند من يميز النقد الجيد من النبهرج والزيوف.
(3/125)
وعن ذي النون رضي الله عنه قال : أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام يا موسى كن كالطير الوحداني يأكل من رؤوس الأشجار ويشرب الماء القراح ، أو قال من الأنهار إذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف استئناساً بي واستيحاشاً ممن عصاني يا موسى إني آليت على نفسي أن لا أتم لمدعي عملاً ، ولأقطعن أمل من أمل غيري ولأقصمنّ من استند إلى سواي ولأطيلن وحشة من أنس بغيري ولأعرضن عمن أحب حبيباً سواي يا موسى إن لي عباداً إن ناجوني أصغيت إليهم وإن نادوني أقبلت عليهم ، وإن أقبلوا عليّ أدنيتهم وإن دنوا مني قربتهم وإن تقربوا مني كفيتهم وإن والوني واليتهم وإن صافوني صافيتهم ، وإن عملوا إليّ جازيتهم أنا مدبر أمرهم وسائس قلوبهم ومتولي أحوالهم لم أجعل لقلوبهم راحة في شيء إلا في ذكري فهؤلاء سقامهم شفاء وعلى قلوبهم ضياء لا يستأنسون إلا بي ، ولا يحطون رحال قلوبهم إلا عندي ولا يستقر بهم قرار في الإيواه إلا إليّ.
{وَبَيْنَهُمَا} أي بين الفريقين أو بين الجنة والنار {حِجَابٍ} كسور المدينة حتى لا يقدر أهل النار أن يخرجوا إلى الجنة ولئلا يتأذى أهل الجنة بالنار ولا يتنعم أهل النار بنعيم الجنة لأن الحجاب المضروب بينهما يمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى ؛ لأنه قد جاء "أن الحور العين لو نظرت واحدة منهن إلى الدنيا نظرة لامتلأت الدنيا من ضوئها وعطرها" وجاء في وصف النار "أن شرارة منها لو وقعت في الدنيا لأحرقتها".
قال الحدادي : فإن قيل كيف يصح هذا التأويل في الحجاب بين الجنة والنار ومعلوم أن الجنة في السماء والنار في الأرض ، قيل : لم يبين الله حال الحجاب المذكور في الآية ولا قدر المسافة فلا يمتنع أن يكون بين الجنة والنار حجاب وإن بعدت المسافة.
{وَعَلَى الاعْرَافِ} أي : أعراف ذلك الحجاب ، أي أعاليه وهو السور المضروب بينها قيل هو جبل أحد يوضع هناك جمع عرف وهو كل عال مرتفع ومنه عرف الديك والفرس سمي عرفاً ؛ لأنه بسبب ارتفاعه يكون أعرف مما انخفض منه.
{رِجَالٌ} طائفة من المؤمنين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهم ينظرون إلى النار وينظرون إلى الجنة ومالهم رجحان بما يدخلهم إحدى الدارين ، فإذا دعوا إلى السجود وهو الذي يبقى يوم القيامة من التكليف يسجدون فيرجح ميزان حسناتهم فيدخلون الجنة وهو أحد الأقوال في تعيين أصحاب الأعراف وسيجيء الباقي.
{يَعْرِفُونَ} صفة رجال {كَلا} أي : كل فريق من أصحاب الجنة وأصحاب النار أي بسبب علاماتهم التي أعلمهم الله كبياض الوجه وسواده وهذا في العرصات قبل دخول الجنة والنار ، فإن المعرفة بعد الدخول تحصل بالمشاهدة والإحساس ولا يحتاج إلى الاستدلال بسيماهم ، وأما النداء والصرف والإتيان فبعد الدخول : {وَنَادَوْا} أي : الرجال وهو صفة ثانية لرجال عدل إلى لفظ الماضي تنزيلاً للنداء منزلة الواقع {أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ أَنْ} تفسيرية أو مخففة {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} يعني : إذا نظروا إليهم سلموا عليهم سلام التحية والإكرام وبشروهم بالسلامة من جميع المكاره والآفات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
{لَمْ يَدْخُلُوهَا} حال من فاعل نادوا أي نادوا حال كونهم لم يدخلوها.
166
{وَيُطْعِمُونَ} أي : والحال إنهم طامعون في دخولها حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم ، وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له ، أي : لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعين وسبب طمعهم أنهم من أهل لا إله إلا الله ولا يرونها في ميزانهم ويعلمون أن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة ولو جيء بذرة لإحدى الكفتين لرجحت بها ؛ لأنها في غاية الاعتدال فيطمعون في كرم الله وعدله وأنه لا بد أن يكون لكلمة لا إله إلا الله عناية بصاحبها ، فيظهر لها أثر عليهم فيقفون هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة برحمته ، وهم آخر من يدخل الجنة وإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، ثم يؤتى بهم فيدخلون الجنة ويسمون مساكين أهل الجنة.
قال الحافظ :
هست اميدم على رغم عدو روز جزا
فيض عفوش ننهد باركنه بر دوشم
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـابِ النَّارِ} أي : إلى جهنم وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة ، والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه.
وفي "تفسير الزاهدي" : إن الملك يصرف أبصارهم إليهم بأمر الله تعالى {قَالُوا} متعوذين بالله تعالى من سوء حالهم {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي : في النار أي يدعون بذلك خوفاً من الله تعالى لأجل معاصيهم.
(3/126)
والقول الثاني : في تعيين أصحاب الأعراف أنهم الأنبياء أجلسهم الله على أعالي ذلك السور تمييزاً لهم عن سائر أهل القيامة ليكونوا مشرفين على أهل الجنة ، وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم شاهدين على أممهم ، وعلى هذا فقوله : {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال من مفعول نادوا وهو أصحاب الجنة ؛ لأن طمع دخول الجنة لا يليق بأشراف أهل الموقف ، أي نادى أشراف أهل الموقف وهم على الأعراف أصحاب الجنة حال كون أصحابها لم يدخلوها وهم طامعون في دخولها ، وكذا التقدير في سائر الوجوه الآتية المرادة بها أهل الدرجات العالية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
والقول الثالث : هم الشهداء الذين يميزون من بين أهل الموقف بالاستحقاق لمزيد التعظيم والإجلاس في أعالي السور المضروب ليشاهدوا حكم الله تعالى في أهل الموقف بمقتضى فضله وعدله.
والرابع : هم أفاضل المؤمنين فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس ، وفي الحديث : "إذا جمع الخلائق يوم القيامة نادى مناد أين أهل الفضل؟ فيقوم أناس وهم يسيرون فينطلقون سراعاً إلى الجنة ، فيقولون : نحن أهل الفضل فيقال لهم ما كان فضلكم؟ فيقولون : كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا غفرنا ، وإذا جهل علينا حلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين".
والخامس : قوم صالحون فقهاء علماء ، وذلك لمزيتهم على غيرهم بشرف الفقه والعلم.
والسادس : هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة.
والسابع : هم العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين رضي الله عنهم يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه.
والثامن : أنهم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار عبر عنهم باسم الرجال
167
لكونهم يرون في صورة الرجال ، كما عبر به عن الجن في قوله تعالى : {وَأَنَّه كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} (الجن : 6) لكونهم في صورة الرجال يقولون حين أشرفوا على أهل النار ، ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين لأنهم مكلفون كبني آدم فلا ينكر أن يدعوا الله لأنفسهم بالأمن.
والتاسع : هم الشهداء الذين خرجوا إلى الغزو وغزوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم فقتلوا شهداء ، فأعتقوا من النار بأن قتلوا في سبيل الله واحتبسوا عن الجنة بعصيانهم آباءهم.
والعاشر : قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو أمهاتهم دون آبائهم.
والحادي عشر : إنهم أولاد الزنى.
والثاني عشر : أولاد المشركين.
والثالث عشر : هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم وزمان الفترة هو الزمان الذي بين عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما.
والرابع عشر : هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا ، فوقفوا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم.
والخامس عشر : هم الذين ذكرهم الله في القرآن أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة.
روي عن بعض الصالحين أنه قال أخذتني ذات ليلة سنة فنمت فرأيت في منامي كأن القيامة قد قامت وكأن الناس يحاسبون فقوم يمضي بهم إلى الجنة ، وقوم يمضي بهم إلى النار قال فأتيت إلى الجنة ، فناديت يا أهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنان في محل الرضوان؟ فقالوا لي : بطاعة الرحمن ومخالفة الشيطان ، ثم أتيت إلى باب النار فناديت يا أهل النار بماذا نلتم النار؟ قالوا بطاعة الشيطان ومخالفة الرحمن ، قال : فنظرت فإذا بقوم موقوفون بين الجنة والنار فقلت : ما بالكم موقوفون بين الجنة والنار؟ فقالوا : لنا ذنوب جلّت وحسنات قلّت فالسيئات منعتنا من دخول الجنة والحسنات منعتنا من دخول النار وأنشدوا :
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
نحن قوم لنا ذنوب كبار
منعتنا من الوصول إليه
تركتنا مذ بذبين حيارى
أمسكتنا عن القدوم عليه
هذا ما تيسر لي جمعه من الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
(3/127)
والإشارة أن بين أهل النار وأهل الجنة حجاباً وهو من أوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية ، فلا يرى أهل النار أهل الجنة من وراء ذلك الحجاب وبين أهل الجنة ، وأهل الله وهم أصحاب الأعراف حجاباً وهو من الأصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية ، فلا يرى أهل الجنة أهل الله من وراء ذلك الحجاب كما قال الله تعالى : {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌا وَعَلَى الاعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَاهُمْ} يعني : أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة والنار بما يتوسمون في سيماهم من آثار نور القلب وظلمته ، وسميت الأعراف أعرافاً لأنها مواطن أهل المعرفة وإنما سمى الله أهل المعرفة رجالاً لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه كقوله : {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (الأحزاب : 23) وحيث ما ذكر الله الخواص ذكرهم برجال كقوله : {رِجَالٌ صَدَقُوا} (الأحزاب : 23) وكقوله : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} (التوبة : 108) لأن وجه الامتياز بين الخواص والعوام بالرجولية في طلب الحق وعلو الهمة فإن أصحاب الأعراف بعلو هممهم ترقوا عن حضيض البشرية ودركات النيران وصعدوا على ذروة الروحانية ودرجات الجنان وما التفتوا إلى نعيم الدارين ، وما ركنوا إلى كمالات المنزلين حتى عبروا عن المكونات وأقاموا على الأعراف
168
وهي مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن وهم مشرفون على أهل الجنة والنار فلما رأوا أهل الجنة وأنهم في شغل فاكهون.
قد شغلوا بنعيمها عن المولى {وَنَادَوْا أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} يعنيّ هنيئاً لكم ما أنتم فيه من النعيم المقيم والحور والقصور ثم أخبر عن همة أصحاب الأعراف فقال : {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي : شاهدوا نعيم الجنة ودرجاتها ولم يركنوا إلى شيء منها فعبروا عليها ، ولم يدخلوها وهم على الأعراف يطمعون في الوصول إلى الله والدخول في الجنة التي أضافها الله تعالى إلى نفسه بقوله : {وَادْخُلِى جَنَّتِى} (الفجر : 30) {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـابِ النَّارِ} ابتلاء ليريهم أنه تعالى من أية دركة خلصهم وبأية كرامة خصهم فيعرفوا قدر ما أنعم الله عليهم به ومن هذا القبيل يكون ما سنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما ابتلاهم بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله في الخلوات ففي أداء حق الشكر ورؤية النعمة.
{قَالُوا} مع المنعم {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي : بعد أن خلصتنا من أوصافهم وأخلاقهم ودركاتهم ومما هم فيه لا تجعلنا مرة أخرى من جهتهم ، ولا تدخلنا في زمرتهم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
{وَنَادَى أَصْحَـابُ الاعْرَافِ} وهم الذي علت درجاتهم من الأنبياء وأشراف أهل الموقف وهو الأنسب بما بعد الآية ؛ إذ قولهم ادخلوا الجنة لا يليق بالمقصرين في العمل {رِجَالا} من رؤساء الكفار حين رأوهم فيما بين أصحاب النار ، وهم أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وعاص بن وائل وأضرابهم.
{يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي : علاماتهم الدالة على سوء حالهم حينئذٍ وعلى رياستهم في الدنيا والباء سببية.
{قَالُوا} بدل من نادى أي قال أصحاب الأعراف : وهم على السور مخاطبين لرؤساء الكفار توبيخاً وشماتة {مَآ أَغْنَى عَنكُمْ} ما استفهامية للتقريع أو نافية ومعناه على الثانية (دفع نكرد عذاب ازشما) {جَمْعُكُمْ} أي : أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم للمال {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} ما مصدرية أي واستكباركم المستمر على الخلق (يعني استكبار شما مانع عذاب نشد).
{أَهَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} هو من تمام قول أصحاب الأعراف للرجال الذين هم رؤساء الكفرة فيكون في محل النصب بالقول المتقدم.
والإشارة إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون صريحاً أنهم لا يدخلون الجنة قوله : {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} جواب أقسمتم ، ومعناه بالفارسية (اين كروه آنا نندكه دردنيا سوكند ميخورديدكه البته خداى هركز بديشان نرساند بخشايش خودرا).
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي : فالتفت أصحاب الأعراف إلى فقراء المسلمين مثل بلال وصهيب وسلمان وخباب وأمثالهم ، وقالوا لهم ، ادخلوا الجنة على رغم أنوف رؤساء الكفار.
{لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} حين يخاف أهل النار {وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} حين يحزن أهل النار.
وفي الآية : ذم المال والاستكبار والافتخار بكثرة الخدم والأعوان والأنصار.
نه منعم بمال ازكسى بهترست
خرا ارل اطلس بوشد خرست
بدين عقل وهمت نخوانم كست
وكر ميرود صد غلام ازست
تكبر كند مرد حشمت رست
ندان كه حشمت بحلم اندرست
169
ومنعم كند سفله را روزكار(3/128)
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
نهد بر دل تنك درويش بار
وبام بلندش بود خود رست
كند بول وخاشاك بر بام ست
واعلم : أن حب المال والاستكبار من أخلاق النفس فلا بد للسالك من تزكيتها وكان من دعاء النبي عليه السلام : "اللهم حسّن خلقي وخلقي" وقد مدحه الله بقوله : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) وكان عليه السلام يجالس الفقراء والمساكين ويواكلهم وكان يمر على الصبيان ويسلم عليهم وأتى رجل فارتدع من هيبته فقال : "هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" وكان يجلس مختلطاً بأصحابه كأنه أحدهم فيأتى الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل وكان لا يدعوه أحد إلا قال لبيك وكل ذلك من تواضعه صلى الله عليه وسلّم
قال ذو النون المصري : علامة السعادة حب الصالحين والدنو منهم وتلاوة القرآن وسهر الليل ومجالسة العلماء ورقة القلب.
والإشارة : أن المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات يقولون لأهل المحبة والمعرفة وأرباب الطلب من دناءة هممهم أن أحداً منكم لا ينال درجة الوصول ومرتبة الوصال ويقسمون على ذلك ثم يقول الله لأصحاب الأعراف.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} المضافة إليّ في حظائر القدس وعالم الجبروت {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} من الخروج منها.
{وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} على ما فاتكم من نعيم الجنة إذ تفرغتم لشهود جمالنا ووجود وصالنا.
واعلم : أن أهل النار يرون أهل الله وهم أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين ، فإذا دخلوا جنة الحقيقة المضافة إلى الله في سرادقات العزة وعالم الجبروت انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقربين فافهم جداً.
وقد حكي عن بابا جعفر الأبهري : أنه دخل على بابا طاهر الهمذاني ، فقال : أين كنت؟ فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ، ثم قال : بابا طاهر صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلاً مع الأخص فما رأيتني.
فعلى السالك أن لا ينقطع عنهم وعن اعتقادهم وفي الحديث : "لكل شيء مفتاح ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة".
حب درويشان كليد جنت است
دشمن ايشان سزاى لعنت است
قال في "المثنوي" في حق حسن الظن بالفقراء :
كركدايان طامعند وزشت خو
درشكم خوران توصاحب دل بجو
درتك دريا كهر يا سنكهاست
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
فخرها اندرميان ننكهاست
ومن دعائه صلى الله عليه وسلّم "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" وحقيقة المسكين من لا شيء له غير الله تعالى وهو أهل الله وأصحاب الأعراف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
{وَنَادَى أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} بعد الاستقرار في الدارين {ءَانٍ} مفسرة أو مخففة كما سبق غير مرة {أَفِيضُوا عَلَيْنَا} أي صبوا {مِنَ الْمَآءِ} أي : ماء الجنة حتى يطفىء عنا حرّ ما نجد من العطش وذلك أنهم لما بقوا فيها جياعاً عطاشاً ، قالوا : يا ربنا إن لنا قرابات في الجنة فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيؤذن لهم في ذلك ، فينظرون إلى قراباتهم في الجنة ، وإلى ما هم فيه من أنواع النعيم فيعرفونهم ولا يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم ، فينادون قراباتهم من أهل الجنة بعد إخبارهم بقرابتهم ، ويقولون أفيضوا علينا من الماء {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة
170
فإن الأصل فيها أن تستعمل في المائعات من المشروبات ، أو من الأطعمة فنأكلها لعلها تدفع عنا الجوع على أن الإفاضة عبارة عن الإعطاء بكثرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
قال أبو حيان : الصحيح تضمين أفيضوا معنى ألقوا ، وهؤلاء القائلون كانوا في الدنيا عبيد البطون حريصين على الطعام والشراب حتى ماتوا على ما عاشوا فيه ، فحشروا على ما ماتوا عليه ، وإن أهل الجنة لما طالوا الجوع والعطش في الدنيا ، وإنما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات النفس.
وفي الآية : بيان أن الإنسان لا يستغني عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب.
قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس رضي الله عنهم أي الصدقة أفضل قال الماء أرأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء.
(3/129)
وعن سعد بن عبادة أنه قال يا رسول الله إن أم سعد ماتت ، فأي صدقة أفضل قال عليه السلام : "الماء" فحفر بئراً فقال عليه السلام : "هذه لأم سعد" يقول الفقير في الحديث دلالة على نفع الصدقة في الأموات كما ذهب إليه أهل السنة ، وتخصيص الماء إما لأن أرض الحجاز أحوج شيء إليه فيكون أكثر ثواباً ، وإما لأن جهنم بيت الحرارة واندفاعها بضدها وهي البرودة التي من أوصاف الماء فإن كل شيء يقابل بنقيضه والله أعلم.
{قَالُوا} روي أنه لا يؤذن لأهل الجنة في الجواب مقدار أربعين سنة ثم يؤذن لهم في جوابهم فيقولون : {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَـافِرِينَ} أي : منع طعام الجنة وشرابها عنهم منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعاً ، وإنما جعل شراب الكافرين الحميم الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود وطعامهم الضريع والزقوم.
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} الذي أمروا بالتدين به وهو دين الإسلام.
{لَهْوًا وَلَعِبًا} ملعبة يتلاعبون به يحرمون ما شاؤوا ويحلون ما شاؤوا ولا يتبعون أمر الله تعالى وإنما يتبعون أهواءهم التي زينها الشيطان لهم.
وقيل : كان دينهم دين إسماعيل عليه السلام فغيروه وتدينوا بما شاؤوا أو صرفوا همتهم فيما لا ينبغي أن تصرف إليه الهمم وطلبوا أن يفرحوا بما لا ينبغي أن يطلب.
وفي "التفسير الفارسي" : {دِينَهُمُ} (عيد خودرا) {لَهْوًا وَلَعِبًا} مشغول وبازيه ايشان درعيد خود بحوالي كعبه مى آمدند ودست ميزدند وبازيه ميكردند) انتهى.
ويرخص اللعب في يوم العيد بالسلاح والركض ، أي التسابق بالأفراس والأرجل وغير ذلك مما هو مباح مشروع وكانوا يضربون في القرن الأول بالدف ولكن لم يكن فيه جلاجل فما يفعلونه في هذا الزمان وقت العيد والختان ، وعند اجتماع الإخوان من ضرب المزمار ، وضرب الدف الذي فيه جلاجل ونحوها هو آلة اللهو ليس بمرخص وقولهم إن في ديننا فسحة إنما هو بالنسبة إلى الأمور المرخصة ألا يرى أن المزاج مباح إذا كان بما لا يخالف الشرع.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} بزخارفها العاجلة وطول الأمل ولذلك كانوا يستهزئون بالمسلمين كما روي في الخبر أن أبا جهل بعث إلى النبي عليه السلام رجلاً يستهزىء به أن أطعمني من عنب جنتك أو شيئاً من الفواكه فقال أبو بكر رضي الله عنه : "إن الله حرمهما على الكافرين" فعلى العاقل أن لا يغتر بالدنيا لأنها غدارة مكارة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
درديده اعتبار خوابيست
بر رهكذر اجل سرابيست
مشغول مشو بسرخ وزردش
انديشه مكن زكرم وسردش
سرمايه آفتست زنهار
خودرا زفريب أو نكهدار
171
{فَالْيَوْمَ} أي : يوم القيامة والفاء فصيحة.
نفعل بهم ما يفعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم ، وتركهم في النار تركاً كلياً شبه معاملته تعالى مع الكفار بمعاملة من نسي عبده من الخير ولم يلتفت إليه وإلا فالله تعالى منزه عن حقيقة النسيان {كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا} في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسياناً مثل نسيانهم لقاء يومهم هذا فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له ، يعني : أنه وإن لم يصح وصفهم بنسيانه حقيقة لأن النسيان يكون بعد المعرفة وهم لم يكونوا معترفين بلقاء يوم القيامة ومصدقين به لكنه شبه عدم إخطارهم لقاء الله تعالى ببالهم وعدم مبالاتهم به بحال من عرف شيئاً ونسيه ، ومثل هذه الاستعارات كثير في القرآن لأن تفهيم المعاني الواقعة في عالم الغيب إنما يكون بأن يعبر عنها بما يماثلها من عالم الشهادة.
{وَمَا كَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ} عطف على ما نسوا ، أي وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله إنكاراً مستمراً فما مصدرية ويظهر أن الكاف في كما للتعليل فإن التشبيه غير ظاهر في ما كانوا إلا باعتبار لازمه وهو الترك.
{وَلَقَدْ جِئْنَـاهُم بِكِتَـابٍ فَصَّلْنَـاهُ} أي : بيناه معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة والمراد بالكتاب الجنس أو للمعاصرين منهم والكتاب هو القرآن.
{عَلَى عِلْم} حال من فاعل فصلناه أي عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيماً أو من مفعوله أي مشتملاً على حكم كثيرة.
{هُدًى وَرَحْمَةً} حال من هاء فصلناه أي حال كون ذلك الكتاب هادياً وذا رحمة {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون أنه من عند الله لأنهم المنتفعون بآثاره المقتبسون من أنواره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
(3/130)
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ} أي : ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به إلا ما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد.
{يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} أي : يوم يأتيهم عاقبة ما وعدوا فيه وهو يوم القيامة وشاهدوا إتيانه عياناً {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي : تركوه ترك المنسي من قبل إتيان تأويله {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} الباء للتعدية أو للملابسة أي : ملتبسين به ، يعني : اعترفوا بأن ما جاءهم الرسل به من حقية البعث والحساب والجزاء حق واضطروا إلى أن يتمنوا أمرين : أحدهما : الخلاص من عذاب القبر بشفاعة الشفعاء كما قال : {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ} اليوم ويدفعوا عنا العذاب وثانيهما الرد إلى الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً كما قال : {أَوْ نُرَدُّ} أي : أو هل نرد إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ} بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثاني {غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} أي : في الدنيا يعني نصدق الرسل ونعمل الأعمال الصالحة فبين الله تعالى أن الذي تمنوه لا يحصل لهم البتة حيث قال : {قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الكفر والمعاصي {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي : ظهر بطلان ما كانوا يفترونه من أن الأصنام شركاء الله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة.
دى روز بدو دلم اميدى ميداشت
امروز برفت ونا اميدم بكذاشت
واعلم أن الكفار تمنوا الرد إلى الدنيا ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
قال في "المثنوي" :
قصه آن آبكير ست اى عنود
كه درو سه ماهى اشكرف بود
ند صيادى سوى آن آبكير
بر كذ شتند وبديدند آن ضمير
172
س شتابيد ند تا دام آورند
ما هيان واقف شدندو هو شمند
آنكه عاقل بود عزم راه كرد
عزم راه مشكل نا خواه كرد
كفت با اينها ندارم مشورت
كه يقين سستم كنند از مقدرت
مهر زاد وبود بر جانشان تند
كاهلى وجهل شان برمن زنند
مشورت را زنده بايد نكو
كه ترا زنده كند آن زنده كو
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
نيست وقت مشورت هين راه كن
ون على تو آه اندر اه كن
محرم آن راه كم يابست وبس
شب روونهان روى كن ون عسس
سوى دريا عزم كن زين آب كير
بحر جو وترك اين كرداب كير
سينه را ا ساخت مى رفت آن حذوره
از مقام با خطر تا بحر نور
رنجها بسيار ديد وعاقبت
رفت آخر سوى امن وعافيت
خويشتن افكند دردرياى رف
كه نيا بد حد آنرا هي طرف
س و صيادان بياوردند دام
نيم عاقل را ازان شد تلخكام
كفت آه من فوت كردم وقت را
ون نكشتم هرمه آن رهنما
بركذشته حسرت آوردن خطاست
باز نايد رفته ياد آن هباست
ليك زان ننديشم وبر خود زنم
خويشتن را اين زمان مرده كنم
همنان مرد وشكم بالا فكند
آب مى بردش نشيب وكه بلند
هر يكى زان قاصدان بس غصه برد
كه دريغا ما هي مهتر بمرد
س كرفتش يك صياد ارجمند
برسرش تف كردوبرخا كش فكند
غلط غلطان رفت نهان اندر آب
ماند آن احمق همي كرد اضطراب
ازب وازراست مى جست آن سليم
تاكه بجهد خويش برهاند كليم
دام افكندند واندر دام ماند
احمقى اورا دران آتش نشاند
بر سر آتش به شت تابه
با حماقت كشت او هم خوابه
او همى جوشيد از تف سعير
عقل ميكفتش ألم يأتك نذير
او همى كفت از شكنجه وزبلا
همو جان كافران قالوا بلا
باز مى كفت او كه كر اين بارمن
وارهم زين محنت كردن شكن
من نسازم جز بدرياى وطن
آبكيريرا نسازم من سكن
آب بيجد جويم وايمن شوم
تا ابد در امن ودرصحت مى روم
آن ندامت از نتيجه رنج بود
نى ز عقل روشن ون كنج بود
ميكند او توبه وير خرد
بانك لو ردوا لعادوا مى زند
فعلى العاقل أن يتدارك حاله ولا يطول آماله.
قال الإمام الغزالي قدس سره : من زرع واجتهد وجمع بيدراً ، ثم يقول : أرجو أن يحصل لي منه مائة
173
قفيز فذلك منه رجاء ، والآخر لا يزرع زرعاً ولا يعمل يوماً فذهب ونام وأغفل سنته فإذا جاء وقت البيادر يقول : أرجو أن يحصل لي مائة قفيز فهو أمنية بلا أصل ، فكذلك العبد إذا اجتهد في عبادة الله تعالى والانتهاء عن معصية الله ، يقول : أرجو أن يتقبل الله هذا اليسير ويتم هذا التقصير ويعظم الثواب ويعفو عن الزلل فهذا منه رجاء ، وأما إذا أغفل ذلك وترك الطاعات فارتكب المعاصي ولم يبال سخط الله ولا رضاه ووعده ووعيده ، ثم أخذ يقول : أنا أرجو من الجنة والنجاة من النار فذلك منه أمنية لا حاصل تحتها ويبين هذا قوله عليه السلام : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والفاجر من يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله عز وجل" قال بعضهم : إن الغموم ثلاثة : غم الطاعة أن لا تقبل ، وغم المعصية أن لا تغفر ، وغم المعرفة أن لا تسلب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170
(3/131)