فإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللأبناء آباءمكن زنهار أصل عود وبست
به بين دورش و مستثنى وخوبست
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
{رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي : رزق الأمهات إذا أرضعن أولادهم ولباسهن وكذا أجر الرضاع للأظئار لأنهن يحتجن إلى ما يقمن به أبدانهن لأن الولد إنما يتغذى باللبن وإنما يحصل لها ذلك بالاغتذاء وتحتاج هي إلى التستر فكان هذا من الحوائج الضرورية {بِالْمَعْرُوفِ} حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعه ، فإن قيل : إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة للنفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضعه فما وجه تعلق هذا الاستحقاق بالإرضاع؟ قلنا : النفقة والكسوة تجبان في مقابلة التمكين فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما يتوهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقطان بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع هذا ما قال الواحدي في "البسيط".
{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} التكليف الإلزام ومعنى تكلف الأمر إظهار أثره وقوله {وُسْعَهَا} مفعول ثان لأن كلف يتعدى إلى اثنين كأنه قيل : لم لم تجب مؤونة الأمهات على أنفسهن ولم قيدت تلك المؤون بكونها بالمعروف فأجيب بأنهن غير قادرات على الكسب لضعف بنيتهن واحتباسهن لمنفعة الأزواج فلو أوجب مؤنهن على أنفسهن لزم تكليف العاجز وكذا لو أوجب تلك المؤن على الأزواج على خلاف المعروف {لا تُضَآرَّ وَالِدَةُا بِوَلَدِهَا} نهي أصله لا تضارر بكسر الراء الأولى فتكون المرأة على الفاعلة أو بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعول بها الضرار وعلى الأول يكون المعنى لا تفعل المرأة الضرار بالأب بولدها أي : بسبب إيصال الضرر إلى الولد وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب يوسع عليها في النفقة والكسوة فتلقى
364
الولد عليه {وَلا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِهِ} أي : لا يفعل الأب الضرار بالأم بأن ينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكه وشدة محبتها له وعلى الوجه الثاني لا يفعل الأب الضرار بالأم بأن ينزع الولد منها ولا مولود له بولده أي : ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقي الولد عليه والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه لأنه ليس بأجنبي من كل واحد منهما فالحق أن يشفق عليه كل منهما وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ولا ينبغي أن يضرا به أو يتضارا بسببه
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
{وَعَلَى الْوَارِثِ} وهو الذي لو مات الصبي ورثه أي : وارث الصبي عند عدم الأب ممن كان ذا رحم محرم منه بحيث لا يجوز النكاح على تقدير أن يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى لا كل وارث سواء كان ذا رحم محرم منه أو لم يكن وسواء كان من الرجال أو النساء {مِثْلُ ذالِكَ} أي : مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة وأجر الرضاع ونفقة المحارم تجب عندنا بهذه الآية {فَإِنْ أَرَادَا} أي : الوالدان {فِصَالا} وهو الفطام سمي فصالاً لأنه إنما يكون بفصل الطفل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات أي : فطاماً للصغير عن الرضاع قبل تمام الحولين صادراً {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} أي : من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر بالولد بأن تمل المرأة الإرضاع ويبخل الأب بإعطاء الأجرة وربما يضر الفطام بجسمه بقطع غذائه قبل وقت فصاله {وَتَشَاوُرٍ} في شأن الولد وتفحص عن أحواله وإجماع منهما على استحقاقه للفطام.
والتشاور من المشورة وهي استخراج الرأي من المستشار وإنما اعتبر اتفاق الوالدين لما في الأب من الولاية وفي الأم من الشفقة وهي أعلم بحال الصبي {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} في ذلك ولا حرج لما أن تراضيهما إنما يكون بعد استقرار رأيهما واجتهادهما في أن صلاح الولد في الفطام وقلما يتفقان على الخطأ فالحاصل سواء زادا على الحولين إلى ثلاثين شهراً أو نقصاً فلا جناح عليهما في ذلك بعد استقرار رأيهما إلى ما هو خير للصبي {وَإِنْ أَرَدتُّمْ} أيها الآباء {أَن تَسْتَرْضِعُوا} المراضع {أَوْلَـادَكُمْ} فالمفعول الأول محذوف واسترضع يتعدى إلى اثنين بنفسه يقال رضع الولد أمه وأرضعت المرأة ولدها واسترضعتها الولد وقيل : يتعدى إلى الثاني بحرف الجر والتقدير لأولادكم أي : إذا طلبتم أن تأخذوا ظئراً لإرضاع أولادكم {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي : لا إثم عليكم في الاسترضاع.
وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضع الولد ويمنع الأم من الإرضاع {إِذَا سَلَّمْتُم} أي : إلى المراضع {مَّآ ءَاتَيْتُم}
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
(1/299)
أي : ما أردتم إيتاءه كما في قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (النخل : 98) {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق بسلمتم أي : بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً وليس التسليم بشرط للصحة والجواز بل هو ندب إلى ما هو الأليق والأولى فإن المراضع إذا أعطين ما قدر لهن ناجزاً يداً بيد كان ذلك أدخل في إصلاح شؤون الأطفال.
وقيل : المراد من المعروف أن يكون الأجر من الحلال لأن المرضع إذا أكلت الحلال كان اللبن أنفع للصبي وأقرب إلى صلاحه قالوا : العادة جارية أن من ارتضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير وشر ولذا قيل إنه ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل فإن لبن المرأة الحمقاء يسري وأثر حمقها يظهر يوماً ما وفي الحديث : "الرضاع يغير الطباع"
365
ومن ثمه لما دخل الشيخ أبي محمد الجويني بيته ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرتضع ثدي غير أمه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه وأدخل أصبعه في فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن قائلاً يسهل علي موته ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير أمه ثم لما كبر الإمام كان إذا حصلت له كبوة في المناظرة يقول هذه من بقايا تلك الرضعة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في شأن مراعاة الأحكام المذكورة في أمر الأطفال والمراضع {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم بذلك ، وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى.
قال الحسين الكاشي :
كر برهنه بره برون آيى
زود در تهمت جنون آيى
جامه ظاهري كه نست ببر
توفضيحت شوى ميان بشر
فكر آن كن كه بي لباس ورع
ه كنى درمقام هول وفزع
خويشتن در لباس تقوى دار
تاشوى دردوكون بر خوردار
والآية مشتملة على تمهيد قواعد الصحبة وتعظيم محاسن الأخلاق في أحكام العشرة بل إنها اشتملت على شيوع الرحمة والشفقة على البرية فإن من لا يرحم لا يرحم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يقبل أولاده "إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي" وفي الحديث : "حب الأولاد ستر من النار وكراماتهم جواز على الصراط والأكل معهم براءة من النار" وفي الحديث : "أربع نفقات لا يحسب العبد بهن يوم القيامة : نفقة على أبويه ، ونفقة على إفطاره ، ونفقة على سحوره ، ونفقة على عياله" واللطف والمرحمة ممدوح جداً عموماً وخصوصاً وفي الحديث : "إن امرأة بغياً رأيت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له فغفر لها" قال البخاري : فنزعت خفها فأوثقته أي : أحكمته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك والحديث يدل على غفران الكبيرة من غير توبة وهو مذهب أهل السنة وعلى أن من أطعم محتاجاً إلى الغذاء يستحق المثوبة والجزاء.
فعلى العاقل العمل بالكتاب والسنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي : يموتون ويقبض أرواحهم بالموت.
وقرىء بفتح الياء أي : يستوفون آجالهم وأعمارهم.
وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً يقال : توفى الشيء واستوفاء فمن مات فقد أخذ عمره وافياً كاملاً واستوفاء {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} أي : يتركون نساء من بعدهم وهو جمع زوج المنكوحة تسمى زوجاً وزوجة والتذكير أغلب قال تعالى : {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة : 35) ويجمع أزواجاً على لغة التذكير وزوجات على لغة التأنيث {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} الباء للتعدية أي : يجعلنها متربصة منتظرة بعد موتهم لئلا يبقى المبتدأ بلا عائد {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أي : في تلك المدة فلا يتزوجن إلى انقضاء العدة قوله عشراً أي : عشرة أيام وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأن التاريخ عند العرب بالليلة بناء على أنها أول الشهر واليوم تبع لها ولعل الحكمة في تقدير عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر أن الجنين إذا كان ذكراً يتحرك غالباً لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهاراً أي : استعانة بتلك الزيادة على العلم بفراغ الرحم إذ ربما تضعف الحركة في المبادى فلا يحسن بها وكانت عدة الوفاة في أول الإسلام سنة فنسخت بهذه إلا الحوامل فإن عدتها بوضع الحمل قال تعالى :
365
(1/300)
{وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق : 4) وإلا الإماء فإن عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت أمة شهران وخمسة أيام نصف عدة الحرة بإجماع السلف وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} خطاب مع المؤمنين فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط فلا وجه لإيجاب العدة المذكورة على الكتابية {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي : انقضت عدتهن {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الخطاب للحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر عليه وإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان {فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} من التزين والتعرض للخطاب وسائر ما حرم على المعتدة {بِالْمَعْرُوفِ} حال من فاعل فعلن أي : فعلن ملتبسات بالوجه الذي لا ينكره الشرع {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه فلا تعملون خلاف ما أمرتم به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 365
هركه عاصي شود بامر خدا
بيخ أورا بكند قهر خدا
واعلم أن المراد بالتربص هنا الامتناع عن النكاح والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفى عنها زوجها فيه والامتناع على التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي : شيء إلا أنا نقول : الامتناع عن النكاح مجمع عليه وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة وأما ترك التزين فهو واجب لما روي عن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً" وإنما وجب الحداد لأنه لما حرم عليها النكاح في العدة أمرت بتجنب الزينة حتى لا تكون بصفة الملتمسة للأزواج ولإظهار التأسف على فوت نعمة النكاح الذي كان سبب مؤونتها وكفايتها من النفقة والسكنى وغير ذلك.
والحداد على الميت ثلاثة أيام وتمس المرأة الطيب في الثالث لئلا يزيد الحداد على ثلاثة أيام فإنها لو مسته في الرابع لازداد الحداد من اليوم الرابع.
وهو حرام ومن السنة أن يتوقى رسوم الجاهلية من شق الجيوب وضرب الخدود وحلق الشعر كما كان عادة العرب وكذا قطعه كما كان عادة العجم وكذا رفع الصوت بالبكاء والنوح وقد برىء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ممن يفعل شيئاً من ذلك لأنها عادات الجاهلية وأكثر أهالي هذا الزمان في أكثر البلدان مبتلون بأمثال هذه العادات لا سيما النساء فإنهن يلبسن الألبسة السود إلى أن تمضي أيام بل شهور كثيرة وربما ترى رجلاً لا يلبس لباس الجمع والأعياد فلو سئل فيه لأجاب بقوله : مات أبي وأمي أو غيرهما وذلك بعد ما مضى من زمان الوفاة شهور.
وكذا الرافضة قد تغالت في الحزن لمصيبة الحسين رضي الله عنه وأحدت عليها حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً لقتله رضي الله عنه فيقيمون في مثل هذا اليوم العزاء ويطيلون النوح والبكاء ويظهرون الحزن والكآبة ويفعلون فعل غير أهل الإصابة ويتعدون إلى سب بعض الصحابة وهذا عمل أهل الضلال المستوجبين من الله الخزي والنكال كأنهم لم يسمعوا ما ورد في النهي عن الحداد ومن الله الرشاد.
والإشارة في الآية : أن موت المسلم لم يكن فراقاً اختياراً للزوج فكانت مدة وفاته أطول فكذا العبد الطالب فإن حال الموت بينه وبين مطلوبه من غير اختياره فالوفاء بحصول مطلوبه في مدة كرم محبوبه كما قال تعالى : {وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِه مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى اللَّهِ} (النساء : 100) ففي هذا تسلية قلوب
367
المؤمنين لئلا يقطع عليهم طريق الطلب وساوس الشيطان وهو رجس النفس بأن طلب الحق أمر عظيم وشأن خطير وأنت ضعيف والعمر قصير فإن منادي الكرم من سرادقات الفضل ينادي ألا من طلبني وجدني فإن الطلاب في طلبي كذا في "التأويلات النجمية" قدس الله تعالى نفسه الزاكية القدسية المرضية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 365
(1/301)
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} علم الله تعالى أن المرأة إذا مات زوجها قد يكون لها مال أو جمال أو معنى يرغب الناس فيها فأطلق للراغب أن يعرض بالخطبة في العدة فقال تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} التعريض إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ} الخطبة بالكسر : التماس النكاح وبالضم الكلام المشتمل على الوعظ والزجر من الخطاب الذي هو الكلام يقال خطب المرأة أي : خاطبها في أمر النكاح والمراد بالنساء المعتدات للوفاة وأما النساء اللاتي لا تكون منكوحة الغير ولا معتدته من طلاق رجعي فإن خطبتهن جائزة تصريحاً وتعريضاً إلا أن يخطبها رجل فيجاب بالرضى صريحاً فههنا لا يجوز لغيره أن يخطبها لقوله عليه السلام : "لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه" وإن أجيب بالرد صريحاً فههنا يحل لغيره أن يخطبها وإن لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد ففيه خلاف والتي هي معتدة عن الطلاق الثلاث والبائن باللعان والرضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلاف وأما البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها كالمختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عِنَّة أو إعسار نفقة فههنا يجوز لزوجها التعريض والتصريح وأما غير الزوج فلا يحل له التصريح والتعريض لأنها معتدة يحل للزوج أن يستبيحها في عدتها فلا يحل له التعريض بخطبتها كالرجعية ثم التعريض بالخطبة أن يقول لها في العدة : إنك لجميلة صالحة ومن غرضي أن أتزوج أو أشتهي امرأة مثلك أو أنا محتاج إلى امرأة صفتها كذا ، أو يقول : إني حسن الخلق كثير الإنفاق جميل العشرة محسن إلى النساء فيصف نفسه ليرغب فيه ، أو يقول : رُبَّ راغب فيك وحريص عليك ونحو ذلك مما يوهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح بأن يقول : إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك أو غير ذلك فإنه كما لا يجوز أن ينكحها في عدتها لا يجوز له أن يخطبها صريحاً فيها
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
{أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} مفعول أكننتم محذوف وهو الضمير الراجع إلى ما الموصولة في قوله : {فِيمَا عَرَّضْتُم} أي : أو أكننتموه في أنفسكم أي : أضمرتم في قلوبكم من نكاحهن فلم تذكروه صريحاً أو تعريضاً.
الآية الأولى لإباحة التعريض في الحال وتحريم التصريح في الحال وهذه الآية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ثم إنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك فقال : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فالمقصود بيان وجه إباحة الخطبة بطريق التعريض {وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} نصب على أنه مفعول ثان لتواعدوهن وهو استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن أي : فاذكروهن وأظهروا لهن رغبتكم ولكن لا تواعدوهن نكاحاً بل اكتفوا بما رخص لكم من التعريض والتعبير عن النكاح بالسر لأن مسببه الذي هو الوطء مما يسر به.
{إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا} استثناء مفرغ مما يدل عليه النهي أي : لا تواعدوهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة
368
شرعاً وهي ما تكون بطريق التعريض والتلويح.
{وَلا تَعْزِمُوا} العزم عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال يتعدى بنفسه وبعلى ، قال الراغب : ودواعي الإنسان إلى الفعل على مراتب السانح ثم الخاطر ثم التفكر فيه ثم الإرادة ثم الهمة ثم العزم فالهمة إجماع من النفس على الأمر والعزم هو العقد على إمضائه.
{عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي : لا تعزموا عقد عقدة النكاح لأن العزم عبارة عن عقد القلب على فعل فلا يتعلق إلا بالفعل والإضافة في قوله : {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} بيانية فلا تكون العقدة بمعنى ربط المكلف إجراء التصرف بل المراد به الحاصل بالمصدر وهو الارتباط الشرعي الحاصل بعقد العاقدين والمقصود النهي عن تزوج المعتدة في زمان عدتها إلا أنه نهى عن العزم على عقد النكاح للمبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم على الشيء متقدم عليه والنهي عن مقدمات الشيء يستلزم النهي عن ذلك الشيء بطريق الأولى.
{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُ} الكتاب بمعنى المكتوب وهو المفروض والمعنى حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ} من العزم على ما لا يجوز {فَاحْذَرُوهُ} بالاجتناب عن العزم ابتداء وإقلاعاً عنه بعد تحققه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن عزم ولم يفعل خشية من الله تعالى.
{حَلِيمٌ} لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة فاجتنبوا أسباب العقوبة واعملوا بما أمركم به ربكم واغتنموا زمان الحياة حتى لا تتأسفوا كما قال المفرطون المتحسرون :
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
ون توانستم ندانستم ه سود
ون بدانستم توانستم نبود
(1/302)
وقد وبخ الله تعالى من مال إلى شهواته وهوى نفسه في هذه الآيات من غير أن يكون له رخصة شرعية فلا بد للعاقل أن يختار رضى الله تعالى على رضى نفسه ولا يكون له مطلب أعلى من مال أو امرأة أو غيرهما إلا الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام : "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" فتأمل كيف جعل جزاء كل مؤمّل ما أمله وثواب كل قاصد ما قصده واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا إشعاراً بعدم اعتبارها لخساستها ولأن وجودها لعب ولهو فكأنه كلا وجود وانظر إلى قوله عليه السلام : "فهجرته إلى ما هاجر إليه" وما تضمن من إبعاد ما سواه تعالى وتدبر هذا الأمر إذ ذكر الدنيا والمرأة مع أنها منها يشعر بأن المراد كل شيء في الدنيا من شهوة أو مال وأن المراد بالحديث الخروج عن الدنيا بل وعن كل شيء .
قال أبو سليمان الداراني قدس سره ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا طلب معاش أو تزوج امرأة أو كتب الحديث.
واعلم أنه ينبغي لطالب الحق أن يحصل من العلوم الشرعية ما يفرق به بين الحق والباطل ويشتغل بالعلوم الرسمية والقوانين المتداولة قدر ما يقدر على استخراج الحديث والتفسير من غير تعمق في الفلسفيات وغوامض العلوم فإنه زائد على قدر الكفاية منهي عنه على أصول أهل الشريعة والطريقة فهذا أول الأمر في هذا الباب.
وأما أمر النهاية وهو ما بعد التحصيل والتكميل فإن السالك بقدر اشتغاله بالعلوم الظاهرة زاد بعداً عن درك الحق لأن السلوك يبتنى على التخلي والانقطاع وترك الكلام والاستماع وتفريغ الباطن من العلائق ولو كانت علوماً وطرح المشاغل
369
الخارجية والداخلية من البين خصوصاً وعموماً فقول بعضهم بنفي الاشتغال لأهل السلوك يبتنى على هذا المعنى لا على الترك من الأصل كما يزعمه جهلة الصوفية نعوذ بالله من هذا فإن العلم مطلقاً هو النور وبه يهتدي السالك إلى مسالكه.
وأما أرباب النهاية من أهل السلوك فلا يمكن حصر أحوالهم فإنهم لا يحتجبون لا بالكثرة عن الوحدة ولا بعكسها إذ هم تجاوزوا عن مقام الأغيار بل شاهدوا أينما قلبوا الأحداق الأنوار بل حققوا بالحقيقة فلا أغيار عندهم لا حقيقة ولا اعتباراً ولذا حبب إلى النبي عليه السلام النساء وذلك لأن محبته عليه السلام ليست كما يعرفها الناس بل سرها مستور لا يطلع عليه إلا من فاز بالوراثة الكبرى ، يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة إنما بسطت الكلام في هذا المقام لئلا يظن أحد أن قوله فيما سبق أو كتب من خرافات الصوفية بل له محمل على ما أشرت إليه ومن لم يسلك هذا الطريق لم يعرف قدر خطوات أهل التحقيق والتدقيق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} المراد من الجناح في هذه الآية وجوب المهر أي : لا تبعة من مهر {إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي : غير ماسين لهن ومجامعين.
قال ابن الشيخ الظاهر أن كلمة ما مصدرية ظرفية والزمان محذوف تقديره مدة عدم المسيس {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} كلمة أو بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي أي : إلا أن تفرضوا لهن عند العقد مهراً والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلاً إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في تسمية المهر فإن عليه حينئذٍ نصف المسمى وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مثل المهر وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى وفي صورة عدمها تمام مهر المثل.
{وَمَتِّعُوهُنَّ} عطف على مقدر أي : فطلقوهن ومتعوهن أي : أعطوهن ما يتبلغن وينتفعن به والحكمة في إيجاب المتعة جبر لما أوحشها الزوج بالطلاق وهو درع وهو ما يستر البدن وملحفة وهو ما يستر المرأة عند خروجها من البيت وخمار وهو ما يستر الرأس على حسب الحال كما يفصح عنه قوله تعالى : {عَلَى الْمُوسِعِ} يقال أوسع الرجل إذا اتسع حاله فصار ذا سعة وغنى أي : الذي له سعة {قَدَرُهُ} إمكانه وطاقته {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} يقال : أقتر الرجل إذا افتقر وصار ذا قترة.
والقترة الغبار وهو قليل من التراب أي : على المقل الضيق الحال {قَدَرُهُ} فالمتعة معتبرة بحاله لا بحالها لا تنقص عن خمسة دراهم ولا تزاد على نصف مهر المثل لأن المسمى أقوى من مهر المثل والمتعة لا تزاد على نصف المسمى فلأن لا تزيد على نصف مهر المثل أولى.
والقدر والقدر لغتان وذهب جماعة إلى أن الساكن مصدر والمتحرك اسم كالعد والعدد والمد والمدد والقدر بالتسكين الوسع يقال هو ينفق على قدره أي : على وسعه وبالتحريك المقدار {مَّتَـاعًا}
جزء : 1 رقم الصفحة : 370
(1/303)
اسم لمصدر الفعل المذكور من قبيل قوله تعالى : {أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} (نوح : 17) أي : تمتيعاً ملتبساً {بِالْمَعْرُوفِ} أي : بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة {حَقًّا} صفة متاعاً أي : متاعاً واجباً {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي : الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال.
قال ابن التمجيد : اعلم أن للمطلقة أربع حالات : الأولى أن تكون غير ممسوسة ولم يسم لها مهر ، والثانية : أن تكون ممسوسة وسمي لها ، والثالثة : أن تكون ممسوسة ولم يسم لها ، والرابعة : أن تكون غير
370
ممسوسة وسمي لها ورفع الجناح بمعنى نفي المهر إنما هو في الصورة الأولى لا في البواقي من الصور الثلاث فإن فيها وجوب المهر ولم يجب في الصورة الأولى مهر لا بعضاً ولا كلاً ، أما عدم وجوب البعض فلأن مهر المثل لا ينصف وأما عدم وجوب الكل فلكونها غير مدخول بها ولكن لها المتعة لقوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ} فإنه في حق من جرى ذكرهن وهي المطلقات الغير الممسوسة التي لم يفرض لهن فريضة إذ لو فرضت لكان لهن تمام المهر لا المتعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 370
{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي : وإن طلقتموهن من قبل المسيس حال كونكم مسمين لهن عند النكاح مهراً {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي : فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر وإن مات أحدهما قبل الدخول فيجب عليه كله لأن الموت كالدخول في تقرير المسمى كذلك في إيجاب مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى.
{إِلا أَن يَعْفُونَ} استثناء من أعم الأحوال أي : فلهن نصف المفروض معيناً في كل حال إلا في حال عفوهن أي : المطلقات فإنه يسقط ذلك حينئذٍ بعد وجوبه {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي : يترك الزوج المالك لعقده وحله ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها كملاً على ما هو المعتاد تكرماً فإن ترك حقه عليها عفو بلا شبهة فالمراد بقوله الذي بيده عقدة النكاح الزوج لا الولي والمراد بعفوه أن يعطيها الصداق كاملاً النصف الواجب عليه والنصف الساقط العائد إليه بالتنصيف وتسمية الزيادة على الحق عفواً لما كان الغالب عندهم أن يسوق الزوج إليها كل المهر عند التزوج فإذا طلقها قبل الدخول فقد استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها.
{وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} واللام في التقوى تدل على علة قرب العفو تقديره العفو أقرب من أجل التقوى إذ الأخذ كأنه عوض من غير معوض عنه أو ترك المروءة عند ذلك ترك للتقوى وفي الحديث "كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئاً" وفي حديث الأصمعي أتى أعرابي قوماً فقال لهم : هذا في الحق أو فيما هو خير منه قالوا : وما خير من الحق؟ قال : التفضل والتغافل أفضل من أخذ الحق كله" كذا في "المقاصد الحسنة" للسخاوي {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ليس المراد منه النهي عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك والمعنى لا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم بإعطاء الرجل تمام الصداق وترك المرأة نصيبها حثهما جميعاً على الإحسان والإفضال وقوله بينكم منصوب بلا تنسوا.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
كسى نيك بيند بهر دوسراي
كه نيكى رساند بخلق خداي
{إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والإحسان ، والبصر في حقه تعالى عبارة عن الوصف الذي به ينكشف كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات ، والحظ الديني للعبد من البصر أمران :
أحدهما : أن يعلم أنه خلق له البصر لينظر إلى الآيات وعجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظره إلا عبرة قيل لعيسى عليه السلام هل أحد من الخلق مثلك فقال من كان نظره عبرة وصمته فكرة وكلامه ذكراً فهو مثلي.
والثاني : أن يعلم أنه بمرأى من الله ومسمع فلا يستهين بنظره إليه وإطلاعه عليه ومن أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان
371
بهذه الصفة فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله يراه فما أجسره وأخسره ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره كذا في "شرح الأسماء الحسنى" للإمام الغزالي.
(1/304)
ثم الإشارة في الآيات أن مفارقة الإشكال من الأصدقاء والعيال لمصلحة دنيوية {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فيها فكيف يكون جناح إن فارقتموهم لمصلحة دينية بل أنتم مأمورون بمفارقتهم لزيارة بيت الله فكيف لزيارة الله فإن الواجب في زيارة بيت الله مفارقة الأهالي والأوطان وفي زيارة الله مفارقة الأرواح والأبدان دع نفسك وتعال قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وقوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ} إشارة إلى أن من له من الطلاب وأهل الإرادة مال فليمتع به أقرباءه وأحباءه حين فارقهم في طلب الحق سبحانه ليزيل عنهم بحلاوة المال مرارة الفراق فإن الفطام عن المألوف شديد ولا ينفق المال عليهم بقدر قربهم في القرابة وبعدهم بل يقسم بينهم على فرائض الله كالميراث فإنه قد مات عنهم بالحقيقة وفي قوله تعالى : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} إشارة إلى أن الوصول إلى تقوى الله حق تقاته إنما هو بترك ما سوى الله والتجاوز عنه فإن المواصلة إلى الخالق على قدر المفارقة عن المخلوق والتقرب إلى الله بقدر التبعد عما سواه وفي قوله تعالى : {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ههنا في الدنيا فإن حلول الجنة ودخولها هناك لا يكون إلا من فضله كقوله تعالى : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} (فاطر : 35) أن الله بما تعملون في وجدان الفضل وفقدانه {بَصِيرٌ} كذا في "التأويلات النجمية" وإنما يوجب للعبد الالتفات للخلائق فقدان النور الكاشف للخلائق وإلا فلو أشرق نور اليقين الهادي إلى العلم بأن الآخرة خير من الدنيا وأن ما عند الله خير وأبقى لرأيت الآخرة أقرب من أن يرحل إليها ولرأيت محاسن الدنيا وقد ظهرت كسفة الفناء عليها لأن الآتي قطعاً كالموجود في الحال لا سيما ومباديه ظاهرة من تغير الأحوال وانتقال الأهلين والأموال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن النور إذا دخل القلب انفسح وانشرح" قيل : يا رسول الله وهل له من علامة يعرف بها قال : "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله" انتهى اللهم اجعلنا ممن استعد للقائك وتهيأ لنوال وصالك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
{حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} بالأداء لوقتها والمداومة عليها ، والمراد بالصلوات : المكتوبات الخمس في كل يوم وليلة ثبت عددها بغيرها من الآيات والأحاديث المتواترة وبإشارة في هذه الآية وهو ذكر الوسطى وهي ما اكتنفه عددان متساويان وأقل ذلك خمسة لا يقال إن الثلاث بهذه الصفة لأنا نقول الثلاث لا يكتنفها عددان فإن الذي قبلها واحد والذي بعدها واحد وهو ليس بعدد فإن العدد ما إذا اجتمع طرفاه صارا ضعفه وليس له طرفاً فإنه ليس قبله شيء حافظوا على {وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى} أي : المتوسطة بينها على أن تكون الوسطى صفة مشبهة أو الفضلى منها على أن تكون أفعل تفضيل تأنيث الأوسط وأوسط الشيء خيره وأعدله وهي صلاة العصر لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً" وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" أي : ليكن من فوتها حذراً كما يحذر من ذهاب أهله وماله ثم في حديث يوم الأحزاب
372
حجة على من قال الصلاة الوسطى غير العصر وعلى من قال أنها مبهمة أبهمها الله تعالى تحريضاً للخلق على محافظتها كساعة الإجابة يوم الجمعة.
فإن قيل : ما روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" يدل على أن الوسطى غير العصر ، قلت : يحتمل أن يكون الوسطى لقباً والعصر اسماً فذكرها باسمها كذا في "شرح المشارق" لابن الملك {وَقُومُوا} أي : في الصلاة {قَـانِتِينَ} حال من فاعل قوموا أي : ذاكرين له في القيام لأن القنوت هو الذكر فيه أو خاشعين.
ـ روي ـ أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا إلا ناسياً حتى ينصرف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 372
(1/305)
{فَإِنْ خِفْتُمْ} أي : إن كان بكم خوف من عدو أو غيره {فَرِجَالا} منصوب على الحال وعامله محذوف تقديره فصلوا راجلين والرجال جمع راجل مثل صحاب وصاحب {أَوْ رُكْبَانًا} أي : راكبين وهو جمع راكب مثل فرسان وفارس.
ومذهب أبي حنيفة أنهم لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف وعند إمكان الوقوف يصلي واقفاً والدليل عليه قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ} الآية {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} وزال خوفكم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي : فصلوا صلاة الأمن عبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها {كَمَا عَلَّمَكُم} أي : ذكراً كائناً كتعليمه إياكم {مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} من كيفية الصلاة والمراد بالتشبيه أن تكون الصلاة المؤداة موافقة لما علمه الله وإيرادها بذلك العنوان لتذكير النعمة أو اشكرواشكراً يوازي تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكام التي من جملتها كيفية إقامة الصلاة حالتي الخوف والأمن.
واعلم أن الصلاة بمنزلة الضيافة قد هيأها الله للموحدين في كل يوم خمس مرات فكما في الضيافة تجتمع الألوان من الأطعمة ولكل طعام لذة ولون فكذلك فيها أركان وأفعال مختلفة لكل فعل لذة وتكفير للذنوب ، وعن كعب الأحبار أنه قال : قال الله لموسى في مناجاته (يا موسى أربع ركعات يصليها أحمد وأمته وهي صلاة الظهر أعطيهم في أول ركعة منها المغفرة وفي الثانية أثقل موازينهم وفي الثالثة أوكل بهم الملائكة يسبحون ويستغفرون لهم لا يبقى ملك في السماء ولا في الأرض الا ويستغفر لهم ومن استغفرت له الملائكة لم أعذبه أبداً وفي الرابعة أفتح لهم أبواب السماء وتنظر إليهم الحور العين.
يا موسى أربع ركعات يصليها أحمد وأمته وهي صلاة العصر ما يسألون مني حاجة إلا قضيت لهم.
يا موسى ثلاث ركعات يصليها أحمد وأمته وهي صلاة المغرب أفتح لهم أبواب السماء ، يا موسى أربع ركعات يصليها أحمد وأمته وهي صلاة العشاء خير لهم من الدنيا وما فيها ويخرجون من الدنيا كيوم ولدتهم أمهاتهم).
ثم اعلم أنه لا يرخص لمن سمع الأذان ترك الجماعة فإنها سنة مؤكدة غاية التأكيد بحيث لو تركها أهل ناحية وجب قتالهم بالسلاح لأنها من شعائر الإسلام ولو تركها أحد منهم بغير عذر شرعي يجب عليه التعزير ولا تقبل شهادته ويأثم الجيران والإمام والمؤذن بالسكوت عنه.
وفي "غنية الفتاوى" : من حضر المسجد الجامع لكثرة جماعة في الصلاة فمسجد محلته أفضل قلّ أهل مسجده أو كثر لأن لمسجده حقاً عليه لا يعارضه كثرة الجماعة ولا زيادة تقوى غيره أو علمه ويبادر الصف الأول على محاذاة الإمام وروي عن النبي عليه السلام أنه قال :
373
"يكتب للذي خلف الإمام بحذائه مائة صلاة وللذي في الجانب الأيمن خمس وسبعون صلاة وللذي في جانب الأيسر خمسون صلاة وللذي في سائر الصفوف خمس وعشرون صلاة" كذا في "القنية" ولا يتخطى رقاب الناس إلى الصف الأول إذا وجد فيه فرجة ويتلاصقون بحيث يكونون محاذين بالأعناق والمناكب قال عليه السلام : "رصوا صفوفكم وقاربوا بينها تقارب أشباحكم وحاذوا بالأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه الحذف" الخلل بفتح الخاء المعجمة الفرجة والحذف بفتحتي الحاء المهملة والذال المعجمة الغنم السود الصغار الحجازية كذا في "التنوير" ، والكلام في أداء الصلاة بالحضور والتوجه التام ، قال بعضهم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 372
محراب ابروي توا كر قبله ام نبود
كي برفلك برند ملائك نمازمن
ـ يحكى ـ أن الشيخ أبا العباس الجوالقي كان في بداية حاله يعمل الجوالق ويبيع فباع يوماً جوالقاً بنسيئة ونسي المشتري فلما قام إلى الصلاة تفكر في ذلك ثم لما سلم قال لتلميذه : وقعت لي خاطرة في الصلاة أني إلى أي شخص بعت الجوالق الفلاني فقال تلميذه : يا أستاذ أنت في أداء الصلاة أو في تحصيل الجوالق فأثر هذا القول في الشيخ فلبس جوالقاً وترك الدنيا واشتغل بالرياضة إلى أن وصل إلى ما وصل :
مردان بسعي ورنج بجايي رسيده اند
توبى هنر كجارسي از نفس رورى
(1/306)
والإشارة أن الله تعالى أشار في حفظ الصلاة بصيغة المبالغة التي بين الاثنين وقال : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يعني محافظة الصلاة بيني وبينكم كما قال : "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" فمعناه إني حافظكم بقدرة التوفيق والإجابة والقبول والإثابة عليها فحافظوا أنتم على الصلاة بالصدق والإخلاص والحضور والخضوع والمناجاة بالتذلل والانكسار والاستعانة والاستهداء والسكون والوقار والهيبة والتعظيم وحفظ القلوب بدوام الشهود فإنما هي الصلاة الوسطى لأن القلب الذي في وسط الإنسان هو واسطة بين الروح والجسد ولهذا يسمى القلب فالإشارة في تخصيص المحافظة على الصلاة هي صلاة القلب بدوام الشهود فإن البدن ساعة يحفظ صورة أركان الصلاة وهيئتها وساعة يخرج منها فلا سبيل إلى حفظ صورتها بنعت الدوام ولا إلى حفظ معانيها بوصف الحضور والشهود وإنما هو من شأن القلب كقوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق : 37) وأنه من نعت أرباب القلوب إنهم في صلاتهم دائمون كذا في "التأويلات النجمية" فليسارع السالكون إلى حرم الحضور قبل الموت والقبور فإن الصلاة بالفتور غير مقبولة عند الله الغيور ولا بد من الإعراض عن الكائنات ليتجلى نور الذات وإلا فمن يستحضر عمراً وينادي زيداً فلا إجابة له أبداً ، قال الشيخ سعدي الشيرازي قدس سره :
آنكه ون سته ديديش همه مغز
وست بروست بود همو ياز
ارسايان روى در مخلوق
شت بر قبله ميكنند نماز
ومن الله التوفيق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 372
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي : يموتون يسمى المشارف إلى الوفاة متوفياً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه وقرينة المجاز امتناع الوصية بعد الوفاة {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}
374
أي : يدعون نساء من بعدهم {وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم} أي : يوصون وصية لهن والجملة خبر الذين {مَّتَـاعًا} أي : يوصون متاعاً {إِلَى الْحَوْلِ} أو متعوهن تمتيعاً إلى الحول {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} بدل من قوله {مَّتَـاعًا} بدل اشتمال لتحقق الملابسة بين تمتيعهن حولاً وبين عدم إخراجهن من بيوتهن كأنه قيل يوصون لأزواجهم متاعاً أي : لا يخرجن من مساكنهن حولاً أو حال من أزواجهم أي : غير مخرجات والمعنى يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى.
نزلت الآية في رجل من الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته ومات فأنزل الله هذه الآية فأعطى النبي عليه السلام والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً وكان عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع عند عدم الولد وولد الابن والثمن عند وجودهما وسقطت السكنى أيضاً عند أبي حنيفة ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر فإنه وإن كان متقدماً في التلاوة متأخر في النزول {فَإِنْ خَرَجْنَ} من منزل الأزواج باختيارهن {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأئمة والحكام {فِى مَا فَعَلْنَ فِيا أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركه {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره يعاقب من خالفه {حَكِيمٌ} يراعي في أحكامه مصالح عباده.
جزء : 1 رقم الصفحة : 374
{وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ} سواء كن مدخولاً بهن أم لا {مَتَـاعُ} أي : مطلق المتعة الشاملة للمستحبة والواجبة فإن كانت المطلقة مفوضة غير مدخول بها وجبت لها المتعة وإن كانت غيرها يستحب لها فلفظ التمتع المدلول عليه بمتعوهن في الآية السالفة يحمل على الواجب فلا منافاة بين الآيتين {بِالْمَعْرُوفِ} أي : متاع ملتبس بالمعروف شرعاً وعادة {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي : مما ينبغي على من كان متقياً فليس بواجب ولكن من شروط التقوى التبرع بهذا تطييباً لقلبها وإزالة للضغن.
{كَذَالِكَ} إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة أي : مثل ذلك البيان الواضح {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ} الدالة على أحكامه التي شرعها لعباده ، قال القاضي وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا ما فيها فتستعملوا العقل فيها وتعملوا بموجبها ، وفي "المثنوي" :
كشتى بي لنكر آمد مردشر
كه زباد كنيابد أو حذر
لنكر عقلست عاقل را امان
(1/307)
لنكرى دريوزه كن ازعا قلان
والإشارة أن المطلقة لما ابتليت بالفراق جبراًتعالى كسر قلبها بالمتعة يشير بهذا إلى أن المريد الصادق لو ابتلي في أوان طلبه بفراق الأعزة والأقرباء وهجران الأحبة والأصدقاء والخروج
375
من مال الدنيا وجاهها والهجرة من الأوطان وسكانها والتنقل في البلاد لصحبة خواص العباد ومقاساة الشدائد في طلب الفوائد فالله تعالى يبذل له إحسانه ويزيل عنه أحزانه ويجبر كسر قلبه بمتعة "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" فيكون للطالب الملهوف متاع بالمعروف من نيل المعروف كذلك يظهر الله لكم آياته أصناف ألطافه وأوصاف أعطافه لعلكم تعقلون بأنوار ألطافه كمالات أوصافه كذا في "التأويلات النجمية" فالعاقل لا ينظر إلى الدنيا وأعراضها بل يعبر عن منافعها وأغراضها ويقاسي الشدائد في طريق الحق إلى أن يصل إلى الذات المطلق.
ـ يحكى ـ عن شقيق البلخي : أنه لم يجد طعاماً ثلاثة أيام وكان مشتغلاً بالعبادة فلما ضعف عن العبادة رفع يده إلى السماء وقال : يا رب أطعمني فلما فرغ من الدعاء التفت فرأى شخصاً ينظر إليه فلما التفت إليه سلم عليه وقال : يا شيخ تعال معي فقام شقيق وذهب معه فأدخله ذلك الرجل في بيت فرأى فيه ألواحاً موضوعة عليها ألوان الأطعمة وعند الخوان غلمان وجواري فأكل والرجل قائم فلما فرغ أراد أن يخرج شقيق من ذلك البيت فقال له الرجل : إلى أين يا شيخ؟ فقال : إلى المسجد فقال : ما اسمك قال شقيق فقال : يا شقيق اعلم أن هذه الدار دارك والعبيد عبيدك وأنا عبدك كنت عبداً لأبيك بعثني إلى التجارة فرجعت الآن وقد توفي أبوك فالدار وما فيها لك قال شقيق : إن كان العبيد لي فهم أحرار لوجه الله وإن كانت الأموال لي وهبتها لكم فاقتسموها بينكم فإني لا أريد شيئاً يمنعني عن العبادة ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 374
تعلق حجا بست وبي حاصلي
ويوندها بكسلى واصلي
والدنيا علاقة خصوصاً هذا الزمان زمان الفتنة والشرور فالراقد فيه خير من اليقظان.
ـ حكي ـ أن سليمان عليه السلام أتي بشراب الجنة فقيل له لو شربت هذا لا تموت فتشاور مع حشمه إلا القنفذ قالوا بأجمعهم اشرب ثم أرسل الفرس والبازي إلى القنفذ يدعوانه فلم يجبهما ثم أرسل إليه الكلب فأجابه فقال له سليمان : لم لم تجب الفرس والبازي قال : إنهما جافيان لأن الفرس يعدو بالعدو كما يعدو بصاحبه والبازي يطيع غير صاحبه كما يطيع صاحبه وأما الكلب فإنه ذو وفاء حتى أنه لو طرده صاحبه من الدار يرجع ثانياً فقال له : أشرب هذا الشراب قال : لا تشرب لأنه يطول عمرك في السجن فالموت في العز خير من العيش في السجن.
بهمه حال أسيرى كه زبندي برهد
بهترش دان زاميريكه كرفتار آيد
فقال له سليمان : أحسنت وأمر بإهراقة في البحر فعذب ماء ذلك البحر :
تزود من الدنيا فإنك راحل
وبادر فإن الموت لا شك نازل
وإن امرأ قد عاش سبعين حجة
ولم يتزود للمعاد لجاهل
ودنياك ظل فاترك الحرص بعدما
علمت فإن الظل لا بد زائل
قال السعدي قدس سره :
كه اندر نعمتي مغرور غافل
كهى ازتنك دستي خسته وريش
ودر سرا وضرا حالت اينست
ندانم كى بحق روازي ازخويش
اللهم احفظنا من الموانع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 374
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} جمع دار أي : منازلهم وهذا
376
الخطاب وإن كان بحسب الظاهر متوجهاً إلى النبي عليه السلام إلا أنه من حيث المعنى متوجه إلى جميع من سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ فمقتضى الظاهر أن يقال ألم تسمع قصتهم إلا أنه نزل سماعهم إياها منزلة رؤيتهم تنبيهاً على ظهورها واشتهارها عندهم فخوطبوا بألم تر وهو تعجيب من حال هؤلاء وتقرير أي : حمل على الإقرار بما دخله النفي.
قال الإمام الواحدي : ومعنى الرؤية ههنا رؤية القلب وهي بمعنى العلم انتهى فتعدية الرؤية بإلى مع أنها إدراك قلبي لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك إليهم.
(1/308)
قال العلماء : كل ما وقع في القرآن ألم تر ولم يعاينه النبي عليه السلام فهو بهذا المعنى ، وفي "التيسير" : وتحقيقه اعلم ذلك ، وفي "الكواشي" : معناه الوجوب لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أو على الاستفهام صار تقريراً أو إيجاباً والمعنى قد علمت خبر الذين خرجوا الآية ، قال ابن التمجيد في "حواشيه" : لفظ ألم تر قد يخاطب به من تقدم علمه بالقصة وقد يخاطب به من لم يتقدم علمه بها فإنه قد يقول الرجل لآخر ألم تر إلى فلان أي : شيء قال يريد تعريفه ابتداء فالمخاطبون به ههنا أما من سمعها وعلمها قبل الخطاب به من أهل التواريخ فذكرهم وعجبهم وأما من لم يسمعها فعرفهم وعجبهم وقيل : الخطاب عام لكل من يتأتى منه الرؤية دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث ينبغي لكل أحد أن يعلمها أو يبصرها ويتعجب منها {وَهُمْ أُلُوفٌ} جمع ألف الذي هو من جملة أسماء العدد واختلفوا في عدد مبلغهم والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة فلا يقال في عشرة آلاف فما دونها ألوف {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول له أي : خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ} على لسان ملك وإنما أسند إليه تعالى تخويفاً وتهويلاً لأن قول القادر القهار والملك الجبار له شأن {مُوتُوا} التقدير فماتوا لاقتضاء قوله ثم أحياهم ذلك التقدير لأن الإحياء يستدعي سبق الموت {ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ} أي : أعادهم أحياء ليستوفوا بقية أعمارهم وليعلموا أن لا فرار من القدر.
قال ابن العربي عقوبة لهم ثم أحياهم وميتة العقوبة بعدها حياة للاعتبار وميتة الأجل لا حياة بعدها.
وعن الحسن أيضاً أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
وقصة هؤلاء ما ذكره أكثر أهل التفسير أنهم كانوا قوماً من بني إسرائيل بقرية من قرى واسط يقال لها داوودان وقع بها الطاعون فذهب أشرافهم وأغنياؤهم وأقام سفلتهم وفقراءهم فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها فوقع الطاعون من العام القابل فهرب عامة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح بين جبلين فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وملك آخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً من غير علة بأمر الله ومشيئته وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتت عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم أي : أنتنت فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فأحدقوا حولهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن يوزى ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وذلك
377
أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل كان يوشع بن نون ثم كالب بن يوحنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله لها.
وقال الحسن : هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل وقال لهم : اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً لكم من أن تقتلوا جميعاً فلما جاء اليهود وسألوا ذا الكفل عن الأنبياء السبعين قال : إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم ومنع الله تعالى ذا الكفل من اليهود بفضله وكرمه فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم لكثرة ما يرى فجعل يتفكر فيهم متعجباً فأوحى الله إليه أتريد أن أريك آية قال : نعم فقال الله ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت من أعلى الوادي وأدناه حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله إليه ناد أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا وبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت فبقيت فيهم بقايا من ريح النتن حتى أنه بقي في أولاد ذلك السبط من اليهود إلى اليوم ثم إنهم رجعوا إلى بلادهم وقومهم وعاشوا دهراً سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي ثبتت لهم وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض لأسباب الشهادة وحثهم على التوكل والاستسلام وأن الموت حيث لم يكن منه بد ولم ينفع منه المفر فأولى أن يكون في سبيل الله {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} عظيم {عَلَى النَّاسِ} قاطبة أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} فضله كما ينبغي لعجز بعضهم وكفر بعضهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
(1/309)
{وَقَـاتِلُوا} الخطاب لهذه الأمة وهو معطوف على مقدر تقديره فأطيعوا وقاتلوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لإعلاء دينه متيقنين أن الفرار من الموت غير مخلص وأن القدر واقع فلا تحرموا من أحد الحظين إما النصر والثواب وإما الموت في سبيل الله الملك الوهاب {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} يسمع مقالة السابقين إلى الجهاد من ترغيب الغير فيه ومقالة المتخلفين عنه من تنفير الغير {عَلِيمٌ} بما يضمرونه في أنفسهم يعلم أن خلف المتخلف لأي غرض وأن جهاد المجاهد لأي سبب وأنه لأجل الدين أو الدنيا وهو من وراء الجزاء ثم إن قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا} رد لتقبيح حال هؤلاء الذين خرجوا وقد جعل الله جزاء خروجهم الموت والخيبة في رجائهم الخلاص وكل ذلك يدل على كراهية الفرار فثبت بهذه الآية فضيلة القرار وفائدته وفي الحديث "الفار من الطاعون كالفار من الزحف" وهذا الحديث يدل على أن النهي عن الخروج للتحريم وأنه من الكبائر.
قيل : إن عبد الملك هرب من الطاعون فركب ليلاً وأخرج غلاماً معه فكان ينام على دابته فقال للغلام : حدثني فقال : من أنا حتى أحدثك؟ فقال : على كل حال حدث حديثاً سمعته فقال : بلغني أن ثعلباً كان يخدم أسداً ليحميه ويمنعه مما يريده فكان يحميه فرأى الثعلب عقاباً فلجأ إلى الأسد فأقعده على ظهره فانقض العقاب واختلسه فصاح الثعلب يا أبا الحارث أغثني واذكر عهدك لي فقال : إنما أقدر على منعك من أهل الأرض فأما أهل السماء فلا سبيل إليهم فقال عبد الملك : وعظتني وأحسنت وانصرف ورضي بالقضاء.
378
قال السعدي قدس سره :
قضا كشتي آنجاكه خواهد برد
وكرنا خدا جامه برثن درد
در آبى كه يدا نباشد كنار
غرور شناور نيايد بكار
واعلم أن ما كان من القضاء حتماً مقضياً لا ينفعه شيء كما قال عليه السلام : "الحذر لا ينفع من القدر" وأما المعلق فتنفعه الصدقة وأمثالها كما قال عليه السلام : "الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار" قال بعض المحققين : إن المقدرات على ضربين ضرب يختص بالكليات وضرب يختص بالجزئيات التفصيلية فالكليات المختصة بالإنسان ما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها محصورة في أربعة أشياء العمر والرزق والأجل والسعادة أو الشقاوة وهي لا تقبل التغير فالدعاء فيها لا يفيد كصلة الرحم إلا بطريق الفرض بمعنى أن لصلة الرحم مثلاً من الأثر في الخير ما لو أمكن أن يبسط في رزق الواصل ويؤخر في أجله بها لكان ذلك ويجوز فرض المحال إذا تعلق بذلك حكمة قال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} (الزخرف : 81) وأما الجزئيات ولوازمها التفصيلية فقد يكون ظهور بعضها وحصوله للإنسان متوقفاً على أسباب وشروط ربما كان الدعاء أو الكسب والسعي والتعمد من جملتها بمعنى أنه لم يقدر حصوله بدون ذلك الشرط.
جزء : 1 رقم الصفحة : 378
ـ حكي ـ أن قصاراً مر على عيسى عليه السلام مع جماعة من الحواريين فقال لهم عيسى : احضروا جنازة هذا الرجل وقت الظهر فلم يمت فنزل جبريل فقال : ألم تخبرني بموت هذا القصار فقال : نعم ولكن تصدق بعد ذلك بثلاثة أرغفة فنجا من الموت وقد سبق منا في الجزء الأول عند قوله تعالى : {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (البقرة : 59) ما يتعلق بالطاعون والفرار منه فليرجع إليه.
قال الإمام القشيري : في قوله تعالى : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية يعني إن مسكم ألم فتصاعد منكم أنين فاعلموا أن الله سميع بأنينكم عليم بأحوالكم والآية توجب عليهم تسهيل ما يقاسونه من الألم قال قائلهم :
إذا ما تمنى الناس روحاً وراحة
تمنيت أن أشكو إليك وتسمع انتهى كلامه قدس سره اللهم اجعلنا من الذين يفرون إلى جنابك ويميلون.
{مِّنْ} استفهام للتحريض على التصدق مبتدأ {ذَا} إشارة إلى المقرض خبر المبتدأ أي : من هذا {الَّذِى} صفة ذا أو بدل منه {يُقْرِضُ اللَّهَ} أصل القرض القطع سمي به لأن المعطي يقرضه أي : يقطعه من ماله فيدفعه إليه ليرجع إليه مثله من الثواب وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه {قَرْضًا} مصدر ليقرض بمعنى إقراض كقوله تعالى : {أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} (نوح : 17) أي : إقراضاً {حَسَنًا} أي : مقروناً بالإخلاص وطيب النفس ويجوز أن يكون القرض بمعنى المقرض أي : بمعنى المفعول على أنه مفعول ثان ليقرض وحسنه أن يكون حلالاً صافياً عن شوب حق الغير به.
وقيل : القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله ومن أنواع القرض قول الرجل سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر {فَيُضَـاعِفَه لَهُ} منصوب بإضمار إن عطفاً على المصدر المفهوم من يقرض الله في المعنى فيكون مصدراً معطوفاً على مصدر تقديره من ذا الذي يكون منه إقراض فمضاعفة من الله أو منصوب على جواب الاستفهام في المعنى لأن الاستفهام
379
(1/310)
وإن وقع عن المقرض لفظاً فهو عن الإقراض معنى كأنه قال أي : قرض الله أحد فيضاعفه وأصل التضعيف أن يزاد على الشيء مثله أو أمثاله {أَضْعَافًا} جمع ضعف حال من الهاء في يضاعفه {كَثِيرَةَ} هذا قطع للأوهام عن مبلغ الحساب أي : لا يعلم قدرها إلا الله.
وقيل الواحد سبعمائة وحكمة تضعيف الحسنات لئلا يفلس العبد إذا اجتمع الخصماء فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من أصل حسناته لأن التضعيف فضل من الله تعالى وأصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة.
وذكر الإمام البيهقي : أن التضعيفات فضل من الله تعالى لا يتعلق بها العباد كما لا يتعلق بالصوم بل يدخرها الحق للعبد فضلاً منه سبحانه فإذا دخل الجنة أثابه بها ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 378
نكو كاري از مردم نيك رأى
يكى را بده مى نويسد خداي
كرم كن كه فردا كه ديوان نهند
منازل بمقدار إحسان تهند
ولما حثهم على الإخراج سهل عليهم الإقراض وأخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه فقال : {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} يقتر على بعض {وَيَبْصاُطُ} يوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وإذا علم العبد ذلك هان عليه الإعطاء لأن الله تعالى هو الرزاق وهو الذي وسع عليه فهو يسأل منه ما أعطاه ولأنه يخلفه عليه في الدنيا ويثيبه عليه في العقبى فكأن الله تعالى يقول إذا علمتم أن الله هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وإعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم وأعطاكم ولا تعكسوا بأن تبخلوا لئلا يعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض بعدما بسط.
ولعل تأخير البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقبه في الوجود تسلية للفقراء.
قال الإمام الغزالي في "شرح الأسماء الحسنى" : القابض الباسط : هو الذي يقبض الأرواح من الأشباح عند الممات ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء يبسط الرزق على الأغنياء حتى لا تبقى فاقة ويقبضه من الفقراء حتى لا تبقى طاقة ويقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله ويبسطها لما يقرب إليها من بره ولطفه وجماله والقابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم وأوتي جوامع الكلم فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله ونعمائه وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من أعدائه كما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة حيث ذكرهم أن الله يقول لآدم يوم القيامة ابعث بعث النار فيقول : كم؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة فلما أصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روح قلوبهم وبسطها فذكر أنهم في سائر الأمم كشامة سوداء في مسك ثور أبيض انتهى.
قال القشيري في "رسالته" : القبض والبسط حالتان بقدر ترقي العبد عن حال الخوف والرجاء والقبض للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على ما قدمتم من الأعمال خيراً وشراً على الجود بالجنة وعلى البخل بالنار وهو وعد ووعيد أو هو تنبيه على أن الغني لمفارق ماله بالموت فليبادر إلى الإنفاق قبل الفوت.
واجتمع جماعة من الأغنياء والفقراء فقال غني : إن الله تعالى
380
جزء : 1 رقم الصفحة : 378
رفع درجاتنا حتى استقرض منا وقال فقير : بل رفع درجاتنا حتى استقرض لنا والواحد قد يستقرض من غير الحبيب ولك أن لا تستقرض إلا لأجل الحبيب وقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودرعه عند يهودي بشعير أخذه لقوت عياله.
انظر ممن استدان ولمن استدان وفي الحديث "يقول الله تعالى يوم القيامة ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال رب كيف أطعمك وأنت رب العزة قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي" فالقرض لا يقع عند المحتاج فكأنه ذكر نفسه ونزل وصفه منزلة المحتاج كقوله : مرضت فلم تعدني جعت فلم تطعمني شفقة وتلطيفاً للفقير والمريض وهذا من باب التنزلات الرحمانية عند المحققين لتكميل محبة العبد وجذبه إلى حظرة أهل الشهود من عباده إذ جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين وذلك إذا شاهد العبد الفقير جلوة جمال الرحمن في أطوار تنزلاته في المشاهد الأعيانية ، وفي "المثنوي" :
روي خوبان زانيه زيبا شود
روى إحسان از كدا يدا شود
ون كدا آيينه جودست هان
دم بود بر روى آيينه زيان
س ازين فرمود حق در والضحى
بانك كم زن اي محمد بر كدا
(1/311)
فالله تعالى من كمال فضله وكرمه مع عباده خلق أنفسهم وملكهم الأموال ثم اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ثم ردها إليهم بالعادية ثم أكرمهم فيها بالاستقراض منهم ثم بشر بأضعاف كثيرة عليها فالعبد الصادق لا يطلب إلا على قدر همته ولا يريد العوض مما أعطاه إلا ذاته تعالى فيعطيه الله ما هو مطلوبه على قدر همته ويضاعف له مع مطلوبه ما أخفى لهم من قرة أعين أضعافاً كثيرة على قدر كرمه فمن يكون له متاع الدنيا بأسره قليلاً فانظر ما يكون له كثيراً اللهم متعنا بما ألهمت قلوب أوليائك واجعلنا من الذين قصروا أعينهم على استطلاع أنوار لقائك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 378
{أَلَمْ تَرَ} أي : ألم ينتهِ علمك {إِلَى} قصة {الْمَلا} أي : قد علمت خبرهم بإعلامي إياك فتعجب.
الملأ : جماعة يجتمعون للتشاور سموا بذلك لأنهم أشراف يملؤون العيون مهابة والمجالس بهاءة لا واحد له من لفظه كالقوم {مِنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} من للتبعيض حال من الملأ أي : كائنين بعض بني إسرائيل وهم أولاد يعقوب {مِّنْ} ابتدائية متعلقة بما تعلق به الجار الأول {بَعْدَ} وفاة {مُوسَى إِذْ قَالُوا} منصوب بالمضاف المقدر في الملأ أي : ألم تر إلى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا لأن الذوات لا يتعجب منها وإنما يتعجب من أحوالها {لِنَبِىٍّ لَّهُمُ} اشمويل وهو الأشهر الأظهر {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} أي : أقم وانصب لنا سلطاناً يتقدمنا ويحكم علينا في تدبير الحرب ونطيع لأمره {نُّقَـاتِلْ} معه وهو بالجزم على الجواب {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} طلبوا من نبيهم ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره.
ـ وروي ـ أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال لهم النبي حينئذٍ فقيل قال : {هَلْ عَسَيْتُمْ} قاربتم {إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} مع الملك شرط معترض بين عسى وخبره وهو قوله : {أَلا تُقَـاتِلُوا} معه.
قال في "الكشاف" : والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون أراد أن يقول
381
عسيتم أن لا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ} (الإنسان : 1) معناه التقرير {قَالُوا وَمَا} مبتدأ وهو استفهام إنكاري خبره قوله : {لَنَآ} في {أَلا نُقَـاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي : أي سبب وغرض لنا في ترك القتال {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآاـاِنَا} أي : والحال أنه قد عرض لنا ما يوجب القتال إيجاباً قوياً من الإخراج من الديار والأوطان والاغتراب عن الأهل والأولاد وأفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال قال بعضهم وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا جلاء وأسراً ومثله يذكر اتباعاً نحو :
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
وزججن الحواجب والعيونا†
(1/312)
وكان سبب مسألتهم نبيهم ذلك أنه لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه الله ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الأوثان فبعث الله إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى الله وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ثم خلف بعد إلياس أليسع وكان فيهم ما شاء الله حتى قبضه الله وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلنانا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة أولاد عمليق بن عاد فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توارتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء شديداً ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته أشمويل تقول : سمع الله دعائي وهو بالعبرانية إسماعيل والسين تصير شيناً في لغة عبران فكبر الغلام فأسلموه لتعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبنّاه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه أحداً فدعاه بلحن الشيخ يا أشمويل فقام الغلام مسرعاً إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا لئلا يتفزع الغلام فقال : يا بني ارجع فنم فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام دعوتني؟ فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبياً فلما أتاهم كذبوه وقالوا له استعجلت بالنبوة ولم تأن لك وقالوا : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم فكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي يقيم أمره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من عند ربه {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك {تَوَلَّوْا} أي : أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته وإنما ذكر الله ههنا مآل أمرهم إجمالاً إظهاراً لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين {إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} وهم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافي أقوالهم
382
وأفعالهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
والإشارة أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، قال الحافظ :
خود بود كرمحك تجربه آمد بميان
تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
وهذه حال المدعين من أهل السلوك وغيرهم.
قال أهل الحقيقة : عللوا القتال بما يرجع إلى حظوظهم فخذلوا ولو قالوا كيف لا نقاتل وقد عصوا الله وخربوا بلاد الله وقهروا عباد الله وأطفؤوا نور الله لنصروا.
وأفادت الآية أن خواص الله فيهم قليلة قال تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وهذا في كل زمان لكن الشيء العزيز القليل أعلى بهاء من الكثير الذليل ، قال السعدي قدس سره :
خاك مشرق شنيده ام كه كنند
بجهل سال كاسه يني
صد بروزي كنند در بغداد
لا جرم قيمتش همي بيني
وإنما كان أهل الحق أقل مع أن الجن والإنس إنما خلقوا لأجل العبادة كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) لأن المقصود الأعظم هو الإنسان الكامل وقد حصل أو لأن المهديين وإن قلوا بالعدد لكنهم كثيرون بالفضل والشرف كما قيل :
قليل إذا عدّوا كثير إذا شدّوا†
(1/313)
أي : أظهروا الشدة.
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه السواد الأعظم هو الواحد على الحق والحكمة لا تقتضي اتفاق الكل على الإخلاص والإقبال الكلي على الله فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا بل تقتضي ظهور ما أضيف إليه كل من اليدين فللواحدة المضاف إليها عموم السعداء الرحمة والجنان وللأخرى القهر والغضب ولوازمهما فلا بد من الغضب لتكميل مرتبة قبضة الشمال فإنه وإن كان كلتا يديه يميناً مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الأخرى ، فعلى العاقل أن يحترز من أسباب الغضب ويجتهد في نيل كرم الرب.
قال علي كرم الله وجهه : (من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمننٍ ، ومن ظن أنه بذل الجهد فهو متعنٍ) اللهم أفضل علينا من سجال فضلك وكرمك وأوصلنا إليك بك يا أرحم الراحمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} وذلك أن أشمويل لما سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكاً أتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكاً طوله طول هذه العصا وانظر القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل ونش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فدهن به رأسه وملك عليهم.
قال وهب : ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاماً له في طلبها فمرا ببيت أشمويل فقال الغلام : لو دخلنا على هذا النبي فسألنا عن الحمر ليرشدنا ويدعو لنا بحاجتنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر إذ نش الدهن الذي في القرن فقام أشمويل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فقال لطالوت قرب رأسك فقربه فدهنه بدهن القدس ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكه عليهم قال : بأي آية؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك ثم قال أشمويل لبني إسرائيل : {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ} اسم أعجمي ممتنع من الصرف لتعريفه وعجمته {مَلِكًا} حال منه أي : فأطيعوه وقاتلوا عدوكم معه {قَالُوا} متعجبين من ذلك ومنكرين قيل : إنهم كفروا بتكذيبهم نبيهم وقيل : كانوا مؤمنين لكن تعجبوا وتعرفوا وجه الحكمة
383
في تمليكه كما قال الملائكة : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} (البقرة : 30) {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} من أين يكون له ذلك ويستأهل {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} أولى بالرياسة عليه منه بالرياسة علينا {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} أي : لم يعط ثروة وكثرة من المال فيشرف بالمال إذا فاته الحسب يعني كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال ولا بد للملك من مال يقتصد به.
وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل وهو سبط لاود بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون وسبط المملكة سبط يهودا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل هو من ولد بنيامين بن يعقوب وكانوا عملوا ذنباً عظيماً ينكحون النساء على ظهر الطريق نهاراً فغضب الله عليهم ونزع الملك والثروة منهم وكانوا يسمونه سبط الإثم وكان طالوت يتحرف بحرفة دنية كان رجلاً دباغاً يعمل الأدم فقيراً أو سقاءً أو مكارياً
جزء : 1 رقم الصفحة : 383
{قَالَ} لهم نبيهم رداً عليهم{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ} أي : اختاره فإن لم يكن له نسب ومال فله فضيلة أخرى وهو قوله : {وَزَادَه بَسْطَةً} أي : سعة وامتداداً {فِي الْعِلْمِ} المتعلق بالملك أو به وبالديانات أيضاً {وَالْجِسْمِ} بطول القامة وعظم التركيب لأن الإنسان يكون أعظم في النفوس بالعلم وأهيب في القلوب بالجسم وكان أطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى أن الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره رد عليهم ذلك أولاً بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم وثانياً بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر {وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَه مَن يَشَآءُ} لما أنه مالك الملك والملكوت فعال لما يريد فله أن يؤتيه من يشاء من عباده {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} يوسع على الفقير ويغنيه {عَلِيمٌ} بمن يليق بالملك ممن لا يليق به.
وفي "التأويلات النجمية" : إنما حرم بنو إسرائيل من الملك لأنهم كانوا معجبين بأنفسهم متكبرين على طالوت ناظرين إليه بنظر الحقارة من عجبهم قالوا ونحن أحق بالملك منه ومن تكبرهم عليه قالوا : أنى يكون له الملك علينا؟ ومن تحقيرهم إياه قالوا ولم يؤت سعة من المال فلمّا تكبروا وضعهم الله وحرموا من الملك ، قال السعدي قدس سره :
يكى قطره باران زابرى كيد
خجل شد وهناي دريا بديد
كه جايى كه درياست من كيستم
كر أوهست حقاكه من نيستم
و خودرا بشم حقارت بديد
صدف دركنارش بجان روريد
(1/314)
سهرش بجايى رسانيد كار
كه شد نامور لؤلؤي شاهوار
بلندي ازان يأفت كوست شد
درنيستي كوفت تاهست شد
جزء : 1 رقم الصفحة : 383
ومن بلاغات الزمخشري كم يحدث بين الخبيثين ابن لا يعابن والفرث والدم يخرج من بينهما اللبن يعني حدوثاً كثيراً يحدث بين الزوجين الخبيثين ابن طيب لا يعاب بين الناس ولا يذكر بقبيح وهذا غير مستبعد لأن اللبن يخرج من بين السرجين والدم وهما مع كونهما مستقذرين لا يؤثران في اللبن بشيء من طعمهما ولونهما بل يحدث اللبن من بينهما لطيفاً نظيفاً سائغاً
384
للشاربين.
قالوا : يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله.
قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها وهو من الحيوان بمنزلة المعدة من الإنسان طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه مادة اللبن وأعلاه مداة الدم والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع وتبقي الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تأمل والإنسان له استعداد الصلاح والفساد فتارة يظهر في الأولاد الصلاح المبطون في الآباء وتارة يكون الأمر بالعكس وأمر الإيجاد يدور على الإظهار والإبطان فانظر إلى آدم وإبنيه قابيل وهابيل ثخ وثم إلى انتهاء الزمان.
والحاصل أن طالوت ولو كان أخس الناس عند بني إسرائيل لكنه عظيم شريف عند الله لما أن النظر الإلهي إذا تعلق بحجر يجعله جوهراً وبشوك يجعله ورداً وريحاناً فلا معترض لحكمه ولا راد لقضائه فالوضيع من وضعه الله وإن كان قد رفعه الناس والرفيع من رفعه الله وإن كان قد وضعه الناس.
والعاقل إذا تأمل أمثال هذا يجد من نفسه الإنصاف والسكوت وتفويض الأمر إلى الحي الذي لا يموت والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 383
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} طلبوا علامة من نبيهم على كون طالوت ملكاً عليهم فقالوا : ما آية ملكه؟ فقال : {إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ} أي : علامة سلطنته {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} من التوب وهو الرجوع وسمي تابوتاً لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودع فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته والمراد به صندوق التوراة وكان قد رفعه الله بعد وفاة موسى عليه السلام سخطاً على بني إسرائيل لما عصوا واعتدوا ، فلمّا طلب القوم من نبيهم آية تدله على ملك طالوت قال لهم : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت من السماء والملائكة يحفظونه فأتاهم كما وصف والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال أرباب الأخبار : إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه تماثيل الأنبياء عليهم السلام من أولاده وكان من عود الشمشار ونحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين فكان عند آدم عليه السلام إلى أن توفي فتوارثه أولاده واحد بعد واحد إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه وكان إذا قاتل قدمه فكانت تسكن إليه نفوس بني إسرائيل وكان عنده إلى أن توفي ثم تداولته أيدي بني إسرائيل وكانوا إذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه فيكلمهم ويحكم بينهم وكانوا إذا حضروا القتال يقدمونه بين أيديهم ويستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ثم يقاتلون العدو فإذا سمعوا في التابوت صيحة استيقنوا النصر فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله أن يملك طالوت سلط الله عليهم البلاء حتى أن كل من بال عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلم الكفار أن ذلك سبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على عجلة وعقلوها على ثورين فأقبل الثوران يسيران وقد وكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتيا
385
منزل طالوت فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال لهم النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره فلما وجدوه عنده أيقنوا بملكه فالإتيان على هذا مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه فنسب الإتيان إليه توسعاً كما يقال : ربحت التجارة وعلى الوجه الأول حقيقة {فِيهِ} أي : في إتيان التابوت {سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي : سكون لكم وطمأنينة كائنة من ربكم أو الضمير للتابوت ، قال بعض المحققين السكينة تطلق على ثلاثة أشياء بالاشتراك اللفظي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 385
أولها ما أعطى بنو إسرائيل في التابوت كما قال تعالى : {إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِه أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} قال المفسرون هي ريح ساكنة طيبة تخلع قلب العدو بصوتها رعباً إذا التقى الصفان وهي معجزة لأنبيائهم وكرامة الملوك.
(1/315)
والثانية : شيء من لطائف صنع الحق يلقي على لسان المحدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء مع ترويح الأسرار وكشف السر.
والثالثة : هي التي أنزلت على قلب النبي عليه السلام وقلوب المؤمنين وهي شيء يجمع نوراً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين كما قال تعالى : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (الفتح : 26) وقال بعضهم : التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وذكر الله الذي تطمئن إليه القلوب وإتيانه تصيير قلبه مقر العلم والوقار بعد أن لم يكن كذلك {وَبَقِيَّةٌ} كائنة {مِمَّآ} من للتبعيض {تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَـارُونَ} هما رضاض الألواح وعصا موسى من آس الجنة وثيابه ونعلاه وعمامة هارون وشيء من التوراة وخاتم سليمان وقفيز من المن وهو الترنجبين الذي كان ينزل على بني إسرائيل ويأكلونه في أرض التيه.
وآلهما أنفسهما والآل مقحم أو أنباؤهما أو اتباعهما {تَحْمِلُهُ الْمَلَـائِكَةُ} حال من التابوت أي إن آية ملكه إتيانه حال كونه محمولاً للملائكة أو استئناف كأنه قيل : كيف يأتي؟ فقيل : تحمله الملائكة ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة في الروايتين بل نزل من السماء إلى الأرض بنفسه والملائكة كانوا يحفظونه في الرواية الأولى وأتى به على العجلة وعلى الثورين بسوق الملائكة على الرواية الأخيرة وإنما أضيف الحمل في القولين جميعاً إلى الملائكة لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله بل كان الحامل غيره كما يقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق وإن كان الحامل غيره {إِنَّ فِي ذَالِكَ} يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي أن يكون ابتداء خطاب من الله أي : في رد التابوت أيها الفريق {لايَةً} عظيمة {لَكُمْ} دالة على ملك طالوت وصدق قول نبيكم في أن الله جعله ملكاً فإنه أمر مناقض للعادة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مصدقين بالله فصدقوا بتمليكه عليكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 385
وفي الإشارة إلى أن آية ملك الخلافة للعبد أن يظفر بتابوت قلب فيه سكينة من ربه وهي : الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون وهي عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي كلمة التقوى وهي الحية التي إذا فتحت فاها تلقف سحرة صفات فرعون النفس فعصا ذكر الله في تابوت القلوب وقد أودعها الله بين أصبعي جماله وجلاله كما قال عليه السلام : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فبصفة الجلال يلهمها فجورها وبصفة الإكرام يلهمها تقواها كما قال تعالى : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} (الشمس : 8) ولم يستودعها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فشتان بين أمة
386
سكينتهم فيما للأعداء عليه تسلط وبين أمة سكينتهم فيما ليس للأولياء ولا للأنبياء عليه ولاية وإن كان في ذلك التابوت بعض التوراة موضوعاً ففي تابوت قلوب هذه الأمة جميع القرآن محفوظ وإن كان في تابوتهم بيوت فيها صور الأنبياء ففي تابوت قلوبهم خلوات ليس فيها معهم غير الله كما قال : "لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" فإذا تيسر لطالوت روح الإنسان أن يؤتى تابوت القلب الرباني فسلم ملك الخلافة وسرير السلطنة واستوثق عليه جميع أسباط الصفات الإنساني فلا يركن إلى الدنيا الغدارة المكارة بل يتهجر منها ويتبرز لقتال جالوت النفس الأمارة وهذا لا يتيسر إلا بفضل الله وأخذ الطريقة والتمسك بالحقيقة.
ره اينست روى از طريقت متاب
بنه كام وكامي كه خواهي بياب
ومن أراد أن يزداد سكينة فليصلْ إلى المعرفة فإن المعرفة الإلهية توجب السكينة في القلب كما أن القلب يوجب السكون.
وسئل أبو يزيد عن المعرفة فقال : {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} (النمل : 34) أي : غيروا حالها عما هي عليه وكذلك إذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة أخرجت منها كل صفة رديئة.
وقيل لأبي يزيد : بم وجدت هذه المعرفة؟ فقال : ببطن جائع وبدن عار ، قال السعدي قدس سره :
باندازه خور زاد اكر مردمي
نين رشكم آدمي ياخمى
ندارند تن روران آكهى
كه ر معده باشدز حكمت تهى
اللهم احفظنا من الموانع في طريق الوصول إليك آمين آمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 385
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} الأصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة اللازم كانفصل والمعنى انفصل عن بلده مصاحباً لهم لقتال العمالقة.
والجنود جمع جند وهو الجيش الأشداء مأخوذ من الجند وهي الأرض الشديدة وكل صنف من الخلق جند على حدة.
(1/316)
ـ روي ـ أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فتسارعوا إلى الجهاد فقال طالوت : لا يخرج معي شيخ ولا مريض ولا رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت قيظاً أي : شديد الحر وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء وسألوا أن يجري الله لهم نهراً {قَالَ} أي : طالوت بإخبار من النبي أشمويل {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} أي : معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه وذلك الاختبار ليظهره عند طالوت من كان مخلصاً في نيته من غيره ليميزهم من العسكر لأن من لا يريد القتال إذا خالط عسكراً يدخل الضعف في العسكر فينهزمون بشؤمه :
آنكه جنك آرد بخون خويش بازى ميكند
روز ميدان آنكه بكر يزيد بخون لشكري
جزء : 1 رقم الصفحة : 387
فميز بينهما كالذهب والفضة فيهما الخبث فميز الخالص من غيره بالنار {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} أي ابتدأ شربه من ماء النهر بأن كرع وهو تناول الماء بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء {فَلَيْسَ مِنِّي} أي : من جملتي وأشياعي المؤمنين فمن للتبعيض دخلت على نفس المتكلم للإشعار بأن أصحابه لقوة اختصاصهم واتصالهم به كأنهم بعضه أو ليس
387
بمتحد معي فمن اتصالية كما في قوله تعالى : {الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ} (التوبة : 67) أي : بعضهم متصل بالبعض الآخر ومتحد معه {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} الطعم هنا بمعنى الذوق وهو التناول من الشيء تناولاً قليلاً يقال طعم الشيء إذا ذاقه مأكولاً أو مشروباً {فَإِنَّه مِنِّى} أي : من أهل ديني {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَا بِيَدِهِ} استثناء من قوله فمن شرب منه واعتراض الجملة الثانية وهو من لم يطعمه للعناية بها لأن عدم الذوق منه رأساً عزيمة والاغتراف رخصة وبيان حال الأخذ بالعزيمة أهم من بيان الأخذ بالرخصة.
والغرفة بالضم اسم للقدر الحاصل في الكف بالاغتراف والغرف أخذ ماء بآلة كالكف وهو في الأصل القطع والغرفة التي هي العلية قطعة من البناء والباء متعلقة باغترف.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغرفة الواحدة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها ، قال الإمام وهذا يحتمل وجهين : أحدهما أنه كان مأذوناً له أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ودوابه وخدمه ويحمل باقيه.
وثانيهما أنه كان يأخذ القليل فيجعل الله فيه البركة حتى يكفي كل هؤلاء فيكون معجزة لنبي الزمان كما أنه تعالى يروي الخلق الكثير من الماء القليل في زمن محمد صلى الله عليه وسلّم {فَشَرِبُوا مِنْهُ} أي : فانتهوا إلى النهر وابتلوا وكرعوا فيه كروعاً مثل الدواب ولم يقنعوا بالاغتراف فضلاً عن أن لا يذوقوا منه شيئاً {إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على عدد أهل بدر فإنهم اغترفوا فشربوا بالأكف ورووا وأما الذين خالفوا فشربوا كرعاً فازدادوا عطشاً واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فعرف طالوت الموافق من المخالف فخلف الأشداء :
جزء : 1 رقم الصفحة : 387
نه بي حكم شرع آب خوردن خطاست
وكر خون بفتوى بريزى رواست
ولما ردوا بالخلاف في صفة شرب ماء أصله حلال لكن على صفة مخصوصة وهلكوا بعد الرد فما حال من تناول الحرام المحض في الطعام والشراب كيف يقبل ويسلم.
ثم إنه لا خلاف بين المفسرين في أن الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم والصحيح أنهم لم يجاوزوا النهر وإنما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى : {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أي : النهر {هُوَ} أي : طالوت {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} وهم القليل الذين أطاعوه ولم يخالفوه فيما ندبهم إليه.
وفيه إشارة إلى أن من عداهم بمعزل من الإيمان {مَعَهُ} أي : مع طالوت متعلق بجاوز لا بآمنوا {قَالُوا} أي : بعض من معه من المؤمنين القليلين لبعض آخر منهم وهم الذين يظنون الآية فالمؤمنون الذين جاوزوا النهر صاروا فريقين فريقاً يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالباً على طبعه وفريقاً كان شجاعاً قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
والقسم الأول هم الذين قالوا : {لا طَاقَةَ} قوة {لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي : بمحاربتهم ومقاومتهم فضلاً عن أن يكون لنا غلبة عليهم وذلك لما شاهدوا منهم من الكثرة والقوة وكانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح.
والقسم الثاني : هم الذين أجابوهم بقولهم : {كَم مِّن فِئَةٍ} (البقرة : 249) الآية {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال لهم مخاطبهم فقيل قال : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا} نصر {اللَّهَ} العزيز وتأييده {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ} (البقرة : 249) أي : كثير من
388
(1/317)
الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة.
والفئة اسم للجماعة من الناس قلّت أو كثرت {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي : بحكمه وتيسيره فإن دوران كافة الأمور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وإن قل عدده ولا يعز من خذله وإن كثر أسبابه وعدده فنحن أيضاً نغلب جالوت وجنوده {وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ} بالنصرة على العدو وبتوفيق الصبر عند الملاقاة.
قال الراغب : في القصة إيماء ومثال للدنيا وأبنائها وأن من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً ولهذا قيل : الدنيا كالملح من ازداد منها عطش وفي الحديث : "لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" يعني لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره إلا من تاب فإن الله يقبل التوبة من التائب عن حرصه المذموم وعن غيره من المذمات وههنا نكتة وهي أن في ذكر ابن آدم دون الأنسال تلويحاً إلى أنه مخلوق من تراب ومن طبيعته القبض واليبس وإزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه من غمام توفيقه فللعاقل أن لا يتعب نفسه في جمع حطام الدنيا فإن الرزق مقسوم.
أوحى الله إلى داود (يا داود تريد وأريد فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أتعبك ثم لا يكون إلا ما أريد) فالناس مبتلون بنهر هو منهل الطبيعة الجسمانية فمن شرب منه مفرطاً في الري منه بالحرص فليس من أهل الحقيقة لأنه من أهل الطبيعة وعبدة الشهوات المشتغل بها عن الله إلا من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن ومحبة الخلق على الاضطرار بمقدار القوام فإنه من أولياء الله.
والحاصل أن النهر هو الدنيا وزينتها ومن بقي على شطها واطمأن بها كثير ممن جاوزها ولم يلتفت إليها فإن أهل الله أقل من القليل وأهل الدنيا لا يحصى عددهم رزقنا الله وإياكم القوة والقناعة ولم يفصلنا عن أهل السنة والجماعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 387
ـ روي ـ أنه عليه السلام قال في وصيته لأبي هريرة رضي الله عنه : "عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا وإذا طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا" قال أبو هريرة : من هم يا رسول الله؟ قال : "قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء إذا نظر إليهم الناس ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم حتى أعرفهم أنا فأقول : أمتي أمتي فيعرف الخلائق أنهم ليسوا أنبياء فيمرون مثل البرق أو الريح تغشى أبصار أهل الجمع من أنوارهم" فقلت : يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق بهم فقال : "يا أبا هريرة ركب القوم طريقاً صعباً آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله والعري بعدما كساهم الله والعطش بعدما أرواهم الله تركوا ذلك رجاء ما عند الله تركوا الحلال مخافة حسابه صحبوا الدنيا بأبدانهم ولم يشتغلوا بشيء منها عجبت الملائكة والأنبياء من طاعتهم لربهم طوبى لهم وددت أن الله جمع بيني وبينهم" ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شوقاً إليهم ثم قال عليه السلام : "إذا أراد الله بأهل الأرض عذاباً فنظر إليهم صرف العذاب عنهم فعليك يا أبا هريرة بطريقهم" ، قال الشيخ العطار قدس سره :
درراه تومر دانند ازخويش نهان مانده
بي جسم وجهت كشته بي نام ونشان مائده
تنشان بشريعت هم دلشان بحقيقت هم
هم دل شده وهم جان نه اين ونه آن مانده
389
عليهم سلام الله ورحمته وبركاته اللهم اجعلنا من اللاحقين بهم آمين آمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 387
{وَلَمَّا بَرَزُوا} أي : ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز أي : فضاء من الأرض في موطن الحرب {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وشاهدوا ما عليهم من العدد والعدد وأيقنوا أنهم غير مطيقين لهم عادة {قَالُوا} أي : جميعاً عند تقوي قلوب الفريق الأول منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به {رَبَّنَآ} في ندائهم بقولهم {رَبَّنَآ} اعتراف منهم بالعبودية وطلب لإصلاحهم لأن لفظ الرب يشعر بذلك دون غيره {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} إفراغ الإناء إخلاؤه مما فيه أي : صبّ علينا وهو استعارة عن الإكمال والإكثار أتوا بلفظة على طلباً لأن يكون الصبر مستعلياً عليهم وشاملاً لهم كالظرف للمظروف {صَبْرًا} على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الضيقة {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وهب لنا ما تثبت به في مداحض القتال ومزال النزال من قوة القلوب وإلقاء الرعب في قلوب العدو ونحو ذلك من الأسباب فالمراد بثبات القدم كمال القوة والرسوخ عند المقارنة وعدم التزلزل وقت المقامة لا مجرد التقرر في حيز واحد {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} بقهرهم وهزمهم ولقد راعوا في الدنيا ترتيباً بليغاً حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر على قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر على العدو الذي هو الغاية القصوى.
(1/318)
جزء : 1 رقم الصفحة : 390
{فَهَزَمُوهُم} أي : كسروهم بلا مكث {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي : بنصره وتأييده إجابة لدعائهم {وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ} كان جالوت الجبار رأس العمالقة وملكهم وكان من أولاد عمليق بن عاد وكان من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد وكان ظله ميلاً لطول قامته وكان أيشى أبو داود عليه السلام في جملة من عبر النهر مع طالوت وكان معه سبعة من أبنائه وكان داود أصغرهم يرعى الغنم فأوحى إلى نبي العسكر وهو أشمويل أن داود بن أيشى هو الذي يقتل جالوت فطلبه من الله فجاء به فقال النبي أشمويل : لقد جعل الله تعالى قتل جالوت على يدك فاخرج معنا إلى محاربته فخرج معهم فمر داود عليه السلام في الطريق بحجر فناداه يا داود احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا فحمله في مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال له : احملني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا وكذا فحمله في مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال له : احملني فإني حجر الذي تقتل بي جالوت فوضعه في مخلاته وكان من عادته رمي القذافة وكان لا يرمي بقذافته شيئاً من الذئب والأسد والنمر إلا صرعه وأهلكه فلما تصاف العسكران للقتال برز جالوت الجبار إلى البراز وسأل : من يخرج إليه؟ فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته : من يخرج إلى هذا الأقلف فسكتوا فالتمس منه طالوت أن يخرج إليه ووعده أن يزوجه ابنته ويعطيه نصف ملكه ويجري له خاتمه فيه فلما توجه داود نحوه أعطاه طالوت فرساً ودرعاً وسلاحاً فلبس السلاح وركب الفرس فسار قريباً ثم انصرف إلى الملك فقال من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال : ما شأنك؟ فقال : إن الله تعالى إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئاً فدعني أقاتل كما أريد قال : نعم فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 390
ـ روي ـ أنه لما نظر جالوت إلى داود قذف في قلبه الرعب فقال : يا فتى ارجع فإني أرحمك أن أقتلك قال داود : بل
390
أنا أقتلك قال : ائتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب قال : نعم أنت شر من الكلب قال جالوت : لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء قال داود : بل يقسم الله لحمك فقال : باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله يعقوب فوضع الأحجار الثلاثة في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً ودور المقلاع ورمى به فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة وخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً وهزم الله الجيش وخرّ جالوت قتيلاً فأخذ داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين فزوجه طالوت ابنته وأجرى خاتمه في نصف مملكته فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا ذكره فحسده طالوت وأراد قتله فتنبه له داود وهرب منه فسلط طالوت عليه العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه وانطلق داود إلى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه دهراً طويلاً فأخذ العلماء والعباد ينهون طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله فأكثر في قتل العلماء الناصحين فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله ثم ندم على ما فعله من المعاصي والمنكرات وأقبل على البكاء ليلاً ونهاراً حتى رحمه الناس وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي : رحم الله عبداً يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها فلما أكثر التضرع والإلحاح عليهم رقّ له بعض خواصه فقال له : إن دللتك أيها الملك لعلك أن تقتله فقال : لا والله بل أكرمه أتم الإكرام وأنقاد إلى حكمه وأخذ مواثيق الملك وعهوده على ذلك فذهب به إلى باب امرأة تعلم اسم الله الأعظم فلما لقيها قبّل الأرض بين يديها وسألها هل له من توبة؟ فقالت : لا والله لا أعلم لك توبة ولكن هل تعلم مكان قبر نبي؟ فانطلق بها إلى قبر أشمويل فصلت ودعت ثم نادت صاحب القبر فخرج أشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر إليهم سألهم وقال : مالكم ، أقامت القيامة؟ قالت : لا ولكن طالوت يسأل هل له من توبة؟ قال أشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال : لم أدع من الشر شيئاً إلا فعلته وجئت لطلب التوبة قال : كم لك من الولد؟ قال : عشرة رجال قال : لا أعلم لك من التوبة إلا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت فتقتل آخرهم ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميتاً ورجع طالوت ففعل ما أمر به حتى قتل فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال : قتلت عدوك فقال داود : ما أنت بالذي تحيا بعده فضرب عنقه فكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم وملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة
جزء : 1 رقم الصفحة : 390
(1/319)
{فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} أي : ملك بني إسرائيل في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها ولم يجتمعوا قبل داود على ملك {وَالْحِكْمَةَ} أي : النبوة ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة قبله إلا له بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط آخر وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة وهو أول من تكلم بأما بعد وهو فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام {وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَآءُ} أي : مما يشاء الله تعليمه إياه من صنعة الدروع بإلانة الحديد وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلا من عمل يده ومنطق الطير وتسبيح الجبال وكلام الحكل والنمل والصوت الطيب والألحان
391
الطيبة فلم يعط الله أحداً مثل صوته وكان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتطلبه الطير مصيخة له ويركد الماء الجاري وتسكن الريح {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} المصدر مضاف إلى فاعله أي : صرفه {النَّاسُ} مفعول الدفع {بَعْضُهُمْ} الذين يباشرون الشر والفساد وهو بدل من الناس بدل بعض من كل {بِبَعْضِ} آخر منهم بردهم عما هم عليه بما قدر الله من القتل كما في القصة المحكية وغيره وهو متعلق بالمصدر {لَّفَسَدَتِ الارْضُ} وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض ويصلحها.
وقيل : لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض ومن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت جيرانه البلاء" ثم قرأ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} ثم إن فيه تنبيهاً على فضيلة الملك وأن لولاه لما انتظم أمر العالم.
ولهذا قيل : الدين والملك توءمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين أساس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع والناس قد لا ينقادون للرسل تحت الرياسة مع ظهور الحجج فاحتيج إلى المجاهدة باللسان والسيف وذلك يكون من الأنبياء ومن يتابعهم ثم لهم آجال مضروبة عندها فوجب أن يكون لهم خلفاء بعدهم من كل عصر في إقامة الدين والجهاد فهذا دفع الله الناس بعضهم ببعض وتفصيله أن دفع الله الناس بعضهم ببعض على وجهين دفع ظاهر ودفع خفي.
فالظاهر ما كان بالسواس الأربعة الأنبياء والملوك والحكماء المعنيين بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 390
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة : 269) والوعاظ.
فسلطان الأنبياء عليهم السلام على الكافة خاصهم وعامهم ظاهرهم وباطنهم وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون البواطن كما قيل : نحن ملوك أبدانهم لا ملوك أديانهم وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة وسلطان الوعاظ بواطن العامة.
وأما الدفع الخفي فسلطان العقل يدفع عن كثير من القبائح وهو السبب في التزام سلطان الظاهر {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ} عظيم لا يقادر قدره {عَلَى الْعَـالَمِينَ} كافة يعني لكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وتنتظم به مصالح العالم وتنصلح أحوال الأمم.
ففضله تعالى يعم العوالم كلها أما في عالم الدنيا فبهداية طريق الرشد والصلاح وأما في الآخرة فبالجنات والدرجات والنجاة والفلاح ومن جملة فضله تعالى على العالمين دفع البليات عن بعض عباده بلا واسطة كالأنبياء وكمل الأولياء ومن اقتفى أثرهم من أهل اليقين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 390
{تِلْكَ} إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داود جالوت {اللَّهِ نَتْلُوهَا} المنزلة من عنده.
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي : بواسطة جبريل {بِالْحَقِّ} حال من مفعول نتلوها أي : ملتبسة بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما في كتبهم {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي : من جملة الذين أرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالتنا وإجراء أوامرنا وأحكامنا عليهم وإلا لما أخبرت بتلك الآيات من غير تعرف ولا استماع والتأكيد لرد قول الكفار لست رسولاً قال بعضهم :
ألا أي : أحمد مرسل شو دهر مشكل ازتوحل
كنم وصف ترا مجمل تويى سلطان هر مولى
392
شريعت ازتوروشن شد طريقت هم مبرهن شد
حقيقت خود معين شد زهى سلطان بي همتا
(1/320)
والإشارة أن المجاهد مع جالوت النفس الأمارة لا يقوم بحوله وقوته حتى يرجع إلى ربه مستعيناً {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في التسليم عند الشدة والرخاء وهجوم أحكان القضاء في السراء والضراء {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} وهم أعداؤنا في الدين عموماً والنفس الأمارة التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصاً إذا كان الالتجاء عن صدق الرجاء برب الأرض والسماء يكون مقروناً بإجابة الدعاء والظفر على الأعداء {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} بنصرة الله فإنه الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده {وَقَتَلَ دَاوُادُ} القلب {جَالُوتَ} النفس إذ أخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صارت الثلاثة حجراً واحداً وهو الالتفات إلى غير المولى فوضعه في مقلاع التسليم والرضى فرمى به جالوت النفس وسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها وهزم الله باقي جيشها وهو الشياطين وأحزابها
جزء : 1 رقم الصفحة : 392
{وَءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} يعني آتى داود القلب ملك الخلافة وحكمة الإلهامات الربانية {وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَآءُ} من حقائق القرآن وأسراره وإشاراته {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} يعني أرباب الطلب بالمشايخ الواصلين {لَّفَسَدَتِ الارْضُ} أرض استعدادهم المخلوقة في أحسن التقويم لتشمير كمالات الدين القويم عن استيلاء جالوت النفس وجنود صفاتها في تخريب بلاد الأرواح بتبديل أخلاقها وتكدير صفاء ذواتها وترديدها إلى جحيم صفات البهائم والأنعام وأسفل دركاتها {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} يعني من كمال فضله ورحمته يحرك سلسلة طلب الطالبين ويلهم أسرارهم بإرادة المشايخ الكاملين ويوفقهم للتمسك بذيول تربيتهم والتسليم تحت تصرفاتهم وتنقيتهم ويثبتهم بالصبر والسكون على الرياضات والمجاهدات في حال تزكيتهم ويشير إلى المشايخ بقبولهم والإقبال عليهم ويقويهم على شدائد المخالفات فلو لم تكن هذه الألطاف من الله ما تيسر لهم تزكية نفوسهم أبداً فهذه إشارة لا تتحقق إلا لأهل الخير ولهذا خص الله حبيبه بتحقيقها وتحققها بقوله : {تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ} يعني في ضمن هذه الآيات حقائق ودقائق {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي : نجلوها لديك {بِالْحَقِّ} أي : بالحقيقة كما هي {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين عبروا على هذه المقامات وشاهدوا هذه الأحوال والكرامات كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 392
{تِلْكَ الرُّسُلُ} إشارة إلى الجماعة الذين من جملتهم النبي عليه الصلاة والسلام فاللام في الرسل للاستغراق {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره.
واعلم أن الأنبياء
393
كلهم متساوون في النبوة لأن النبوة شيء واحد لا تفاضل فيها وإنما التفاضل باعتبار الدرجات.
بلغ بعضهم منصب الخلة كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يحصل ذلك لغيره.
وجمع لداود بين الملك والنبوة وطيب النغمة ولم يحصل هذا لغيره.
وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح ولم يحصل هذا لأبيه داود.
وخص محمداً عليه وعليهم السلام بكونه مبعوثاً إلى الجن والإنس وبكون شرعه ناسخاً لجميع الشرائع المتقدمة.
ومنهم من دعا أمته بالفعل إلى توحيد الأفعال وبالقوة إلى الصفات والذات.
ومنهم من دعا بالفعل إلى الصفات أيضاً وبالقوة إلى الذات.
ومنهم من دعا إلى الذات أيضاً بالفعل وهو إبراهيم عليه السلام فإنه قطب التوحيد إذ الأنبياء كانوا يدعون إلى المبدأ والمعاد وإلى الذات الأحدية الموصوفة ببعض الصفات الإلهية إلا إبراهيم عليه السلام فإنه دعا إلى الذات الإلهية الأحدية ولذا أمر الله نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم باتباعه بقوله : {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النحل : 123) فهو من أتباع إبراهيم باعتبار الجمع دون التفصسل إذ لا متمم لتفاصيل الصفات إلا هو ولذلك لم يكن غيره خاتماً فالأنبياء وإن كانوا متفاوتين في درجات الدعوة بحسب مشارب الأمم إلا أن كلهم واصلون فانون في الله باقون بالله لأن الولاية قبل النبوة حيث أن آخر درجات الولاية أول مقامات النبوة فهي تبتني على الولاية ومعنى الفناء في الله والبقاء بالله فالنبي لا يكون إلا واصلاً محرزاً جميع مراتب التوحيد من الأفعال والصفات والذات {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} أي : فضله الله بأن كلمه بغير واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام فهو كليمه بمعنى مكالمه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
(1/321)
واختلفوا في الكلام الذي سمعه موسى وغيره من الله تعالى هل هو الكلام القديم الأزلي الذي ليس من جنس الحروف والأصوات.
قال الأشعري وأتباعه : المسموع هو ذلك الكلام الأزلي قالوا كما أنه لم تمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.
وقيل : سماع ذلك الكلام محال وإنما المسموع هو الحروف والصوت {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ} أي : على درجات فانتصابه على نزع الخافض وذلك بأن فضله على غيره من وجوه متعددة أو بمراتب متباعدة والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلّم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقبة إلى ثلاثة آلاف آية وأكثر ولو لم يؤتتِ إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات.
وفي الحديث : "فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون".
قال في "التأويلات النجمية" : اعلم أن فضل كل صاحب فضل يكون على قدراستعلاء ضوء نوره لأن الرفعة في الدرجات على قدر رفعة الاستعلاء كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ} (المجادلة : 11) فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلما ازداد العلم زادت الدرجة فناهيك عن هذا المعنى قول النبي عليه السلام فيما يخبر عن المعراج "أنه رأى آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم في السماء السابعة ، وعبر النبي عليه السلام حتى رفع إلى سدرة المنتهى ومن ثم إلى قاب قوسين أو أدنى" فهذه الرفعة في الدرجة في القرب إلى الحضرة كانت له
394
على قدر قوة ذلك النور في استعلاء ضوئه وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضهم فوق بعض فلما غلب نور الوحدانية على ظلمة إنسانية النبي عليه السلام اضمحلت وتلاشت وفنيت ظلمة وجوده بسطوات تجلي صفات الجمال والجلال فكل نبي بقدر بقية ظلمة وجوده بقي في مكان من أماكن السموات فإنه صلى الله عليه وسلم ما بقي في مكان ولا في الإمكان لأنه كان فانياً عن ظلمة وجوده باقياً بنور وجوده ولهذا سماه الله نوراً وقال : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ} (المائدة : 15) فالنور هو محمد عليه السلام والكتاب هو القرآن فافهم واغتنم فإنك لا تجد هذه المعاني إلا ههنا انتهى كلام "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا} الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الموتى وشفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين والإخبار بالمغيبات والإنجيل وجعل معجزاته سبب تفضيله مع أن إيتاء البينات غير مختص بعيسى عليه الصلاة والسلام لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره وخص عيسى عليه السلام بالتعيين مع أنه غير مختص بإيتاء البينات تقبيحاً لإفراط اليهود في تحقيره حيث أنكروا نبوته مع ما ظهر على يده من البينات القاطعة الدالة عليها ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه عن مرتبة الرسالة {وَأَيَّدْنَـاهُ} أي قويناه {بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي : الروح المطهرة التي نفخها الله فيه فأبانه بها من غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى لأنه عليه السلام لم تضمه أصلاب الفحول ولم يشتمل عليه أرحام الطوامث.
(1/322)
فالقدس : بمعنى المقدس من قبيل رجل صدق أو القدس هو الله وروحه جبريل والإضافة للتشريف والمعنى : أعانه بجبريل في أول أمره وفي وسطه وفي آخره أما في الأول من أمره فلقوله : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (التحريم : 12) وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الأعداء وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل ورفعه إلى السماء {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنا بَعْدِهِم} أي : من بعد الرسل من الأمم المختلفة أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق {مِّنْ} متعلقة باقتتل {بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} من جهة أولئك الرسل {الْبَيِّنَـاتُ} المعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على حقيقة الحق الموجبة لاتباعهم الزاجرة عن الإعراض عن سننهم المؤدي إلى القتال {وَلَـاكِنِ اخْتَلَفُوا} أي : لكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً {فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ} أي : بما جاءت به أولئك الرسل من البينات وعملوا به {وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} بذلك كفراً لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب اقتضاء أحوالهم {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} عدم اقتتالهم بعد هذه المرة أيضاً من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة.
{مَا اقْتَتَلُوا} وما نبض منهم عرق التطاول والتعاون لما أن الكل تحت ملكوته {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي : من الأمور الوجودية والعدمية التي من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضاً من جملة الأفعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع.
وفيه دليل بين على أن الحوادث تابعة لمشيئته تعالى خيراً أو شراً إيماناً كان أو كفراً وهذا نذير على المعتزلة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
قال الإمام الغزالي
395
قدس سره المتعالي في شرح اسمي الضار والنافع : هو الذي يصدر منه الخير والشر والنفع والضر وكل ذلك منسوب إلى الله تعالى إما بواسطة الملائكة والإنس والجمادات أو بغير واسطة فلا تظنن أن السمّ يقتل ويضر بنفسه وأن الطعام يشبع وينفع بنفسه وأن الملك أو الإنسان أو الشيطان أو شيئاً من المخلوقات من فلك الكواكب أو غيرها يقدر على خير أو شر بنفسه أو نفع أو ضر بل كل ذلك أسباب مسخرة لا يصدر منها إلا ما سخرت له وجملة ذلك بالإضافة إلى القدرة الأزلية كالقلم بالإضافة إلى الكاتب في اعتقاد العامي وكما أن السلطان إذا وقع لكرامة أو عقوبة لم يضر ذلك ولا نفعه من القلم بل من الذي القلم مسخر له فكذلك سائر الوسائط والأسباب وإنما قلنا في اعتقاد العامي لأن الجاهل هو الذي يرى القلم مسخراً للكاتب والعارف يعلم أنه مسخر في يدهتعالى وهو الذي الكاتب مسخر له فإنه مهما خلق الكاتب وخلق له القدرة وسلط عليه الداعية الجازمة التي لا تردد فيها صدر منه حركة الأصبع والقلم لا محالة شاء أم أبى بل لا يمكنه أن لا يشاء فإذا الكاتب بقلم الإنسان ويده وهو الله تعالى وإذا عرفت هذا في الحيوان المختار فهو في الجمادات أظهر.
قال صاحب "روضة الأخيار" : المؤثر هو الله تعالى والكواكب أسباب عادية الشمس مظهر اسم الحي والزهرة للمريد وعطارد للمسقط والقمر للقابل ولذا كان بيت العزة في ملكه والمريخ للقادر والمشتري للعليم وزحل للجواد وأصول الأسماء أربعة هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة وإسرافيل مظهر الحياة والأقساط مندرج فيها وجبريل مظهر العلم والقول وباعتبار الأول هو روح القدس وبالثاني الروح الأمين ولذا كان حامل الوحي وميكائيل مظهر الإرادة والجود مندرج فيها ولذا كان ملك الأرزاق وعزرائيل مظهر القدرة ولذا يقهر الجبابرة ويذلهم بالموت والفناء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
قال الإمام الغزالي
395
(1/323)
قدس سره المتعالي في شرح اسمي الضار والنافع : هو الذي يصدر منه الخير والشر والنفع والضر وكل ذلك منسوب إلى الله تعالى إما بواسطة الملائكة والإنس والجمادات أو بغير واسطة فلا تظنن أن السمّ يقتل ويضر بنفسه وأن الطعام يشبع وينفع بنفسه وأن الملك أو الإنسان أو الشيطان أو شيئاً من المخلوقات من فلك الكواكب أو غيرها يقدر على خير أو شر بنفسه أو نفع أو ضر بل كل ذلك أسباب مسخرة لا يصدر منها إلا ما سخرت له وجملة ذلك بالإضافة إلى القدرة الأزلية كالقلم بالإضافة إلى الكاتب في اعتقاد العامي وكما أن السلطان إذا وقع لكرامة أو عقوبة لم يضر ذلك ولا نفعه من القلم بل من الذي القلم مسخر له فكذلك سائر الوسائط والأسباب وإنما قلنا في اعتقاد العامي لأن الجاهل هو الذي يرى القلم مسخراً للكاتب والعارف يعلم أنه مسخر في يدهتعالى وهو الذي الكاتب مسخر له فإنه مهما خلق الكاتب وخلق له القدرة وسلط عليه الداعية الجازمة التي لا تردد فيها صدر منه حركة الأصبع والقلم لا محالة شاء أم أبى بل لا يمكنه أن لا يشاء فإذا الكاتب بقلم الإنسان ويده وهو الله تعالى وإذا عرفت هذا في الحيوان المختار فهو في الجمادات أظهر.
قال صاحب "روضة الأخيار" : المؤثر هو الله تعالى والكواكب أسباب عادية الشمس مظهر اسم الحي والزهرة للمريد وعطارد للمسقط والقمر للقابل ولذا كان بيت العزة في ملكه والمريخ للقادر والمشتري للعليم وزحل للجواد وأصول الأسماء أربعة هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة وإسرافيل مظهر الحياة والأقساط مندرج فيها وجبريل مظهر العلم والقول وباعتبار الأول هو روح القدس وبالثاني الروح الأمين ولذا كان حامل الوحي وميكائيل مظهر الإرادة والجود مندرج فيها ولذا كان ملك الأرزاق وعزرائيل مظهر القدرة ولذا يقهر الجبابرة ويذلهم بالموت والفناء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم} من تبعيضية أي : شيئاً مما رزقناكموه والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق والمراد به الإنفاق الواجب أي : الزكاة بدلالة ما بعده من الوعيد والأكثر على أن الأمر يتناول الواجب والمندوب {مِّنْ} لابتداء الغاية {قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ} يوم الحساب والجزاء {لا بَيْعٌ فِيهِ} يتدارك به المقصر تقصيره وهو في التقدير جواب هل فيه بيع ولهذا رفع.
والبيع استبدال المال بالثمن {وَلا خُلَّةٌ} حتى يسامحكم أخلاؤكم بما تصنعون.
والخلة المودة والصداقة فكأنها تتخلل الأعضاء أي : تدخل خلالها ووسطها والخليل الصديق لمداخلته إياك والخلة تنقطع يوم القيامة بين الأخلاء إلا بين المتقين لقوله تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} {وَلا شَفَـاعَةٌ} حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم والشفاعة المنفية يوم القيامة هي التي يستقل فيها الشفيع ويأتي بها وإن لم يؤذن له فيها فإن الدلائل قائمة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين بعد أن يؤذن لهم فيها وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً {وَالْكَـافِرُونَ} أي : والتاركون للزكاة وإيثاره عليه للتغليط والتهديد كما قال في آخر آية الحج {وَمَن كَفَرَ} (البقرة : 126) مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار قال تعالى : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} (فصلت : 6 ـ 7) {هُمُ الظَّـالِمُونَ} أي : الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المال في غير موضعه وصرفوه إلى غير وجهه :
396
زكات اكر ندهى اززرت زداده وى
علاج كي كنمت كاخر الدواء الكي
قال الراغب : حث المؤمنين على الإنفاق مما رزقهم من النعماء النفسية والبدنية الجارية وإن كان الظاهر في التعارف إنفاق المال ولكن قد يراد به بذل النفس والبدن في مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات ولمّا كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء والآخرة دار ثواب وجزاء بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينتفع به في الآخرة فابتلي بذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المفضية إليها.
أحدها : المعارضة وأعظمها المبايعة.
والثاني : ما تناوله بالمودة وهي المسمى بالصلات والهدايا.
والثالث : ما يصل إليه بمعاونة الغير وذلك هو الشفاعة.
ولمّا كانت العدالة بالقول المجمل ثلاثاً عدالة بين الإنسان ونفسه وعدالة بينه وبين الناس وعدالة بينه وبين الله.
فكذلك الظلم له مراتب ثلاث وأعظم العدالة ما بين العبد وبين الله وهو الإيمان وأعظم الظلم ما يقابله وهو الكفر ولذلك قال : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} أي : هم المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم بلا مشوبة.
فليسارع العبد إلى تقوية الإيمان بالإنفاق والإحسان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 396
(1/324)
ـ حكي ـ أنه كان عابد من الشيوخ أراده الشيطان فلم يستطع منه شيئاً فقال له الشيطان : ألا تسألني عما أضل به بني آدم قال : بلى قال : فأخبرني ما أوثق شيء في نفسك أن تضلهم به قال الشيخ والحدة والسكر فإن الرجل إذا كان شحيحاً قللنا ماله في عينيه ورغبناه في أموال الناس وإن كان حديداً أدرناه بيننا كما تتداور الصبيان الكرة فلو كان يحيي الموتى بدعائه لم نيأس منه وإذا سكر اقتدناه إلى كل شهوة كما تقاد العنز بإذنها كذا في "آكام المرجان".
وعن محمد بن إسماعيل البخاري يقول : بلغنا أن الله أوحى إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا جبريل لو أنا بعثتك إلى الدنيا وجعلتك من أهلها ما الذي عملت من الطاعات فيها فقال جبريل : أنت أعلم بشأني مني ولكني كنت أعمل ثلاثة أشياء : أولها كنت أعين صاحب العيال في النفقة على عياله.
والثاني : كنت أستر عيوب الخلق وذنوبهم حتى لا يعلم أحد من خلقك عيوب عبادك وذنوبهم غيرك.
والثالث : أسقي العطشان وأرويه من الماء كذا في "روضة العلماء" ، قال السعدي قدس سره :
و خودرا قوى حال بيني وخوش
بشكرانه بار ضعيفان بكش
اكر خود همين صورتي ون طلسم
بميرى واسمت بميرد و جسم
اكر روراني درخت كرم
برنيك نامي خورى لا جرم
اللهم اجعلنا من المنفقين والمستغفرين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 396
{اللَّهَ} هذا الاسم أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء وسائر الأسماء لا تدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل وغيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازاً وسائر الأسماء قد يسمى بها غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيرها وينبغي أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله وأعني به أن يكون مستغرق القلب والهمة في الله تعالى لا يرى غيره ولا يلتفت إلى سواه ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الاسم أنه الموجود الحقيقي الحق وكل ما سواه فاننٍ وهالك وباطل إلا به فيرى نفسه أول هالك وباطل كما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال : "أصدق بيت
397
قالته العرب قول لبيد" :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وهذه الكلمة فوائد ليست في غيرها فان كل كلمة إذا أسقطت منها حرفاً يختل المعنى بخلاف هذه فإنك إن حذفت الألف يصيرقال تعالى : {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (النساء : 170) وإن حذفت اللام الأولى أيضاً يبقى له قال تعالى : {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (البقرة : 107) وإن حذفت اللام الثانية أيضاً يبقى الهاء وهو ضمير راجع إلى الله تعالى قال تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلا هُوَ} (الحشر : 22) وللأسماء تأثير بليغ خصوصاً للفظة الجلالة.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : لما جاء المولى علاء الدين الخلوتي ببروسة صعد المنبر في الجامع الكبير للوعظ وقد اجتمع جمع كثير منتظرين لكلامه فقال مرة واحدة : "يا الله" فحصل للجماعة حالة رقصوا وكادوا لا يرجعون عن البكاء والفزع.
ـ وحكي ـ أنه لما مات سلطان العصر عزم جماعة الرجال عل
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
ى قتل الوزير فجاء بيت الشيخ وفاء في القسطنطينية واستغاث منه فأدخله الشيخ إلى بيته فهجموا جميعاً إلى بيت الشيخ فخرج الشيخ وقال مرة واحدة : "يا الله" فهربوا جميعاً فانظر أنهم إذا ذكروا الله تظهر آثار عجيبة ونحن إذا ذكرنا ذلك الاسم بعينه لا يظهر له أثر وذلك لأنهم زكوا أنفسهم وبدلوا أخلاقهم وأما نحن فليس فينا هذا ولا القابلية لذلك وإنما الفيض من الله تعالى ، قال الحافظ :
فيض روح القدس ارباز مدد فرمايد
ديكران هم بكنند انه مسيحا ميكند
{لا إله إِلا هُوَ} الجملة خبر للمبتدأ وهو الجلالة والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير.
(1/325)
ـ وحكي ـ أن تسبيح قطب الأقطاب "يا هو ويا من هو هو ويا من لا إله إلا هو" فإذا قال ذلك بطريق الحال يقدر على التصرفات.
وللتوحيد ثلاث مراتب : توحيد المبتدئين لا إله إلا الله ، وتوحيد المتوسطين لا إله إلا أنت لأنهم في مقام الشهود فمقتضاه الخطاب ، وأما الكمل فيسمعون التوحيد من الموحد وهو لا إله إلا أنا لأنهم في مقام الفناء الكلي فلا يصدر منهم شيء أصلاً.
قال ابن الشيخ في حواشي سورة الإخلاص : لفظ هو إشارة إلى مقام المقربين وهم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته يجب وجوده وأما ما عداه فممكن والممكن إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوماً فهؤلاء لم يروا موجوداً سوى الحق سبحانه وكلمة هو وإن كانت للإشارة المطلقة ومفتقرة في تعين المراد بها إلى سبق الذكر بأحد الوجوه أو إلى أن يعقبها ما يفسرها إلا أنهم يشيرون إلى الحق سبحانه ولا يفتقرون في تلك الإشارة إلى ما يميز الذات المرادة عن غيرها لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حيث وقع الإبهام بأن يتعدد ما يصلح لأن يشار إليه وقد بينا أنهم لا يشاهدون بعيون عقولهم إلا الواحد فقط فلهذا السبب كأنه لفظة هو كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء انتهى كلامه وإنما ذكرته ههنا ليكون حجة على من أنكر على جماعة الصوفية في كلمة هو ذاهباً إلى أنها ضمير ولا فائدة في الذكر به وقد سبق مني عند قوله تعالى : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌا لا إله إِلا هُوَ} (البقرة : 163) ما ينفك في هذا المقام قال شيخي وسندي الذي بمنزلة روحي في جسدي الذكر بـ"ـلا إله إلا الله" أفضل من الذكر بكلمة "الله الله" و"هو هو" عند العلماء بالله لأنها جامعة بين النفي والإثبات وحاوية لزيادة العلم والمعرفة فمن نفى بلا إله عين الخلق حكماً لا علماً فقد أثبت كون الحق
398
حكماً وعلماً وأفادني أيضاً إذا قلت لا إله إلا الله فشاهد بالشهود الحقاني فناء أفعال الخلق وصفاتهم وذواتهم في أفعال الحق وصفاته وذاته وهذا مقتضى الجمع والأحدية.
وتلك الكلمة في الحقيقة إشارة إلى هذه المرتبة وإذا قلت محمد رسول الله فشاهد بالشهود الحقاني أيضاً بقاء أفعالهم وصفاتهم وذواتهم فأفعاله تعالى وصفاته وذاته وهذا مقتضى الفرق والواحدية.
وتلك الكلمة أيضاً إشارة إلى هذه المرتبة فإذا كان توحيد العبد على هذه المشاهدة فلا جرم أن توحيده يكون توحيداً حقيقاً حقانياً لا رسماً نفسانياً ، قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
كره "لا" داشت تيركى عدم
دارد "إلا" فروغ نور قدم
كره "لا" بودكان كفر وجحود
هست "الا" كليد كنج شهود
ون كند "لا" بساط كثرت طي
دهد "إلا" زجام وحدت مي
آن رهاند زنقش بيش وكمت
وين رساند بوحدت قدمت
تانسازي حجاب كثرت دور
ندهد افتاب وحدت نور
دائم آن آفتاب تابانست
ازحجاب تو ازتو نهانست
كربرون آيى ازحجاب تويى
مرتفع كردد ازميانه دويى
در زمين زمان وكون مكان
همه أو بني آشكار ونهان
اللهم أوصلنا إلى الجمع والعين واليقين.
{الْحَىُّ} خبر ثاننٍ.
وهو في اللغة من له الحياة وهي صفة تخالف الموت والجمادية وتقتضي الحس والحركة الإرادية وأشرف ما يوصف به الإنسان الحياة الأبدية في دار الكرامة وإذا وصف الباري عز شأنه بها وقيل إنه حي كان معناه الدائم الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء فهو الموصوف بالحياة الأزلية الأبدية.
(1/326)
قال الإمام الغزالي في "شرح الأسماء الحسنى" : "الحي" هو الفعال الدراك حتى أن من لا فعل له أصلاً ولا إدراك فهو ميت وأقل درجات الإدراك أن يشعر المدرك بنفسه فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت فالحي الكامل المطلق هو الذي تندرج جميع المدركات تحت إدراكه وجميع الموجودات تحت فعله حتى لا يشد عن علمه مدرك ولا عن فعله مفعول وذلك هو الله تعالى فهو الحي المطلق وكل حي سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله وكل ذلك محصور في قوله : {الْقَيُّومُ} قام بالأمر إذا دبره مبالغة القائم فإنه تعالى دائم القيام على كل شيء بتدبير أمره في إنشائه وترزيقه وتبليغه إلى كماله اللائق به وحفظه.
قال الإمام الغزالي : اعلم أن الأشياء تنقسم إلى ما يفتقر إلى محل كالإعراض والأوصاف فيقال فيها أنها ليست قائمة بنفسها وإلى ما يحتاج إلى محل فيقال أنه قائم بنفسه كالجواهر إلا أن الجوهر وإن قام بنفسه مستغنياً عن محل يقوم به فليس مستغنياً عن أمور لا بد منها لوجوده وتكون شرطاً في وجوده فلا يكون قائماً بنفسه لأنه محتاج في قوامه إلى وجود غيره وإن لم يحتج إلى محل فإن كان في الوجود موجود يكفي ذاته بذاته ولا قوام له بغيره ولا شرط في دوام وجوده وجود غيره فهو القائم بنفسه مطلقاً فإن كان مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به فهو القيوم لأن قوامه بذاته وقوام كل شيء به وليس ذلك إلا الله تعالى ومدخل العبد في هذا الوصف بقدر استغنائه عما سوى الله تعالى انتهى كلام الغزالي.
قيل : الحي
399
القيوم اسم الله الأعصم.
وكان عيسى عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء يا حي يا قيوم ويقال دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا هو ساجد يقول : "يا حي يا قيوم فترددت مرات وهو على حاله لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له" وهذا يدل على عظمة هذا الاسم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
وفي "التأويلات النجمية" : إنما أشير في معنى الاسم الأعظم إلى هذين الاسمين وهما الحي والقيوم لأن اسمه الحي مشتمل على جميع أسمائه وصفاته فإن من لوازم الحي أن يكون قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً مريداً باقياً.
واسمه القيوم : مشتمل على افتقار جميع المخلوقات إليه فإذا تجلى الله لعبد بهاتين الصفتين فالعبد يكاشف عند تجلي صفة الحي معاني جميع أسمائه وصفاته ويشاهد عند تجلي صفة القيوم فناء جميع المخلوقات إذا كان قيامها بقيومية الحق لا بأنفسهم فلما جاء الحق زهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا الحي القيوم إذا سلب الحي جميع أسماء الله وسلب القيوم قيام المخلوقات فترتفع الاثنينية بينهما وإذا فني التعدد وبقيت الوحدة فيصيران اسماً أعظم للمتجلي له فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأما الذاكر عند غيبه فكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبه وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم كما سئل أبو يزيد البسطامي قدس سره عن الاسم الأعظم فقال الاسم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت انتهى ما في "التأويلات".
واعلم أن الاسم الأعظم عبارة عن الحقيقة المحمدية فمن عرفها عرفه وهي صورة الاسم الجامع الإلهي وهو ربها ومنه الفيض فاعرف تفز بالحظ الأوفى {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} السنة ثقلة من النعاس وفتور يعتري المزاج قبل النوم وليست بداخلة في حد النوم والنعاس أول النوم والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً وتقديم السنة عليه مع أن قياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود الخارجي فإن الموجود منهما أولاً هو السنة ثم يعتري بعدها النوم وتوسيط كلمة لا للتنصيص على شمول النفي لكل منهما والمراد بيان انتفاء اعتراء شيء منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه وإنما عبر عن عدم الاعتراء والعروض بعدم الأخذ لمراعاة الواقع إذ عروض السنة والنوم لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذ والاستيلاء والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حياً قيوماً فإن من أخذه نعاس أو نوم كان مؤوف الحياة قاصراً في الحفظ والتدبير والمعنى لا يعتريه ما يعتري المخلوقين من السهو والغفلة والملال والفترة في حفظ ما هو قائم بحفظه ولا يعرض له عوارض التعب المحوجة إلى الاستراحة فيستريح بالنوم والسنة لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة فكما أنه موصوف بصفات الكمال فهو منزه عن جميع صفات النقصان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
(1/327)
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام سأل الملائكة وكان ذلك في نومه أينام ربنا فأوحى الله تعالى إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوءتين فأخذهما فأخذه النوم فزالتا وانكسرتا ثم أوحى الله إليه أني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني
400
نوم أو نعاس لزالتا كذا في "الكشاف".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" قال ابن الملك : هذا بيان لاستحالة وقوع النوم منه لأنه عجز والله تعالى يتعالى عنه انتهى وحظ العبد من هذا الوصف أن يترك النوم فإن الله تعالى وإن رخص للعباد في المنام بل هو فضل منه تعالى لكن كثرة المنام بطالة وإن الله تعالى لا يحب البطال.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : لم يفتح لي شيء إلا بعد أن جعلت الليالي أياماً ، قال السعدي قدس سره :
سرآنكه ببالين نهد هو شمند
كه خوابش بقهر آورد دركمند
قيل : كان رجل له تلميذان اختلفا فيما بينهما فقال أحدهما النوم خير لأن الإنسان لا يعصي في تلك الحالة وقال الآخر : اليقظة خير لأنه يعرف الله في تلك الحالة فتحاكما إلى ذلك الشيخ فقال الشيخ : أما أنت الذي قلت بتفضيل اليقظة فالحياة خير لك وقيل : اشترى رجل مملوكة فلما دخل الليل قال : افرشي الفراش فقالت المملوكة : يا مولاي ألك مولى؟ قال : نعم قالت : ينام مولاك قال : لا فقالت : ألا تستحي أن تنام ومولاك لم ينم ، ومن الأبيات التي كان يذكرها بلال الحبشي رضي الله عنه وقت السحر :
يا ذا الذي استغرق في نومه
ما نوم عبد ربه لا ينام
أهل تقول إنني مذنب
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
مشتغل الليل بطيب المنام {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} تقرير لقيوميته تعالى واحتجاج به على تفرده في الألوهية لأنه تعالى خلقهما بما فيهما والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ومن يكن له ما فيهما فمحال مشاركته فكل من فيهما وما فيهما ملكه ليس لأحد معه فيه شركة ولا لأحد عليه سلطان فلا يجوز أن يعبد غيره كما ليس لعبد أحدكم أن يخدم غيره إلا بإذنه والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهم الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فهو أبلغ من أن يقال له السموات والأرض وما فيهن لأن قوله وما فيهن بعد ذكر السموات والأرض إنما يتناول الأمور الخارجة المتمكنة فيهن إذ لو أريد به ما يعم الأمور الداخلة فيهما والخارجة عنهما لأغنى ذكره عن ذكرهما {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} من مبتدأ وذا خبره والذي صفة ذا أو بدل منه ولفظ من وإن كان استفهاماً فمعناه النفي ولذلك دخلت إلا في قوله : {إِلا بِإِذْنِهِ} و{عِندَهُ} فيه وجهان : أحدهما أنه متعلق بيشفع.
والثاني : أنه متعلق بمحذوف في موضع الحال من الضمير في يشفع أي : لا أحد يشفع مستقراً عنده إلا بإذنه وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريب منه فشفاعة غيره أبعد وإلا بإذنه متعلق بمحذوف لأنه حال من فاعل يشفع فهو استثناء مفرغ والباء للمصاحبة والمعنى لا أحد يشفع عنده في حال من الأحوال إلا في حال كونه مأذوناً له أو لا أحد يشفع عنده بأمر من الأمور إلا بإذنه والباء للاستعانة كما في ضرب بسيفه فيكون الجار والمجرور في موضع المفعول به وكان المشركون يقولون أصنامنا شركاء الله تعالى وهم شفعاؤنا عنده فوحد الله نفسه بالنفي والإثبات ليكون المعنى في ثبوت التوحيد ونفي الشرك أي : ليس لأحد أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه وقد أخبر أنه لا يأذن في الشفاعة للكفار وهو رد على المعتزلة في أنهم لا يرون الشفاعة أصلاً والله تعالى أثبتها للبعض بقوله : {إِلا بِإِذْنِهِ} .
وفي "التأويلات النجمية" : هذا الاستثناء راجع إلى
401
لنبي عليه الصلاة والسلام لأن الله قد وعد له المقام المحمود وهو الشفاعة فالمعنى من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد فإنه مأذون موعود ويعينه الأنبياء بالشفاعة انتهى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
غم نخورد آنكه شفيعش تويى
ايه ده قدر رفيعش تويى
حاصلي ارنيست ز طاعت مرا
هست هست اميدي بشفاعت مرا
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة".
(1/328)
ـ روي ـ أن الأنبياء عليهم السلام يعينون نبينا صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة فيأتي الناس إليه فيقول : أنا لها وهو المقام المحمود الذي وعده الله به يوم القيامة فيأتي ويسجد ويحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى إياها في ذلك الوقت لم يكن يعلمها قبل ذلك ثم يشفع إلى ربه أن يفتح باب الشفاعة للخلق فيفتح الله ذلك الباب فيأذن في الشفاعة للملائكة والرسل والأنبياء والمؤمنين فهذا يكون سيد الناس يوم القيامة فإنه شفع عند الله أن يشفع الملائكة والرسل ومع هذا تأدب صلى الله عليه وسلّم وقال : "أنا سيد الناس" ولم يقل سيد الخلائق فيدخل الملائكة في ذلك مع ظهور سلطانه في ذلك اليوم على الجميع وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع له بين مقامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم ولم يكن ظهر له على الملائكة ما ظهر لآدم عليهم من اختصاصه بعلم الأسماء كلها فإذا كان في ذلك اليوم افتقر إليه الجميع من الملائكة والناس من آدم فمن دونه في فتح باب الشفاعة وإظهار ماله من الجاه عند الله إذ كان القهر الإلهي والجبروت الأعظم قد أخرس الجميع فدل على عظيم قدره عليه السلام حيث أقدم مع هذه الصفة الغضبية الإلهية على مناجاة الحق فيما سأله فيه فأجابه الحق سبحانه كذا في "تفسير الفاتحة" للمولى الفناري عليه رحمة الباري.
واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو أول من يفتح باب الشفاعة فيشفع في الخلق ثم الأنبياء ثم الأولياء ثم المؤمنون وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين الذين لم تظهر شفاعتهم إلا بعد شفاعة خاتم الرسل إياهم ليشفعوا ومعنى شفاعة الله سبحانه هو أنه إذا لم يبق في النار مؤمن شرعي أصلاً يخرج الله منها قوماً علموا التوحيد بالأدلة العقلية ولم يشركوا بالله شيئاً ولا آمنوا إيماناً شرعياً ولم يعلموا خيراً قط من حيث ما اتبعوا فيه نبياً من الأنبياء فلم يكن عندهم ذرة من إيمان فيخرجهم أرحم الراحمين فاعرف هذا فإنه من الغرائب أفاده لي شيخي العلامة إفادة كشفية وصادفته أيضاً في تفسير الفاتحة للمولى الفناري اللهم اغفر وارحم وأنت أرحم الراحمين {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} استئناف آخر لبيان إحاطة علمه بأحوال خلقه المستلزم لعلمه بمن يستحق الشفاعة ومن لا يستحقها أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما يكون بعدهم من أمر الآخرة أو ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم أو ما بين أيديهم من السماء إلى الأرض وما خلفهم يريد ما في السموات أو ما بين أيديهم بعد انقضاء آجالهم وما خلفهم أي ما كان قبل أن يخلقهم أو ما فعلوه من خير وشر وقدموه وما يفعلونه بعد ذلك والمقصود بهذا الكلام بيان أنه عالم بأحوال الشافع والمشفعوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
والضمير لما في السموات وما في الأرض لأن فيهم العقلاء فغلب
402
من يعقل على غيره أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء فيكون للعقلاء خاصة.
{وَلا يُحِيطُونَ} أي : لا يدركون يعني من الملائكة والأنبياء وغيرهم {بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} أي : من معلوماته {إِلا بِمَا شَآءَ} أن يعلموه وأن يطلعهم عليه كأخبار الرسل فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول وإنما فسرنا العلم بالمعلوم لأن علمه تعالى الذي هو صفة قائمة بذاته المقدسة لا بتبعض فجعلناه بمعنى المعلوم ليصح دخول التبعيض والاستثناء عليه.
وفي "التأويلات النجمية" : {يَعْلَمُ} محمد عليه السلام {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من الأمور الأوليات قبل خلق الله الخلائق كقوله : أول ما خلق الله نوري {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أهوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي وحوالة الخلق بعضهم إلى بعض حتى بالاضطرار يرجعون إلى النبي عليه السلام لاختصاصه بالشفاعة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} يحتمل أن تكون الهاء كناية عنه عليه السلام يعني هو شاهد على أحوالهم يعلم ما بين أيديهم من سيرهم ومعاملاتهم وقصصهم وما خلفهم من أمور الآخرة وأحوال أهل الجنة والنار وهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته {إِلا بِمَا شَآءَ} أن يخبرهم عن ذلك انتهى.
قال شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة في "الرسالة الرحمانية في بيان الكلمة العرفانية" : علم الأولياء من علم الأنبياء بمنزلة قطرة من سبعة أبحر وعلم الأنبياء من علم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بهذه المنزلة وعلم نبينا من علم الحق سبحانه بهذه المنزلة انتهى وفي القصيدة البردية :
وكلهم من رسول الله ملتمس
غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
وواقفون لديه عند حدهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
(1/329)
من نقطة العلم أو من شكلة الحكم حاصله أن علوم الكائنات وإن كثرت بالنسبة إلى علم الله عز وجل بمنزلة نقطة أو شكلة ومشربها بحر روحانية محمد صلى الله عليه وسلّم فكل رسول ونبي وولي آخذون بقدر القابلية والاستعداد مما لديه وليس لأحد أن يعدوه أو يتقدم عليه.
قوله النقطة فعلة من نقطت الكتاب نقطاً ومعناها الحاصل.
والشكلة بالفتح فعلة من شكلت الكتاب قيدته بالإعراب {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} الكرسي ما يجلس عليه من الشيء المركب من خشبات موضوعة بعضها فوق بعض ولا يفضل على مقعد القاعدة وكأنه منسوب إلى الكرس الذي هو الملبد وهو ما يجعل فيه اللبدة أي : لم يضق كرسيه عن السموات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته وتمثيل مجرد ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد.
وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون بيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله تعالى في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء فوضع الميزان وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه : 5) ثم أثبت لنفسه كرسياً فقال : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} والحاصل أن كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ولما توافقت
403
الأمة ههنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه تعالى منزه عن أن يكون في الكعبة ما يوهمه تلك الألفاظ فكذا الكلام في العرش والكرسي.
والمعتمد كما قال الإمام : إن الكرسي جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع لأن الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب والثانية محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل قال صلى الله عليه وسلّم "ما السموات السبع والأرضون السبع من الكرسي إلا كحلقة في فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة" ولعله الفلك الثامن وهو المشهور بفلك البروج.
قال مقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام.
ملك على صورة سيد البشر آدم عليه الصلاة والسلام وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة.
وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل.
وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة.
وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل للطير الرزق من السنة إلى السنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
وفي "التأويلات النجمية" : أما القول في معنى الكرسي فاعلم أن مقتضى الدين والديانة أن لا يؤول المسلم شيئاً من الأعيان مما نطق به القرآن والأحاديث بالمعاني إلا بصورها كما جاء وفسرها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة وعلماء السلف الصالح اللهم إلا أن يكون محققاً خصصه الله بكشف الحقائق والمعاني والأسرار وإشارات التنزيل وتحقيق التأويل فإذا كوشف بمعنى خاص أو إشارة وتحقيق يقدر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان مثل الجنة والنار والميزان والصراط وفي الجنة من الحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها من العرش والكرسي والشمس والقمر والليل والنهار ولا يؤول شيئاً منها على مجرد المعنى ويبطل صورته بل يثبت تلك الأعيان كما جاء ويفهم منها حقائق معانيها فإن الله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب فافهم جداً وما خلق في العالمين شيئاً إلا وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان فإذا عرفت هذا فاعلم أن مثال العرش في عالم الإنسان قلبه إذ هو محل استواء الروح عليه ومثال الكرسي سر الإنسان والعجب كل العجب أن العرش مع نسبته إلى استواء الرحمانية قيل : هو كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى وسعة قلب المؤمن انتهى ما في "التأويلات".
وفي "المثنوي" :
كفت يغمبر كه حق فرموده است
من نكنجم هي در بالا وست
در زمين و آسمان و عرش نيز
من نكنجم اين يقين دان اين عزيز
دردل مؤمن بكنجم أي : عجب
كرمرا جويى دران لدها طلب
خود بزركى عرش باشد بس مديد
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
ليك صورت كيست ون معنى رسيد
404
(1/330)
{وَلا يَاُودُهُ} يقال آده الشيء يأوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة مأخوذ من الأوَد بفتح الواو وهو العوج ويعرض ذلك بالثقل أي : لا يثقله ولا يشق عليه تعالى : {حِفْظُهُمَا} أي : حفظ السموات والأرض إذ القريب والبعيد عنده سواء والقليل والكثير سواء وكيف يتعب في خلق الذرة وكل الكون عنده سواء فلا من القليل له تيسر ولا من الكثير عليه تعسر إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مستتبع لحفظه {وَهُوَ الْعَلِىُّ} أي : المتعالي بذاته عن الأشباه والأنداد {الْعَظِيمِ} الذي يستحقر بالنسبة إليه كل ما سواه.
فالمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأنه تعالى منزه عن التحيز وكذا عظمته إنما هي بالمهابة والقهر والكبرياء ويمنع أن يكون بحسب المقدار والحجم لتعالي شأنه من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام.
والعظيم من العباد الأنبياء والأولياء والعلماء الذين إذا عرف العاقل شيئاً من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدره وصار متشوقاً بالهيبة قلبه حتى لا يبقى فيه متسع فالنبي عليه السلام عظيم في حق أمته والشيخ عظيم في حق مريده والأستاذ في حق تلميذه إذ يقصر عقله عن الإحاطة بكنه صفاته فإن ساواه أو جاوزه لم يكن عظيماً بالإضافة إليه.
وهذه الآية الكريمة منطوية كما ترى على أمهات المسائل الإلهية المتعلقة بالذات العلية والصفات الحلية فإنها ناطقة بأنه تعالى موجود متفرد بالإلهية متصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجود لغيره لما أن القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ من التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد لا يشفع عنده إلا من أذن له فهو العالم وحده بجميع الأشياء جليها وخفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه ولا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن متعال عما تناله الأوهام عظيم لا تحدق به الافهام ولذلك قال عليه السلام : "إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي من قرأها بعث الله ملكاً يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة" يعني إنما صارت آية الكرسي أعظم الآيات لعظم مقتضاها فإن الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين حرفاً وسورة الإخلاص في خمسة عشر حرفاً.
قال الإمام في "الإتقان" : اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل عليه آية في أسماء الله تعالى وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعاً فيها اسم الله تعالى ظاهراً في بعضها ومستكناً في بعض وهي الله وهو الحي القيوم وضمير لا تأخذه وله وعنده وبإذنه ويعلم وعلمه وشاء وكرسيه ويؤده وضمير حفظهما المستتر الذي هو فاعل المصدر وهو العلي العظيم ويكفي في استحقاقها السيادة أن فيها الحي القيوم وهو الاسم الأعظم كما ورد به الخبر عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم عليّ أين أنتم عن آية الكرسي ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الأيام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسي" وعن علي
405
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
(1/331)
كرم الله وجهه عن النبي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة يا علي علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها" وعن علي أيضاً سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول : "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله" عن محمد بن أبي بن كعب عن أبيه أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه خضر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة تشبه الغلام المحتلم قال : فسلمت فرددت عليها السلام وقلت : من أنت جن أم أنس؟ قالت : جن قلت : ناوليني يدك فناولتني يدها فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت : هكذا خلقة الجن قالت : لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني قلت : ما حملك على ما صنعت؟ قالت : بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك فقال لها أبيّ : فما الذي يجيرنا منكم؟ قالت : هذه الآية التي في سورة البقرة : الله لا إله إلا هو الحي القيوم من قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي ومن قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح فلما أصبح أتى النبي عليه السلام فأخبره فقال النبي عليه السلام : "صدق الخبيث" وروي أن رجلاً أتى شجرة أو نخلة فسمع فيها حركة فتكلم فلم يجب فقرأ آية الكرسي فنزل إليه شيطان فقال : إن لنا مريضاً فبم نداويه قال : بالذي أنزلتني به من الشجرة.
وخرج زيد بن ثابت إلى حائط له فسمع فيه جلبة فقال : ما هذا؟ قال : رجل من الجان أصابتنا السنة فأردنا أن نصيب من ثماركم أفتطيبونها؟ قال : نعم فقال له زيد بن ثابت : ألا تخبرني ما الذي يعيذنا منكم قال : آية الكرسي.
وبالجملة إن آية الكرسي من أعظم ما انتصر به على الجن فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها تأثيراً عظيماً في طرد الشياطين عن نفس الإنسان وعن المصروع وعمن تعينه الشياطين مثل أهل الشهوة والطرب وأرباب سماع المكاء والتصدية وأهل الظلم والغضب إذا قرئت عليهم بصدق كما في "آكام المرجان في أحكام الجان" :
دل ر دردرا دوا قرآن
جان مجروح را شفا قرآن
هره جويى زنص قرآن جو
كه بود كنج علمها قرآن
وإنما قال إذا قرئت عليهم بصدق لأنه هو العمدة والصادق يبيض وجهه والكاذب يسود ألا ترى إلى الصبح الصادق والكاذب كيف أعقب الأول شمس منير دون الثاني ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
هست تسبيحت بخار آب وكل
مرغ جنت شد زنفخ صدق دل
وكل ما وقع بطريق الحال وجد عنده التأثير بخلاف ما وقع بطريق القال فقط ولذا ترى أكثر الناس محرومين وإن دعوا بالاسم الأعظم اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها آمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 397
{لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} قال بعضهم : نزلت هذه الآية في المجوس وأهل الكتاب من اليهود والنصارى أنه تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الإسلام ليس كمشركي العرب فإنه لا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام ولا تقبل منهم الجزية إن أسلموا فيها وإلا قتلوا قال الله تعالى :
406
(1/332)
{تُقَـاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (الفتح : 16) والمعنى لا إجبار في الدين لأن من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم لوضوح الحجة {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ} هو لفظ جامع لكل خير والمراد ههنا الإيمان الذي هو الرشد الموصل إلى السعادة الأبدية لتقدم ذكر الدين {مِنَ الْغَىِّ} أي : من الكفر الذي هو المؤدي إلى الشقاوة السرمدية.
قال الراغب الغي كالجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد والغي اعتباراً بالأفعال ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم وزوال الغي بالرشد {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ} هو كل ما عبد من دون الله مما هو مذموم في نفسه ومتمرد كالإنس والجن والشياطين وغيرهم فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام والكفر به عبارة عن الكفر باستحقاقه العبادة {وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ} بالتوحيد وتصديق الرسل لأن الكفر بالأنبياء والكتب يمنع حقيقة الإيمان بالله لأن الإيمان بالله حقيقة يستلزم الإيمان بأوامره ونواهيه وشرائعه المعلومة بالدلائل التي أقامها الله لعباده وتقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخلية بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي بالغ في التمسك بالحلقة الوكيدة.
وعروة الجسم الكبير الثقيل الموضع الذي يتعلق به من يأخذ ذلك الجسم ويحمله.
والوثقى فعلى للتفضيل تأنيث الأوثق كفضلى تأنيث الأفضل {لا انفِصَامَ لَهَا} أي : لا انقطاع وهو استئناف لبيان قوة دلائل الحق بحيث لا يعتريها شيء من الشبه والشكوك فإن العروة الوثقى استعارة المحسوس للمعقول لأن من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها وصفها الله بأنها العروة الوثقى.
قال المولى أبو السعود الكلام تمثيل مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذي لا يحتمل النقيض أصلاً لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة في المفردات {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} بالأقوال {عَلِيمٌ} بالعزائم والعقائد يعلم غيها ورشدها وباطلها وحقها ويجري كلاً على وفق عمله وقوله وعقده وهو أبلغ وعد ووعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 406
واعلم أن حقيقة الإيمان كونه متعلقاً بالله على وجه الشهود والعيان ومجازه كونه متعلقاً به على وجه الرسم والبيان أو بالطاغوت وحقيقة الكفر كونه متعلقاً بالطاغوت ومجازه كونه متعلقاً بوحدة الله أو بنعمته فإن الكفر ثلاثة أقسام : كفر النعمة وكفر الوحدة وكفر الطاغوت وأفراد الإنسان ثلاثة أقسام أيضاً : أصحاب الميمنة وهم أرباب الجمال ومظاهره وأصحاب المشأمة وهم أرباب الجلال ومظاهره والمقربون وهم أصحاب الكمال ومظاهره وقلوب الفريق الأول في أيدي سدنة الجمال الإلهي من الملائكة المقربين وقلوب الفريق الثاني في أيدي سدنة الجلال الإلهي من الشياطين المتمردين يستعملونها في سبيل الشرور وقلوب الفريق الثالث في يد الله الملك المتعال يد الله فوق أيدي سدنة الجمال والجلال يقلبها كيف يشاء بين التجليات العاليات والعلوم والمعارف الإلهيات ولما تعلق إيمان هذه الفرق بالله على وجه الشهود والعيان وتعلق كفرهم بالطاغوت جلياً أو خفياً كان إيمانهم وكفرهم حقيقيين وجاوزوا من عالم المجاز إلى عالم الحقيقة وأما الفريق الثاني فقد تعلق إيمانهم بالطاغوت مطلقاً جلياً أو خفياً وكفرهم بالوحدة والنعمة فكان إيمانهم وكفرهم مجازيين لكن إيمانهم
407
(1/333)
مردود ككفرهم لأنه لم يتعلق بالله أصلاً بل كان كله مقصوراً على الطاغوت ولذا لم يتجاوزوا من عالم المجاز أصلاً ولم يصلوا إلى قرب عالم الحقيقة جداً فضلاً عن وصولهم إلى عالم الحقيقة قطعاً وأما الفريق الأول فلما تعلق إيمانهم بالله على وجه الرسم والبيان لا بالطاغوت الجلي جداً ولم يتعلق إيمانهم به على وجه الشهود ولم يتعلق إيمانهم به على الإخلاص حين تعلق به على وجه الرسم والبيان لتعلقه أيضاً بالطاغوت الخفي وتعلق كفرهم بالطاغوت الجلي فقط لا بالطاغوت الخفي كان إيمانهم وكفرهم مجازيين أيضاً لكن إيمانهم لم يكن ككفرهم مردوداً بل كان مقبولاً من وجه لعدم تعلقه بالطاغوت الجلي أصلاً فإن غلب تعلقه بالله على تعلقه بالطاغوت الخفي عند خاتمته فيدخل في الفلاح ثم في الآخرة إن تداركه الفضل الإلهي فبها ونعمت فيغفر وإلا فيدخل الجحيم ويعذب بكفره الخفي ثم يخرج لعدم كفره بالله جلياً ويدخل النعيم لإيمانه بالله جلياً وكفره بالطاغوت وهم أيضاً لم يصلوا إلى عالم الحقيقة بل إنما وصلوا إلى قربه ولذا جاوزوا الجحيم ودخلوا النعيم في قرب عالم الحقيقة ولذا كانوا بالنسبة إلى نفس الحقيقة موطنين في عالم المجاز والفرقة لا في عالم الحقيقة والوصلة وأما الفريق الثاني فهم مخلدون في النار أبداً لإيمانهم بالطاغوت مطلقاً وكفرهم بالله كذلك ثم سعادة الفريق الثالث على ما هو المنصوص في القرآن قطعية الثبوت في آخر النفس وشقاوة الفريق الثاني وسعادة الفريق الأول ليست قطعية الثبوت بل محتملة الثبوت في آخر النفس بالنظر إلى الأفراد لجواز التبدل والتغير في عاقبة الأمر الدنيوية بالنظر إلى أفرادهم هذا ما التقطته من الكتاب المسمى "باللائحات البرقيات" لشيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 406
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : محبهم ومعينهم أو متولى أمورهم لا يكلهم إلى غيره.
فالولي قد يكون باعتبار المحبة والنصرة فيقال للمحب ولي لأنه يقرب من حبيبه بالنصرة والمعونة لا يفارقه وقد يكون باعتبار التدبير والأمر والنهي فيقال لأصحاب الولاية ولي لأنهم يقربون القوم بأن يدبروا أمورهم ويراعوا مصالحهم ومهماتهم والمعنى الله ولي الذين أراد إيمانهم وثبت في علمه أنهم يؤمنون في الجملة مآلاً أو حالاً وإنما أخرج عن ظاهره لأن إخراج المؤمن بالفعل من الظلمات تحصيل الحاصل {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ} التي هي أعم من ظلمات الكفر والمعاصي وظلمات الشبه والشكوك بل مما في بعض مراتب العلوم الاستدلالية من نوع ضعف وخفاء بالقياس إلى مراتبها القوية الجلية بل مما في جميع مراتبها بالنظر إلى مرتبة العيان {إِلَى النُّورِ} الذي يعم نور الإيمان ونور الإيقان بمراتبه ونور العيان أي : يخرج بهدايته وتوفيقه كل واحد منهم من الظلمة التي وقع فيها إلى ما يقابلها من النور.
وجمع الظلمات لأن فنون الضلالة متعددة والكفر ملل وأفرد النور لأن الإسلام دين واحد ويسمى الكفر ظلمة لالتباس طريقه ويسمى الإسلام نوراً لوضوح طريقه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي : الذين ثبت في علمه كفرهم {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ} أي : الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق من الكهنة وقادة الشر وإن حمل على الأصنام التي هي جمادات فالمعنى لا يكون على الموالاة الحقيقية التي هي المصادقة أو تولي الأمر بل يكون على أن الكفار يتولونهم أي : يعتقدونهم ويتوجهون إليهم.
والطاغوت تذكر وتؤنث وتوحد وتجمع
408
{يُخْرِجُونَهُم} بالوساوس وغيرها من طريق الإضلال والإغواء {مِّنَ النُّورِ} أي : الإيمان الفطري الذي جبلوا عليه كافة {إِلَى الظُّلُمَـاتِ} أي : ظلمات الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات أو من نور اليقينيات إلى ظلمات الشكوك والشبهات وإسناد الإخراج إلى الطاغوت مجاز لكونها سبباً له وذلك لا ينافي كون المخرج حقيقة هو الله تعالى فالآية لا تصلح أن تكون متمسكاً للمعتزلة فيما ذهبوا إليه من أن الكفر ونحوه مما لا يكون أصلح للعبد ليس من الله تعالى بناء على أنه أضاف الكفر إلى الطاغوت لا إلى نفسه {أُوالَـائِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبعه من القبائح {أَصْحَـابُ النَّارِ} أي : ملابسوها وملازموها بسبب ما لهم من الجرائم {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} ماكثون أبداً ولم يقل بعد قوله {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون تعظيماً لشأن المؤمنين لأن البيان اللفظي لا يفي بما أعد لهم في دار الثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
واعلم أن مراتب المؤمنين في الإيمان متفاوتة وهم ثلاث طوائف.
عوام المؤمنين ، وخواصهم ، وخواص الخواص.
فالعوام يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية كقوله تعالى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17).
(1/334)
والخواص يخرجهم من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية الربانية كقوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَااِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرعد : 28) واطمئنان القلب بالذكر لم يكن إلا بعد تصفيته عن الصفات النفسانية وتحليته بالصفات الروحانية.
وخواص الخواص يخرجهم من ظلمات حدوث الحلقة الروحانية بإفنائهم عن وجودهم إلى نور تجلي صفة القدم لهم ليبقيهم به كقوله تعالى : {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّا إِنَّهُمْ} (الكهف : 13) الآية نسبهم إلى الفتوة لما خاطروا بأرواحهم في طلب الحق وآمنوا بالله وكفروا بطاغوت دقيانوس فلما تقربوا إلى الله بقدم الفتوة تقرب إليهم بمزيد العناية فأخرجهم من ظلمات النفسانية إلى نور الروحانية فلما تنورت أنفسهم بأنوار أرواحهم اطمأنت إلى ذكر الله وآنست به واستوحشت عن محبة أهل الدنيا وما فيها فأحبوا الخلاء كما كان حال النبي عليه الصلاة والسلام في بدء الأمر قالت عائشة رضي الله عنها أول ما بدىء به عليه الصلاة والسلام كان حبب إليه الخلاء ولعمري هذا دأب كل طالب محق مريد صادق كذا في "التأويلات النجمية".
قال الفخر الرازي : بطريق الاعتراض إن جمعاً من الصوفية يقولون الاشتغال بغير الله حجاب عن معرفة الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يدعون الخلق إلا إلى الطاعات والتكاليف فهم يشغلون الخلق بغير الله ويمنعونهم عن الاشتغال بالله فوجب أن لا يكون ذلك حقاً وصدقاً انتهى كلامه.
يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة هذا الاعتراض ليس بشيء فإن الطاعات والتكاليف ، وسائل إلى معرفة الله الملك اللطيف فالدعوة ليست إلا إلى معرفة الله حقيقة ألا يرى إلى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) بقوله : ليعرفون وإنما عدل عنه إلى ليعبدون مع أنه خلاف مقتضى الظاهر حينئذٍ إشعاراً بأن المعرفة المقبولة هي التي تحصل بطريق العبادة فالاشتغال بغير الله وبغير عبادته حجاب أيّ حجاب ولذلك
409
كان بدء حال السلف الخلاء والانقطاع عن الناس اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم واهتماماً في رفع الحجاب الحاصل بالاختلاط ، وفي "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
آدمي راهست درهر كار دست
ليك ازو مقصود اين خدمت بدستما خلقت الجن والإنس أين بخوان
جز عبادت نيست مقصود ازجهان
تاجلا باشد مران آيينه را
كه صفا آيد زطاعت سينه راس
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
{أَلَمْ تَرَ} أي : ألم ينته علمك الذي يضاهي العيان في الإيقان وحقيقته اعلم بأخبارنا فإنه مفيد لليقين {إِلَى الَّذِى} أي : إلى قصة الملك الذي {حَآجَّ} أي : جادل وخاصم وقابل بالحجة {إِبْرَاهِامَ} في معارضة ربوبيته {فِى رَبِّهِ} وفي التعرض لعنوان الربوبية مع أن الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان بتأييده في المحاجة والذي حاج هو نمرود بن كنعان بن سام بن نوح وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر وادعى الربوبية {أَنْ ءَاتَااهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي : لأن آتاه فهو مفعول له لقوله حاج.
وله معنيان : أحدهما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة موضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر في مقابلة إيتاء الملك ولكنه عكس ما هو الحق الواجب عليه كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، والثاني أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأ عنهما المحاجة والمعنى أعطاه كثرة المال واتساع الحال وملك جميع الدنيا على الكمال.
قال مجاهد لم يملك الدنيا بأسرها إلا أربعة مسلمان وكافران فالمسلمان سليمان وذو القرنين والكافران نمرود وبخت نصر وهو شداد بن عاد الذي بنى إرم في بعض صحاري عدن.
ثم هو حجة على من منع إيتاء الله الملك للكافر وهم المعتزلة لأن مذهبهم وجوب رعاية الأصلح للعبد على الله وإيتاء الله الملك للكافر تسليط له على المؤمنين وذلك ليس بأصلح لحال المؤمن قلنا إنما ملكه امتحاناً له ولعباده {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِامُ} ظرف لحاج {رَبِّيَ الَّذِى يُحْى وَيُمِيتُ} روى أنه عليه السلام لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعونا إليه قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 410(1/335)
{رَبِّيَ الَّذِى يُحْى وَيُمِيتُ} أي : يخلق الحياة والممات في الأجساد وجواب إبراهيم في غاية الصحة لأنه لا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة صفاته وأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين والإحياء والإماتة من هذا القبيل {قَالَ} كأنه قيل كيف حاجه في هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى} روي أنه دعا برجلين قد حبسهما فقتل أحدهما وأطلق الآخر فقال : قد أحييت هذا وأمت هذا فجعل ترك القتل إحياء وكان هذا تلبيساً منه {قَالَ إِبْرَاهِامُ} كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم لمن في هذه الرتبة في المحاجة وبماذا أفحمه فقيل قال : {فَإِنَّ اللَّهَ} جواب شرط مقدر تقديره قال إبراهيم : إذا ادعيت الإحياء والإماتة وأتيت بمعارضة مموهة ولم تعلم معنى الإحياء فالحجة أن الله {يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} تحريكاً قسرياً حسبما تقتضيه مشيئته والباء للتعدية {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} تسييراً طبيعياً فإنه أهون إن كنت قادراً على مثل مقدوراته تعالى ولم يلتفت عليه السلام إلى إبطاله مقالة اللعين إيذاناً بأن بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد وأن التصدي
410
بإبطالها من قبيل السعي في تحصيل الحاصل وأتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالاً للتمويه والتلبيس فهو عدول عن مثال إلى مثال آخر لإيضاح كلامه وليس انتقالاً من دليل إلى دليل آخر لأن ذلك غير محمود في باب المناظرة {فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ} أي : صار مبهوتاً ومتحيراً مدهوشاً وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفراً ، قال في "أسئلة الحكم" الحكمة في طلوع شمس قرب القيامة من مغربها إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال لنمرود {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ} وأن السحرة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك وأنه غير كائن فيطلعها الحق يوماً من المغرب ليرى المنكرين قدرته وأن الشمس في ملكه إن شاء أطلعها من المشرق أو المغرب {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي : الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلال أي : عن قبول الدلائل القطعية الدالة على الحق دلالة واضحة بالغة في الوضوح والقوة إلى حيث جعل الخصم مبهوتاً متحيراً فمن ظلم نفسه بالامتناع عن قبول مثل هذه الدلائل لا يجعله الله مهتدياً بها لأن المعتبر في دار التكليف أن يهتدي وقت اختيارهم الكفر والظلم أي : لا يخلق فيهم فعل الهداية وهم يختارون فعل الضلال ويحتمل أنه لا يهدي طريق الجنة في الآخرة من كفر بالله في الدنيا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 410
ـ روي ـ أن النمرود لما عتا عتوا كبيراً وألقى إبراهيم في النار بعد هذه المحاجة سلط الله على قومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام والنمرود كما هو لم يصبه شيء فبعث الله بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق فعذبه الله أربعمائة سنة وهو الذي بنى صرحاً إلى السماء ببابل فأتى الله بنياهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، قال الشيخ العطار قدس سره :
سوى أو خصمي كه تير انداخته
بشه كارش كفايت ساخته
والإشارة أن الله تعالى أعطى النمرود ملكاً ما أعطي لأحد قبله ادعى الربوبية ما ادعى بها أحد قبله وذلك أن الله أعطى الإنسان حسن استعداد لطلب الكمال فمن حسن استعداده في الطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال فحيثما توجه الكمال أخذ في السير فيها إلى أقصى مراتبها في العلوي والسفلي فإن وكل إلى نفسه في طلب الكمال فينظر بنظر الحواس الخمس إلى المحسوسات وهي الدنيا فلا يتصور إلا الدنيا فلا يتصور الكمال إلا فيها فيأخذ في السير لطلب الكمال وهذا السير موافق لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب والتراب سفلي الطبع فيميل إلى السفليات طبعاً والدنيا هي السفل فيسير فيها بقدمي الطبع وطلب الكمال ففي البداية يرى الكمال في جمع المال فيجمعه ثم يرى الكمال في الجاه فيصرف المال في طلب الجاه ثم يرى الكمال في المناصب والحكم ثم يرى في الإمارة والسلطنة فيسير فيها ما لم يكن مانع إلى أن يملك الدنيا بأسرها كما كان حال النمرود ثم لا يسكن جوهر الإنسان في طلب الكمال بل كلما ازداد استغناؤه ازداد حرصه وكلما ازداد حرصه ازداد طلبه إلى أن لا يبقى شيء من السفليات دون أن يملكه ثم يقصد العلويات وإلى الآن كان ينازع ملوك الأرض والآن ينازع ملك الملوك ومالك الملك في السموات والأرض فيدعي الربوبية كالنمرود فإنه كان سبب
411(1/336)
طغيانه استغناؤه قال تعالى : {إِنَّ الانسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ـ 7) فإذا كمل استغناؤه كمل طغيانه حتى يكفر بالنعمة فهذا كله عند فساد جوهره لما وكل إلى نفسه وإذا أصلح جوهره بالتربية ولم يكله إلى نفسه هدي إلى جهة الكمال المستعد له كقوله : {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر : 38) فصاحب التربية وهو النبي أو خليفته وهو الشيخ المرشد يربيه وتربيته في تبرئته مما سوى الله إلى أن بلغ حد كماله في طلب الكمال وهو إفناء الوجود في وجود الموجود ليكون مفقوداً عن وجوده موجوداً بموجده فلما كان يقول عند فساد الجوهر وإبطال حسن الاستعداد بالكمال أنا أحيي وأميت فيقول عند صلاح الجوهر وصرف حسن الاستعداد في طلب الكمال ما في الوجود سوى الله فالمجد يدق بمطرقة لا إله إلا الله دماغ نمرود النفس إلى أن يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده ووجود كل موجود سوى الله والله لا يهدي القوم المشركين إلى عالم التوحيد والشرك ظلم عظيم فبالشرك ضل من ضل فزل عن الصراط المستقيم كذا في "التأويلات النجمية" فعلى العاقل أن يتخلص من الشرك الخفي ويزكي نفسه عن سفساف الأخلاق ولا يغتر بالمال والمنال بل يرجع إلى الله الملك المتعال.
وقد وجدت صخرة عظيمة وعليها أسطر قديمة.
فرحك بشيء من الدنيا دليل على بعدك من الله.
وسكونك إلى ما في يدك دليل على قلة ثقتك بالله.
ورجوعك إلى الناس في حال الشدة دليل على أنك لم تعرف الله انتهى ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 410
شنيدم كه جمشيد فرخ سرشت
بسر جشمة بر بسنكي نوشت
برين شمه ون ما بسى دم زدند
برفتند ون شم برهم زدند
كرفتيم عالم بمردى وزور
وليكن نيرديم باخود بكور
برفتند وهركس درود آنه كشت
نماند يجز نام نيكو وزشت
اللهم اجعلنا من الذين طال عمرهم وحسن عملهم وقصر أملهم وكمل عقلهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 410
{أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} عطف على قوله ألم تر وتقديره أو رأيت مثل الذي فعل كذا أي ما رأيت مثله فتعجب منه وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يخصى بخلاف مدعي الربوبية.
والمار هو عزير بن شرخيا والقرية بيت المقدس على الأشهر الأظهر واشتقاقها من القرى وهو الجمع.
ـ روي ـ أن بني إسرائيل لما بالغوا في تعاطي الشر والفساد سلط الله عليهم بخت نصر البابلي فسار إليهم في ستمائة ألف راية حتى وطىء الشام وخرب بيت المقدس وجعل بني إسرائيل أثلاثاً ثلثاً منهم قتلهم وثلثاً منهم أقرهم بالشام وثلثاً منهم سباهم وكانوا مائة ألف غلام يافع وغير يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غلمة وكان عزير من جملتهم فلما نجاه الله منهم بعد حين مر بحماره على بيت المقدس فرآه على أفظع مرأى وأوحش منظر وذلك قوله تعالى {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي : خالية عن أهلها وساقطة على سقوفها بأن سقطت العروش ثم الحيطان سقطت عليها من خوت المرأة وخويت خوي أي : خلا جوفها عند الولادة وخوت الدار خواء بالمد وخوي البيت خوي بالقصر أي : سقط والعرش سقف البيت ويستعمل في كل ما هيىء ليستظل به {قَالَ أَنَّى يُحْى هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي : يعمر الله تعالى هذه القرية بعد خرابها على هذا
412
الوجه إذ ليس المراد بالقرية أهلها بل نفسها بدليل قوله : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} لم يقله على سبيل الشك في القدرة بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ} أي : جعله ميتاً {مِا ئَةَ عَامٍ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 412(1/337)
ـ روي ـ أنه لما دخل القرية نزل تحت ظل شجرة وهو على حمار فربط حماره وطاف في القرية ولم ير بها أحداً فقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت فتناول من فواكهها التين والعنب وشرب من عصير العنب ونام فأماته الله في منامه وهو شاب وكان معه شيء من التين والعنب والعصير وكانت هذه الإماتة عبرة لا انقضاء مدة كإماتة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وأمات حماره أيضاً ثم أعمى الله عن جسده وجسد حماره أبصار الإنس والسباع والطير فلما مضى من موته سبعون سنة وجه الله ملكاً عظيماً من ملوك فارس يقال له يوشك إلى بيت المقدس ليعمره ومعه ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل فجعلوا يعمرون وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس وتراجع إليه من تفرق منهم في الأكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا فلما تمت المائة من موت العزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثَهُ} من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم وإنما قال ثم بعثه ولم يقل ثم أحياه لأن قوله ثم بعثه يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ولو قال ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال بعد بعثه فقيل : قال الله تعالى أو ملك مأمور من قبله تعالى : {كَمْ} يوماً أو وقتاً {لَبِثْتَ} يا عزير ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشؤونه تعالى وأن إحياءه ليس بعد مدة يسيرة ربما يتوهم أنه هين في الجملة بل مدة طويلة وتنحسم به مادة استبعاده بالمرة ويطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغير ما {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} كقول الظان قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصاراً لمدة لبثه {قَالَ} ما لبثت ذلك المقدار {بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ} يعني كنت ميتاً هذه المدة {فَانظُرْ} لتعاين أمراً آخر من دلائل قدرتنا {إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي : لم يتغير في هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 412
ـ روي ـ أنه وجد تينه وعنبه كما جني وعصيره كما عصر والجملة المنفية حال بغير واو من الطعام والشراب لأن المضارع المنفي إذا وقع حالاً يجوز أن يكون بالواو وبدونها وإفراد الضمير مع أن الظاهر أن يقال لم يتسنها أو لم يتسنيا لأن المذكور قبله شيئان : الطعام ، والشراب ، لجريانهما مجرى الواحد كالغذاء.
والهاء في لم يتسنه إن كانت أصلية فهو من السنة التي أصلها سنهة وإن كانت هاء سكت فهو من السنة التي أصلها سنوة واستعمال لم يتسنه في معنى لم يتغير من قبيل استعمال اللفظ في لازم معناه لأن المعنى الأصلي لقولنا تسنه أو تسنى مرت عليه السنون والأعوان ويلزمه التغير {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} كيف نخرت عظامه وتفرقت وتقطعت أوصاله وتمزقت ليتبين لك ما ذكر من لبثك المديد وتطمئن به نفسك {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً} كائنة {لِلنَّاسِ} الواو استئنافية واللام متعلقة بمحذوف والتقدير فعلنا ذلك أي : إحياءك وإحياء حمارك وحفظ ما معك من الطعام والشراب لنجعلك آية للناس
413
الموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا منك ما طوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ} تكرير الأمر مع أن المراد عظام الحمار أيضاً لما أن المأمور به أولاً هو النظر إليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللبث المديد وثانياً هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها أي : وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء في غيرك بعدما شاهدت نفسه في نفسك {كَيْفَ نُنشِزُهَا} يقال : أنشزته فنشز أي : رفعته فارتفع أي : نرفع بعضها من الأرض إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فنركبها تركبياً لائقاً بها.
والجملة حال من العظام والعامل فيها انظر تقديره انظر إلى العظام محياة أو بدل من العظام على حذف المضاف والتقدير انظر إلى حال العظام {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} أي : نسترها به كما يستر الجسد باللباس وإنما وحد اللحم مع جمع العظام لأن العظام متفرقة متعددة صورة واللحم متصل متحد مشاهدة ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانه.
(1/338)
ـ روي ـ أنه سمع صوتاً من السماء أيتها العظام البالية المتفرقة إن الله يأمرك أن ينضم بعضك إلى بعض كما كان وتكتسى لحماً وجلداً فالتصق كل عظم بآخر على الوجه الذي كان عليه أولاً وارتبط بعضها ببعض الأعصاب والعروق ثم انبسط اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي : ظهر له إحياء الميت عياناً {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيب الآثار {قَدِيرٌ} لا يستعصي عليه أمر من الأمور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 412
ـ روي ـ أنه ركب حماره وأتى محلته وأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر المنازل فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير قالت : نعم وأين ذكرى عزير وقد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديداً قال : فإني عزير قالت سبحان الله أنى يكون ذلك قال : قد أماتني الله مائة عام ثم بعثني قالت : إن عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة فادع الله لي برد بصري حتى أراك فدعا ربه ومسح بين عينيها فصحتا فأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله فقامت صحيحة كأنها نشطت من عقال فنظرت إليه فقالت : اشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم وكان في المجلس ابن العزير قد بلغ مائة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : انظروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بخت نصر بيت المقدس من قراء التوراة أربعين ألف رجل ولم يكن يومئذٍ بينهم نسخة من التوراة ولا أحد يعرف التوراة فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفاً أي : ينقص ويقطع فقال رجل من أولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصر حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوه فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير عليه السلام عن ظهر القلب فما اختلفا في حرف
414
واحد فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وفي القصة تنبيه على أن الداعي إذا راعى آداب الدعاء أجيب سريعاً من غير مشقة تلحقه وإذا ترك الأدب لحقته المشقة وأبطأت الإجابة فإن إبراهيم عليه السلام لما قال : {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى} (البقرة : 260) وبدأ بالثناء ثم سأل إحياء الموتى أراه الله ذلك في غيره فإنه أراه في طيره وعجل له ذلك على فوره وعزير قال : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} فأرى ذلك في نفسه بعد مائة عام مضت على موته ، قال السعدي :
نبايد سخن مفت ناساخته
نشايد بريدن نينداخته
جزء : 1 رقم الصفحة : 412
والإشارة في تحقيق الآية أن قوماً أنكروا حشر الأجساد مع أنهم اعتقدوا وأقروا بحشر الأرواح وقالوا : الأرواح كان تعلقها بالأجساد لاستكمالها في عالم المحسوس كالصبي يبعث إلى المكتب ليتعلم الأدب فلما حصل مقصوده من التعليم بقدر استعداده وخرج من المكتب ودخل محفل أهل الفضل وصاحبه سنين كثيرة واستفاد منهم أنواع العلوم التي لم توجد في المكتب إلا أنه استفاد العلوم من الفضلاء بقوة أدبه الذي تعلمه في المكتب وصار فاضلاً في العلوم فما حاجته بعد أن كبر شأنه وعظم قدره إلى أن يرجع إلى المكتب وحالة صباه فكذا الأرواح لما خرجت من سجن الأشباح واتصلت بالأرواح المقدسة بقوة علوم الجزئيات التي حصلتها من عالم الحس واستفادت من الأرواح العلوية علم الكليات التي لم توجد في عالم الحس فما حاجتها إلى أن ترجع إلى سجن الأجساد فكانت نفوسهم تسول لهم هذه التسويلات والشيطان يوسوسهم بمثل هذه الشبهات فالله سبحانه من كمال فضله ورحمته على عباده المخلصين أمات عزيراً مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعاً ليستدل به العقلاء على أن الله مهما يحيي عزير الروح يحيي معه حمار جسده فلا يشك العاقل بتسويل النفس ووسوسة الشيطان وشبهات الفلسفي في حشر الأجساد فكما أن عزير الروح يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر يكون حمار جسده في الجنة فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفحات الجمال والجلال عن ساقي وسقاهم ربهم شرباً طهوراً ولحمار الجسد مشرب من أنهار الجنات وحياض رياض ولكم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقد علم كل أناس مشربهم :
شربنا وأهرقنا على الأرض جرعة
وللأرض من كأس الكرام نصيب كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 412
(1/339)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِامُ} أي : اذكر وقت قوله وذكر الوقت يوجب ذكر ما وقع في ذلك الوقت من الحوادث بالطريق البرهاني {رَبِّ} كلمة استعطاف قدمت بين الدعاء مبالغة في استدعاء الإجابة {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِـامُ رَبِّ} أي : بصرني كيفية إحيائك للموتى بأن تحييها وأنا أنظر إليها إنما سأل ذلك ليصير علمه عياناً وقد شرفه الله بعين اليقين بل بحق اليقين الذي هو أعلى المقامات.
والفرق أن علم اليقين هو المستفاد من الأخبار.
وعين اليقين هو المعاينة لا مرية فيه قال تعالى في حق الكفار {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} (التكاثر : 7) فلما دخلوا النار وباشروا عذابها قال تعالى : {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} (الواقعة : 93 ـ 94 ـ 95) {قَالَ} ربه {أَوَلَمْ تُؤْمِن} أي : ألم تعلم يقيناً ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة قاله
415
عز وعلا مع علمه بأنه أعرف الناس بالإيمان ليظهر إيمانه لكل سامع بقوله : بلى فيعلم السامعون غرضه من هذا القول وهو الوصول إلى العيان {قَالَ} إبراهيم {بَلَى} علمت وآمنت بذلك {وَلَـاكِنِ} سألت ما سألت {لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى} أي : ليسكن ويحصل طمأنينته بالمعاينة فإن عين اليقين يوجب الطمأنينة لاعلمه.
فإن قلت : ما معنى قول علي رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ، قلت : ما ازددت يقيناً بالإيمان بها وكان إذ رأى الآخرة أبصر بها من الفضائل والهيئات ما لم يحط به قبل ذلك وكذلك إبراهيم لما رأى كيفية الإحياء وقف على ما لم يقف عليه قبل {قَالَ} ربه إن أردت ذلك {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان {فَصُرْهُنَّ} من صاره يصوره وبكسر الصاد من صاره يصيره والمعنى واحد أي : أملهن واضممهن واجمعهن {إِلَيْكَ} لتتأملها وتعرف أشكالها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءاً من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 415
ـ روي ـ أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ولحومها ويمسك رؤوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى : {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ} من الجبال التي بحضرتك وكانت سبعة أو أربعة فجزأها أربعة أجزاء فقال : تعالى ضع على كل جبل {مِّنْهُنَّ} أي : من كل الطيور {جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ} قل لهن تعالين بإذن الله تعالى {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} أي : ساعيات مسرعات طيراناً أو مشياً ففعل كما أمره فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة إلى ما كانت عليه من الهيئة وجعل إبراهيم ينظر ويتعجب {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب على أمره لا يعجزه شيء عما يريده {حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة في أفاعيله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخر خارق للعادات بل لكونه متضمناً للحكم والمصالح.
قال القشيري طلب إبراهيم عليه السلام بهذه حياة قلبه فأشير إليه بذبح الطيور ، وفي الطيور الأربعة أربعة معان هي : في النفس ، في الطاووس زينة ، وفي الغراب بخل وفي الديك شهوة ، والبط حرص فأشار إلى أنه ما لم يذبح نفسه بالمجاهدة لم يحي قلبه بالمشاهدة ، وفي "المثنوي" :
حرص بط يكتاست اين ينجاه تاست
حرص شهوت مار ومنصب ازدهاستسحرص بط ازشهوت حلقست وفرج
در رياست بيست ند انست درج
صد خورنده كنجد اندر كرد خوان
دو رياست درنكنجد درجهان
كاغ كاغ ونعره زاغ سياه
دائماً باشد بدنيا عمر خواههمو ابليس از خداي اك فرد
تا قيامت عمرتن درخواست كرد
عمرو مرك اين هردو باحق خوش بود
بي خدا آب حيات آتش بود
عمر خوش در قرب جان روردنست
همر زاغ ازبهر سركين خوردنست
قال في "التأويلات النجمية" : الطيور الأربعة هي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها وهي التراب والماء والنار والهواء فتولدت من ازدواج
416
(1/340)
كل عنصر مع قرينه صفتان فمن التراب وقرينه الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان حيث وجد أحدهما وجد قرينه ومن النار وقرينها الهواء تولد الغضب والشهوة وهما قرينان يوجدان معاً ولكل واحدة من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها كحواء وآدم ويتولد منها صفات أخرى فالحرص زوجه الحسد والبخل زوجه الحقد والغضب زوجه الكبر وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فيتعلق بها كل صفة ولها منها متولدات يطول شرحها فهي الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم منها يدخل الخلق جهنم التي لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم يعني من الخلق فمن كان الغالب عليه صفة منها فيدخل النار من ذلك الباب فأمر الله خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة طاووس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل كما زين الطاووس بألوانه ما بخل به وغراب الحرص وهو من حرصه أكثر في الطلب وديك الشهوة وهو بها معروف ونسر الغضب ونسبته إليه لتصريفه في الطيران فوق الطيور وهذه صفة المغضب فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منها متولداتها ما بقي له باب يدخل منه النار فلما ألقى فيها بالمنجنيق قهراً صارت النار عليه برداً وسلاماً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 415
والإشارة بتقطيعها بالمبالغة ونتف ريشها وتفريق أجزائها وتخليط ريشها ودمائها ولحومها بعضها ببعض إشارة إلى محو آثار الصفات الأربع المذكورة وهدم قواعدها على يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع ونائب الحق وهو الشيخ.
والأمر بتقسيم أجزائها وجعلها على كل جبل جزءاً فالجبال الأربعة هي النفوس التي جبل الإنسان عليها.
أولها : النفس النامية وتسمى النباتية ، وثانيها : النفس الأمارة وتسمى الروح الحيواني ، وثالثها : قوة الشيطنة وتسمى الروح الطبيعي ، ورابعها : قوة الملكية وهو الروح الإنساني فطيور الصفات لما ذبحت وقطعت وخلطت أجزاء بعضها ببعض ووضع على كل جبل روح ونفس وقوة منها جزء بأمر الشرع تكون بمثابة أشجار زوروع تجعل عليها الترب المخلوطة بالزبل والقاذورات باستصواب دهقان ذي بصارة في الدهقنة بمقدار معلوم ووقت معلوم ثم يسقيها بالماء ليتقوى الزرع بقوة الترب والزبل وتتصرف النفس النامية النباتية في الترب المخلوطة الميتة فتحييها بإذن الله تعالى كقوله تعالى : {فَانظُرْ إِلَى ءَاثَـارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ} (الروم : 50) فكذلك الصفات الأربع وهي الحرص والبخل والشهوة والغضب مهما كانت كل واحدة منها على حالها غالبة على الجوهر الروحاني تكدر صفاءه وتمنعه من الرجوع إلى مقامه الأصلي ووطنه الحقيقي فإذا كرت سطوتها ووهنت قوتها وأميتت شعلتها ومحيت آثار طباعها بأمر الشرع وخلطت أجزاؤها المتفرقة بعضها ببعض ثم قسمت بأربعة أجزاء وجعل كل جزء منها على جبل قوة أو نفس أو روح فيتقوى كل واحد من هؤلاء بتقويتها ويتربى بتربيتها فيتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها ويبدل تلك الظلمات التي هي من خصائص تلك الصفات المذمومة بنور هو من خصائص الروح الإنساني والملكي فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية بأخلاق الروحانيات انتهى كلام "التأويلات".
جزء : 1 رقم الصفحة : 415
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{مِثْلُ} نفقات {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي : في وجوه الخيرات من الواجب كالزكاة
417
(1/341)
والنفل وقدر في الكلام حذف لأن الذين ينفقون لا يشبهون الحبة لأنه لا يشبه الحيوان بالجماد بل نفقاتهم تشبه الحبة {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} لزراع زرعها في أرض عامرة والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر {أَنابَتَتْ} أي : أخرجت وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز {سَبْعَ سَنَابِلَ} أي : ساقات تشعب منها سبع شعب لكل واحدة منها سنبلة {فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ} كما يشاهد ذلك في الذرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك {وَاللَّهُ يُضَـاعِفُ} تلك المضاعفة إلى ما شاء الله تعالى {لِمَن يَشَآءُ} أن يضاعف له بفضله وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة {عَلِيمٌ} بنية المنفق ومقدار إنفاقه وكيفية تحصيل ما أنفقه.
فمثل المتصدق كمثل الزارع إذا كان حاذقاً في عمله وكان البذر جيداً وكانت الأرض عامرة يكون الزرع أكثر.
فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً والمال طيباً ووضع في موضعه يكون الثواب أكثر كما روي في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" وإنما ذكر النبي عليه السلام التربية في الصدقة وإن كان غيرها من العبادات يزيد أيضاً بقبوله إشارة إلى أن الصدقة فريضة كانت أو نافلة أحوج إلى تربية الله لثبوت النقيصة فيها بسبب حب الطبع الأموال وفي الحديث "صدقة المؤمن تدفع عن صاحبها آفات الدنيا وفتنة القبر وعذاب يوم القيامة" وفي الحديث "السخاوة شجرة أصلها في الجنة وأغصانها متدليات في دار الدنيا فمن تعلق بغصن منها يسوقه إلى الجنة والبخل شجرة أصلها في النار وأغصانها متدليات في دار الدنيا فمن تعلق بغصن منها يسوقه إلى النار" وفي الحديث "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" أي : الكاسب لتحصيل مؤنتهما كالمجاهد لأن القيام بمصالحهما إنما يكون بصبر عظيم وجهاد نفس لئيم فيكون ثوابه عظيماً ، وفي "بستان" الشيخ السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
يكى از بزركان أهل تميز
حكايت كند زابن عبد العزيز
كه بودش نكيني در انكشترى
فرومانده از قيمتش مشترى
بشب كفتى آن جرم كيتي فروز
درى بود در روشنايى وروز
قضارا در آمد يكى خشك سال
كه شد بدر سيماي مردم هلال
و درمردم آرام وقوت نديد
خود آسوده بودن مروت نديد
و بيند كسى زهر دركام خلق
كيش بكذرد آب شيرين بحلق
بفرمود بفرو ختندش بسيم
كه رحم آمدش بر فقير ويتيم
بيك هفته نقدش بتاراج داد
بدرويش ومسكين ومحتاج داد
فتادند دروى ملامت كنان
كه ديكر بدستت نيايد نان
شنيدم كه ميكفت باران دمع
فروميدويدش بعارض وشمع
كه زشتست يرايه بر شهريار
دل شهرى از نا توانى فكار
418
مرا شايد انكشترى بى نكين
نشايد دل خلق اندوهكين
خنك آنكه آسايش مرد وزن
كزيند بر آسايش خو يشتن
نكردند رغبت هنر روران
بشادىء خويش از غم ديكران
(1/342)
واعلم أن الأعمال بالنيات ، فإن قلت ما معنى قوله عليه السلام : "نية المؤمن خير من عمله" ، قلت : مورد الحديث أن عثمان رضي الله تعالى عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه وعد بثواب عظيم على حفر بئر فنوى أن يحفرها فسبق إليه كافر فحفرها فقال عليه السلام : "نية المؤمن خير من عمله" أي : عمل الكافر.
والجواب الثاني أن النية المجردة من المؤمن خير من عمله المجرد عن النية لأنه إذا فعل الخير بغير نية يكون عمله مع النية خيراً من ذلك لكن قال بعضهم ليس في بعض الأعمال أجر بغير نية كالصلاة لا تجوز بغير نية ولا يحتاج بعض الأعمال إلى النية كقراءة القرآن والأذكار.
ثم اعلم أن الإنفاق على مراتب : إنفاق العامة بالمال فأجرهم الجنة.
وإنفاق الخواص إصلاح الحال بتزكية النفس وتصفية القلب فأجرهم يوم القيامة النظر إلى وجه الله تعالى فينبغي للمؤمن أن يزكي نفسه ويصفي قلبه من حب المال بالإنفاق في سبيل الله الملك المتعال حتى ينال الشرف في الجنان ويحترز عن البخل حتى لا يكون عند الله تعالى من الخاسرين {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي : يضعونها في مواضعها {ثُمَّ} لإظهار علو رتبة المعطوف {لا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا} العائد محذوف أي : ما أنفقوه {مِنَّآ} وهو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب بذلك عليه حقاً أي : لا يمنون عليهم بما تصدقوا بأن يقول المتصدق المانّ اصطنعتك كذا خيراً وأحسنت إليك كثيراً {وَلا أَذًى} وهو أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه أي : لا يؤذيه بأن يقول المتصدق المؤذي بأن قد أعطيتك فما شكرت أو إلى كم تأتيني وتؤذيني أو كم تسأل ألا تستحيي أو أنت أبداً تجيئني بالإبرام فرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ثوابهم في الآخرة وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} مما يستقبلهم من العذاب {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا من أمور الدنيا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
ـ روي ـ أن الحسن بن علي رضي الله عنهما اشتهى طعاماً فباع قميص فاطمة بستة دراهم فسأله سائل فأعطاها ثم لقي رجلاً يبيع ناقة فاشتراها بأجل وباعها من آخر فأراد أن يدفع الثمن إلى بائعها فلم يجده فحكي القضية إلى النبي عليه السلام فقال : أما السائل فرضوان وأما البائع فميكائيل وأما المشتري فجبرائيل فنزل قوله تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} الآية ، قال بعض أهل التفسير نزلت هذه الآية والتي قبلها في عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما.
أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده يقول : "يا رب رضيت عنه فارض عنه" وأما عبد الرحمن بن عوف فتصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فقال : عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها ربي فقال عليه السلام : "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" فهذه حال عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما حيث تصدقا ولم يخطر
419
ببالهما شيء من المن والأذى.
قال بعضهم المنّ يشبه بالنفاق والأذى يشبه بالرياء.
ثم قال بعضهم إذا فعل ذلك فلا أجر له وعليه وزر فيما منّ وآذى على الفقير.
قال وهب فلا أجر له ولا وزر له.
وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمنّ.
واعلم أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف مع أنه تعالى قد منّ على عباده كما قال {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} وذلك لأن الله تعالى تام الملك والقدرة وملكه وقدرته ليس بغيره والعبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك خصاله من الله ولم يكن ذلك بقوة العبد فالعبد ناقص والناقص لا يجوز له أن يمن على أحد أو يمدح نفسه والمن ينقص قدر النعمة ويكدرها لأن الفقير الآخذ منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرّ به بعد أن نفعه وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه ، قال الحسين الكاشفي قدس سره :
آنه كه بدهى ود هنده خداست
منت بيهوده نهادن خطاست
هره دهى مى ده ومنت منه
وآنه شيمان شوى آن هم مده
وقال السعدي قدس سره :
و انعام كردى مشوخود رست
كه من سرورم ديكران زير دست
و بيني دعا كوى دولت هزار
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
خداوندرا شكر نعمت كذار
كه شم ازتودارند مردم بسى
نه توشم دارى بدست كسى
(1/343)
قيل : إن إبراهيم عليه السلام كان له خمسة آلاف قطيع من الغنم وعليها كلاب المواشي بأطواق الذهب فتمثل له ملك في صورة البشر وهو ينظر أغنامه في البيداء فقال الملك (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) فقال إبراهيم عليه السلام كرر ذكر ربي ولك نصف ما ترى من أموالي فكرر الملك فنادى ثانياً كرر تسبيح ربي ولك جميع ما ترى من مالي فتعجب الملائكة فقالوا جدير أن يتخذك الله خليلاً ويجعل لك في الملل والنحل ذكراً جميلاً ، وفي "المثنوي" :
قرض ده زين دولت اندر اقرضوا
تاكه صد دولت به بيني يش رو
اندكى زين شرب كم كن بهر خويش
تاكه حوض كوثرى يابى به يش
وفي "نوابغ الكلم".
"صنوان من منح سائله ومنّ
ومن منع نائله وضنّ واعلم أن الناس على ثلاث طبقات :
الأولى : الأقوياء وهم الذين أنفقوا جميع ما ملكوا وهؤلاء صدقوا فيما عاهدوا الله عليه من الحب كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
والثانية : المتوسطون وهم الذين لم يقدروا على إخلاء اليد عن المال دفعة ولكن أمسكوه لا للتنعم بل للإنفاق عند ظهور محتاج إليه وقنعوا في حق أنفسهم بما يقويهم على العبادة.
والثالثة : الضعفاء وهم المقتصرون على أداء الزكاة الواجبة اللهم اجعلنا من المتجردين عن عيرك والقانعين بك عما سواك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} رد جميل وهو أن يرد السائل بطريق جميل حسن تقبله القلوب والطباع ولا تنكره {وَمَغْفِرَةٌ} أي : ستر لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره
420
مما يثقل على المسؤول وصفح عنه {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} لأن من جمع بين نفع الفقير وإضراره حرم الثواب فإن قالوا : أي : خير في الصدقة التي فيها أذى حتى يقال هذا خير منه قلنا يعني عندكم كذلك وهو كقوله تعالى : {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَـارَةِ} (الجمعة : 11) أي : عندكم ذلك خير لكم اعلموا أن هذا خير لكم في الدنيا والآخرة مما تعدونه أنتم خيراً {وَاللَّهُ غَنِىٌّ} عما عندكم من الصدقة لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى {حَلِيمٌ} لا يعاجل أصحاب المنّ والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما.
وفيه من السخط والوعيد لهم ما لا يخفى.
قال في "مجالس حضرة الهدائي" قدس سره وإنما كان الرد الجميل خيراً من صدقة المانّ والمؤذي لأن القول الحسن وإن كان بالرد يفرح قلب السائل ويروح روحه ونفع الصدقة لجسده وسراية السرور لقلبه بالتبعية من تصور النفع فإذا قارن ما ينفع الجسد بما يؤذي الروح يكدر النفع حينئذٍ ولا ريب أن ما يروح الروح خير مما ينفع الجسد لأن الروحانية أوقع في النفوس وأشرف.
قال الشعبي من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته.
وبالغ السلف في الصدقة والتحرز فيها عن الرياء فإنه غالب على النفس وهو مهلك ينقلب في القلب إذا وضع الإنسان في قبره في صورة حية أي : يؤلم إيلام الحية والبخل ينقلب في صورة عقرب والمقصود في كل إنفاق الخلاص من رذيلة البخل فإذا امتزج به الرياء كان كأنه جعل العقرب غذاء الحية فتخلص من العقرب ولكن زاد في قوة الحية إذ كل صفة من الصفات المهلكة في القلب إنما غذاؤها وقوتها في إجابتها إلى مقتضاها.
ثم إن الصدقة لا تنحصر في المال بل تجري في كل معروف فالكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والإعانة في حاجة واحد وعيادة مريض وتشييع جنازة وتطييب قلب مسلم كل ذلك صدقة :
كر خير كنى مراد بابى
در هر دوجهان كشاد يابى
إحسان كن وبهر توشه خويش
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
زادى بفرست توازين يش
واعلم أن الدنيا وملكها لا اعتداد لها.
ـ حكي ـ عن بعض الملوك أنه حبست الريح في بطنه حتى قرب إلى الهلاك فقال كل من يزيل عني هذا البلاء أعطيته ملكي فسمعه شخص من أهل الله فجاء ومسح يده على بطنه فخرجت منه ريح منتنة وتعافى الملك من ساعته فقال : يا سيدي اجلس على سرير المملكة أنا عزلت نفسي فقال الرجل لا حاجة إلى متاع قيمته ضرطة منتنة ولكن أنت اتعظ من هذا فالشيء الذي اغتررت به قيمته هذا.
وعن الحسن قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم على أصحابه فقال : "هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً.
ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد في الدنيا وقصر أمله أعطاه الله تعالى علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية.
ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبة إلا باتباع الهوى.
ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله تعالى ثواب خمسين صديقاً" ، وفي "المثنوي" :
421
كوزه شم حريصان رنشد
تا صدف قانع نشد ردر نشد
(1/344)
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى} فإن من فعل ذلك لا أجر له في صدقته وعليه وزر منه على الفقير ووزر إيذائه وقد سبق معنى المن والأذى والمراد بإبطال الصدقة إحباط أجرها لأن الصدقة لما وقعت وتقدمت لم يمكن أن يراد بإبطالها نفسها بل المراد إحباط أجرها وثوابها لأن الأجر لم يحصل بعد فيصح إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى {كَالَّذِى} المراد المنافق لأن الكافر معلن كفره غير مراء والكاف في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي : لا تبطلوها إبطالاً كإبطال المنافق الذي {يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ} أي : لأجل رئائهم يعني ليقال أنه كريم {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} لا يريد بإنفاقه رضى الله ولا ثواب الآخرة.
ورئاء من راأى نحو قاتل قتالاً ومعنى المفاعلة ههنا مبني على أن المرائي في الإنفاق يراعي أن تراه الناس فيحمدوه {فَمَثَلُهُ} أي : حالته العجيبة {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} أي : حجر صاف أملس وهو واحد وجمع فمن جعله جمعاً فواحده صفوانة ومن جعله واحداً فجمعه صفى {عَلَيْهِ تُرَابٌ} أي : يسير منه {فَأَصَابَه وَابِلٌ} أي : مطر شديد الوقع كبير القطر {فَتَرَكَه صَلْدًا} أملس ليس عليه شيء من الغبار {لا يَقْدِرُونَ} كأنه قيل فماذا يكون حالهم حينئذٍ فقيل : لا يقدرون {عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا} أي : لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثواباً قطعاً كقوله تعالى : {فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23) يقال : فلان لا يقدر على درهم أي : لا يجده ولا يملكه ، فإن قلت : كيف قال لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق؟ قلت : أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق فجمع الضمير باعتبار المعنى ولما ذكر تعالى بطلان أمر الصدقة بالمن والأذى ذكر لكيفية إبطال أجرها بهما مثلين فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس وهو مع ذلك كافر بالله واليوم الآخر فإن بطلان أجر ما أنفقه هذا الكافر أظهر من بطلان أجر من يتبعها بالمن والأذى ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ثم أصابه المطر فأزال ذلك الغبار عنه حتى صار كأنه ما كان عليه تراب وغبار أصلاً فالكافر كالصفوان والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان فكذا المن والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله وذلك صريح في القول بالإحباط والتكفير كما ذهب إليه المعتزلة القائلون بأن الأعمال الصالحة توجب الثواب وأن الكبائر تحبط ذلك الثواب وأما أصحابنا القائلون بأن الثواب تفضل محض فإنهم قالوا : ليس المراد بقوله لا تبطلوا النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد النهي عن أن يأتي بهذا العمل باطلاً ، وبيانه أن المنّ والأذى يخرجانه من أن يترتب عليه الأجر الموعود لأن العمل إنما يؤدي إلى الأجر الموعود إذا أتى به العامل تعبداً وطاعة وابتغاء لما عند الله تعالى من الأجر والرضوان وعملاً بقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (المزمل : 20) وبقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة : 111) فمن كان حامله على العمل ابتغاء ما عند الله مما وعده للمخلصين فقد جرى على سنن المبادلة التي وقعت
422
بين العمل والثواب الذي وعده الله تعالى لمن أخلص عملهتعالى فلما كانت معاملته في الحقيقة مع الله تعالى لم يبق وجه لأن يمن على الفقير الذي تصدق عليه ولا لأن يؤذيه بأن يقول له مثلاً خذه بارك الله لك فيه ومن منّ عليه أو آذاه فقد أعرض عن جهة المبادلة مع الله ومال إلى جهة التبرع على الفقير من غير ابتغاء وجه الله وأتى بعمله من الابتداء على نعت البطلان فيكون محروماً من البدل الذي وعده الله لمن أقرض الله قرضاً حسناً إذ لم يقع عمله على وجه الإقراض {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} إلى الخير والرشاد ، وفيه تعريض بأن كلاً من الرئاء والمنّ والأذى من خصائص الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها.
ـ روي ـ عن بعض العلماء أنه قال مثل من يعمل الطاعة للرئاء والسمعة كمثل رجل خرج إلى السوق وملأ كيسه حصى فيقول الناس ما أملأ كيس هذا الرجل ولا منفعة له سوى مقالة الناس فلو أراد أن يشتري به شيئاً لا يعطى به شيئاً ، وقد بالغ السلف في إخفاء صدقتهم عن أعين الناس حتى طلب بعضهم فقيراً أعمى لئلا يعلم أحد من المتصدق ، وبعضهم ربط في ثوب الفقير نائماً ، وبعضهم ألقى في طريق الفقير ليأخذها وبذلك يتخلص من الرئاء ، وفي "المثنوي" :
(1/345)
كفت يغمبر بيك صاحب ريا
صل أنك لم تصل يا فتى
از براى اره اين خوفها
آمد اندر هر نمازى اهدنا
كين نمازم را مياميز اي خدا
با نماز ضالين واهل ريا
قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال : "الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذي كنتم تراؤون لهم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" وقال صلى الله عليه وسلّم "إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارىء ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقرأ آناء الليل وأطراف النهار فيقول الله تعالى كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان قارىء فقد قيل ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له : فيماذا قتلت؟ فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جرىء فقد قيل ذلك" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
طريقت همينست كاهل يقين
نكو كار بودند وتقصير بين
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا درتوانى فروخت
همان به كر آبستن كوهرى
كه همون صدف سر بخود دربرى
وكر آوازه خواهى در اقليم فاش
برون حله كن كودرون حشو باش
423
اكرمسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود قاش كردد ببوى
ه زنار مغ درميانت ه دلق
كه در وشى از بهر ندار خلق
والإشارة في الآية في المعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الأعراض ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال فماذا بعد الحق إلا الضلال وقد نهينا عن إبطال أعمال البر بالإعراض عن طلب الحق والإقبال على الباطل بقوله : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم} وهي من أعمال البر بالمنّ أي : إذا مننت بها على الفقير فقد أعرضت عن طلب الحق لأن قصدك في الصدقة لو كان طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منة الفقير حيث كان سبب وصولك إلى الحق ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "لولا الفقراء لهلك الأغنياء" معناه لم يجدوا وسيلة إلى الحق وقد فسر بعضهم قوله عليه السلام : "اليد العليا خير من اليد السفلى" بأن اليد العليا هي يد الفقير والسفلى يد الغني تعطي السفلى وتأخذ العليا.
والأذى هو الإقبال على الباطل لأن كل شيء غير الحق فهو باطل فمن عمل عملاًثم يشوبه بغرض في الدارين فقد أبطل عمله بأن يكونفافهم جداً كذا في "التأويلات النجمية" ، وفي "المثنوي" :
عاشقا نرا شادماني وغم اوست
دست مزد واجرت خدمت هم اوست
غير معشوق ارتما شائي بود
عشق نبود هرزه سودايى بود
عشق آن شعله است كوون بر فروخت
هره جز معشوق باقي جمله سوخت
فالعشق الإلهي والحب الرحماني إذا استولى على قلب العبد يقطع عنه عرق الشركة في الأموال والأولاد والأنفس.
والخدمة بالأجرة لا تناسب الرجولية فإن من علم أن مولاه كريم يقطع قلبه عن ملاحظة الأجرة وتجيء أجرته إليه من ذلك الكريم على الكمال ، قال الحافظ :
تو بندكى و كدايان بشرط مزد مكن
كه خواجه خود روش بنده رورى داند
اللهم اقطع رجاءنا عن غيرك واجعلنا من الذين لا يطلبون منك إلا ذاتك.
{وَمَثَلُ} نفقات {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي : لطلب رضاه {وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} أي : جعل بعض أنفسهم ثابتاً على الإيمان والطاعة ليزول عنها رذيلة البخل وحب المال وإمساكه والامتناع عن إنفاقه فإن النفس وإن كانت مجبولة على حب المال واستثقال الطاعات البدنية إلا أنها ما عودتها تتعود ، قال صاحب البردة : (البسيط)
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فمتى أهملتها فقد تمرنت واعتادت الكسل والبطالة والبخل وإمساك المال عن صرفه إلى وجوه الطاعات ومقتضيات الإيمان وحيث كلفتها وحملتها على مشاق العبادات البدنية والمالية تنقاد لك وتتزكى عن عاداتها الجبلية.
فمن تبعيضية كما في قولهم : "هز من عطفه وحرك من نشاطه".
فإن قلت كيف يكون المال بعضاً من النفس حتى تكون الطاعة ببذله طاعة لبعض النفس وتثبيتاً لها على الثمرة الإيمانية ، قلت : إن النفس لشدة تعلقها بالمال كأنه بعض منها فالمال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها ، وفي "المثنوي" :
(1/346)
424
آن درم دادن سخى را لايق است
جان سردن خود سخاي عاشق استتان دهى از بهر حق نانت دهند
جان دهى ازبهر حق جانت دهند
آن فتوت بخش هربى علت است
اكبازى خارج ازهر ملت استدر شريعت مال هركس مال اوست
در طريقت ملك ما مملوك دوست
ويجوز أن يكون التثبيت بمعنى جعل الشيء صادقاً محققاً ثابتاً والمعنى تصديقاً للإسلام ناشئاً من أصل أنفسهم وتحقيقاً للجزاء فإن الإنفاق أمارة أن الإسلام ناشىء من أصل النفس وصميم القلب ، فمن لابتداء الغاية كما في قوله تعالى : {حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم} (البقرة : 109) ولعل تحقيق الجزاء عبارة عن الإيقان بأن العمل الصالح مما يثيب الله ويجازي عليه أحسن الجزاء {كَمَثَلِ جَنَّة} بستان كائن {بِرَبْوَةٍ} مكان مرتفع مأمون من أن يصطلمه البرد أي : يفسده للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له فإن أشجار الربا تكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً وأما الأراضي المنخفضة فقلما تسلم ثمارها من البرد لكثافة أهوائها بركود الرياح.
وقال بعضهم إن البستان إذا وقع في موضع مرتفع من الأرض لا تنفعه الأنهار وتضربه الرياح كثيراً فلا يحسن ريعه إلا إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة فالمراد من الربوة حينئذٍ كون الأرض لينة جيدة بحيث إذا نزل المطر عليها انتفخت وربت ونمت فإن الأرض إذا كانت بهذه الصفة يكثر ريعها وتكمل أشجارها ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى : {وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج : 5) فإن المراد من ربوها ما ذكر
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{أَصَابَهَا وَابِلٌ} أي : وصل إليها مطر كبير القطر شديد الوقع {فَاَاتَتْ} أي : أعطت صاحبها أو أهلها {أُكُلَهَا} ثمرتها وغلتها وهو بضمتين الشيء المأكول.
ويجوز أن يكون آتت بمعنى أخرجت فيتعدى إلى مفعول واحد هو أكلها {ضِعْفَيْنِ} أي : مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات وذلك بسبب ما أصابها من الوابل.
قال ابن عباس حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى : {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (هود : 40) ومن فسره بأربعة أمثال ما كانت تثمر حمل الضعف على أصل معناه وهو مثلا الشيء فيكون ضعفين أربعة أمثال {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي : فطل وهو المطر الصغير القطر يكفيها لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها.
والطل إذا دام عمل عمل الوابل وجاز الابتداء بالنكرة لوقوعها في جواب الشرط وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة ومن كلامهم إن ذهب العير فعير في الرباط والمعنى تشبيه نفقات هؤلاء الذين ينفقون بسبب ما يحملهم عليه من الابتغاء والتثبيت زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تلك النفقات تتفاوت في زكائها بحسب تفاوت ما ينضم إليها من أحوالها التي هي الابتغاء والتثبيت الناشىء من ينبوع الصدق والإخلاص إليها بحال جنة نامية زاكية بسببي الربوة والوابل أو الطل والجامع النمو المرتب على السبب المؤدي إليه.
ويجوز أن يكون التشبيه من قبيل المفرق بأن يشبه زلفاهم من الله تعالى وحسن حالهم عنده بثمرة الجنة ووجه التشبيه الزيادة ويشبه نفقتهم الكثيرة والقليلة بالقوى المطر والضعيف منه من حيث أن كل واحد منهما سبب لزيادة في الجملة لأن النفقتين تزيد إن حسن حالهم كما أن المطرين يزيدان ثمرة الجنة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} من عمل
425
الإخلاص والرياء لا يخفى عليه شيء وهو ترغيب في الإخلاص مع تحذير عن الرياء ونحوه فعلى العاقل أن يعبد الله تعالى على الإخلاص ويكون دائماً في رجاء الخلاص عن الطاغوت الخفي وهو الشرك الخفي فإن الخلاص يبتنى على الإخلاص ، قال السعدي قدس سره :
همينست ندت اكر بشنوي
كه كر خاركارى سمن ندروى
(1/347)
يعني من زرع الشوك لم يحصد الأزهار والنبات ولا يثمر شجره وبالكأس التي تسقي تشرب عصمنا الله وإياكم من ضياع العمل وكساده واختلال الاعتقاد وفساده.
وخالص الأعمال هو الذي تعملهلا تحب أن يحمدك عليه أحد وإذا قارن العمل بالإخلاص يكون كنحاس طرح فيه الأكسير وجسد نفخ فيه الروح ولذا يضاعف ثوابه.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام : "إن الصدقة إذا خرجت من يد صاحبها قبل أن تدخل في يد السائل تتكلم بخمس كلمات أولاها تقول كنت قليلة فكثرتني وكنت صغيرة فكبرتني وكنت عدواً فأحببتني وكنت فانياً فأبقيتني وكنت محروساً الآن صرت حارسك".
وعن مكحول الشامي إذا تصدق المؤمن بصدقة رضي الله عنه ونادت جهنم يا رب ائذن لي بالسجود شكراً لك قد أعتقت واحداً من أمة محمد من عذابي لأني أستحيي من محمد أن أعذب أحداً من أمته ولا بد لي من طاعتك.
ولفظ الصدقة أربعة أحرف كل منها إشارة إلى معنى.
أما الصاد فالصدّ أي : الصدقة تصدّ وتمنع عن صاحبها مكروه الدنيا والآخرة.
وأما الدال فالدليل لأنها تدل صاحبها إلى الجنة.
وأما القاف فقربه إلى الله تعالى.
وأما الهاء فهداية الله تعالى ، قال بعضهم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
زان يش كه دست ساقىء دهر
در جام مرارت افكند زهر
ازسر بنه اين كلاه ودستار
جهدى بكن ودلى بدست آر
كين سر همه سال باكله نيست
وين روى هميشه همومه نيست
فمن ساعده المال فلينفق في سبيل الله الملك المتعال وليشكر على غنى ومدد فلا يقطع رجاء أحد وفي الحديث : "من قطع رجاء من التجأ إليه قطع الله رجاءه".
ـ روي ـ أن بعض العلماء لما رأى هذا الحديث بكى بكاء شديداً وتحير في رعاية فحواه فقام وذهب إلى واحد من الصلحاء ليستفسر معنى هذا الحديث ويدفع شبهته فلما دخل عليه رأى ذلك الرجل الصالح يأخذ بيده خبزاً ويؤكله الكلب من يده فسلم فرد عليه السلام ولم يقم له كما كان يفعله قبل فلما أكل الكلب الخبز بالتمام قام له ولاطفه وقال معتذراً خذ العذر مني حيث لم أقم امتثالاً لقول النبي عليه السلام "من قطع رجاء" الحديث وهذا الكلب رجا مني أكل الخبز ولم أقم خشية أن أقطع رجاءه فلما سمع هذا الكلام زاد تحيراً ولم يستفسر فتعجب من كرامته وقوته في باب الولاية.
واعلم أن ثمرات الإخلاص في طلب الحق ومرضاته تكون ضعفين بالنسبة إلى من ينفق ويعمل الخيرات والطاعات لأجل الثواب الأخروي ورفعة الدرجات في الجنان فإن حظه يكون من نعم الجنة فحسب والمخلص في طلب الحق يكون له ضعف من قربة الحق وذولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وضعف من نعيم الجنة أوفى وأوفر
426
من ضعف طالب الجنة ونعيمها بأضعاف مضاعفة اللهم اهدنا إليك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/348)
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الهمزة لإنكار الوقوع كما في قوله أأضرب أبي لا لإنكار الواقع كما في قوله أتضرب أباك أي : ما كان ينبغي أن يود رجل منكم {أَن تَكُونَ لَه جَنَّةٌ} كائنة {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} والجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة وهو الأنسب بقوله تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} إذ على كونها بمعنى الأرض المشتملة على الأشجار الملتفة لا بد من تقدير مضاف أي : من تحت أشجارها {لَه فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الظرف الأول خبر والثاني حال والثالث مبتدأ أي : صفة للمبتدأ قائمة مقامه أي : له رزق من كل الثمرات كما في قوله تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) أي : وما منا أحد إلا له إلخ وليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو التكثير كما في قوله تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (محمد : 15) قلت : النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاً خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات الحال أنه قد {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} أي : كبر السن الذي هو مظنة شدة الحاجة إلى منافعها ومئنة كمال العجز عن تدارك أسباب المعاش {وَلَه ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} أي : أصابه الكبر والحال أن له ذرية صغاراً لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادي المعاش {فَأَصَابَهَآ} أي : تلك الجنة {إِعْصَارٌ} أي : ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها ساطعة إلى السماء على هيئة العمود {فِيهِ نَارٌ} شديدة {فَاحْتَرَقَتْ} فصارت نعمها إلى الذهاب وأصلها إلى الخراب فبقي الرجل متحيراً لا يجد ما يعود به عليها ولا قوة له أن يغرس مثلها ولا خير في ذريته من الإعانة لكونهم ضعفاء عاجزين عن أن يعينوه وهذا كما ترى تمثيل الحال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها ووجدها محبطة بحال من هذا شأنه وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت وترقى بفكره إلى جنات الجبروت ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً ، قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
زاهد ايمن مشو از بازىء غيرت زنهار
كه ره از صومعه تا دير مغان اين همه نيست
{كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك البيان الواضح الذي بين فيما مر من الجهاد والإنفاق في سبيل الله وقصة إبراهيم وعزير وغير ذلك لكم أيها الفريق {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} أي : الدلالات الواضحة في تحقيق التوحيد وتصديق الدين {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي : تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العبر وتعملوا بموجبها.
قال القشيري : هذه آيات ذكرها الله على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق والمنفق في سبيل الله والمنفق في الباطل هؤلاء يحصل لهم الخلف والشرف وهؤلاء يحصل لهم السرف والتلف وهؤلاء ضل سعيهم وهؤلاء شكر سعيهم وهؤلاء تزكو أعمالهم وهؤلاء حبطت أعمالهم وخسرت أموالهم وختمت بالسوء أحوالهم وتضاعف عليهم وبالهم وثقل ومثل هؤلاء كالذي أنبت زرعاً زكاً أصله ونما فضله وعلا فرعه وكثر نفعه ومثل هؤلاء كالذي خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاقت على كبر سنه غلته
427
وتواترت من كل وجه محنته هل يستويان مثلاً وهل يتقاربان شبهاً انتهى.
فلا بد من إخلاص الأعمال فإن الثمرات تبتنى على الأصل.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال حين بعث إلى اليمن يا رسول الله أوصني قال : "اخلص دينك يكفك العمل القليل" ، وعلاج الرياء على ضربين : أحدهما قطع عروقه واستئصال أصوله وذلك بإزالة أسبابه وتحصيل ضده وأصل أسبابه حب الدنيا واللذة العاجلة وترجيحها على الآخرة.
والثاني دفع ما يخطر من الرياء في الحال ودفع ما يعرض منه في أثناء العبادة فعليك في أول كل عبادة أن تفتش قلبك وتخرج منه خواطر الرياء وتقره على الإخلاص وتعزم عليه إلى أن تتم لكن الشيطان لا يتركك بل يعارضك بخطرات الرياء وهي ثلاث : مرتبة العلم باطلاع الخلق أو رجاؤه ثم الرغبة في حمدهم وحصول المنزلة عندهم ثم قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه فعليك رد كل منها ، قال السعدي قدس سره :
قيامت كسى بيني اندر بهشت
كه معنى طلب كرد ودعوى بهشت
كنهكار اندشناك از خداي
بسى بهتر از عابد خود نماى
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/349)
وفي "التاتارخانية" لو افتتح الصلاة خالصاًتعالى ثم دخل في قلبه الرياء فهو على ما افتتح والرياء لو خلا عن الناس لا يصلي ولو كان مع الناس يصلي فأما لو صلى مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب أصل الصلاة دون الإحسان ولا يدخل الرياء في الصوم روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الباري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق وأكثر الزاد فإن السفر بعيد وأقل من الحمولة فإن الطريق مخوف وأخلص العمل فإن الناقد بصير" والمراد من تجديد السفينة تحقيق الإيمان وتكرير التوحيد ومن البحر هو جهنم قال تعالى : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم : 72) والمراد بالسفر سفر الآخرة والقيامة قال تعالى : {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة : 50) وزاد النعيم الطاعات وزاد الجحيم السيئات والمراد بالحمولة الذنوب والخطايا وأريد بإقلالها نفيها رأساً وإنما كان طريق الآخرة مخوفاً لأن الزبانية يأخذون أصحاب الحمل الثقيل من الطريق وليس هناك أحد يعين على حمل أحد وينصره وإن كان من أقربائه قال تعالى : {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا} (فاطر : 18) والمراد بالناقد هو الله تعالى وهو طيب لا يقبل إلا الطيب الخالص عن الشرك والرياء قال تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا} (الكهف : 110) أي : خالصاً لوجهه تعالى {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا} (الكهف : 110) وفي الحديث قال الله تعالى : "أنا غني عن الشركاء فمن عمل لي وأشرك فيه غيري فإني بريء منه" وذكر عن وهب بن منبه أنه قال : أمر الله تعالى إبليس أن يأتي محمداً عليه السلام ويجيبه عن كل ما يسأله فجاءه على صورة شيخ وبيده عكازة فقال له : "من أنت" قال : أنا إبليس قال : "لماذا جئت" قال : أمرني ربي أن آتيك وأجيبك وأخبرك عن كل ما تسألني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "فكم أعداؤك من أمتي" قال : خمسة عشر.
أنت أولهم.
وإمام عادل.
وغني متواضع.
وتاجر صدوق.
وعالم متخشع.
ومؤمن ناصح.
ومؤمن رحيم القلب.
وثابت على التوبة.
428
ومتورع عن الحرام.
ومؤمن مديم على الطهارة.
ومؤمن كثير الصدقة.
ومؤمن حسن الخلق مع الناس.
ومؤمن ينفع الناس.
وحامل القرآن المديم عليه.
وقائم الليل والناس نيام قال عليه السلام : "فكم رفقاؤك من أمتي" قال : عشرة.
سلطان جائر.
وغني متكبر.
وتاجر خائن.
وشارب الخمر.
والقتات.
وصاحب الرياء.
وآكل الربا.
وآكل مال اليتيم.
ومانع الزكاة.
والذي يطيل الأمل وفي الحديث "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبين الله ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا الله ولو بشق تمرة".
قال شيخي العلامة أبقاء الله بالسلامة قيل لي في قلبي أحسن أخلاق المرء في معاملته مع الحق التسليم والرضى وأحسن أخلاقه في معاملته مع الخلق العفو والسخاء ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
غم وشادمان نماند وليك
جزاى عمل ماند ونام نيك
كرم اي دارد نه ديهيم وتخت
بده كز تواين ماند اي نيكبخت
مكن تكيه برملك وجاه وحشم
كه يش ازتو بودست وبعد ازتوهم
†
الحمدالذي أمر المؤمنين بالإنفاق ، ليزكي به نفوسهم عن سفساف الأخلاق ، وهدي العارفين إلى بذل المال والروح ، ليفتح لهم أبواب الفتوح ، والصلاة على المتخلق بأخلاق مولاه ، سيدنا محمد الذي جاء بالشفاعة لمن يهواه ، وعلى آله وأصحابه ممن أثر الله على ما سواه ، ووثق في أجر الإنفاق بربه الذي أعطاه ، وبعد فإن العبد العليل سمي الذبيح إسماعيل ، الناسح البروسي ثم الأسكوبي ، أوصله الله إلى غاية المقام الحي ، يقول لما ابتليت بالنصح والعظة ، اهتممت في باب الموعظة ، فكنت التقط من التفاسير ، وأنظم في سلك التحرير ، ما به ينحل عقد الآيات القرآنية ، والبينات الفرقانية ، من غير تعرض لوجوه المعاني مما يحتمله المباني قصداً إلى التكلم بقدر عقول الناس وتصدياً للاختصار الحامل على الاستئناس وأضم إلى كل آية ما يناسبها من الترغيب والترهيب وبعض من التأويل الذي لا يخفى على كل لبيب حتى انتهيت من سورة البقرة إلى ما هنا من آيات الإنفاق بعون الله الملك الخلاق فجعلت أول هذه الآية معنوناً ليكون هذا النظم مع ما يضم إليه مدوناً مقطوعاً عما قبله من الآيات مجموعاً بلطائف العظات ومن الله استمد أن يمهلني إلى أن آخذ بهذا المنوال القرآن العظيم وأقضي هذا الوطر الجسيم وأتضرع أن يجعله منتفعاً به وذخر اليوم والمعاد ونعم المسؤول والمراد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/350)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي : من حلال ما كسبتم أو جياده لقوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران : 92) وفسر صاحب "الكشاف" الطيبات بالجياد حيث قال من طيبات ما كسبتم من جياد مكسوباتكم.
ذكر بعض الأفاضل أنه إنما فسر الطيب بالجيد دون الحلال لأن الحل استفيد من الأمر فإن الإنفاق من الحرام لا يؤمر به ولأن قوله تعالى بعده {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} والخبيث هو الرديء المستخبث يدل على أن المعنى أنفقوا مما يستطاب من أكسابكم {وَمِمَّآ} أي : ومن
429
طيبات ما {أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ} من الحبوب والثمار والمعادن {وَلا تَيَمَّمُوا} أي : لا تقصدوا {الْخَبِيثَ} أي : الرديء الخسيس.
والخبيث نقيض الطيب ولهما جميعاً ثلاثة معان : الطيب الحلال والخبيث الحرام والطيب الطاهر والخبيث النجس والطيب ما يستطيبه الطبع والخبث ما يستخبثه {مِنْهُ تُنفِقُونَ} الجار متعلق بتنفقون والضمير للخبيث والتقديم للتخصيص والجملة حال من فاعل تيمموا أي : لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه والتخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من إنفاق الخبيث خاصة لا تسويغ إنفاقه مع الطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه {وَلَسْتُم بِاَاخِذِيهِ} حال من واو تنفقون أي : تنفقون والحال أنكم لا تأخذون الخبيث في معاملاتكم في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه {إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} أي : إلا وقت إغماضكم فيه أو إلا بإغماضكم يعني لو كان لكم على رجل حق فجاء برديء ماله بدل حقكم الطيب لا تأخذونه إلا في حال الإغماض والتساهل مخافة فوت حقكم أو لاحتياجكم إليه من قولك أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ويقال للبائع أغمض أي : لا تستقص كأنك لا تبصر {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لمنفعتكم.
وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى فإن إعطاء مثله إنما يكون عادة عند اعتقاد المعطي إلى الآخذ محتاج إلى ما يعطيه بل مضطر إليه {حَمِيدٌ} مستحق للحمد على نعمه العظام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
واعلم أن المتصدق كالزارع إذا كان له اعتقاد بحصول الثمرة يبالغ في الزراعة وجودة البذر لتحققه أن جودة البذر مؤثرة في جودة الثمرة وكثرتها فكذلك المتصدق إذا ازداد إيمانه بالله والبعث والثواب والعقاب يزيد في الصدقة وجودتها لتحققه أن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً والعبد كما أعطى الله أحب ما عنده فإن الله يجازيه بأحب ما عنده كما قال تعالى : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} (الرحمن : 60) ودلت الآية على جواز الكسب وأن أحسن وجوه التعيش هو التجارة والزراعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن أطيب ما أكله الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" وكذلك أطيب الصدقات ما كانت من عمل اليد :
بقنطار زر بخش كردن زكنج
نباشد و قيراط از دست رنج
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يكسب عبد مالاً حراماً فيتصدق منه فيقبل منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إلى الله تعالى لا يمحو السيىء بالسيىء ولكن يمحو السيىء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث" ووجوه الإنفاق والصدقة كثيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة".
ـ روي ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم حثّ أصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان أبو أمامة الباهلي جالساً بين يدي النبي عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إنك تحرك شفتيك فماذا تقول" قال : إني أرى الناس يتصدقون وليس معي شيء أتصدق به فأقول في نفسي سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر فقال صلى الله عليه وسلّم "هؤلاء الكلمات
430
خير لك من مدّ ذهباً تتصدق به على المساكين".
فعلى العاقل أن يواظب على الأذكار في الليل والنهار ويتصدق على الفقراء والمساكين بخلوص النية واليقين في كل حين :
كرامت جوا نمردى ونان دهيست
مقالات بيهوده طبل تهيست
وجلس الإسكندر يوماً مجلساً عاماً فلم يسأل فيه حاجة فقال : والله ما أعد هذا اليوم من ملكي قيل : ولم أيها الملك؟ قال : لأنه لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين وإغاثة الملهوفين ومكافأة المحسنين.
قال السري السقطي قدس سره في وصف الصوفية أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم العرضى ومن تخليهم عن الأملاك ومفارقتهم إياها سموا فقراء فالصوفي ما لم يبذل ماله وروحه في طلب الله فهو صاحب دنيا والدنيا مانعة عن الوصول فعليك بالإيثار وكمال الافتقار.
(1/351)
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر مترتباً على شيء من زمان أو غيره يستعمل في الشر استعماله في الخير قال الله تعالى : {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الحج : 72) والمعنى أن الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل : أمسك مالك فإنك إذا تصدقت به افتقرت {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ} أي : بالخصلة الفحشاء أي : يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر المأمور على فعل المأمور به والعرب تسمي البخيل فاحشاً {وَاللَّهُ يَعِدُكُم} أي : في الإنفاق {مَّغْفِرَةً} لذنوبكم أي : مغفرة كائنة {مِنْهُ} عز وجل {وَفَضْلا} كائناً منه تعالى أي : خلفاً مما أنفقتم زائداً عليه في الدنيا وثواباً في العقبى وفيه تكذيب للشيطان {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} قدرة وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه {عَلِيمٌ} مبالغ في العلم فيعلم إنفاقكم فلا يكاد يضيع أجركم.
{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ} أي : مواعظ القرآن ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعلم والعمل بها أي : يبينها ويوفق للعمل بها {مَن يَشَآءُ} من عباده أي : يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي عليها يدور فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها.
والموصول مفعول أول ليؤتي قدم عليه الثاني للعناية به {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} أي : يعط العلم والعمل {فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} أي : أي خير كثير فإنه قد حيز له خير الدارين {وَمَا يَذَّكَّرُ} أي : وما يتعظ بما أوتي من الحكمة {إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ} أي : العقول الخالصة من شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى.
فالمراد منهم الحكماء العلام العمال ولا يتناول كل مكلف وإن كان ذا عقل لأن من لا يغلب عقله على هواه فلا ينتفع به فكأنه لا عقل له قيل : من أعطى علم القرآن ينبغي أن لا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم لأن ما أعطيه خير كثير والدنيا متاع قليل ولقوله عليه السلام : "القرآن غني لا غنى بعده".
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
والإشارة أن الشيطان فقير يعد بالفقر ظاهراً فهو يأمر بالفحشاء حقيقة.
والفحشاء اسم جامع لكل سوء لأن عدته بالفقر تتضمن معاني الفحشاء وهي البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق للخلق بالرزق والخلف للمنفق ومضاعفة الحسنات وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه وتكذيب قول الحق ونسيان فضله وكرمه وكفران النعمة والإعراض عن الحق والإقبال على الخلق وانقطاع الرجاء من الله تعالى وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وإيثار الحظوظ الدنيوية وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبزر كل بلية فمن فتح على نفسه باب وسوسته
431
فسوف يبتلى بهذه الآفات ومن سد هذا الباب فإن الله يكرمه بأنواع الكرامات ورفعة الدرجات والله واسع عليم يؤتي من اجتنب عن وساوسه الحكمة وهي من مواهبه ترد على قلوب الأنبياء والأولياء عند تجلي صفات الجلال والجمال وفناء أوصاف الخلقية بشواهد صفات الخالقية فيكاشف الأسرار بحقائق معان أورثتها تلك الأنوار سراً بسر وإضماراً بإضمار.
فحقيقة الحكمة نور من أنوار صفات الحق يؤيد الله به عقل من يشاء من عباده فهذه ليست مما تدرك بالعقول والبراهين العقلية والنقلية وأما المعقولات فهي مشتركة بين أهل الدين وأهل الكفر فالمعقول ما يحكم العقل عليه ببرهان عقلي وهذا ميسر لكل عاقل بالدراية وعالم بالقراءة فمن صفى عقله عن شوب الوهم والخيال فيدلك عقله المعقول بالبرهان دراية عقلية ومن لم يصف العقل عن هذه الآفات فهو يدرك المعقول قراءة بتفهيم أستاذ مرشد فأما الحكمة فليست من هذا القبيل وما يذكر إلا أولو الألباب وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول الإنسانية بل سعوا في طلب لبها بمتابعة الأنبياء عليهم السلام فأخرجوهم من ظلمات قشور العقول الإنسانية إلى نور لبّ المواهب الربانية فتحقق لهم أن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور فانتبه أيها المغرور المفتون بدار الغرور فلا يغرنك بالله الغرور قال من قال :
نكر تاقضا از كجاسير كرد
كه كورى بودتكيه بر غير كرد
فغان ازبديها كه در نفس ماست
كه ترسم شود ظن إبليس راست
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/352)
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاب الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" قال : "وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" فالمؤمن يتخلق بأخلاق الله ويجود على الفقراء ويدفع ما وسوس إليه الشيطان من خوف الفقر فإن الله بيده مفاتيح الأرزاق وهو المعطي على الإطلاق {وَمَا} كلمة شرط وهي للعموم {أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ} أي : أي نفقة كانت في حق أو باطل في سر أو علانية قليلة أو كثيرة {أَوْ نَذَرْتُم} النذر عقد الضمير على شيء والتزامه وهو في الشرع التزام بر له نظير في الشرع ولهذا لو نذر سجدة مفردة لا يصح إلا أن تكون للتلاوة عند أبي حنيفة وأصحابه {مِّن نَّذْرٍ} أي : نذر كان في طاعة أو معصية بشرط أو بغير شرط متعلق بالمال أو بالأفعال كالصلاة والصيام ونحوهما {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} الضمير عائد إلى ما أي : فإنه تعالى يجازيكم عليه البتة إن خيراً فخير وإن شراً فشر فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ} بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقات وعدم الوفاء بالنذور أو بإنفاق الخبيث أو بالرياء والمنّ والأذى وغير ذلك مما ينتظمه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه الذي يحق أن يوضع فيه {مِنْ أَنصَارٍ} أي : أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابه لا شفاعة ولا مدافعة وإيراد صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي : وما لظالم من الظالمين من نصير من الأنصار.
{إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِىَ} أي : إن تظهروا الصدقات فنعم شيء إبداؤها بعد أن لم يكن رياء وسمعة وهذا في الصدقات المفروضة وأما في صدقة التطوع فالإخفاء أفضل وهي التي أريد بقوله : {وَإِن تُخْفُوهَا} أي : تعطوها خفية {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ} ولعل التصريح بإيتائها الفقراء
432
مع أنه واجب في الإبداء أيضاً لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سراً ولا يفعل ذلك عند الناس {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي : فالإخفاء خير لكم من الإبداء وكل متقبل إذا صلحت النية وهذا في التطوع ومن لم يعرف بالمال وأما في الواجب فبالعكس ليقتدى به كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل والنافلة في البيت ولنفي التهمة وسوء الظن حتى إذا كان المزكّي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل خوف الظلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً الله {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّاَاتِكُمْ} من تبعيضية أي : شيئاً من سيئاتكم لأنه يمحو بعض الذنوب بالتصدق في السر والعلانية أو زائدة على رأي الأخفش فالمعنى يمحو عنكم جميع ذنوبكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأسرار والإعلان {خَبِيرٌ} فهو ترغيب في الإسرار.
ذكر الإمام في أن الإسرار والإخفاء في صدقة التطوع أفضل وجوهاً :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
الأول : أنها أبعد من الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلّم "لا يقبل من مسمع ولا مرائي ولا منّان" والمتحدث في صدقة لا شك أنه يطلب السمعة والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء فالإخفاء والسكوت هو المخلص منهما.
وقد بالغ قوم في صدقة الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم أحد فكان بعضهم يلقيها في يد أعمى وبعضهم يلقيها في طريق الفقير في موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يشدها في ثوب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره.
ثانيها : أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له من الناس شهرة وتمدح وتعظيم فكان ذلك أشق على النفس فوجب أن يكون أكثر ثواباً.
وثالثها : قوله صلى الله عليه وسلّم "أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر" وقال أيضاً : "إن العبد يعمل عملاً إن في السر فيكتبه الله تعالى سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء" وفي الحديث : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عدل وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال : إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وقال صلى الله عليه وسلّم "صدقة السر تطفىء غضب الرب".
(1/353)
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة فهو إن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها صار في ذلك سبباً لاقتداء الخلق به فالإظهار أفضل.
قال محمد بن علي الحكيم الترمذي أن الإنسان إذا أتى بعمله وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يردد عليه رؤية الخلق والقلب ينكر ذلك ويدفعه فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل في السرّ سبعين ضعفاً على العلانية ثم إن تقرب العبد إلى الله إنما يكون بفرض أوجبه الله عليه أو بنفل أوجبه العبد على نفسه.
فعلى كلا التقديرين الله عليم بهما فيجازي العبد بهما كما قال في حديث رباني "لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل ما افترضت عليهم ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش"
433
ولكن الشأن إخلاص العملمن غير شوبه بعلة دنيوية أو أخروية فإنها شرك والشرك ظلم عظيم فلا بد من الاجتناب :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
و رويى بخدمت نهى بر زمين
خدارا ثنا كوى وخودرا مبين
فإخفاء الصدقة إشارة في الحقيقة الى تخليصها من شوب الحظوظ النفسانية لتكون خالصةفصاحبها يكون في ظل الله وإن كانت صدقته للجنة فيكون في ظل الجنة وإن كانت صدقته للهوى فيكون في ظل هاوية فافهم جداً :
رطب ناورد وب خر زهره بار
ه تخم افكني بر همان شم دار
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} أي : لا يجب عليك يا محمد أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجب عليك الإرشاد إلى الخير والحثّ عليه والنهي عن الشر والردع عنه بما أوحي إليك من الآيات والذكر الحكيم والخطاب خاص والمراد عام يتناول كل أهل الإسلام {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى} هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتماً {مَن يَشَآءُ} هدايته إلى ذلك ممن يتذكر بما ذكر ويتبع ويختار الخير فهدى التوفيق على الله وهدى البيان على النبي صلى الله عليه وسلّم وقيل لما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت أي : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وفيه إيماء إلى أن الكفر لا يمنع صدقة التطوع واختلف في الواجب فجوزه أبو حنيفة وأباه غيره {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي : أي شيء تتصدقوا كائن من مال {فَلانفُسِكُمْ} أي : فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنّوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث أو فنفعه الديني لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدين من فقراء المشركين.
وعن بعض العلماء لو كان شرّ خلق الله لكان لك ثواب نفقتك {وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} استثناء من أعم العلل أو أعم الأحوال أي : ليست نفقتكم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء وجه الله أوليست في حال من الأحوال إلا حال ابتغاء وجه الله فما بالكم تمنّون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله {وَمَا تُنفِقُوا} أي : أي شيء تنفقوا {مِّنْ خَيْرٍ} في أهل الذمة وغيرهم {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي : يوفر لكم أجره وثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه على أحسن الوجوه وأجملها {وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي : لا تنقصون شيئاً مما وعدتم من الثواب المضاعف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{لِلْفُقَرَآءِ} أي : اجعلوا ما تنفقونه للفقراء {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي : حبسوا نفوسهم في طاعته من العزو والجهاد {لا يَسْتَطِيعُونَ} لاشتغالهم به {ضَرْبًا فِى الأرْضِ} أي : ذهاباً فيها وسيراً في البلاد للكسب والتجارة وقيل : هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى
434
(1/354)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : "أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقي الله من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي" {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} أي : يظنهم الجاهل بحالهم وشأنهم {أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي : من أجل تعففهم عن المسألة وهو ترك الطلب ومنع النفس عن المراد بالتكلف استحياء {تَعْرِفُهُم} أي : تعرف فقرهم واضطرارهم {بِسِيمَـاهُمْ} أي : بما تعاين منهم من الضعف ورثا رثة الحال.
والسيما والسيمياء العلامة التي تعرف بها الشيء {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى} مفعول له ففيه نفي السؤال والإلحاف جميعاً أي : لا يسألون الناس أصلاً فيكون إلحافاً والإلحاف الإلزام والإلحاح وهو أن يلازم السائل المسؤول حتى يعطيه ويجوز السؤال عند الحاجة والإثم مرفوع قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءه أعطوه أو منعوه" وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السائل الملحف" {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو ترغيب في الصدق لا سيما على هؤلاء ثم زاد التحري عليه بقوله :
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي : يعمون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال وقيل : نزلت في شأن الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة آلاف منها بالليل وعشرة بالنهار وعشرة سراً وعشرة علانية {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي : ثوابهم حاضر {عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من مكروه آت {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من محبوب فات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
واعلم أن الاتفاق على سادة اختاروا الفقر على الغنى محبةواقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حرفة فإنه صلى الله عليه وسلّم يقول : "لي حرفتان الفقر والجهاد" وهم أحق بها وأولى والعبد إذا أنفق من كل معاملة فيها خير من المال أو الجاه أو خدمة النفس أو إعزاز أو إكرام أو إعظام أو إرادة بالقلب حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقاً وإجلالاً لا استخفافاً وإذلالاً فإن الله به عليم فإن تقرب إليه في الإنفاق بشبر يتقرب هو إليه في المجازاة بذراع وإن تقرب بذراع يتقرب إليه بباع فلا نهاية لفصله ولا غاية لكرمه فطوبى لمن ترك الدنيا بطيب القلب واختار الله على كل شيء ومن كانكان الله له.
روي أن حسن ستة أشياء في ستة : العلم ، والعدل ، والسخاوة ، والتوبة ، والصبر ، والحياء.
العلم في العمل.
والعدل في السلطان.
والسخاوة في الأغنياء.
والتوبة في الشباب.
والصبر في الفقر.
والحياء في النساء.
العلم بلا عمل كبيت بلا سقف والسلطان بلا عدل كبئر بلا ماء.
والغنى بلا سخاوة كسحاب بلا مطر.
والشباب بلا توبة كشجر بلا ثمر.
والفقر بلا صبر كقنديل بلا ضياء.
والنساء بلا حياء كطعام بلا ملح.
فعلى الغني أن يمطر من سحاب غني بركات الدين والدنيا وتسبب لإحياء قلوب ماتت بالفقر والاحتياج فإن الله لا يضيع أجر المحسنين :
بسند يده رأيى كه بخشيد وخورد
جهان ازى خويشتن كرد كرد
435
يعني إن الذي له رأي صائب هو الذي تنعم بماله وأنعم وجمع الدنيا لأجله لا لغيره فإن من جمع مالاً ولم يأكل منه ولم يعط فهو جامع لغيره في الحقيقة إذ هو لوارثه بعده.
(1/355)
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا} أي : يأخذونه وعبر عنه بالأكل لأنه معظم المقصود من المال ولشيوعه في المطعومات والربا فضل في الكيل والوزن خال عن العوض عند أبي حنيفة وأصحابه ويجري في الأشياء الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح وكتب بالواو تنبيهاً على أصله لأنه من ربا يربو وزيدت الألف تشبيهاً بواو الجمع {لا يَقُومُونَ} أي : من قبورهم إذا بعثوا {إِلا كَمَا يَقُومُ} أي : إلا قياماً مثل قيام {الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ} أي : يضربه ويصرعه {الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ} أي : الجنون متعلق بلا يقومون يعني لا يقومون من المس الذي بهم إلا كقيام المصروع المختل أي : فاسد العقل ويكون ذلك سيماهم يعرفون به عند أهل الموقف وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله تعالى في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض {ذَالِكَ} أي : العذاب النازل بهم {بِأَنَّهُمْ قَالُوا} أي : بسبب قولهم {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فنظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه استحلاله وقالوا : يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين وحق الكلام أن يقال : إنما الربا مثل البيع إلا أنه على المبالغة أي : اعتقدوه حلا حتى ظنوا أنه أصل أو قالوا : إنما البيع مثل الربا فلم لا يحل فإن الزيادة في أوله كما هي في آخره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
ـ روي ـ أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حلّ ماله على غريمه فطالبه به يقول الغريم لصاحب الأجل زدني شيئاً في الأجل حتى أزيدك في المال فيفعلان ذلك ويقولان سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله وقال : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أي : كيف يتماثلان والبيع محلل بتحليل الله والربا محرم بتحريم الله تعالى {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ} أي : فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا {مِّنْ رَّبِّه فَانتَهَى} أي : فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي {فَلَه مَا سَلَفَ} أي : مضى من ذنبه فلا يؤاخذ به لأنه أخذ قبل نزول التحريم وجعل ملكاً له ولا يسترد منه {وَأَمْرُه إِلَى اللَّهِ} يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية.
وقيل : يحكم في شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به {وَمَنْ عَادَ} إلى الربا مستحلاً بعد النهي كما استحل قبله فأولئك إشارة إلى من باعتبار المعنى {أَصْحَـابُ النَّارِ} أي : ملازموها {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} ماكثون أبداً.
{يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا} المحق نقضان الشيء حالاً بعد حال حتى يذهب كله كما في محاق الشهر وهو حال آخذ الربا فإن الله يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ولا ينتفع به ولده بعده {وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ} يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة.
ـ روي ـ عنه صلى الله عليه وسلّم "إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربى أحدكم مهره" وعنه أيضاً "ما نقصت زكاة من مال قط" {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ} أي : لا يرضى لأن الحب مختص بالتوابين {كُلَّ كَفَّارٍ} مصر على تحليل المحرمات {أَثِيمٍ} منهمك في ارتكابها.
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله ورسوله صلى
436
الله عليه وسلّم وبما جاءهم به {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي : الطاعات {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما في الصالحات لإنافتهما على سائر الأعمال الصالحة {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} الموعود لهم حال كونه {عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من مكروه آت {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من محبوب فات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
واعلم أن آكل الربا لحرصه على الدنيا مثله كمثل من به جوع الكلب فيأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فكلما يقوم يصرعه ثقل بطنه فكذا حال أهل الربا يوم القيامة ، ونعم ما قيل :
تواب بحلق فرو بردن استخوان درشت
ولي شكم بدرد ون بكير دندار ناف
فالعاقل لا يأكل ما لا يتحمله في الدنيا والآخرة فطوبى لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها فهو ينجو من وبالها وهو مثل التاجر الذي يكسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدي حقه وإن كان له حرص في الطلب والجمع ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ولا يمنع ذا الحق حقه ما أضرّ به كما أضرّ بآكل الربا.
(1/356)
ـ روي ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن ثمن الدم وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والواشمة والمستوشمة والمصور قال عليه السلام : "الربا بضع وسبعون باباً أدناها كإتيان الرجل أمه" يعني كالزنى بأمه والعياذ بالله فمن سمع هذا القول العظيم فليبادر بالتوبة إلى باب المولى الكريم ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا وكان لأبي حنيفة رحمه الله على رجل ألف درهم سود فرد عليه ألف درهم بيض فقال أبو حنيفة : لا أريد هذا الأبيض بدل دراهمي فأخاف أن يكون هذا البياض ربا فرده وأخذ مثل دراهمه.
قال أبو بكر : لقيت أبا حنيفة على باب رجل وكان يقرع الباب ثم يتنحى ويقوم في الشمس فسألته عنه فقال : إن لي على صاحبه ديناً وقد نهي عن قرض جرّ منفعة فلا أنتفع بظل حائطه.
ويقرب منه ما روي عن أبي يزيد البسطامي قدس سره من أنه اشترى من همذان حب القرطم ففضل منه شيء فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين فرجع إلى همذان ووضع النملتين فهذا هو الورع وكمال التقوى ومثل هذا لا يوجد في هذا الزمان وإن وجد فأقل من القليل وأكثر الناس ولو كانوا صوفية لا يفرقون بين الحلال والحرام والشبهات ولذا ترى أمر الدين صار مهملاً وعاد غريباً هدانا الله وإياكم إلى سواء الطريق إنه ولي التوفيق ، قال جلال الدين الرومي :
اى زخودت بي وقوف لاف ترا يوف يوف
فضل نبخشد تراجبه ودستار وصوف
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي : قوا أنفسكم عقابه {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا} أي : واتركوا تركاً كلياً ما بقي لكم غير مقبوض من مال الربا على من عاملتموه به {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} على الحقيقة فإن ذلك مستلزم لامتثال ما أمرتم به البتة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
ـ روي ـ أنه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} أي : ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقاء إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف بها أي : فاعلموا من أذن بالأمر إذا أعلم به {بِحَرْبٍ} أي : بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره
437
كائن {مِّنْ} عند {اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وحرب الله حرب ناره أي : بعذاب من عنده وحرب رسوله نار حربه أي : القتال والفتنة فلما نزلت قالت ثقيف لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله {وَإِن تُبْتُمْ} من الارتباء مع الإيمان بحرمته بعد ما سمعتموه من الوعيد {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} تأخذونها كملاً {لا تُظْلَمُونَ} غرماءكم بأخذ الزيادة {وَلا تُظْلَمُونَ} أنتم من قبلهم بالمطل وانتقص عن رأس المال هذا هو الحكم إذا تاب ومن لم يتب من المؤمنين وأصرّ على عمل الربا فإن لم يكن ذا شوكة عزر وحبس إلى أن يتوب وإن كان ذا شوكة حاربه الإمام كما يحارب الباغية كما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانع الزكاة وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان أو ترك دفن الموتى.
{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} أي : وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة وهي بالإعدام أو كساد المتاع{فَنَظِرَةٌ} أي : فالحكم نظرة وهي من الإنظار والإمهال {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي : إلى يسار {وَأَن تَصَدَّقُوا} أي : وتصدقكم بإسقاط الدين كله عمن أعسر من الغرماء أو بالتأخير والإنظار {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي : أكثر ثواباً {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابه محذوف أي : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة" وقال صلى الله عليه وسلّم "من أنظر معسراً أو وضع له أنجاه الله من كرب يوم القيامة" وفي القرض والإدانة فضائل كثيرة.
ـ روي ـ أن أمامة الباهلي رضي الله عنه رأى في المنام على باب الجنة مكتوباً القرض بثمانية عشر أمثاله والصدقة بعشر أمثالها فقال : ولم هذا؟ فأجيب بأن الصدقة ربما وقعت في يد غني وإن صاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاج قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ثلاث من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل من أي : أبواب الجنة شاء وزوج من حور العين كم شاء من عفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة قل هو الله أحد عشر مرات ومن أدان ديناً لمن يطلب منه" فقال أبو بكر الصديق أو إحداهن يا رسول الله قال : "أو إحداهن".
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/357)
واعلم أن الاستدانة في أحوال ثلاث في ضعف قوته في سبيل الله وفي تكفين فقير مات عن قلة وفقر وفي نكاح يطلب به العفة عن فتنة العذوبة فيستدين متوكلاً على الله فالله تعالى يفتح أبواب أسباب القضاء قال صلى الله عليه وسلّم "من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه" وكان جماعة السلف يستقرضون من غير حاجة لهذا الخبر ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر إليه ولو قبل وقته وعن النبي صلى الله عليه وسلّم عن جبريل عليه السلام : "الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين يا محمد" ثلاثاً.
فعلى العاقل أن يقضي ما عليه من الديون ويخاف من وبال سوء نيته يوم يبعثون وهذا حال من أدى الفرض فإنه يهون عليه أن يؤدي القرض.
وأما المرتكب وتارك الفرائض فلا يبالي بالفرائض فكيف بالديون والإقراض ولذا قيل :
وامش مده آنكه بى نما زست
ور خود دهنش زفاقه بازست
كو فرض خدا نمى كذارد
از قرض تو نيز غم ندارد
وأحوال هذا الزمان مختلة كإخوانه فطوبى لمن تمسك بالقناعة في زمانه.
ومن شرط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في ترك زيادات لا يحتاج إليها في أمر الدين بل تكون شاغلة له عن الترقي
438
في مراتب الدين كما قال عليه السلام : "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
{وَاتَّقُوا يَوْمًا} نصب ظرفاً تقديره واتقوا عذاب الله يوماً أو مفعولاً به كقوله : {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا} أي : كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله {تُرْجَعُونَ فِيهِ} على البناء للمفعول من الرجع أي : تصيرون فيه {إِلَى اللَّهِ} لمحاسبة أعمالكم {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس أي : تعطي كملاً {مَا كَسَبَتْ} أي : جزاء ما عملت من خير أو شر {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي : لا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون على عقابهم وهو حال من كل نفس تفيد أن المعاقبين وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين في ذلك لما أنه من قبل أنفسهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما هذه آخر آية نزلت ولقي رسول الله ربه بعدها بسبعة أو تسعة أيام أو أحد وعشرين أو أحد وثمانين يوماً أو ثلاث ساعات وقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة فجعلت بين آية الدين وآية الربا تأكيداً للزجر عن الربا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وقبض يوم الاثنين وكان مريضاً ثمانية عشر يوماً يعوده الناس وكان آخر ما يقول صلى الله عليه وسلّم "الصلاة وما ملكت أيمانكم الصلاة فإناوإنا إليه راجعون" قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب" وقال عليه السلام : "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة" فقالت له عائشة رضي الله عنها فمن كان له فرط من أمتك قال : "أنا فرط لأمتي لن يصابوا بمثلي" قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) فكانت حياته ومماته رحمة قال صلى الله عليه وسلّم "إذا أراد الله بأمة رحمة قبض نبيها قبلها فجعله سلفاً وفرطاً لها" ورثاه صلى الله عليه وسلّم بعض الأنصار فقال :
الصبر يحمد في المواطن كلها
إلا عليك فإنه مذموم
واعلم أن الله تعالى جمع في هذه الآية خلاصة ما أنزله في القرآن وجعلها خاتم الوحي والإنزال كما أنه جمع خلاصة ما أنزل من الكتب على الأنبياء في القرآن وجعله خاتم الكتب كما أن النبي عليه السلام خاتم الأنبياء عليهم السلام وقد جمع فيه أخلاق الأنبياء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
فاعلم أن خلاصة جميع الكتب المنزلة فائدتها بالنسبة إلى الإنسان عائدة إلى معنيين.
أحدهما نجاته من الدركات السفلى.
وثانيهما فوزه بالدرجات العليا فنجاته في خروجه عن الدركات السفلى وهي سبعة الكفر والشرك والجهل والمعاصي والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس وفوزه في ترقيه على الدرجات العليا وهي ثمانية المعرفةوالتوحيدوالعلم والطاعات والأخلاق الحميدة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته فهذه الآية تشير إلى مجموعها إجمالاً قوله تعالى : {وَاتَّقُوا} هي لفظة شاملة لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه دليله قول النبي عليه السلام : "جماع التقوى قول الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ} (النحل : 90)" الآية فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدرجات السفلى والترقي على الدرجات العليا.
فتقوى العوام الخروج عن الكفر بالمعفرة وعن الشرك بالتوحيد
439
(1/358)
وعن الجهل بالعلم وعن المعاصي بالطاعات وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة وههنا ينتهي سير العوام لأن نهاية كسب الإنسان وغاية جهد المجتهدين في إقامة شرائط جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا.
فمن ههنا تقوى الخواص المجذوبين بجذبات لنهديهم سبلنا فتخرجهم الجذبة من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق فههنا ينقضي سلوك الخواص فيستظلون بظل سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فينتفعون من مواهب إذ يغشى السدرة ما يغشى.
وأما تقوى خواص الخواص فبجذبة رفرف العناية بجذب ما زاغ البصر وما طغى من سدرة منتهى الأوصاف إلى قاب قوسين نهاية حجب النفس وبداية أنوار القدس فهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه فبالتقوى الحقيقية يجد الإيمان الحقيقي فمعنى {وَاتَّقُوا} جاهدوا فينا بجهدكم وطاقتكم {يَوْمًا} يعني ليوم فيه لنهدينكم بجذبات العناية {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} أشار بلفظ الرجوع إليه ليعلم أن الشروع كان منه هدانا الله وإياكم إلى مقام الجمع واليقين وشرفنا بلطائف التحقيق والتمكين إنه نصير ومعين يصيب برحمته من يشاء من عباده الصالحين يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} أي : إذا داين بعضكم بعضاً وعامله نسيئة معطياً أو آخذاً كما تقول بايعته إذا بعته أو باعك وفائدة ذكر الدين دفع توهم كون التداين بمعنى المجازاة والتنبيه على تنوعه إلى الحال والمؤجل وأنه الباعث على الكتب وتعيين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر وهو فاكتبوه
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{إِلَى أَجَلٍ} متعلق بتداينتم {مُّسَمًّى} بالأيام أو الأشهر أو السنة وغيرها مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بالحصاد والدياس وقدوم الحاج مما لا يرفعها {فَاكْتُبُوهُ} أي : الدين بأجله لأنه أوثق وأدفع للنزاع والجمهور على استحبابه {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ} بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين لمن يتولاها إثر الأمر بها إجمالاً وقوله بينكم للإيذان بأن الكاتب ينبغي أن يتوسط بين المتداينين ويكتب كلامهما ولا يكتفي بكلام أحدهما {بِالْعَدْلِ} أي : كاتب كائن بالعدل أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالتسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقص وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين يجيء كتابه موثقاً به معدلاً بالشرع {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} أي : لا يمتنع أحد من الكتاب {أَن يَكْتُبَ} كتاب الدين {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} على طريقة ما علمه الله من كتب الوثائق {فَلْيَكْتُبْ} تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} الإملال هو الإملاء وهو إلقاء المعنى على الكاتب للكتابة أي : ليكن المملل أي مورد المعنى على الكاتب من عليه الحق أي : الدين لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة في التحذير أي : وليتق المملي دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى : {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ} أي : من الحق الذي يمليه على الكاتب {شَيْئًا} فإنه هو الذي يتوقع منه البخس خاصة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهى عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عن نفسه وتخفيف ما في ذمته {فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} ناقص العقل مبذراً مجازفاً {أَوْ ضَعِيفًا} صبياً أو شيخاً مختلاً {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} أي : غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس أو عيّ
440
(1/359)
أو جهل أو غير ذلك من العوارض {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي : الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم أو وكيل أو مترجم {بِالْعَدْلِ} أي : من غير نقص ولا زيادة {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} أي : اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما من المداينة وتسميتهما شهيدين لتنزيل المشارف منزلة الكائن {مِّن رِّجَالِكُمْ} متعلق باستشهدوا أي : من أهل دينكم يعني من الأحرار البالغين المسلمين إذ الكلام في معاملاتهم فإن خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة وأما إذا كانت المداينة بين الكفرة أو كان من عليه الحق كافراً فيجوز استشهاد الكافر عندنا {فَإِن لَّمْ يَكُونَا} أي : الشهيدان جميعاً على طريقة نفي الشمول لا شمول النفي {رَجُلَيْنِ} أما لإعوازهما أو لسبب آخر من الأسباب {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي : فليشهد رجل وامرأتان وشهادة النساء مع الرجال في الأموال جائزة بالإجماع دون الحدود والقصاص فلا بد فيهما من الرجال {مِمَّن تَرْضَوْنَ} متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي : كائنون مرضيين عندكم وتخصيصهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به {مِنَ الشُّهَدَآءِ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول أي : ممن ترضونهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتكم بهم وإدراج النساء في الشهداء بطريق التغليب {أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا} أي : إحدى المرأتين الشاهدتين
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{فَتُذَكِّرَ إِحْدَاـاهُمَا الاخْرَى} وهذا تعليل لاعتبار العدد في النساء والعلة في الحقيقة هي التذكير ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته كما في قولك أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه فالإعداد للدفع لا لمجيء العدو لكن قدم عليه المجيء لأنه سببه كأنه قيل لأجل أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت الشهادة بأن نسيت ثم حثّ الشهداء على إقامة الشهادة بقوله : {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا} لأداء الشهادة أو لتحملها وما مزيدة {وَلا يَأْبَ} أي : لا تملوا من كثرة مدايناتكم {أَن تَكْتُبُوهُ} أي : من أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} حال من الضمير أي : حال كونه صغيراً أو كبيراً أي : قليلاً أو كثيراً أو مجملاً أو مفصلاً {إِلَى أَجَلِهِ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من الهاء في تكتبوه أي : مستقراً في الذمة إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون {ذالِكُمْ} أي : كتب الحق إلى أجله أيها المؤمنون {أَقْسَطُ} أي : أعدل {عِندَ اللَّهِ} أي : في حكمه تعالى {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ} أي : أثبت لها وأعون على إقامتها {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} أي : أقرب إلى انتفاء ريبكم في جنس الدين وقدره وأجله وشهوده ونحو ذلك {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} استثناء منقطع من الأمر بالكتابة أي : لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تدبرونها بينكم بتعاطيها يداً بيد {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} أي : فلا بأس بأن لا تكتبوها لبعده عن التنازع والنسيان {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أي : هذا التبايع أو مطلقاً لأنه أحوط.
والأوامر الواردة في الآية الكريمة للندب عند الجمهور {وَلا يُضَآرَّ} يحتمل البناء على الفاعل وعلى المفعول فعلى الأول نهي للكاتب عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منه وعن التحريف والزيادة والنقصان أي : لا يمتنع
441
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{كَاتِبُ} عن الكتابة المقصودة {وَلا شَهِيدٌ} أي : ولا يمتنع الشاهد عن إقامة الشهادة المعلومة وعلى الثاني النهي عن الضرار بالكاتب والشاهد أي : لا يوصل أحد مضرة للكاتب والشهيد إذا كانا مشغولين بما يهمهما ويوجد غيرهما فلا يضاران بإبطال شغلهما وقد يكون إضرار الكاتب والشهيد بأن لا يعطى حقهما من الجعل فيكون النهي عن ذلك {وَإِن تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من الضرار {فَإِنَّهُ} أي : فعلكم ذلك {فُسُوقُا بِكُمْ} أي : خروج عن الطاعة ملتبس بكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أوامره ونواهيه التي من جملتها نهيه عن المضارة {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أحكامه المتضمنة لمصالحكم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك.
ثم هذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحاً وأبينها وأبلغها وجوهاً يعلم بذلك أن مراعاة حقوق الخلق واجبة والاحتياط على الأموال التي بها أمور الدين والدنيا لازم فمن سعى بالحق فقد نجا وإلا فقد غوى :
كسى راكه سعى قدم بيشتر
بدركاه حق منزلش يشتر(1/360)
والله تعالى من كمال رحمته على عباده علمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم لئلا يجري من بعضهم على بعض حيف ولئلا يتخاصموا ويتنازعوا فيحقد بعضهم على بعض فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة وأمر الكاتب أن يكتب كما علمه الله بالعدل وراعى في ذلك دقائق كثيرة كما ذكرها ، فيشير بهذه المعاني إلى ثلاثة أحوال :
أحولها : حال الله تعالى مع عباده فيظهر من آثار ألطافه معهم أنه تعالى كيف يرفق بهم ويعلمهم كيفية معاملاتهم الدنيوية حتى لا يكونوا في خسران من أمر دنياهم ولا يكون فيما بينهم عداوة وخصومة تؤدي إلى تنغيص عيشهم في الدنيا وعقوبة في الآخرة فيستدلوا بها على أن تكاليف الشرع التي أمروا بها أيضاً من كمال مرحمته استعملهم بها ليفيض بها عليهم سجال نعمه كقوله تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ} (المائدة : 6) الآية.
وثانيها حال العباد مع الله ليعلموا برعاية هذه الدقائق للأمور الدنيوية الفانية أن للأمور الأخروية الباقية فيما بينهم وبين الله أيضاً دقائق كثيرة والعباد بها محاسبون وعلى مثقال ذرة من خيرها مثابون وعلى مثقال ذرة من شرها معاقبون وأنها بالرعاية أولى وأحرى من أمور الدنيا وأن الله تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليهم العدول قد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق فإن الله تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعلى هذا عاهدهم وأشهد الملائكة الكرام عليه ثم رقم في الكتاب أن ياقوتة من الجنة وديعة وهي الحجر الأسود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
وثالثها : حال العباد فيما بينهم فليعتبر كل واحد منهم من ملاطفات الحق معهم وليتخلق بأخلاق الحق في مخالقتهم وليتوسل إلى الله بحسن مرافقتهم وليحفظ حدود الله في مخالفتهم وموافقتهم وليتمسك بعروة محبتهم في الله وجذبتهمونصحهم بالله ليحرز في رفقتهم صراطاً مستقيماً ويفوز من زمرتهم فوزاً عظيماً ففي جميع الأحوال كونوا مع الله كما قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَا وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أي : اتقوا في الأحوال الثلاثة كما يعلمكم الله بالعبارات والإشارات {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} تعملونه في جميع الأحوال من الأقوال والأفعال
442
{عَلِيمٌ} يعلم مضمون ضمائركم ومكنون سرائركم فيجازيكم على حسن معاملتكم بقدر خلوصكم وصفاء نياتكم وصدق طوياتكم فطوبى لمن صفى قلبه عن سفساف الأخلاق وعزم إلى عالم السر والإطلاق وأحسن المعاملة مع الله في جميع الحالات ووصل إلى الدرجات العاليات :
حقائق سراييست آراسته
هوا وهوس كرد برخاسته
نه بيني كه جايى كه برخاست كرد
نه بيند نظر كره بيناست مرد
يعني أن عالم الغيب كالبيت المزين والهوى كالنقع المثار فما دام لم يترك المرء هواه لا يرى ما يهواه فإن الحجاب إذا توسط بين الرائي والمرئي يمنع من الرؤية فارفع الموانع من البين وتشرف بوصول العين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/361)
{وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ} أي : مسافرين أي : متوجهين إليه ومقبلين {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} في المداينة بأن لا يحسن الكتابة أو لا توجد الصحيفة أو الدواة والقلم ولم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً {فَرِهَـانٌ} جمع رهن أي : فالتوثق رهن {مَّقْبُوضَةٌ} أي : مسلمة إلى المرتهن ولا بد من القبض حتى لو رهن ولم يسلم لا يجبر الراهن على التسليم وإنما شرط السفر في الارتهان مع أن الارتهان لا يختص به سفر دون حضر لأن السفر لما كان مظنة عدم الكتب بإعواز الكاتب والشاهد أمر بالارتهان ليقوم مقامهما تأكيداً وتوثيقاً لحفظ المال فالكلام خرج على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعاً من شعير وأخذه لأهله {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي : بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان فلم يطلب منه الرهن {فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ} وهو المديون والائتمان الوثوق بأمانة الرجل وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ولحمله على الأداء {أَمَـانَتَهُ} أي : فليقض المطلوب الأمين ما في ذمته من الدين من غير رهن منه وسمي الدين أمانة لتعلقه بالذمة كتعلق الأمانة {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في رعاية حقوق الأمانة وأداء الدين من غير مطل {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَـادَةَ} أيها الشهود إذا دعيتم إلى الحاكم لأدائها على وجهها {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} فاعل آثم كأنه قيل فإنه يأثم قلبه.
فإن قلت : هلا اقتصر على قوله فإنه آثم وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده.
قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها فلما كان الإثم مقترفاً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ألا تراك تقول : إذا أردت التوحيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي ولأن القلب هو رأس الأعراض والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له من معاظم الذنوب وعن ابن عباس رضي الله عنهما أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى فقد حرم الله عليه
443
الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم به إن خيراً فخير وإن شراً فشر وكتمان الشهادة وشهادة الزور من الأعمال التي تجر صاحبها إلى النار فإنهما من علامات سنخ القلب قال تعالى : {فَإِنَّه ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} والمراد سنخ القلب ونعوذ بالله من ذلك وهما أسهل وقوعاً بين الناس والحوامل عليهما كثيرة كالعداوة وغيرها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
واعلم أن أهل الدين طائفتان الواقفون ، والسائرون.
فالواقف من لزم عتبة الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى فهو كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون مشربه من عالم المعاملات البدنية فلا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام الكاتبين يكتبان عليه أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير.
والسائر من لم يقم ولم ينزل في منزل فهو مسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان : صنف سيار وصنف طيار.
فالسيار من يسير بقدم الشرع والعقل على جادة الطريقة.
والطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في قضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة فالإشارة في قوله : {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكل فلم يجد له كاتباً يكتب عليه كما قال بعضهم ما كتب على صاحب الشمال منذ عشرين سنة وقال بعضهم كاشف لي صاحب اليمين وقال لي أمل عليّ شيئاً من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله قال فقلت له : حسبك الفرائض فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هارباً منه فيحبس ويقيد ويوكل عليه فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما برح في جريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد فقوله : {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ مَّقْبُوضَةٌ} إشارة إلى اليسار الذي له قلب فيرهنه عند الله تعالى فالرهان هي القلوب التي ليس فيها غير الله المقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن فأما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب مسلوب العقل مجذوب السير فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد :
مستهام ضاق مذهبه
(1/362)
في هوى من عز مطلبه
كل أمر في الهوى عجب
وخلاصي منه أعجبه
فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنة فيهما من أولى العلم وغيره أي : كلها له تعالى خلقاً وملكاً وتصرفاً لا شركة لغيره في شيء منها بوجه من الوجوه فلا تعبدوا أحداً سواه ولا تعصوه فيما يأمركم وينهاكم {وَإِن تُبْدُوا} أي : تظهروا {مَا فِيا أَنفُسِكُمْ} أي : في قلوبكم من السوء والعزم عليه وذلك بالقول أو بالفعل {أَوْ تُخْفُوهُ} أي : تكتموه عن الناس ولا تظهروه بأحد الوجهين ككتمان الشهادة وموالاة المشركين وغيرهما من المناهي ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس وأحاديث النفس التي لا عقد ولا عزيمة فيها إذ التكليف بحسب الوسع ودفع ذلك مما ليس في وسعه {يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} أي : يجازيكم به يوم القيامة وهو حجة على منكري الحساب من المعتزلة والروافض {فَيَغْفِرُ} أي : فهو يغفر بفضله {لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له وإن كان ذنبه كبيراً {وَيُعَذِّبُ} بعدله
444
{مَن يَشَآءُ} أن يعذبه وإن كان ذنبه حقيراً حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ويعذب الكفار لا محالة لأنه لا يغفر الشرك وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته سبحانه على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب.
قال في "التيسير" دل ظاهر قوله أو تخفوه على المؤاخذة بما يكون من القلب وجملته إن عزم الكفر كفر وحضرة الذنوب من غير عزم مغفورة وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور فأما الهمّ بالسيئة ثم يمتنع عنه بمانع لا باختياره وهو ثابت على ذلك فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله يعني بالعزم على الزنى لا يعاقب عقوبة الزنى وهل يعاقب على الخاطر عقوبة عزم الزنى قيل : هو معفو لقوله صلى الله عليه وسلّم "إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يعمل أو يتكلم" وأكثرهم على أن الحديث في الحضرة دون العزمة وأن المؤاخذة في العزمة ثابتة وكذا قال الإمام أبو منصور رحمه الله انتهى ما في "التيسير".
وربما يكون للإنسان شركة في الإثم مثل القتل والزنى وغيرهما إذا رضي به من عامله واشتد حرصه على فعله وفي الحديث "من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها" وفي حديث آخر "من أحب قوماً على أعمالهم حشر في زمرتهم" أي : جماعتهم "وحوسب يوم القيامة بحسابهم وإن لم يعمل بأعمالهم" فعلى العاقل أن يرفع عن قلبه الخواطر الفاسدة ولا يجالس الجماعة الفاسقة كيلا يحشر في زمرتهم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
كر نشيند فرشته باديو
وحشت آموزد وخيانت وريو
ازبدان نيكويى نياموزى
نه كند كرك وستين دوزى
والإشارة في الآية أن الله يطالب العباد بالاستدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة لئلا يغفلوا عن حفظ حركات الظاهر وضبط خطرات الباطن فيقعوا في آفة ترك أدب من آداب العبودية فيهلكوا بسطوات الألوهية.
واعلم أن الإنسان مركب من عالمي الأمر والخلق فله روح نوراني من عالم الأمر وهو الملكوت الأعلى وله نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق ولكل واحدة منهما ميل إلى عالمها فقصد الروح إلى جوار رب العالمين وقربه وقصد النفس إلى أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم ليزكي النفوس عن ظلمة أوصافها لتستحق بها جوار رب العالمين لتزكيتها في إخفاء ظلمة أوصافها بإبداء أنوار أخلاق الروح عليها في تحليتها بها فهذا مقام الأولياء مع الله يخرجهم من الظلمات إلى النور وبعث الشيطان إلى أوليائه وهم أعداء الله ليخرج أرواحهم من النور الروحاني إلى الظلمات النفسانية بإخفاء أنواع أخلاقها في إبداء ظلمات أخلاق النفس عليها لتستحق بها دركة أسفل السافلين.
فمعنى الآية في التحقيق {وَإِن تُبْدُوا مَا فِيا أَنفُسِكُمْ} مودع من ظلمات الأوصاف النفسانية في الظاهر بمخالفات الشريعة وفي الباطن بموافقات الطبيعة {أَوْ تُخْفُوهُ} بتصرفات الطريقة في موافقات الشريعة ومخالفات الطبيعة {يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} بطهارة النفس لقبول أنوار الروح وأخلاقه أو بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس وأخلاقها {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق
445
(1/363)
{وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلي الكبير {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الخلف والأمر {قَدِيرٌ} كذا في "تأويلات الكامل نجم الدين دايه" قدس سره {الرَّسُولُ بِمَآ} أي : صدق النبي عليه السلام {بِمَآ أَنزَلَ} أي : بكل ما أنزل {إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} من آيات القرآن إيماناً تفصيلياً متعلقاً بجميع ما فيه من الشرائع والأحكام والقصص والمواعظ وأحوال الرسل والكتب وغير ذلك من حيث أنه منزل منه تعالى.
والإيمان بحقيقة أحكامه وصدق أخباره ونحو ذلك من فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة ولم يرد به حدوث الإيمان فيه بعد أن لم يكن كذلك لأنه كان مؤمناً بالله وبوحدانيته قبل الرسالة منه ولا يجوز أن يوصف بغير ذلك لكن أراد به الإيمان بالقرآن فإنه قبل إنزال القرآن إليه لم يكن عليه الإيمان به وهو معنى قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} (الشورى : 52) أي : ولا الإيمان بالكتاب فإنه قال : {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَـابُ} (القصص : 86) {وَالْمُؤْمِنُونَ} أي : الفريق المعروف بهذا الاسم وهو مبتدأ {كُلٌّ} مبتدأ ثان {مِن} خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والرابط بينهما الضمير الذي ناب منابه التنوين وتوحيد الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع وتغيير سبك النظم عما قبله لتأكيد الإشعار بما بين إيمانه صلى الله عليه وسلّم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمانهم الناشيء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والاختلاف الجلي كأنهما متخالفان من كل وجه حتى في الهيئة الدالة عليهما أي : كل منهم آمن {بِاللَّهِ} وحده من غير شريك له في الألوهية والمعبودية هذا إيمان إثبات وتوحيد {وَمَلـاـاـاِكَتِهِ} أي : من حيث أنهم عباد مكرمون له تعالى من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي وهذا إيمان تصديق أنهما من عند الله وتحليل ما أحله وتحريم ما حرمه {وَكُتُبِه وَرُسُلِهِ} أي : من الحيثية المذكورة ، هذا إيمان اتباع وإطاعة ولم يذكر الإيمان باليوم الآخر لاندراجه في الإيمان بكتبه.
وهذا على تقدير أن يوقف على قوله تعالى من ربه ويجعل والمؤمنون كلاماً ابتدائياً واختاره أبو السعود العمادي.
ويجوز أن يكون قوله والمؤمنون معطوفاً على الرسول فيوقف عليه والضمير الذي عوض عنه التنوين راجع إلى المعطوفين معاً كأنه قيل : آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم فصل ذلك.
وقيل : كل واحد من الرسول والمؤمنون آمن بالله خلا أنه قدم المؤمن به على المعطوف اعتناء بشأنه وإيذاناً بأصالته صلى الله عليه وسلّم في الإيمان به واختار الكواشي هذا الوجه حيث قال والاختيار الوقف على المؤمنون وهو حسن ليكون المؤمنون داخلين فيما دخل النبي صلى الله عليه وسلّم فيه أي : الإيمان {لا نُفَرِّقُ} أي : يقول الرسول والمؤمنون لا نميز {بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما قال اليهود والنصارى.
وأحد ههنا بمعنى الجمع أي : الآحاد فلذلك أضيف إليه بين لأنه لا يضاف إلا إلى المتعدد والأحد وضع لنفي ما يذكر معه من العدد والواحد اسم لمفتتح العدد والواحد الذي لا نظير له والوحيد الذي لا نصير له {وَقَالُوا} عطف على آمن وصيغة الجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر أثر حكاية إيمانهم {سَمِعْنَا} أي :
446
فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقناً بصحته {وَأَطَعْنَا} ما فيه من الأوامر والنواهي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
قيل : لما نزلت هذه الآية قال جبرائيل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلّم إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعط فقال الرسول عليه السلام : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي : اغفر لنا غفرانك كما قال {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد : 4) أي : فاضربوا أو نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة أو ما لا يخلو عنه البشر من التقصير في مراعاة حقوقك وهذا الوجه أولى لئلا يتكرر الدعاء بقوله في آخر السورة واغفر لنا وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي : الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك.
(1/364)
قال القاشاني : {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ} أي : صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن ومجرد قراءة القرآن بغير عمل لا يفيد.
قال في "تفسير الحنفي" مثاله : إن السلطان إذا وهب لأحد من مماليكه إمارة وأعطاه رياسة أو نيابة وكتب له توقيعاً أن يطيعه أهل البلد كلها فإذا جاء إلى البلد وقعد على المملكة وأطاعه الخلق ثم إن السلطان كتب له كتاباً وأمر له فيه أن يبني له قصراً أو داراً واسعة حتى لو حضر السلطان وجاء إلى تلك المدينة ينزل في تلك الدار أو القصر فوصل الكتاب إليه وهو لا يبني ما أمر به في الكتاب لكنه يقرأه كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد ما أمره به حاضراً هل يستحق ذلك الأمير خلعة من السلطان أو ثناء أو لا بل ظاهره أنه يستحق الضرب والشتم والحبس وكذلك القرآن إنما هو مثل هو ذلك المنشور قد أمر الله فيه لعبيده أن يعمروا أركان الدين كما قال لداود عليه السلام : (فرغ إلي بيتاً أسكنه) وبين لهم بما يكون عمارة الدين فقال الله تعالى : {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} (النور : 56) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آل عمران : 97) فصارت قراءة القرآن كقراءة منشور السلطان ولا تحصل الجنة بمجرد القرآن لأنه قال : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24) ، كما قيل :
"مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست نه ترتيل سورة مكتوب بتجويد"
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
ثم في قوله : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} إشارة إلى أن من نتائج الإيمان وآثار العبودية أن يرى العبد نفسه أهلاً لكل شر ومولاه أهلاً لكل خير فينسب كل ما يستحسنه لسيده مستعملاً حسن الأدب معه في كل أوقاته وذلك بأن يحمده على ما دق وجل ويستغفره من تفسيره في شكره له عليه ويتبرأ من حوله وقوته له في ذلك كله وبحسب هذا يكون شعاره الحمداستغفر الله لا حول ولا قوة إلا بالله في جميع أوقاته وهو الذكر المنجي من عذاب الله في الدنيا والآخرة المقرب للفتح لمن لازمه.
واعلم أنك لا تصل إلى التحقيق إلا بمراقبة الأوقات بأحكامها من التوبة والاستغفار عند العصيان وشهود المنّة في الطاعة ووجود الرضى في النية ووجود الشكر في النعمة ولن تصل إلى ذلك إلا بتعلق قلبك بصلاح قلبك واتهام نفسك حتى في خروج نفسك وتصل إلى هذا بأحد أربعة أوجه : نور يقذفه الله في قلبك بلا واسطة ، أو علم متسع في عقل كامل ، أو فكرة سالمة من الشواغل ، أو صحبة شيخ أو أخ هذه حاله.
وقد قال الشيخ أبو مدين قدس سره : الشيخ من هذبك بأخلاقه وأدبك بإطراقه وأنار باطنك بإشراقه ، الشيخ من جمعك في حضوره
447
وحفظك في مغيبه فاعمل أيها العبد على تخليص نفسك من عالم جسمك حتى تخرج عن دائرة رسمك وتصل إلى تحقيق فهمك وعلمك :
از هشتى خويش تاتوغافل مشوى
هركز بمراد خويش واصل نشوي
از بحر ظهور تا بساحل نشوى
در مذهب أهل عشق كامل نشوى
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إخبار من الله تعالى وليس من كلام المؤمنين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
(1/365)
ـ روي ـ أنه لما نزل قوله تعالى : {وَإِن تُبْدُوا مَا فِيا أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورضي عنهم فأتوه عليه السلام ثم بركوا على الركب فقالوا : أي : رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والحج والجهاد وقد أنزل إليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا" قالوا : بل سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فقرأها القوم فأنزل الله تعالى {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله تعالى : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فمسؤولهم الغفران المعلق بمشيئته تعالى في قوله تعالى : {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} ثم أنزل الله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} تهويناً للخطب عليهم ببيان أن المراد بما في أنفسهم ما عزموا عليه من السوء خاصة لا ما يعم الخواطر التي لا يستطاع الاحتراز عنها والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه أي : سنته أن لا يكلف نفساً من النفوس إلا ما يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود فضلاً منه تعالى ورحمة لهذه الأمة كقوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه.
أما الأول فلأنه لو كان وقع لزم الكذب في كلامه تعالى تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وأما الثاني فلأنه تعالى نفى مطلقاً ولا يلزم منه نفي مقيد الذي هو الامتناع لأن العام من حيث هو عام لا يدل على الخاص بوجه من الدلالات {لَهَا} أي : للنفس ثواب {مَا كَسَبَتْ} من الخير الذي كلفت فعله لا لغيرها استقلالاً أو اشتراكاً ضرورة شمول كلمة ما لكل جزء من أجزاء مكسوبها {وَعَلَيْهَا} لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقاب {مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر الذي كلفت تركه وإيراد الاكتساب في جانب الشر لأن الشر فيه اعتمال أي : اجتهاد في العمل فإنه لما كان مشتهى النفس كان فيه جد وسعي بخلاف الخير وصيغة الافتعال للتكلّف
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف أي : يقولون ربنا لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ونحوهما مما يدخل تحت التكليف ودل هذا على جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ فإن التحرز عنهما في الجملة ممكن ولولا جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ لم يكن للسؤال معنى وخفف الله عن هذه الأمة فرفع عنها المؤاخذة وقال النبي صلى الله عليه وسلّم "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فدل أنهم مخصوصون بهما وأمم السالفة كانوا مؤاخذين فيهما {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} عطف على ما قبله وتوسيط النداء بينهما لإبراز مزيد الضراعة.
والإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه أي : يحبسه مكانه والمراد به التكاليف
448
(1/366)
الشاقة {كَمَا حَمَلْتَه عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} أي : حملاً مثل حملك إياه على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من قتل النفس في توبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة وعدم التطهير بغير الماء وخمسين صلاة في يوم وليلة وعدم جواز صلاتهم في غير المسجد وحرمة أكل الصائم بعد النوم ومنع بعض الطيبات عنهم بالذنوب وكون الزكاة ربع مالهم وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح وغير ذلك من التشديدات وقد عصم الله عز وجل ورحم هذه الأمة من أمثال ذلك وأنزل في شأنهم {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف : 157) وقال صلى الله عليه وسلّم "بعثت بالحنيفة السهلة السمحة" وعن العقوبات التي عوقب بها الأولون من المسخ والخسف وغير ذلك قال صلى الله عليه وسلّم "رفع عن أمتي الخسف والمسخ والغرق" {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عطف على ما قبله واستعفاء من العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء مما يؤدي إليها من التكاليف الشاقة التي لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل : لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا في المحافظة عليها فيكون التعبير عن إنزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدي إليها.
قال في "التيسير" أي : لا تكلفنا ما يشق علينا الدوام عليه ولم يرد به عدم الطاقة أصلاً فإنه لا يكون فلا يسأل {وَاعْفُ عَنَّا} أي : آثار ذنوبنا {وَاغْفِرْ لَنَا} واستر عيوبنا ولا تفضحنا على رؤوس الأشهاد.
قال في "التيسير" وليس بتكرار.
فإن الأول تركه حتى لا يؤاخذ به ومحوه حتى لا يبقى.
والثاني ستره حتى لا يظهر وقد يتجاوز عن الشيء فلا يؤاخذ بجزائه لكن يذكر ذلك ويظهر والمؤمنون أمروا أن يسألوا التجاوز عنها وإخفاءها حتى لا يظهر حالهم لأحد فلا يفتضحوا به {وَارْحَمْنَآ} وتعطف بنا وتفضّل علينا وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما أن التخلية سابقة على التحلية {أَنتَ مَوْلَانَا} سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولي أمورنا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي : أعنّا عليهم وادفع عنا شرهم فإن من حق المولى أن ينصر عبيده ومن يتولى أمره على الأعداء والنصرة على الكفار تكون بالظفر وتكون بالحجة وتكون بالدفع وهو سؤال العصمة من الشياطين أيضاً لأنهم منهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 417
ـ روي ـ أنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب قال فأعطى رسول الله عليه السلام ثلاثاً أعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته قال صلى الله عليه وسلّم في خبر المعراج : "قربني الله وأدناني إلى سند العرش ثم ألهمني الله أن قلت آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله كما فرقت اليهود والنصارى قال : فما قالوا؟ قلت : قالوا سمعنا وعصينا والمؤمنون قالوا سمعنا وأطعنا فقال : صدقت فسل تعط فقلت : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : قد رفعت عنك وعن أمتك الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقلت : ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا يعني اليهود قال لك ذلك ولأمتك قلت : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال : قد فعلت قلت : واعف عنا واغفر لنا ورحمنا أنت مولانا
449
فانصرنا على القوم الكافرين قال قد فعلت".
وعنه صلى الله عليه وسلّم "أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل".
وعنه صلى الله عليه وسلّم "من قرأ آيتين من آخر سورة البقرة كفتاه" أي : عن قيام الليل أو عن حساب يوم القيامة وهو حجة على من استكره أن يقول سورة البقرة وقال ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة كما قال صلى الله عليه وسلّم "السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن" أي : مصره الجامع "فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة" قيل : وما البطلة قال عليه السلام : "السحرة" أي : لا تستطيع البطلة أن تسحر قارئها "ولا تقرأ في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان" وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة يقول آمين.
عن أبي الأسلم الديلمي قلت لمعاذ بن جبل : أخبرني عن قصة الشيطان حين أخذته فقال : جعلني رسول الله عليه السلام على صدقة المسلمين فجعلت التمر في غرفة فوجدت فيه نقصاناً فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك فقال : هذا الشيطان يأخذه فدخلت الغرفة وأغلقت الباب فجاءت ظلمة عظيمة فغشيت الباب ثم تصور في صورة أخرى فدخل من شق الباب فشددت إزاري علي فجعل يأكل من التمر فوثبت إليه فقبضته فالتفت يداي عليه فقلت : يا عدو الله فقال : خل عني فإني كبير ذو عيال كثير وأنا فقير من جن نصيبين وكانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم فلما بعث أخرجنا منها فخلّ عني فلن أعود إليك فخلّيت سبيله وجاء جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله عليه السلام بما كان فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فناداني مناديه وقال : "ما فعل أسيرك" فأخبرته فقال : "أما إنه سيعود فعد" قال : فدخلت الغرفة وأغلقت علي الباب فجاء فدخل من شق الباب فجعل يأكل من التمر فصنعت به كما صنعت في المرة الأولى فقال : خلّ عني فإني لن أعود إليك فقلت : يا عدو الله ألم تقل إنك لن تعود؟ قال : فإني لن أعود وآية ذلك أنه إذا قرأ أحد منكم خاتمة البقرة لا يدخل أحد منا في بيته تلك الليلة.
450
جزء : 1 رقم الصفحة : 417(1/367)
سورة آل عمران
مدنية وهي مائتا آية
جزء : 1 رقم الصفحة : 450
{الام} الألف إشارة إلى الله واللام إلى اللطيف والميم إلى المجيد {اللَّهِ} مبتدأ {لا إله إِلا هُوَ} خبره أي : هو المستحق للمعبودية لا غير {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} خبر آخر له أي : الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء والدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه.
ـ روي ـ عنه صلى الله عليه وسلّم "اسم الله الأعظم في ثلاث سور في سورة البقرة الله لا إله إلا هو الحي القيوم وفي آل عمران ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم" وهذا رد على من زعم أن عيسى عليه السلام كان رباً فإنه روي أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانوا ستين راكباً : فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، ثلاثة منهم أكابر إليهم يؤول أمرهم ، أحدهم أميرهم وصاحب مشورتهم العاقب واسمه عبد المسيح ، وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيد و اسمه الأبهم ، وثالثهم حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم أبو حارثة أحد بني بكر بن وائل وقد كان ملوك الروم شرفوه ومولوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنوا له كنائس فلما خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز : تعساً للأبد يريد به رسول الله عليه السلام فقال له أبو حارثة : بل تعست أمك فقال كرز : ولمَ يا أخي؟ قال إنه والله النبي الذي كنا ننتظر فقال له كرز فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟ قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا فلو آمنا به لأخذوها منا كلها فوقع ذلك في قلب كرز وأصره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك فأتوا المدينة ثم دخلوا مسجد رسول الله عليه السلام بعد صلاة العصر عليهم ثياب خيرات من جبب وأردية فاخرة يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي عليه السلام : ما رينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلوا
2(2/1)
في المسجد فقال عليه السلام : "دعوهم" فصلوا إلى المشرق ثم تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : تارة عيسى هو الله لأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير وتارة أخرى هو ابن الله إذ لم يكن له أب يعلم وتارة أخرى أنه ثالث ثلاثة لقوله تعالى فعلنا وقلنا ولو كان أحداً لقال : فعلت وقلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أسلموا" قالوا : أسلمنا قبلك قال عليه السلام : "كذبتم يمنعكم من الإسلام ادعاؤكمتعالى ولداً" قالوا : إن لم يكن ولداًفمن أبوه فقال عليه السلام : "ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه" فقالوا : بلى قال صلى الله عليه وسلّم "ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء" قالوا : بلى قال عليه السلام : "ألستم تعلمون أن ربنا قيوم على كل شيء يحفظه ويرزقه" قالوا : بلى قال صلى الله عليه وسلّم "فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً" قالوا : لا فقال عليه السلام : "ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء" قالوا : بلى قال عليه السلام : "فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم" قالوا : لا قال صلى الله عليه وسلّم "ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث" قالوا : بلى قال صلى الله عليه وسلّم "ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث" قالوا : بلى قال صلى الله عليه وسلّم "فكيف يكون هذا كما زعمتم" فسكتوا فأبوا إلا جحودا فأنزل الله تعالى من أول السورة إلى نيف وثمانين آية تقريراً لما احتج به عليه السلام عليهم وأجاب به عن شبههم وتحقيقاً للحق الذي فيه يمترون
جزء : 2 رقم الصفحة : 2
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} أي : القرآن عبر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب.
فإن قلت : لم قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت : لأن التنزيل للتكثير والقرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة وذكر في آخر الآية الإنزال وأراد به من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر في شهر رمضان والمراد هنا هو تنزيله إلى الأرض ففي القرآن جهتا الإنزال والتنزيل {بِالْحَقِّ} ملتبساً ذلك الكتاب بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبر التوحيد وما يليه أو في وعده ووعيده {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي : في حال كونه مصدقاً للكتب قبله في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع قبله {وَأَنزَلَ التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلَ} اسمان أعجميان : الأول عبري والثاني سرياني {مِن قَبْلُ} أي : أنزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما السلام من قبل تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان {هُدًى لِّلنَّاسِ} علة للإنزال أي : أنزلهما لهداية الناس وفيه لف بدون النشر لعدم اللبس لأن كون التوراة هدى للناس في زمان موسى وكون الإنجيل هدى لهم في زمان عيسى معلوم فاختصر لذلك {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} أي : جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل أو هو القرآن كرر ذكره تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ} أي : بالقرآن ومعجزات النبي عليه السلام {لَهُمْ} بسبب كفرهم بها {عَذَابٍ شَدِيدٍ} لا يقادر قدره {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} لا يغالب يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {ذُو انتِقَامٍ}
3
عظيم لا يقدر على مثله منتقم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 2
(2/2)
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} أي : القرآن عبر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب.
فإن قلت : لم قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت : لأن التنزيل للتكثير والقرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة وذكر في آخر الآية الإنزال وأراد به من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر في شهر رمضان والمراد هنا هو تنزيله إلى الأرض ففي القرآن جهتا الإنزال والتنزيل {بِالْحَقِّ} ملتبساً ذلك الكتاب بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبر التوحيد وما يليه أو في وعده ووعيده {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي : في حال كونه مصدقاً للكتب قبله في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع قبله {وَأَنزَلَ التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلَ} اسمان أعجميان : الأول عبري والثاني سرياني {مِن قَبْلُ} أي : أنزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما السلام من قبل تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان {هُدًى لِّلنَّاسِ} علة للإنزال أي : أنزلهما لهداية الناس وفيه لف بدون النشر لعدم اللبس لأن كون التوراة هدى للناس في زمان موسى وكون الإنجيل هدى لهم في زمان عيسى معلوم فاختصر لذلك {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} أي : جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل أو هو القرآن كرر ذكره تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ} أي : بالقرآن ومعجزات النبي عليه السلام {لَهُمْ} بسبب كفرهم بها {عَذَابٍ شَدِيدٍ} لا يقادر قدره {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} لا يغالب يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {ذُو انتِقَامٍ}
3
عظيم لا يقدر على مثله منتقم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 2
{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} أي : مدرك الأشياء كلها يعني هو مطلع على كفر من كفر به وإيمان من آمن به وعلى جميع أعمالهم فيجازيهم يوم القيامة {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} أي : يجعلكم على هيئة مخصوصة في أرحام أمهاتكم من ذكر وأنثى وأسود وأبيض وتام وناقص وطويل وقصير وحسن وقبيح وهو رد على الذين قالوا عيسى الله أو ابن الله لأن من صور في الرحم يمتنع أن يكون إلهاً وولداًلكونه مركباً وحالاً في المركب وفي عرض الفناء والزوال {لا إله إِلا هُوَ} نزه نفسه أن يكون عيسى ابناً له {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} المتناهي في القدرة والحكمة فربكم يخلقكم على النمط البديع قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد" قال : "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" وقال عليه السلام : "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيقول : أي رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص ثم يقول الملك : يا رب ما أصنع بهذا الكتاب؟ فيقول علقه في عنقه إلى قضائي عليه فذلك قوله تعالى {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَائرَه فِى عُنُقِهِ} (الإسراء : 13) أي عمله من خير وشر الصادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار إليه من وكر الغيب والقدر.
قال القاضي المراد بكتبه هذه الأشياء إظهارها للملك وإلا فقضاؤه تعالى سابق على ذلك وكل ميسر لما خلق له فعلى العاقل أن لا يتكاسل عن الأعمال في جميع الأحوال ولا يفوت أيام الفرصة والليال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 4
خبرداري أي استخواني قفس
كه جان تومر غيست نامش نفس
و مرغ از قفس رفت وبكسست قيد
دكر ره نكردد بسغى تو صيد
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمي بيش دانا به از عالميست(2/3)
والإشارة أن الله تعالى كما يصور الجنين بصورة الإنسانية على نطفة سقطت في الرحم بتدبير الأربعينات فكذلك إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجاله نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق والمريد يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهي بمثابة ملك الأرحام ويضبط أحوال ظاهره وباطنه على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة كيلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منها سقوط النطفة وفسادها ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى يصرف ولاية الشيخ المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحولها من حال إلى حال وينقلها من مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس بقدم الأربعينات الأولى فلما وصل إلى مقامه الأول أيضاً بقدم الأربعينات كما جاء تم خلق الجنين في رحم القلب وهو يجعل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأبناء أوليائه وهو روح القدس الذي هو متولى إلقائه كقوله تعالى : {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} (غافر : 15) وقال :
4
{كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (المجادلة : 22) ولهذه الفائدة العظيمة والنعمة الجسيمة أهبط الأرواح من أعلى عليين القرب إلى أسفل سافلين البعد كما قال : {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة : 38) فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون فاحفظه تفهم إن شاء الله تعالى كذا في "تأويلات الشيخ الكامل نجم الدين الكبرى" أفاض الله علينا من سجال معارفه وحقائقه ولطائفه آمين {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} أي القرآن {مِنْهُ} أي من الكتاب {مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ} أي قطعية الدلالة على المعنى المراد محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ} أي أصل فيه وعمدة يرد إليها غيرها بالتأويل فالمراد بالكتاب كله والإضافة بمعنى في {وَأَخَّرَ} أي ومنه آيات أخر {مُتَشَـابِهَـاتٌ} أي محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق والتأمل الأنيق فالتشابه في الحقيقة وصف للمعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بوصف المدلول.
جزء : 2 رقم الصفحة : 4
واعلم أن اللفظ إما أن لا يحتمل غير معنى واحد أو يحتمل.
والأول هو النص كقوله تعالى : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} (البقرة : 163).
والثاني إما أن تكون دلالته على مدلوليه أو مدلولاته متساوية أو لا والأول هو المجمل كقوله تعالى : {ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ} (البقرة : 228).
وأما الثاني فهو بالنسبة إلى الراجح ظاهر كقوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 22) وبالنسبة إلى المرجوح مؤول كقوله تعالى : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح : 10) والنص والظاهر كلاهما محكم والمجمل والمؤول متشابه وهو كقوله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة : 115) قد رد إلى قوله تعالى : {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثم إن الله تعالى جعل القرآن كله محكماً في قوله {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُهُ} (هود : 1) ومعناه أن كله حق لا ريب فيه ومتقن لا تناقض فيه ومحفوظ من اعتراء الخلل أو من النسخ.
وجعله كله متشابهاً في قوله : {كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ} (الزمر : 23) ومعناه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة النظم وحقيقة المدلول وجعل بعضه محكماً وبعضه متشابهاً في هذه الآية وقد سبق وإنما لم يجعل الله القرآن كله محكماً لما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه كابتلاء بني إسرائيل بالنهر في اتباع نبيهم ولأن النظر في المتشابه والاستدلال لكشف الحق يوجب عظم الأجر ونيل الدرجات عند الله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ} معرضين عن المحكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطل لا تحرياً للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل {ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ} أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه {وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ} أي طلب أن يؤولوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل
جزء : 2 رقم الصفحة : 4
(2/4)
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أي تأويل المتشابه {إِلا اللَّه وَالراَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم أي ثبتوا فيه وتمكنوا أو فوضوا فيه لنص قاطع ومنهم من يقف على قوله : {إِلا اللَّهُ} ويبتدىء بقوله : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ} ويفسرون المتشابه بما استأثر الله
5
بعلمه وبمعرفة الحكمة فيه من آياته كعدد الزبانية في قوله : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ومدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة والصوم وعدد الركعات في الصلوات الخمس والأول هو الوجه فإن الله تعالى لم ينزل شيئاً من القرآن إلا لينتفع به عباده ويدل به على معنى أراده فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال وهل يجوز أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف المتشابه وإذا جاز أن يعرفه مع قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلا اللَّهُ} جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته وإن لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته والعلماء الراسخون وقالوا : علمه عند ربنا لم يكن لهم فضل على الجهال لأنهم جميعاً يقولون ذلك قالوا : ولم يزل المفسرون إلى يومنا هذا يفسرون ويؤولون كل آية ولم نرهم وقفوا عن شيء من القرآن فقالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلا الله بل فسروا نحو حروف التهجي وغيرها {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه والجملة على الأول استئناف موضح لحال الراسخين وعلى الثاني خبر لقوله والراسخون {كُلٌّ} أي كل واحد من المحكم والمتشابه {مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما {وَمَا يَذَّكَّرُ} حق التذكر {إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ} أي العقول الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة وهو مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر وإشارة إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقل عن غواشي الحس.
جزء : 2 رقم الصفحة : 4
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي يقولون : لا تمل قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ} أي من عندك {رَحْمَةً} واسعة تزلفنا إليك ونفوز بها عندك {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} وإطلاق الوهاب لتناول كل موهوب.
وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله وأنه متفضل بما ينعم به على عباده من غير أن يجب عليه شيء {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ} بعد الموت {لِيَوْمِ} أي لجزاء يوم وحسابه وهو يوم القيامة {لا رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ومقصودهم بهذا عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الوعد يعني الألوهية تنافي خلف الوعد في البعث واستجابة الدعاء وهذا حال الراسخين في الدعاء فانظر كيف لا يأمنون سوء الخاتمة وأداهم الخوف والخشية إلى الرجاء فإياك والزيغ عن الصراط المستقيم باتباع الهوى والشهوات قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أزاغه" يعني قلب المؤمن بين توفيقه وخذلانه وإنما قال من أصابع الرحمن ولم يقل من أصابع الله إشعاراً بأنه هو المتمكن من قلوب العباد والمتصرف فيها كيف يشاء ولم يكلها إلى أحد من ملائكته رحمة منه وفضلاً لئلا يطلع على سرائرهم غيره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك" والميزان بيد الرحمن يرفع قوماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلّم "مثل القلوب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن".
قال الجنيد رحمه الله : من أراد أن يسلم له دينه ويستريح في بدنه وقلبه فليعتزل الناس فإن هذا
6
زمان وحشة والعاقل من اختار الوحدة قال عليه السلام لأصحابه : "أين تنبت الحبة" قالوا في الأرض قال : "فكذلك الحكمة إنما تنبت في قلب مثل الأرض" فدفن حبة الفؤاد والوجود في أرض الخمول مما ينتج ويتم نتاجه جداً فما نبت مما لم يدفن لم يتم نتاجه وإن ظهر نوره وإنتاجه كالذي ثبت في حميل السيل.
فعليك بتزكية النفس وإصلاح الوجود كي تدرك نور الشهود وتقبل إلى الاستقامة وتخلص من الزيغ والضلال في جميع الأحوال وكم من زائع قلبه وهو صورة مستقيم وكم من مستقيم فؤاده وهو في الظاهر غير مستقيم ، كما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 6
بس قامت جاشاك كه برجا باشد
ون باد بر آنها بوزد نا باشد
والقلب هو محل النظر لا الصورة كما قال عليه السلام : "إن الله لا ينظر إلى صوركم بل إلى قلوبكم وأعمالكم" فأي فائدة في القلب الزائع عن الحق فنعوذ بالله منه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 6
(2/5)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تنفعهم {أَمْوَالَهُمُ} التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار قدم الأموال على الأولاد لأنها أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب {وَلا أَوْلَـادُهُمْ} الذين بهم يتناصرون في الأمور المهمة وعليهم يعولون في الخطوب الملمة وتوسيط حروف النفي لعراقة الأولاد في كشف الكروب {مِنَ اللَّهِ} أي عذابه تعالى : {شَيْـاًا} أي شيئاً من الإغناء ومعناه لا يصرف عنهم كثرة الأموال والأولاد والتناصر بهما عذابه وكانوا يقولون نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين قال تعالى في ردهم {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} (سبأ : 37) {وَأُوالَـائِكَ} أي أولئك المتصفون بالكفر {هُمْ وَقُودُ النَّارِ} حطب النار وحصبها الذي تسعر به {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه وتعب غلب استعماله في معنى الشان والحال والعادة ومحل الكاف الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء في الكفر وعدم النجاة من أخذ الله تعالى وعذابه كدأب آل فرعون {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي آل فرعون من الأمم الكافرة كقوم نوح وثمود وقوم لوط وهو عطف على ما قبله {كَذَّبُوا بآياتنا}
جزء : 2 رقم الصفحة : 7
بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على الاستئناف المبني على السؤال كأنه قيل : كيف كان دأبهم فقيل : كذبوا بآياتنا أي بكتبنا ورسلنا {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} تفسير لدأبهم الذي فعل بهم أي فأخذهم الله تعالى وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً فدأب هؤلاء الكفرة أيضاً كدأبهم والذنب في الأصل : التلو والتابع وسميت الجريمة ذنباً لأنها تتلو أي يتبع عقابها فاعلها {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن كفر بالآيات والرسل {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} المراد بهم اليهود لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أن يهود المدينة لما شاهدوا غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المشركين يوم بدر قالوا : والله إنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى وفي التوراة نعته وهموا باتباعه فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد شكوا وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة فنقضوه وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت {سَتُغْلَبُونَ} البتة عن قريب في الدنيا وقد صدق الله وعده بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من
7
عداهم وهو من أوضح شواهده النبوة {وَتُحْشَرُونَ} أي في الآخرة {إِلَى جَهَنَّمَ} والحشر السوق والجمع أي يغلبون في الدنيا ويساقون في الآخرة مجموعين إلى جهنم {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي بئس الفراش والمقر جهنم {قَدْ كَانَ لَكُمْ} جواب قسم محذوف وهو من تمام القول المأمور به أي والله قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم {ءَايَةً} عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون {فِي فِئَتَيْنِ} أي جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقيها ما لقيها فسيصيبكم ما يصيبكم {الْتَقَتَا} أي تلاقيا بالقتال يوم بدر {فِئَةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي إحداهما فئة {تُقَـاتِلُ} تجاهد {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} وهم لا كثرة فيهم ولا شوكة وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم {وَأُخْرَى} أي وفئة أخرى {كَافِرَةٌ} بالله ورسوله {يَرَوْنَهُم} أي ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة والجملة صفة للفئة الأخيرة {مِّثْلَيْهِمْ} أي مثلي عدد الرائين قريباً من ألف كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً رأسهم عتبة من ربيعة بن عبد شمس وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وكان فيهم من الخيل والإبل مائة فرس وسبعمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عدد لا يحصى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 7
(2/6)
وعن سعد بن أوس أنه قال : أسر المشركون رجلاً من المسلمين فسألوه كم كنتم قال : ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفاً وعشرين حيث كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار رضي الله عنهم وكان صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلّم والمهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه وكان في العسكر تسعون بعيراً وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو والآخر لمرثد بن أبي مرثد وست أدرع وثمانية سيوف وجميع من استشهد يومئذٍ من المسلمين أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار أراهم الله عز وجل كذلك مع قلتهم ليهابوهم ويتجنبوا عن قتالهم مدداً لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام.
فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال {وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} .
قلت : قللهم أولاً في أعينهم حتى اجترأوا عليهم فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية {رَأْىَ الْعَيْنِ} نصب على المصدر يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} أي يقوي {بِنَصْرِه مَن يَشَآءُ} أي يريد من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القول المأمور به {إِنَّ فِى ذَالِكَ} إشارة إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيراً المستتبعة لغلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح {لَعِبْرَةً} من العبور كالجلسة من الجلوس والمراد بها الاتعاظ فإنه نوع من العبور أي لعبرة عظيمة كائنة {لاوْلِى الابْصَـارِ} لذوي العقول والبصائر.
فعلى العاقل أن يعتبر بالآيات ولا يغتر بكثرة الأعداد من الأموال والأولاد وعدم اجتهاده لمعاده فإن الله يمتعه قليلاً ثم يضطره إلى عذاب
8
غليظ.
جزء : 2 رقم الصفحة : 7
واعلم أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا فغلبات الهوى والنفس ترد إلى أسفل سافلين الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد فإنه مهده في معاشه والنار ناران : نار الله ونار الجحيم ، فأما نار الله فهي نار حسرة القطيعة عن الله فيها يعذب قلوب المحجوبين عن الله كقوله تعالى : {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْـاِدَةِ} (الهمزة : 6 ـ 7) وأما نار الجحيم فهي نار الشهوات والمعاملات على الغفلات من المخالفات فهي تحرق قشور الجلود كما قال تعالى : {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء : 56) ولا يتخلص من هذه النار إلا لب القلوب وإن عذاب حرقة الجلد بالنسبة إلى عذاب حرقة القلوب كنسيم الحياة وسموم الممات فلا بد من تزكية النفس فإنها سبب للخلاص من عذاب الفرقة.
قيل لبعضهم : بم يتخلص العبد من نفسه؟ قال : بربه انتهى فإذا أراد الله أن ينصر عبده على ما طلب منه أمده بجنود الأنوار فكلما اعترته ظلمة قام لها نور فأذهبها وقطع عنه مواد الظلم والأغيار فلم يبق للهوى مجال ولا للشهوة والأخلاق الذيمة مقال ولا قال فالنور جند القلب كما أن الظلمة جند النفس والمراد بالنور حقائق ما يستفاد من معاني الأسماء والصفات وبالظلمة معاني ما يستفاد من الهوى والعوائد الرديئة قال تعالى : {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل : 34) أي غيروا حالها عما هي عليه وكذلك إذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة أخرجت منها كل صفة رديئة وكستها كل خلق زكية فهذه الدولة إنما تنال بترك الدنيا والعقبى فكيف يمتلىء بالأنوار قلب من خالط الأغيار وأحب المال والأولاد ولم يخف من رب العباد.
وقدم على الأستاذ أبي علي الدقاق رحمه الله فقير وعليه مسح وقلنسوة فقال له بعض أصحابه : بكم اشتريت هذا المسح على وجه المطايبة؟ فقال : اشتريته بالدنيا فطلب مني بالآخرة فلم أبعه.
قال أبو بكر الوراق رحمه الله طوبى للفقراء في الدنيا والآخرة فسألوه عنه فقال : لا يطلب السلطان منه في الدنيا الخراج ولا الجبار في الآخرة الحساب :
قناعت سر افرازد أي مرد هوش
جزء : 2 رقم الصفحة : 7
سرير طمع برنيايد زدوش
كر آزاده برزمين خسب وبس
مكن بهر مالي زمين بوس كس
حققنا الله وإياكم بحقائق التوحيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 7
(2/7)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} أي حسن لهم والمزين هو الله لقوله تعالى : {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ} (النمل : 4) وذلك على جهة الامتحان أو هو الشيطان لقوله تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} (النمل : 24) وذلك على جهة الوسوسة {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} أي : محبة مرادات النفوس والشهوة نزوع النفس إلى ما تريده وهي مصدر أريد به المفعول أي المشتهيات لأن الأعيان التي ذكرها كلها مشتهيات وإنما عبر عنها بالمصدر مبالغة في كونها مشتهاة مرغوباً فيها كأنها نفس الشهوات والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية.
قالوا : خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوة والبهائم ذات شهوات بلا عقل وجعلهما في الإنسان فمن غلب عقله شهوته فهو أفضل من الملائكة ومن غلب عليه شهوته فهو أرذل من البهائم {مِّنَ النِّسَآءِ} حال من الشهوات
9
أي حال كونها من طائفة النساء وإنما بدأ بهن لعراقتهن في معنى الشهوات فإنهن حبائل الشيطان {وَالْبَنِينَ} والفتنة بهم أن الرجل يحرص بسببهم على جمع المال من الحلال والحرام ولأنهم يمنعونه عن محافظة حدود الله.
قيل : أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا وإن ماتوا أحزنونا وعدم التعرض للبنات لعدم الاطراد في حبهن {وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
جمع قنطار وهو المال الكثير أي الأموال الكثيرة المجتمعة أو هو مائة ألف دينار أو ملىء مسك ثور أو سبعون ألفاً أو أربعون ألف مثقال أو ثمانون ألفاً أو مائة رطل أو ألف ومائتا مثقال أو ألف دينار أو مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم أو دية النفس.
وفي الكشاف المقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم ألوف مؤلفة وبدر مبدرة {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} بيان للقناطير أي من هذين الجنسين وإنما سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى والفضة لأنها تنفض أي تتفرق {وَالْخَيْلِ} عطف على القناطير.
والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحده فرس وهو مشتق من الخيلاء لاختيالها في مشيها أو من التخيل فإنها لم يتخيل في عين صاحبها أعظم منها لتمكنها من قلبه {الْمُسَوَّمَةِ} أي المعلمة وهي التي جعلت فيها العلامة بالسيمة واللون أو بالكي أو المرعية من سامت السائمة أي رعت {وَالانْعَـامُ} أي الإبل والبقر والغنم جمع نعم {وَالْحَرْثِ} أي الزرع.
قيل : كل منها فتنه للناس.
أما النساء والبنون ففتنة للجميع.
والذهب والفضة فتنة للتجار.
والخيل فتنة للملوك.
والأنعام فتنة لأهل الوادي.
والحرث فتنة لأهل الرساتيق {ذَالِكَ} أي ما ذكر من الأشياء المعهودة {مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} أي ما يمتنع به في الحياة الدنيا أياماً قلائل فيفني سريعاً {وَاللَّهُ عِندَه حُسْنُ الْمَاَابِ} أي حسن المرجع وهو الجنة.
وفيه دلالة على أن ليس فيما عدد عاقبة حميدة وهذا تزهيد في طيبات الدنيا الفانية وترغيب فيما عند الله من النعيم المقيم فعلى العاقل أن يأخذ من الدنيا قدر البلغة ولا يستكثر بالاستكثار الذي يورط صاحبه في المحظور ويورثه المحذور.
{قُلْ} يا محمد {أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ} الهمزة للتقرير أي أخبركم بما هو خير مما فصل من تلك المستلذات المزينة لكم {لِلَّذِينَ} خبر مبتدأه قوله جنات {اتَّقَوْا} والمراد بالتقوى هو التبتل إلى الله تعالى والإعراض عما سواه كما ينبىء عنه النعوت الآتية {عِندَ رَبِّهِمْ} نصب على الحالية من قوله : {جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} حال مقدرة {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي زوجات مبرأة من العيوب الظاهرة كالحيض والامتخاط وإتيان الخلاء ومن الباطنة كالحسد والغضب والنظر إلى غير أزواجهن.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
ـ روي ـ عن النبي عليه السلام "شبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها" {وَرِضْوَانٍ} أي رضوان وأي رضوان لا يقادر قدره كائن {مِنَ اللَّهِ} قال الحكماء : الجنات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية والرضوان إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات الجنة الروحانية وهي عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفة الله ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله وفي آخرها مرضياً عنده تعالى وإليه الإشارة بقوله : {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 28) {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} وبأعمالهم فيثيب ويعاقب حسبما يليق بها.
10
(2/8)
{الَّذِينَ} كأنه قيل من أولئك المتقون الفائزون الكرامات السنية فقيل هم الذين {يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا} أي صدقنا بك وبنبيك وفي ترتيب الدعاء بقولهم {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} على مجرد الإيمان دلالة على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار {الصَّـابِرِينَ} نصب على المدح بإضمار أعني والمراد بالصبر هو الصبر على مشاق الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس {وَالصَّـادِقِينَ} في أقوالهم ونياتهم وعزائمهم {وَالْقَـانِتِينَ} أي : المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات {وَالْمُنَـافِقِينَ} أموالهم في سبيل الله {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} وتوسط الواو بين الصفات المذكورة مؤذن بأن كل صفة مستقلة بالمدح ومؤذن بأن منهم صابر ومنه صادق.
ثم الصبر حبس النفس عن شهواتها المحظورة في الشرع.
وجميع أجناس الصبر ثلاثة : الصبر على الطاعة ، والصبر على المعصية ، والصبر على المكروه ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم "من صبر على مصيبة فله ثلاثمائة درجة وبين الدرجتين كما بين السماء والأرض ومن صبر على الطاعة فله ستمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ومن صبر على المعصية فله تسعمائة درجة بين الدرجتين كما بين العرش والكرسي".
والصدق يجري في القول وهو مجانبة الكذب وفي الفعل وهو إتيانه وترك الإنصراف عنه قبل تمامه وفي النية وهو العزم عليه حتى يفعل.
والإنفاق يتناول الإنفاق على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الجهاد وسائر وجوه البر.
والاستغفار سؤال المغفرة من الله وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء أقرب إلى الإجابة إذ العبادة حينئذٍ أشق والنفس أصفى والروح أجمع لا سيما للمجتهدين.
قال مجاهد في قول يعقوب عليه السلام :
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} (يوسف : 98) أخره إلى وقت السحر فإن الدعاء فيه مستجاب وقال : إن الله تعالى لا يشغله صوت عن صوت لكن الدعاء في السحر دعوتي في الخلوة وهي أبعد من الرياء والسمعة فكانت أقرب إلى الإجابة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول : أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فاغفر له" ومعنى ينزل محمول على نزول ملكه أو على الاستعارة فمعناه الإقبال على الداعين باللطف والإجابة ولهذا قال إلى السماء الدنيا أي القربى.
وفي هذا الكلام توبيخ لهم على غفلتهم في الدعاء والسؤال منه والاستغفار.
قال لقمان لابنه : يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك.
دلابر خيز وطاعت كن كه طاعت به زهر كارست
سعادت آن كسى دار دكه وقت صبح بيدارست
خروسان در سحر كويندكه قم يا أيها الغافل
تواز مستي نمى داني كسى داندكه هشياراست
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لما أسري بي إلى السماوات رأيت عجائب من عجائب الله تعالى فمن ذلك أن في السماء الدنيا ديكاً له زغب أخضر وريش أبيض وبياض ريشه كأشد بياض رأيته وزغبة تحت ريشه كأشد خضرة رأيتها فإذا رجلاه في تخوم الأرض السابعة السفلى وإذا رأسه عند عرش الرحمن ثاني عنقه تحت العرش له جناحان في منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان بعض الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح لله يقول :
11
سبحان الملك القدوس سبحان الكريم" أو قال : "الكبير المتعال لا إله إلا الله الحي القيوم فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها فإذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الأرض كلها ثم إذا كان بعض الليل نشر جناحيه فجاوز بهما المشرق والمغرب وخفق بهما ثم صرخ بالتسبيحيقول : سبحان الله العلي العظيم سبحان العزيز القهار سبحان الله رب العرش الرفيع فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض بمثل قوله وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ وإذا سكن ذلك الدين سكنت ديكة الأرض ثم إذا هاج بنحو فعله في السماء هاجت الديكة في الأرض يجاوبونه تسبيحاًتعالى بنحو قوله" والمقصود من هذا أن التسبيح إذا كان من فعل أهل السماء والأرض خصوصاً الحيوانات العجم بل النباتات كما قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} (الإسراء : 44) فإن الإنسان أولى بأن يشتغل بالدعاء والتسبيح خصوصاً في الخلوات وأوقات الأسحار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
قال الإمام القشيري رحمه الله : الصابرين على ما أمر الله والصادقين فيما عاهدوا الله والقانتين بالاستقامة في محبة الله والمنفقين في سبيل الله والمستغفرين من جميع ما فعلوا لرؤية تقصيرهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
(2/9)
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ} بأنه {لا إله إِلا هُوَ} نزلت حين جاء رجلان من أحبار الشام فقالا للنبي عليه السلام أنت محمد قال : "نعم" فقالا : أنت أحمد قال : "أنا محمد وأحمد" قالا : أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله فأخبرهما أي : أثبت الله بالحجة القطعية وأعلم بمصنوعاته الدالة على توحيده أنه واحد لا شريك له في خلقه الأشياء إذ لا يقدر أحد أن ينشىء شيئاً منها.
قال ابن عباس : خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة فشهد لنفسه قبل خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال : {شَهِدَ اللَّهُ} الآية {والملائكة} عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنى مجازي شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي : أقرت الملائكة بذلك لما عاينت من عظم قدرته {وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} أي : آمنوا به واحتجوا عليه بالأدلة التكوينية والتشريعية وهم الأنبياء والمؤمنون الذين علموا توحيده وأقروا به اعتقاداً صحيحاً فشبه دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره تعالى وإقرار الملائكة وأولي العلم بذلك بشهادة الشاهد في البيان والكشف {قائما بِالْقِسْطِ} نصب على الحال المؤكدة من هو دون من ذكر معه لأمن اللبس إذ القيام بالقسط من الصفات الخاصة به تعالى ومثله جاء زيد وهند راكباً جاز لأجل التذكير ولو قلت : جاء زيد وعمرو راكباً لم يجز للبس أي : مقيماً بالعدل في قسمة الأرزاق والآجال والإثابة والمعاقبة وما يأمر به عباده وينهاهم عنه من العدل والتسوية فيما بينهم ودفع الظلم عنهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 12
{لا إله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كرر المشهود به لتأكيد التوحيد ليوحدوه ولا يشركوا به شيئاً لأنه ينتقم ممن لا يوحده بما لا يقدر على مثله منتقم ويحكم ما يريد على جميع خلقه لا معقب لحكمه لغلبته عليهم {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَامُ} جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي : لا دين مرضياً تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتشرع بالشريعة الشريفة وهو الدين الحق منذ بعث الله آدم عليه السلام وما سواه من الأديان فكلها باطلة.
قال : شيخنا العلامة في بعض تحريراته : المقصود من إنزال الكلام مطلق الدعوة إلى الدين الحق
12
والدين الحق من زمن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام الإسلام كما قال تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَامُ} وحقيقة دين الإسلام التوحيد وصورته الشرائع التي هي الشروط وهذا الدين من ذلك الزمان إلى يوم القيامة واحد بحسب الحقيقة وسواء بين الكل ومختلف بحسب الصورة والشروط وهذا الاختلاف الصوري لا ينافي الإتحاد الأصلي والوحدة الحقيقة انتهى.
وعن قتادة أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله.
وعن غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كنت ذات ليلة أردت أن أحدر إلى البصرة قام من الليل متهجداً فمر بهذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إله إِلا هُوَ والملائكة وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قائما بِالْقِسْطِا لا إله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال الأعمش وأنا أشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة أن الدين عند الله الإسلام قاله مراراً قلت : لقد سمع فيها شيئاً فصليت معه وودعته ثم قلت : آية سمعتك ترددها فما بلغك فيها قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة فلبثت على بابه من ذلك اليوم فأقمت سنة فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد ادخلوا عبدي الجنة" ويناسب هذا ما يقال عهدنا .
عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه ذات يوم : "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً" قالوا : وكيف ذلك؟ قال : "يقول كل صباح ومساء : "اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع" أي : ختم عليه بخاتم "ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذي لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة" فلا بد من الدعاء في الصبح والمساءالذي هو خالق الأرض والسماء ومن الإخلاص الذي هو ملاك الأمر كله في طاعة المرء وعمله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 12
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغزوست(2/10)
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام الذي جاء به النبي عليه السلام وأنكروا نبوته {إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أي : وما اختلفوا في دين الله الإسلام ونبوة محمد عليه السلام في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه أو بعد أن علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالحجج والآيات الباهرة.
وفيه من الدلالة على ترامي حالهم في الضلالة ما لا مزيد عليه فإن الاختلاف بعد حصول تلك المرتبة مما لا يصدر عن العاقل {بَغْيَا بَيْنَهُمْ} مفعول له لقوله : اختلف أي : حسداً كائناً بينهم وطلباً للرياسة لا شبهة وخفاء في الأمر وهو تشنيع إثر تشنيع {وَمَن يَكْفُرْ بِاَايَاتِ اللَّهِ} الناطقة
13
بما ذكر من أن الدين عند الله الإسلام ولم يعمل بمقتضاها {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قائم مقام جواب الشرط علة له أي : ومن يكفر بآياته تعالى فإنه يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريع الحساب أي : يأتي حسابه عن قريب أو سريع في محاسبة جميع الخلائق لأنه يحاسبهم في أقل من لمحة بحيث يظن كل أحد منهم أنه أي : الله يحاسب نفسه فقط.
{فَإِنْ حَآجُّوكَ} أي : في كون الدين عند الله الإسلام {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} أي : أخلصت نفسي وقلبي وجملتي وحده لم أجعل فيها لغيره شركاً بأن أعبده وأدعوه إلهاً معه يعني دين التوحيد وهو القديم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} عطف على المتصل في أسلمت وحسن ذلك لمكان الفصل الجاري مجرى التأكيد بالمنفصل أي : وأسلم من اتبعني وجوههم أيضاً {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي : من اليهود والنصارى {وَالامِّيِّانَ} الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب {ءَأَسْلَمْتُمْ} متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد آتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعملتم بقضيتها أم أنتم بعد على كفركم؟ وهو استفهام بمعنى الأمر أي : أسلموا وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته : فهل فهمتها {فَإِنْ أَسْلَمُوا} أي : كما أسلمتم وأخلصتم {فَقَدِ اهْتَدَوا} أي : فازوا بالحظ الأوفر ونجوا من مهاوي الضلال {وَإِن تَوَلَّوْا} أي : أعرضوا عن الاتباع وقبول الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} قائم مقام الجواب أي : لم يضروك شيئاً إذ ما عليك إلا البلاغ أي : التبليغ بالرسالة دون الهداية وقد فعلت على أبلغ وجه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 12
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم (لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا : أسلمنا فقال صلى الله عليه وسلّم لليهود "أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله" فقالوا : معاذ الله وقال صلى الله عليه وسلّم للنصارى : "أتشهدن أن عيسى عبد الله ورسوله" فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبداً) وذلك قوله عز وجل وإن تولوا : {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} عالم بجميع أحوالهم وهو وعد ووعيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 12
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاَايَاتِ اللَّهِ} أي : آية كانت فيدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الإسلام {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ حَقٍّ} هم أهل الكتاب قتل أولوهم الأنبياء عليهم السلام وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين لولا عصمهم الله وقد أشير إليه بصيغة الاستقبال قال في سورة البقرة : {بِغَيْرِ الْحَقِّ} (البقرة : 61) أي : بغير الحد الذي حده الله وأذن فيه والنكرة ههنا على معنى أن القتل يكون بوجوه من الحق فمعناه يقتلون بغير حق من تلك الحقوق {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} أي : بالعدل {مِنَ النَّاسِ} عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قلت : يا رسول الله أي : الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال : "رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر" ثم قرأها ثم قال : "يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول نهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار" {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي : وجيع دائم جعل لهم بدل البشارة وهو الاخبار السار الاخبار بالنار وهو كقول القائل تحية بينهم ضرب وجيع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 14
{أولئك} المتصفون بتلك الصفات
14(2/11)
القبيحة {الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} الذين بطلت أعمالهم التي ما عملوهن البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقي لهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة {وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} ينصرونهم من بأس الله وعذابه في إحدى الدارين وصيغة الجمع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار من كل واحد منهم كما في قوله تعالى : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (البقرة : 270) ففي الآية ذم لمن قتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فبئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالمعروف والناهين عن المنكر وبئس القوم قوم لا يقومون بالقسط بين الناس وبئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فعليك بالعدل والإنصاف وإياك الجور والظلم والاعتساف ، فاصدع بأوامر الحق ونواهيه ولا تخف غير الله فيما أنت فيه وإنما عليك البلاغ :
كره داني كه نشنوند بكوى
هره مى دانى از نصيحت وند
زود باشد كه خيره سر بيني
بدو اى او فتاده اندر بند
دست بردست مى زند كه دريغ
نشنيدم حديث دانشمند
ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبداً ولكنه لا ينفع الوعظ والزجر في آخر الزمان حين تشتد القلوب قساوة وتكون الأنفس مولعة بلذات الدنيا.
ـ روي ـ أن يهودياً قال لهارون الرشيد في سيره مع عسكره : اتق الله فلما سمع هارون قول اليهودي نزل عن فرسه وكذا العسكر نزلوا تعظيماً لاسم الله العظيم.
ومن أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول في جوابه عليك نفسك أأنت تأمرني بهذا؟ ومن الله العظة والتوفيق إلى سواء الطريق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 14
{أَلَمْ تَرَ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل من تتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم أي : ألم تنظر {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} حظاً وافراً {مِّنَ الْكِتَـابِ} أي : التوراة والمراد بما أوتوه منها ما بين لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي عليه السلام وحقية الإسلام {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَـابِ اللَّهِ} الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يدعون إلى كتاب الله فالجملة إستئناف {لِيَحْكُمَ} ذلك الكتاب {بَيْنَهُمْ} وفي الكتاب بيان الحكم فأضيف إليه الحكم كما في صفة القرآن بشيراً ونذيراً لأن فيه بيان التبشير والإنذار وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل مدارس اليهود فدعاهم إلى الإيمان فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو : على أي : دين أنت؟ قال صلى الله عليه وسلّم "على ملة إبراهيم" قال : إن إبراهيم كان يهودياً قال صلى الله عليه وسلّم "إن بيننا وبينكم التوراة فهاتوها فأبوا" وقال الكلبي : نزلت الآية في الرجم فجر رجل وامرأة من أهل خيبر وكانا في شرف منهم وكان في كتابهم الرجم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجاء رخصة عنده فحكم عليهم بالرجم فقالوا : جرت علينا ليس عليهما الرجم فقال صلى الله عليه وسلّم "بيني وبينكم التوراة" قالوا : قد أنصفتنا قال : "فمن أعلمكم بالتوراة" قالوا : ابن صوريا فأرسلوا إليه فدعا النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من التوراة فيه الرجم دله على ذلك ابن سلام فقال له : "اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها" وقام ابن
15
سلام فرفع أصبعه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً وإن كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما في بطنها وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم باليهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك ورجعوا كفاراً فأنزل هذه الآية {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم} استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه ولم يصف به الكل لأنه قال في هذه السورة {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} (آل عمران : 113) وقال تعالى : {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} (الأعراف : 159) {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حال من فريق لتخصصه بالصفة أي : يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم أو اعتراض أي : وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق والإصرار على الباطل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 14
(2/12)
{ذَالِكَ} أي : التولي والإعراض {بِأَنَّهُمْ} أي : حاصل بسبب أنهم {قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ} باقتراف الذنوب وركوب المعاصي {إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} أربعين يوماً وهي مدة الأيام التي عبدوا فيها العجل ورسخ اعتقادهم على ذلك وهونوا عليهم الخطوب {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم إن آبائنا الأنبياء يشفعون لنا أو أن الله تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة أن ما بين طرفي جهنم أربعون سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم وإنما نعذب حتى نأتي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك وأصل الجحيم سقر وفيها شجرة الزقوم فإذا اقتحموا من باب جهنم وتبادروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم وملأوا البطون قال لهم خازن سقر زعمتم أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودات قد خلت أربعون سنة وأنتم في الأبد {فَكَيْفَ} أي : فكيف يصنعون وكيف يكون حالهم وهو استعظام لما أعد لهم وتهويل لهم وأنهم يقعون فيما لا حيلة في دفعه والمخلص منه وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون {إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ} أي : لجزاء يوم {لا رَيْبَ فِيهِ} أي : في وقوعه ووقوع ما فيه.
ـ روي ـ أن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفرة راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم إلى النار {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي : جزاء ما كسبت من غير نقص أصلاً كما يزعمون.
وفيه دلالة على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية جزاء إيمانه وعمله لا يكون في النار ولا قبل دخولها فإذا هي بعد الخلاص منها {وَهُمْ} أي : كل الناس المدلول عليهم بكل نفس {لا يُظْلَمُونَ} بزيادة عذاب أو بنقص ثواب بل يصيب كلاً منهم مقدار ما كسبه فالله تعالى ليس من شأنه العظيم أن يظلم عباده ولو مثقال ذرة فيجازي المؤمنين بإيمانهم والكافرين بكفرهم.
فعلى العاقل أن لا يقطع رجاءه من الله تعالى وإن كانت ذنوبه مثل زبد البحر فالله تعالى عند حسن ظن العبد به.
جزء : 2 رقم الصفحة : 14
ـ روي ـ "أنه إذا كان يوم القيامة وسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إذا بصوت حزين ينادي من داخل النار يا حنان يا منان ياذا الجلال والإكرام" فيقول الله تعالى : يا جبريل اخرج هذا العبد الذي في النار قال : فيخرجه أسود كفرخ الحمام قد تناثر لحمه وذاب جسمه فينادي يا جبريل لا توقفني بين يدي الله فافزع فيؤتى به إلى الله فيقول له عبدي : أتذكر ذنب
16
كذا وكذا في سنة كذا وكذا فيقول : نعم يا رب فيقول الله اذهبوا بعبدي إلى النار فيكون من العبد التفات فيقول الله : ردوا عبدي إلي فيرد إليه فيقول له : عبدي ما كان التفاتك وهو أعلم فيقول : يا رب أذنبت ولم أقطع رجائي منك وأدخلتني النار ولم أقطع رجائي منك وأخرجتني منها إليك ولم أقطع رجائي منك ثم رددتني إليها ولم أقطع رجائي منك فيقول الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاعي في علو مكاني لأكونن عند ظن عبدي بي ولأحققن رجاءه في اذهبوا بعبدي إلى الجنة"
خدايا بعزت كه خوارم مكى
بذل بزه شر مسارم مكن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في قبورهم ولا في منشرهم كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم وهم يقولون : الحمدالذي أذهب عنا الحزن" فالواجب على من كان مؤمناً وليس من أهل البدع أن يحمد الله على ما هداه وجعله مسلماً من الأمة الشريفة.
ولذا قيل : من علامات سوء العاقبة أن لا يشكر العبد على ما هدى به من الإيمان والتوحيد.
وأهل الغرور في الدنيا مخدوع بهم في الآخرة فليس لهم عناية رحمانية وإنما يقبل رجاء العبد إذ قارنه العمل والكاملون بعد أن بالغوا في تزكية النفس ما زالوا يخافون من سوء العاقبة ويرجون رحمة الله فكيف بنا ونحن متورطون في آبار الأوزار لا توبة لنا ولا استغفار غير العناد والإصرار.
قال الإمام الهمام محمد الغزالي رحمه الله في منهاج العابدين : مقدمات التوبة ثلاث : إحداها ذكر غاية قبح الذنوب.
والثانية ذكر غاية عقوبةوأليم سخطه وغضبه الذي لا طاقة لك به.
والثالثة : ذكر ضعفك وقلة حيلتك فإن من لا يحتمل حر الشمس ولطمة شرطي وقرص نملة كيف يحتمل حر نار جهنم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال خلقت من النار في دار الغضب والبوار نعوذ بالله من سخطه وعذابه.
مرامى ببايد و طفلان كريست
زشرم كناهان زطفلانه زيست
نكو كفت لقمان كه نازيستن
به ازسالها بر خطا زيستن
هم ازبامداد آن كلبه بست
به ازسود وسرمايه دادن زدست
جزء : 2 رقم الصفحة : 14
(2/13)
{قُلِ اللَّهُمَّ} أصله يا الله فالميم عوض عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسم الجليل وشددت لقيامها مقام حرفين.
وقيل أصله يا الله أُمَنَّا بخير أي : اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته {مَـالِكَ الْمُلْكِ} أي : مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً بحيث بتصرف فيه كيف ما يشاء له إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة وتعذيباً وإثابة من غير مشارك ولا ممانع وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم {تُؤْتِى الْمُلْكَ} بيان لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية الملك وتحقيق لاختصاصها به تعالى وكون مالكية الغير بطريق المجاز كما ينبىء عنه إيثار الإيتاء الذي هو مجرد الإعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة {مَن تَشَآءُ} إيتاءه إياه {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} نزعه منه فالملك الأول حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}
17
أن تعزه في الدنيا أو في الآخرة أوفى فيهما بالنصر والتوفيق {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي : بقدرتك الخير كله لا بقدرة أحد من غيرك تتصرف فيه قبضاً وبسطاً حسبما تقتضيه مشيئتك وتخصيص الخير بالذكر لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال : بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه أو لمراعاة الأدب فإن الخطاب بأن الشر منك وبيدك ترك أدب وإن كان الكل من الله تعالى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 17
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة من أهل المدينة أربعين ذراعاً وجميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف وأخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالفيل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره فجاء عليه السلام وأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال : "أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب" ثم ضرب الثانية فقال : "أضاءت لي منها القصور الحمر في أرض الروم" ثم ضرب الثالثة فقال : "أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على الأمم كلها فأبشروا" فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} من الاعزاز والاذلال {تُولِجُ} أي : تدخل {تُولِجُ الَّيْلَ فِى} بنقص الأول وزيادة الثاني حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات {وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي : تظهر الحيوان من النطفة أو الطير من البيضة أو العالم من الجاهل أو المؤمن من الكافر أو النبات من الأرض اليابسة {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ} وهذا عكس الأول {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه بمعنى التعب قال تعالى : {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر : 10) وبمعنى العدد قال تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبمعنى المطالبة قال تعالى : {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (ص : 39) والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هاتيك الأفاعيل العظام المحيرة للعقول فقدرته على أن ينزع الملك من العجم ويذل ويؤتيه العرب ويعزهم أهون من كل هين.
عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين من آل عمران شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقل اللهم إلى قوله تعالى بغير حساب معلقات ما بينهن وبين الله حجاب قلن : يا رب أتهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله عز وجل : إني حلفت أنه لا يقرأكن أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه وأسكنته في حظيرة
18
جزء : 2 رقم الصفحة : 17
(2/14)
القدس ونظرت إليه بعيني كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة وأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم" وفي بعض الكتب (أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم لهم رحمة وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم) وهو معنى قوله عليه السلام : "كما تكونون يولى عليكم" معناه إن كنتم من أهل الطاعة يول عليكم أهل الرحمة وإن كنتم من أهل المعصية يول عليكم أهل العقوبة.
وجاء في الخير أن موسى عليه السلام قال في مناجاته (يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فما علامة سخطك من رضاك؟ فأوحى الله إليه إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاي وإذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي عليهم).
قال الحجاج بن يوسف حين قيل له : لم لا تعدل مثل عمر رضي الله عنه وأنت قد أدركت خلافته أفلم تر عدله وصلاحه؟ فقال في جوابهم : تبذروا أَتَعَمَّرَ لكم ، أي : كونوا كأبي ذر في الزهد والتقوى أعاملكم معاملة عمر في العدل والإنصاف.
وفيه إشارة إلى أن الولاة إنما يكونوا على حسب أعمال الرعايا وأحوالهم صلاحاً وفساداً فعلى كل واحد من المسلمين التضرعتعالى والإنابة إليه بالتوبة والاستغفار عند فشّو الظلم وشمول الجور ويظهر جور الوالي وعدله في الضرع والزرع والأشجار والأثمار والمكاسب والحرف يعني يقل لبن الضرع وتنزع بركة الزرع وتنقص ثمار الأشجار وتكسد معاملة التجار وأهل الحرف في الأمصار التي ملك فيها ذلك الملك الجائر بشؤم ظلمه وسوء فعله ويكون الأمر على العكس إذا عدل ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاووس إن أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير فقال كفى بها موعظة.
ندم اكر بشنوى أي : ادشاه
درهمه دفتر به ازين ند نيست
جز بخردمند مفرما عمل
كره عمل كار خردمند نيست
قال النبي صلى الله عليه وسلّم "سيأتي زمان لأمتي يكون أمراؤهم على الجور ، وعلماؤهم على الطمع وعبادهم على الرياء وتجارهم على أكل الربا ونساؤهم على زينة الدنيا".
جزء : 2 رقم الصفحة : 17
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} نهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار ونحوها من أسباب المصادقة والمعاشرة حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم إلاتعالى أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في موضع الحال أي : متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً.
وفيه إشارة إلى أنهم الاحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكافرين أي : استغناء فلا تؤثروهم عليهم في الولاية {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي : اتخاذهم أولياء {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ} أي : من ولايته تعالى {فِي شَىْءٍ} يصح أن يطلق عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأساً وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان ، قال :
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب
النوك الحمق.
والعازب البعيد والمعنى الصديق هو من يودك ويبغض عدوك.
والأعداء أيضاً ثلاثة عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك :
19
بشوى أي : خرمند ازان دوست دست
كه بادشمنانت بود هم نشست
جزء : 2 رقم الصفحة : 19
(2/15)
{إِلا أَن تَتَّقُوا} استثناء من أعم الأحوال كأنه قيل : لا تتخذوهم أولياء ظاهراً وباطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم {مِنْهُمْ} أي : من جهتهم {تُقَـاـاةً} أي : اتقاء بأن تغلب الكفار أو يكون المؤمن بينهم فإن إظهار الموالاة حينئذٍ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من شق العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام : (كن وسطاً وامش جانباً) أي : كن فيما بينهم صورة وتجنب عنهم سيرة (ولا تخالطهم مخالطة الاوداء ولا تتيسر بسيرتهم) وهذا رخصة فلو صبر حتى قتل كان أجره تعظيماً {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي : يخوفكم الله ذاته المقدسة كقوله تعالى : {فَاتَّقُونِ} (البقرة : 41) {وَاخْشَوْنِى} (البقرة : 150) أي : من سخطي وعقوبتي فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي : إلى جزاء الله مرجع الخلق فيجزي كلاً بعمله {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ} من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفرة {أَوْ تُبْدُوهُ} فيما بينكم {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم إليه {وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سركم وعلنكم وهو من باب إيراد العام بعد الخاص تأكيداً له وتقريراً {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} لأن نفسه وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون المعلوم فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور فهي قادرة على المقدورات كلها فكان حقها أن تحذر وتتقي فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر على واجب فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ولا حق به العذاب ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله مما يورد ويصدر ونصب عليه عيوناً وبث من يتجسس عن بواطن أموره لأخذ حذره وتيقظ في أمره واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به فما بال من علم أن الله الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك كذا في "الكشاف".
جزء : 2 رقم الصفحة : 19
فالعاقل يخاف من الله ويكون حبه وبغضهيوالي المؤمنين ويعادي الكافرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أربعة من الكبائر لبس الصوف لطلب الدنيا وادعاء محبة الصالحين وترك فعلهم وذم الأغنياء والأخذ منهم ورجل لا يرى الكسب ويأكل من كسب الناس".
كر آنهاكه ميكفتمي كردمي
نكو سيرت ارسا بودمي
والحب في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان وخلق سني والمحبة الصادقة لا تكون إلا عند المصافاة في الباطن وهي مبنية على اتفاق العقيدة والوجهة لأن القلوب تتناسب فتتصافى فإن لم يكن بينها التوافق المعنوي واتفق بين أربابها المصالحة والمؤانسة بحسب المماثلة النوعية والإلفة النفسية والجنسية الصورية أعدت الرذائل صاحب الفضائل باستغراق النفس فتشابه وتخالق كما قيل :
عن المرء لا تسأل وابصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال علي رضي الله عنه :
20
(فلا تصحب أخا الجهل
وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى
حليماً حين أخاه
يقاس المرء بالمرء
إذا م هو ما شاه
وللقلب على القلب
دليل حين يلقاه
)
وإذا كان الرجل مبتلي بصحبة الفجار في سفره للحج أو للغزاء لا يترك الطاعة بصحبتهم ولكن يكره بقلبه ولا يرضى به فلعل الفاسق يتوب ببركة كراهة قلبه.
ـ حكي ـ أن حاتماً وشقيقاً خرجا في سفر فصحبهما شيخ فاسق وكان يضرب بالمعزف في الطريق ويطرب ويغني وكان حاتم ينتظر أن ينهاه شقيق فلم يفعل ذلك فلما كان في آخر الطريق وأرادوا أن يتفرقوا قال لهما ذلك الشيخ الفاسق : لم أر أثقل منكما قد طربت بين أيديكما كل الطرب فلم تنظرا إلى طربي فقال له حاتم : يا شيخ اعذرنا فإن هذا شقيق وأنا حاتم فتاب الرجل وكسر ذلك المعزف وجعل يتلمذ عندهما ويخدمهما فقال شقيق لحاتم : كيف رأيت صبر الرجال؟
نه آنكه بر در دعوى نشيند از خلقي
كه كر خلاف كنندش بجنك برخيزد
وكر زكوه فرو غلطد آسيا سنكي
نه عارفست كه از راه سنك برخيزد
وينبغي أن يعلم أن المؤمن كما يلزم له أن يقطع الموالاة عن الكفار كذلك يقطع ذلك عن الأقرباء الفجار كما قيل :
ون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر از مودت قربى
فإن قلت : هذا مخالف للقرآن فإنه ناطق بصلة الأرحام مطلقاً ، قلت : هو موافق كما قال تعالى : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (لقمان : 15) فمن تسبب لشقاوتك يجب تقاطعك عنه وإن كان ذا قرابتك :
جزء : 2 رقم الصفحة : 19
هزار خويش كه بيكانه از خدا باشد
فداي يك تن بيكانه كاشنا باشد
(2/16)
فعليك بقطع التعلق من الأغيار وبالاقتداء بهدي الأنبياء الأخيار قال خليل الله عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء : 77) ومن موالاة الكفار المواكلة معهم بغير عذر اقتضاها.
ومن القول الشنيع أن يقال لهم جلبي كما يقول لهم سفهاء زماننا فإن معنى جلبي منسوب إلى جلب وجلب اسم الله تعالى وهم ناري دون نوري فكيف يصح نسبتهم إلى الله والعياذ بالله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 19
{يَوْمٍ} منصوب بتود {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} أي : من النفوس المكلفة {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} عندها بأمر الله تعالى {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ} عطف على ما عملت والإحضار معتبر فيه أيضاً إلا أنه خص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مراداً بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية {تَوَدُّ} أي : تحب وتتمنى يوم تجد صحائف أعمالها من الخير والشر أو أجزيتها محضرة {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} أي : بين النفس وبين ذلك اليوم وهوله أو بين العمل السوء {أَمَدَا بَعِيدًا} أي : مسافة واسعة كما بين المشرق والمغرب ولم تحضر ذلك اليوم أو لم تعمل ذلك السوء قط {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي : يقول الله إياكم ونفسي يعني احذروا من سخطي وهو تكرير لما سبق ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه {وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ} يعني أن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروه دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه فيحذرهم تحذير الوالد المشفق ولده عما يوبقه.
21
قال القشيري رحمه الله : هذا للمستأنفين وقوله : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} للعارفين أولئك أصحاب التخفيف والتسهيل وهؤلاء أصحاب التخويف والتهويل ونظيره بشر المذنبين وانذر الصديقين فالله تعالى يمهل ولا يهمل فيجب أن لا يغتر العبد بإمهاله بل يتأهب ليوم حسابه وجزائه :
در خير بازاست وطاعت وليك
جزء : 2 رقم الصفحة : 21
نه هركس تواناست بر فعل نيك
واعلم أن ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش في صحائف النفوس السماوية وإذا تكرر صار ملكة راسخة لكنه مشغول عن تلك الهيآت الثابتة في نفسه ونقوشها بالشواغل الحسية والوهمية والفكرية فإذا فارقت النفس الجسد وقامت قيامتها وجدت ما عملت من خير وشر محضرا لارتفاع الشواغل المانعة كقوله تعالى : {أَحْصَا هُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة : 6) فإن كان شراً تتمنى البعد فيما بينها وما بين ذلك اليوم أو ذلك العمل لتعذبها به فتصير تلك الهيآت صورتها إن كانت راسخة والا صورة تعذبها وتعذبت بحسبها ومن الله العصمة ، قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره :
هر خيالي كو كند در دل وطن
روز محشر صورتي خواهد شدنسيرتي كان در وجودت غالب است(2/17)
هم بر آن تصوير حشرت واجب است فعلى العاقل أن يزكي نفسه عن الأخلاق الذميمة ويطهر قلبه عن لوث العلائق الدنيوية ويجتهد في تحصيل مرضاة الله بالأعمال الصالحة والأقوال الحقة كي يجدها عند ربه يوم احتياجه ويفوز بالسعادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط واظمأ ما كانوا قط وأعرى ما كانوا قط وانصب ما كانوا قط فمن أطعم الله أطعمه ومن سقي الله سقاه ومن كسا الله كساه ومن عملكفاه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام باعد بيني وبين خطيئتي كما باعدت بين المشرق والمغرب ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس واغسلني بماء الثلج والبرد سبحان الله وبحمده أستغفر الله العظيم وأتوب إليه" ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً إلى أصحابه حوله فقال : "أيها الناس لا تعجبوا بأنفسكم وبكثرة أعمالكم وبقلة ذنوبكم ولا تعجبوا بامرىء حتى تعلموا بم يختم له" قال عليه السلام : "فإنما الأعمال بخواتيمها ولو أن أحدكم جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً لتمنى الزيادة لهول ما يقدم عليه يوم القيامة" {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى} أثبت فيه الياء لأنه أصل ولم يثبت في فاتقون وأطيعون لأنه ختم آية ينوي بها الوقف {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} نزلت حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعب بن الأشرف ومن تابعه إلى الإيمان فقالوا : {نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فقال تعالى لنبيه عليه السلام : قل لهم : إني رسول الله أدعوكم إليه فإن كنتم تحبونه فاتبعوني على دينه وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرضى عنكم والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلاوأن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلاوفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلّم في طاعته والحرص على مطاوعته
22
جزء : 2 رقم الصفحة : 21
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي : يكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جنات عزه ويبوئكم في جوار قدسه.
عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة أو المشاكلة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : لمن كان يتحبب للنصارى ويتبع عيسى بن مريم فنزل قوله تعالى : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أي : في جميع الأوامر والنواهي فيدخل في ذلك الطاعة في اتباعه صلى الله عليه وسلّم دخولاً أولياً {فَإِن تَوَلَّوْا} إما من تمام مقول القول فهي صيغة المضارع المخاطب بحذف إحدى التاءين أي : تتولوا وتعرضوا ، وإما كلام متفرع مسوق من جهته تعالى فهي صيغة الماضي الغائب وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة كما في قوله تعالى : {فَإِنْ أَسْلَمُوا} (آل عمران : 20) تلويح إلى أنه غير محتمل عنهم {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ} نفي المحبة كناية عن بغضه تعالى لهم وسخطه عليهم أي : لا يرضى عنهم ولا يثنى عليهم.
ودلت الآية على شرف النبي عليه السلام فإنه جعل متابعته متابعة حبيبه وقارن طاعته بطاعته فمن ادعى محبة الله وخالف سنة نبيه فهو كذاب بنص كتاب الله تعالى كما قيل :
تعصي الاله وأنت تظهر حبه
هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع وإنما كان من ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله كاذباً في دعواه لأن من أحب آخر يحب خواصه والمتصلين به من عبيده وغلمانه وبيته وبنيانه ومحله ومكانه وجداره وكلبه وحماره وغير ذلك فهذا هو قانون العشق وقاعدة المحبة وإلى هذا المعنى أشار المجنون العامري حيث قال :
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا قال الإمام القشيري رحمه الله قطع الله أطماع الكل أن يسلم لأحدهم نفسه إلا ومقتداهم سيد الأولين والآخرين.(2/18)
وقال القاشاني : محبة النبي عليه السلام إنما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولاً وعملاً وخلقاً وحالاً وسيرة وعقيدة ولا تتمشى دعوى المحبة إلا بهذا فإنه قطب المحبة ومظهرها وطريقته صلى الله عليه وسلّم المحبة فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب وإذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسره وقلبه ونفسه باطن النبي وسره وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة فلزم بهذه المناسبة أن يكون لهذا التابع قسط من محبة الله بقدر نصيبه من المتابعة فيلقي الله محبته عليه ويسري من روح النبي نور تلك المحبة أيضاً إلى قلبه أسرع ما يكون إذ لولا محبة الله لم يكن محباً له ثم نزل عن هذا المقام لأنه أعز من الكبريت الأحمر ودعاهم إلى ما هو أعم من مقام المحبة وهو مقام الإرادة فقال : "قل أطيعوا الله والرسول" أي : إن لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا متابعة حبيبي فلا أقل من أن تكونوا مريدين مطيعين لما أمرتم به فإن المريد يلزمه طاعة المراد وامتثال أمره {فَإِن تَوَلَّوْا} أي : إن أعرضوا عن ذلك أيضاً فهم كفار محجوبون انتهى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 21
وروى البخاري عن عبد الله بن هشام أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال عمر : يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي
23
فقال عليه السلام : "والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" فقال عمر : فإنه الآن والله أنت أحب إلي من نفسي فقال عليه السلام : "الآن يا عمر صار إيمانك كاملاً" وقال صلى الله عليه وسلّم "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا ومن يأبى قال : "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" وعن جابر بن عبد الله أنه قال : جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو نائم فقال بعضهم : إنه نائم وقال بعضهم أن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً فقالوا كمثل رجل بني دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها له يفقهها فقالوا : الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ومن عصى محمداً فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس فبمتابعة النبي صلى الله عليه وسلّم تحصل الجنة ولقربة والوصلة.
ـ روي ـ أن محموداً الغازي دخل على الشيخ الرباني أبي الحسن الخرقاني قدس سره لزيارته وجلس ساعة ثم قال : يا شيخ ما تقول في حق أبي يزيد البسطامي قدس سره؟ فقال الشيخ : هو رجل من اتبعه اهتدى واتصل بسعادة لا تخفى فقال محمود وكيف ذلك وأبو جهل رأى رسول الله عليه السلام ولم يخلص من الشقاوة؟ فقال الشيخ في جوابه : إن أبا جهل ما رأى رسول الله إنما رأى محمد بن عبد الله حتى لو كان رأى رسول الله عليه السلام لخرج من الشقاوة ودخل في السعادة ثم قال ومصداق ذلك قول الله تعالى : {وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف : 198) فالنظر بعين الرأس لا يوجب هذه السعادة بل النظر بعين السر والقلب والمتابعة التامة تورث ذلك.
وأمته صلى الله عليه وسلّم من اتبعه ولا يتبعه إلا من أعرض عن الدنيا فإنه عليه السلام ما دعا إلا إلى الله واليوم الآخر وما صرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة فبقدر ما أعرضت عنها وأقبلت على الله وصرفت الأوقات لأعمال الآخرة فقد سلكت سبيله الذي يسلكه وبقدر ما اتبعته صرت من أمته وبقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله وأعرضت عن متابعته ولحقت بالذين قال الله تعالى فيهم : {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى} (النازعات : 38 ـ 39) ولو خرجت عن مكمن الغرور وأنصفت من نفسك يا رجل ـ وكلنا ذلك الرجل ـ لعلمت أنك من حين تمسي إلى حين تصبح لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك إلا برجل الدنيا الفانية ثم تطمع في أن تكون غدا من أمته واتباعه ويحك ما أبعد ظننا؟ وما أفحش طمعنا؟ قال الله تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم : 35 ـ 36).
جزء : 2 رقم الصفحة : 21
(2/19)
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ} الاصطفاء أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء أي : اختار آدم بالنفس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية المستتبعة للرسالة في نفس المصطفى كما في كافة الرسل عليهم السلام أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريم أو اصطفاه بأن خلقه بيده في أحسن تقويم وبتعليم الأسماء واسجاد الملائكة إياه وإسكانه الجنة اصطفى {نُوحًا} بما ذكر من الوجه الأول أو اصطفاه بكونه أول من نسخ الشرائع إذ لم يكن قبل ذلك تزويج المحارم حراماً وباطلة عمره وجعل ذريته هم الباقين واستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين وحمله على متن الماء اصطفى {إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ} وهو إسماعيل
24
وإسحق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلّم ويفهم من اصطفائهم اصطفاء إبراهيم بطريق الأولوية {و} اصطفى {عِمْرَانَ عَلَى} وهو عيسى وأمه مريم ابنة عمران بن ماتان بن العادر بن أبي هود بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن اوشا بن أوموذر بن ميشك بن خارقا بن يونام بن غرزيا بن يوزان بن ساقط بن ايشا بن راجقيم بن سليمان بن داود عليهما السلام بن ايشا بن عويل بن سلمون بن ياعر بن ممشون بن عمياد بن دام بن حضروم بن فارض بن يهودا بن يعقوب عليه السلام.
وقيل آل عمران هو موسى وهارون عليهما السلام ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه السلام بالاندراج في آل إبراهيم والأول هو الأظهر بدليل تعقيبه بقصة مريم واصطفاء موسى وهارون عليهما السلام بالانتظام في سلك آل إبراهيم انتظاماً ظاهراً {عَلَى الْعَـالَمِينَ} جمع عالم وهو اسم لنوع من المخلوقين فيه علامة يمتاز بها عن خلافه من الأنواع كالملك والجن والإنس يقال عالم البر وعالم البحر وعالم الأرض وعالم السماء والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم أي : اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه {ذُرِّيَّةِ} نصب على البدلية من الآلين.
والذر بفتح الذال : البث والتفريق ، وسمى نسل الثقلين ذرية لأن الله تعالى قد بثهم في الأرض أو لأن الله أخرج نسل آدم عليه السلام من صلبه كهيئة الذر وهو جمع ذرة وهي أصغر النمل الذرء أيضاً : الخلق والله تعالى خلقهم وأظهرهم من العدم إلى الوجود
جزء : 2 رقم الصفحة : 24
{بَعْضُهَا مِنا بَعْضٍ} في محل النصب على أنه صفته لذرية يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض فإن آل إبراهيم أعني إسماعيل وإسحق متشعبان من إبراهيم المتشعب من نوح المتشعب من آدم وأولادهما إلى آخر أنبياء بني إسرائيل وإلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين متشعبون منهما وآل عمران وهو موسى وهارون من ذرية إبراهيم ونوح وآدم وكذا عيسى وأمه مريم عليهما السلام {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأقوال العباد {عَلِيمٌ} بأعمالهم البادية والخافية فيصطفي من بينهم لخدمته من يظهر استقامته قولاً وفعلاً على نهج قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام : 134).
ودلت الآية على صحة أنكحة الكفار حيث ثبت نسب بعضهم من بعض بها قال صلى الله عليه وسلّم "ولدت من نكاح لا من سفاح".
واعلم أن الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم لأنهم خيرة الله وصوفته وتتفاضل فيه مراتبهم كما قال تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة : 253) فأخص المراتب هو المحبة المشار إليها بقوله : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ} فلذلك كان أفضلهم حبيب الله محمداً عليه السلام ثم الخلة التي هي صفة إبراهيم عليه السلام وأعمها الصفاء الذي هو صفة آدم صفي الله عليه السلام {ذُرِّيَّةَا بَعْضُهَا مِنا بَعْضٍ} في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان : صورية ومعنوية فكل نبي يتبع نبياً آخر في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ في زماننا هذا وكما قيل الآباء ثلاثة : أب ولدك ، وأب رباك ، وأب علمك ، وكما أن وجود البدن في الولادة الصورية يتولد في رحم أمه من نطفة أبيه فكذلك وجود القلب في الولادة الحقيقية يظهر في رحم استعداد النفس من نفخة الشيخ والمعلم وإلى هذه الولادة
25
أشار عيسى عليه السلام بقوله : (لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين).
(2/20)
ثم اعلم أن الولادة المعنوية أكثرها تتبع الصورية في التناسل ولذلك كان الأنبياء في الظاهر أيضاً نسلاً واحداً ثمرة شجرة واحدة وسببه أن الروح في الصفاء والكدورة يناسب المزاج في القرب من الاعتدال الحقيقي وعدمه وقت التكون فلكل روح مزاج يناسبه ويخصه إذ الفيض يصل بحسب المناسبة وتتفاوت الأرواح في الأزل بحسب صفوتها ومراتبها في القرب والبعد عن الحضرة الأحدية فتتفاوت الأمزجة بحسبها في الأبد لتتصل بها والأبدان المتناسلة بعضها من بعض متشابهة في الأمزجة على الأكثر اللهم إلا لأمور عارضة اتفاقية فكذلك الأرواح المتصلة بها متقاربة في الرتبة متناسبة في الصفة وهذا مما يقوي أن المهدي يكون من نسل محمد عليه السلام.
والأغذية مؤثرة في البدن.
فمن كان غذائه حلالاً طيباً وهيآت نفسه فاضلة نورانية ونياته صادقة حقانية جاء ولده مؤمناً صديقاً أو ولياً أو نبياً.
ومن كان غذائه حراماً وهيآت نفسه خبيثة ظلمانية ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقاً أو كافراً أو زنديقاً إذ النطفة التي يكون الولد منها متولدة من ذلك الغذاء مرباة في تلك النفس فيناسبها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الولد سر أبيه" وكان صدق مريم ونبوة عيسى ببركة صدق نيتها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 24
{إِذْ} منصوب باذكر {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} وهي امرأة عمران بن ماثان أم مريم البتول جدة عيسى عليه السلام وهي حنة بنت فاقوذا.
فإن قلت : كان لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون ولعمران بن ماثان مريم البتول فما أدراك أن عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبي مريم التي هي أخت موسى وهارون.
قلت : كفى بكفالة زكريا دليلاً على أنه عمران أبو البتول لأن زكريا بن أذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد وقد تزوج زكريا بنته ايشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
ـ روي ـ أنها كانت عاقراً لم تلد إلى أن عجزت فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت : اللهم إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل وذلك قوله تعالى : {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ} والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه {مَا فِي بَطْنِي} عبر عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء {مُحَرَّرًا} أي : معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشيء أو خالصاًولعبادته لا يعمل عمل الدنيا ولا يتزوج فيتفرغ لعمل الآخرة وكان هذا النذر مشروعاً عندهم لأن الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد ولم يكن أحد من الأنبياء إلا ومن نسله محرر لبيت المقدس ولم يكن يحرر إلا الغلمان ولا تصح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى فتحتاج إلى الخروج ولكن حررت حنة ما في بطنها مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على تقدير الذكورة أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر {فَتَقَبَّلْ مِنِّي} أي : ما نذرته والتقبل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
أخذ الشيء على وجه الرضى وهذا في الحقيقة استدعاء للولد إذ لا يتصور القبول بدون تحقق المقبول بل للولد الذكر لعدم قبول
26
(2/21)
الأنثى {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ} لجميع المسموعات التي من جملتها تضرعي ودعائي {الْعَلِيمُ} لكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميري لا غير {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} أي : ولدت النسمة وهي أنثى {قَالَتْ} حنة وكانت ترجو أن تكون غلاماً {رَبِّ إِنِّى} التأكيد للرد على اعتقادها الباطل {وَضَعْتُهَآ أُنثَى} تحسراً على ما رأته من خيبة رجائها وعكس تقديرها والضمير المتصل عائد إلى النسمة وأنثى حال منه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيم من جهته تعالى لموضوعها فإنها لما تحسرت وتحزنت على أن ولدت أنثى قال الله تعالى إنها لا تعلم قدر هذا الموهوب والله هو العالم بالشيء الذي وضعته وما علق به من العجائب وعظائم الأمور فإنه تعالى سيجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم به فلذلك تحسرت وتحزنت {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالانثَى} مقولأيضاً مبين لتعظيم موضوعها ورفع منزلته.
واللام فيهما للعهد أي : ليس الذكر الذي كانت تطلبه وتتخيل فيه كمالاً قصاراه أن يكون كواحد من السدنة كالأنثى التي وهبت لها فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور فهي أفضل من مطلوبها وهي لا تعلم وهاتان الجملتان من مقول الله تعالى اعتراضان بين قول أم مريم {إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى} وقولها : {وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} من مقول حنة عطف على قولها {إِنِّى وَضَعْتُهَآ} أي : إني جعلت اسمها مريم وغرضها من عرضها على علام الغيوب التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مريم في لغتهم بمعنى العابدة وخادم الرب وإظهار أنها غير راجعة في نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وإنها لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه وظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وضع حنة مريم وإلا لما تولت الأم تسمية المولود لأن العادة أن التسمية يتولاها الآباء {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ} أي : أجيرها بحفظك {وَذُرِّيَّتَهَا} عطف على الضمير المنصوب أي : أولادها {مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} أي : المطرود.
وأصل الرجم الرمي بالحجارة وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إلا مريم وابنها" ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
{فَتَقَبَّلَهَا} أي : أخذ مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر {رَبُّهَا} مالكها ومبلغها إلى كمالها اللائق {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} بوجه حسن يقبل به النذائر وهو قبول تلك الأنثى مع أنوثتها وصغرها فإن المعتاد في تلك الشريعة أن لا يجوز التحرير إلا في حق غلام عاقل قادر على خدمة المسجد وهنا لما علم الله تعالى تضرع حنة قبل بنتها حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد {وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها مما يصلح في جميع أحوالها ثم إن الله تعالى ذكر قبولها منها وذلك لضعفها وصدق نيتها في الابتداء وحيائها في الانتهاء وكان في ذلك الزمان أربعة آلاف محرر لم يشتهر خبر أحد منهم اشتهار خبرها.
وفيه تنبيه للعبد على أن يرى من نفسه التقصير بعد جهدها ليقبل الله عملها لإظهار إفلاسها وإضمار إخلاصها رزقنا الله وإياكم :
طريقت همينست كاهل يقين
نكو كار بودند وتقصير بين
27
واعلم أنه سبحانه قطع السائرين له وهم المريدون والواصلين إليه وهم المرادون عن رؤية أعمالهم وشهود أحوالهم.
أما السائرون فلأنهم لم يتحققوا الصدق مع الله فيها فانقطعوا إليه برؤية تقصيرهم.
وأما الواصلون فلأنه غيبهم شهوده عنها لأنه الفعال وهم آلة مسخرة.
(2/22)
ولما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب الشيخ أبي عثمان المغربي بم يأمركم شيخكم؟ قالوا : كان يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير فيها فقال : أمركم بالمجوسية المحضة هلا آمركم بالغيبة عنها بشهود منشئها ومجريها.
قال القشيري وإنما أراد الواسطي صيانتهم عن محل الإعجاب لا تعريجاً في أوطان التقصير أو تجويزاً للإخلال بأدب من الآداب.
قال النهرجوري من علامة من تولاه الله في أعماله أن يشهد التقصير في إخلاصه والغفلة في أذكاره والنقصان في صدقه والفتور في مجاهدته وقلة المراعاة في فقره فتكون جميع أحواله عنده غير مرضية ويزداد فقراً إلى الله في فقره وسيره حتى يفنى عن كل ما دونه.
قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في إشارة قوله تعالى : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} (الحج : 61) يولج المعصية في الطاعة ويولج الطاعة في المعصية يطيع العبد الطاعة فيعجب بها ويعتمد عليها ويستصغر من لم يفعلها ويطلب من الله العوض عليها فهذه حسنة أحاطت بها سيئات ويذنب الذنب فيلجأ إلى الله فيه ويستصغر نفسه ويستعظم من لم يفعله فهذه سيئة أحاطت بها حسنات فأيتهما الطاعة وأيتهما المعصية فعلى السالك أن يجتهد في الطاعات ولا يغتر بالعبادات لعله يصل إلى غاية الغايات في روضات الجنات :
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
ه زرها بخاك سيه دركنند
كه باشد كه روزى مسى زركنند
يعني أن المشتغلين بتحصيل صنعة الكيمياء يجعلون دنانير كثيرة تحت التراب أي : يبذلونها لتحصيلها ويفرقونها في أسبابها كي يصير النحاس في أيديهم ذهباً بحتاً ويتشرفوا بوصولها :
زر ازبهر يزى خريدن نكوست
ه خواهي خريدن به ازوصل دوست
فالسعي في الأعمال إنما هو لطلب رضى الله ووصول جنابه وهو الذي يبذل في طريقه المال والروح لينفتح باب الفتوح.
قال الشيخ الشاذلي قدس سره في "لطائف المنن" : واعلموا أن الله أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات فأي من فاته من الطاعات صنف أو أعوزه من الموافقات جنس فقد فقد من النور بمقدار ذلك ولا تهملوا شيئاً عن الطاعات ولا تستغنوا عن الأوراد بالواردات ولا ترضوا لأنفسكم بما رضي به المدعون بحر الحقائق على ألسنتهم وخلوا أنوارها من قلوبهم انتهى ، فينبغي للعبد أن يواظب على أصناف الطاعات وينساها بعدما عملها كيلا يبطلها العجب لأنه يقال حفظ الطاعة أشد من فعلها لأن مثلها كمثل الزجاج يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر وكذا الخيرات إذا أزيلت بالمخالفات {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} الفعلتعالى بمعنى وضمنها الله إلى زكريا وجعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدابير أمورها والكافل هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه وفي الحديث : "أنا وكافل اليتيم كهاتين" وهو زكريا بن أذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان عليه السلام ابن داود عليه السلام.
ـ روي ـ أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة أي : خذوها
28
فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقرع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر قيل هو نهر الأردن فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح فألقوا ثلاث مرات ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها.
قال الشيخ في تفسيره وهو معنى قوله {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} الآية {كُلَّمَآ} أي : كل وقت {دَخَلَ عَلَيْهَا} أي : على مريم {زَكَرِيَّآ} فاعل دخل {الْمِحْرَابَ} أي : في المحراب قيل : بنى لها محراباً في المسجد أي : غرفة تصعد إليها بسلم أو المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس أو كانت مساجدهم تسمى المحاريب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
(2/23)
ـ روي ـ أنها لا يدخل عليها إلا هو وحده فإذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكلما دخل {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} أي : نوعاً منه غير معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء وفي الشتاء فاكهة الصيف ولم ترضع ثدياً قط {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه السلام عند مشاهدة هذه الآية؟ فقيل قال : يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا} أي : من أين يجيء لك هذا الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخلة به إليك {قَالَتْ} مريم وهي صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد {هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فلا تعجب ولا تستبعد {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أن يرزقه {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي : بغير تقدير لكثرته أو بلا محاسبة أو من حيث لا يحتسب وهو تعليل لكونه من عند الله إما من تمام كلامها فيكون في محل النصب وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنف.
وفي الآية دليل على جواز الكرامة للأولياء ومن أنكرها جعل هذا إرهاصاً وتأسيساً لرسالته عليه السلام.
عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع بها إليها وقال : "هلمي يا بنية" فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله فقال لها صلى الله عليه وسلّم "أنى لك هذا" فقالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال صلى الله عليه وسلّم "الحمدالذي جعلك شبيهة بسيدة بني إسرائيل" ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم علياً والحسنين ـ رضي الله عنهم ـ وجمع أهل بيته عليه فأكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها.
وقد ظهر على السلف رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين ثم على من بعدهم من الكرامات.
قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه أكبر الكرامات أن تبدل خلقاً مذموماً من أخلاقك.
قال الشيخ أبو العباس رحمه الله : ليس الشأن من تطوي له الأرض فإذا هو بمكة وغيرها من البلدان إنما الشأن من تطوى عنه أوصاف نفسه.
وقيل لأبي يزيد : إن فلاناً يمشي على الماء قال الحوت أتجب منه إذ هو شأنه ، فقيل له : إن فلاناً يمشي في الهواء قال : الطير أعجب من ذلك إذ هو حاله ، قيل له : كان فلان يمشي إلى مكة ويرجع من يومه قال إبليس : أعجب من ذلك إذ هو حاله تطوى له الأرض كلها في لحظة وهو في لعنة الله فالطي الحقيقي أن تطوي مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك لأن الأرض تطوي لك فإذا
29
أنت حيث شئت من البلاد لأن هذا ربما جر إلى الاغترار وذلك يؤدي للتعلق بالواحد القهار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
ـ وحكي ـ عن أبي عنوان الواسطي قال : انكسرت السفينة وبقيت أنا وامرأتي أياماً على لوح وقد ولدت في تلك الحالة صبية فصاحت بي فقالت : يقتلني العطش فرفعت رأسي فإذا رجل في الهواء جالس في يده سلسلة في ذهب وفيها كوز من ياقوت أحمر وقال : هاك اشربا قال : فأخذت الكوز وشربنا منه فإذا هو أطيب من المسك وأحلى من العسل فقلت : من أنت يرحمك الله قال : أنا عبد لمولاك فقلت : بم وصلت إلى هذا فقال : تركت هواي لمرضاته فأجلسني في الهواء ثم غاب عني فلم أره.
وحج سفيان الثوري مع شيبان الراعي ـ رضي الله عنهما ـ فعرض لهما سبع فقال سفيان لشيبان أما ترى هذا السبع؟ فقال : لا تخف وأخذ شيبان أذنيه فعركهما فتبصبص وحرك ذنبه فقال سفيان : ما هذه الشهرة؟ فقال : لولا مخافة الشهرة لما وضعت زادي إلا على ظهره حتى آتى مكة :
توهم كردن از حكم داور مي
كه كردن نه يدز حكم توهي
محالست ون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذا رد ترا
{هُنَالِكَ} أي : حيث كان قاعداً عند مريم في المحراب ولما رأى زكريا عليه السلام حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة والكرامة على الله وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} أي : أعطني من محض قدرتك من غير وسط معتاد {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي : ولداً صالحاً مباركاً تقياً رضياً مرضياً.
والذرية : النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولد واحد.
والطيب هو الذي تستطاب أفعاله وأخلاقه فلا يكون فيه أمر يستخبث ويعاب {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ} أي : مجيبه كما في قولهم سمع الله لمن حمده وهذا لأن من لم يجب فكأنه لم يسمع ، فإن قيل : إن زكريا كان عالماً أن في قدرة الله ذلك قبل رؤية حال مريم فهلا سأل قبل ذلك ، قلنا : يزداد الإنسان رغبة في الشيء إذا عاينه وإن كان عالماً به قبله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
(2/24)
{فَنَادَتْهُ الملائكة} أي : جبرائيل وحكم الواحد من الجنس قد ينسب إلى الجنس نفسه نحو فلان يركب الخيل وإنما يركب واحداً من أفرادها ولما كان جبرائيل رئيسهم عبر عنه باسم الجماعة تعظيماً له {وَهُوَ} حال من مفعول النداء أي : والحال أن زكريا عليه السلام {قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} أي : في المسجد أو في غرفة مريم {إِنَّ اللَّهَ} مفعول ثان لنادته أي : بأن الله تعالى {يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} أي : بولد اسمه يحيى لأنه حيي به رحم أمه ولأنه تحيي به المجالس من وعظه والتقدير بولادة ولد اسمه يحيى فإن التبشير لا يتعلق بالأعيان {مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} أي : بعيسى عليه السلام ، وإنما سمي كلمة لأنه وجد بكلمة كن من غير أب فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر وهو أول من آمن بعيسى وصدق بأنه كلمة الله وروح منه ويسمى روحاً أيضاً لأنه تعالى أحيى به من الضلالة كما يحيي الإنسان بالروح.
قال السعدي : لقيت أم يحيى أم عيسى فقالت : يا مريم أشعرت بحبلي؟ فقالت مريم : وأنا أيضاً حبلى قالت : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى : {مُصَدِّقَا} الخ وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر
30
ثم قتل يحيى قبل أن رفع عيسى إلى السماء {وَسَيِّدًا} عطف على مصدقاً أي : رئيساً يسود قومه ويفوقهم في الشرف وكان فائقاً للناس قاطبة فإنه لم يلم بخطيئة ولم يهم بمعصية فيا لها ما أسناها {وَحَصُورًا} أي : مبالغاً في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة.
ـ روي ـ أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت.
والحصور الممتنع من النساء مع القدرة عليهما وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره {وَنَبِيًّا} أي : يوحى إليه إذا بلغ هو مبلغه {مِّنَ الصَّالِحِينَ} أي : ناشئاً منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم السلام.
والصلاح صفة تنتظم الخير كله والمراد به هنا ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه.
{قَالَ} عند نداء الملائكة إياه وبشارتهم له بالولد بالاستفهام متعجباً من حيث العادة ومسروراً بالولد {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي} أي : كيف يحصل لي {غُلَامٌ} وفيه دلالة على أنه خبر بكونه غلاماً عند التبشير {وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ} أي : أدركني كبر السن وأثر فيّ ، وفيه دلالة على أن كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للإنسان لا يكاد يتركه قيل : كان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون {وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ} أي : ذات عقر وعقيم لا تلد {قَالَ} أي : الله {كَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر يفعل في قوله تعالى : {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} أي : ما يشاء أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادات.
فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف أي : الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلاً مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً} أي : علامة تدل أي : تحقق المسؤول أو وقوع الحبل وإنما سألها لأن العلوق أمر خفي لا يوقف عليه فأراد أن يطلعه الله عليه ليتلقى تلك النعمة الجليلة منه حين حصولها بالشكر ولا يؤخره إلى أن يظهره ظهوراً معتاداً {قَالَ ءَايَتُكَ} أي : علامة حدوث الولد {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ} أي : أن لا تقدر على تكليمهم {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} أي : متوالية مع لياليها فإن ذكر الليالي أو الأيام يقتضي دخول الأخرى فيها لغة وعرفا وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله وشكره قضاء لحق النعمة {إِلا رَمْزًا} أي : إشارة بيد أو رأس أو نحوهما وسمي الرمز كلاماً لأنه يؤدي ما يؤدي الكلام ويفهم منه ما يفهم من الكلام فلهذا جاز الاستثناء المتصل منه ثم أمره تعالى بذكره لعدم منعه عن ذكر الله فقال : {وَاذْكُر رَّبَّكَ} أي : في أيام الحبسة شكراً لحصول التفضل والإنعام {كَثِيرًا} أي : ذكراً كثيراً {وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ} أي : سبحه تعالى أي : من الزوال إلى الغروب {وَالابْكَارِ} من طلوع الفجر إلى الضحى.
قال الإمام في قوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا} فيه قولان : أحدهما أنه تعالى أمر بحبس لسانه عن أمور الدنيا إلا رمزاً فأما في الذكر والتسبيح فقد كان لسانه جيداً وكان ذلك من المعجزات الباهرة ، والقول الثاني أن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في أول الأمر أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكتوا باللسان وبقي الذكر بالقلب ولذلك قالوا : من عرف الله كل لسانه فكان زكريا عليه السلام أمر بالسكوت باللسان والاستحضار معاً في الذكر والمعرفة
31
واستدامتهما انتهى.
واعلم أن الذكر على مراتب والذكر اللساني بالنسبة إلى الذكر القلبي تنزل.(2/25)
ـ روي ـ أن عيسى عليه السلام حين ترقى إلى أعلى مراتب الذكر جاءه إبليس فقال : يا عيسى اذكر الله فتعجب عيسى من أمره بالذكر مع أن جبلته على المنع منه ثم ظهر أنه أراد أن يغويه وينزله من مرتبة الذكر القلبي إلى مرتبة الذكر اللساني وذلك كان تنزلاً بالنسبة إلى مقامه عليه السلام ، فعلى العاقل أن يداوم على الأذكار آناء الليل وأطراف النهار فإن الذكر يدفع هوى النفس فإذا طرد ذلك من الباطن فلا سبيل للشيطان أيضاً في الظاهر فتعلق أبواب المنهيات بالكليات ويتصفى القلب ويتكدر :
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
يا ي بيفشان از آيينه كرد
كه صيقل نكيرد و نكار خورد
قال القشيري : فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب والتأثير للذكر فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه وقلبه فهو الكامل في وصفه في حال سلوكه.
قال سهل بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : ما من يوم إلا والجليل سبحانه ينادي عبدي ما أنصفتني أذكرك وتنساني وأدعوك إليّ وذهب إلى غيري واذهب عنك البلايا وأنت معتكف على الخطايا يا ابن آدم ما تقول غداً إذا جئتني.
وقال الحسين : افتقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء في الصلاة والذكر والقراءة فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
قيل : إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرخ كما يصرخ الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقول قد مسه الإنس.
قال بعضهم وصف لي ذاكر في أجمة فأتيته فبينما هو جالس إذا سبع عظيم ضربه ضربة واستلب منه قطعة فغشى عليه وعليّ فلما أفقت قلت : ما هذا؟ فقال : قيض الله هذا السبع لي فكلما داخلتني فترة غضني كما رأيت أوصلنا الله وإياكم إلى مرتبة اليقين وشرفنا بمقام التمكين وأذاقنا حلاوة الذكر في كل حين وأدخلنا الجنة المعنوية مع عباده الصالحين أجمعين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 26
{وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} أي : اذكر وقت قول الملائكة وهو جبريل بدلالة قوله تعالى في سورة مريم {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أي : سوى الخلق لتستأنس به وإنما جمع تعظيماً له لأنه كان رئيس الملائكة يا مَرْيَمُ} وكلام جبريل معها لم يكن وحياً إليها فإن الله يقول : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم} ولا نبوة في النساء بالإجماع.
فكلمها شفاهاً كرامة كلها وكرامات الأولياء حق أو إرهاصاً لنبوة عيسى عليه السلام وهو من الرهص بالكسر وهو الصف الأسفل من الجدار وفي الاصطلاح أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كإظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتكلم الحجر والمدر والرمي بالشهب وقصة الفيل وغير ذلك {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أولا حيث تقبلك من أمك بقبول حسن ولم يتقبل غيرك أنثى ورباك في حجر زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية {وَطَهَّرَكِ} من الكفر والمعصية ومن الأفعال الذميمة والعادات القبيحة ومن مسيس الرجال ومن الحيض والنفاس قالوا : كانت مريم لا تحيض ومن تهمة اليهود وكذبهم بإنطاق الطفل آخراً {عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} بأن وهب لك عيسى عليه السلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آية للعالمين يا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ} أي : قومي في الصلاة أطيلي القيام
32
فيها له تعالى {وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} أمرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها القنوت وهو طول القيام والسجود والركوع مبالغة في إيجاب رعايتها وإيذاناً بفضيلة كل منها وأصالته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 32
وتقديم السجود على الركوع إما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك وإما لكون السجود أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ولا يقتضي ذلك كون الترتيب الخارجي كذلك بل اللائق به الترقي من الأدنى إلى الأعلى وإما ليقترن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوع في صلاتهم ليسوا مصلين قيل لما أمرت بذلك قامت في الصلاة حتى تورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً.(2/26)
{ذَالِكَ} أي : ما ذكرنا في القصص من حديث حنة ومريم وعيسى وزكريا ويحيى {مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ} أي : من أخبار الغيب التي لا يوقف عليها إلا بمشاهدة أو قراءة كتاب أو تعلم من عالم أو بوحي من عند الله تعالى وانعدمت الثلاثة الأول فتعينت الرابعة وهو الوحي {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي : ننزله عليك دلالة على صحة نبوتك وإلزاماً على من يحاجونك من الكفار.
والوحي في القرآن لمعان للإرسال إلى الأنبياء قال تعالى : {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} (يوسف : 190) وللإلهام قال تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} (القصص : 7) ولإلقاء المعنى المراد قال تعالى : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة : 5) وللإشارة قال تعالى : {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم : 11) وأصل ذلك كله الإعلام في خفاء {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي : عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربية مريم وهو تقرير لكونه وحياً على طريقة التهكم بمنكريه أي : أنهم عالمون لا يشكون أنك لم تقرأ كتاباً ولم تصحب من علم تلك الأنباء حتى تسمع منهم فلم يبق إلا المشاهدة وهي منتفية بالضرورة فكأنهم ادعوا هذا المحال لكونه يلزم من إنكارهم الوحي أي : إن لم يكن بالوحي كما زعموا فلا بد من دعوى المشاهدة ولم تمكن.
قال ابن الشيخ في حواشيه : كأنه قيل : أيها المنكرون لأن أوحي إليه والمتهمون في دعوى نبوته ليس لكم في سبب الإتهام سوى احتمال المشاهدة والعيان وأنه غاية السفاهة ونهاية الخذلان ومن أضل ممن عدل عن الاحتمال الثابت بالمعجزات الساطعة والبراهين القاطعة إلى احتمال لا يذهب إليه وهم أحد وأي حالة ادعى إلى الضحك والاستهزاء والسخرية من حال هؤلاء انتهى {إِذْ يُلْقُون أَقْلَـامَهُمْ} التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركاً بها {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} متعلق بمحذوف دل عليه يلقون أقلامهم أي : يلقونها ينظرون أو ليعلموا أيهم يكفلها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي : في شأنها تنافساً في كفالتها وقد ذكر فيما سبق.
وفي الآية دلالة على فضيلة مريم حيث اصطفاها الله على نساء العالمين فإن جميع ما ذكر من التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها والتربية الروحانية المتعلقة بحال كبرها لم يتفق لغيرها من الإناث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية" حديث حسن يوافق الآية في الدلالة على أن مريم أفضل من جميع نساء العالمين.
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون" وهو يدل على أن هؤلاء الأربع أفضل من سائر النساء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 32
واعلم أن أهل الكمال من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير هذه الأربع ومعنى الكمال
33
التناهي في الفضائل والبر والتقوى وحسن الخصائل والكمال في شيء ما يكون حصوله للكامل أولى من غيره والنبوة ليست أولى للنساء لأن مبناها على الظهور والدعوة وحالهن الاستتار ولا تكون النبوة في حقهن كمالاً بل الكمال في حقهن الصديقية وهي قريب من النبوة والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله فمن النساء كاملات عارفات واصلات إلى مقام الرجال فهن رجال في المعنى.
وسئل بعضهم عن الأبدال فقال أربعون نفساً فقيل له لم لا تقول أربعون رجلاً قال : لأن فيهم النساء ، قال بعضهم :
ولو كان النساء كمن ذكرنا
لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب
(2/27)
ولا التذكير فخر للهلال ويناسب هذا ما حكي أن أم محمد والدة الشيخ أبي عبد الله بن الخفيف رحمهما الله تعالى كانت من العابدات القانتات وكان ابنها أبو عبد الله يحيي العشرة الأخيرة من رمضان ليدرك ليلة القدر ومن دأبه الملازمة إلى الصلاة فوق البيت وكانت والدته متوجهة إلى الله في البيت فليلة أن أخذت تظهر أنوار ليلة القدر نادت ابنها : أن يا محمد إن الذي تطلبه هو عندنا فتعال فنزل الشيخ فرأى الأنوار فخر على قدم أمه وكان يقول : علمت قدر والدتي منذ شاهدت فهذه هي حال والدته فانظر كيف أرشدت ابنها وكيف تفوقت عليه في الفضل والشرف مع كثرة رياضته واجتهاده أيضاً فظهر أن من النساء من هي أفضل من الرجال وذلك بالوصول إلى جناب القدس وليس ذلك إلا بحسن الاستعداد والهداية الخاصة من الله تعالى أسعدنا الله وإياكم ونعوذ بالله من نساء زماننا حيث لا يرى فيهن من هي من أهل التقوى قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "صنفان من أهل النار لم أرهما" يعني في عصره عليه السلام لطهارة ذلك العصر بل حدثا بعده "قوم معهم سياط" يعني أحدهما قوم في أيديهم سياط جمع سوط "كأذناب البقر يضربون بها الناس" وهم الذين يضربون بها السارقين عراة أو الطوافون على أبواب الظلمة كالكلاب يطردون الناس عنها بالضروب والسباب "ونساء" يعني ثانيهما نساء "كاسيات" في الحقيقة "عاريات" في المعنى من لباس التقوى "مميلات" أي : قلوب الرجال إلى الفساد "مائلات" أي : إلى الرجال "رؤوسهن كأسمة البخت" يعني يعظمن رؤوسهن بالخمر والقلنسوة حتى تشبه اسنمة البخت "المائلة" من الميل لأن أعلى السنام يميل لكثرة شحمه "لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" أي : يوجد من مسيرة أربعين عاماً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 32
{إِذْ قَالَتِ الملائكة} بدل من واذ قالت الملائكة منصوب بناصبه والمراد بالملائكة جبريل وجمع تعظيماً له وقد مر يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} أي : يفرحك {بِكَلِمَةٍ} كائنة {مِنْهُ} عز وجل وأطلق على عيسى لفظ الكلمة بطريق إطلاق السبب على المسبب لأن سبب ظهوره وحدوثه هو الكلمة الصادرة منه تعالى وهي كن وحدوث كل مخلوق وإن كان بسبب هذه الكلمة لكن السبب المتعارف للحدوث لما كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام كان إسناد حدوثه إلى الكلمة أتم وأكمل فجعل عليه السلام بهذا الاعتبار كأنه نفس الكلمة {اسْمُهُ} أي : اسم المسمى بالكلمة عبارة عن مذكر {الْمَسِيحُ} لقب من الألقاب
34
المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك {عِيسَى} بدل من المسيح معرب من ايشوع {ابْنَ مَرْيَمَ} صفة لعيسى وتوجه الخطاب إلى مريم يقتضي أن يقال عيسى ابنك إلا أنه قيل : عيسى ابن مريم تنبيهاً على أن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فاعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين.
فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة ، قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره فكأنه قيل الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة.
وفي التيسر اللقب إذا عرف صار كالاسم {وَجِيهًا} حال من الكلمة وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة والوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف {فِى الدُّنْيَا} بالنبوة والتقدم على الناس {وَالاخِرَةِ} بالشفاعة وعلو الدرجة في الجنة {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي : عند ربه بارتفاعه إلى السماء وصحبة الملائكة فيها {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا} أي : يكلمهم حال كونه طفلاً وكهلاً كلام الأنبياء عليهم السلام من غير تفاوت يعني أن تكلمه في حالة الطفولية والكهولة على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت بأن يكون كلامه في حال الطفولية مثل كلام الأنبياء والحكماء لا شك أنه من أعظم المعجزات.
قال مجاهد قالت مريم : إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان يسبح في بطني وأنا أسمع وتكلمه معهم دليل على حدوثه لحدوث الأصوات والحروف.
جزء : 2 رقم الصفحة : 34
(2/28)
ـ روي ـ أنه لما بلغ عمره ثلاثين سنة أرسله الله إلى بني إسرائيل فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفع إلى السماء أو جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين وأشهراً ثم رفع.
والكهل من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين وقارب الشيب من اكتهل النبت قارب اليبس فعلى هذا صح أن يقال أنه بلغ سن الكهولة وكلم الناس فيه ثم رفع وأما على قول من يقول إن أول سن الكهولة أربعون سنة فلا بد أن يقال أنه رفع شاباً ولا يكلم الناس كهلاً إلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان فإنه حينئذٍ يكلم الناس ويقتل الدجال {وَمِنَ الصَّـالِحِينَ} هذه الأربعة أحوال مقدرة من كلمة والمعنى يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات وذكر قوله ومن الصالحين بعد ذكر الأوصاف المتقدمة دليل على أنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون المرء كذلك إلا بأن يكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح.
{قَالَتْ} مريم متضرعة إلى ربها {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ} أي : كيف يكون أو من أين يكون {لِى وَلَدٌ} على وجه الاستبعاد العادي والتعجب من استعظام قدرة الله فإن البشرية تقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة إذ لم تجر عادة بأن يولد ولد بلا أب {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} آدمي وسمي بشراً لظهوره وهو كناية عن الجماع أي : والحال أني على حالة منافية للولد {قَالَ} أي : الله عز وجل أو جبريل عليه السلام {كَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر يخلق في قوله عز وجل {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أن يخلقه أي : الله يخلق ما يشاء أن يخلقه خلقاً مثل ذلك الخلق العجيب والاحداث البديع الذي هو خلق الولد من غير أب فالكاف في محل النصب على أنها في الأصل
35
نعت لمصدر محذوف {إِذَا قَضَى أَمْرًا} أي : أراد شيئاً وأصل القضاء الأحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابه إياه البتة {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} من غير ريث وهو تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتي المقدورات حسبما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما علم فيها من إطاعة المأمور المطيع للآمر القوي المطاع وبيان لأنه تعالى كما يقدر على خلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة إلى شيء من الأسباب والمواد.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إن مريم ـ رضي الله عنها ـ كانت في غرفة قد ضربت دونها ستراً إذا هي برجل عليه ثياب بيض وهو جبريل تمثل لها بشراً سوياً أي : تام الخلق فلما رأيته قالت : أعوذ بالرحمن منك إن كانت تقياً ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت.
قال وهب وكان معها ذر قرابة يقال له يوسف النجار وكان يوسف هذا يستعظم ذلك فإذا أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وإذا أراد أن يبرئها رأى ما ظهر عليها فكان أول ما كلمها أن قال لها : قد دخل في صدري شيء أردت كتمانه فغلبني ذلك فرأيت الكلام أشفى لصدري قالت : قل قال : فحدثيني هل ينبت الزرع من غير بذر؟ قالت : نعم قال : فهل ينبت شجر من غير أصل؟ قالت : نعم قال : فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبت من غير بذر ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء من غير أنثى ولا ذكر فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء أكرمها الله به.
جزء : 2 رقم الصفحة : 34
ـ روي ـ أن عيسى عليه السلام حفظ التوراة وهو في بطن أمه وكانت مريم تسمع عيسى وهو يدرس في بطنها ثم لما شرف عالم الشهود أعطاه الله الزهادة في الدنيا فإنه كان يلبس الشعر ويتوسد الحجر ويستنير القمر وكان له قدح يشرب فيه الماء ويتوضأ فيه فرأى رجلاً يشرب بيده فقال لنفسه : يا عيسى هذا أزهد منك فرمى القدح وكسره واستظل يوماً في ظل خيمة عجوز فكان قد لحقه حر شديد فخرجت العجوز فطردته فقام وهو يضحك فقال : يا أمة الله ما أنت أقمتني وإنما أقامني الذي لم يجعل لي نعيماً في الدنيا ولما رفع إلى السماء وجد عنده إبرة كان يرقع بها ثوبه فاقتضت الحكمة الإلهية نزوله في السماء الرابعة.
وفيه إشارة إلى أن السالك لا بد وأن ينقطع عن كل ما سوى الله ويتجرد عن العوائق حتى يسير مع الملأ الأعلى ويطير إلى مقام قاب قوسين أو أدنى.
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام ناجى ربه فقال : اللهم أرني ولياً من أوليائك فأوحى الله تعالى إليه أن اصعد إلى جبل كذا وأدخل زاوية كذا في كهف كذا حتى ترى وليي ففعل فرأى فيه رجلاً ميتاً توسد بلبنة وفوق عورته خرقة وليس فيه شيء غيره فقال : اللهم سألتك أن تريني وليك فأريتني هذا فقال : هذا هو وليي فوعزتي وجلالي لا أدخله الجنة حتى أحاسبه باللبنة والخرقة من أين وجدهما فحال أولياء الله الافتخار بالفقر وترك الدنيا والصبر على ما قدره الله :
(2/29)
صبر باشد مشتهاي زيركان
هست حلوا آرزوي كودكان
هركه صبر آورد كردون بررود
هركه حلوا خورداوس تررود
فالقوة الروحانية التي بها يصير الإنسان كالملائكة إنما تحصل بالصبر عن المشتهيات فانظر إلى حال
36
عيسى عليه السلام يكفك في هذا اعتباراً ومن الله التوفيق إلى الإعراض عن حطام الدنيا وقطع التعلق من الدارين قطعاً {وَيُعَلِّمُهُ} كلام مستأنف أي : ويعلم الله عيسى {الْكِتَـابِ} أي : الكتابة والخط بالقلم بالإلهام والوحي وكان أحسن الناس خطا في زمانه {وَالْحِكْمَةِ} أي : العلوم العقلية والشرعية وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة {وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ} فيحفظهما عن ظهر القلب وهذا الكلام أعني يعلمه الخ سيق تطبيباً لقلب مريم وإزاحة لما أهمها من خوف اللائمة لما علمت أنها تلد من غير زوج.
جزء : 2 رقم الصفحة : 34
يجعله {وَرَسُولا إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي : يكلمهم وقال بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام {أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم} معمول لرسول لما فيه من معنى النطق أي : رسولاً ناطقاً بأني قد جئتكم ملتبساً {بِـاَايَةٍ} عظيمة كائنة {مِّن رَّبِّكُمْ} وهي ما ذكر بعده من خلق الطير وغيره {أَنِّى أَخْلُقُ} بدل من أني قد جئتكم أي : أقدر وأشكل لأنه قد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب أن يكون بمعنى التقدير والتسوية {لَكُمْ} أي : لأجلكم بمعنى التحصيل لإيمانكم ورفع تكذيبكم إياي {مِنَ الطِّينِ} شيئاً {كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} أي : مثل صورة الطير {فَأَنفُخُ فِيهِ} الضمير للكاف أي : في ذلك الشيء للكاف أي : في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير {فَيَكُونُ طَيْرَا} حياً طياراً كسائر الطيور {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره تعالى أشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى لا منه لأن الله هو الذي خلق الموت والحياة فهو يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 37
ـ روي ـ أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفاش فأخذ طيناً وصورة ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض.
قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله قيل : إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الحيوان من الطيور ويكون له الضرع ويخرج منه اللبن ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين ساعة بعد غروب الشمس وساعة بعد طلوع الفجر قبل أن يسفر جداً ويضحك كما يضحك الإنسان وله أسنان ويحيض كما تحيض المرأة ولما دل القرآن على أن عيسى عليه السلام إنما تولد من نفخ جبريل في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى سبباً للحياة والروح {وَأُبْرِىاُ} أي : أشفي وأصحح {الاكْمَهَ} أي : الذي ولد أعمى.
قال الزمخشري : لم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير {وَالابْرَصَ} وهو الذي به برص أي : بياض في الجلد يتطير به وإذا استحكم فلا برء له ولا يزول بالعلاج ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه.
وإنما خصهما بالذكر للشفاء لأنهما مما أعيى الأطباء في تداويهما وكانوا في غاية الحذاقة في زمن عيسى عليه السلام وسألوا الأطباء عنهما.
فقال جالينوس وأصحابه إذا ولد أعمى لا يبرأ بالعلاج وكذا الأبرص إذا كان بحال لو غرزت الإبرة فيه لا يخرج منه الدم لا يقبل
37
العلاج فرجعوا إلى عيسى وجاءوا بالأكمه والأبرص فمسح يده بعد الدعاء عليهما فأبصر الأعمى وبرىء الأبرص فآمن به البعض وجحد البعض وقالوا هذا سحر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 37
(2/30)
ـ روي ـ أنه أبرأ في يوم واحد خمسين ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام وكان يداويهم بالدعاء وحده على شرط الإيمان ثم قال عيسى عليه السلام : {وَرَسُولا إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} فسألوا جالينوس عنه فقال الميت لا يحيى بالعلاج فإن كان هو يحيي الموتى فهو نبي وليس بطبيب فطلبوا أن يحيي الموتى فأحيى أربعة أنفس أحيى العازر وكان صديقاً له فأرسل أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت فائته فكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال أخته انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة فقال عيسى عليه السلام : اللهم رب السموات السبع والأرضين السبع إنك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأخبرهم أني أحيي الموتى فأحي العازر فقام العازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له ، وأحيى ابن عجوز مر به ميتاً على عيسى على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له وأحيى ابنة العاشر الذي يأخذ العشور قيل له أحيها وقد ماتت أمس فدعا الله تعالى فعاشت وبقيت وولد لها فقالوا : يحيي من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحيي لنا سام بن نوح فقال عيسى دلوني على قبره فخرج والقوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله تعالى بالاسم الأعظم فخرج من قبره وقد شاب رأسه فقال عيسى كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانك شيب قال : يا روح الله لما دعوتني سمعت صوتاً يقول أجب روح الله فظننت أن القيامة قد قامت فمن هول ذلك شاب رأسي فسأله عن النزع فقال : يا روح الله إن مرارته لم تذهب عن حنجرتي وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون ثم قال له : مت قال : بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل ثم طلبوا آية أخرى دالة على صدقه فقال : {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} من أنواع المآكل {وَمَا تَدَّخِرُونَ} أي وما تخبأون للغد {فِى بُيُوتِكُمْ} فكان يخبر الرجل بما أكل قبل وبما يأكل بعد ويخبر الصبيان وهو في المكتب بما يصنع أهلهم وبما يأكلون ويخبأون لهم وكان الصبي ينطلق إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ما خبأوا له ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا : ليسوا في هذا البيت فقال : فمن في هذا البيت؟ قالوا خنازير فقال عليه السلام : كذلك يكونون فإذا هم خنازير {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : ما ذكر من الخوارق والأمور العظام {لايَةً} عظيمة {لَكُمْ} دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} انتفعتم بها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 37
{وَمُصَدِّقًا} أي : قد جئتكم ملتبساً بآية الخ ومصدقاً {لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} أي : لما تقدمني {مِنَ التَّوْرَاـاةِ} أي : موافقاً على ما كان قبلي جئتكم {وَلاحِلَّ لَكُم} لأن أرخص لكم {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي : في شريعة موسى عليه السلام من لحوم السمك ولحوم الإبل والشحوم والثروب جمع ثرب وهو شحم رقيق يتصل بالإمعاء ولحم كل ذي ظفر فاحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا اصطبة له وهي شوكة
38
الحائك التي بها يسوى السد أو اللحمة {وَجِئْتُكُم} ملتبساً {وَرَسُولا إِلَى بَنِى} ببرهان بين شاهد على صحة رسالتي {فَاتَّقُوا اللَّهَ} في عدم قبولها ومخالفة مدلولها {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هي قوله{إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ولا تعصوه بالشرك {هَـاذَآ} أي : الإيمان بالله ورسوله والطاعة {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق سوى يؤدي صاحبه إلى الجنة وهو الحق الصريح الذي أجمع عليه الرسل قاطبة فتكون آية بينة على أنه عليه السلام من جملتهم فقوله {إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ} إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد وقال : {فَاعْبُدُوهُ} إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه يلازم الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالإستقامة ونظيره قوله صلى الله عليه وسلّم "قل آمنت ثم استقم" فالعلم والعمل من مبادي الاستقامة فعليك بالتمسك بالحجة القوية.
(2/31)
وسئل الجنيد كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله فقال بتوبة تزيل الإصرار وخوف يزيل التسويف ورجاء يبعث على مسالك العمل وذكر الله تعالى على اختلاف الأوقات وإهانة النفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل قيل له : فبماذا يصل العبد إلى هذا؟ فقال : بقلب مفرد فيه توحيد مجرد ، وقال الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ : ما طلب رجل هذا الخير يعني الجنة إلا اجتهد ونحل وذبل واستمر واستقام حتى يلقي الله تعالى أما ترى إلى قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا} (فصلت : 30).
جزء : 2 رقم الصفحة : 37
واعلم أن الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يكونن أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل ولا كالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل" قيل : ولا يصح رفع الهمة عن الحظوظ جملة لأن ذلك مكابرة مع الربوبية وإنما المراد أن لا يطلب بالعمل فعلامة العبد الأديب أن يستمر على الطاعة في باب مولاه ولا ينظر إلى شيء سواه لا إلى الجنة ولا إلى النار فإذا جرد عمله وتوحيده عن الأغراض فقد استقام واتخذ الصراط المستقيم مذهباً والإرشاد إلى هذا الطريق إنما يفيد لمن كان له استعداد أزلي وقابلية أصلية فبالتربية يصير العبد قابل أنوار الصفات الإلهية ويخرج من الظلمات البشرية فعليك بخدمة الكاملين والاستقامة في طريق اليقين.
زخود بهترى جوى وفرصت شمار
كه باون خودى كم كنى روز كار
وفي الاتباع شرف عظيم قال تعالى مخاطباً لحبيبه عليه السلام {فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام : 90) وطاعة الرسول واتباعه من لوازم تقوى الله تعالى ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فإذا داوم العبد الاتباع يصل إلى الاستقامة فإنها ليست مما يحصل في أول الأمر ، قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز.
سالها بايد كه اندر آفتاب
لعل يابد رنك ورخشاني وتاب
جزء : 2 رقم الصفحة : 37
{فَلَمَّآ} الفاء فصيحة تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملائكة وخروجه من القوة إلى الفعل كأنه قيل : فحملته فولدته فكان كيت وكيت وقال ذيت وذيت {أَحَسَّ عِيسَى} أحس استعارة للعلم اليقيني الذي لا شبهة فيه كالإحساس وهو وجدان الشيء بالحاسة كأنه قيل
39
فلما علم {مِنْهُمُ الْكُفْرَ} علماً لا شبهة فيه كما يدرك بالحواس من الضروريات منهم الكفر أي : من بني إسرائيل وأرادوا قتله وأنهم لا يزدادون على رؤية الآيات إلا الإصرار على الجحود {قَالَ} لخلص أصحابه مستنصراً على الكفار {مَنْ أَنصَارِى} الأنصار جمع نصير {إِلَى اللَّهِ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من الياء أي : من أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه ومن أعواني على إقامة الدين {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} جمع حواري يقال فلان حواري فلان أي : صفوته وخاصته وهم اثنا عشر بعضهم من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام وأعوانه والمخلصين في محبته وطاعته {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} أي : أنصار دينه ورسوله قال تعالى : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد : 7) والله ينصر من ينصر دينه ورسله {بِاللَّهِ فَإِذَآ} استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مخلصون في الإيمان منقادون لما تريد من أمر نصرتك طلبوا منه عليه السلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم تشهد الرسل عليهم السلام لأممهم إيذاناً بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 39
{رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ} من الإنجيل على عيسى وهو تضرع إلى الله تعالى وعرض لهم عليه تعالى بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} أي : عيسى على دينه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين فيدخل فيه الاتباع في النصرة دخولاً أولياً {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} أي : مع الذين يشهدون بوحدانيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فإنهم شهداء على الناس قاطبة وهو حال من مفعول اكتبنا.
وفيه إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السموات مع الملائكة قال تعالى : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشهداء المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
(2/32)
{وَمَكَرُوا} أي : الذين علم عيسى كفرهم من اليهود بأن وكلوا به من يقتله غيلة وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله {وَمَكَرَ اللَّهُ} بأن رفع عيسى عليه السلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً واقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 39
ـ روي ـ أن ملك بني إسرائيل لما قصد قتله عليه السلام أمره أن يدخل بيتاً فيه روزنة فرفعه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة إلى السماء وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة حول العرش وكان إنسياً ملكياً سماوياً أرضياً ثم قال الملك لرجل خبيث منهم أدخل عليه فاقتله فدخل البيت فألقى الله عز وجل شبهه عليه السلام عليه فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم مقال عظيم ولما صلب المصلوب جاءت مريم ومعها امرأة أبرأها الله من الجنون بدعاء عيسى وجعلتا تبكيان على المصلوب فأنزل الله عيسى عليه السلام فجاءهما فقال : على من تبكيان قالتا عليك فقال : إن الله رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شيء شبه لهم فلما كان بعد سبعة أيام قال الله لعيسى اهبط إلى
40
المجدلانية على موضع في جبلها فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها ثم استجمع الحواريين فبثهم أي : فاجعلهم متفرقين في الأرض دعاة إلى الله فأهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نوراً فجمعت له الحواريون فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله إليه وتلك الليلة هي اللية التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} والمكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة والمكر من الله استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يعلم فيها أيها العبد خف من وجود إحسان مولاك إليك ودوام إساءتك معه في دوام لطفه بك وعطفه عليك أن يكون ذلك استدراجاً لك حتى تقف معها وتغتر بها وتفرح بما أوتيت فتؤخذ بغتة قال الله تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف : 182).
قال سهل رضي الله عنه في معنى هذه الآية نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخذوا.
وقال أبو العباس بن عطاء يعني كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة أو أنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة ومن جهل المريد بنفسه وبحق ربه أن يسيىء الأدب بإظهار دعوى أو تورط في بلوا فتؤخر العقوبة عنه إمهالاً له فيظنه إهمالاً فيقول لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب الإبعاد اعتباراً بالظاهر من الأمر من غير تعريج على ما وراء ذلك وما ذاك إلا لفقد نور بصيرته أو ضعف نورها وإلا فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر حتى ربما ظن أنه متوفر في عين تقصير ولو لم يكن من قطع المدد إلا منع المزيد لكان قطعاً لأن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان قال عليه السلام : "من استوى يوماه فهو مغبون" ولو لم يكن من الابعاد إلا أن يخليك وما تريد فيصرفك عنه بمرادك هذا والعياذ بالله مكر وخسران.
وعن ابن حنبل أنه كان يوصي به أصحابه فقال : خف سطوة العدل وارج رقة الفضل ولا تأمن من مكره تعالى ولو أدخلك الجنة ففي الجنة وقع لأبيك آدم ما وقع وقد يقطع بأقوام فيها فيقال لهم : كلوا واشربوا هينئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية فقطعهم بالأكل والشرب عنه وأي مكر فوق هذا وأي خسران أعظم منه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 39
{إِذْ قَالَ اللَّهُ} أي : اذكر وقت قول الله يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي : مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم {وَرَافِعُكَ} الآن {إِلَىَّ} أي : إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي وجعل ذلك رفعاً إليه للتعظيم ومثله قوله {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من العراق إلى الشام وقد يسمى الحاج زوار الله والمجاورون جيران الله وكل ذلك للتفخيم فإنه تعالى يمتنع كونه في المكان {وَمُطَهِّرُكَ} أي : مبعدك ومنحيك {مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم.
قيل : سينزل عيسى عليه السلام من السماء على عهد الدجال حكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية فيفيض المال حتى لا يقبله أحد ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويقتل الدجال ويتزوج بعد قتله امرأة من العرب وتلد منه ثم يموت هو بعدما يعيش أربعين سنة من نزوله فيصلي عليه المسلمون لأنه سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة فاستجاب الله دعاءه {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وهم
41
(2/33)
المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم الذين مكروا به عليه السلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهل السلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} غاية للجعل لا على معنى أن الجعل ينتهي حينئذٍ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى أن المسلمين بعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي : رجوعكم بالبعث والضمير لعيسى عليه السلام وغيره من المتبعين له والكافرين به تغليب المخاطب على الغائب في ضمن الالتفات فإنه أبلغ في التبشير والإنذار {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذٍ أثر رجوعكم إلي {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بالسيف والسبي وأخذ الجزية وإيصال الأمراض والمصائب فإنها من العقوبات في حق الكافر ومن المثوبات في حق المؤمن لأنها ابتلاء محض له {وَالاخِرَةِ} بعذاب النار {وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} يخلصونهم من عذاب الله في الدارين وصيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع أي : ليس لواحد منهم ناصر واحد.
{وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بما أرسلت به {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} كما هو ديدن المؤمنين {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي : يعطيهم أجور أعمالهم كاملة ولعل الالتفات إلى الغيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيب والإثابة من الاختلاف من حيث الجلال والجمال {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} أي : يبغضهم ولا يرضى عنهم {ذَالِكَ} إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى عليه السلام وغيره {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} أي : نقرأه عليك يا محمد وأسند تلاوته إلى نفسه مع أن التالي هو الملك المأمور بها على طريق إسناد الفعل إلى السبب الآمر وفيه تعظيم بليغ وتشريف عظيم للملك وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل لما كانت بأمره تعالى من غير تفاوت أصلاً أضيف ذلك إليه تعالى : {مِّنَ الايَـاتِ} حال من الضمير المنصوب أي : من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء الكتاب أو من يوحى إليه فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن ذلك من الوحي {وَالذِّكْرِ} أي : القرآن {الْحَكِيمُ} أي : المشتمل على الحكم أو المحكم الممنوع من تطرق الخلل إليه.
والإشارة أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام يا عيسى {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} عن الصفات النفسانية والأوصاف الحيوانية {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} بجذبات العناية فمن لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله فعيسى لما رفع إلى السماء صارت له حالة كحال الملائكة في زوال الشهوات والغضب والأخلاق الذميمة.
فعلى السالك أن ينهى نفسه عن الهوى ويتبع طريق الهدى ويعتبر بالآيات والذكر الحكيم كي يصل إلى النعيم المقيم ويجتنب الظلم فإن الله تعالى قال : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} أي : الذين يظلمون على أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند ازخدا جز خدا
فأهل الطريقة هم الذين يمحون نقش الغير عن صفحات القلب ويزكون نفوسهم عن الأوصاف المذمومة فإنها مانعة من العروج إلى سماء المعرفة وعلو الوصال ، قال مولانا جلال الدين رومي قدس سره.
42
آن يكي نحوي بكشتي درنشست
روبكشتيبان نهادآن خود رست
كفت هي ازنحو خواندى كفت لا
كفت نيم عمر توشد در فنا
دل شكسته كشت كشتبيان زتاب
ليك آن دم كشت خواموش از جواب
باد كشتى را بكردابى فكند
كفت كشتيبان بدان نحوي بلند
هي داني آشنا كردن بكو
كفت ني أي : خوش جواب خوب روكفت كل عمرت أي : نحوي فناست
زانك كشتى غرق اين كردا بهاست
محو مي بايد نه نحو اينجابدان
كرتو محوي بيخطر در آب ران
آب دريا مرده را بر سر نهد
وربود زنده زدريا كي رهد
ون بمردى تو زاوصاف بشر
بحر اسرارت نهد بر فرق سر
(2/34)
فقد ظهر أن الذين يطلبون غير الله هم غرقى في بحر الهوى والشهوات لا يقدرون على التصعد إلى الأعلى وأما الذين تخلصوا من قشر الوجود ووصلوا بالفناء عن ذواتهم إلى عالم الشهود فهم يطيرون بأجنحة أنوار حالهم مع الملائكة المقربين لتخلصهم من الأثقال الدنيوية والأشغال القالبية والبدنية قال تعالى : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الرحمن : 33) أي : بالتجرد عن الهيآت الجسمانية والتعلقات البدنية {فَانفُذُوا} لتنخرطوا في سلك الإرادة الملكوتية والنفوس الجبروتية وتصلوا إلى الحضرة العلية {لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَـانٍ} أي : بحجة بينة هي التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء إلى الله تعالى قال عيسى عليه السلام : (لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين) والولادة نوعان : اضطراري بخلق الله تعالى ولا دخل فيه للكسب والاختيار وذلك ظاهر ، واختياري يحصل بالكسب وهو الذي أشار إليه عيسى عليه السلام وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى ويداوي بدواء أفضاله هذه النفوس المرضى إنه بكل شيء قدير وبتيسيره يسهل كل أمر عسير.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} أي : شأنه البديع المنتظم لغرابته في سلك الأمثال {عِندَ اللَّهِ} أي : في تقديره وحكمه {كَمَثَلِ ءَادَمَ} أي : كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب ولا ينازع فيها منازع {خَلَقَه مِن تُرَابٍ} تفسير للمثل لا محل له من الأعراب أي : خلق قالب آدم من تراب.
فإن قيل : الضمير في خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً.
قلنا : لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم قبل ذلك تسمية لما سيقع بالواقع {ثُمَّ قَالَ لَه كُن} أي : إنشأ بشراً {فَيَكُونُ} والمقتضى أن يقال فكان أي : كان كما أمره الله إلا أنه عدل إلى المضارع حكاية للحال التي كان آدم عليها أي : تصويراً لذلك الإيجاد الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن.
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
ـ روي ـ أن وفد نجران قدموا المدينة وهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم : منهم السيد وهو كبيرهم واسمه أهيب ، والعاقب الذي بعده وهو صاحب رأيهم واسمه عبد المسيح ، والثالث أبو حارثة بن علقمة الأسقف وكان في شرف وخطر عظيم وكان ملك الروم بنى له الكنائس وكان يبعث له بالكرامات فأقبلوا حتى قدموا على النبي عليه السلام في مسجد المدينة بعد العصر عليهم ثياب حسان ولهم وجوه جسام فقاموا وصلوا واستقبلوا قبلتهم وأراد أصحاب النبي صلى الله عليه
43
وسلّم أن يمنعوهم فقال صلى الله عليه وسلّم "دعوهم" وقد كان نزل على النبي عليه السلام قبل قدومهم صدر آل عمران لمحاجتهم ثم انتهى أبو حارثة هذا وآخر معه إلى النبي عليه السلام فقال لهما صلى الله عليه وسلّم "أسلما" فقالا : أسلمنا قبلك فقال صلى الله عليه وسلّم "كذبتما يمنعكما عن الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وزعمكما أنولداً" قالوا : يا محمد فلم تشتم صاحبنا عيسى؟ قال : "وما أقول" قالوا : تقول إنه عبد قال : "أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول" فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً من غير أب فحيث سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون هو الله فقال صلى الله عليه وسلّم "إن آدم عليه السلام ما كان له أب ولا أم" ولم يلزم من ذلك كونه ابناًتعالى فكذا حال عيسى عليه السلام فالوجود من غير أب وأم أخرق للعادة من الوجود من غير أب فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع لشبهة الخصم إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه.
{الْحَقِّ} أي : ما قصصنا عليك من نبأ عيسى وأمه هو الحق كائناً {مِن رَّبِّكَ} لا قول النصارى إنه ابن الله وقولهم ولدت مريم إلهاً ونحو ذلك {فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} أي : من الشاكين في ذلك الخطاب للنبي عليه السلام على طريقة الإلهاب والتهييج لزيادة التثبيت لأن النهي عن الشيء حقيقة يقتضي أن يتصور صدور المنهي عنه من المنهي ولا يتصور كونه عليه السلام شاكاً في صحة ما أنزل عليه والمعنى دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان على الحق والتنزه عن الشك فيه.
قال الإمام أبو منصور رحمه الله : العصمة لا تزيل المحنة ولا ترفع النهي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
(2/35)
{فَمَنْ حَآجَّكَ} أي : من النصارى إذ هم المتصدون للمحاجة {فِيهِ} أي : في شأن عيسى عليه السلام وأمه زعماً منهم أنه ليس على الشأن المحكي {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي : ما يوجبه إيجاباً قطعياً من الآيات البينات وسمعوا ذلك منك فلم يرعووا عماهم عليه من الضلال والغي {فَقُلْ} أي : فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقل لهم : {تَعَالَوْا} التعالي في الأصل : التصاعد كأن الداعي في علو والمدعو في سفل فأمره أن يتعالى إليه ثم صار ذلك لكل مدعو أين كان أي هلموا بالرأي والعزيمة لا بالأبدان لأنهم مقبلون وحاضرون عنده بأجسادهم {نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ} اكتفى بهم عن ذكر البنات لظهور كونهم أعز منهن.
وأما النساء فتعلقهن من جهة أخرى {وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} أي : ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحملهم عليها {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي : نتباهل بأن نلعن الكاذب ونقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَـاذِبِينَ} عطف على نبتهل مبين لمعناه.
ـ روي ـ أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فلما خلا بعضهم ببعض قالوا لعبد المسيح ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد خرج محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلى خلفها رضي الله عنه وهو يقول : "إذا أنا دعوت فأمنوا" فقال : أسقف نجران
44
أي : أعلمهم بأمور دينهم وهو أبو حارثة يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو شاء الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن تترك على دينك ونثبت على ديننا قال صلى الله عليه وسلّم "فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين" فأبوا فقال : "فإني أحاربكم" فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك وكتب لهم كتاباً بذلك وقال : "والذي نفسي بيده أن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا".
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
{إِنَّ هَـاذَآ} أي : ما قص من نبأ عيسى عليه السلام وأمه {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} دون ما عداه من أكاذيب النصارى {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ} ما إله {إِلا اللَّهُ} صرح فيه بمن الاستغراقية تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} القادر على جميع المقدورات.
الحكيم المحيط بالمعلومات لا أحد يشاركه في القدرة والحكمة ليشاركه في الألوهية.
{فَإِن تَوَلَّوْا} أي : أعرضوا عن قبول التوحيد والحق الذي قص عليك بعدما عاينوا تلك الحجج النيرة والبراهين الساطعة {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِالْمُفْسِدِينَ} أي : فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله فإن الله عليم بفساد المفسدين مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة قادر على مجازاتهم.
واعلم أن لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيآت الواردة عليها كالغضب والخوف والسرور والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك من تحريك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم وانفعال النفوس الملكية تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية فيه بما أراد ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام قبل المباهلة بالخوف وأحجمت عن المباهلة فطلبت الموادعة بالجزية؟ كذا في "التأويلات القاشانية".
وكذا حال الولي إذا دعا على إنسان يكون له تأثير بالمرض أو الموت أو غير ذلك من البلايا.
جزء : 2 رقم الصفحة : 45
ـ روي ـ أن الشاعر البساطي رأى يوماً الشيخ كمال الدين الخجندي في مجلس الشعراء فقال :
از كجايى از كجايى أي : لوند†
فقال الشيخ في جوابه على الفور :
از خجندم از خجندم از خجند†
ولكنه تأذى من سوء أدبه ومعاملته معه هكذا وحمله على سكره فقال الغالب : إن هذا الشاب سكران فسمعه البساطي وقال بالبداهة :
(2/36)
سيه شميست مردم كش خراب غمزه اويم
ازان در عين هشياري سخن مستانه ميكويم
ثم قال بطريق الهجو له :
يا ملحد خجندي ريش بزرك داري
كزغابت بزركي ده ريش ميتوان كفت
فلما سمعه الشيخ تألم منه تألماً شديداً فدعا عليه في ذلك المجلس فمات من ساعته من تأثير نفسه
45
الشريف في حقه فليجانب العاقل أذية الصلحاء فإن مكره يعود إليه دونهم قال تعالى : {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} (فاطر : 43) ، قيل ونعم ما قيل :
ناي كند ناله بدين قول راست
از نفس ير بترس أي : جوان
فحفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم سبب للترقي إلى المطالب العالية وباعث للاحترام والإكرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه" قال المشايخ عقوق الأستاذين لا توبة منه.
ـ ويحكى ـ عن أبي الحسن الهمداني قال : كنت ليلة عند جعفر الخالدي وكنت أمرت في بيتي أن يعلق لي طير في التنور وكان قلبي معه فقال لي جعفر : أقم عندنا الليلة فتعللت بشيء ورجعت إلى منزلي فأخرج الطير من التنور ووضع بين يدي فدخل كلب من الباب وحمل الطير عند تغافل الحاضرين وأتى بالجوذاب الذي تحته فتعلق به ذيل الخادمة فانصب فلما أصبحت دخلت على جعفر فحين وقع بصره علي قال : من لم يحفظ قلوب المشايخ يسلط عليه كلب يؤذيه.
قال الشيخ أبو علي الدقاق قدس سره لما نفى أهل بلخ محمد بن الفضل من البلد دعا عليهم وقال : اللهم امنعهم الصدق فلم يخرج من بلخ بعده صديق عصمنا الله وإياكم من المخالفة آمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 45
{قُلْ يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ} أي : اليهود والنصارى {تَعَالَوْا} كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم فأمره الله تعالى بأن يعدل عن طريق المجادلة والاحتجاج إلى نهج يشهد كل عقل سليم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال لا ميل فيه إلى جانب حتى يكون فيه شائبة التعصب فهو كلام ثابت في المركز نسبته إلينا وإليكم على سواء واعتدال فقال : قل يا أهل الكتاب تعالوا أي : هلموا والمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال ثم كثر استعماله حتى صار دالاً على طلب التوالي حيث يدعى إليه {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} لا يختلف فيها الرسل والكتب فيها إنصاف من بعضنا لبعض ولا ميل فيها لأحد على صاحبه وهي {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} أي : نوحده بالعبادة ونخلص فيها {وَلا نُشْرِكَ بِه شَيْـاًا} ولا نجعل غيره شريكاً في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً لأن نعبده {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} بأن نقول عزير ابن الله والمسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحليل والتحريم لأن كلاً منهم بعضنا وبشر مثلنا.
وعن الفضيل لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق أم صليت لغير القبلة {فَإِن تَوَلَّوْا} عما دعوتم إليه من التوحيد وترك الإشراك {فَقُولُوا} أي : قل لهم أنت والمؤمنون {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي : لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتب إلى قيصر "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد : فإني أدعوك برعاية الإسلام أسلم تسلم" أي : من السبي في الدنيا ومن العذاب في الآخرة "وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً" إلى قوله : {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
وجاء في الخبر الصحيح أن هرقل سأل عن حال النبي
46
عليه السلام وعرفها ممن جاء بكتابه فقال : لو كنت عنده لقبلت قدميه لمعرفته صدق النبي عليه السلام بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة لكن خاف من ذهاب الرياسة.
ثم إنه كتب جواب كتابه عليه السلام إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفاه الله لعيسى عليه السلام فعجب النبي عليه السلام فقال : "لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة أبداً".
وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزق كتابه ورجع الرسول بعدما أراد قتله فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "خرق الله ملكهم فلا ملك لهم أبداً" فكان كذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 45
(2/37)
والإشارة في الآية أن أصول الأديان كلها إخلاص العبودية كما قال تعالى : {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِه شَيْـاًا} يعني كما لا نعبد إلا الله لا نطلب منه غيره {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} في طلب الرزق ورؤية الأمور من الوسائط {فَإِن تَوَلَّوْا} يعني من أعرض عن هذا الأصل {فَقُولُوا} أنتم لهم {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مستسلمون لما دعانا الله إليه من التوحيد والإخلاص في العبودية ونفى الشرك والسر في الإشهاد على الإسلام ليشهد الكفار لهم يوم القيامة على الإسلام والتوحيد كما يشهد لهم المؤمنون كما قال النبي عليه السلام لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه : "إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" فيكون شهادة الكفار لهم بالتوحيد يوم القيامة حجة على أنفسهم.
فالتوحيد هي العروة الوثقى وأصل الأصول يهب من جانب الغيب لمن أخلصه قبول القبول.
فعلى العاقل أن لا يخالف كتاب الله بالإعراض عن فحاويه وعدم التدبر في معانيه بل يسلك سبيل العلم والأعمال ويجتنب الجهل والغي والضلال قبل أن يهال عليه التراب ويلف في الأكفان من الأثواب ، قال الفاضل عبد الرحمن الجامي قدس سره :
يش كسرى زخردمند حكيمان ميرفت
سخن ازسخت ترين موج درين لجه غم
آن يكى كفت كه بيمارى واندوه دراز
وإن دكر كفت كه نادارى وبيريست بهم
سيومين كفت كه قرب اجل وسوء عمل
عاقبت رفت بترجيح سوم حكم حكم
يعني اجتمع يوماً في مجلس أنوشروان ثلاثة من الحكماء فانجر الكلام إلى أن أشد الشدائد ما هو؟ فقال الحكيم الرومي : هو الشيخوخة مع الفقر.
وقال الحكيم الهندي : المرض وعلة البدن مع كثرة الغموم والهموم.
وقال الحكيم بزرجمهر : هو قرب الأجل وسوء العمل فاتفقوا على قوله رزقنا الله وإياكم حلاوة الطاعات وأيدنا بتوفيقه قبل قدوم هاذم اللذات آمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 45
{يَاأَهْلَ الْكِتَـابِ} من اليهود والنصارى {لِمَ تُحَآجُّونَ} تجادلون {فِى} ملة {إِبْرَاهِيمَ} وشريعته تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام وزعم كل واحد منهما أنه عليه السلام منهم وترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم {وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاـاةُ} على موسى عليه السلام {وَالانجِيلَ} على عيسى عليه السلام {إِلا مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد موته وأنتم سميتم باليهودية والنصرانية بعد نزول الكتاب {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان مذهبكم فتجادلون بالجدال المحال لأن
47
بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفي سنة فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟.
{هَـاأَنتُمْ هَـاؤُلاءِ} جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بينت بجملة مستأنفة إشعاراً بكمال غفلتهم أي : أنتم هؤلاء الحمقى حيث {حَـاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِه عِلْمٌ} من التوراة والإنجيل من نبوة محمد عليه السلام {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِه عِلْمٌ} فيما لا ذكر له في كتابكم ولا علم لكم به من دين إبراهيم إذ لا ذكر لدينه عليه السلام في أحد الكتابين قطعاً {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما حاججتم فيه فيعلمنا {وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي : محل النزاع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 47
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} تصريح بما نطق به البرهان المقرر {وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا} أي : مائلاً عن العقائد الزائغة كلها {مُسْلِمًا} أي : منقاداًتعالى وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام وإلا لاشترك الإلزام {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعرض بأنهم مشركون بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله ورد لادعاء المشركين أنهم على ملته عليه السلام.
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} أي : إن أحق الناس بدعواه أنه على دين إبراهيم {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في زمانه {وَهَـاذَا النَّبِىُّ} أي : محمد المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه اتبعه {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلّم من هذه الأمة لموافقتهم في أكثر ما شرعه لهم على الأصالة {وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ} ينصرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم.
(2/38)
{وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} أي : أحبت {لَوْ} أي : أن يصرفونكم عن دين الإسلام إلى دين الكفر وإنما قال طائفة لأن من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} جملة حالية جيء بها للدلالة على كمال رسوخ المخاطبين وثباتهم على ما هم عليه من الدين القويم أي : وما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنه يضاعف به عذابهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي : باختصاص وباله وضرره بهم.
اعلم أنه تعالى لمّا بَيَّنَ أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق والإعراض عن قبول الحجة بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات.
فعلى العاقل أن لا يضل عن الطريق القويم بالقاآت كل شيطان رجيم من ضلال الإنس والجان أصلحهم الله الملك المنان وماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لمّا دنا فراق رسول الله صلى الله عليه وسلّم جمعنا في بيت أُمِنَّا عائشة رضي الله عنها ثم نظر إلينا فدمعت عيناه وقال : "مرحباً بكم حياكم الله رحمكم الله أوصيكم بتقوى الله وطاعته قد دنا الفراق وحان المنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى يغسلني رجال أهل بيتي ويكفنونني في ثيابي هذه إن شاؤوا أو في حلة يمانية فإذا غسلتموني وكفنتموني ضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير لحدي ثم اخرجوا عني ساعة فأول من يصلي علي حبيبي جبريل عليه السلام ثم ميكائل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنودهم ثم ادخلوا علي فوجاً فوجاً صلوا علي" فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا وقالوا : يا رسول الله أنت رسول ربنا وشمع جمعنا وسلطان أمرنا إذا ذهبت عنا فإلى من نراجع في أمورنا؟ قال : "تركتم على المحجة البيضاء" أي : على الطريق الواسع الواضح "ليلها كنهارها" في الوضوح و"لا يزيغ بعدها إلى غيرها إلا هالك وتركت لكم واعظين ناطقاً وصامتاً
48
فالناطق القرآن والصامت الموت فإذا أشكل عليكم أمر فارجعوا إلى القرآن والسنة وإذا قسا قلبكم فلينوه بالاعتبار في أحوال الأموات".
جزء : 2 رقم الصفحة : 47
جهان أي : سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفادارى اميد نيست
والناس في الاعتقاد والعمل متفاوتون.
فمنهم من هو متين كالحصن الحصين لا يزول عما هو عليه وإن اتفق الناس في إضلاله وهو المرتبة القصوى في باب الدين التي نالها الأنبياء والأولياء والأفراد من المؤمنين قال علي كرم الله وجهه (لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً) ولا يطرأ الشك في المحسوس فكذا ما هو في حكمه.
ومنهم من هو ضعيف لا متانة فيه تذروه رياح الهوى حيث شاءت بعد إن لم تساعد له العناية الأزلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الناس كمعادن الذهب والفضة" يعني : أن الناس معادن الأعمال والأخلاق والأقوال ولكن يتفاوتون فيها كما تتفاوت معادن الذهب والفضة إلى أن تنتهي إلى الأدنى فالأدنى.
قال في "شرح المصباح" وفيه إشارة إلى أن ما في معادن الطباع من جواهر مكارم الأخلاق ينبغي أن تستخرج برياضة النفوس كما يستخرج الجواهر من المعادن بالمقاساة والتعب ولقد أجاد من قال :
بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلى سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً
يغوص البحر من طلب للآلي فلا بد من الاجتهاد والاستمداد من الأبدال والأوتاد لعل الله يسهل سلوك هذا الطريق ويخلص من خطر هذا البحر العميق :
بارى كه آسمان وزمين سر كشيد ازان
مشكل بود بياورىء جسم وجان كشيد
همت قوى كن ازمدد وهروان عشق
كان باررا بقوت همت توان كشيد
جزء : 2 رقم الصفحة : 47
يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيات اللَّهِ} أي : بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} أي : والحال أنكم تشهدون أنها آيات الله يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَلْبِسُونَ} أي : تخلطون {الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ} المراد بالحق كتاب الله الذي أنزله على موسى وعيسى عليهما السلام.
وبالباطل ما حرفوه وكتبوه بأيديهم وبخلط أحدهما بالآخر إبراز باطلهم في صورة الحق بأن يقولوا الكل من عند الله تعالى {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي : نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ونعته {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق ثابت في كتابكم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
(2/39)
{وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} وهم رؤساؤهم ومقتدوهم لأعقابهم {بِالَّذِى أُرْسِلْتُ} أي : أظهروا الإيمان بالقرآن الذي {أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : على المسلمين {وَجْهَ النَّهَارِ} أي : في أوله لأن أول النهار هو أول ما ظهر منه كما أن الوجه أول ما يظهر من أعضاء الإنسان عند الملاقاة {وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ} أي : أظهروا ما أنتم من الكفر به في آخر النهار مرائين لهم إنكم آمنتم به بادي الرأي من غير تأمل ثم تأملتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الأول فرجعتم عنه {لَعَلَّهُمْ} أي : المؤمنين {يَرْجِعُونَ} عما هم عليه من الإيمان به كما رجعتم.
والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون.
49
{وَلا تُؤْمِنُوا} أي : لا تقروا بتصديق قلبي {إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي : لأهل دينكم لا لمن تبع محمداً وأسلم لما قالت الطائفة المتقدمة لاتباعهم أظهروا الإيمان بالقرآن أول النهار كان من بقية كلامها لهم إنكم لا تصدقوا بحقية الإسلام والقرآن بقلوبكم لكن لا تظهروه للمسلمين ولا تقروا بذلك إلا لأهل دينكم {قُلْ} يا محمد للرؤساء {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} يهدي به من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه فإذا كانت الهداية والتوفيق من الله فلا يضر كيدكم وحيلكم وهو اعتراض مقيد لكون كيدهم غير مجد لطائل {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} علة بتقدير اللام لفعل محذوف أي : قلتم ذلك القول ودبرتم الكيد لأن يعطي أحد مثل ما أعطيتم من فضل الكتاب والعلم لا لشيء آخر يعني ما بكم من الحسد صار داعياً لكم إلى أن قلتم ما قلتم {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} عطف على أن يؤتى وضمير الجمع عائد إلى أحد لأنه في معنى الجمع أي : دبرتم ما دبرتم لذلك ولأن يحاجوكم عند كفركم بما يأتى أحد من الكتاب مثل كتابكم {عِندَ رَبِّكُمْ} يوم القيامة فيغلبوكم بالحجة فإن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاج مخالفيه عند ربه {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ} أي : الهدي والتوفيق وإيتاء العلم الكتاب {بِيَدِ اللَّهِ} أي : بقدرته ومشيئته {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} من عباده {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} أي : كامل القدرة {عَلِيمٌ} أي : كامل العلم فلكمال القدرة يصح أن يتفضل على أي عبد يشاء بأي تفضل شاء ولكمال علمه لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي : يجعل رحمته مقصورة على {مَن يَشَآءُا وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} كلاهما تذييل لما قبله مقرر لمضمونه.
والإشارة في تحقيق الآيات أن الحسد وإن كان مركوزاً في جبلة الإنسان ولكن له اختصاص بعالم يتعلم العلم ليماري به السفهاء ويباهي به العلماء ويجعله وسيلة لجمع المال وحصول الجاه والقبول عند أرباب الدنيا فيحسد على كل عالم آتاه الله كلمة فهو ينشرها ويفيد الخلق كما قال عليه السلام : "لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في حق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" أي : لا حسد كحسد الحاسد على هذين الرجلين وكان حسد أحبار اليهود على النبي عليه السلام من هذا القبيل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ستة يدخلون النار قبل الحساب" قيل يا رسول الله من هم قال : "الأمراء من بعدي بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهل وأهل العلم بالحسد" قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ثلاث هن أصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن إياكم والكبر فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم" ، قال المولى الجامي :
لاف بي كبرى مزن كان ازنشان اي مور
درشب تاريك برسنك سيه نهان ترست
وزدرون كردن برون انرامكير آسان كزان
كوه را كندن بسوزن اززمين آسان ترست
"وإياكم والحرص فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة" ، وقال أيضاً :
درهر دلى كه عزقناعت نهاد اي
ازهره بود حرص وطمع را ببست دست
هرجا كه عرضه كرد فناعت متاع خويش
بآزار جرص ومعركة آزرا شكست
"وإياكم والحسد فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسداً" ، قال الشيخ السعدي :
توانم انكه نيازارم اندرون كسى
حسود راه كنم كوز خودبرنج درست
50
بميرتا برهى أي حسود كين رنجيست
كه از مشقت ان جز بمرك نتوان رست
وقال الأصمعي : رأيت أعرابياً أتى عليه مائة وعشرون سنة فقلت : ما طول عمرك؟ فقال : تركت الحسد فبقيت.
وفي بعض الآثار أن في السماء الخامسة ملكاً يمر به عمل عبد له ضوء كضوء الشمس فيقول : قف فأنا ملك الحسد اضربوا به وجه صاحبه فإنه حاسد.
وقيل : من علامات الحاسد أن يتملق إذا شهد ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة إذا نزلت وأنشدوا :
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
أتاح لها لسان حسود
(2/40)
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود فالحسد من الأخلاق المذمومة للنفس فلا بد من إزالته عنها بكثرة التوحيد والأذكار ورؤية الآثار من الله الجبار فإن تباين مقامات أفراد الإنسان في العلم والعمل والخلق وسائر الصفات الفاضلة رحمة لهم ولم يكن ذلك إلا بتقدير العزيز العليم في الأزل فالحاسد يسفه الحق سبحانه وأنه أنعم على من لا يستحق تعالى الله عما يقول الظالمون وقد ذم الله الحاسدين في كتابه قال تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النساء : 54) وأما الغبطة فهي محمودة نسأل الله أن يحلينا بالصفات الشريفة والأخلاق اللطيفة ويخلينا من الرذائل النفسية آمين يا رب العالمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} يقال : أمنته بكذا فالباء للالصاق بالأمانة فإن من ائتمن على شيء صار ذلك الشيء في معنى الملصق به لقربه به منه واتصاله بحفظه والمراد بالقنطار ههنا العدد الكثير {يُؤَدِّه إِلَيْكَ} من غير جحد ونقص كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهبا فاداها إليه فأهل الأمانة من أهل الكتاب هم الذين أسلموا {وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} والمراد بالدينار ههنا العدد القليل {لا يُؤَدِّه إِلَيْكَ} وهو كعب بن الأشرف استودعه رجل من قريش ديناراً فلم يؤده وجحده فذمه تعالى فأهل الخيانة منهم هم الذين بقوا على اليهودية والنصرانية والمعنى أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن في الشيء القليل فإنه يخون {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا} استثناء مفرغ من أعم الأحوال والأوقات أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك أو في وقت قيامك على رأسه مبالغاً في مطالبته بالتقاضي وإقامة البينة {ذَالِكَ} أي تركهم أداء الحقوق {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّـانَ} أي في شأن من ليس من أهل الكتاب {سَبِيلٍ} أي عتاب ومؤاخذة ونفي السبيل نفي المطالبة فإن المطالب لا يتمكن من المطالبة إلا إذا وجد السبيل إلى المطلوب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 51
والأمي منسوب إلى الأم وسمي النبي عليه السلام أمياً لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصل حاله في أن لا يكتب.
وقيل لأنه عليه السلام نسب إلى مكة وهي أم القرى {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بادعائهم أن ذلك في كتابهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون مفترون على الله وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل في التوراة في حقهم حرمة فقد كذبوا في ذلك على الله فإن أداء الأمانة واجب في الأديان كلها وحبس مال الغير والإضرار به والخيانة إليه حرام {بَلَى} إثبات لما نفوه أي بلى عليهم في الأميين سبيل {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} الضمير راجع إلى من أي من أتم
51
بعهد الوافي أو بعهد الله الذي عهده إليهم في التوراة وأخذ ميثاقهم عليه من الإيمان بمحمد وأداء الأمانة {وَاتَّقَى} أي الشرك والخيانة وجواب الشرط وهو من قوله {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} عن الغدر والخيانة ونقض العهد أي فإن الله يحبه فقام عموم المتقين مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى من يعني التقوى تعم وفاء ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بمحمد عليه السلام وبما جاء به مما يتعلق بتكميل القوة النظرية والعملية.
ودلت الآية على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن الطاعات مقصورة على أمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً إذ ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله ولما أمر الله به كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن" ، أي : جعل أميناً ووضع عنده أمانة "خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر" ، أي : ترك الوفاء "وإذا خاصم فجر" أي مال عن الحق.
قال صاحب "التحفة" وليس الغرض أن آية المنافق محصورة فيها بل كل من أبطن خلاف ما أظهر فهو من المنافقين فصدور العدد من خير الأنام يكون باعتبار اقتضاء المقام والوفاء بالعهد كما يمكن أن يكون في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات لأنه عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب.
فعلى العاقل أن يوفى بعهده في السراء والضراء ويجتهد في محافظته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 51
(2/41)
ـ حكي ـ أن شاباً عقد مع الله عقداً لا ينظر إلى شيء من مستحسنات الدنيا فمر يوماً بسوق فرأى منطقة مرصعة بالدر والجوهر فنظر إليها فأعجبته ثم مضى عنها وقد نظر إليه صاحبها فلما ذهب عنه افتقدها فلم يجدها فوثب مسرعاً حتى تعلق بالشاب وقال يا عيار أنت سارق منطقتي فحمله إلى السلطان فلما نظر إليه قال : ليس هذا من أهل السرقات فقال : بل هو سارق منطقتي وصفتها كيت كيت فأمر بتفتيشه فوجدوها على وسطه فقال له السلطان يا فتى أما تستحيى تلبس لباس الأخيار وتعمل عمل الفجار؟ فنظر الفتى إلى المنطقة فقال مولاي : الإقالة الإقالة الهي لا أعود إلى مثلها فأمر السلطان أن يضرب فجرد ليضربوه فإذا هم بصوت يسمع ولا يرى يقول : دعوه ولا تضربوه إنما أردنا تأديبه فوثب السلطان إلى الفتى وقبله بين عينيه ثم قال : أخبرني عن قصتك فأخبره فتعجب من ذلك ثم قرأ {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا} (البقرة : 177) فقال صاحب المنطقة : سألتك بالله ألا ما قبلتها مني واجعلني في حل فقال : إليك عني ليس هذا من صنعتك إنما الصنع لصاحب الصنع ولا مؤثر في الوجود غير الحق وليس في الدار غيره ديار.
ه خوش كفت بهلول فر خنده خوي
و بكذشت بر عارفي جنك جوى
كر اين مدعى دوست بشناختى
به يكار دشمن نرداختي
كر از خستىء حق خبر داشتي
همه خلق را نيست نداشتي
فإذا وقفت على هذا الخبر فقم في تربية نفسك إلى أن تصل إلى الهوية المطلقة مميطاً لثام الإثنينية مشاهداً وجود الحق في كل شيء رزقنا الله وإياكم مشاهدته.
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون ويأخذون {بِعَهْدِ اللَّهِ} أي بدل ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول عليه السلام والوفاء بالأمانات {وَأَيْمَـانِهِمْ} وبما حلفوا به من قولهم لنؤمنن به ولننصرنه
52
{ثَمَنًا قَلِيلا} هو حطام الدنيا {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات القبيحة {لا خَلَـاقَ} لا نصيب {لَهُمْ فِى الاخِرَةِ} ولا في نعيمها {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} وهو كناية عن شدة غضبه وسخطه نعوذ بالله من ذلك {وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} وهو مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يثنى عليهم كما يثنى على أوليائه مثل ثناء المزكي للشاهد.
والتزكية من الله تعالى قد تكون على ألسنة الملائكة كقوله تعالى : {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (التوبة : 112) وقد تكون بغير واسطة ، إما في الدنيا فكقوله تعالى : {التَّـائِبُونَ الْعَـابِدُونَ} (التوبة : 112) وإما في الآخرة فكقوله تعالى : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على ما فعلوه من المعاصي.
والآية نزلت في اليهود الذين حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخذوا الرشوة على ذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 51
{وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من اليهود المحرفين {لَفَرِيقًا} ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرا بهما {يَلْوُانَ} من اللي وهو الفتل {أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَـابِ} أي يفتلونها بقراءته فيميلونها من المنزل إلى المحرف {لِتَحْسَبُوهُ} أي المحرف المدلول عليه بقوله يلوون {مِّنَ الْكِتَـابِ} أي من جملته {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} حال من الضمير المنصوب أي والحال أنه ليس منه في نفس الأمر وفي اعتقادهم أيضاً {وَيَقُولُونَ} مع ما ذكر من اللي والتحريف على طريقة التصريح لا بالتورية والتعريض {هُوَ} أي المحرف {مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي منزل من عند الله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي : والحال أنه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضاً {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون ومفترون على الله وهو تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله تعالى والتعمد فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيروا التوراة وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب.
والإشارة في الآيتين {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الذي عاهدهم الله به يوم الميثاق في التوحيد وطلب الوحدة {وَأَيْمَـانِهِمْ} التي يحلفون بها ههنا {ثَمَنًا قَلِيلا} من متاع الدنيا وزخارفها مما يلائم الحواس الخمس والصفات النفسانية {أولئك لا خَلَـاقَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ} الروحانية من نسيم روائح الأخلاق الربانية {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} تقريباً وتكريماً وتفهيماً {وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بنظر العناية والرحمة فيرحمهم ويزكيهم عن الصفات التي بها يستحقون دركات جهنم {وَلا يُزَكِّيهِمْ} عن الصفات الذميمة التي هي وقود النار بالنار إلى الأبد ولا يتخلصون منها أبداً {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فيما لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم.
(2/42)
جزء : 2 رقم الصفحة : 53
{وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من مدعي أهل المعرفة {لَفَرِيقًا يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَـابِ} أي بكلمات أهل المعرفة {لِتَحْسَبُوهُ} من المعرفة {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} الذي كتب الله في قلوب العارفين {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} يعني من العلم اللدني {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بإظهار الدعاوي عند فقدان المعاني {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولا يعلمون أنهم يقولون ما لا يفعلون ، قال السعدي قدس سره :
كرا جامه اكست وسيرت ليد
در دوزخش را نبايد كليد
يعني يدخل جهنم من قبل أن يحاسب على ما فعله لأن مآله إلى النار والمحاسبة وإن كانت نوعاً من التعذيب إلا أن عذاب جهنم أشد منها.
53
اكر مردي از مردىء خود مكوى
نه هر شهسواري در برد كوي
يعني كل عابد لا يخلص إيمانه في عاقبته بل من المتعيشين بالصلاح من يموت على الطلاح والعياذ بالله :
كسى سر بزركي نباشد بيز
كدو سر بزركست وبي مغز نيز
ميفر ازكردن بدستار وريش
كه دستار نبه است وسبلت حشيش
أي النبات اليابس.
فيا أرباب الدعاوي أين المعاني.
ويا أرباب المعرفة أين المحبة.
ويا أرباب المحبة أين الطاعة.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى ليلة المعراج نساء بيد كل واحدة منهن مقراض تقرض صدرها وتقطعه قطعة قطعة فسأل جبريل عليه السلام عنهن فقال : "هن اللاتي ولدن أولاداً من الزنى مع وجود أزواجهن وأولادهن" قال الشيخ الصفي قدس سره : إن الذين يدعون المعرفة وتمكنهم في مقام الإرشاد ويراؤن جلباً لحطام الدنيا عذابهم أشد من عذاب هؤلاء النساء سبعين مرة فمن جعل القرآن وسيلة لجلب زخارف الدنيا أولى منه من يجلبها بالمعازف وآلات اللهو مثلاً إذا كان في محل رفيع حيث لا تصل إليه اليد وليس هناك غير مصحف وطنبور فالأولى أن يجعل الطنبور تحت القدم للوصول دون المصحف وهكذا فيما نحن فيه ، قيل :
دين فروشي مايه كردن هست خسران مبين
سودمند آنكس كه دنيا صرف كرد ودين خريد
فلو نظرت إلى شيوخ الزمان وجدت أكثرهم مدعين ما لم يتحققوا به يضلون الناس بأكاذيب ويروون أساليب ليس فيها أثر من المعاني والحقيقة.
فعلى العاقل أن لا يغتر بظاهرهم ولا يخرج عن المنهاج مقتفياً بآثارهم بل يجتهد إلى أن يميز بين الحق والباطل والعارف والجاهل وماذا بعد الحق إلا الضلال عصمنا الله وإياكم من الزيغ وسيآت الأعمال آمين يا متعال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 53
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} بيان لافترائهم على الأنبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجران إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخذه رباً حاشاه عليه السلام.
وجاء رجل من المسلمين فقال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك فقال : "معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله" أي ما صح وما استقام لأحد سواء كان بشراً أولا وإنما قيل لبشر إشعاراً بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إليهم {أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَـابَ} الناطق بالحق الآمر بالتوحيد الناهي عن الإشراك كالتوراة والإنجيل والقرآن {وَالْحُكْمَ} أي الفهم والعلم {وَالنُّبُوَّةَ} وإيتاء الكتاب يستلزم إيتاء الحكم وهو الحكمة المعبر عنها باتقان العلم والعمل فلذلك قدم الكتاب على الحكم لأن المراد بالحكم هو العلم بالشريعة وفهم مقاصد الكتاب وأحكامه فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم قال تعالى : {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} يعني العلم والفهم.
فالكتاب السماوي ينزل أولاً ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وأسراره وبعدما حصل فهم الكتاب يبلغ النبي ذلك المفهوم إلى الخلق وهو النبوة والأخبار فما أحسن هذا الترتيب {ثُمَّ يَقُولُ} ذلك البشر بعدما شرفه تعالى بما ذكر من التشريفات وعرفه الحق واطلعه على شؤونه العالية {لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا} كائنين {لِّى مِن دُونِ اللَّهِ} من متعلق بلفظ عباداً لما فيه من معنى الفعل {وَلَـاكِنِ} يقول لهم {كُونُوا رَبَّـانِيِّـانَ} الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني إذا وصف بطول اللحية ففيه الدلالة على الكمال في هذه الصفة
54
وإذا نسب إلى اللحية من غير قصد المبالغة يقال لحوي فالرباني هو الكامل في العلم والعمل الشديد التمسك بطاعة الله تعالى ودينه كما يقال رجل إلهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أي بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته أي قراءته وتقديم التعليم على الدراسة لزيادة شرفه عليها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 53
(2/43)
{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الملائكة وَالنَّبِيِّـانَ أَرْبَابًا} بالنصب عطف على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أن يستنبئه ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كما قال قريش والصابئون الملائكة بنات الله واليهود والنصارى عزير ابن الله والمسيح ابن الله {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} إنكار لما نفي عن البشر والضمير له يعني أيأمركم بعبادة الملائكة والسجدة للأنبياء بعد كونهم مخلصين بالتوحيدفإنه لو أمركم بذلك لكفر ونزع منه النبوة والإيمان ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس وأفضلهم فيمنعه ذلك من ادعاء الألوهية فإنه تعالى لا يؤتى الوحي والكتاب إلا نفوساً طاهرة وأوراحاً طيبة فلا يجمع بشر بين النبوة وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله.
واعلم أن العلم والدراسة جعلا سبباً للربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله وكفى هو دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل فكان مثل من غرس شجرة حسناء تؤنقه أي تعجبه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها فالعمل بغير العلم والعلم بغير العمل لا يثبت كل منهما بانفراده النسبة إلى الرب فعلم أن العالم الذي لا يعمل بعلمه منقطع النسبة بينه وبين ربه كالعامل الجاهل فكل منهما ليس من الله في شيء حيث لم تثبت النسبة إلا للتمسك بالعمل المبني على العلم.
قال علي رضي الله عنه قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك لأن العالم ينفر الناس عن العلم بتهتكه والجاهل يرغب الناس في الجهل بتنسكه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع" فعلى المعلم والمتعلم أن يطلب بعلمه مرضاة الله وبعمله الربانية فمن اشتغل بالتعليم والتعلم لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله.
والإشارة أن من دأب أهل الحقيقة تربية الأتباع والمريدين ليكونوا ربانيين متخلقين بأخلاق الربانية العاملين بما يعلمون من الكتاب وبما كانوا يدرسون من العلوم لا يقنعون على دراستها ولا يفترون بمقالات أخذوها من أفواه القوم وبعض مدعي هذا الشأن الذين غلبت عليهم أهواؤهم وصفات بشريتهم يدعون الشيخوخة من رعونة النفس قبل أوانها ويخدعون الخلق بأنواع الحيل ويستتبعون بعض الجهلة ويصيدونهم بكلمات أخذوها من الأفواه ويمكرون ببعض أهل الصدق من الطلبة ويقطعون عليهم طريق الحق بأن يمنعوهم من صحبة أهل الحق ومشايخ الطريقة ويأمروهم بالتسليم والرضى فيما يعاملونهم ولا يعرفون غيرهم فيعبدونهم من دون الله كما هو دأب أكثر مشايخ زماننا هذا فإنه ليس من دأب من يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ، قال السعدي في ذم أمثال هؤلاء المشايخ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 53
دمادم بشويند ون كربه روي
طمع كرده در صيد موشان كوي
رياضت كش ازبهر نام وغرور
كه طبل تهى را رود بانك دور
55
يعني : يصل صوت الطبل إلى البعيد ويسمع من البعيد لكونه خالياً فكذلك أمثالهم يشتهر ذكرهم بين الناس وليس ذلك إلا لكونهم خالين عن الحقيقة إذ المرء الصادق في طلبه والواصل إلى ربه يحب الخمول والنفرة عن الخلق فشأنه التجنب من كل شيء سوى الله دون تشهير نفسه وجلب المال من أيدي الناس بل من الناس من يرغب عنه وهو مرغوب :
كسى راكه نزديك ظنت بداوست
ه داني كه صاحب ولايت خود اوست
در معرفت بر كسانيست باز
كه درهاست برروى ايشان فرار
جزء : 2 رقم الصفحة : 53
(2/44)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} قال قوم إن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة أن يصدق بعضهم بعضاً وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه وإن لم يدركه أن يأمر قومه بالإيمان به وبنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ومن عيسى أن يؤمن بمحمد عليه السلام وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم بذلك أولى وأحرى أي اذكر يا محمد وقت أخذ الله ميثاق الأنبياء وأممهم {لَمَآ ءَاتَيْتُكُم} اللام موطئة لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما مبتدأ موصولة وآتيتكم صلتها والعائد محذوف تقديره للذي آتيناكموه {مِّن كِتَـابٍ وَحِكْمَةٍ} وهي بيان أحكام الحلال والحرام والحدود حال من الموصول {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطف على الصلة والمعطوف على الصلة صلة فلا بد من الرابط فالتقدير رسول به {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} من الكتاب {لَتُؤْمِنُنَّ بِه وَلَتَنصُرُنَّهُ} جواب قسم مقدر وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ والله لتصدقنه برسالته وتنصرنه على أعدائه لإظهار دين الحق.
فإن قيل : ما وجه قوله تعالى : {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} والرسول لا يجيىء إلى النبيين وإنما يجيىء إلى الأمم؟ والجواب إن حملنا قوله : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} على أخذ ميثاق أممهم فقد اندفع الأشكال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين أنفسهم كان معنى قوله : {ثُمَّ جَآءَكُمْ} أي جاء في زمانكم {قَالَ} أي الله تعالى بعدما أخذ الميثاق {ءَأَقْرَرْتُمْ} أي بالإيمان والنصر له والاستفهام للتقرير والتأكيد عليهم لاستحالة حقيقة الاستفهام في حقه تعالى {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ} الميثاق {إِصْرِى} أي عقدي الذي عقدته عليكم.
والإصر الثقل الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلازمه من العمل والإصر ههنا العهد الثقيل لأنه ثقل على صاحبه من حيث أنه يمنع عن مخالفته إياه {قَالُوا أَقْرَرْنَا} بذلك واكتفى به عن ذكر أخذهم الإصر {قَالَ} سبحانه وتعالى {فَأَشْهِدُوا} أيها الأنبياء والأمم بإقرار بعضكم على بعض {وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّـاهِدِينَ} أي وأنا أيضاً شاهد على إقراركم ذلك مصاحب لكم وإدخال مع علي المخاطبين لما أنهم المباشرون للشهادة حقيقة والمقصود منه التأكيد والتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض.
جزء : 2 رقم الصفحة : 56
{فَمَن تَوَلَّى} أي أعرض عما ذكر {بَعْدَ ذَالِكَ} الميثاق والتوكيد والإقرار والشهادة {فأولئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ} المتردون الخارجون عن الطاعة من الكفرة فإن الفاسق من كل طائفة من كان متجاوزاً عن الحد.
قال في "التيسير" والتولي لا يقع من الأنبياء ولا يوصفون بالفسق لكن له وجهان : أحدهما أن الميثاق كان على الأنبياء وأممهم على التبعية والتولي من الأمم خاصة ، والثاني أن العصمة
56
(2/45)
لا تزيل المحنة انتهى وهذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد عليه السلام في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين الله ومعبوداً سوى الله بقوله تعالى : {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} عطف على مقدر أي أيتولون فيبغون غير دين الله ويطلبونه {وَلَه أَسْلَمَ} أيأخلص وانقاد {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي أهلهما {طَوْعًا} وهم الموحدون {وَكَرْهًا} أي بإباء وهم الجاحدون بما فيهم من آثار الصنع ودلائل الحدوث وتصريفهم كيف يشاء إلى صحة ومرض وغنى وفقر وسرور وحزن وسائر الأحوال فلا يمكنهم دفع قضائه وقدره {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي من فيهما والمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه من حيث لا يملك الضر والنفع سواه وهذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق.
فعلى العاقل أن يطيع ربه ولا يعصيه بنقض ما عهد إليه يوم الميثاق.
فعهد الله مع الأنبياء والأولياء والمؤمنين التوحيد وإقامة الدين وعدم التفرق فيه وتصديق بعضهم بعضاً ودعوة الخلق على الطاعة وتخصيص العبادة بالله فالله تعالى لا يطلب من العبد إلا الصدق في العبودية والقيام بحقوق الربوبية قال الشيخ الشاذلي قدس سره : متى رزقك الله الطاعة والفناء به عنها فقد أسبغ عليك نعمة ظاهرة ، إذ أراح ظاهرك من مخالفة أمره.
وباطنة إذ رزقك الاستسلام لقهره ، وهذا هو مطلب الحق منك.
قيل لابراهيم بن أدهم قدس سره : لو جلست لنا في المسجد حتى نسمع منك شيئاً فقال : إني مشغول عنكم بأربعة أشياء فلو تفرغت منها لجلست معكم قيل وما هي يا أبا إسحاق؟ قال : أولها أني تذكرت حين أخذ الله الميثاق على آدم فقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي فلم أدر من أي الفريقين كنت ، الثاني أني تفكرت أن الولد إذا قضى الله سبحانه بخلقه في بطن أمه ونفخ فيه الروح فيقول الملك الموكل به يا رب أشقي أم سعيد؟ فلم أدر كيف خرج جوابي في ذلك الوقت ، الثالث حين ينزل ملك الموت فإذا أراد أن يقبض الروح فيقول : يا رب أقبضها مع الإسلام أو مع الكفر فلا أدري كيف يخرج جوابي في ذلك الوقت ، الرابع تفكرت في قوله : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) فلا أدري من أي الفرين أكون؟ ففي هذا شغل شغلني عن الجلوس لكم والحديث معكم
جزء : 2 رقم الصفحة : 56
ففي هذا الإشارة إلى أن العبد مع كونه مستسلماً لقضاء الله لا بد وأن يراعي وظيفة التكليف إذ الخير أو الشر مقضي في حقه ولكن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" فليجاهد العاقل في تزكية نفسه أولاً ثم الوصية إلى عباد الله ولا يكلف المرء إلا بقدر وسعه والناس في المراتب مختلفون فطوبى لمن وصل إلى أعلى المطالب :
بقذر حوصله خويش دانه يند مرغ
بصعوه نتوان داد طمعه شبهاز
وقيل للشيخ الصفي قدس سره : إذا قطع الطالب المنازل فهل يبقى بعد ذلك مرتبة لم يصل إليها بعد؟ قال : بلى يبقى علم أنه هل كان مقبولاً للرب تعالى أولاً ، وفي القشيري ما حاصله أن الولي في الحال يجوز أن يتغير حاله في المآل ويجوز أن يكون من جملة كرامات الولي أن يعلم أنه مأمون العاقبة عصمنا الله وإياكم بحسن الخاتمة.
57
همه عالم همي كويند هر آن
كه يا رب عاقبت محمود كردان
جزء : 2 رقم الصفحة : 56
ففي هذا الإشارة إلى أن العبد مع كونه مستسلماً لقضاء الله لا بد وأن يراعي وظيفة التكليف إذ الخير أو الشر مقضي في حقه ولكن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" فليجاهد العاقل في تزكية نفسه أولاً ثم الوصية إلى عباد الله ولا يكلف المرء إلا بقدر وسعه والناس في المراتب مختلفون فطوبى لمن وصل إلى أعلى المطالب :
بقذر حوصله خويش دانه يند مرغ
بصعوه نتوان داد طمعه شبهاز
وقيل للشيخ الصفي قدس سره : إذا قطع الطالب المنازل فهل يبقى بعد ذلك مرتبة لم يصل إليها بعد؟ قال : بلى يبقى علم أنه هل كان مقبولاً للرب تعالى أولاً ، وفي القشيري ما حاصله أن الولي في الحال يجوز أن يتغير حاله في المآل ويجوز أن يكون من جملة كرامات الولي أن يعلم أنه مأمون العاقبة عصمنا الله وإياكم بحسن الخاتمة.
57
همه عالم همي كويند هر آن
كه يا رب عاقبت محمود كردان
جزء : 2 رقم الصفحة : 56
(2/46)
{قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} أمر للرسول صلى الله عليه وسلّم بأن يخبر عن نفسه بالإيمان بما ذكر وجمع الضمير في آمنا لإظهار جلالة قدره صلى الله عليه وسلّم ورفعة محله بأمره بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك {وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} وهو القرآن والنزول كما يعدي بالى لانتهائه إلى الرسول يعدى بعلي لأنه من فوق {وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ} من الصحف.
والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم عليه السلام {وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى} من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى {وَالنَّبِيُّونَ} أي وما أوتي النبيون من المذكورين وغيرهم {مِّن رَّبِّهِمُ} من الكتب والمعجزات {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصحة كل منهم وبحقية ما أنزل إليهم في زمانهم.
قال الإمام في تفسيره واختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدمين الذين نسخت شرائعهم وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً فهل تصير نبوته منسوخة؟ فمن قال : إن نبوته منسوخة قال : نؤمن بأنهم كانوا أنبياء ورسلاً ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال ومن قال أن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة قال : نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} أي منقادون على أن يكون الإسلام بمعنى الاستسلام وهو الانقياد أو مخلصون له تعالى أنفسنا لا نجعل له شريكاً فيها على أن يكون من السلامة.
وفيه تعريض بإيمان أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ} أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحاً والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين {دِينًا} ينتحل إليه وهو نصب على أنه مفعول ليبتغ وغير الإسلام حال منه لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالاً {فَلَن يُقْبَلَ} ذلك {مِنْهُ} أبداً بل يرد أشد رد وأقبحه {وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} أي الواقعين في الخسران بحرمان الثواب وحصول العقاب ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقرير ذلك الدين الباطل.
والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها.
واعلم أن ظاهر الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} والجواب أنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره.
{كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ} إلى الحق {قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ} قيل هم عشرة رهط ارتدوا بعدما آمنوا ولحقوا بمكة وهو استبعاد لأن يهدي قوماً هم معاندون للحق مكابرون فيه غير خاضعين له بأن يخلق فيهم الاهتداء ويوفقهم لاكتساب الاهتداء وإنما يخلق الاهتداء ويوفق على كسب ذلك ويقدرهم عليه إذا كانوا خاضعين للحق راغبين فيه فالمراد من الهداية خلق الاهتداء
58
وقد جرت سنة الله في دار التكليف على أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال : كيف يخلق فيهم المعرفة والاهتداء وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} أي صادق فيما يقول {وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي الشاهد من القرآن على صدقه ، قوله : وشهدوا عطف على إيمانهم باعتبار انحلاله إلى جملة فعلية فإنه في قوة أن يقال بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا وهو دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان ضرورة أن المعطوف مغاير للمعطوف عليه {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} أي الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاء الحق وعرفه ثم أعرض عنه.
فإن قيل ظاهر الآية يقتضي أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالماً لا يهديه الله وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم ، فالجواب أن معناه لا يهديهم ما داموا مقيمين على الرغبة في الكفر وفي الثبات عليه ولا يقبلون على الإسلام وأما إذا تحروا إصابة الحق والاهتداء بالأدلة المنصوبة فحينئذٍ يهديهم الله بخلق الاهتداء فيهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
(2/47)
{أولئك} المذكورون باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة {جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} وهو إبعاده من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب {والملائكة} ولعنهم بالقول كالناس {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} والمراد بالناس المؤمنون لأنه لو أريد به جميع الناس لزم أن يلعن كل واحد منهم جميع من يوافقهم ويخالفهم ولا وجه لأن يلعن الإنسان من يوافقه ويحتمل أن يراد به الجميع بناء على أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا كافر فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافراً فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك.
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} حال من الضمير في عليهم أي في اللعنة والعقوبة ومعنى الخلود في اللعن أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار ولا يخلو شيء من أحوالهم من اللعنة {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} الإنظار التأخير أي لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت فإن العذاب الملحق بالكفار مضرة خالصة من شوائب المنافع دائمة غير منقطعة نعوذ بالله من ذلك وما يؤدي إليه.
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي من بعد الارتداد {وَأَصْلَحُوا} أي ما أفسدوا {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم وعطف قوله {وَأَصْلَحُوا} على قوله {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} يدل على أن التوبة وحدها وهي الندم على ما مضى من الارتداد والعزم على تركه في المستقبل لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح أي وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات ومع الخلق بالمعاملات وهذا الندم والتوبة إنما يحصل لمن لم ترسخ فيه بعد هيئة استيلاء النفس الأمارة على قلبه ولم تصر رينا وبقي فيه من وراء حجاب صفات النفس مسكة من نور استعداده فيتداركه الله برحمته وتوفيقه فيندم ويواظب على الرياضات من باب التزكية والتصفية.
ـ يحكى ـ عن السري السقطي؟ قدس سره أنه قال : قلت يوماً عجبت من ضعيف عصى قوياً فلما كان الغداة وصليت الغداة إذا أنا بشاب قد وافى وخلفه ركبان على دواب بين يديه غلمان وهو راكب على دابة فنزل وقال : أيكم السري السقطي فأومأ
59
جلسائي إلي فسلم علي وجلس وقال : سمعتك تقول عجبت من ضعيف عصى قوياً فما أردت به؟ فقلت : ما ضعيف أضعف من ابن آدم ولا قوي أقوى من الله تعالى وقد تعرض ابن آدم مع ضعفه إلى معصية الله قال : فبكى ثم قال : يا سري هل يقبل ربك غريقاً مثلي؟ قلت : ومن ينقذ الغرقي إلا الله تعالى قال : يا سري إن علي مظالم كثيرة كيف أصنع؟ قال : إذا صححت الانقطاع إلى الله أرضى عنك الخصوم بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلّم "إذا كان يوم القيامة واجتمع الخصوم على ولي الله تقول الملائكة لهم : لا تروّعوا ولي الله فإن الحق اليوم على الله فيهب الله لهم مقامات عالية بدل حقوقهم فيتجاوزون عن الولي" قال : فبكى ثم قال : صف لي الطريق إلى الله فقلت : إن كنت تريد طريق المقتصدين فعليك بالصيام والقيام وترك الآثام وإن كنت تريد طريق الأولياء فاقطع العلائق واتصل بخدمة الخالق ، فعلى السالك أن يتوب من جميع الآثام ولا يشغل سره سوى مشاهدة الله العلام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
بهشت تن اساني آنكه خوري
كه بردوزخ نيستي بكذري
(2/48)
يعني لا تصل إلى الحضور الباقي والحياة الأبدية إلا بإفناء وجودك في وجود الحق وتبديل الأخلاق الذميمة بالأخلاق الحميدة فإذا جاوزت هذا الصراط الأدق وصلت إلى الجناب المطلق.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" أي لا تركن إليها ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله "وعد نفسك من أصحاب القبور" وفيه إشارة إلى الفناء عن إضافة الوجود إلى نفسه بل الوجود كلهتعالى فالبدن للروح بمنزلة القبر للميت فكما أن الميت في قبره يسلم لأمر مولاه ولا يتعرض إلى شيء أصلاً كذلك ينبغي أن لا يتعرض العبد لشيء من الآفات البدنية والقلبية بل يدور حيث أوقفه الله من الفطرة الأصلية والشهود التام وقل من سلم من هذه الآفات إلا أن العبد بالتوبة يتدارك ما فات فإياك أن ترخص لنفسك في فعل شر فإذا قد فتحت بابه فأول الشر الخطرة كما أن أول السيل القطرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما بال أقوام يشرفون المسرفين ويستخفون بالعابدين يعملون بالقرآن ما وافق أهواءهم وما خالف أهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض يسعون فيما يدرك من القدر المحتوم والرزق المقسوم والأجل المكتوب ولا يسعون فيما لا يدرك إلا بالسعي من الأجر الموفور والسعي المشكور والتجارة التي لا تبور" فإذا وقفت على هذا جعلت سعيك للآخرة لا للدنيا بل لم تطلب من الله إلا الله رزقنا الله وإياكم ذلك آمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
{إِنَّ الَّذِينَ} كاليهود {كَفَرُوا} بعيسى والإنجيل {بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ} بموسى والتوراة {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} حيث كفروا بمحمد عليه السلام والقرآن أو كفروا به عليه السلام بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار عليه والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون إلا عند إشرافهم على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من
60
الرحمة أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادهم كفراً وذلك لم تدخل فيه الفاء {وَأُولَئكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} على سبيل الكمال فهو من قبيل حصر الكمال وإلا فكل كافر ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً في الأصل ومن جملة كمالهم في الضلال ثباتهم عليه وعدم كون الاهتداء متوقعاً منهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 60(2/49)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ} لما كان الموت على الكفر سبباً لامتناع قبول الفدية دخلت الفاء ههنا إيذاناً بسببية المبتدأ لخبره {مِنْ أَحَدِهِم} فدية {مِّلْءُ الارْضِ ذَهَبًا} تمييز أي ما يملأون من شرقها إلى غربها {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أي بملىء الأرض ذهباً.
فإن قيل نفي قبول الافتداء يوهم أن الكافر يملك يوم القيامة من الذهب ما يفتدى به وهو لا يملك فيه نقيراً ولا قطميراً فضلاً عن أن يملك ملىء الأرض ذهباً.
قلنا : الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية من أعز الأشياء وكونه ملىء الأرض كناية عن كونه في غاية الكثرة والتقدير لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء بالغاً إلى غاية الكثرة وقدر على بذله لنيل أعز المطالب لا يقدر على أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله تعالى والمقصود بيان أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العقاب {أولئك} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات الشنيعة المذكورة {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم {وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} في دفع العذاب عنهم أو في تخفيفه ومن مزيدة للاستغراق وصيغة الجمع لمراعاة الضمير أي ليس لواحد منهم ناصر واحد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفدي به؟ فيقول : نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي".
قال الإمام : اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام : أحدها لذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله في قوله : {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنا بَعْدِ ذَالِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وثانيها الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله تعالى في الآية المتقدمة وقال : {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} ، وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة البتة وهو المذكور في هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} الآية انتهى وهم الذين رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم وتمكنت وصارت رينا وتناهوا في الشر والغي وتمادوا في العناد والبغي فلن يقبل من أحدهم ملىء الأرض إذ لا يقبل هناك إلا الأمور النورانية الباقية لأن الآخرة هي عالم النور والبقاء فلا وقع ولا خطر للأمور الظلمانية الفانية فيها وهل كان سبب كفرهم واحتجابهم إلا محبة هذه العوائق الفانية فكيف تكون فداءهم وسبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وهي بعينها سبب هلاكهم وبعدهم وخسرانهم وحرمانهم فإياك من أوصاف الكفر وهي حب الدنيا واتباع الهوى والإقبال على شهوات النفس والإعراض عن الحق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 60
تراشهوت وكبر وحرص وحسد
وخون درركند ووجان در جسد
يعني كما أن الدم سارى في العروق وجاري فيها وكذا الروح في الجسد فكذلك هذه الصفات الذميمة محيطة بك.
61
كراين دشمنان تقويت يافتند
سر ازحكم ورأى توبر تافتند
هوا وهوس را نماند ستيز
وبينند سرنة عقل تيز
يعني إذا كان المرء تابعاً للشرع وقضية العقل يكون غالباً على هواه فلا تجادله الصفات السبعية الشيطانية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسى الآخرة".
قال ذو النون المصري مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الإصابة مخالفة النفس والهوى ومخالفتها ترك شهواتها.
قال جعفر بن نصير دفع إلي الجنيد درهماً فقال : اشتر به التين الوزيري فاشتريته فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها في فيه ثم ألقاها وبكى وقال : احمله فقلت له في ذلك فقال : هتف في قلبي أما تستحي شهوة تركتها من أجله تعالى ثم تعود إليها.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله من أحسن في ليله كوفي في نهاره ومن أحسن في نهاره كوفي في ليله ، ومن صدق في ترك شهوة كفى مؤونتها والله أكرم من أن يعذب قلباً ترك شهوة لأجله.
واعلم أن النفس عين لطيفة هي معدن الأخلاق الذميمة مودعة بين جنبي الإنسان أي جميع جسده وهي أمارة بالسوء وهي مجبولة على صد الروحانية المخلوقة من الملكوت الأعلى فإنهم يأمرون بالخير وينهون عن الشر وهي مخلوقة من الملكوت السفلي كالشياطين وهم لا يأمرون إلا بالشر ومن طبعهم التمرد والإباء والاستكبار ولهذا تأبى النفس من قبول الموعظة وتظهر التمرد كما قال الشيخ في قصيدة البردة :
فإن أمارتي بالسوء ما اتعظت
من جهلها بنذير الشيب والهرم
(2/50)
يعني أن النفس الأمارة بالسوء والعيب ما قبلت الوعظ من نذير الشيب فتمادت في غواية الجهل بعد الهرم وما كبحت عنان جماح الشهوة بأيدي الندم وقد خلق الله النفس على صورة جهنم وخلق بحسب كل دركة فيها صفة لها وهي باب من جهنم يدخل فيها من هذا الباب إلى دركة من دركاتها السبع وهي سبع صفات الكبر والحرص والشهوة والحسد والغضب والبخل والحقد فمن زكى نفسه عن هذه الصفات فقد عبر عن هذه الدركات السفلية ووصل إلى درجات الجنان العلوية كما قال الله تعالى : "قد أفلح من زكاها" ومن لم يزك نفسه عن هذه الصفات بقي في دركات جهنم خائباً خاسراً كما قال تعالى : {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} (الشمس : 101) عصمنا الله وإياكم من كيد النفس الأمارة وشر الشيطان وأصلح حالنا ما دامت الأرواح في الأبدان آمين يا مستعان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 60
{لَن تَنَالُوا الْبِرَّ} من ناله نيلاً إذا أصابه أي لن تبلغوا أيها المؤمنون حقيقة البر الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الأبرار أولن تنالوا بر الله تعالى وهو ثوابه ورحمته ورضاه وجنته {حَتَّى تُنفِقُوا} أي في سبيل الله رغبة فيما عنده {مِمَّا تُحِبُّونَ}
62
أي بعض ما تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبها إليكم أو ما يعمها وغيرها من الأعمال والمهجة على أن المراد بالانفاق مطلق البذل.
وفيه من الإيذان بعزة منال البر ما لا يخفى {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ} أي أي شيء تنفقوا طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه فمحل الجار والمجرور النصب على التمييز {فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أي فمجازيكم بحسبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليم بكل شيء تنفقونه علماً كاملاً بحيث لا يخفى عليه شيء من ذاته وصفاته.
وفيه من الترغيب في اتفاق الجيد والتحذير من إنفاق الرديء ما لا يخفى ، فالوصول إلى المطلوب لا يحصل إلا بالانفاق المحبوب ولذلك كان السلف إذا أحبوا شيئاً جعلوهذخيرة ليوم يحتاجون إليه والإنسان لا ينفق محبوبه إلا إذا أيقن أنه يتوصل بذلك إلى وجدان محبوب أشرف من الأول فالإنسان لا ينفق محبوبه في الدنيا إلا إذا تيقن بوجود الصانع العالم القادر وتيقن بالبعث والحساب والجزاء وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ولزم منه أن الإنسان لا يمكنه إنفاق محبوبه في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميع الخصال المحمودة في الدين فلا تقتضي الآية أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
ـ روي ـ أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ بيرحاء وهو ضيعة له في المدينة مستقبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال صلى الله عليه وسلّم "بخ بخ ذاك مال رابح أو رائج فإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها في أقاربه" وفيه دلالة على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل.
ـ وروي ـ عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كانت لزوجته جارية بارعة في الجمال وكان عمر راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تعطه إياها.
ثم لما ولي الخلافة زينتها وأرسلتها إليه فقالت : وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك قال : من أين ملكتها؟ قالت : جئت بها من بيت أبي عبد الملك ففتش عن تملكه إياها فقيل : إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أخذت من تركته ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعاً بإعطاء المال ثم توجه إلى الجارية وكان يهواها هوى شديداً فقال : أنت حرة لوجه الله فقيل : لِمَ يا أمير المؤمنين وقد أزحت عن أمرها كل شبهة قال : لست إذاً ممن نهى النفس عن الهوى.
ـ يحكى ـ أن الربيع ضربه الفالج فكان السائل يقوم على بابه فيسأل فيقول الربيع : أطعميه السكر فإن الربيع يحب السكر يتأول قوله {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وطال به وجعه فاشتهى لحم دجاج فكف نفسه أربعين يوماً فأبت فقال لزوجته : قد اشتهيت لحم دجاج منذ أربعين يوماً فكففت نفسي رجاء أن تكف فأبت فقالت امرأته سبحان الله وأي شيء هذا تكف نفسك عنه وقد أحله الله تعالى لك؟ فأرسلت امرأته إلى السوق فاشترت له دجاجة بدرهم ودانقين فذبحتها وشوتها وخبزت له خبزاً وجعلت له أصباغاً ثم جاءت بالخوان فوضعته بين يديه فقام سائل على الباب فقال تصدقوا علي بارك الله فيكم فكف عن الأكل وقال لامرأته خذي هذا وادفعيه إليه فقالت له امرأته سبحان الله قال : افعلي ما آمرك به قالت : فاصنع ما هو خير له قال : وما هو؟ قالت نعطيه ثمن هذا وتأكل أنت شهوتك قال : قد
63
أحسنت ائتني بثمنه فجاءت بثمنه فقال : ضعيه على هذا وخذيه وادفعيه جميعاً ففعلت.
بءحساني آسوده كردن دلى
به از الف ركعت بهر منزلي
وقيل في هذا المعنى :
دل بدست آوركه حج اكبر ست
از هزاران كعبه يك دل بهترست
(2/51)
كعبه بنياد خليل آزرست
دل نظر كاه جليل اكبرست
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
ويقال إذا كنت لاتصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البار وأنت تؤثر عليه حظوظك؟ قال القشيري : من أراد البر فلينفق بعض ما يحبه ومن أراد البار تعالى فلينفق جميع ما يحبه.
قال نجم الدين الكبري في قوله تعالى : {فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} فبقدر ما تكونون له يكون لكم كما قال : "من كانكان الله له فإن الفراش ما نال من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه".
قال القاشاني : كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبري مما سواه فمن أحب من دون الله شيئاً فقد حجب به عن الله وأشرك شركاً خفياً لتعلق محبته بغير الله :
تراهره مشغول دارد زدوست
اكر راست خواهي دلارامت اوست
فلا يزول البعد ولا يحصل القرب إلا ببذل المال والمهجة وقطع محبة غير الله وإفناء النفس بالكلية عن صفاتها الرذيلة :
اكر يارى از خويشتن دم مزن
كه شركست بايار وباخويشتن
{كُلُّ الطَّعَامِ} لما نزل قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء : 160) الآية وقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} (الأنعام : 146) إلى قوله : {ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِبَغْيِهِمْ} (الأنعام : 146) أنكر اليهود وغاظهم ذلك وبرأوا ساحتهم من الظلم وجحدوا ما نطق به القرآن وقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه تلك المطعومات وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده وهلم جرا حتى انتهى التحريم إلينا وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم فقيل : كل المطعومات أو كل أنواع الطعام والطعام المطلق البر والعرف يشهد لكل ما يطعم حتى الماء {كَانَ حِلا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي حلالاً لهم والمراد أكله إذ لا يوصف بنحو الحل والحرمة إلا أفعال المكلف لا الأعيان فشرب الخمر حرام بالذات ونفسها حرام بالعرض {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} استثناء متصل من اسم كان أي كان كل المطعومات حلالاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل أي يعقوب عليه السلام
64
على نفسه وهو الإبل وألبانها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
ـ روي ـ أن يعقوب عليه السلام كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال له : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولد لك وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجاً من ذلك الذبح ثم إن يعقوب عليه السلام لما قدم بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي قول الملك فأتاه الملك فقال : إنما غمزتك للمخرج وقد وفى نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك ثم إنه حين ابتلى بذلك المرض لقي من ذلك بلاء وشدة وكان لا ينام الليل من الوجع فحلف لئن شفاه الله لا يأكل أحب الطعام إليه فحرم لحوم الإبل وألبانها إما حمية الدين أو حمية النفس وتحريم الحلال على نفسه جائز للكل وفيه كفارة اليمين {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاـاةُ} متعلق بقوله كان حلا ولا ضير في توسيط الاستثناء بينهما لمعنى أن المطعومات كانت حلاً لهم قبل نزول التوراة ثم حرمت بسبب بغيهم وظلمهم فكيف يكون ذلك حراماً على نوح وإبراهيم وغيرهما.
وظاهر الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه قد حرمه الله على بني إسرائيل وهو رد على اليهود في دعواهم البراءة من الظلم وتبكيت لهم في منع النسخ والطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلّم موافقته لإبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاـاةِ فَاتْلُوهَآ} أمره عليه السلام بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بأن تحريم ما حرم تحريم حادث مرتب على ظلمهم وبغيهم ويكلفهم إخراجه وتلاوته ليبكتهم ويلقمهم الحجر ويظهر كذبهم {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} فائتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدقكم مما يدعوكم إلى ذلك البتة.
ـ روي ـ أنهم لم يجترئوا على إخراج التوراة فبهتوا وانقلبوا صاغرين وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبي صلى الله عليه وسلّم وجواز النسخ الذي يجحدونه ما لا يخفى.
(2/52)
{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي اختلق عليه سبحانه بزعمه أنه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن تقدمهم من الأمم {مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي من بعدما ذكر من أمرهم بإحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزام فأولئك المصرون على الافتراء بعد أن ظهرت حقيقة الحال وضاقت عليهم حيلة المحاجة والجدال {هُمُ الظَّـالِمُونَ} المفرطون في الظلم والعدوان المبعدون فيهما.
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} أي ظهر وثبت صدقه تعالى فيما أنزل في شان التحريم {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي ملة الإسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام فإنكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون {حَنِيفًا} حال من إبراهيم أي مائلاً عن الأديان الزائغة كلها {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً وفيه تعريض بإشراك اليهود وتصريح بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعاً والغرض بيان أن النبي عليه السلام على دين إبراهيم في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سواه سبحانه وتعالى.
قال نجم الدين في "التأويلات" الإشارة في تحقيق الآيات أن الله تعالى خلق الخلق على ثلاثة أصناف : صنف منها الملك الروحاني العلوي اللطيف النوراني وجعل غذاءهم من جنسهم الذكر وخلقهم للعبادة ، وصنف منها الحيوان الجسماني السفلي الكثيف الظلماني وجعل غداءهم من جنسهم الطعام وخلقهم للعبرة والخدمة ، وصنف منها الإنسان المركب من الملكي الروحاني والحيواني الجسماني وجعل غذاءهم من جنسهم لروحانيهم الذكر ولجسمانيهم الطعام وخلقهم للعبادة والمعرفة ، فمنهم ظالم لنفسه وهو الذي غلبت حيوانيته على روحانيته فبالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت حيوانيته أولئك كالأنعام بل هم أضل :
65
مرودري هره دل خواهدت
كه تمكين تن نورجان كاهوت
زدوران بين نامرادي بري
اكرهوه باشد مرادت خوري
كندمر درا نفس أماره خوار
الدهو شمندي عزيزش مدار
دريغ آدمي زادة ر محل
كمحه باشد وانعام بل هم أضل
ومنهم مقتصد وهو الذي تسادت روحانيته وحيوانيته ، نفذي كل واحدة منهما غذاءها ، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوت عليهم ، ومنهم سابق بالخيرات وهو الذي غلبت روحانيته على حيوانيته ، مبالغ في غذاء روحانيته وهو الذكر.
تصرفي غذاء روحانيته وهو الطعام حتى ماتت نفسه ، واستوت نوى روحه ، أولئك هم خير البرية ، فكان كل الطعام حلالاً لهم كما كان حلالاً للحيوان ، إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح (من قبل) أن ينزل عليه الوحي والإلهام ، كما قيل المجاهدات تورث الشاهدات (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك) بأن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس (فألئك هم الظالمون) الذين يضعون الشيء في غير موضعه ، وقد قال تعالى : (قل صدق الله) فيما قال : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً) وكان ملته انفاق المال على الضيفان ، بذل الروح عند الامتحان وتسليم القربان ، وهذه ملة الخلة (وما كان من المشركين) الذي يتخذون مع الله خليلاً آخر ويجعلون التركة في الخلة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
الرجز بحق مير ودجاده آت
در آتش فشانند سجاده ات
فالأولياء هم الذين يحبون الله ، ومن يحبه الله ، فإن محبة أهل الحق محبة الله وليس فيها شرك ، قال الفضيل بن عياض قدس سره : يقول الله تعالى يوم القيمة : يا ابن آدم أما زهدك في الدنيا فإنما طلبت الراحة لنفسك في الآخرة ، وأا انقطاعك إليَّ فإنما طلبت العز لنفسك ، لكن هل هاديت لي عدواً أو واليت لي ولياً في الله؟ فعلامة اتباع ملة إبراهيم هو الإطاعة للحق ، والتبري من كل دين سوى دين الإسلام ومحبة الأولياء ، وعداوته الأعداء ولو كان المرء آتياً بجميع الطاعات وليس في قلبه خلوص المحبة فإنما يضرب حديداً بارداً ، والله تعالى لا يحب القلب المشترك بمحبة غيره من شهوة أو غيرها ؛ قال محمد بن حسان ـ رحمه الله ـ : بينما أنا أدور في جبل لبنان إذ خرج علي شاب قد أحرقته السموم والرياح ، فلما رآني ولى هارباً ، فتبعته وقلت : عظني بكلمة أنتفع بها ، قال : أحذره تعالى فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبد سواه ؛ فعلى العاقل أن يجتهد في سلوك هذا الطريق إلى أن يصل إلى منزل التحقيق ، ومن الله التوفيق ، في كل أمر خفي وجلي ودقيق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
(2/53)
(إن أول بيت) البيت ما يبيت فيه أحد ثم استعمل في المكان مطلقاً (وضع للناس) ـ روي ـ أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته عليه السلام وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، ومهاجر الأنبياء وقبلتهم ، والأرض المقدسة التي بارك الله فيها للعالمين ، ففيها الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، فتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل فنزلت ، أي (إن أول بيت وضع) للعباد وجعل متعبداً لهم ، والواضع هو الله تعالى (للذي ببكة) خير لإن ، أي للبيت الذي في بكة ، وهو علم للبلد الحرام ، من بكة إذا زحمه الازدحام الناس فيه ، ولأنها تبك أعناق الجبابرة.
.
.
إلخ.
66
أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله عز وجل.
وما روي أن الحجاج حبس عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ في المسجد الحرام وضرب المنجنيق على أبي قبيس ورمي به داخل المسجد وقتل عبد الله فليس ذلك إضراراً بالبيت وقصداً بالسوء لأن مقصود الحجاج كان أخذ عبد الله.
ـ روي ـ أنه صلى الله عليه وسلّم سئل عن أول بيت وضع للناس فقال : "المسجد الحرام ثم بيت المقدس" وسئل كم بينهما فقال : "أربعون سنة".
ـ روي ـ أن الله وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور وأمر الملائكة أن يطوفوا به ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله فبنوا وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
جزء : 2 رقم الصفحة : 66
ـ وروي ـ أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بالفي عام فلما أهبط آدم إلى الأرض قالت له الملائكة طف حول هذا البيت فلقد طفنا حوله قبلك بألفي عام فطاف به آدم ومن بعده إلى زمن نوح عليه السلام فلما أراد الله الطوفان حمل إلى السماء الرابعة وهو البيت المعمور بحيال الكعبة يطوف به ملائكة السموات.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أول بيت بناه آدم في الأرض فنسبة بناء الكعبة إلى إبراهيم على هذه الروايات ليس لأنه عليه السلام بناها ابتداء بل لرفعه قواعدها وإظهاره ما درس منها فإن موضع الكعبة اندرس بعد الطوفان وبقي مختفياً إلى أن بعث الله جبريل إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت وأمره بعمارته ولما كان الآمر بالبناء هو الله والمبلغ والمهندس هو جبريل عليه السلام والباني هو الخليل والتلميذ المعين له إسماعيل عليهما السلام.
قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة {مُبَارَكًا} حال من المستكن في الظرف لأن التقدير للذي ببكة هو أي كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف به وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب {وَهُدًى لِّلْعَـالَمِينَ} لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأن فيه آيات عجيبة دالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته كما قال : {فِيهِ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ} واضحات كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ومخالطة ضواري السباع الطيور في الحرم من غير تعرض لها وقهر الله تعالى لكل جبار قصده بسوء كأصحاب الفيل {مَّقَامِ إِبْرَاهِامَ} إثر قدميه عليه السلام في الصخرة التي كان عليه السلام يقوم عليها وقت وقع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه أو عند غسل رأسه على ما روي أنه عليه السلام جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام إنزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شقي رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه وهو بدل من آيات بدل البعض من الكل {وَمَن دَخَلَهُ} أي حرم البيت {كَانَ ءَامِنًا} من التعرض له وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام {رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا} (إبراهيم : 35) وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله : من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج وهذا في حق من جنى في الحل ثم التجأ إلى الحرم وأما إذا أصاب الحد في الحرم فيقام عليه فيه فمن سرق فيه قطع ومن قتل فيه قتل قال تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 66
{وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه فَإِن قَـاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (البقرة : 191) أباح لهم القتل عند المسجد الحرام إذا قاتلونا فعلى ذلك يقام
67
(2/54)
الحد إذا أصاب وهو فيه وإذا أصاب في غيره ثم لجأ إليه لم يقم كما لا نقاتل إذا لم يقاتلونا أو المعنى ومن دخله كان آمناً من النار.
وفي الحديث "من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً" وعنه صلى الله عليه وسلّم "الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينشران في الجنة" وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ثنية الجحون وليس بها يومئذٍ مقبرة فقال : "يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر" وعنه صلى الله عليه وسلّم "من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام" {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وهم المؤمنون دون الكفار فإنهم غير مخاطبين بأداء الشرائع عندنا خلافاً للشافعي أي استقرعليهم {حَجَّ الْبَيْتَ} اللام للعهد والحج بالفتح لغة أهل الحجاز والكسر لغة نجد وأياماً كان فهو القصد للزيارة على الوجه المخصوص المعهود يعني أنه حق واجبفي ذمم الناس ولا انفكاك لهم عن أدائه والخروج من عهدته {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} في محل الجر على أنه بدل من الناس بدل البعض مخصص لعمومه فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف أي من استطاع منهم وقدر وأطاق إلى البيت سبيلاً أي قدر على الذهاب إليه وأراد به قدرة سلامة الآلات والأسباب فالزاد والراحلة من أسباب الوصول وهذه القدرة تتقدم على الفعل والاستطاعة التي هي شرط لوجود الفعل هي الاستطاعة بهذا المعنى لا الاستطاعة التي هي شرط حصول الفعل وهي لا تكون إلا مع الفعل لأنها علة وجود الفعل وسببه فلا تكون إلا معه فالاستطاعة الأولى شرط الوجوب والثانية شرط حصول الفعل {وَمَن كَفَرَ} وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً لتاركه أي من لم يحج مع القدرة عليه فقد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلاً فيها دخولاً أولياً اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من لم يحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" وإنما خص هذين لأن اليهود والنصارى هم الذين لا يرون الحج ولا فضل الكعبة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 66
واعلم أنه لا يؤثر الإكثار من التردد إلى تلك الآثار إلا حبيب مختار.
ـ روي ـ عن علي بن الموفق ـ رحمه الله ـ أنه حج ستين حجة قال : فلما كنت بعد ذلك في الحجر أفكر في حالي وكثرة تردادي إلى ذلك المكان ولا أدري هل قبل حجي أو لا نمت فرأيت قائلاً يقول : يا ابن الموفق هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب؟ فاستيقظت وقد سري عني ففيه إشارة إلى أن من لم يحج مع القدرة عليه فقد ترك عن الدعوة إلى ضيافة الله تعالى ولا يترك عنها إلا من لا استحقاق له بها.
وفيه تقبيح لحاله حيث لم يجتهد في تحصيل الاستعداد بل أقام على البغي والفساد واقتضت حكمة الله تعالى توقان النفس كل عام إلى تلك الأماكن النفيسة والمعاهد المقدسة والمحروسة لإجابة دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} (إبراهيم : 37) أي نحن قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيله ثم حج مبرور" قيل مغفرة الذنوب بالحج ودخول الجنة به مترتب على كون
68
الحج مبروراً.
وإنما يكون مبروراً باجتماع أمرين فيه : الأول الاتيان فيه بأعمال البر والبر هو الإحسان للناس وإطعام الطعام وإفشاء السلام ، والثاني ما يكمل به الحج وهو اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث والفسوق والمعاصي.
قال أبو جعفر الباقر : ما يعبأ من يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاث ورع يحجره أي يمنعه عن محارم الله وحلم يكف به غضبه وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاث يحتاج إليها من يسافر خصوصاً إلى الحج فمن كملها فقد كمل حجه فعلى السالك أن يخالق الناس بخلق حسن :
ازمن بكوى حاجىء مردم كزايرا
كاووستين خلق بازار مي درد
حاجى تونيستي شترست ازبراي آنك
بياره خار ميخورد وبارميبرد
قال بعض المشايخ علامة الحج المبرور أن يرجع زاهداً في الدنيا في الآخرة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 66
(2/55)
قال نجم الدين الكبرى في "تأويلاته" : والإشارة أن الله تعالى جعل البيت والحج إليه وأركان الحج والمناسك كلها إشارات إلى أركان السلوك وشرائط السير إلى الله وآدابه.
فمن أركانه الإحرام وهو إشارة إلى الخروج عن الرسوم وترك المألوف والتجرد عن الدنيا وما فيها والتطهر من الأخلاق وعقد إحرام العبودية بصحة التوجه.
ومنها الوقوف بعرفه وهو إشارة إلى الوقوف بعرفات المعرفة والعكوف على عقبة جبل الرحمة بصدق الإلتجاء وحسن العهد والوفا.
ومنها الطواف وهو إشارة إلى الخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالأطواف السبعة حول كعبة الربوبية.
ومنها السعي وهو إشارة إلى السير بين صفا الصفات ومروة الذات.
ومنها الحلق وهو إشارة إلى محو آثار العبودية بموسى أنوار الإلهية وعلى هذا فقس المناسك كلها.
والحج يشير إلى عين الطلب والقصد إلى الله بخلاف سائر أركان الإسلام فإن كل ركن منه يشير إلى طرف من استعداد الطلب فالله تعالى خاطب العباد بقوله : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وما قال في شيء آخر من الأركان والواجبات ولله على الناس وفائدته أن المقصود المشار إليه من الحج هو الله وفي سائر العبادات المقصود هو النجاة والدرجات والقربات والمقامات والكرامات ، والاستطاعة في قوله {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} هي جذبة الحق التي توازي عمل الثقلين ولا يمكن السير إلى الله والوصول إليه إلا بها {وَمَن كَفَرَ} أي لا يؤمن بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الطاف الرب لا يتقرب بجذبات الألوهية كما يشير إليها أركان الحج {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} بأن يستكمل بهم وإنما الاستكمال للعالمين به ولا غنى به عنه تعالى جعلنا الله وإياكم من الكاملين والواصلين إلى كعبة اليقين والتمكين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 66
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَـابِ} هم اليهود والنصارى سموا بذلك فإن الكتاب لا يختص بالمنزل فنسبوا إلى ما كتبوا سواء كان من إلقاء الروح الأمين أو تلقاء النفس {لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ} توبيخ وإنكار لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب وتحقيق لما يوجب الاجتناب عنه بالكلية والمراد بآياته تعالى ما يعم الآيات القرآنية التي من جملتها ما تلي في شأن الحج وغيره وما في التوراة والإنجيل من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلّم {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} حال من فاعل تكفرون والمعنى لأي سبب تكفرون بآياته عز وجل والحال أنه تعالى مبالغ في الاطلاع على جميع أعمالكم وفي مجازاتكم عليها ولا ريب في أن ذلك يسد
69
جميع أنحاء ما تأتونه ويقطع أسبابه بالكلية
جزء : 2 رقم الصفحة : 69
{قُلْ يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَصُدُّونَ} أي تصرفون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو التوحيد وملة الإسلام {مَنْ ءَامَنَ} مفعول تصدون كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ويقولون إن صفته صلى الله عليه وسلّم ليست في كتابهم ولا تقدمت البشارة به عندهم {تَبْغُونَهَا} بحذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير أي تبغون لها لأن البغي لا يتعدى إلا إلى مفعول يقال بغيت المال والضمير للسبيل وهو يذكر ويؤنث أي تطلبون سبيل الله التي هي أقوم السبل {عِوَجَا} اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بأن تلبسوا على الناس حتى توهموهم أن فيها عوجاً بقولكم إن شريعة موسى لا تنسخ وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصدون.
والعوج بكسر العين وفتحها الميل والانحراف لكن المكسور يختص بالمعاني والمفتوح بالأعيان تقول في دينه وكلامه عوج بالكسر وفي الجدار والقناة والشجر عوج بالفتح {وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ} حال من فاعل تصدون باعتبار تقيده بالحال الأولى أو والحال أنكم شهداء تشهدون بأنها سبيل الله لا يحوم حولها شائبة إعوجاج وأن الصد عنها إخلال {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي من الصد عن سبيله وكتمان الشهادة لنبيه ، ولما وبخ أهل الكتاب بصد المؤمنين نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا} طائفة وإنما خص فريقاً لأن منهم من آمن {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ كَـافِرِينَ} قوله كافرين مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير.
قال عكرمة نزلت في شاس بن قيس اليهودي رأى منتدى محتوياً على زخام من أوس وخزرج فغاظه الفتهم فأرسل شاباً ينشدهم أشعار يوم بغاث وكان ذلك يوماً اقتتل فيه الحيان المذكوران وكان الظفر فيه للأوس فنعر عرق الداء الدفين فتشاجروا فأخبر النبي عليه السلام فخرج يصلح ذات بينهم.
(2/56)
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} إنكار وتعجب {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي القرآن {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن القرآن المعجز يتلى عليكم على لسان الرسول غضاً طرياً وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم فالعدول عن الإيمان والدخول في الكفر مع تحقق هذه الأمور أبعد وأعجب {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} أي ومن يتمسك بدينه الحق الذي بينه بآياته على لسان رسوله عليه السلام وهو الإسلام والتوحيد المعبر عنه فيما سبق بسبيل الله {فَقَدْ هُدِىَ} جواب الشرط.
وقد لافادة معنى التحقق كأن الهدي حصل فهو يخبر عنه حاصلاً ومعنى التوقع فيه ظاهر فإن المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للندا أي وفق وأرشد {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى المطلوب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 69
واعلم أن ظاهر الخطاب مع أهل الكتاب وباطنه مع العلماء السوء الذين يبيعون الدين بالدنيا ولا يعملون بما يعلمون فهم الذين يكفرون بما جاء به القرآن من الزهد في الدنيا والورع والتقوي ونهى النفس عن الهوى وإيثار ما يفنى على ما يبقى والإعراض عن الخلق والتوجه إلى الحق وبذل الوجود لنيل المقصود والله شهيد على ما تعملون حاضر معهم ناظر
70
إلى نياتهم في أعمال الخير والشر فيجازيهم بها وهم يصرفون بحرصهم على الدنيا واتباعهم الهوى المؤمنين الذين يتبعونهم بحسن الظن ويحسبون أن أعمالهم وأحوالهم على قاعدة الشريعة ومنهاج الطريقة عن سبيل الله وطريق الحق الذي أمر الأنبياء بدعوة الخلق إليه وهم يطلبون اعوجاج طريق الحق بالسير في طريق الباطل وقد وصى الله المؤمنين بقوله : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية حتى لا يرتدوا عن طريق الهداية بعد الإيمان بالاتباع بسيرتهم وهو أهم قال تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} (المائدة : 77) قال بعض المشايخ خير العلم ما كانت الخشية معه وذلك لأن الخشية إنما تنشأ عن العلم بصفات الحق فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله الخشية وشاهد الخشية موافقة الأمر.
وأما العلم الذي تكون معه الرغبة في الدنيا والتملق لأربابها وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع والادخار والمباهاة والاستكثار وطول الأمل ونسيان الآخرة فما أبعد من هذا علمه من أن يكون من ورثة الأنبياء وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث وما مثل من هذه الأوصاف أوصافه من العلماء إلا كمثل الشمعة تضيء على غيرها وهي تحرق نفسها :
ترك دنيا بمردم آموزند
خويشتن سيم وغله اندوزند
عالمي راكه كفت باشد وبس
ون بكويد نكيرد اندركس
عالم آنكس بود كه بد نكند
نه بكويد بخلق وخود نكند
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه قلوبهم خربة من الهدى ومساجدهم عامرة بأبدانهم شر من تظل السماء يومئذٍ علماؤهم منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود".
وعن فضيل بن عياض بلغنا أن الفسقة من العلماء ومن حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان.
فعلى العاقل أن لا يغتر بظاهر حالهم بل ينظر إلى وهن اعتقادهم وفساد بالهم فيعتبر كل الاعتبار ويتجنب من هذه سيرتهم ويسلك طريق الأخيار ويعتصم بالله بالانقطاع عما سواه ويتمسك بالتوحيد الحقيقي حتى يهتدي إلى الصراط المستقيم فمن انقطع إليه بالفناء في الوحدة كان صراطه صراط الله فلا يصده عنه أحد ولا يضره شيء ولا يضله كيد عدوه وشره فإن من كان مع الله كان الله معه فهو حافظه وناصره وهذا الاستمساك ليس من شأن كل السلاك لكن الله تعالى قادر على أن يأخذ بيد عبده ويوصله إلى مراده وإذا صح الطلب من العبد فلا يحرم الإجابة البتة فإن من طلب وجدّ وجد ومن قرع باباً ولج ولج عصمنا الله وإياكم من كيد الشيطان ومكر النفس الأمارة بالسوء كل آن آمين يا مستعان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 69
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} الاتقاء افتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم ونحوها فاتقوا الله ما استطعتم يريد بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاً {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي مخلصون نفوسكمعز وجل لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلاً وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي
71
(2/57)
لا تموتن على حال من الأحوال إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه فهو في الصورة نهي عن موتهم على غير هذه الحالة والمراد دوامهم على الإسلام {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} أي بدين الإسلام أو بكتابه فلفظ الحبل مستعار لأحد هذين المعنيين فإن كل واحد منهما يشبه الحبل في كونه سبباً للنجاة من الردى والوصول إلى المطلوب فإن من سلك طريقاً صعباً يخاف أن تزلق رجله فيه فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف كذلك طريق السعادة الأبدية ومرضاة الرب طريق زلق ودواعي الضلال عنها متكثرة زلق رجل أكثر الخلق فيها.
فمن اعتصم بالقرآن العظيم وبقوانين الشرع القويم وبينات الرب الكريم فقد هدي إلى صراط مستقيم وآمن من الغواية المؤدية إلى نار الجحيم كما يأمن المتمسك بالحبل من العذاب الأليم {جَمِيعًا} حال من فاعل اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام {وَلا تَفَرَّقُوا}
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} متعلق بنعمة {إِذْ كُنتُمْ} ظرف له أي اذكروا إنعامه عليكم وقت كونكم {أَعْدَآءِ} في الجاهلية بينكم الاحن والعداوة والحروب المتواصلة.
وقيل : هم الأوس والخزرج كانوا أخوين لأب وأم فوقعت بين أولادهما العداوة والبغضاء وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بتوفيقكم للإسلام {فَأَصْبَحْتُم} أي فصرتم {بِنِعْمَتِهِ} التي هي ذلك التألف {إِخْوَانًا} خبر أصبحتم أي إخواناً متحابين مجتمعين على الإخوة في الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحق {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} شفا الحفرة وشفتها حرفها وجانبها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها تمثيل لحياتهم التي تتوقع بعد الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشرفين على الوقوع فيها {فَأَنقَذَكُم} أي خلصكم ونجاكم بأن هداكم للإسلام {مِنْهَآ} أي الحفرة {كَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي مثل ذلك التبيين الواضح {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ} أي دلائله {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} طلباً لثباتكم على الهدى وازديادكم فيه.
والإشارة أن أهل الاعتصام طائفتان : أحدهما أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب لأن مشربهم الأعمال ، والثانية أهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب لأن مشربهم الأحوال فقال تعالى لهم : {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} هو مولاكم أي مقصودكم.
وقال للمتعلقين بالأسباب {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} وهو كل سبب يتوسل به إلى الله فالمعتصم بحبل الله هو المتقرب إلى الله بأعمال البر ووسائط القربة وإذا وجد الاعتصام وجد عدم التفرق بخلاف عدم الاعتصام فإنه سبب للتفرق في الظاهر والباطن.
فأما في الظاهر فيلزم منه مفارقة الجماعة فاقتلوه كائناً من كان.
وأما في الباطن فيظهر منه الأهواء المختلفة التي توجب تفرق الأمة كما قال عليه السلام : "ستفترق أمتي اثنتين وسبعين فرقة الناجية منهم واحدة" قالوا : يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال : "من كانوا على ما أنا عليه وأصحابي".
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
واعلم أنه تعالى أمر المؤمنين أولاً بالتقوى وثانياً بالاعتصام وثالثاً بتذكر النعمة لأن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللاً إما بالرهبة وإما بالرغبة والرهبة متقدمة على الرغبة لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع كما أن التخلية قبل التحلية فقوله :
72
{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إشارة إلى التخفيف من عقاب الله ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله ثم أردفه بالرغبة وهي قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فعلى العاقل الإنقياد لأمر الله والطاعة لحكمه والاعتصام بحبله وعدم التفرق في الدين والتقوى حق التقى من الله سبحانه قيل ونعم ما قيل :
متقى را بود هار نشان
حفظ أحكام شرع أول دان
ثانياً انه دست رس باشد
بر فقيران وبيكسان بخشد
عهدرا با وفا كند يوند
هره باشد ازان شودخر سند
وهذا معنى قول الشيخ النصر آبادي : علامة المتقى أربعة : حفظ الحدود ، وبذل المجهول ، والوفاء بالعهود ، والقناعة بالموجود.
قال القشيري ـ رحمه الله ـ : حق التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قبل نفسه ولا ينقص.
وحق التقوى أولاً اجتناب الزلة ، ثم اجتناب الفضلة ، ثم التوقي عن كل خلة ، ثم التنقي عن كل علة فإذا اتقيت عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتقيت حق تقواك انتهى ، فمن بقي فيه شيء من أثر الوجود فقد أشرك شركاً خفياً ولم يصل إلى حقيقة الشهود :
حضوري كر همى خواهي ازو غائب مشو حافظ
متى ما تلق من تهوى دع الدنيا وأهملها
(2/58)
قال أبو مدين ـ رحمه الله ـ : شتان بين من همته الحور والقصور ومن همته رفع الستور ودوام الحضور فطوبى لمن سار إليه بالجذبات الإلهية على قدم التحقيق وطار بتجلي الصفات الربانية وجناح التوفيق.
قال سهل رضي الله عنه : ليس للعبد إلا مولاه وأحسن أحواله أن يرجع إلى مولاه إذا عصى قال : يا رب استر علي فإذا ستر عليه قال : يا رب تب علي فإذا تاب عليه قال : يا رب وفقني حتى أعمل فإذا عمل قال : يا رب وفقني حتى أخلص فإذا أخلص قال : يا رب تقبل مني.
فعلى العاقل أن يتمسك بهذا الحبل المتين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ} أي لتوجد منكم {أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} جماعة داعية إلى الخير أي إلى ما فيه صلاح ديني ودنيوي فالدعاء إلى الخير عام في التكليف من الأفعال والتروك ثم عطف عليه الخاص إيذاناً بفضله فقال : {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو ما استحسنه الشرع والعقل وهو الموافقة {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو ما استقبحه الشرع والعقل وهو المخالفة {وَأُوالَـائِكَ} الموصوفون بتلك الصفات الكاملة والأفراد في كاف الخطاب لأن المخاطب كل من يصلح للخطاب {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الاخصاء بكمال الفلاح.
وهم ضمير فصل يفيد اختصاص المسند بالمسند إليه ثم إن من في قوله منكم للتبعيض وتوجيه الخطاب إلى الكل مع اسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وأنها واجبة على الكل لكن بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين ولو أخل بها الكل أثموا جميعاً لا بحيث يتحتم على الكل إقامتها ولأنها من عظائم الأمور وعزائمها التي لا يتولاها إلا العلماء بأحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً أو على من الإنكار عليه عبث كالإنكار على أصحاب المآصر والجلادين وأضرابهم.
وقيل : من للتبيين وكان ناقصة أي كونوا أمة يدعون الآية ولا يقتضى ذلك كون الدعوة
73
فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطاب للعامة ، عن النبي عليه السلام أنه سئل وهو على المنبر من خير الناس؟ قال : "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهموأوصلهم للرحم"؟ وقال عليه السلام : "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه"؟ ، وعن حذيفة يأتي على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وعن سفيان الثوري إذا كان الرجل محباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك؟ قال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم" قال صلى الله عليه وسلّم "إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يحشر يوم القيامة ناس من أمتي من قبورهم إلى الله على صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون" فلا بد من توطين النفس على الصبر وتقليل العلائق وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفاً عملهم عمل الأنبياء عليهم السلام" قالوا : يا رسول الله كيف؟ قال : "لم يكونوا يغضبونولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر" ثم الأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجباً فواجب وإن كان ندباً فندب.
وأما النهي عن المنكر فواجب كله لأن جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح وطريق الوجوب السمع والعقل وعند البعض السمع وحده وشرط النهي بعد معرفة المنهي عنه أن لا يكون ما ينهى عنه واقعاً لأن الواقع لا يحسن النهي عنه وإنما يحسن الذم عليه والنهي عن المعاودة إلى مثله أن يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بأعداد آلاته وأن لا يغلب على ظنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة.
فإن قلت : كيف يباشر الإنكار؟ قلت : يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب لأن الغرض كف المنكر قال تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
(2/59)
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ثم قال : {فَقَـاتِلُوا} (الحجرات : 9) والمباشر كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركاً للصلاة وجب عليه الإنكار لأنه معلوم قبحه لكل أحد.
وأما الإنكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها.
فإن قلت : فمن يؤمر وينهى؟ قلت : كل مكلف وغير المكلف إذا هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها كما يؤمرون بالصلاة ليمر نواً عليها والعاصي يجب عليه النهي عما ارتكبه إذ يجب عليه تركه والإنكار لا يجب فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شيء منهما قال النبي عليه السلام : "إن الله ليؤيد هذا الدين بأهل الفسوق" والتوبيخ في قوله تعالى : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} (البقرة : 44) إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر ، وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا ، وعن بعض الصحابة أن الرجل إذا لم يستطع الإنكار على منكر رآه فليقل ثلاث مرات اللهم إن هذا منكر وإذا فعل ذلك فقد فعل ما عليه :
كرت نهى منكر بر آيد زدست
نشايد وبى دست وايان نشست
74
ودست وزبانرا نماند مجال
بهمت نمايند مردى رجال
يعني إذا لم يستطع أن يغير المنكر بلسانه ويده فلينكره بقلبه فإن الرجال يرون الرجولية بالهمة ويتضرعون إلى الله في دفع ما لا يقدرون على دفعه.
والإشارة في الآية أن الأمة التي يدعون إلى الخير بالأفعال دون الأقوال هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه والذي يدل عليه ما روى أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : سمعته يقول : "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتزلق أقتابه في النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه" والداعي إلى الخير في الحقيقة شيوخ الطريقة فإن من لم يعرف الله لم يعرف الخير إذ الخير المطلق هو الكمال المطلق الذي يكون للإنسان بحسب النوع من معرفة الحق والوصول إليه كما كان للنبي عليه السلام والإضافي ما يتوصل به إلى المطلق فالخير المدعو إليه إما الحق وإما طريق الوصول إليه والمعروف كل ما يقرب إليه والمنكر كل ما يبعد عنه فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة لم يكن له مقام الدعوة فغير المستقيم وإن كان موحداً ربما أمر بما هو معروف عنده منكر في نفس الأمر وربما نهى عما هو منكر عنده معروف في نفس الأمر كمن بلغ في مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق فكثيراً ما يستحل محرماً ويحرم حلالاً فهم أهل الحجاب وأهل الفلاح المطلق هم الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله في أرضه أوصلنا الله وإياكم إلى معرفة حقيقة الحال وشرفنا بالوصول إلى جنابه المتعال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} هم أهل الكتابين حيث تفرقت اليهود والنصارى فرقاً {وَاخْتَلَفُوا} باستخراج التأليفات الزائغة وكتم الآيات الناطقة وتحريفها بما أخلدوا إليه من حطام الدنيا الدنية.
قال الإمام : تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل.
وأقول : إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة انتهى {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة {وَأُوالَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة بسبب تفرقهم فإنه يدوم ولا ينقطع ولما أمر الله هذه الأمة بأن يكونوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وذلك لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغلبين ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين فلا جرم حذرهم الله عن التفرقة والاختلاف لكيلا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف.
فعلى المؤمنين أن لا يكونوا ناشيئن بمقتضى طباعهم غير متابعين لإمام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعهم على طريقة واحدة فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته وتتفق كلمتهم في الآخرة على محسوس أوضح من ظهوره في الدنيا ممن دعا إلى الله على بصيرة كالرسول واتباعه الذين ألحقهم الله بدرجات الدنيا في الدعاء إليه على بصيرة كلماتهم وعاداتهم وأهوائهم لمحبته وطاعته كانوا مهملين متفرقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب ولهذا قال أمير المؤمنين
75
جزء : 2 رقم الصفحة : 75
(2/60)
علي رضي الله عنه : لا بد للناس من إمام بار أو فاجر ولم يرسل نبي الله رجلين فصاعداً لشأن إلا وأمر أحدهما على الآخر وأمر الآخر بمتابعته وطاعته ليتحد الأمر وينتظم وإلا وقع الهرج والمرج واضطرب أمر الدين والدنيا واختل نظام المعاش والمعاد قال عليه السلام : "من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة" وقال : "يد الله مع الجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الإثنين أبعد" ألا يرى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برياسة القلب وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت إلى الفساد والتفرق الموجب لخسار الدنيا والآخرة ولما نزل قوله تعالى : {وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام : 153) خط رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطاً فقال : "هذا سبيل الرشاد" ثم خط عن يمينه وشماله خطوطاً فقال : "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" فعلى العاقل أن يسلك إلى صراط التوحيد ولوازمه وحقوقه ويجتنب عن سبل الشيطان وأسباب الدخول فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أمرت أن أقاتل الناس" إلى أن قال : "وحسابهم على الله" أراد بقوله وحسابهم على الله أنه لا يعلم أنهم قالوها معتقدين لها فالمشرك لا قدم له على صراط التوحيد وله قدم على صراط الوجود والمعطل لا قدم له على صراط الوجود فالمشرك ما وحد الله هنا فهو من الموقف إلى النار مع المعطلة ومن هو من أهل النار إلا المنافقين فلا بد لهم أن ينظروا إلى الجنة وما فيها من النعيم فيطمعون فذلك نصيبهم من الجنان ثم يصرفون إلى النار وهذا من عدل الله فقوبلوا بأعمالهم فالشرع هنا هو الصراط المستقيم ولا نزال في كل ركعة من الصلاة نقول : اهدنا الصراط المستقيم فهو أحدّ من السيف وأدق من الشعر وظهوره على علم وكشف
قال علي كرم الله وجهه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً فمن تمسك بالشرع المتين والقرآن المبين واهتدى إلى هذا الصراط المستقيم وتخلص من التفرق الموجب للعذاب الأليم فليس عليه حساب ولا صراط في الآخرة بل هو مع الأنبياء والأولياء في النعيم المقيم ومن زلت قدمه عن الشرع في الدنيا بارتكاب المحظورات زلت في الآخرة أيضاً إذ من كان في الدنيا أعمى محجوباً غير واصل كان في الآخرة أيضاً كذلك والعياذ بالله قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الزالون على الصراط كثير وأكثر من يزل عنه النساء" وقال : "رأيت النار وأكثر أهلها النساء فإنهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير فلو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم إذا رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط" فانظر كيف زلت أقدامهن عن الصراط في الآخرة وما ذلك إلا لكونها زالة عن صراط الشرع في الدنيا بالاعتقاد والأعمال ، ونعم ما قال الجامي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 75
عقل زن ناقص است ودينش نيز
هر كزش كامل اعتقاد مكن
كر بدست ازوى اعتبار مكير
ورنكو بروى اعتماد مكن
فإذا وقفت على هذا التفصيل فاجتهد أيها العبد الذليل في طريق المتابعة والموافقة للأنبياء والكاملين وتمسك بذيل شيخ واصل إلى اليقين لعله يجمع بإذن الله شملك بعدما تبدد وصلك وتفرق حالك فإن الطريق المجهول لا بد له من مرشد وإلا فالهلاك عصمنا الله وإياكم من الخلاف والاختلاف وأسلكنا طريق الأخيار من الأسلاف وثبتنا فيه إلى آخر الأجال وحشرنا بأهل
76
الفضل والكمال.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} أي اذكروا أيها المؤمنون يوم تبيض وجوه كثيرة وتسود وجوه كثيرة.
وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكمون الخوف فيه يقال لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه أي استبشر ولمن وصل إليه مكروه أغبر لونه وتبدلت صورته.
فمعنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات استبشر بنعم الله وفضله وإذا رأى الكافر أعماله القبيحة اشتد حزنه وغمه.
وقيل : بياض الوجه وسواده حقيقتان فيوسم أهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه ويمينه وأهل الباطل بأضداد ذلك والحكمة في ظهورهما في الوجوه حقيقة أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة قال تعالى مخبراً عنه : يا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس : 26) والشقي يغتم بعكس ذلك.
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم : {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} الهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم والظاهر أنهم أهل الكتابين وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد إيمانهم به قبل مبعثه عليه السلام أو جميع الكفرة حيث كفروا بعدما أقروا بالتوحيد يوم الميثاق {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} المعهود الموصوف بالعظم {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بالقرآن ومحمد عليه السلام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 75
(2/61)
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ} أي الجنة والنعيم المقيم المخلد عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} كأنه قيل : كيف يكونون فيها فقيل : هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون {تِلْكَ} إشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار وهو مبتدأ {اللَّهِ إِلا} خبره {نَتْلُوهَا} جملة حالية من الآيات {عَلَيْكَ} أي نقرأها عليك يا محمد بواسطة جبريل {بِالْحَقِّ} حال مؤكدة من فاعل نتلوها أو من مفعوله أي ملتبسين أو ملتبسة بالحق والعدل ليس في حكمها شائبة جور بنقص ثواب المحسن أو بزيادة عقاب المسيء أو بالعقاب من غير جرم بل كل ذلك موفى لهم حسب استحقاقهم بأعمالهم بموجب الوعد والوعيد {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا} أي شيئاً من الظلم {لِّلْعَـالَمِينَ} لأحد من خلقه كيف والظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه أو أنه وضع الشيء في غير موضعه وذلك قد يكون بمنع حق المستحق منه وقد يكون بفعل ما منع منه ولا ينبغي له أن يفعله وكل ذلك لا يتصور في حقه تعالى فيستحيل تصور الظلم من الله فإنه لا حق لأحد فيظلم بمنعه ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله بل هو المالك على الإطلاق وأفعاله محض حكمة وعدل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 75
{وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} أي له تعالى وحده من غير شركة أصلاً ما فيهما من المخلوقات الفائتة للحصر ملكاً وخلقاً إحياء واماتة إثابة وتعذيباً وإيراد كلمة ما إما لتغليب غير العقلاء على العقلاء وإما لتنزيلهم منزلة غيرهم إظهاراً لحقارتهم في مقام بيان عظمته تعالى {وَإِلَى اللَّهِ} أي إلى حكمه وقضائه لا إلى غيره شركة واستقلالاً {تُرْجَعُ الامُورُ} أي أمورهم فيجازي كلاً منهم بما وعد له وأوعده من غير دخل في ذلك لأحد قط.
فإن قيل : الرجوع إليه يكون بعد الذهاب عنه ولم يكن فلم قال ذلك؟ قلنا : كانت كالذاهبة بهلاكها ثم إعادتها لأن في الدنيا يملك بعض الخلق بالتدبير
77
وفي القيامة يكون كل ذلكتعالى.
والإشارة أن الذين تبيض وجوههم يوم القيامة هم الذين ابيضت قلوبهم اليوم بنور الإيمان والجمعية والوفاق مع الله والذين تسود وجوههم يومئذٍ هم الذين اسودت قلوبهم بالكفر والتفرق والاختلاف من الله وذلك لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} (الطارق : 9) أي يجعل ما في الضمائر على الظواهر :
زر اندود كانرا بآتش برند
بديد آيد آنكه كه مس يازرند
جزء : 2 رقم الصفحة : 77
(2/62)
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم : {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} وهم أرباب الطلب السائرون إلى الله الذين انقطعوا في بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على أعقابهم القهقرى {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} تسترون الحق بالباطل وتعرضون عن الحق في طلب الباطل وكنتم معذبين بنار الهجران والقطيعة في الدنيا ولكن ما كنتم تذوقون عذابها لأن الناس نيام والنائم لا يذوق ألم الجراحات حتى ينتبه فإذا ماتوا انتبهوا فيذوقوا ألم جراحات الانقطاع والإعراض عن الله {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى} ـهم {فِى رَحْمَةٍ} الجمعية والوفاق مع {اللَّهِ} في الدنيا و{هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} في الآخرة لأنه يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يبعث كل عبد على ما مات عليه" وقال : "من مات سكران فإنه يعاين ملك الموت سكران ويعاين منكر ونكير سكران ويبعث يوم القيامة سكران إلى خندق في وسط جهنم يسمى السكران فيه عين يجري ماؤها دماً لا يكون له طعام ولا شراب إلا منه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أخبرني جبريل عليه السلام أن لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته وفي قبره وحين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم وينفضون عن رؤوسهم التراب هذا يقول لا إله إلا الله والحمدفيبيض وجهه وهذا ينادي يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله مسودة وجوههم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "النياحة على الميت من أمر الجاهلية وأن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار" وفي التنزيل {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ} (البقرة : 275) قال أهل التأويل : كلهم يبعث كالمجنون عقوبة لهم وتمقيتاً عند أهل الحشر فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون لعظم بطونهم وثقلها عليهم نسأل الله الستر في الدنيا والآخرة وهو الموفق للصالحات من الأعمال والأفعال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 77
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كنتم من كان الناقصة التي تدل على تحقق شيء بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق ويحمل على الدوام أو الانقطاع بحسب معونة المقام ودلالة القرائن فقولك : كان زيد قائماً محمول على الانقطاع وقوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب : 50) محمول على الدوام ومنه قوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} صفة لأمة أظهرت لأجلهم ومصلحتهم ونفعهم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} جملة مستأنفة بين بها كونهم خير أمة كأنه قيل : السبب في كونهم خير الأمم هذه الخصال الحميدة والمقصود بيان علة تلك الخيرية كقولك زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم لأن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يشعر بالعلية {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول
78
(2/63)
وكتاب وحساب وجزاء {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَـابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} أي لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباع العوام ولازدادت رياستهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} كأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر فقيل : منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد الله بن سلام وأصحابه {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَـاسِقُونَ} المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} استثناء مفرغ من المصدر العام أي لن يضروكم أبداً ضرراً ما إلا ضرر أذى لا يبالي به من طعن وتهديد لا أثر له {وَإِن يُقَـاتِلُوكُمْ} أي إن خرجوا إلى قتالكم {يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ} مفعول ثان لولوكم أي يجعلوا ظهورهم ما يليكم ويرجعوا إلى أدبارهم منهزمين من غير أن ينالوا منكم شيئاً من قتل أو أسر {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} عطف على الشرطية وثم للتراخي في المرتبة أي لا ينصرون من جهة أحد ولا يمنعون منكم قتلاً وأخذاً وفيه تثبيت لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم وبشارة لهم بأنهم لا يقدرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرب يعبأ به مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأن عاقبة أمرهم الخذلان والذل فلا ينهضون بجناح ولا ترجع إليهم قوة ونجاح كما كان من حال بني قريظة والنضير وقينقاع ويهود خيبر {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} أي في أي مكان وأي زمان وجدوا في دار الإسلام الزموا الذل أي هدر النفس والمال والأهل بحيث صار كشيء يضرب على الشيء فيحيط به {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} استثناء من أعم الأحوال أي ضربت عليهم الذلة ضرب القبة على من هي عليه في جميع الأحوال إلا حال كونهم معتصمين بذمة الله وذمة المسلمين واستعير الحبل للعهد لأنه سبب للنجاة والفوز بالمراد.
وعطف قوله {وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} على قوله : {بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ} يقتضي المغايرة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 77
قال الإمام في وجهه الأمان الحاصل للذمي قسمان : أحدهما الذي نص الله عليه وهو الأمان الحاصل له بإعطاء الجزية عن يد وقبوله إياها ، والثاني الأمان الذي فوض إلى رأي الإمام واجتهاده فيعطيهم الأمان مجاناً تارة وببدل زائد أو ناقص أخرى على حسب اجتهاده فالأول هو المسمى بحبل الله والثاني هو المسمى بحبل المؤمنين فالأمانان واقعان بمباشرة المسلمين إلا أنهما متغايران بالاعتبار {وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} أي رجعوا بغضب كائن منه تعالى مستوجبين له {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} أي زي الافتقار فهي محيطة بهم من جميع جوانبهم واليهود في غالب الأمر فقراء إما في نفس الأمر وإما أنهم يظهرون من أنفسهم الفقر وإن كانوا أغنياء موسرين في الواقع {ذَالِكَ} إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بالغضب العظيم {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ} أي ذلك الذي ذكر كائن بسبب كفرهم المستمر بآيات الله الناطقة بنبوة محمد عليه السلام وتحريفهم لها ولسائر الآيات القرآنية {وَيَقْتُلُونَ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي في اعتقادهم أيضاً وهؤلاء المتأخرون وإن لم يصدر عنهم قتل الأنبياء لكنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم مصوبين لهم في تلك الأفعال القبيحة وطالبين للقتل لو ظفروا به فكانوا بذلك كأنهم فعلوه بأنفسهم فلذا أسند القتل إليهم {ذَالِكَ}
79
(2/64)
إشارة إلى ما ذكر من الكفر والقتل {بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي كان بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى على الاستمرار فإن الإصرار على الصغائر يفضي إلى مباشرة الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر فإن من توغل في المعاصي والذنوب واستمر عليها لا جرم تتزايد ظلمات المعاصي على قلبه حالاً فحالاً ويضعف نور الإيمان في قلبه حالاً فحال ولم يزل الأمر كذلك إلى أن يبطل نور الإيمان وتحصل ظلمة الكفر نعوذ بالله من ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين : 14) فقوله تعالى : {ذَالِكَ بِمَا عَصَوا} إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات : من ابتلي بترك الأدب وقع في ترك السنن ومن ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفريضة ومن ابتلى بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ومن ابتلى بذلك وقع في الكفر.
فعلى المؤمن أن لا يفتح باب المعصية على نفسه خوفاً مما يؤدي إليه بل ويترك أيضاً بعض ما أبيح له في الشرع وذلك هو كمال التقوى قال عليه السلام : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس" وقال صلى الله عليه وسلّم "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه" الحديث فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة والعارف متى قصد مخالفة أمره تعالى يجد من قلبه استحياء منه تعالى فينتهي عما نوى وعزم ويجتهد في عبادة ربه.
قال الجنيد رحمه الله العبادة على رؤوس العارفين كالتيجان على رؤوس الملوك ورؤي في يده سبحة فقيل له : أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة فقال طريق وصلنا به إلى ما وصلنا لا نتركه أبداً.
قال الشيخ أبو طالب رحمه الله : مداومة الأوراد من أخلاق المؤمنين وطريق العابدين وهي مزيد الإيمان وعلامة الإيقان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 77
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله : سألت أستاذي عن ورد المحققين فقال : إسقاط الهوى ومحبة المولى أبت المحبة أن تستعمل محباً لغير محبوبه وقال الورد ردّ النفس بالحق عن الباطل في عموم الأوقات فليواظب العبد على الأوراد والطاعات وليجانب المعاصي والسيآت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات يوم لأصحابه : "استحيوا من الله حق الحياء" قالوا : إنا نستحي يا رسول الله والحمدقال : "ليس ذلك ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء"
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هر ساعتي قبله ديكر ست
قال بعض المشايخ : لو أن رجلاً عاش مائتي سنة ولا يعرف هذه الأربعة فليس شيء أحق به من النار أحدها معرفة الله تعالى في السر والعلانية وأن لا معطى ولا مانع غيره ، والثاني معرفة عمل الله بأن يعرف أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لرضي الله تعالى ، والثالث معرفة نفسه بأن يعرف ضعفه أنه لا يستطيع أن يرد شيئاً مما قضى الله عليه ، والرابع معرفة عدو الله وعدو نفسه فيحاربه بالمعرفة حتى يكسره فإن المعرفة سلاح العارف فمن كان عنده المعرفة الحقيقية كان غالباً على أعدائه الظاهرة والباطنة ووصل إلى مراده والنفس عين العدو فعليك بالاحتراز من شره
80
ومحاربته كل آن بالذكر والفكر والعمل الصالح عصمنا الله وإياكم من الشرور.
جزء : 2 رقم الصفحة : 77
(2/65)
{لَيْسُوا سَوَآءً} أي ليس أهل الكتاب جميعاً مستوين متعادلين في المساوي والقبائح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفي المساواة في مراتب الاتصاف بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف بها {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} كلام مستأنف لبيان عدم استوائهم وتمام الكلام يقتضي أن يقال ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر بناء على أن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر أي من أهل الكتاب جماعة قائمة أي مستقيمة عادلة من أقمت العود فقام بمعنى استقاموا وهم الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وغيره.
نزلت حين قالت أحبار اليهود لعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا من اليهود ما آمن بمحمد الا شرارنا فلو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم أو نزلت في قوم يصلون صلاة الأوابين وهي اثنتا عشرة ركعة بعد صلاة المغرب {يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ} أي القرآن صفة أخرى لأمة {أَمَّنْ هُوَ} ظرف ليتلون أي في ساعاته جمع أني كعصا {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الجملة حال من فاعل يتلون أي يصلون إذ لا تلاوة في السجود وقال عليه الصلاة والسلام : "ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً" وتخصيص السجود بالذكر من سائر أركان الصلاة لكونه أدل على كمال الخضوع والمراد بصلاتهم التهجد إذ هو أدخل في مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوة فإنها في المكتوبة وظيفة للإمام واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} على الوجه الذي نطق به الشرع تعريض بأن إيمان اليهود به مع قولهم عزير ابن الله وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ليس من الإيمان بهما في شيء أصلاً {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} تعريض بمداهنتهم في الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله فإنه أمر بالمنكر ونهى عن المعروف {وَيُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} المسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي أي يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية تعريض بتباطىء اليهود فيها بل بمبادرتهم إلى الشر {وَأُوالَـائِكَ} المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة بسبب اتصافهم بها {مِّنَ الصَّـالِحِينَ} أي من جملة من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه وثناءه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 81
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} كائناً ما كان مما ذكر أو لم يذكر {فَلَن يُكْفَرُوهُ} فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة وسمي منع الثواب ونقصه كفراناً مع أنه لا يجوز أن يضاف الكفران إلى الله تعالى إذ ليس لأحد عليه تعالى نعمة حتى يكفرها نظراً إلى أنه تعالى سمى إيصال الجزاء والثواب شكراً حيث قال : {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة : 158) فلما جعل الشكران مجازاً عن توفية الثواب جعل الكفران مجازاً عن منعه وتعديته إلى مفعولين وهما ما قام مقام الفاعل والهاء لتضمنه معنى الحرمان {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ} بشارة لهم بجزيل الثواب وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى.
والإشارة في قوله : {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} أي من خير يقربهم إليه فالله يشكره بتقربه إليهم أكثر من تقربهم إليه كما قال : "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه باعاً" وقال : "أنا جليس
81
(2/66)
من ذكرني وأنيس من شكرني ومطيع من أطاعني" أي كما أطعتموني بتصفية الاستعداد والتوجه نحوي أطعتكم بإفاضة الفيض على حسبه والإقبال إليكم {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ} بالذين اتقوا ما يحجبهم عنه فتجلى لهم بقدر زوال الحجاب.
قال أبو بكر الكتاني : رأيت في المنام شاباً لم أر أحسن منه فقلت : من أنت؟ فقال : التقوى قلت : فأين تسكن؟ قال : في كل قلب حزين ثم التفت إليّ فإذا امرأة سوداء أوحش ما يكون فقلت : من أنت؟ فقالت : الضحك فقلت : أين تسكنين؟ فقالت : في كل قلب فرح مرح قال : فانتبهت واعتقدت أن لا أضحك إلا غلبة فعلى السالك أن يتمسك بحبل التقوى ويأنس به في الدنيا لعل الله يجعله أنيساً له في قبره وحشره فالتقوى من ديدن الصلحاء وهم الذين يسارعون إلى الخيرات ما داموا في الحياة.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله : أفضل ما يسأل العبد من الله خيرات الدين ففي خيرات الدين خيرات الآخرة وفي خيرات الآخرة خيرات الدنيا وفي خيرات الدنيا ظهور خصائص الأولياء وهي أربعة أوصاف : العبودية ، ونعوت الربوبية ، والإشراف على ما كان ويكون ، والدخول على الله في كل يوم سبعين مرة والخروج كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة" واستغفاره عليه الصلاة والسلام من نقص ما رقي عنه باعتبار ما ترقى إليه إذ ذلك الاستغفار من مقتضى البشرية التي لا يمكن دفعها ووجه الاستغفار منه عليه السلام التفريق بين حالين كان فيهما بالعبودية إذ لا يلحق النبي نقص بوجه ولا فتور بحال لثبوت عصمته ولكن حسنات الأبرار سيآت المقربين فينبغي للإنسان أن يأخذ على نفسه أن لا يضيع لحظة حتى يأخذها بالذكر والشكر ومتى رأى خللاً رفعه بالاستغفار وذكر الله تعالى علم الإيمان وبراءة من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لما بعث الله يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى بني إسرائيل أمره أن يأمرهم بخمس خصال ويضرب لكل خصلة مثلاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 81
أمرهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وضرب لهم مثل الشرك كرجل اشترى عبداً من ماله ثم أسكنه داراً وزوجه ودفع إليه مالاً وأمره أن يتجر فيه ويأكل منه ما يكفيه ويؤدي إليه فضل الربح فعمد العبد إلى فضل الربح فجعل يعطيه لعدو سيده ويعطي لسيده منه شيئاً يسيراً فأيكم يرضى بفعال هذا العبد؟ وأمرهم بالصلاة وضرب لهم مثلاً للصلاة كمثل رجل استأذن على ملك من الملوك فأذن له فدخل عليه فأقبل عليه الملك بوجهه ليستمع مقالته ويقضي حاجته فالتفت يميناً وشمالاً ولم يهتم لقضاء حاجته فأعرض عنه الملك فلم يقض حاجته.
وأمرهم بالصيام وضرب لهم مثلاً فقال : مثل الصائم كمثل رجل لبس جبة للقتال وأخذ سلاحه فلم يصل إليه عدوه ولم يعمل في سلاح عدوه.
وأمرهم بالصدقة وضرب لهم مثلاً للمتصدق فقال مثل المتصدق كمثل رجل أسره عدوه فاشترى منهم نفسه بثمن معلوم فجعل يعمل في بلادهم ويؤدي إليهم من كسبه القليل والكثير حتى يفتدي منهم نفسه فعتق وفك رقبته.
وأمرهم بذكر الله تعالى وضرب لهم مثلاً للذكر فقال : مثل الذكر كمثل قوم لهم حصن وبقربهم عدو لهم فدخلوا حصنهم وأغلقوا بابه وحصنوا أنفسهم من العدو" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم "وأنا آمركم بالخصال
82
الخمس التي أمر بها يحيى عليه السلام وآمركم بخمس أخرى : أمرني الله بها عليكم بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد" فليسارع العبد إلى الخيرات والحسنات وجميع الحالات ولا يتيسر ذلك إلا لأرباب الإرادات وأصحاب المجاهدات :
نيايد نكوكارى از بدركان
محالست دوزند كى از سكان
توان اك كردن ز نك آينه
وليكن نيايد ز سنك آينه
بكوشش نرويد كل از شاخ بيد
نه زنكى بكرما به كردد سفيد
جزء : 2 رقم الصفحة : 81
(2/67)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بما يجب أن يؤمن به {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تدفع عنهم {أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم مِّنَ اللَّهِ} أي من عذابه تعالى {شَيْـاًا} أي شيئاً يسيراً منه أو شيئاً من الإغناء رد للكفار كافة حيث فاخروا بالأموال والأولاد قائلين : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين وكانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأتباعه بالفقر ويقولون : لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في الفقر والشدة.
وخص الأموال والأولاد بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد فأنفع الجمادات هو المال وأنفع الحيوانات هو الولد فالكافر إذا لم ينتفع بهما في الآخرة البتة دل ذلك على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بالطريق الأولى {وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ} أي مصاحبوها على الدوام وملازموها {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} أبدا ولما بين أن أموال الكفار لا تغنى عنهم شيئاً ثم أنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك فأزال الله بهذه الآية تلك الشبهة وبين أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله فقال : {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هَـاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} أي حال ما ينفقه الكفرة قربة أو مفاخرة وسمعة وطلباً لحسن الذكر بين الناس وعداوة لأهل الإسلام كما أنفق أبو سفيان وأصحابه مالاً كثيراً على الكفار يوم بدر واحد {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي برد شديد مهلك فإنه في الأصل مصدر وإن شاع إطلاقه على الريح البارد كالصرصر {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} أي زرع قوم {ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله وإنما وصفوا بذلك لأن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع {فَأَهْلَكَتْهُ} عقوبة لهم ولم تدع منه أثراً ولا عثيراً والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه وذهابه بالكلية من غير أن يعود إليهم نفع مّا بحرث كفار ضربته صرّ فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة بوجه من الوجوه فهو من التشبيه المركب {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بما بين من ضياع ما أنفقوا من الأموال {وَلَـاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لما أنهم أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغي وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص.
جزء : 2 رقم الصفحة : 83
واعلم أن إنفاق الكفار إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر البتة في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة ولعلهم أنفقوا أموالهم في الخيرات ببناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلاً لا ثار الخيرات وكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابه ريح فأحرقه ولا يبقى معه إلا الحزن والأسف هذا إذا أنفقوا الأموال
83
في وجوه الخيرات.
أما إذا أنفقوها فيما ظنوا أنه من الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول وفي قتل المؤمنين وتخريب ديارهم فالذي قلنا فيه أشد وأشد ونظير هذه الآية {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 203) ويدخل فيه ما ينفقه بعض صاحبي الغرض لنفي رجل صالح من بلده أو قتله أو إيذائه ونعوذ بالله من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن جسده فيم أبلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" فليبادر العاقل إلى الإنفاق من ماله والإخلاص في عمله قال عليه الصلاة والسلام : "يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله عز وجل فيقول الله تعالى للملائكة ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيراً فيقول وهو أعلم : إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أبتغي به وجهي".
ز عمرو اي سر شم أجرت مدار
و در خانه زيد باشي بكار
ه قدر آورد بنده حورديس
كه زير قبا دارد اندام يس
قال منصور بن عمار رحمه الله : كان لي أخ في الله يعتقدني ويزورني في شدتي ورخائي وكان كثير العبادة والتهجد والبكاء ففقدته أياماً فقيل لي هو ضعيف مريض فأتيت بابه فطرقته فخرجت ابنته فدخلت فوجدته في وسط الدار وهو مضطجع على فراشه وقد اسود وجهه وازرقت عيناه وغلظت شفتاه فقلت له : يا أخي أكثر من قول لا إله إلا الله ففتح عينيه ونظر إليّ شزرا ثم وثم حتى قلت له : لئن لم تقلها لا غسلتك ولا كفنتك ولا صليت عليك فقال : يا أخي منصور هذه كلمة قد حيل بيني وبينها فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام؟ فقال : يا أخي كل ذلك كان لغير وجه الله إنما كنت أفعل ذلك ليقال واذكر به وإذا خلوت بنفسي غلقت الأبواب وأرخيت الستور وبارزت ربي بالمعاصي :
(2/68)
جزء : 2 رقم الصفحة : 83
ور آوازه خواهي در إقليم فاش
برون حله كن درون حشو باش
فلا غرور للعاقل بكثرة الأعمال والأولاد والأموال إذا لم تكن نيته صحيحة فيما يجري عليه من الأحوال فأين الذين آثروا العقبى بل المولى على كل ما سواه فوجدوا الفقر أعز من الغنى والذل ألذ من العزة وبذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل الله لعمري قوم عزيز الوجود وقليل ما هم وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ألهيكم التكاثر حتى زرتم المقابر" ثم قال : "يقول ابن آدم : مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" قال عليه الصلاة والسلام : "يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيه" وقال عليه السلام : "اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف ومن أبغضني فأكثر ماله وولده" فقد وقفت أيها العبد على حقيقة الحال وأن المال لا يغني عن المرء شيئاً فعليك بالقناعة وتقليل الدنيا ولا تغتر بأصحاب الأموال والجاه.
از ي ذكر وشوق حق مارا
در دو عالم دل وز باني بس
وز طعام ولباس أهل جهان
كهنه دلقي ونيم ناني بس
84
جزء : 2 رقم الصفحة : 83
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهاهم الله عن ذلك بقوله : {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} بطانة الرجل صاحب وليجته من يعرف أسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب التي تلي بطنه كما شبه بالشعار قال عليه السلام : "الأنصار شعار والناس دثار" {مِّن دُونِكُمْ} أي : من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} يقال : ألا في الأمر إذا قصر فيه ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك نصحاً والخبال الفساد أي لا يقصرون لكم في الفساد بالمكر والخديعة ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي تمنوا عنتكم أي مشتقتكم وشدة ضرركم في دينكم ودنياكم والفرق بين الجملة الأولى وبين هذه أن معناهما أنهم لا يقصرون ضرراً في أمور دينكم ودنياكم فإن عجزوا عن ذلك فحب ذلك وتمنيه غير زائل من قلوبهم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} البغضاء شدة البغض أي قد ظهرت علامة العداوة في كلامهم الخارج من أفواههم لما أنهم يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايَـاتِ} الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ما بينا لكم فتعملون به والظاهر أن الجمل من قوله لا يألونكم إلى هنا تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
{هَـاأَنتُمْ أُوْلاءِ} أي أنتم أيها المؤمنون أولاء المخطئون في موالاتهم {تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} لما بينكم من مخالفة الدين {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّهِ} أي بجنس الكتاب جميعاً وهو حال من الضمير المفعول في لا يحبونكم والمعنى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا} نفاقاً {وَإِذَا خَلَوْا} فكان بعضهم مكان بعض {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الانَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} أي : من أجله تأسفاً وتحسراً حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً.
والأنامل جمع أنملة بضم الميم وهو الطرف الأعلى من الأصبع.
والغيظ شدة الغضب.
قال الإمام : والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة على عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان أنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله إلى أن يهلكوا به وباشتداده إلى أن يهلكهم فالمراد اللعن والطرد لا على وجه الإيجاب وإلا لماتوا من ساعتهم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي : قل لهم إن الله عليم بعداوة الصدور فيعلم ما في صدوركم من البغضاء والحنق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
(2/69)
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} أي تصبكم أيها المؤمنون حسنة بظهوركم على عدو لكم وغنيمة تنالونها وتتابع الناس في الدخول في دينكم وخصب في معاشكم {تَسُؤْهُمْ} أي تحزنهم حسداً إلى ما نلتم من خير ومنفعة {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} مساءة بإخفاق سرية لكم أو إصابة عدو منكم
85
أو اختلاف يكون بينكم أو جدب ونكبة {يَفْرَحُوا بِهَا} يشمتون مما أصابكم من ضرر وشدة وذكر المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة {وَأَن تَصْبِرُوا} على عداوتهم أو على مشاق التكاليف {وَتَتَّقُوا} ما حرم الله عليكم ونهاكم عنه {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} مكرهم وحيلتهم التي دبروها لأجلكم.
والكيد حيلة لطيفة تقرب وقوع المكيد به فيها {شَيْـاًا} نصب على المصدرية أي لا يضركم شيئاً من الضرر بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون جريئاً على الخصم {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ} في عداوتكم من الكيد {مُحِيطٌ} علماً فيعاقبهم على ذلك.
والإحاطة إدراك الشيء بكماله ، فينبغي للمرء أن يجانب أعداء الله ويصبر على أذاهم فإنه امتحان له من الله مع أنهم لا يقدرون على غير القدح باللسان كما قال تعالى : {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} (آل عمران : 111) والطعن لم يتخلص منه الأنبياء والأولياء فكيف أنت يا رجل وكلنا ذلك الرجل :
توروى ازر ستيدن حق مي
مهل تانكيرند خلقت بهي
رهايى نيابدكس ازدست كس
كرفتاررا اره صبرست وبس
وفي قوله تعالى : {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} إشارة إلى أن الحامل لأسرار الرجل ينبغي أن يكون من جنسه معتمداً عليه مؤتمناً وربما يفشي الرجل سره إلى من لم يجر به في كل حاله فيفتضح عند الناس :
إن الرجال صناديق مقفلة
وما مفاتيحها إلا التجاريب
فلا تغتر بظاهر إنسان حتى تعرف سريرته ، قال الإمام الغزالي : ولا تعول على مودة من لم تختبره حق الخبرة بأن تصحبه مدة في دار أو موضع واحد فتجربه في عزله وولايته وغناه وفقره أو تسافر معه أو تعامله في الدينار والدرهم أو تقع في شدة فتحتاج إليه فإن رضيته في هذه الأحوال فاتخذه أباً لك إن كان كبيراً أو ابناً إن كان صغيراً أو أخاً إن كان مثلاً لك وإذا بلغك من الإخوان غيبة أو رأيت منهم شراً أو أصابك منهم ما يسوءك فكل أمرهم إلى الله ولا تشغل نفسك بالمكافاة فيزيد الضرر ويضيع العمر لشغله ، ومن بلاغات الزمخشري ما قدع السفيه بمثل الإعراض وما أطلق عنانه بمثل العراض أي المعارضة ، ونعم ما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
اصبر على مضض الحسو
د فإن صبرك قاتله
والنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
فالمجاملة من سير الصالحين.
وكان إبراهيم بن أدهم في جماعة من أصحابه فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم ويجتمعون بالليل في موضع وهم صيام فكان يبطىء في الرجوع من العمل فقالوا ليلة : تعالوا بنا نجعل فطورنا دونه حتى يعود بعد هذا أسرع فأفطروا وناموا فلما رجع إبراهيم وجدهم نياماً فقال : مساكين لعلهم لم يكن لهم طعام فعمد إلى شيء من الدقيق هناك فعجنه وأوقد النار وطرح الملة فانتبهوا وهو ينفخ في النار واضعاً محاسنه على التراب فقالوا له في ذلك فقال : قلت لعلكم لم تجدوا فطوراً فنمتم فأحببت أن تستيقظوا والملة قد أدركت فقال بعضهم لبعض : أبصروا أيّ شيء عملنا وما الذي به يعاملنا :
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى أحسن إلى من أساء
86
قال ذو النون رحمه الله : لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة ولا مع النفس إلا بالمخالفة ولا مع الشيطان إلا بالعداوة فليسارع العبد إلى تحصيل حسن الخلق وتوطين النفس على الصبر على المكاره حتى يفوز مع الفائزين.
قال بعضهم : كنت بمكة فرأيت فقيراً طاف بالبيت وأخرج من جيبه رقعة ونظر فيها ومر فلما كان بالغد فعل مثل ذلك فترقبته أياماً وهو يفعل مثله فيوماً من الأيام طاف ونظر في الرقعة وتباعد قليلاً وسقط ميتاً فأخرجت الرقعة من جيبه وإذا فيها {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور : 48).
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : "إن استطعت أن تعملبالرضى في اليقين فافعل وإلا ففي الصبر على ما تكره خير كثير" ومقاساة المجاهدات ومخالفة النفس وترك الشهوات واللذات والتزام الفقر والصبر على المكروهات من ديدن السلف الصالحين وأهل النفس الأمارة وإن كان يبدو من فمه علامات البغض لأمثال هؤلاء الأخيار لكنه في الحقيقة يعود ضرره إلى نفسه والمرء بالصبر على ما جاء به من مكاره اعتراضه الفاسد يكون مأجوراً ومثاباً عند الله تعالى وتباين الناس بالصلاح والفساد وغير ذلك خير محض يعتبره العاقل ويزكي نفسه به فيا أيها الصلحاء إن الأشرار متسلطون على الأخيار بالطعن وقصد الأضرار ولكن المتقي في حصن الله الملك الجبار.
(2/70)
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
{وَإِذْ غَدَوْتَ} أي اذكر لهم يا محمد وقت خروجك غدوة أي أول النهار إلى أحد ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلموا أنهم إن لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة {مِنْ أَهْلِكَ} من منزل عائشة رضي الله عنها في المدينة وهذا نص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلاً للنبي صلى الله عليه وسلّم قال تعالى : {وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـاتِ} (النور : 26) فدل هذا على أنها كانت مطهرة مبرأة من كل قبيح ألا يرى أن ولد نوح لما كان كفراً قال : {إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (هود : 46) وكذا امرأة لوط {تُبَوِّىاُ الْمُؤْمِنِينَ} أي تنزلهم {مَقَـاعِدَ} كائنة ومهيئة {لِلْقِتَالِ} أو متعلق بقوله : تبوىء أي لأجل القتال.
والمقاعد جمع مقعد وهو اسم لمكان القعود عبر عن تلك الأماكن التي عينت لكل واحد من الصحابة أن يبيت في ما عين له من تلك الأماكن إما بان يتسع في استعمال القعود لمجرد المكان مع قطع النظر عن كونه مكان القعود كما في قوله تعالى : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} (القمر : 55) وإما لأن كل مكان إنما عين لصاحبه لأن يقعد وينتظر فيه إلى أن يجيىء العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأماكن بالمقاعد لهذا الوجه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
ـ روي ـ أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم : يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم وقال عليه السلام : "إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي" أي قطيعاً منها "فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلما" أي كسرا "فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم" فقال رجال
87
(2/71)
من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : أخرج بنا إلى أعدائنا طلباً لسعادة الشهادة وطمعاً من الحسنى والزيادة فلم يزالوا به عليه الصلاة والسلام حتى دخل وليس لأمته أي درعه فلما رأوا ذلك ندموا وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال : "ما ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل" وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس فخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة وصلى على رجل من الأنصار مات فيه فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فمشى على راحلته فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال تأخر وكان نزوله في عدوة الوادي أي طرفه وجانبه وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم : "انضحوا عنا بالنبل" أي ادفعوا العدو عنا بالسهم حتى لا يأتونا من ورائنا "ولا تبرحوا مكانكم فإذا عاينوكم وولوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين" ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلّم لما خالف رأى عبد الله بن أبي وكان من قدماء أهل المدينة ورئيس المنافقين شق عليه ذلك وقال : أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فسيتبعونكم ويصير الأمر على خلاف ما قاله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل أو تسعمائة وخمسين رجلاً فلما بلغوا الشوط رجع ابن أبيّ بثلاثمائة وبقيت سبعمائة فقال لقومه : يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي وقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال عبد الله : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم وكان الحيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس جناحي عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهمَّا باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقواهم الله تعالى حتى هزموا المشركين فلما رأى المؤمنون انهزام القوم طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين فتركوا الموضع الذي أمرهم النبي عليه السلام بالثبات فيه ثم اشتغلوا بطلب الغنائم وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم فأراد الله أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدر ببركة طاعتهمولرسوله ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين وكانوا ثلاثة آلاف رجل فحملوا على المؤمنين وتفرق العسكر عن رسول الله عليه السلام حتى بقي معه سبعة من الأنصار ورجلان من قريش فلما قصد الكفار النبي عليه الصلاة والسلام شجوا رأسه وكسروا رباعيته وثبت معه عليه السلام يومئذٍ طلحة ووقاه بيده فشلت أصبعاه وصار مجروحاً في أربعة وعشرين موضعاً ولما أصابه عليه السلام ما أصاب من الشجة وكسر الرباعية وغلب عليه الغشي احتمله طلحة ورجع القهقري وكلما أدركه واحد من المشركين كان يضعه عليه السلام ويقاتله حتى أوصله إلى الصحة وكان عليه السلام يقول : "أوجب طلحة" ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل وكان في جملة الصحابة رجل من الأنصار يكنى أبا سفيان نادى الأنصار وقال : هذا رسول الله
88
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
فرجع إليه المهاجرون والأنصار فشمل عز الشهادة اثنين وسبعين من المؤمنين واختص بشرائف نعم الله وجلائل كرمه حمزة سيد الشهداء وهنيئاً له إذ مثل به وكثر فيهم الجراح فقال عليه الصلاة والسلام : "رحم الله رجلاً ذب عن إخوانه وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى وأعانهم الله حتى هزموا الكفار" ثم إن كل ذلك يؤكد قوله تعالى : {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا} وأن المقبل من أعانه الله والمدبر من خذله الله ومن الله العصمة {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لما شاور النبي عليه السلام أصحابه في ذلك الحرب وقال بعضهم : أقم بالمدينة وقال آخرون : اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض في قوله فمن موافق ومن منافق قال تعالى : أنا سميع لما يقولون عليم بما يسرون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
(2/72)
{إِذْ هَمَّت} بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير.
والهم تعلق الخاطر بماله قدر {طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ} أيها المؤمنون وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس {أَن تَفْشَلا} أي بأن تجبنا وتضعفا وترجعا لظنهما الصواب فيه.
والفشل الضعف والظاهر أن همهما ليس بمعنى العزم والقصد المصمم وإنما هو خطرات وحديث نفس كما لا تخلو النفس عند الشدائد من بعض الهلع ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي عاصمهما من اتباع تلك الخطرات والجملة اعتراض {وَعَلَى اللَّهِ} وحده دون ما عداه مطلقاً استقلالاً واشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في جميع أمورهم فإنه حسبهم وفيه إشعار بأن وصف الإيمان من دواعي التوكل وموجباته والتوكل الاعتماد على الغير وإظهار العجز.
جزء : 2 رقم الصفحة : 89
قال الإمام : وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل.
قال سهل بن عبد الله التستري : جملة العلوم أدنى باب من التعبد وجملة التعبد أدنى باب من الورع وجملة الورع أدنى باب من الزهد وجملة الزهد أدنى باب من التوكل.
وقال أيضاً علامة المتوكل ثلاث لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
وكان إبراهيم الخواص رحمه الله مجرداً في التوكل وكان لا يفارقه إبرة وخيوط وركوة ومقراض فقيل له : يا أبا إسحق لم تحمل هذا وأنت ممتنع من كل شيء؟ فقال : مثل هذا لا ينقص التوكل لأنعلينا فرائض والفقير لا يكون عليه غير ثوب واحد فربما يتمزق ثوبه فإذا لم يكن معه إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته.
قال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينما أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث فقلت : لا والله لا أستغيث فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر : تعال حتى نسدّ رأس هذه البئر لئلا يقع فيها أحد فأتوا بقصب وطمسوا البئر فهممت أن أصيح ثم قلت في نفسي أشكو إلى من هو أقرب منهما فسكت فبينما أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء قد جاء وكشف عن رأس البئر وأدخل رجله وكأنه يقول لي : تعلق بي في هينمة له كنت أعرف ذلك منها فتعلقت به فأخرجني فإذا هو سبع فمر وهتف بي هاتف يا أبا حمزة أليس هذا أحسن؟ نجيناك من التلف بالتلف فمشيت.
قال بعضهم : من وقع في ميدان التفويض يزف إليه المراد كما تزف العروس إلى أهلها ، ولما زج بإبراهيم عليه السلام في المنجنيق وأتاه جبريل فقال : ألك حاجة؟ قال : إما إليك فلا وإما إلى الله فبلى قال : سله قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي وقد
89
قال نبينا عليه السلام : "يقول الله تعالى فمن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" فعلى السالك أن يتوكل على الله ويفوض أمره إليه فإن كل ما قضى وقدر لا يرد ألبتة وإن تعدت نفسك في ذلك.
قضا كشتى آنجا كه خواهد برد
وكرنا خدا جامه برتن درد
يكفيك علم الله بحالك فاقطع نظرك عن الأسباب والفتح ليس إلا من مفتح الأبواب.
مكن سعديا ديده بردست كس
كه بخشنده برورد كارست وبس
اكر حق رستي زدرها بسست
كه كروى بداند نخواند كسست
جزء : 2 رقم الصفحة : 89
(2/73)
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} تذكير ببعض ما أفادهم التوكل.
وبدر بئر ماء بين مكة والمدينة حافرها رجل اسمه بدر فسمي به وكانت وقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} حال من الضمير جمع ذليل وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل بجمع الكثرة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد للمقداد بن الأسود وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله وتسعون بعيراً وست أدرع وثمانية سيوف وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، ستة وسبعون من المهاجرين وبقيتهم من الأنصار وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة وكان صاحب راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ {فَاتَّقُوا اللَّهَ} في الثبات مع رسوله كم اتقيتم يومئذٍ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي راجين أن تشكروا بما ينعم به عليكم بتقواكم من النصرة {إِذْ تَقُولُ} ظرف لنصركم وقت قولك {لِلْمُؤْمِنِينَ} حين أظهروا العجز عن المقاتلة {أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَـاثَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة} الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر.
والإمداد إعانة الجيش بالجيش والمعنى إنكار عدم كفاية الإمداد بذلك المقدار ونفيه وكلمة أن للاشعار بأنهم كانوا حينئذٍ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرته {مُنزَلِينَ} أي حال كونهم نازلين من السماء بإذنه تعالى.
قيل : أمدهم الله أولاً بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة وإنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة للتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويتقووا بنصر الله.
{بَلَى} إيجاب لما بعد أن وتحقيق له أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعدهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثاً لهم عليهما وتقوية لقلوبهم فقال : {إِن تَصْبِرُوا} على لقاء العدو ومناهضتهم {وَتَتَّقُوا} معصية الله ومخالفة نبيه صلى الله عليه وسلّم {وَيَأْتُوكُم} أي إن يجيئكم المشركون {مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا} أي من ساعتهم هذه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة} في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يريد أن الله يعجل نصرتكم ويسهل فتحكم إن صبرتم واتقيتم {مُسَوِّمِينَ} من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء أي معلمين أنفسهم أو خيلهم في أذنابها ونواصيها بالصوف الأبيض قال عليه السلام لأصحابه : "تسوموا فإن الملائكة قد تسومت".
جزء : 2 رقم الصفحة : 89
ـ روي ـ أن الملائكة كانوا بعمائم بيض إلا جبريل عليه السلام فإنه كان
90
بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام ونزلوا على الخيل البلق موافقة لفرس المقداد وإكراماً له.
جزء : 2 رقم الصفحة : 89
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} عطف على مقدر أي فأمدكم به وما جعل الله ذلك الإمداد بإنزال الملائكة عياناً بشيء من الأشياء {إِلا بُشْرَى لَكُمْ} بأنكم تنصرون {وَلِتَطْمَـاـاِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} أي بالإمداد وتسكن إليه من الخوف كما كانت السكينة لبني إسرائيل {وَمَا النَّصْرُ إِلا} كائن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} لا من العدة والعدد وهو تنبيه على إنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد وإنما أمدهم بشارة لهم وربطاً على قلوبهم من حيث أن نظر العامة إلى الأسباب أكثر فينبغي للمؤمن أن لا يركن إلى شيء من ذلك فإن ترتيب النصر عليها ليس إلا بطريق جري العادة {الْعَزِيزُ} الذي لا يغالب في حكمه وقضيته {الْحَكِيمُ} الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 91
(2/74)
{لِيَقْطَعَ} متعلق بنصركم أي نصركم الله يوم بدر ليهلك وينقص {طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي طائفة منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قتل من رؤسائهم وصناديدهم سبعون وأسر سبعون {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة فإن الكبت شدة غيظ أو وهن يقع في القلب من كبته بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة واو للتنويع دون الترديد {فَيَنقَلِبُوا خَآئِبِينَ} غير ظافرين بمبتغاهم وينهزموا منقطعي الآمال.
والخيبة هو الحرمان من المطلوب والفرق بينها وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله فنقيض اليأس الرجاء ونقيض الخيبة الظفر {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} اعتراض {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} عطف على قوله أو يكبتهم والمعنى أن الله مالك أمرهم على الإطلاق فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم تعذيباً شديداً أخروياً إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء وإنما أنت عبد مأمور لإنذارهم وجهادهم {فَإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ} قد استحقوا التعذيب بظلمهم {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} من الموجودات خلقاً وملكاً لا مدخل فيه لأحد أصلاً فله الأمر كله {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن يعذبه وقدم المغفرة لسبق رحمته تعالى غضبه وهذا صريح في نفي وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لعباده والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان ، فليبادر العاقل إلى الأعمال التي يستوجب بها رحمة الله تعالى ولا ييأس من روح الله أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام (يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين) قال : يا رب فكيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين قال : (بشر المذنبين بأني لا يتعاظمني ذنب إلا أغفره وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم وإني لا أضع عدلي وحسابي على أحد إلا أهلكه) وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على النبي عليه السلام فوجده يبكي فقال : ما يبكيك يا رسول الله؟ قال : "جاءني جبريل فقال : إن الله يستحيى أن يعذب أحداً قد شاب في الإسلام فكيف لا يستحي من شاب في الإسلام أن يعصي الله" فالواجب على الشيخ أن يعرف هذه الكرامة ويشكر الله ويستحي منه ومن
91
الكرام الكاتبين ويمتنع من المعاصي ويكون مقبلاً على طاعة ربه فإنه في ساحل بحر المنون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 91
ـ روي ـ أن الحجاج لما أقام بالعراق يرهب ويفتك حتى استوثقت له الأمور خرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث بأهل العراق فأمده عبد الملك بأهل الشام فكانوا شيعته واستمر بينه وبين ابن الأشعث الوقائع حتى هزمه الحجاج بدير الجماجم بعد ثمانين وقعة في ستة أشهر وكان مع ابن الأشعث أكثر من مائتي ألف فلما هزموا قال الحجاج لأصحابه : اتركوهم فيلتبددوا ولا تتبعوهم ثم نادى مناديه من رجع فهو آمن ودخل الكوفة وجاء الناس من المنهزمين يبايعونه فكان يقول لمن جاء يبايعه اشهد على نفسك بالكفر وخروجك عن الجماعة ثم تب فإن شهد وإلا قتله فأتاه رجل من خثعم فقال : اشهد على نفسك بالكفر فقال : إن كنت عبدت ربي ثمانين سنة ثم اشهد على نفسي بالكفر لبئس العبد أنا والله ما بقي من عمري إلا ظمىء حمار وإنني أنتظر الموت صباحاً ومساءاً فأمر به فضرب عنقه وقدم بعده شيخ فقال الحجاج : ما أظن الشيخ يشهد على نفسه بالكفر فقال : يا حجاج أخادعي أنت عن نفسي أنا أعرف بها منك وأني لأكفر من فرعون وهامان فضحك الحجاج وخلى سبيله فانظر إلى ضعف إيمانه كيف ارتكب هذا القبح بعدما جاوز حد الشباب الذي ليس بعده إلا انتظار الموت صباحاً ومساءً من إقراره بالكفر مع غاية شيبه ومن لم تتداركه العناية الأزلية لم يجىء منه شيء.
فعلى السالك أن يطمئن قلبه بالإيمان ويجتهد إلى أن يصل إلى قوة اليقين ومن قوة اليقين التوحيد وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ويرى الوسائط مسخرة لحكمه ولا ريب أن قوة اليقين بتصفية القلب عن كدورات النفس.
و اك آفريدت بهش باش اك
كه ننكست نا اك رفتن بخاك
ياي بيفشان از آيينه كرد
كه صيقل نكيرد و نكار خورد
وجلاء القلب إنما يحصل بذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة على النبي عليه السلام وخير الأذكار كلمة التوحيد وهي العروة الوثقى ، قال إبراهيم الخواص قدس سره : دواء القلب خمسة : تلاوة القرآن بالتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع إلى الله تعالى عند السحر ، ومجالسة الصالحين.
فعليك بالمواظبة لهذه الخصال لعلك تصل إلى التزكية ودرجة الكمال بعون الله الملك العزيز المتعال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 91
(2/75)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا} والمراد بأكله أخذه وإنما عبر عنه بالأكل لأنه معظم ما يقصد بالأخذ ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع {أَضْعَـافًا مُّضَـاعَفَةً} زيادات مكررة كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ولم يكن المديون واجداً لذلك المال قال : زدني في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها.
وأضعافاً جمع ضعف حال من الربا أي متضاعفاً ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة اتبعه بما يدل على الكثرة حيث وصفه بقوله مضاعفة وهي اسم مفعول لا مصدر وهذه الحال ليست لتقييد النهي بها حيث تنتفي الحرمة عند انتفائها بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخاً لهم على ذلك {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما نهيتم عنه خصوصاً الربا وعمله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
92
راجين الفلاح.
{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطونه وفيه تنبيه على أن النار بالذات معدة للكفار وبالعرض للعصاة.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في أصناف محارمه.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ} في كل ما أمركم به ونهاكم عنه {وَالرَّسُولِ} الذي يبلغكم أوامره ونواهيه {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجين لرحمته ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل عزة التوصل إلى ما جعل خبراً له.
قال القاشاني : ولا يخفى على الفطن ما فيه من المبالغة في التهديد على الربا حيث أتي بلعل في فلاح من اتقاه واجتنبه لأن تعليق إمكان الفلاح ورجاءه بالاجتناب منه يستلزم امتناع الفلاح لهم إذا لم يجتنبوه ويتقوه مع إيمانهم.
ثم أوعد عليه بالنار التي أعدت للكافرين مع كونهم مؤمنين فما أعظمها من مصيبة توجب عقاب الكفار للمؤمنين وما أشده من تغليظ عليه ثم أمد التغليظ بالأمر بطاعة الله ورسوله تعريضاً بأن آكل الربا منهمك في المعصية لا طاعة له ثم علق رجاء المؤمنين بطاعة الله ورسوله إشعاراً بأنه لا رجاء للرحمة مع هذا النوع من العصيان فهو يوجب اليأس من رحمته للمؤمنين لامتناعها لهم معه فانظر كيف درج التغليظ في التهديد حتى ألحقه بالكفار في الجزاء والعقاب انتهى بعبارته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل" والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال على الوجه الذي نهى الله عنه وهو قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل.
أما ربا النسيئة فهو ما كان يتعارفه أهل الجاهلية ويتعاملون به وقد سبق آنفاً.
وأما ربا الفضل أي أخذ الفضل عند مقابلة الجنس بالجنس نقداً فهو أن يباع من من الحنطة بمنين منها وما أشبه ذلك وقد اتفق جمهور العلماء على تحريم الربا في القسمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 92
واعلم أن الربا يؤدي إلى الحرص على طلب الدنيا أضعافاً مضاعفة إلى ما لا يتناهى كما قال عليه الصلاة والسلام : "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" والحرص درك من دركات النيران فلذا قال : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} .
قناعت كن اي نفس بد اند كى
كه سلطان ودرويش بيني يكى
فالحرص على الدنيا وسعيها وجمعها مذموم منهى عنه والبذل والإيثار وترك الدنيا والقناعة فيها محمود مأمور به يدل عليه قوله تعالى : {يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ} (البقرة : 276) فمن أخذ الربا لتكثير المال بلا احتياج كان كمن يقع على أمه نعوذ بالله.
ـ روي ـ عن عبد الله بن سلام للربا اثنان وسبعون حوباً أصغرها كمن أتى أمه في الإسلام كذا في "تنبيه الغافلين".
وإذا أخذه بوجه شرعي مع الاحتياج يجوز في الفتوى ولكن التقوى فوق أمر الفتوى والحيلة الشرعية فيه ذكرها قاضيخان حيث قال رجل له على رجل عشرة دراهم فأراد أن يجعلها ثلاثة عشر قالوا : يشتري من المديون شيئاً بتلك العشرة ويقبض المبيع ثم يبيعه من المديون بثلاثة عشر إلى سنة فيقع التحرز عن الحرام ومثل هذا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإذا احتاج إلى الاستقراض فاستقرض من رجل فلم يعطه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه لأن له فيه ضرورة وهذا إذا كان الآخذ غنياً كما عرفت فالمرء الصالح يتباعد عن مثل هذه
93
(2/76)
المعاملات فإن الربا يضر بإيمان المؤمنين وهو وإن كان زيادة في الحال لكنه نقصان في الحقيقة فإن الفقراء الذين يشاهدون أن المرابي يأخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويدعون عليه وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله بل عما يتفرع من نقص عرضه وقدره وتوجه مذمة الناس إليه وسقوط عدالته وزوال أمانته وفسق القلب وغلظته.
وآخذ الربا لا يقبل الله منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلاة وقد ثبت في الحديث "أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام" فإذا كان الغني من الوجه الشرعي الحلال كذلك فما ظنك بالغني من الوجه الحرام؟ فالإنسان مع فقره وحاجته إذا توكل على الله وأحسن إلى عبيده فالله تعالى لا يتركه ضائعاً جائعاً في الدنيا بل يزيد كل يوم في جاهه وذكره الجميل يميل قلوب الناس إليه.
وأما إذا كان بخلاف ذلك فيكون أمره عسيراً في الدنيا والآخرة والعمل السوء ينزع به الإيمان عند الموت فيستحق به صاحبه الخلود في النار كالكفار نعوذ بالله من ذلك.
وروى أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة رحمه الله أكثر ما ينزع الإيمان لأجل الذنوب من العبد عند الموت وأسرعها نزعاً للإيمان ظلم العباد فاتق أيها المؤمن من الله ولا تظلم عباد الله بأخذ أموالهم من أيديهم بغير حق فإنه حوب كبير عصمنا الله وإياكم من سوء الحال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 92
{وَسَارِعُوا} أي بادروا وأقبلوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ} كائنة {مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} إلى ما يستحقان به كالإسلام والتوبة والإخلاص وأداء الواجبات وترك المنهيات {عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} أي كعرضهما صفة لجنة وذكر العرض للمبالغة في وضعها بالسعة على طريقة التمثيل فإن العرض في العادة أدنى من الطول {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي هيئت لهم صفة أخرى الجنة.
وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة الآن وأنها خارجة عن هذا العالم.
أما الأول فلدلالة لفظ الماضي.
وأما الثاني فلأن ما يكون عرضه كعرض جميع هذا العالم لا يكون داخلاً فيه.
ـ روي ـ أن رسول هرقل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال عليه السلام : "سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار" والمعنى والله أعلم إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل.
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ} كل ما يصلح للإنفاق وهو صفة مادحة للمتقين {فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} أي في حالتي الرخاء والشدة أي الغنى والفقر واليسر والعسر وفي الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير {وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ} عطف على الموصول والكظم الحبس والغيظ توقد حرارة القلب من الغضب أي الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي التاركين عقوبة من استحق مؤاخذته {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الذين عمت فواضلهم وتمت فضائلهم.
ولامه يصلح للجنس فيدخل تحته هؤلاء والعهد فتكون الإشارة إليهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
واعلم أن الإحسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه.
أما إيصال النفع إليه فهو المراد بقوله : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} ويدخل فيه إنفاق العلم وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين.
ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات قال عليه الصلة والسلام :
94
"السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار" وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى وهو المراد بكظم الغيظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً" وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته من التبعات والمطالبات في الآخرة وهو المراد بقوله : {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} .
ـ روي ـ أنه ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله تعالى فلا يقوم إلا من عفا وعن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : "إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت" فهذه الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحساناً إلى الغير ذكر ثوابها فقال : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فإن محبة الله العبد أعظم درجات الثواب.
قال الفضيل بن عياض : الإحسان بعد الإحسان مكافأة والإساءة بعد الإساءة مجازاة والإحسان بعد الإساءة كرم وجود والإساءة بعد الإحسان لؤم وشؤم.
(2/77)
ـ حكي ـ أن خادماً كان قائماً على رأس الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو مع أضيافه في المائدة فانحرفت قصعة كانت في يد الخادم فسقط منها شيء على الحسن فقال : {وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال : قد عفوت عنك فقال : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال : أنت حر لوجه الله وقد زوجتك فلانة فتاتي وعليّ ما يصلحكما ، قال الفاضل الجامي :
جوانمردا جوانمردي بياموز
زمردان جهان مردي بياموز
درون ازكين كين جويان نكه دار
زبان از طعن بدكويان نكه دار
نكويى كن بآن كوبا توبد كرد
كزان بدرخنه در اقبال خودكرد
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
و آيين نكو كاري كنى ساز
نكردد جزبتو آن نكويى باز
فعلى العاقل أن يسارع إلى العمل بالحسنات من الإحسان وأنواع الخيرات سريعاً قبل الفوات لأن في التأخير آفات :
كنون وقت تخمست اكر روري
كراميد داري كه خرمن بري
يعني إن كنت تأمل الجنة فاعبد ربك بأنواع العبادات ما دمت في الحياة فإن الفرصة غنيمة والمتأخر عن السير إلى الله مغبون قيل :
بيا ساقي كه في التأخير آفات†
بمايه توان اي سر سود كرد
ه سود آيد آنراكه سرمايه خورد
والله تعالى خلق الإنسان لدخول الجنة ودرجاتها والنار ودركاتها ثم أرسل المرسلين مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار وحث بالاتقاء والحذر عن النار كما قال : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} وحرض على المسارعة إلى الجنة بقوله : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي سارعوا بقدم التقوى إلى مقام من مقامات قرب ربكم {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} يعني طولها فوق السموات والأرض.
والإشارة فيه أن الوصول إليها بعد العبور من ملك السموات والأرض وهو المحسوسات التي تدركها الحواس الخمس والعبور عنها إنما يكون بقدم التقوى الذي هو تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة كما قال : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} فإن قدم التقوى الذي يولج به في عالم الملكوت هو التزكية
95
ويدل عليه ما قال عيسى عليه الصلاة والسلام : (لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين) فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها وولوج الملكوت وهو التحلية بالصفات الروحانية وقوله : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي هم مخصوصون بها ومراتبهم في الدرجات العلى وهو بقدر تقوى النفوس وتزكيتها عصمنا الله وإياكم من الشرور والأوزار وشرفنا بمقامات الأبرار والأخيار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} أي فعلة بالغة في القبح كالزنى {أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بأن أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ به الإنسان أو الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك {ذَكَرُوا اللَّهَ} تذكروا حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء أو وعيده {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} بأن يندموا على ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل وأما مجرد الاستغفار باللسان فلا أثر له في إزالة الذنب وإنما هو حظ اللسان من الاستغفار وهو توبة الكذابين {وَمِنْ} استفهام إنكاري أي لا {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} أي جنس الذنوب أحد {إِلا اللَّهُ} بدل من الضمير المستكن في يغفر وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه تصويباً للتائبين وتطييباً لقلوبهم وبشارة لهم بوصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإجلالاً لهم وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه وأن من كرمه التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له وأن العبد إذا التجأ إليه في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم وتحريضاً للعباد على التوبة وبعثاً عليها وعلى الرجاء وردعاً عن اليأس والقنوط {وَلَمْ يُصِرُّوا} عطف على فاستغفروا أي لم يقيموا {عَلَى مَا فَعَلُوا} من الذنوب فاحشة كانت أو ظلماً غير مستغفرين لقوله عليه السلام : "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" و"لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" أي الصغيرة مع الإصرار كبيرة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فاعل يصروا أي لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه وبالنهي عنه والوعيد عليه والتقييد بذلك لما أنه قد يعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن عن تقصير في تحصيل العلم به.
(2/78)
{أولئك} أي أهل هذه الصفات {جَزَآؤُهُمْ} أي ثوابهم {مَغْفِرَةٍ} كائنة {مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} أي لهم ذخر لا يبخس وأجر لا يوكس وجنات لا تنقضي ولذات لا تمضي {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات والتعبير عنهما بالأجر المشعر بأنهما تستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضل لمزيد الترغيب في الطاعات والزجر عن المعاصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ربه تبارك قال : "ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك.
ابن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً.
ابن آدم إنك إن تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك" قال ثابت البناني : بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية وهي قوله : {وَالَّذِينَ} الآية وقال صلى الله عليه وسلّم "ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم ويصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له".
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
ـ روي ـ أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام (ما أقل حياء من يطمع في جنتي
96
بغير عمل يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي).
وعن شهر بن حوشب طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة ، وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
قال القشيري رحمه الله : أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام : (قل للظلمة حتى لا يذكروني فإني أوجبت أن أذكر من يذكرني وذكري للظلمة باللعنة).
واعلم أن العمدة هي الإيمان وذلك إنما يحصل بالتوحيد المنافي للشرك وهو المؤدي إلى التوبة والاستغفار ولكونه عمدة عد المؤمن الموحد من المتقين وصار سبباً لدخول الجنة ، فينبغي للعبد أن يصرف اختياره إلى جانب الامتثال للأمر والاجتناب عن النهي فالله تعالى خالقه وإن كان التوفيق إلى جانب العمل أيضاً من عنايته تعالى.
نخست أو أرادت بدل درنهاد
س اين بنده برآستان سرنهاد
وفقني الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى ويداوي بلطفه وكرمه هذه القلوب المرضى فإن بيده مفاتيح الإسلاح والفوز بالبغية والظفر بالفلاح.
شنيدستم كه إبراهيم ادهم
شيء بر تخت دولت خفت خرم
زسقف خود شنيد آواز ايى
زجا برجست ون آشفته رايى
بتندي كفت أوكين كيست بربام
كه دارد بر سهر قصر ما كام
جواب آمد كه أي شاه جهانكير
شتركم كرده مرد مفلسم ير
زخنده كشت شه برجاي خودست
كه بربام آدمي هركز شترجست
دكربار اسخ آمد كاي جوان بخت
خدا جويى كسى كردست برتخت
خدا جويى وخورد وخواب وآرام
شتر جويى بود بر كوشه بام
و بشنيد اين يام از هاتف غيب
فراغت كرد ازدنيا بلا ريب
رسيد از راه تجريدي بمنزل
س از ادبارشد مقبول ومقبل
فالواجب على طالب الحق أن يحفظ الأدب حتى يرتقي بذلك إلى أعلا الرتب ألا ترى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف كان يستغفر كل يوم سبعين مرة مع أن ذنبه كان مغفوراً وبكمال أدبه وصل إلى ما وصل حتى صار اتباعه سبباً لمحبة الله تعالى كما قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 31) ومع ذلك كان خوفه وإجلاله في غاية الكمال وهكذا ينبغي لمن اقتدي به.
ورتبة المحسن وإن كانت أولى لكن التدارك أحسن من الإصرار فطوبى لمتدارك وصل إلى الإحسان وأجير نال إلى المحبوبية عند الله الرحمن.
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أصل الخلو الإنفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضاً في الزمان الماضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الأمم الخالية والسنن بالوقائع أي قد مضت من قبل زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة أي وضعها طريقة يسلكها على وفق الحكمة فالمراد بسنن الله تعالى معاملات الله في الأمم بالهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى : {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} {فَسِيرُوا فِى الأرْضِ} أي إن شككتم
97
في ذلك سيروا وليس المراد الأمر بالمسافرة في الأرض بسير الإقدام لا محالة بل المقصود تعرف أحوالهم فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ولعل اختيار لفظ سيروا مبني على أن أثر المشاهدة أقوى من أثر السماع كما قيل ليس الخبر كالمعاينة وفي هذا المعنى قيل :
إن آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
{فَانظُرُوا} بنظر العين والمشاهدة {كَيْفَ} خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار {كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} رسلي وأوليائي.
(2/79)
{هَـاذَآ} إشارة إلى ما سلف من قوله قد خلت الخ {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} وهم المكذبون أي إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر بالسير والنظر وإن كان خاصاً بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين أيضاً على أن ينظروا إلى عواقب ما قبلهم من أهل التكذيب ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارهم وإن لم يكن الكلام مسوقاً لهم والبيان هو الدلالة على الحق في أي معنى كان بإزالة ما فيه من الشبهة {وَهَدَى} أي زيادة بصيرة وهو مختص بالدلالة والإرشاد إلى طريق الدين القويم والصراط المستقيم ليتدين به ويسلك {وَمَوْعِظَةً} وهو الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في الدين {لِّلْمُتَّقِينَ} أي لكم والإظهار للإيذان بعلة الحكم فإن مدار كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 97
واعلم أن الأمم الماضية خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلّم المصدقين في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإنابة والإعراض عن الإغترار بالحظوظ الفانية واللذات المقتضية فإن الدنيا لا تبقى مع المؤمن ولا مع الكافر فالمؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى والكافر بخلافه فاللائق أن يجتهد فيما هو خير وأبقى ولا ينظر إلى زخارف الدنيا.
ثم في هذا تسلية للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد فإن الكفار وإن نالوا من المؤمنين بعض النيل لحكمة اقتضته فالعاقبة للمؤمنين قال تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الصافات : 171 ـ 172 ـ 173) و{أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ} (الأنبياء : 105) ولو كانت الغلبة كل مرة للمؤمنين لصار الإيمان ضرورياً وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية.
فعلى العاقل أن يفوض الأمر إلى الله ويعتبر بعين البصيرة في الأمور الخفية والجلية وقد قال الله تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يا اأُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2).
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ندكير از مصائب دكران
تانكيرند ديكران زتو ند
والخوف من العاقبة من الصفات السنية للصلحاء.
ـ روي ـ أنه يعذب الرجل في النار ألف سنة ثم يخرج منها إلى الجنة قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : يا ليتني كنت ذلك الرجل وإنما قال الحسن ذلك لأنه يخاف عاقبة أمره وهكذا كان الصالحون يخافون عاقبة أمرهم وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر أن يقول : "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
98
طاعتك" قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إنك لتكثر القول بهذا الدعاء فهل تخشى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا أراد أن يقلب قلباً قلبه".
قال السري إني لأنظر في المرآة كل يوم مراراً مخافة أن يكون قد اسود وجهي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 97
(2/80)
والإشارة في الآيتين أن الله خص السائرين إلى الله بالمهاجرة عن الأوطان والمسافرة إلى البلدان بمفارقة الخلان والأخدان ومصاحبة الإخوان غير الخوّان ليعتبروا من سنن أهل السنن فقال تعالى : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي أمم لهم سنن {فَسِيرُوا} على سنن أهل السنة {فِى الأرْضِ} في أرض نفوسكم الحيوانية بالعبور عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية وتتخلقوا بالأخلاق الربانية {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي كيف صار حاصل أمر النفوس الكذبة بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية عند الوصول إليها {هَـاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي لأهل الغفلة والغيبة الناسين عهد الميثاق {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} أي وعيان لأهل الهداية والشهود الذاكرين للعهود الذين اتعظوا بالتجارب والتقوى عما سوى الله تعالى.
قال بعض العلماء : يا مغرور امسك وقس يومك بامسك واتعظ بمن مضى من أبناء جنسك فإنك بك قد خللت في رمسك أين من أسخط مولاه بنيل ما يهواه أين من أفنى عمره في خطاياه فتذكر أنت أيها الغافل مصارعهم وانظر مواضعهم هل نفعهم رفيق رافقوه أو منعهم أما خلوا بخلالهم أما انفردوا بأعمالهم فستصير في مصيرهم فتدبر أمرك وستسكن في مثل مساكنهم فاعمر قبرك يا مسروراً بمنزله الرحب الأنيق ستفارقه يا مشمئزاً من التراب ستعانقه اعتبر بمن سبقك فأنت لاحقه واذكر العهد الأزلي فزك نفسك حياء من الله لعلك تصل إلى ما تهواه من جنات وعيون ومقام كريم ووصال إلى رب رحيم قال تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا} (الكهف : 110) فما ذا يقعدك عن رفقة الصالحين وهل ترضى لنفسك يا مسكين أن تقف في مقام الجهال المعتدين أما علمت أنك غداً تدان كما تدين أصلح الله أحوالنا وصحح أقوالنا وأفعالنا وأعطانا آمالنا وختمنا بالخير إذا بلغنا آجالنا.
{وَلا تَهِنُوا} من الوهن وهو الضعف أي لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم من الجراح يوم أحد {وَلا تَحْزَنُوا} على من قتل منكم وهي صيغة نهى ورد للتسكين والتصبير لا النهي عن الحزن {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} أي والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم في أحوال أسلافهم لأن الباطل يكون زهوقا وأصله أعليون فكرهوا الجمع بين أخت الكسرة والضمة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} والجواب محذوف دل عليه المذكور أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه ولا يتعلق بالنهي المذكور لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط لكونهما كالكلمة الواحدة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 97
{إِن يَمْسَسْكُمْ} أي يصبكم {قَرْحٌ} فتحاً وضماً أي جراحة {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ} أي الكفار ببدر {قَرْحٌ مِّثْلُهُ} قيل قتل المسلمون من الكافرين ببدر سبعين وأسروا سبعين وقتل الكافرون من المسلمين بأحد سبعين وأسروا سبعين والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم
99
ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون {وَتِلْكَ الايَّامُ} إشارة إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية كافة لا إلى المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم أحد بل هي داخلة فيها دخولاً أولياً والمراد بها أوقات الظفر والغلبة {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ونصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال :
فيوماً علينا ويوماً لنا
ويوماً نساء ويوماً نسرّ
جزء : 2 رقم الصفحة : 99
(2/81)
والمداولة نقل الشيء من واحد إلى واحد وقالوا تداولته الأيدي أي تناقلته وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصره تعالى منصب شريف فلا يليق بالكافر بل المراد أنه تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين وأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الضروري والاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله ولأن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون إما تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له وإما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} عطف على علة محذوفة أي تداولها بينكم ليكون من المصالح كيت وكيت وليعلم الله إيذاناً بأن العلة فيما فعل غير واحدة وإنما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم وهو إما من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم أو العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم أو هو على حقيقة معتبرة من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث أنه موجود بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث أنه موجود بالقوة فالمعنى ليعلم الله الذين آمنوا علماً يتعلق به الجزاء {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} جمع شهيد أي ويكرم ناساً منكم بالشهادة وهم شهداء أحد {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} ونفي المحبة كناية عن البغض أي يبغض الذين يضمرون خلاف ما يظهرون أو الكافرين وهو اعتراض.
وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} عطف على يتخذ أي ليصفيهم ويطهرهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم {وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ} ويهلكهم إن كانت عليهم.
والمحق نقص الشيء قليلاً قليلاً والمراد بهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد وأصروا على الكفر وقد محقهم الله عز وجل جميعاً.
قال القاشاني : ومن فوائد الابتلاء خروج ما في استعداداتهم من الكمالات إلى الفعل كالصبر والشجاعة وقوة اليقين وقلة المبالاة بالنفس واستيلاء القلب عليها والتسليم لأمر الله وأمثالها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 99
قال نجم الذين الكبرى {وَلا تَهِنُوا} يا سائرين إلى الله في السير إليه {وَلا تَحْزَنُوا} علي ما فاتكم من التنعمات الدنيوية والكرامات الأخروية {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} من أهل الدنيا والآخرة في المقام عند ربكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مصدقين
100
بهذه الأخبار تصديق الائتمار به {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} في أثناء السير من المجاهدات وأنواع البلاء والابتلاء {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ} من الأنبياء والأولياء {قَرْحٌ} من المحن {مِّثْلُه وَتِلْكَ الايَّامُ} وأيام المحن والبلاء والابتلاء والامتحان {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} بين السائرين يوماً نعمة ويوماً نقمة ويوماً منحة ويوماً محنة {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} وليختبرهم الله بالامتحان ويجعلهم مستعدين لمقام الشهادة {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} يا مبتلين بالنعمة والنقمة في أثناء السير أرباب الشهود والمشاهدة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} الذين يصرفون استعدادهم في طلب غير الحق والسير إليه {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ} يعني أن كل غم وهم ومصيبة تصيب المؤمنين في الله يكون تكفيراً لذنوبهم وتطهيراً لقلوبهم وتخليصاً لأرواحهم وتمحيصاً لأسرارهم وما يصيب الكافرين من نعمة ودولة وحبور يكون سبباً لكفرانهم ومزيداً لطغيانهم وعمى لقلوبهم وتمردا لنفوسهم ومحقاً لأرواحهم وسحقاً لأسرارهم فأهل المحبة والمعرفة لا يخلون عن الابتلاء بقلة أو ذلة أو علة فإن مقتضى الحكمة ذلك ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : "أشد البلاء على الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل".
(2/82)
ـ حكي ـ أن عيسى عليه السلام اجتاز جبلاً فيه عابد يعبد الله عند عين من ماء لطهارته وشربه وبستان ينبت له الهندباء لقوته فسلم عليه المسيح فرد السلام عليه فقال له : منذ كم أنت ههنا تعبد الله؟ قال : منذ ثمانين سنة أسأل حاجة من الله فلم يقضها لي فقال عيسى : وما هي؟ قال : أن يسكن قلبي ذرة من معرفته ومحبته فلا يفعل وأنت نبيه فسل لي هذه الحاجة فتوضأ عيسى من العين وصلى ركعتين وسأل حاجته ثم مضى وبقي ما بقي في سفره فلما رجع إلى ذلك المكان رآه خالياً والعين غائرة والبستان خراب فقال : يا رب سألتك له المعرفة والمحبة قبضت روحه فأوحى الله إليه يا عيسى أما علمت أن خراب الدنيا في محبتي ومعرفتي ومن عرفني وأحبني لا يسكن إلا إليّ ولا يقر قراراً فإن أحببت أن تراه فاشرف عليه في هذا الوادي فأشرف عليه فإذا هو جالس قد ذهل وتحير وخرج لسانه على صدره شاخصاً ببصره نحو السماء فناداه عيسى والعابد لا يسمع فناداه وحركه فلم يشعر فأوحى الله إلى عيسى فوعزتي وجلالي لو قطعته بالسيف ما شعر به لأني أسكنت قلبه معرفتي ومحبتي وهو أقل من ذرة ولو زدته أدنى شيء لطار بين السماء والأرض وطاش فانظر إلى أهل الله كيف تكون دنياهم خراباً لا يخلون من البلايا فاجتهد أنت أيضاً أيها العبد في تصحيح الدين لعلك تصل إلى مقام اليقين والتمكين والمجاهدة تورث المشاهدة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 99
و يوسف كسى در صلاح وتميز
بسى سال بايدكه كردد عزيز
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أم منقطعة والهمزة للإنكار والاستبعاد والحسبان الظن والخطاب للذين انهزموا يوم أحد أي بل أظننتم {أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} وتفوزوا بنعيمها {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ} حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر بغير عمل بعيد ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول وعدم العلم كناية عن عدم المعلوم أي لما تجاهدوا لأن وقوع الشيء يستلزم كونه معلوماًونفى اللازم يستلزم نفي الملزوم فنزل نفي العلم منزلة نفي الجهاد للتأكيد والمبالغة لأن انتفاء اللازم برهان على انتفاء الملزوم وفيه إشعار بأن علمه بالأشياء على
101
ما هي عليه ضروري يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيراً يريد ما فيه خير حتى يعلمه ولما بمعنى لم إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل تقول وعدني أن يفعل كذا ولما يفعل أي لم يفعل وأنا أتوقع فعله {وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر على الشدائد أي الجمع بينهما فلا ينبغي أن تحسبوا دخولها كما دخل الذين قتلوا وبذلوا مهجتهم وثبتوا على ألم الجراح والضرب من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم ومن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع عدم أعمال هذه الطاعة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 99
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أي الحرب فإنها من مبادي الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مشهداً لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخروج ثم ظهر منهم خلاف ذلك {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} أي من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي ما تتمنونه من أسباب الموت أو الموت بمشاهدة أسبابه {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا فلم فعلتم ما فعلتم وهو توبيخ لهم على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة بناء على أن في تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم لأن قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء من غير أن يخطر بباله شيء غير ذلك فلا يستحق العتاب من تلك الجهة كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني يقصد إلى حصول المأمول من الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة وإحساناً إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته.
(2/83)
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا وسعادة الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله وهذان الأمران مما لا يجتمعان فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما.
وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى فليس كل من أقر بدين الله كان صادقاً ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحرمات فإن الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء فإن بقي الحب عند تسلط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحق كان حقيقياً فلهذه الحكمة قال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة.
قال القشيري رحمه الله : من ظن أنه يصل إلى محل عظيم دون مقاساة الشدائد ألقته أمانيه في مهواة الهلاك وأن من عرف قدر مطلوبه سهل عليه بذل مجهوده قال الشاعر :
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
وما جاد دهر بلذاته
على من يضن بخلع العذار فالدولة العظمى هي سعادة الآخرة فإنها باقية ودولة الدنيا فانية كما قيل :
جهان مثال راغيست در كذركه باد
غلام همت آنم كه دل بروننهاد
وسئل الشبلي عن نعت العارف فقال : لسانه بذكر الله ناطق وقلبه بحجة الله صادق وسره بوعد الله واثق وروحه إلى سبيل الله سابق وهو أبداً على الله عاشق فلا بد لأن يكون المرء
102
من العارفين من ترك الدعوى والإقبال إلى المولى وبذل الروح في طريقه.
ـ حكي ـ عن حاتم الأصم أنه قال : لقينا الترك وكان بيننا صولة فرماني تركي بوهق فأقبلني عن فرسي ونزل عن دابته وقعد على صدري وأخذ بلحيتي هذه الوافرة وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني قال : فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه وأنا ساكت متحير أقول سيدي أسلمت نفسي إليك إن قضيت على أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين أما أنا لك وملكك فبينا أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط عني فقمت أنا إليه فأخذت السكين من يده فذبحته بها فيا هؤلاء لتكن قلوبكم عند السيد حتى ترون من عجائب لطفه ما لا ترون من الآباء والأمهات واعلموا أن من صبر واستسلم ظفر ومن فرّ اتبع فلم يتخلص ونعم العون الصبر عند الشدائد :
تحمل و زهرت نمايد نخست
ولي شهد كردد و در طبع رست
زعلت مدار أي خردمند بيم
و داروي تلخت فرستد حكم
ثبتنا الله وإياكم.
{وَمَا مُحَمَّدٌ} هو المستغرق لجميع المحامد لأن الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمد في الكمال وأكرم الله نبيه وصفيه بإسمين مشتقين من اسمه جل جلاله محمد وأحمد {إِلا رَسُولٌ} .
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما خرج إلى الشعب من أحد في سبعمائة رجل جعل عبد الله بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين راجلاً وقال : "أقيموا بأصل الجبل وادفعوا عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا ولا تنتقلوا من مكانكم حتى أرسل إليكم فلا نزال غالبين ما دمتم في مكانكم" فجاء المشركون ودخلوا في الحرب مع النبي عليه السلام وأصحابه حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفاً وقال : "من يأخذه بحقه" فأخذه أبو دجانة فقاتل في نفر من المسلمين قتالاً شديداً وقاتل علي بن أبي طالب حتى التوى سيفه وقاتل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان النبي عليه السلام يقول لسعد "ارم فداك أبي وأمي" فحمل هو وأصحابه على المشركين فأنزل الله نصره عليهم فهزموا المشركين فلما نظر الرماة إلى قوم هاربين أقبلوا على النهب بترك مركزهم فقال لهم عبد الله بن جبير : لا تبرحوا مكانكم فقد عهد إليكم نبيكم فلم يلتفتوا إلى قوله فجاءوا لأجل الغنيمة فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقي من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين فهزموهم ورمي ابن قميئة النبي عليه السلام بحجر فكسر رباعيته وشجه وفيه يقول حسان بن ثابت :
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
ألم تر أن الله أرسل عبده
ببرهانه والله أعلى وأمجد
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد وتفرق عنه أصحابه وحمل ابن قميئة لقتل النبي عليه السلام فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية يومئذٍ فقتله ابن قميئة ورجع فظن أنه كان قتل النبي عليه السلام فقال : قتلت محمداً وصرخ صارخ ألا أن محمداً قد قتل وكان ذلك إبليس فرجع أصحابه منهزمين متحيرين فأقبل أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وطلحة بن عبد الله في رجال
103
(2/84)
من المهاجرين والأنصار فقال لهم ما يحبسكم قالوا : قتل محمد صلى الله عليه وسلّم فقال ما تصنعون في الحياة بعده موتوا كراماً على ما مات عليه نبيكم ثم أقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل قال كعب بن مالك أنا أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المسلمين رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران ينادي بأعلى صوته "إليّ عباد الله إليّ عباد الله" فاجتمعوا إليه فلامهم رسول الله على هزيمتهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا له فولينا مدبرين فوبخهم الله تعالى بقوله : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ} كسائر الرسل {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فسيخلوا كما خلوا وكما أن اتباعهم بقوا متمكسين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعثة الرسول الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن} إنكار لارتدادهم وانقلابهم عن الدين بخلوه عليه السلام بموت أو قتل بعد علمهم بخلوا الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} بإدباره عما كان يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمر الجهاد وغيره {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ} بما فعل من الإنقلاب {شَيْـاًا} أي شيئاً من الضرر وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب والله منزه عن النفع والضرر {وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ} أي الثابتين على دين الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف سموا بذلك لأن الثبات عليه شكر له وإيفاء لحقه وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين.
ولما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش ومنهم من أقعد فلم يطق القيام ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام ومنهم من أنكر موته بالكلية حتى غفل عمر رضي الله عنه عن هذه الآية الكريمة عند وفاته صلى الله عليه وسلّم وقام في الناس فقال : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنه عليه السلام توفي إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولأقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمونه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مات ولم يزل يكرر ذلك إلى أن قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ} قال الراوي : والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فاستيقن الناس كلهم بموته صلى الله عليه وسلّم وكانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول فكيف بقلوب المؤمنين ولما فقده الجذع الذي يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن عند بكائه وقال : "لو لم أعتنقه لحن إلى يوم القيامة" ما أمرّ عيش من فارق الأحباب خصوصاً من كانت رؤيته حياة الألباب ولما ثقل النبي عليه السلام جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة رضي الله عنها واكرب أبتاه فقال لها : "ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه فلما دفن قالت فاطمة يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على نبيكم التراب" وعاشت فاطمة بعد موته صلى الله عليه وسلّم ستة أشهر ثم ماتت.
104
جهان اي برادر نماند بكس
دل اندر جهان آفرين بندوبس
فعلى العاقل أن يتدارك حاله قبل منيته حتى لا يفتضح عند رؤوس الخلائق يوم القيامة وكيف لا يسارع إلى الأعمال الصالحة من يعلم أن يوم القيامة يوم يفزع فيه الأنبياء والأولياء.
دران روز كز فعل رسند وقول
أولو العزم راتن بلرزد زهول
بجايى كه وحشت خورد انبيا
توعذر كنه را ه داري بيا
يعني بأي عذر ترتكب الآثام ولا تبالي بحالك ثم إن الخلاص والفوز بالمرام في الإيمان التحقيقي.
قال الشيخ نجم الدين الكبرى : الإشارة في الآية أن الإيمان التقليدي لا اعتبار له فينقلب المقلد عن إيمانه عند عدم المقلد به فمن كان إيمانه بتقليد الوالدين أو الأستاذ أو أهل البلد ولما يدخل الإيمان في قلبه ولم ينشرح صدره بنور الإسلام فعند انقطاعه بالموت عن هذه الأسباب المقلدة يعجز عن جواب سؤال الملكين في قولهما من ربك فيقول هاه لا أدري وإذ يقولان ما تقول في هذا الرجل فيقول هاه لا أدري كنت أقول فيه ما قال الناس فيقولان له لا دريت ولا تليت :
زدانند كان بشنو امروز قول
كه فردا نكيرت برسد بهول
غنيمت شمار اين كرامي نفس
كه بيمرغ قيمت ندارد قفس
(2/85)
يعني البدن ليس له قدر بدون الروح فلا بد أن يغنم العاقل أنفاسه قبل أن يخرج الروح من قفصه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} استثناء مفرغ من أعم الأسباب أي وما كان الموت حاصلاً لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى أو إلا بإذنه لملك الموت في قبض روحها والمعنى أن لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون بالإحجام عن القتال والإقدام عليه.
وفيه تحريض وتشجيع على القتال ووعد الرسول بالحفظ وتأخير الأجل ورد على المنافقين قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فالمجاهد لا يموت بغير أجله والمتخلف عنه لا يسلم مع حضور أجله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
بروز أجل نيزه جوشن درد
ز يراهن بي أجل نكذرد
{كِتَـابًا} مصدر مؤكد لما قبله إذ المعنى كتب الموت كتاباً {مُّؤَجَّلا} موقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعة وبعد تحقيق أن مدار الموت والحياة على محض مشيئة الله من غير أن يكون فيه مدخل لأحد أصلاً أشير إلى أن توفية ثمرات الأعمال دائرة على إرادتهم ليصرفوها عن الأعراض الدنية إلى المطالب السنية فقيل : {وَمَن يُرِدِ} أي بعمله {ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا} أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيه إياه.
وفيه تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخِرَةِ نُؤْتِه مِنْهَا} أي من ثوابها ما نشاء من الأصناف حسبما جرى به الوعد الكريم {وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ} نعمة الإسلام الثابتين عليه الصارفين ما آتاهم الله من القوى والقدر إلى ما خلقت هي لأجله من طاعة الله لا يلويهم عن ذلك صارف أصلاً.
ويدخل في جنس الشاكرين المجاهدين المعهودون من الشهداء في أحد وغيرهم والآية وإن وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في طلب الثواب والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال فإن من وضع الجبهة على الأرض
105
في صلاة الظهر والشمس قدامه فإن قصد بذلك السجود عبادة الله كان ذلك من أشرف دعائم الإسلام وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر.
وروى أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام "أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمن قتل في سبيل الله فيماذا قتلت؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار" فالمقاتل في سبيل الله تحقيقاً هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للذكر الجميل وإراءة المكان وإصابة الغنيمة.
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا درتواني فروخت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه شمله ولا يأتيه منها إلا ما كتب له" وقال أيضاً : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" فمن عمل شوقاً إلى الجنة فقد رأى نعمة الجنة فثوابه في الآخرة ومن عمل شوقاً إلى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم فثوابه في الدنيا لأنه حاضر لا غيبة له قريب لا يبعد وهو معكم أينما كنتم وقال : "ألا من طلبني وجدني ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً".
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
خليليّ هل أبصرتما أو سمعتما
باكرم من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائراً من غير وعد وقال لي
أجلك عن تعذيب قلبك بالوعد فعلى السالك أن يهاجر إلى الله ويجاهد من غير أن يخاف لومة لائمة حتى يصل إلى الله ويتخلص من الإضطرار.
قال القاشاني في تأويلاته : من كان موقناً لسر القدر شاهداً لمعنى قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} كان من أشجع الناس.
ـ حكي ـ عن حاتم الأصم أنه شهد مع شقيق البلخي بعض غزوات خراسان قال : فلقيني شقيق وقد حمي الحرب فقال : كيف تجد قلبك يا حاتم قلت : كليلة الزفاف لا أفرق بين الحالتين فوضع سلاحه وقال : أما أنا فهكذا ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى سمع غطيطه وهذا غاية في سكون القلب إلى الله تعالى ووثوقه به انتهى فإذا صحح العبد باطنه يسهل الله عليه كل عسير ويسخر له كل ما يخاف منه.
ـ حكي ـ عن إبراهيم الرقي أنه قال : قصدت أبا الخير الخراساني مسلماً عليه فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع فعدت إليه وقلت : إن الأسد قصدني فخرج وصاح على الأسد وقال : ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي فتنحى فتطهرت فلما رجعت قال : اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.
أوليا محبوب الله است دان
(2/86)
كس نيازارد حبيبش درجهان
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
خليليّ هل أبصرتما أو سمعتما
باكرم من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائراً من غير وعد وقال لي
أجلك عن تعذيب قلبك بالوعد فعلى السالك أن يهاجر إلى الله ويجاهد من غير أن يخاف لومة لائمة حتى يصل إلى الله ويتخلص من الإضطرار.
قال القاشاني في تأويلاته : من كان موقناً لسر القدر شاهداً لمعنى قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} كان من أشجع الناس.
ـ حكي ـ عن حاتم الأصم أنه شهد مع شقيق البلخي بعض غزوات خراسان قال : فلقيني شقيق وقد حمي الحرب فقال : كيف تجد قلبك يا حاتم قلت : كليلة الزفاف لا أفرق بين الحالتين فوضع سلاحه وقال : أما أنا فهكذا ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى سمع غطيطه وهذا غاية في سكون القلب إلى الله تعالى ووثوقه به انتهى فإذا صحح العبد باطنه يسهل الله عليه كل عسير ويسخر له كل ما يخاف منه.
ـ حكي ـ عن إبراهيم الرقي أنه قال : قصدت أبا الخير الخراساني مسلماً عليه فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع فعدت إليه وقلت : إن الأسد قصدني فخرج وصاح على الأسد وقال : ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي فتنحى فتطهرت فلما رجعت قال : اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.
أوليا محبوب الله است دان
كس نيازارد حبيبش درجهان
جزء : 2 رقم الصفحة : 102
{وَكَأَيِّن} أصله : أي دخلت الكاف عليها فحدث فيها معنى التكثير فهي بمعنى كم الخبرية {مِّن نَّبِىٍّ} تمييز لها والغالب في تمييزها أن يكون مجروراً بمن ولم يجىء في التنزيل إلا كذا
106
وجره ممتنع لأن آخره تنوين وهو لا يثبت مع الإضافة {قَـاتَلَ مَعَه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} خبر لقوله : كأين لأنها مبتدأ والفعل مسند إلى ظاهره.
والربى منسوب إلى الرب كالرباني وكسر الراء من تغييرات النسب فإن العرب إذا نسبت شيئاً إلى شيء غيرت كما قالوا بصري في النسبة إلى بصرة أو منسوب إلى الربة وهي الجماعة والمعنى كثير من الأنبياء قاتل معه لاعلاء كلمة الله وإعزاز دينه علماء أتقياء أو جماعات كثيرة {فَمَا وَهَنُوا} عطف على قاتل أي فما فتروا وما انكسرت همتهم {لِمَآ أَصَابَهُمْ} في أثناء القتال وهو علة للمنفي دون النفي {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} إن جعل الضميران لجميع الربيين فما في ما أصابهم عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره اللاحقة للكل وإن جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون فهي عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانهم والخوف والحزن وغير ذلك {وَمَا ضَعُفُوا} عن العدو أو الجهاد أو في الدين أي وما خضعوا للعدو.
وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والألف لإشباع الفتحة.
أو استكون من الكون لأنه يطلب أن يكون لم يخضع له وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والإنكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والإرجاف بقتل النبي عليه السلام وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي المنافق في طلب الأمان من أبي سفيان {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ} أي على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيل الله فينصرهم ويعظم قدرهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 106
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى : {إِلا أَن قَالُوا} والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان قولاً لهم عند لقاء العدو واقتحام مضايق الحرب وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شيء من الأشياء إلا أن قالوا {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي صغائرنا {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} أي تجاوزنا الحد في ارتكاب الكبائر أضافوا الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برآء من التفريط في جنب الله هضماً لها واستقصاراً لهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي في مواطن الحرب بالتقوى والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} تقريباً له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب ومراصد الدين.
وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.
(2/87)
{فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ} بسبب دعائهم ذلك {ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي النصر والغنيمة والعز والذكر الجميل {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخِرَةِ} أي وثواب آخرة الحسن وهي الجنة والنعيم المخلد وتخصيص وصف الحسن به للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ومحبة الله للعبد عبارة عن رضاه عنه وإرادة الخير به فهي مبدأ لكل سعادة.
والإشارة أن الله تعالى لما زاد لخواص عباده كرامة التخلق بأخلاقه ابتلاهم بقتال العدو وثبتهم عند الملاقاة فاستخرج من معادن ذواتهم جواهر صفاته المكنونة فيها المكرمة بها بنوا آدم والصبر والإحسان من صفات الله والله تعالى يحب من تخلق بصفاته ولهذا قال :
107
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ} (آل عمران : 146) {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران : 134).
قال الإمام في قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فيه لطيفة دقيقة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأنه تعالى يقول لهم : إذا عرفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيباً لنفسي حتى يعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز :
جزء : 2 رقم الصفحة : 106
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه ون نفس ناطق ز كفتن بخفت
تويش ازعقوبت درعفو كوب
كه سودى ندارد فغان زير وب
ـ حكي ـ أن آصف بن برخيا أذنب ذنباً يوماً من الأيام فأتى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فقال له : ادع الله أن يغفر لي فدعا فغفر له ثم فعل ثانياً فغفر له بدعائه ثانياً ثم وثم إلى أن أوحى الله إلى سليمان عليه السلام أن لا أجيب دعوتك في حقه إن عاد بعد فلم يمكث أن فعل مرة أخرى فجاء إلى سليمان عليه السلام لكي يدعو فأخبره بأن الله لا يغفر له فرفع الرجل فرفع الرجل العصا وخرج إلى الصحراء وضرب العصا إلى الأرض ورفع يده وقال : يا رب أنت أنت وأنا أنا أنت العائد بالمغفرة وأنا العائد بالمعصية أنا الضعيف المجرم وأنت الغفور الرحيم إن لم تعصمني من الذنوب فلأعودن ثم لأعودن كررها حتى غشي عليه فأوحى الله إلى سليمان عليه السلام أن قل لابن خالتك إن عدت فأغفر لك ثم أغفر لك ثم أغفر لك وأنا الغفار.
كنونت كه شمست اشكى ببار
زبان دردهانست عذري بيار
فراشو وبيني در صلح باز
كه ناكه درتوبه كردد فراز
مرو زير باركنه اي سر
كه حمال عاجز بوددر سفر
فلا يغرنك الشيطان بتزيين الدنيا عليك فإنك تعلم فناءها.
وأوحى الله إلى داود عليه السلام (إني منزلك وذريتك إلى دار بنيتها على أربعة أركان : أحدها أن أخرب ما تعمرون.
والثاني أن أقطع ما تصلون.
والثالث أن أميت ما تلدون.
والرابع أن أفرق ما تجمعون) ومن الله العصمة والتوفيق إلى سواء الطريق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 106
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان نبياً لما غلب وقتل فقال تعالى : يا أيها المؤمنون {إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم المنافقون وصفوا بالكفر قصداً إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير من طاعتهم {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ} يدخلوكم في دينهم أضاف الرد إليهم لدعائهم إليه والارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور {فَتَنقَلِبُوا خَـاسِرِينَ} كرامة الدنيا وسعادة الآخرة أما الأولى فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة إليه وأما الثانية فلأنه يحرم من الثواب المؤيد ويقع في العذاب المخلذ.
{بَلِ اللَّهُ مَوْلَـاـاـكُمْ} أي ليسوا أنصاركم حتى تطيعوهم بل الله ناصركم لا غيره فأطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم {وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ} فخصوه بالطاعة والاستعانة.
{سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وهو ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ولهم القوة والغلبة.
والرعب خوف يملأ القلب {بِمَآ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} أي بسبب إشراكهم به تعالى فإنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين
108
(2/88)
عليهم {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أبي بإشراكه {سُلْطَـانًا} أي حجة وبرهاناً وما مفعول بوقوع أشركوا عليه أي آلهة ليس على إشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطاناً وأصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته وسلطان المدعى حجته وبها يقوي على دفع المبطل.
وفيه إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة {وَمَأْوَاهُمُ} أي ما يأوون إليه في الآخرة {النَّارِ} لا ملجأ لهم غيرها {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ} والمخصوص بالذم محذوف أي النار وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم نوع رمز إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث وأما المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
والإشارة أن الله تعالى هو الذي يلقي الرعب والأمن والرغبة والرهبة وغير ذلك في قلوب العباد كما قال عليه السلام : "قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء" وقال : "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمة إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" فعلى العبد أن يتضرع إلى الله ويسأل منه الغلبة على النفوس الكافرة خصوصاً النفس الأمارة فإنه إن اتبع هواها وأطاعها في مشتهاها ترده إلى أسفل سافلين البشرية فينقلب خاسراً.
نمى تازد اين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرقتن عنان
كه بانفس وشيطان بر آيد بزور
مصاف لنكان نيايد زمور
قال الشيخ أبو علي الروذبادي قدس سره : دخلت الآفة من ثلاثة : سقم الطبيعة ، وملازمة العادة ، وفساد الصحبة.
فقيل له ما سقم الطبيعة؟ قال : أكل الحرام.
فقيل : وما ملازمة العادة؟ قال : النظر والاستماع بالحرام والغيبة.
فقيل : فما فساد الصحبة؟ قال : كلما هاج في النفس شهوة تتبعها ومن لم يصحبه في هذا الباب توفيق من ربه كان متروكاً في ظلمة نفسه ألا ترى إلى قوله تعالى : {بَلِ اللَّهُ مَوْلَـاـاـكُمْ} أي يخرجكم من ظلمات البشرية إلى أنوار الربوبية فمن اتبع هواه وجعله مولى لنفسه فكيف يصاحبه الخروج من الظلمات وإنما سببه أن ينقطع العبد إلى مولاه الحقيقي ولا يعبد إلا إياه.
ـ حكي ـ عن الأصمعي أنه قال : إن فتى جميلاً خرج في سفر له فوقع في فلاة من الأرض وصاحبته امرأة فعشقته فقالت : أيها الفتى هل تحسن شيئاً من الشعر؟ قال : نعم قالت : قل فأنشد :
ولست من النساء ولسن مني
ولا أبغي الفجور إلى الممات
فلا لا تطمعي فيما لدينا
ولو قد طال سير في الفلاة
فإن الله يبصر فوق عرش
ويغضب للفعال الموبقات قالت : دعنا من شعرك هل تقرأ شيئاً من القرآن؟ قال : نعم قالت : قل فقرأ قول الله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ} (النور : 2) قالت دعني من قراءتك هذه فرجعت وهي خائبة فانظر إلى حال الفتى وتوقيه عن شهوته كيف صبر عن المعصية والله يحب الصابرين (جوان ست مي بايدكه از شهوت برهيكه يرسست رغبت را خود آلت برنمي خيزد) ولذلك قال بعض المشايخ : من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة وذلك لأن الزهد بعد الأربعين بارد لا يثمر نفعاً كثيراً ولا يغرنك هذا الخبر ويحملك على
109
التكاسل فإن المرء لا يصل إلى حيث يسقط عنه الأمر والنهي والغرض هو العبادة إلى أن يأتي اليقين فالشبان والشيوخ في باب التكليف متساوون وربما يتدارك في الشيخوخة ما لا يتدارك في الشاب ، قال الحافظ الشيرازي :
اي دل شباب رفت ونيدي كلى زعمر
يرانه سربكن هنرى ننك ونام را
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
(2/89)
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} نصب على أنه مفعول ثان لصدق صريحاً أو بنزع الجار أي في وعده.
نزلت حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم إلى المدينة : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله بالنصر؟ وهو ما وعدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم من النصر حيث قال للرماة لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربون بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً وذلك قوله تعالى : {إِذْ تَحُسُّونَهُم} أي تقتلونهم قتلاً كثيراً فاشياً من حسه إذا أبطل حسه وذلك يكون بالقتل وهو ظرف لصدقكم {بِإِذْنِهِ} ملتبسين بمشيئته وتيسيره وتوفيقه حال من فاعل تحسونهم {حَتَّى} ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية {إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبنتم وضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف القلب {وَتَنَـازَعْتُمْ فِى الامْرِ} أي في أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً : فما موقفنا هذا؟ وقال رئيسهم عبد الله بن جبير : لا نخالف أمر الرسول عليه الصلاة والسلام فثبت مكانه في نفر دون العشرة من أصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى : {وَعَصَيْتُم مِّنا بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} أي من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا أمير الرماة ومن معه من أصحابه وقد سبق وقيد العصيان بما بعده تنبيهاً على عظم المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية وجواب إذا محذوف وهو منعكم نصره
جزء : 2 رقم الصفحة : 110
{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب قال ابن مسعود رضي الله عنه ما علمت أن أحداً منا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخِرَةَ} وهم الذي ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} عطف على الجواب المحذوف كما أشير إليه أي ردكم عن الكفار وكفكم بالهزيمة بعد أن أظفركم عليهم فحالت الريح دبوراً بعدما كانت صبا {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يعاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الإيمان عندها {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} تفضلاً أو لما علم من ندمكم على المخالفة {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضاً رحمة بحسب اقتضاء أحوالهم ذلك.
{إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بصرفكم.
والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض {وَلا تَلْوُانَ عَلَى أَحَدٍ} أي : لا تلتفتون إلى ما وراءكم ولا يقف واحد منكم لواحد {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} كان صلى الله عليه وسلّم يدعوهم إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة أمراً
110
بالمعروف ونهياً عن المنكر وهو الانهزام وترك قتال الكفار لا استعانة بهم {فِى أُخْرَاـاكُمْ} في ساقتكم وجماعتكم الأخرى والمعنى أنه عليه السلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه {فَأَثَـابَكُمْ} عطف على صرفكم أي فجازاكم الله بما صنعتم {غَمَّا} موصولاً {بِغَمٍّ} من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعصيانكم له {لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَآ أَصَـابَكُمْ} أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد وتعتادوا تجرع الغموم فلا تحزنوا على نفع فات أو ضرّ آت {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 110
واعلم أن الصبر واليقين والتوكل على الله والاتقاء عن ميل الدنيا وزخارفها ومخالفة الرسول مستلزم لامداد النصر والظفر والفشل والتنازع والميل إلى الدنيا وعصيان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موجب للابتلاء والصرف عن العدو فمن أراد النصرة على الأعداء الظاهرة والباطنة لا يسلك طريقاً غير ما عينه الشارع ويرضى بالابتلاء ولا يغتم لآخرته بل يجد غم طلب الحق ألذ من نعيم الدنيا والآخرة ويصبر على مقاساة الشدائد في باب الدين.
صبر آرد آرزوراني شتاب
صبركن والله أعلم بالصواب
قال ذو النون قدس سره العزيز : أن أدنى منازل المريد أن الله تعالى لو أدخله النار وأحاط به عذابه مع هذه الإرادة لم يزدد قلبه إلا حباً له وأنساً به وشوقاً إليه وكانت الجنة عنده أصغر في جنب إرادته من خردلة بين السماء والأرض فعلى السالك أن يذيق نفسه مرارة الطاعة ويدخلها في باب التسليم ليكون عند الله مما له قدر وسبق.
(2/90)
ـ حكي ـ عن علي كرم الله وجهه أنه قال : قلت لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبي بكر الصديق رضي الله عنه يا خليفة رسول الله بم بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا سبقاً فقال : بخمسة أشياء : أولها وجدت الناس صنفين مريد الدنيا ومريد العقبى فكنت أنا مريد المولى.
والثاني مذ دخلت في الإسلام ما شبعت من طعام الدنيا لأن لذة معرفة الله شغلتني عن لذائذ طعام الدنيا.
والثالث مذ دخلت في الإسلام ما رويت من شراب الدنيا لأن محبة الله شغلتني عن شراب الدنيا.
والرابع كلما استقبلني عملان عمل الدنيا وعمل الآخرة اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا.
والخامس صحبت النبي صلى الله عليه وسلّم فأحسنت صحبته أقول ولذا لم ينفك عن ملازمة صحبته ساعة حتى دخل معه في الغار وقاسى ما قاسى من الشدائد في حقه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ومع ذلك لم يزغ قلبه عن مواصلته قط ولم يهم بمخالفته أصلاً كما وقع ذلك من بعض الصحابة كما في المنهزمين.
كيست دانى صوفى صافي زرنك تفرقه
آنكه دارد روبيك رنكي درين كاخ دورنك
نكسلد سررشته سرش زجانان كر بفرض
روبرو كيرد زيك سوشير وديكر سولنك
أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أن يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك فانظر في أن لا تشغل سرك بغيري وأنا أنظر في سرك فأراه مشتغلاً بغيري فتقطع خلتي منك لأن الصادق في دعوى خلتي من لو أحرق بالنار لم يجعل سره إلى غيري إجلالاً لحرمتي لأن كل سر انفصل ساعة عن مشاهدتي لا يصلح لمحادثتي ونظري ثم قاله أسلم قال : أسلمت لرب العالمين ثم ابتلاه
111
حين رمى بالمنجنيق في النار ولم يجزع على ما أصابه بل فوض أمره إلى الله حتى شرفه الله بالخلة وجعل النار له برداً وسلاماً فحسن الرضى على ما جاء من عند الله يوصل العبد إلى المقامات العلية والحالات السنية والعمدة هو التوحيد وبه تسهل قوة اليقين والوصول إلى مقام الولاية.
وسئل يحيى بن معاذ عن صفة الولي فقال : الصبر شعاره والشكر دثاره والقرآن معينه والحكمة علمه والتوكل صابونه والفقر منيته والتقوى مطيته والغربة ملازمته والحزن رفيقه والذكر جليسه والله تعالى أنيسه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 110
قوت روح أوليا ذكر حقست
يشه ايشان شكر مطلقست
كر خبر داري زاسرار خدا
روبراه ذكر وطاعت حقيا
جزء : 2 رقم الصفحة : 110
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم} عطف على قوله فأثابكم وأنزل مجاز أي أعطى ووهب لكم أيها المؤمنون {مِّنا بَعْدِ الْغَمِّ} المذكور {ءَامِنَةً} أي : أمناً نصب على المفعولية {نُّعَاسًا} بدل منها وهو الوسن.
قال أبو طلحة رفعت رأسي يوم أحد فجعلت لا أرى أحداً من القوم إلا وهو يميد تحت جحفته من النعاس وكنت ممن ألقي عليه النعاس يومئذٍ فكان السيف يسقط من يدي فآخذه ثم يسقط السوط فآخذه وفيه دلالة على أن من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبىء عنه قوله تعالى : {يَغْشَى طَآاـاِفَةً مِّنكُمْ} وهم المهاجرون وعامة الأنصار ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل والجملة في محل النصب على أنها صفة لنعاساً {وَطَآاـاِفَةٌ} مبتدأ وهم المنافقون {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي أوقعتهم في الهموم والأحزان أو ما بهم إلا همّ أنفسهم وقصد خلاصها {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ} حال من ضمير أهمتهم {غَيْرَ الْحَقِّ} غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه {ظَنَّ الْجَـاهِلِيَّةِ} بدل منه وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها
جزء : 2 رقم الصفحة : 112
(2/91)
{يَقُولُونَ} بدل من يظنون أي رسول الله صلى الله عليه وسلّم على صورة الاسترشاد {هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ} أي : من أمر الله تعالى ووعده من النصر والظفر {مِن شَىْءٍ} من نصيب قط {قُلْ إِنَّ الامْرَ كُلَّهُ} أي : الغلبة بالآخرة تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون {يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ} حال من ضمير يقولون أي مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب {يَقُولُونَ} كأنه قيل أي شيء يخفون فقيل : يحدثون أنفسهم أو يقول بعضهم لبعض فيما بينهم خفية {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} كما وعد محمد صلى الله عليه وسلّم من أن الغلبةولأوليائه وأن الأمر كله{مَّا قُتِلْنَا هَـاهُنَا} ما غلبنا أو ما قتل من قتل منا في هذه المعركة على أن النفي راجع إلى نفس القتل لا إلى وقوعه فيها فقط أولو كان لنا اختيار في الخروج وتدبير لم نبرح كما كان رأى ابن أبي وغيره {قُلْ} يا محمد تكذيباً لهم وإبطالاً لمعاملتهم {لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ} أي لو لم تخرجوا إلى أحد وقعدتم بالمدينة كما تقولون {لَبَرَزَ} أي لخرج {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} إلى مصارعهم التي قدره الله تعالى فيها وقتلوا هناك البتة ولم تنفع العزيمة على الإقامة بالمدينة قطعاً فإن قضاء الله لا يرد وحكمه لا يعقب {وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ} علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى
112
مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليتبلي أي ليعاملكم معاملة من يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ويظهر ما فيها من السرائر {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من مخفيات الأمور ويكشفها أو يخلصها من الوساوس {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي السرائر والضمائر التي لا تكاد تفارق الصدور بل تلازمها وتصاحبها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 112
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} اعرضوا {مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} من المسلمين والكافرين وهم الذين انهزموا يوم أحد {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـانُ} أي إنما كان سبب انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل ودعاهم إليه {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} من الذنوب والمعاصي التي هي مخالفة أمر النبي عليه السلام وترك المركز والحرص على الغنيمة والحياة فحرموا التأييد وقوة القلب {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} لتوبتهم واعتذارهم {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للذنوب {حَلِيمٌ} لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب والنكتة فيه أن الشيطان خلق من النار فبالشيطان ونار وسوسته استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم وهذا قوله عليه الصلاة والسلام : "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" ليعلم أن تعالى في كل شيء من الخير والشر أسراراً لا يبلغ كنهها إلا هو ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والشيطان لا يقدر على إغواء المخلصين من أهل اليقين والنورانيين وما لم يكن في اللب ظلمة وشوب من الهوى بسبب ارتكاب الذنوب لم يكن له مجال للوسوسة فالسالكون الذين نجوا من ظلمات النفس لا يقدر الشيطان أن يقرب منهم فضلاً عن وسوستهم.
(2/92)
ـ قيل ـ رأى الجنيد إبليس في منامه عرياناً فقال : ألا تستحيى من الناس فقال : هؤلاء ناس؟ الناس أقوام في مسجد الشونيزية افنوا جسدي وأحرقوا كبدي قال الجنيد : فلما انتبهت غدوت إلى المسجد فرأيت جماعة وضعوا رؤوسهم على ركبم متفكرين فلما رأوني : قالوا لا يغرنك حديث الخبيث فإذا تنور القلب بنور المعرفة لا يحوم حوله بالوسوسة الشيطان الناري.
وعن أبي سعيد الخراز قدس سره قال : رأيت إبليس في المنام فأخذت عصاي لأضربه فقيل لي : إنه لا يفزع من هذا إنما يخاف من نور يكون في القلب.
قال : حجة الإسلام الغزالي في الإحياء حكي أن إبليس بث جنوده في وقت الصحابة فرجعوا إليه مخسورين فقال : ما شأنكم قالوا : ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيئاً وقد أتعبونا فقال : إنكم لا تقدرون عليهم وقد صحبوا نبيهم وشهدوا نزول الوحي ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسرين فقالوا : ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب فإذا آن آخر النهار أخذوا في الاستغفار فتبدل سيآتهم حسنات فقال : إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً لصحة توحيدهم واتباعهم لسنة نبيهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم تلعبون بهم لعباً وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم لا يستغفرون فيغفر لهم فلا يتوبون فتبدل سيآتهم حسنات قال : فجاء قوم بعد القرون الأولى فبث فيهم الاهواء وزين لهم البدع فاستحلوها واتخذوها ديناً لا يستغفرون منها ولا يتوبون عنها فسلط إبليس عليهم الأعداء وقادوهم حيث شاؤا
113
نه ابليس در حق ما طعنه زد
جزء : 2 رقم الصفحة : 112
كزينان نيايد بجز كار بد
فغان ازبديها كه در نفس ماست
كه ترسم شود ظن إبليس راست
و ملعون سند آمدش قهرما
خدايش بر انداخت ازبهرما
كجا بر سر آريم ازين عاروننك
كه با أو بصلحيم وباحق بجنك
(من بستان السعدي).
جزء : 2 رقم الصفحة : 112
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا {وَقَالُوا لاخْوَانِهِمْ} لأجل إخوانهم وفي حقهم ومعنى الإخوة اتفاقهم نسباً أو مذهباً وعقيدة {إِذَا ضَرَبُوا فِى الأرْضِ} أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة وسائر المهام فماتوا في سفرهم {أَوْ كَانُوا} أي إخوانهم جمع غازي كعفى جمع عافى وسجد جمع ساجد أي إذا خرجوا إلى الغزو فقتلوا {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا} أي مقيمين بالمدينة {مَا مَاتُوا} في سفرهم {وَمَا قُتِلُوا} في الغزو وليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ} متعلق بقالوا على أن اللام لام العاقبة كما في قوله ربيته ليؤذيني وليست لام العلة والغرض لأنهم لم يقولوه لذلك وإنما قالوه لتثبيط المؤمنين عن الجهاد والمعنى أنهم قالوا ذلك القول واعتقدوه لغرض من أغراضهم فكان عاقبة ذلك القول ومصيره إلى الحسرة وهي أشد الندامة التي تقطع القوة والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما على ذلك أصلاً ووجه كون تكلم ذلك الكلام حسرة في قلوبهم زاعمين أن من مات أو قتل منهم إنما مات أو قتل بسبب تقصيرهم في منع هؤلاء القتلى عن السفر والغزو ومن اعتقد ذلك لا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه وأما المسلم الذي يعتقد أن الموت والحياة لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه لا يحصل في قلبه هذه الحسرة {وَاللَّهُ يُحْى وَيُمِيتُ} ردُّ لقولهم الباطل أي هو المؤثر في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لأسباب السلامة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 114
أي بسا اسب تيزروكه بماند
كه خرلنك جان بمنزل برد
بس كه درخاك تن درستان را
دفن كردندو زحم خورده نمرد
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تكونوا مثل هؤلاء المنافقين.(2/93)
{وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} في سبيله وأنتم مؤمنون واللام هي الموطئة للقسم المحذوف وجوابه قوله تعالى : {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده لكونه دالاً عليه والمعنى أن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل أصلاً ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحة يسيرة من مغفرة ورحمة كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم.
فإن قيل كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً.
قلنا أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات {وَلَـاـاِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} أي
114
على أي وجه اتفق هلاككم حسب تعلق الإرادة الإلهية {لالَى اللَّهِ} أي إلى المعبود بالحق العظيم الشان الواسع الرحمة الجزيل الإحسان {تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره فيوفي أجوركم ويجزل لكم عطاياكم.
واعلم أن هذه الآيات على ترتيب أنيق فإنه قال في الآية الأولى {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ} وهي التجاوز عن السيآت وذلك إشارة إلى من يعبد الله خوفاً من عقابه ثم قال {وَرَحْمَةً} وهي التفضل بالمثوبات وهو إشارة إلى من يعبده ثوابه ثم قال في آخر الآية {لالَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية وهذا أعلى المقامات ، قال عبد الرحمن الجامي :
جانا زدرتو دور نتوانم بود
قانع ببهشت وحور نتوانم بود
سربر در توبحكم عشقم نه بمزد
زين دره كنم صبور نتوانم بود
فبين الحشر إلى مغفرة الله والحشر إلى الله فرق كثير.
ـ روي ـ أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال : ماذا تطلبون فقالوا : نخشى عذاب الله فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا : نطلب الجنة والرحمة فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه الهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 114
كركند جاي بدل عشق جمال ازلت
شم اميد بحوران بهشتي ننهى
كى مسلم شودت عشق جمال ازلى
تابر آفاق همه تهمت زشتى ننهى
ـ حكي ـ أن امرأة قالت لجماعة : ما السخاء عندكم قالوا : بذل المال قالت هو سخاء أهل الدنيا والعوام فما سخاء الخواص قالوا : بذل المجهود في الطاعة قالت : ترجون الثواب قالوا : نعم قالت : تأخذون العشرة بواحد لقوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) فأين السخاء؟ قالوا : فما عندك؟ قالت : العمللا للجنة ولا للنار ولا للثواب وخوف العقاب وذلك لا يمكن إلا بالتجريد والتفريد والوصول إلى حقيقة الوجود.
فعلى السالك أن يعرض عن الدنيا والآخرة ويقبل على الله حتى يكشف عن وجهه الحجاب ويصل إلى رب الأرباب.
قال الإمام في تفسيره : الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة فإذا مات فكأنه تخلص من العدو ووصل إلى المحبوب وإذا جلس في بيته خائفاً من الموت حريصاً على جمع الدنيا فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ولا شك في كمال سعادة الأول وكمال شقاوة الثاني انتهى فحشر الغافلين بالحجاب وحشر الواصلين بإظهار الجناب فمن كان في هذه الدنيا أعمى بحب المال والمنال كان في الآخرة محجوباً عن مشاهدة الجمال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 114
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} ما مزيدة للتأكيد أي فبرحمة عظيمة لهم كائنة من الله تعالى وهي ربطه على جأشه وتخصيصه بمكارم الأخلاق كنت لين الجانب لهم وعاملتهم بالرفق والتلطف بعدما كان منهم ما كان من مخالفة أمرك وإسلامك للعدو {وَلَوْ} لم تكن كذلك بل {كُنتَ فَظًّا} جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً {غَلِيظَ الْقَلْبِ} قاسيه غير رقيق.
فالفظ سيء الخلق وغليظ
115
(2/94)
القلب هو الذي لا يتأثر قلبه من شيء فقد لا يكون الإنسان سيىء الخلق ولا يؤذي أحداً ولكنه لا يرق له ولا يرحمهم فظهر الفرق بينهما {انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك وتردوا في مهاوي الردي {فَاعْفُ عَنْهُمْ} فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ} فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماماً للشفقة عليهم وإكمالاً للبرّ بهم {وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ} أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم في أمر الحرب إذ هو المعهود أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة استظهاراً بآرائم وتطييباً لقلوبم ورفعاً لأقدارهم وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي عقيب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في إمضاء أمرك على ما هو أرشد وأصلح فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله لا أنت ولا من تشاور {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح والتوكل تفويض الأمر إلى الله والاعتماد على كفايته.
قال الإمام : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقوله بعض الجهال وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحكمة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
واعلم أن الله تعالى بين أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يتفرقون عنه لو كان فظاً غليظاً مع أن اتباعه دين وفراقه كفر فكيف يتوقع من يعامل الناس على خشونة اللفظ مع قسوة القلب أن ينقاد الناس كلهم له ويتابعوه ويطاوعوه فاللين في القول أنفذ في القلوب وأسرع إلى الإجابة وادعى إلى الطاعة ولذلك أمر الله موسى وهارون به فقال : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} بنرمي زدشمن توان كند وست
و بادوست سختي كنى دشمن اوست
و سندان كسى سخت رويى نبرد
كه خايسك تأديب بر سر نخورد
قال الإمام في تفسيره : اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز قال الله تعالى : يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ جَـاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة : 73) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنى {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} والتحقيق أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان والفضيلة في الوسط فورود الأمر بالتغليظ مرة وأخرى بالنهي عنه إنما كان لأجل أن يتباعد عن الإفراط والتفريط فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم ولهذا السر مدح الله تعالى الوسط فقال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) قال عليه السلام : "لا تكن مرّ فتعقي ولا حلوا فتسترط".
و نرمى كنى خصم كردد دلير
وكر خشم كيرى شوند ازتوسير
درشتى ونرمى بهم در بهست
ورك زن كه جراح ومرهم نهست
واعلم أن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكليف الله إلى الخلق وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه وهذا لا يتم إلا إذا كان كريماً رحيماً يتجاوز عن ذنبهم ويعفو عن إساءتهم ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول متبرئاً من سوء الخلق وحيث يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء كثير التجاوز عن سيآتهم كثير الصفح
116
عن زلاتهم فلهذا المعنى قال : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران : 159) ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة وهكذا ينبغي أن يكون علماء الآخرة الوارثون والمشايخ فإن الناس على دين متبوعهم في الظاهرة والباطن وقلما يوجد من يتصف بالأخلاق الحسنة من المشايخ والعلماء في هذا الزمان ، إلا من عصمه الله وهداه إلى التمسك بالشريعة والتحقق بآداب الحقيقة وهذه الحال ليست إلا لواحد بعد واحد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
ـ روي ـ أنه خلا بأحنف المضروب به المثل في الحلم رجل فسبه سباً قبيحاً فقام الأحنف وهو يتبعه فلما وصل إلى قومه وقف وقال : يا أخي إن كان قد بقي من قولك فضلة فقل الآن ولا يسمعك قومي فتؤذى فانظر إلى خلق الأحنف كيف عامل مع الرجل وجامل وقال له رجل دلني على المروة فقال : عليك بالخلق الفسيح والكف عن القبيح.
قال نجم الدين الكبرى في "تأويلاته" : كل لين يظهر في قلوب المؤمنين بعضهم على بعض فهو رحمة الله ونتيجة لطفه مع عباده لا من خصوصية أنفسهم فإن النفس لأمارة بالسوء وإن كانت نفس الأنبياء عليهم السلام انتهى.
وفي هذا الكلام تنبيه على أن الأنبياء وإن كان سلوكهم من النفس المطمئنة إلى الراضية والمرضية والصافية إلى أن بلغوا مبلغ النبوة والرسالة لكن نفوسهم متصفة بالأمارية كسائر الناس ولكن الله يعصمهم من مقتضاها فافهم فإنه محل اعتبار وإمعان.
(2/95)
{إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ} النصر نوعان : معونة ومنع أي إن يعنكم الله ويمنعكم من عدوكم كما فعل ذلك يوم بدر {فَلا غَالِبَ لَكُمْ} فلا أحد يغلبكم {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} الخذلان القعود عن النصرة والإسلام للهلكة أي إن يترككم فلم ينصركم كما فعله يوم أحد {فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم} استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتاً وصفة بطريق المبالغة {مِنا بَعْدِهِ} ي من بعد خذلانه وهذا تنبيه على أن الأمر كلهولذا أمر بالتوكل عليه فقال : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر سواه وآمنوا به من قبل ومن التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله تعالى ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعلمك شاهداً غيره.
وعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يدخل سبعون ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب" قيل : يا رسول الله من هم قال : "هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" فقال عكاشة بن محصن : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلني منهم قال : "أنت منهم" ثم قام آخر فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : "سبقك بها عكاشة" وقال صلى الله عليه وسلّم "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".
وعن بعضهم قال : كنت في البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدّامي واحداً فسارعت حتى أدركته فإذا هو امرأة بيدها ركوة وعكازة تمشي على الرعدة فظننت أنها أعيت فأدخلت يدي في جيبي فأخرجت عشرين درهماً فقلت : خذي هذه وامكثي حتى تلحقك القافلة فتكتري بها ثم ائتني الليلة حتى أصلح أمرك فقالت : بيدها هكذا في الهواء فإذا في كفها دنانير فقالت : أنت أخذت الدراهم من الجيب وأنا أخذت الدنانير من الغيب ، قال الحافظ الشيرازي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
برو ازخانه كردون بدرونان مطلب
كاين سيه كاسه در آخر بكشد مهما نرا
قال القشيري : حقيقة النصر أن ينصرك على نفسك فإنها أعدى عدوك وهي أن يهدم عنك
117
دواعي فتنتها بعواصم رحمته حتى ينفض جنود الشهوات بهجوم وفور المنازلات فتبقى الولاية تعالى خالصة من رعونات الدواعي التي هي أوصاف البشرية وشهوات النفوس وإن يخذلكم فالخذلان التخلية بينه وبين المعاصي فمن نصره قبض على يده عند الهم بتعاطي المكروه ومن خذله ألقى حبله على غاربه ووكله إلى سوء اختياره فيهيم على وجهه في فيافي البعد فتارة يشرق غير محتشم وتارة يغرب غير محترم ومن سيبه الحق فلا آخذ ليده ولا جابر لكسره وعلى الله فليتوكل المؤمنون في وجدان الأمان من هذه الأخطار عند صدق الابتهال وإسبال ثوب العفو على الإجرام عند خلوص الالتجاء بالتبري من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :
جهان آفرين كر نه يارى كند
كجابنده رهيز كاري بود
(2/96)
{وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ} أي وما صح لنبي من الأنبياء عليهم السلام وما استقام له {أَن يَغُلَّ} أي يخون في المغنم فإن الغلول هو أخذ شيء من مال الغنيمة خفية وخيانة لكونها سبباً للعار في الدنيا وللنار في العقبى تنافي منصب النبوة التي هي أعلى المناصب الإنسانة والمراد إما تنزيه ساحة رسول الله عليه السلام عما ظن به الرماة يوم أحد حتى تركوا المركز وأفاضوا في الغنيمة وقالوا : نخشي أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم صلى الله عليه وسلّم "ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري" فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً فقال صلى الله عليه وسلّم "بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم بينكم" وأما المبالغة في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما روى أنه بعث طلائع فغنم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعدهم فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيئاً فنزلت والمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوماً من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل يالسوية وعبر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} أي يأت بالذي غل بعينه يحمله على عنقه فيفتضح به على رؤوس الإشهاد وهو كقوله عليه السلام : "من غصب قدر شبر من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين" قال عليه السلام : "من بعثناه على عمل فغل شيئاً جاء يوم القيامة يحمله على عنقه" وقال صلى الله عليه وسلّم "هدايا الولاة غلول" أي قبول الولاة الهدايا غلول لأنه في معنى الرشوة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "ألا لا أعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء وببقر له خوار وشاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً فقد بلغتك" وقيل لأبي هريرة رضي الله عنه : كيف يأتي بما غل وهو كثير كبير بأن غل أموالاً جمة فقال : أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ودقان وساقه مثل جبل ومجلسه ما بين المدينة وريدان يحمل مثل هذا ويجوز أن يراد بما احتمل من وباله وإثمه
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي تعطى وافياً جزاء ما كسبت خيراً أو شراً كثيراً أو يسيراً وكان اللائق بما قبله أن يقال : ثم يوفى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى {وَهُمْ} أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس {لا يُظْلَمُونَ} بزيادة عقاب أو بنقص ثواب.
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} الهمزة
118
للإنكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أمن اتقى فاتبع رضوان الله أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه حيثما كان يفعل الطاعات ويترك المنكرات كالنبي ومن يسير بسيرته {كَمَنا بَآءَ} أي رجع {بِسَخَطٍ} غضب عظيم لا يقادر قدره كائن {مِنَ اللَّهِ} بسبب معاصيه كالغال ومن تدين بدينه والمراد أنهما لا يستويان أي مأوى من باء بسخط من الله {جَهَنَّمُا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والفرق بينه وبين المرجع أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع.
{هُمْ} راجع إلى الموصولين باعتبار المعنى {دَرَجَـاتٌ عِندَ اللَّهِ} أي طبقات مختلفة متفاوتة في علمه وحكمه تعالى شبهوا في تفاوت الأحوال وتباينها بالدرجات مبالغة وإيذاناً بأن بينهم تفاوتاً ذاتياً كالدرجات ومراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات متفاوتة فوجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب لقوله تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة : 7 ـ 8) والمعنى ذو درجات {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال ودرجاتها فمجازيهم بحسبها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
(2/97)
واعلم أن الغلول من الكبائر والغال خائن ومن حاله أن يكون الغالب عليه النفس وهواها والأنبياء منسلخون عن صفات البشرية متصفون بصفات الربوبية معصومون من الرذائل وصفات النفس ودواعي الشيطان قائمون بالله فلا يمكن صدور أمثال ذلك منهم فالنبي في جنة الصفات ومقام الرضوان والغال في جحيم النفس وهاوية الهوى فلا يساوي حال الغال أحوال الأنبياء ولذلك قال : {هُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ اللَّهِ} .
فعلى العاقل أن يسارع إلى تكميل الدرجات والوصول إلى أحسن الحالات.
قالوا أهل الجنة أربعة أصناف : الرسل والأنبياء ، ثم الأولياء وهم أتباع الرسل على بصيرة وبينة من ربهم ، ثم المؤمنون وهم المصدقون بهم عليهم السلام ، ثم العلماء بتوحيد الله إنه لا إله إلا هو من حيث الأدلة العقلية وهم المراد بأولى العلم في قوله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ} (آل عمران : 18) وفيهم يقول الله : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ} (المجادلة : 11) وهؤلاء الطوائف الأربع يتميزون في جنات عدن عند رؤية الحق في الكثيب الأبيض وهم فيه على أربعة مقامات : طائفة منهم أصحاب منابر وهي الطبقة العليا الرسل والأنبياء ، والطائفة الثانية هم الأولياء ورثة الأنبياء قولاً وعملاً وحالاً وهم أصحاب الأسرة والعرش ، والطبقة الثالثة العلماء بالله من طريق النظر البرهاني العقلي وهم أصحاب الكرسي ، والطبقة الرابعة هم المؤمنون المقلدون في توحيدهم ولهم المراتب وهم في المحشر مقدمون على أصحاب النظر العقلي وهم في الكثيب يتقدمون على المقلدين :
قيامت كه نيكان باعلى رسند
زقعر ثرا بر ثريا رسند
تراخود بما ندسر ازننك يش
كه كردت بر آيد عملهاى خويش
قيامت كه بازار مينونهند
منازل بأعمال نيكونهد
والخلق متفاوتون في الأعمال وتفاضلهم على مراتب : فمنها بالسن ولكن في الطاعة والإسلام فيفضل الكبير السن على الصغير السن إذا كانا على مترتبة واحدة من العمل.
ومنها بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي عشر ذي الحجة في عاشوراء أعظم من سائر الأيام والأزمان.
ومنها بالمكان فالصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد المدينة
119
وهي من الصلاة في المسجد الأقصى وهي منها في سائر المساجد.
ومنها بالأحوال فإن الصلاة بالجماعة أفضل من صلاة الشخص وحده.
ومنها بنفس الأعمال فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى.
ومنها في العمل الواحد فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة وكذا من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل من أن يهدي لغيره وأحسن إليه ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما ينبغي في زمان صومه وصدقته بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس كذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
بضاعت بندانكه آرى برى
اكر مفلسي شر مسارى برى
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فأني لوقد مضيت لم ترني أبداً ويقول الليل مثل ذلك" فاعمل يا أخي عمل من يعلم أنه راجع إلى الله وقادم عليه يجازي على الصغير والكبير والقليل والكثيرة وقد قال تعالى : {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ} فينبغي أن لا يغفل الإنسان في كل ساعاته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جواب قسم محذوف أي والله لقد أنعم الله على من آمن مع الرسول عليه السلام من قومه وتخصيصهم بالامتنان مع عموم نعمة البعثة للأسود والأحمر لزيادة انتفاعهم بها {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} أي من نسبهم أو من جنسهم عربياً مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به وفي ذلك شرف عظيم لهم قال الله تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} وقرىء من أنفسهم أي أشرفهم فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من أشرف قبائل العرب وبطونها {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ} أي القرآن بعدما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال وأوضار الأوزار {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} أي القرآن والسنة {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ} أي من قبل بعثته صلى الله عليه وسلّم وتزكيته وتعليمه {لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} بين لا ريب في كونه ضلالاً.
وإن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 120
(2/98)
واعلم أن الله تعالى أرسل محمداً إلى أقوام عتاة أشراس فذلل منهم كل من عتا وعاس ونكس بمولده الأصنام على الرأس وانشق إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة بعدد من سيملك من الناس وخمدت نار فارس وبحيرة ساوة غاضت على غير القياس واختاره مولاه وقدمه على الخلق فهو بمنزلة العين من الرأس وأيام دولته كأيام التشريق وليلات الأعراس فتعجبت قريش من غنى بالفضل بعد فقر الإفلاس فرماهم القرآن بسهام الجدل لا عن أقواس أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس فهو رحمة عامة للأنام وله خطر جليل عند الخواص والعوام فيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر "الحمدالذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معدّ وعنصر مضر وجعلنا خضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس ثم ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى
120
من قريش إلا رجح به وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل" وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "قال لي جبريل يا محمد قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد ولم أجد بني أب أفضل من بني هاشم" آدم ومن دونه تحت اللواء.
زانكه بهر اوست خلق ما سوا†
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألفي عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في طلبه.
نور بهار عالم نور بهار آدم†
وذكر أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلّم بينا هو نائم في الحجر انتبه مذعوراً قال العباس فتبعته وأنا يومئذٍ غلام أعقل ما يقال فأتى كهنة قريش فقال : رأيت كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهري ولها أربعة أطراف : طرف قد بلغ مشارق الأرض ، وطرف قد بلغ مغاربها ، وطرف قد بلغ عنان السماء ، وطرف قد جاوز الثرى ، فبينا أنا أنظر عادت شجرة خضراء لها نور فبينا أنا كذلك قام علي شيخان فقلت لأحدهما : من أنت؟ قال : أنا نوح نبي رب العالمين وقلت للآخر : من أنت؟ قال إبراهيم خليل رب العالمين ثم انتبهت قالوا : إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك نبي ويؤمن به أهل السموات وأهل الأرض ودلت السلسلة على كثرة أتباعه وأنصاره وقوتهم لتداخل حلق السلسلة ورجوعها شجرة تدل على ثبات أمره وعلو ذكره وسيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح وستظهر به ملة إبراهيم وإلى هذا وقعت إشارة النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين حيث قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 120
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب†
كأنه يقول : أنا ابن صاحب تلك الرؤيا مفتخراً بها لما فيها من علم نبوته وعلو كلمته ثم أنه لا نهاية لأوصافه الشريفة وأخلاقه الحميدة وإنما الكلام في أن يكون المرء ممتلئاً بمحبته مقتفياً بآثار سنته حتى يكون من أمته حقيقة والخدمة في عتبة بابه من جهة الشريعة والطريقة من أقوى الوسائل إلى الوصول.
ـ حكي ـ أن مريداً مدعياً قال : إن شيخي يعرف مقامي في هذه الطريقة واستحقاقي للخلافة والنصب في مقام الإرشاد فماله لا يجيزني بالخلافة فسمع ذلك شيخه فاستخدمه أياماً فأظهر ذلك الصوفي الكسل في خدمته ولم يخدمه بالشوق والاجتهاد فرأى حاله الشيخ فقال منكراً لما ادعاه من لا يقدر على خدمة الخلق كيف يقدر على خدمة الخالق؟ فانظر كيف جعل خدمة الخلق من أسباب خدمة الخالق والوصول إليه وهكذا من كان في قلبه ميل إلى وصول الحق فلا بد له أن يرجع أولاً إلى خدمة شريعة النبي صلى الله عليه وسلّم وسننه حتى يحبه النبي عليه الصلاة والسلام فيحبه الله تعالى.
محالست سعدى كه راه صفا
توان رفت جز درى مصطفا
شرفنا الله وإياكم برعاية سننه وآدابه والاقتفاء بآثار اله وأصحابه إنه المنان جزيل الإحسان واسع الغفران في كل زمان {أَوَ لَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـاذَا} الواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضاف إلى ما بعده وقد أصبتم في محل الرفع على أنه صفة لمصيبة والمراد بها ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين وأنى هذا مقول قلتم والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا فالهمزة
121
للتقرير والتقريع على قولهم لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار يوم أحد وأدى ذلك إلى أن قالوا : من أين هذه المغلوبية للمشركين فكيف صاروا منصورين علينا مع شركهم وكفرهم بالله ونحن ننصر رسول الله ودين الإسلام وهو استفهام على سبيل الإنكار فأمر الله تعالى ورسوله عليه السلام بأن يجيب عن سؤالهم الفاسد فقال : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} أي هذا الإنهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم حيث خالفتم الأمر بترك المركز والحرص على الغنيمة
(2/99)
جزء : 2 رقم الصفحة : 120
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ومن جملته النصر عند الطاعة والخذلان عند المخالفة وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم {وَمَآ أَصَـابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي جمعكم وجمع المشركين يريد يوم أحد {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار سماها إذناً لأنها من لوازمه {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} أي : وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء {وَقِيلَ لَهُمْ} عطف على نافقوا داخل معه في هذه الصلة وهم عبد الله بن أبي وأصحابه حيث انصرفوا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لهم عبد الله بن حرام أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى : {تَعَالَوْا قَـاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} عنا العدو وبتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه {قَالُوا} حين خيروا بين الخصلتين المذكورتين {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا اتَّبَعْنَـاكُمْ} أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء النفس إلى التهلكة ولو نحسن قتالاً لاتبعناكم وإنما قالوه دخلاً واستهزاء {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَـاـاِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلايمَـانِ} ومعنى كون قربهم إلى الكفر أزيد يومئذٍ من قربهم إلى الإيمان أنهم كانوا قبل ذلك الوقت كاتمين للنفاق فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمون صاروا أقرب للكفر فإن كل واحد من انخذالهم برجوعهم عن معاونة المسلمين وكلامهم المحكي عنهم يدل على أنهم ليسوا من المسلمين {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير فإن الكلام وإن كان يطلق على اللسان والنفساني إلا أن القول لا يطلق إلا على ما يكون باللسان والفم فذكر الأفواه بعده تأكيد كقوله تعالى : {وَلا طَائرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وتصوير لحقيقة لقول بصورة فرده الصادر على آلته التي هي الفرد {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} من النفاق وما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه بعلمه مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بإمارات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 120
{الَّذِينَ قَالُوا} مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون {لاخْوَانِهِمْ} لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار فيندرج فيهم بعض الشهداء {وَقَعَدُوا} حال من ضمير قالوا بتقدير قد أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال {لَوْ أَطَاعُونَا} أي فيما أمرناهم ووافقونا في ذلك {مَا قُتِلُوا} كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغووهم كما غووا {قُلْ} تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم أي ارفعوا {عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} جواب الشرط محذوف يدل عليه
122
ما قبله أي إن كنتم صادقين فيما ينبىء عنه قولكم من أنكم قادرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت الذي كتب عليكم معلقاً بسبب خاص موقتاً بوقت معين بدفع سببه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم من إخوانكم وأمرها أهم لديكم من أمرهم والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود مع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيل إليه بل قد يكون القتال سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت.
زيش خطر تاتوانى كريز
وليكن مكن باقضا نه تبز
كرت زندكاني نبشتست دير
نه مارت كر آيدنه شمشيروتير
واعلم أن الموت ليس له سن معلوم ولا أجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك مستعداً لذلك وكان بعض الصالحين ينادي بالليل على سور المدينة الرحيل الرحيل فلما توفي فقد صوته أمير تلك المدينة فسأل عنه فقيل : إنه مات فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
ما زال يلهج بالرحيل وذكره
حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظاً متشمراً
ذا أهبة لم تلهه الآمال(2/100)
ـ روي ـ أنه مر دانيال عليه السلام ببرية فسمع منادياً يا دانيال قف ساعة تر عجباً فلم ير شيئاً ثم نادى الثانية قال : فوقفت فإذا بيت يدعوني إلى نفسه فدخلت فإذا سرير مرصع بالدر والياقوت فإذا النداء من السرير اصعد يا دانيال تر عجباً فارتقيت السرير فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك والعنبر فإذا عليه شاب ميت كأنه نائم وإذا عليه من الحلي والحلل ما لا يوصف وفي يده اليسرى خاتم من ذهب وفوق رأسه تاج من ذهب وعلى منطقته سيف أشد خضرة من البقل فإذا النداء من السرير أن احمل هذا السيف واقرأ ما عليه قال : فإذا مكتوب عليه هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن ارم وأني عشت ألف عام وسبعمائة وافتضضت اثني عشر ألف جارية وبنيت أربعين ألف مدينة وهزمت سبعين ألف جيش وفي كل جيش قائد مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل وباعدت الحكيم وقربت السفيه وخرجت بالجور والعنف والحمق عن حد الإنصاف وكان يحمل مفاتيح الخزائن أربعمائة بغل وكان يحمل إلي خراج الدنيا فلم ينازعني أحد من أهل الدنيا فادعيت الربوبية فأصابني الجوع حتى طلبت كفاً من ذرة بألف قفيز من درّ فلم أقدر عليه فمت جوعاً يا أهل الدنيا اذكروا أمواتكم ذكراً كثيراً واعتبروا بي ولا تغرنكم الدنيا كما غرتني فإن أهلي لم يحملوا من وزري شيئاً.
فعلى العاقل أن لا يركن إلى الدنيا ويتذكر مرجعه ويجنب عن المنافقة والظلم والجور ويتصف بالإخلاص والعدل والإحسان فإنه هو المفيد ، قال ابن الكمال :
رده دارى ميكند در طاق كسرى عنكبوت
بوم نوبت ميزند بر قلعة افراسياب
تخم احسانرا ه دارى برفشان اي بي خبر
ونكه داني دانه عمرت خورداين آسياب
جعلنا الله وإياكم من المتيقظين الواصلين إلى ذروة اليقين قبل حلول الأجل والحين.
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا} المراد بهم شهداء أحد وكانوا سبعين رجلاً أربعة من
123
المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شهاب وعبد الله بن جحش وباقيهم من الأنصار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
قال القاشاني : الأفصح الأبلغ أن يجعل الخطاب في {وَلا تَحْسَبَنَّ} لكل أحد لأنه أمر خطير يجب أن يبشر به كل واحد لتتوفر دواعيهم إلى الجهاد وليتيقنوا بحسن الجزاء وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلّم فالمراد به نهي الأمة وتنبيهم على حالهم وإلا فرسول الله أجل مرتبة من ذلك الحسبان {بَلْ أَحْيَآءٌ} أي بل هم أحياء {عِندَ رَبِّهِمْ} خبر ثان للمبتدأ المقدر والعندية المكانية مستحيلة فتعين حملها على أنهم مقربون منه تعالى قرب التكريم والتعظيم {يُرْزَقُونَ} من ثمار الجنة وتحفها وفيه تأكيد لكونهم إحياء وتحقيق لمعنى حياتهم {فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والزلفى من الله تعالى والتمتع بالنعيم المخلد عاجلاً {وَيَسْتَبْشِرُونَ} معطوف على قوله فرحين عطف الفعل على الاسم لكون الفعل في تأويل الاسم كأنه قيل : فرحين ومستبشرين وبناء استفعل ليس للطلب بل هو بمعنى المجرد نحو استغنى الله أي غنى وقد سمع بشر الرجل بكسر العين فيكون استبشر بمعناه وقيل هو مطاوع ابشر نحو أراحه فاستراح فإن البشرى حصلت لهم بإبشار الله تعالى وإليه أشار الزمخشري في الكشاف بقوله : بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به والبيضاوي بقوله : يسرون بالبشارة {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم} أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعده في سبيل الله فليحقوا بهم {مِّنْ خَلْفِهِمْ} متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم {أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم وإن هي المحففة أي يفرحون بما بشر لهم وبين من حيث حال إخوانهم الذين تركوهم وهو أنهم إذا ماتوا أو قتلوا يفوزون بحياة أبدية لا يدركها خوف وقوع محذور ولا حزن فوت مطلوب والخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل والحزن يكون بسبب فوت المنافع التي كانت موجودة في الماضي فبين الله أنه لا خوف عليهم مما سيأتيهم من أهوال القيامة وأحوالها ولا حزن لهم مما فاتهم من نعم الدنيا ولذاتها.
(2/101)
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ} كائنة {مِنَ اللَّهِ} كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها وهي ثواب أعمالهم {وَفَضَّلَ} أي زيادة عظيمة كما في قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس : 26) {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} كافة سواء كانوا شهداء أو غيرهم وهو بفتح أن عطف على فضل منتظم معه في سلك المستبشر به.
قال الإمام : الآية تدل على أن استبشارهم بسعادة إخوانهم من استبشارهم بسعادة أنفسهم لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الإخوان وهذا تنبيه من الله على أن فرح الإنسان بصلاح حال إخوانه ومتعلقه يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه وصلاح أحوال نفسه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
واعلم أن ظاهر الآية يدل على أن هؤلاء المقتولين وإن فارقت أرواحهم من أجسادهم إلا أنهم أحياء في الحال.
واختلف القائلون بحياتهم في الحال أنها للروح أو للبدن ولا بد ههنا من تقديم مقدمة ليتضح بها المقام وهي أن الإنسان المخصوص ليس عبارة عن مجموع هذه البنية المخصوصة بل هو شيء مغاير لها وذلك لأن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال والتبدل والتغير
124
بالسمن وضده والصغر وخلافه والإنسان المخصوص شيء واحد باق من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل فثبت أن الإنسان مغاير لهذا البدن المخصوص ثم بعد هذا يحتمل أن يكون جسماً مخصوصاً سارياً في هذه الجثة سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد ويحتمل أن يكون جوهراً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم وعلى كلا المذهبين لا يبعد أن ينفصل ذلك الشيء حياً عند موت البدن فيثاب ويعذب على حسب أعماله والدلائل العقلية والنقلية الدالة على بقاء النفوس بعد موت الأجساد كثيرة متعاضدة فوجب المصير إليه وبه تزول الشبهات الواردة على القول بثواب القبر كما في هذه الآية وعلى القول بعذاب القبر كما في قوله تعالى : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) إذا لم تمت النفوس بموت الأبدان أو قلنا بأنه تعالى أماتها ثم أعاد الحياة إليها كما يدل عليه ما روى في بعض الأخبار أنه قال صلى الله عليه وسلّم في صفة الشهداء "إن أرواحهم في أجواف طير خضر وإنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مطعمهم ومسكنهم ومشربهم قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا" فأنزل الله هذه الآية.
والذين أثبتوا هذه الحياة للأجساد اختلفوا.
فقال بعضهم : إنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات إلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها.
ومنهم من قال : يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها كذا في "تفسير الإمام" ولابن سينا رسالة في علم النفس ولعمري قد بلغ القصوى في التحقيق فليطلبها من أراد ، وفضائل الشهداء لا نهاية لها قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة وله سبع خصال يغفر له في أول قطرة قطرت من دمه ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج بثلاث وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقربائه".
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
ـ وروي ـ أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى ادعوا إلي خيرتي من خلقي فيقولون : يا رب من هم فيقول الشهداء الذين بذلوا دماءهم وأموالهم وأنفسهم فيمرون على رب العزة وسيوفهم على أعناقهم فيدخلون مساكنهم في الجنة وينصب يوم القيامة لواء الصدق لأبي بكر وكل صديق يكون تحت لوائه ولواء العدل لعمر وكل عادل يكون تحت لوائه ولواء السخاوة لعثمان وكل سخي يكون تحت لوائه ولواء الشهداء لعلي وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل وكل زاهد تحت لواء أبي ذر وكل فقير تحت لواء أبي الدرداء وكل مقرىء تحت لواء أبي بن كعب وكل مؤذن تحت لواء بلال وكل مقتول ظلماً تحت لواء الحسين بن علي رضي الله عنهما فذلك قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ} (الإسراء : 71) قيل : أرواح الشهداء وإن كانت في عليين إلا أنها تزور قبورها كل جمعة على الدوام ولذلك يستحب زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة قال عليه السلام : "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه".
قال الجنيد قدس سره : من كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فإنه ينتقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة الحقيقة وإذا كان
125
(2/102)
القتيل بسيف الشريعة حياً مرزوقاً فكيف من قتل بسيف الصدق والحقيقة.
هر كز نميرد آنكه دلش زنده شد بعشق
ثبتست بر جريدة عالم دوام ما
قال القاشاني المقتول في سبيل الله صنفان : مقتول بالجهاد الأصغر وبذل النفس طلباً لرضى الله كما هو الظاهر.
ومقتول بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقتلها بسفرة الحب وقمع الهوى كما روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال عند رجوعه من بعض الغزو : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وكلا الصنفين ليسوا بأموات بل أحياء عند ربهم بالحياة الحقيقة مجردين من دنس الطبائع مقربين في حضرة القدس يرزقون في الجنة المعنوية من الأرزاق المعنوية أي المعارف والحقائق واستشراق الأنوار ويرزقون في الجنة الصورية كما يرزق الأحياء أو من كليهما فإن للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية ولكل منهما درجات على حسب المعارف والعلوم والمكاسب والأعمال فالمعنوية جنة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها بحسب تفاضل المعارف والترقي في الملكوت والجبروت والصورية جنة الأفعال وتفاوت درجاتها بحسب تفاوت الأعمال والتدرج في مراتب عالم الملك من السموات العلى والجنات المحتوية على جميع المنى وما روى من الحديث في شهداء أحد فالطير الخضر فيه إشارة إلى الأجرام السماوية والقناديل هي الكواكب أي تعلقت بالنيرات من الأجرام السماوية لنزاهتها وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ثمارها الأحوال والكشوف والمعارف أو الأنهار والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية أو الصورية فإن كل ما وجد في الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات موجود في الآخرة في عالم المثال وفي طبقات السماء ألذ وأصفى مما في الدنيا يستبشرون بنعمة الأمن من العقاب اللازم للنقص والتقصير والنجاة من الحزن على فوات نعمة الدنيا لحصول ما هو أشرف وأصفى وألذ وأبقى من جنات الأفعال وفضل هو زيادة جنات الصفات المشار إليها بالرضوان أو نعمة جنة الصفات وفضل جنة الذوات وأن أجر إيماهم من جنة الأفعال لا يضيع مع ذلك انتهى كلامه فلا بد للسالك من بذل المال والبدن والروح حتى يحصل لهم أنواع الفتوح.
دلا طمع مبراز لطف بي نهايت دوست
ولاف عشق زدى سربباز اك وست
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي أجابوا وأطاعوا فيما أمروا به ونهوا عنه كما في قوله تعالى : {فَلْيَسْتَجِيبُوا} (البقرة : 186) {مِنا بَعْدِ مَآ أَصَـابَهُمُ الْقَرْحُ} أي الجرح في غزوة أحد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} يدخل تحته الإتيان بجميع المأمورات {وَاتَّقَوْا} يدخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات {أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثواب عظيم وجملة قوله للذين خبر مقدم مبتدأه أجر عظيم والجملة في محل الرفع خبر الذين استجابوا وكلمة من في قوله منهم ليست للتبعيض لأن الذين استجابواوالرسول كلهم قد أحسنوا لا بعضهم بل هي لبيان الجنس ومحصل المعنى حينئذٍ الذين استجابواوالرسول لهم أجر عظيم إلا أنهم وصفوا بوصفي الإحسان والتقوى مدحاً لهم وتعليلاً لعظم أجرهم بحسن فعالهم لا تقييداً.
ـ روي ـ أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فبلغوا الروحاء وهو موضع بين مكة والمدينة ندموا وهموا بالرجوع حتى يستأصلوا ما بقي من المؤمنين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال : لا يخرجن
126
معنا إلا من حضر يومنا بالأمس أي وقعتنا والعرب تسمى الوقائع أياماً ـ وذكرهم بأيام الله ـ فخرج رسول الله عليه السلام إراءة من نفسه ومن أصحابه جلداً وقوة ومعه جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم أي حملوا المشقة على أنفسهم كيلا يفوتهم الأجر وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت ، فهذه هي غزوة حمراء الأسد متصلة بغزوة أحد ، وأما غزوة بدر الصغرى فقد وقعت بعدها بسنة وإليها الإشارة بقوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} يعني الركب استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي وإطلاق الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامه كلامهم يقال فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله سوى فرس فرد وغير ثوب واحد أو لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه {إِنَّ النَّاسَ} يعني أبا سفيان وأصحابه {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي اجتمعوا {فَاخْشَوْهُمْ} .
(2/103)
ـ روي ـ أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى لقابل نقتتل بها إن شئت فقال صلى الله عليه وسلّم "إن شاء الله" فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران فألقى الله في قلبه الرعب وبدا له أن يرجع فمر به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين أو لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر إلا أن هذا العام عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن ارجع ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل وضمنها سهيل بن عمرو فجاء نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم : ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد أي لم يتخلص إلا شريد وهو الفار النافر المبعد أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد فأثر هذا الكلام في قلوب قوم منهم فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك منهم قال : "والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكباً كلهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل" {فَزَادَهُمُ} القول {إِيمَـانًا} والمعنى لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله وازداد اطمئنانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي : الموكول إليه هو أي الله.
{فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} الفاء فصيحة ، أي : خرجوا إليهم ووافوا الموعد فرجعوا من مقصدهم ملتبسين بنعمة عظيمة لا يقادر قدرها كائنة من الله تعالى وهي العافية والثبات على الإيمان والزيادة فيه وحذر العدو منهم {وَفَضَّلَ} أي : ربح في التجارة عظيم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ} سالمين من السوء أي لم يصبهم أذى ولا مكروه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
ـ روي ـ أنه صلى الله عليه وسلّم وافى بجيشه بدرا الصغرى وكانت موضع سوق لبني كنانة يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ولم يلق صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هناك أحداً من المشركين وأتوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا ارياً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا
127
السويق {وَاتَّبِعُوا} في كل ما أتوا من قول وفعل وهو عطف على انقلبوا {رِضْوَانِ اللَّهِ} الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجرأتهم وخروجهم {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} حيث تفضل بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجرأة على العدو وحفظهم من كل ما يسوؤهم مع إصابة النفع الجليل.
وفي تحسير لمن تخلف عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم.
{إِنَّمَا ذَالِكُمُ} أي المثبط أيها المؤمنون وهو مبتدأ {الشَّيْطَـانِ} خبره {يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ} المنافقين غلبة المشركين وقهرهم ليقعدوا عن قتالهم فهم المنافقون الذين في قلوبهم مرض وقد تخلفوا عن رسول الله في الخروج والمعنى أن تخويفه بالكفار إنما يتعلق بالمنافقين الذين هم أولياؤه وأما أنتم أيها المؤمنون فأولياء الله وحزبه الغالبون لا يتعلق بكم تخويفه {فَلا تَخَافُوهُمْ} أي الشيطان وأولياءه من أبي سفيان وغيره {وَخَافُونِ} في مخالفة أمري {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله عز وجل على خوف غيره ويستدعي الأمن من شر الشيطان وأوليائه.
والخوف على ثلاثة أقسام : خوف العام وهو من عقوبة الله ، وخوف الخاص وهو من بعد الله ، وخوف الأخص وهو من الله وإلى هذه المراتب أشار النبي عليه السلام بقوله : "أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك" فعلى السالك أن يفنى عن نفسه وصفاتها ولا يرى في الكون وجوداً غير وجوده فلا يخاف إلا منه فإنه هو القاهر فوق عباده وهو الكافي جميع الأمور.
قال نجم الدين الكبرى قدس سره آخر مقام الخلة أن يكبر على نفسه وجميع المكونات أربع تكبيرات ويتحقق له أن الله حسبه من كل شيء وهو نعم الوكيل عن نفسه وما سواه ، قال الحافظ الشيرازي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
من همان دمكه وضو ساختم ازشمه عشق
ار تكبير زدم بكسره بر هره كه هست
(2/104)
يشير إلى أنه وقت قيامه بالعشق رأى وجود غير الله ميتاً بمنزلة الجماد وقد قال : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88)وصلاة الميت بأربع تكبيرات لا غير وهذا هو الفناء عن نفسه وعن المكونات حققنا الله تعالى بحقيقة التوحيد.
قال أبو يزيد : كنت اثنتي عشرة سنة حداداً لنفسي وخمسين سنة مرآة قلبي وسنة انظر فيها فإذا في وسطي زنار ظاهر فعملت في قطعه اثنتي عشرة سنة ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين انظر كيف أقطع فكشف لي فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات ، وقيل لأبي يزيد البسطامي بعد وفاته كيف كان حالك مع منكر ونكير فقال : لما قالا لي من ربك قلت لهما اسألا ربي فإن قال : هو عبدي يكفي وإلا فلو قلت : أنا عبده مراراً لا يفيد بلا قبوله وحقيقة العبودية بالتبري من جميع ما سوى الله ولو من صومه وصلاته وسائر عباداته.
ـ روي ـ أن أبا يزيد في آخر عمره دخل محرابه وقال : إلهي لا أذكر صومي ولا صلاتي ولا غيرهما بل أقول أفنيت عمري في الضلالة فالآن قطعت زناري وجئت بابك بالاستسلام وهو الإسلام وهذا هو الإنصاف من نفسه حقيقة.
قال الشيخ السعدي في حق شيخه السهروردي :
128
شبى دائم ازهول دوزخ نخفت
بكوش آمدم صبحكاهي كه كفت
ه بودي كه دوزخ زمن رشدي
مكر ديكر انرانرا رهايى بدي
فالعاقل لا يزكي نفسه ولا يراها محلاً لكرامة الله بل يتواضع بحيث يرى أعماله السيئة كثيرة بالنسبة إلى أعماله الصالحة بل ولا يرى في نفسه إلا العدم المحض.
واعلم أن من شعار المسلمين وعادة المؤمنين أن يجاهدوا في سبيل الله ولا يخافوا لومة اللائمين ألا يرى أن الله تعالى كيف مدح قوماً حالهم كذلك بقوله : {يُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لا ـاِمٍا ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة : 54) فمن كان مع الله فهو يعصمه وينصره على أعدائه خصوصاً عدو النفس الأمارة :
كسى رادانم أهل استقامت
كه باشد برسر كوى ملامت
زاوصاف طبيعت اك مرده
باطلاق هويت جان سرده
برفته سايه وخرشيد مانده
تمام ازكرد خوددا من فشانده
أوصلنا الله وإياكم إلى الخلوص واليقين والتمكين آمين {وَلا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} أي يقعون فيه سريعاً لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه وهم المنافقون المتخلفون الذين يسارعون إلى ما أبطنوه من الكفر مظاهرة للكفار وسعياً في إطفاء نور الله {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا} أي لن يضروا بذلك أولياء الله ودينه البتة شيئاً من الضرر {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الاخِرَةِ} أي يريد الله بذلك أن لا يجعل لهم في الآخرة نصيباً ما في الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلكوا على الكفر.
وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ النهاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته وأن مسارعتهم إلى الكفر لأنه تعالى لم يرد لهم أن يكون لهم حظ في الآخرة {وَلَهُمْ} مع ذلك الحرمان الكلي بدل الثواب {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يقادر قدره.
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالايمَـانِ} أي أخذوه بدلاً منه رغبة فيما أخذوه وإعراضاً عما تركوه {لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتأمله عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك.
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الموصول مع صلته فاعل لا يحسبن {إِنَّمَآ} بما في حيزها سادة مسد مفعوليه لتمام المقصود بها وهو تعلق الفعل القلبي بالنسبة بين المبتدأ والخبر وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه متصلة فلا يخالف وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف {نُمْلِى لَهُمْ} الإملاء الإمهال وإطالة المدة والملي مقصوراً الدهر والملوان الليل والنهار لتعاقبهما أي أن إملاءنا لهم أو أن ما نمليه لهم {خَيْرٌ لانفُسِهِمْ} من منعهم عن إرادتهم ومعنى التفضيل باعتبار زعمهم {إِنَّمَآ} كافة حقها الاتصال {نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} اللام لام الإرادة عند أهل السنة القائلين بأنه تعالى فاعل الخير والشر مريد لهما فإن الإملاء الذي هو إطالة العمر لا شك أنه من أفعاله تعالى وأنه ليس بخير لهم لأنهم يتوسلون به إلى ازدياد
129
(2/105)
الإثم والطغيان فهو تعالى لما أمهلهم وأطال عمرهم بإرادته واكتسبوا بذلك مآثم من الكفر والطغيان كان خالقاً لتلك المآثم أيضاً ولا تخلق إلا بالإرادة فهو مريد لها كما أنه مريد لأسبابها المؤدية إليها وليست لام العلة لأن أفعاله تعالى ليست معللة بالأغراض وعند المعتزلة لام العاقبة {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي يهانون به في الآخرة قال عليه السلام : "خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله".
ودلت الآية على أن إطالة عمر الكافر والفاسق وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس بخير بل هي نعمة في الصورة ونقمة في الحقيقة ألا يرى أن من أطعم إنساناً خبيصاً مسموماً لا يعد ذلك نعمة عند الحقيقة لإفضائه إلى الهلاك والعقوبة فينبغي للعبد أن لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثرة أمواله ولا أولاده :
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
غره مشو بآن جهانت عزيز كرد
اي بس عزيز راكه جهان كردزود خوار
مارست اين جهان وجها نجوى ماركير
وزماركير مار برآرد كهى دمار
قال الله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج : "إن من نعمي على أمتك أني قصرت أعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم وأقللت أموالهم كيلا يشتد في القيامة حسابهم وأخرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم" وقال أيضاً : "يا أحمد لا تتزين بلين اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فإن النفس مأوى كل شر وهي رفيق سوء كلما تجرها إلى طاعة تجرك إلى معصية وتخالفك في الطاعة وتطيع لك في المعصية وتطغى إذا شبعت وتتكبر إذا استغنت وتنسى إذا ذكرت وتغفل إذا أمنت وهي قرينة للشيطان" وقيل مثل النفس كمثل النعامة تأكل الكثير وإذا حملت عليها لا تطير وإذا قيل أنت طائر قالت أنا بعير وهذه رجلي وإذا حملت عليها شيئاً قالت أنا طائر وهذا جناحي فكثرة المال وكمال الإستغناء تغر النفس قال تعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 7 ـ 7).
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هر ساعتش قبله ديكر ست
قال السعدي قدس سره :
شنيده ام كه بقصاب كوسفندي كفت
دران زمانكه بخنجر سرش زتن ببريد
جزاي هر بن خاري كه خورده ام ديدم
كسى كه بهلوي ر بم خورد ه خواهد ديد
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قلت يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك؟ قالت : وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الحجر من السغب فقال : "يا عائشة والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهباً لأجراها حيث شئت من الأرض ولكني اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها.
يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد" قال عليه السلام : "الدنيا والآخرة ضرتان فمن يطلب الجمع بينهما فهو ممكور ومن يدعي الجمع بينهما فهو مغرور" فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ إلى الدرجات العلى فهو غريق في الغفلة فالله تعالى يمهله في طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوز في طلبها حد الاحتياج إليها ويفتح أبواب المقاصد الدنيوية عليه ليستغني بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانه :
بناز ونعمت دنيا منه دل
كه دل بر داشتن كاريست مشكل
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
فيا أيها الإخوان الذين مضوا قبلنا من الأمم قد عاشوا طويلاً وجمعوا كثيراً فتذكروا موتهم
130
ومصارعهم تحت التراب وتأملوا كيف تبددت أجزاؤهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وهلكت بعدهم صغارهم وكبارهم وانقطعت آثارهم وديارهم فلم يرجع من كفر بنعمة الله إلا إلى العذاب والخسران ولم يصر إلا إلى دركات النيران فمن كانت غفلته كغفلتهم فسيصير إلى ما صاروا إليه وإن عاش طويلاً فإن الله يمهل ولا يهمل قال تعالى : {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} (لقمان : 24) وما الحياة والتمتع بها إلا قليل.
فالدنيا ساعة فاجعلها طاعة لعلك تلحق بالجماعة من أهل الوصول وأرباب القبول.
وجميع الطاعات من أسباب الفلاح خصوصاً الصلاة أفضل العبادات وأعلاها وأشرف الطاعات وأسناها.
والصوم سبب الولوج في ملكوت السموات وواسطة الخروج من رحم مضايق الجسمانيات المعبر عنه بالنشأة الثانية كما أشير إليه بقول عيسى عليه السلام : (لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين) بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء وإليه يشير الحديث القدسي وهو قوله جل شأنه "الصوم لي وأنا أجزي به" يعني أنا جزاؤه ولهذا علق سبحانه نيل سعادة الرؤية بالجوع حيث قال في مخاطبة عيسى عليه السلام : (تجوع تراني).
همي آيد ازحق ندا متصل
تجوع تراني تجرد تصل
رزقنا الله وإياكم.
(2/106)
{مَّا كَانَ اللَّهُ} مريداً {لِيَذَرَ} لأن يترك {الْمُؤْمِنِينَ} المخلصين {عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ماز الشيء يميزه ميزاً عزله وافرزه والمعنى ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم أو بالجهاد أو بالهجرة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي وما كان الله ليؤتى أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان {وَلاـَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى} يصطفي {مِن رُّسُلِه مَن يَشَآءُ} فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها {مَّا كَانَ اللَّهُ} بصفة الإخلاص أو بأن تعلموه وحده مطلعاً على الغيب وتعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يعلمون إلا ما أوحى إليهم {وَإِن تُؤْمِنُوا} حق الإيمان {وَتَتَّقُوا} النفاق {فَلَكُمْ} بمقابلة ذلك الإيمان والتقوى {أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا يبلغ كنهه وهذا الأجر على قدر عظم التقوى فإن السير إلى المقصد الأعلى والوصول إلى منازل الاجتباء لا يتهيأ إلا بقدمي التقى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
قدم بايد اندر طريقت نه دم
كه أصلي ندارد دم بي قدم
قال إبراهيم بن أدهم : بت ليلة تحت صخرة بيت المقدس فلما كان بعض الليل نزل ملكان فقال أحدهما لصاحبه : من ههنا؟ فقال الآخر : إبراهيم بن أدهم فقال ذلك الذي حط الله درجة من درجاته فقال : لم؟ قال : لأنه اشترى بالبصرة التمر فوقعت تمرة على تمره من تمر البقال قال إبراهيم : فمضيت إلى البصرة واشتريت التمر من ذلك الرجل وأوقعت تمرة على تمره ورجعت إلى بيت المقدس وبت في الصخرة فلما كان بعض الليل إذا أنا بملكين قد نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه : من ههنا؟ فقال أحدهما : ذلك الذي رد التمرة إلى مكانه فرفعت درجته فهذا هو التقوى على
131
الحقيقة ومراعاة الحقوق على الوجه اللائق ولا يتيسر ذلك إلا بالتوسل إلى جناب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن غيب الحقائق والأحوال لا ينكشف بلا واسطة الرسول وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلاـَكِنَّ} الخ وكيف يترقى إلى حقيقة التقوى وعالم الاطلاق من تقيد برأيه واختياره قال الله تعالى : {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة : 35) فلا بد من متابعة النبي عليه السلام.
حقا كه بي متابعت سيد رسل
هر كز كسى بمنزل مقصود ره نيافت
ازهي أو بهي درى ره نمى دهند
انرا كه زآستانه او روى دل بتافت
فالإيمان بالله وبرسوله هو التصديق القلبي والإرادة والتمسك بالشريعة والنجاة فيه لا في غيره
ـ روي ـ أن المؤمن إذا ورد النار بمقتضى قوله تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا} (مريم : 71) يصير الله ثواب التوحيد سفينة والقرآن حبلها والصلاة شراعها ويكون المصطفى عليه السلام ملاحها والمؤمنون يجلسون عليها ويكبرون الله وتجري السفينة على بحر نار جهنم بريح طيبة فيعبرون عنها سالمين.
فيا أخي لا تضيع أيامك فإن أيامك رأس مالك وإنك ما دمت قابضاً على رأس مالك فإنك قادر على طلب الربح فاجتهد في تحصيله بالتوغل في الطاعات والعبادات وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والصلاة عليه قبل الموت والفوت فإن الموتى يتمنون أن يؤذن لهم بأن يصلوا ركعتين أو يقولوا مرة لا إله إلا الله أو يسبحوا مرة فلا يؤذن لهم ويتعجبون من الأحياء كيف يضيعون أيامهم في الغفلة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
اكر مرده مسكين زبان داشتى
بفرياد وزارى فغان داشتى
كه أي زنده هست إمكان كفت
لب ازذ كرون مرده برهم مخفت
ومارا بغفلت بشد روز كار
توباري دمي ند فرصت شمار
قال عليه السلام : "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" فتميز المنافق من المخلص كما يكون في الدنيا بالأقوال والأفعال وغيرهما كذلك يكون في الآخرة ببياض وجه هذا وسواد وجه ذلك كما قال تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران : 106) فعلى العاقل أن يتحمل مشاق الطاعات والتكاليف والامتحانات الإلهية لعله يفوز بالمرام ويظفر بالبغية يوم يخيب المعرضون والمنافقون ويخسرون.
خوش بود كر محك تجربه آيدبميان
باسيه روى شود هر كه دروغش باشد
قال بعض الكبار : وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان عصمنا الله وإياكم من المخالفة.
(2/107)
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} الموصول فاعل لا يحسبن والمفعول الأول محذوف لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم {هُوَ} ضمير فصل لا محل له من الإعراب {خَيْرًا لَّهُمْ} من إنفاقهم مفعول ثاننٍ للفعل المذكور {بَلْ هُوَ} أي البخل {شَرٌّ لَّهُمْ} لاستجلاب العقاب عليهم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بيان لقوله هو شر لهم أي سيلزمون وبال ما بخلوا به الزام الطوق إذ لا طوق ثمة فيكون من قبيل الاستعارة التمثيلية شبه لزوم وبال البخل وإثمه بهم بلزوم طوق نحو الحمامة بها في عدم زوال كل واحد منهما عن صاحبه فعبر عن لزوم الوبال بهم بالتطويق واشتق منه يطوقون كما يقال منة فلان طوق
132
في رقبة فلان وقيل : هو على حقيقته وأنهم يطوقون حية أو طوقاً من نار استدلالاً بالحديث وسيجيىء {وَلِلَّهِ} وحده لا لأحد غيره استقلالاً واشتراكا {مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره من الرسالات التي يتوارثها أهل السموات فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله أو أنه يورث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والندامة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من المنع والإعطاء {خَبِيرٌ} فيجازيكم على ذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
واعلم أن البخل عبارة عن امتناع أداء الواجب والامتناع عن التطوع لا يكون بخلاً ولذلك قرن به الوعيد والذم والواجب كثير كالإنفاق على النفس والأقارب الذين يلزمه مؤونتهم والصدقة على الغير حال المخمصة وفي حال الجهاد عند الاحتياج إلى التقوية بالمال.
ثم إن في الآية إشارة إلى أن البخل إكسير الشقاوة كما أن السخاء إكسير السعادة وذلك لأن الله تعالى سمي المال فضله كما قال : {مِن فَضْلِهِ} والفضل لأهل السعادة فبإكسير البخل يصير الفضل قهراً والسعادة شقاوة كما قال : {هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} يعني بإكسير البخل يجعلون خيرية ما آتاهم الله من فضله شراً لهم ولو أنهم طرحوا على ما هو فضله إكسير السخاء لجعلوه خيراً لهم فصيروه سعادة ولصاروا بها أهل الجنة ولن يلج الجنة الشحيح ثم عبر عن آفة حب الدنيا والمال بالطوق لأنها تحيط بالقلب ومنها تنشأ معظم الصفات الذميمة مثل البخل والحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب وغير ذلك ولهذا قال النبي عليه السلام : "حب الدنيا رأس كل خطيئة" فبمنع الزكاة يصير الروح الشريف العلوي النوراني محفوفاً بهذه الصفات الخسيسة السفلية الظلمانية مطوقاً بآفاتها وحجبها وعذابها يوم القيامة وبعد المفارقة فإنه من مات فقد قامت قيامه :
نه منعم بمال ازكسى بهترست
خررا جل اطلس بوشد خرست
هنر بايد وفضل ودين وكمال
كه كه آيد وكه رود جاه ومال
سنديده رأيى كه بخشيد وخورد
جهان ازى خويشتن كرد كرد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له
زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه" يعني بشدقيه "ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية" في رواية "يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول أنا مالك" وقال صلى الله عليه وسلّم "ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون واسمنه تطأه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس".
قال أبو حامد : مانع زكاة الإبل يحمل بعيراً على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم.
ومانع زكاة البقر يحمل ثوراً على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم.
ومانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء وثقل يعدل الجبل العظيم والرغاء والخوار والثغاء كالرعد القاصف.
ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله اعدالا قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به براً كان أو شعيراً أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل والثبور.
ومانع زكاة المال يحمل شجاعاً أقرع له
133
زبيبتان وذنبه قد انساب في منخريه واستدار بجيده وثقل على كاهله كأنه طوق بكل رحى في الأرض وكل واحد ينادي ما هذا فيقول الملائكة : هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحاً عليه فمنع الزكاة سبب للعقاب في العقبى كما أن إيتاءها سبب للثواب في الأخرى وحصن لماله في الدنيا قال صلى الله عليه وسلّم "حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستقبلوا البلايا بالدعاء" قال عليه السلام : "لا صلاة لمن لا زكاة له".
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
(2/108)
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام مرّ برجل وهو يصلي مع حضور وخشوع فقال : يا رب ما أحسن صلاته قال الله تعالى : "لو صلى في كل يوم وليلة ألف ركعة وأعتق ألف رقبة وصلى على ألف جنازة وحج ألف حجة وغزا ألف غزوة لم ينفعه حتى يؤدي زكاة ماله" وقال عليه الصلاة والسلام : "ملعون مال لا يزكي كل عام وملعون بدن لا يبتلي في كل أربعين ليلة ومن البلاء العثرة والنكبة والمرضة والخدشة واختلاج العين فما فوق ذلك" فإذا سمعت هذه الأخبار وقفت على وزر من وقف على الإصرار ولم يؤد زكاة ماله بطيبة النفس وصفاء البال إلى أن يرجع فقيراً ميتاً بعدما ساعدته الأحوال والأموال.
ريشان كن امروز كنجينه ست
كه فردا كليدش نه دردست تست
تو باخود ببر توشه خويشتن
كه شفقت نيايد ز فرزند وزن
بخيل توانكر بدينار وسيم
طلسمست بالاي كنجى مقيم
ازان سالها مى بماند زرش
كه لرزد طلسمي نين بر سرش
بسنك أجل ناكهان بشكنند
بآسودكي كنج قسمت كنند
و در زندكاني بدي باعيال
كرت مرك خواهند از ايشان منال
تو غافل در انديشه سود مال
كه سر ماية عمر شد بإيمال
بكن سرمه غفلت از شم اك
كه فردا شوى سرمه درشم خاك
جزء : 2 رقم الصفحة : 129
{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} (البقرة : 245) قالته اليهود لما سمعوا قوله تعالى : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} .
ـ روي ـ أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له اشيع فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال : فنحاص يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني فإن كان ما تقول حقاً فإن الله إذاً لفقير ونحن أغنياء وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فشكاه وجحد ما قاله فنزلت رداً عليه وتصديقاً لأبي بكر ، والجمع حينئذٍ مع كون القائل واحداً لرضى الباقين بذلك والمعنى أنه لم يخف عليه
134
تعالى وأعد له من العقاب كفاءه والتعبير عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أي سنكتب ما قالوه من الخطة الشنعاء في صحائف الحفظة أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب.
والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبداً تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر بالله تعالى واستهزاء بالقرآن العظيم والرسول الكريم عليه السلام.
{وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ} عطف عليه إيذاناً بأنهما في العظم إخوان وتنبيهاً على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها بل لهم فيه سوابق وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يبعد منه أمثال هذه العظائم والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم {بِغَيْرِ حَقٍّ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من قتلهم أي كائناً بغير حق وجرم في اعتقادهم أيضاً كما هو في نفس الأمر {وَنَقُولُ} عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي وننتقم منهم بعد الكتبة بأن نقول لهم : ذوقوا العذاب المحرق كما أذقتم المرسلين الغصص {ذَالِكَ} إشارة إلى العذاب المذكور {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياء والتفوه بمثل تلك العظيمة وغيرها من المعاصي والتعبير عن الأنفس بالأيدي لأن أكثر الأعمال يزاول بهن فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلي مقررة لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم.
(2/109)
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
والإشارة في تحقيق الآيتين أن العبد إذا غلبت عليه الصفات الذميمة واستولى عليه الهوى والشيطان ومات قلبه تكاملت الصفة الأمارية لنفسه فما ينطق إلا عن الهوى إن هو إلا وحي يوحيه إليه الشيطان كقوله تعالى : {وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآاـاِهِمْ} (الأنعام : 121) والنفس إذا تكملت بالهوى تدعى الربوبية كما ادعى فرعون وقال : أنا ربكم الأعلى فيكون كلامها من صفات الربوبية وأن من صفات الربوبية قوله : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} فإذا تم فساد حال النفس الأمارة بالسوء أثبتت صفات الربوبية لنفسها وصفات العبودية لربها كقوله : {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} أثبتوا لنفسهم صفات الربوبية وهي الغنى وأثبتواصفة العبودية وهي الفقر {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أي سنميت قلوبهم بأقوالهم هذه كما امتناها بأفعالهم هي {وَقَتْلَهُمُ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} يشير إلى أن جزاء هذه الأقوال في حق الله مثل جزاء هذه الأفعال في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ} القلب الميت {الْحَرِيقِ} بنار القهر والقطيعة {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بشؤم معاملاتكم القولية والفعلية على وفق الهوى والطبيعة وخلاف الرضى والشريعة {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} بأن يضع الشيء في غير موضعه يعني لا يجعل المصلح منهم مظهر صفة قهره
135
ولا المفسد منهم مظهر صفة لطفه كما قال تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام : 24) وهذا كما يقال :
ندهد هو شمند روشن رأى
بفرومايه كارهاي خطير
بورياباف اكره بافنده است
نبرندش بكار كاه حرير
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
وإذا كان للعبد حسن الاستعداد يتحول القهر في حقه إلى اللطف بشرط أن يجتهد ويبذل ما في وسعه وطاقته وكم من مؤمن يصير في مآله كافراً وكم من عكسه فإذا جاء حين السعادة انقلب الحال وكذا الشقاوة.
قال بعض المشايخ العباد على قسمين في أعمارهم فرب عمر اتسعت آماده وقلت امداده كأعمار بني إسرائيل إذ كان الواحد منهم يعيش الألف ونحوها ولم يحصل على شيء مما تحصل لهذه الأمة مع قصر أعمارها ورب عمر قليل آماده كثيرة امداده كعمر من فتح عليه من هذه الأمة فوصل إلى عناية الله بلمحة.
فقد قال أحمد بن الحواري رحمه الله : قلت لأبي سليمان الداراني إني قد غبطت بني إسرائيل قال : بأي شيء؟ قلت بثمانمائة سنة حتى يصيروا كالشنان البالية وكالحنايا وكالأوتار قال : ما ظننت إلا وقد جئت بشيء والله ما يريد الله منا أن ييبس جلودنا على عظامنا ولا يريد منا إلا صدق النية فيما عنده هذا إذا صدق في عشرة أيام نال ما ناله ذلك في عمره الطويل فإن من بورك له في عمره أدرك في يسير من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة لكثرته وعظمه ودقته ورفعته.
وقد قال الشيخ الشاذلي رحمه الله في كتاب "تاج العروس" من قصر عمره فليذكر بالأذكار الجامعة مثل سبحان الله عدد خلقه ونحو ذلك ويعني بقصر العمر والله أعلم أن يكون رجوعه إلى الله في معترك المنايا ومنحوها من الأمراض المخوفة والأعراض المهولة وإذا كان الأمر على ما ذكر فالخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه بصدق النية حتى يفتح عليك بما لا تصل الهمم إليه وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه عن عوالم نفسك والاتئناس بيومك وأمسك فقد جاء خصلتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ومعناه ـ والله أعلم ـ أن الصحيح ينبغي أن يكون مشغولاً بدين أو دنيا وإلا فهو مغبون فيهما عصمنا الله وإياكم من الغبن والخذلان والخسران.
مهل كه عمر به بيهوده بكذرد حافظ
بكوش وحاصل عمر عزيزرا درياب
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
قيل : الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهال.
{الَّذِينَ} أي الذين {قَالُوا} وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيى بن أخطب وفنحاس بن عازوراء ووهب بن يهودا {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ} أي أمرنا في التوراة وأوصانا {أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} فيكون دليلاً على صدقه.
والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح وهو فعلان من القربة.
قال عطاء : كانت بنو إسرائيل يذبحونتعالى فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها وسط البيت والسقف مكشوف فيقوم النبي عليه السلام في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لا دخان لهاولها دويّ وهفيف حين تنزل من السماء فتأكل ذلك القربان أي تحيله إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل القربان النار لم يوجب الإيمان
136
(2/110)
إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء ولما كان محصل كلامهم الباطل أن عدم إيمانهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان رد عليهم بقوله تعالى : {قُلْ} أي : تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم.
{قَدْ جَآءَكُمُ} أي : جاء أسلافكم وآباءكم {رُسُلُ} كثيرة العدد كبيرة المقدار {مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ} أي المعجزات الواضحة {وَبِالَّذِى قُلْتُمْ} بعينه من القربان الذي تأكله النار فقتلتموهم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وغيرها من الأنبياء عليهم السلام قد جاءوكم بما قلتم في معجزات أخر فما لكم لم تؤمنوا حتى اجترأتم على قتلهم.
{فَإِن كَذَّبُوكَ} شروع في تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
{فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} تعليل لجواب الشرط أي فتسل واصبر فقد كذب الخ {جَآءُو بِالْبَيِّنَـاتِ} المعجزات الواضحات صفة لرسل {وَالزُّبُرِ} جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته إذا حسنته أو الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته {وَالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ} أي التوراة والإنجيل والزبور.
والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة المواقع.
والمنير أي المضيء البين بالأمر والنهي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
والإشارة أن الله تعالى كما قدر أن بعض الأمم يغلبون بعض أنبيائهم ويقتلونهم قبل الإيمان أو بعد الإيمان بهم كذلك قدر أن بعض الصفات النفسانية يغلب على بعض الإلهامات الربانية والواردات الرحمانية فيمحوها كما قال تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39) قبل انقيادها لها أو بعدما انقادت لها ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وبالجملة أن الروح يصير بمجاورة الصفات النفسانية كالنفس في الدناءة فتصير الصفات الذميمة غالبة عليه كما تغلب على الإلهامات فعلى السالك أن يتجنب عن مصاحبة المفسدين ومجاورة صفات النفس.
نفس ازهم نفس بكيرد خوى
بر حذر باش ازلقاي خبيث
باد ون بر فضاي بد كذرد
بوي بدكيرد ازهواي خبيث
فطوبى لعبد طهر نفسه من الصفات الرذيلة والعناد والإصرار ورأى الحق حقاً والباطل باطلاً وانقطع عن ميل الدنيا واتباع الهوى وموافقة غير الله.
ـ روي ـ أن عيسى عليه السلام مر بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق فقال : يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا على سخط ولو ماتوا على غير ذلك لتدافنوا فقالوا : يا روح الله وددنا أنا علمنا خبرهم فسأل ربه فأوحى الله إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على الموتى ثم نادى يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله فقال : ما حالكم وما قصتكم؟ قال : بتنا في عافية وأصبحنا في هاوية قال : وكيف ذلك؟ قال : لحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي قال : وكيف كان حبكم الدنيا؟ قال : كحال الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا وإذا أدبرت حزنا قال : فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال : لأنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال : كيف أجبتني من بينهم؟ قال : لأني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أأنجو منها أم أكبكب فيها؟.
واعلم أن الإنكار والتكذيب من حب الدنيا والميل إليها لأن الأنبياء والأولياء يدعون إلى الجنة والمولى
137
وحفت الجنة بالمكاره والإنسان إذا رأى ما يكرهه يتنفر عنه ثم إذا أقدم على الإتيان به وأكره يأخذ بالإنكار قال الله تعالى : {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة : 216) وقد وصى الحكماء الإلهية أن لا يجالس المريد أهل الإنكار بل لا يلتفت إليهم أصلاً إذ للمجاورة تأثير عظيم كما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
عدوي البليد إلى الجليد سريعة
والجمر يوضع في الرماد فيخمد
بابدان يار كشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
سك أصحاب كهف روزي ند
ي مردم كرفت ومردم شد
قال مولانا جلال الدين قدس سره في هذا المعنى :
كرتوسنك وصخره ومرمر شوى
ون بصاحب دذل رسى كوهر شوي
ساقنا الله وإياكم إلى طريقة أوليائه ومجالسة أحبائه آمين
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
(2/111)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} أي تخرج وتنفك من البدن بأدنى شيء من الموت فكنى بالذوق عن القلة وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب من حيث أنه كناية عن أن هذه الدار بعدها دار أخرى يتميز فيها المحسن من المسيء ويتوفر على كل أحد ما يليق به من الجزاء وفي الحديث : "لما خلق الله آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا ويدفن في التربة التي خلق منها" {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} أي تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً {يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} أي يوم قيامكم من القبور وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما ينبىء عنه قوله عليه السلام : "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران" {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} أي بعد عنها يومئذٍ ونحي.
والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} بالنجاة ونيل المراد.
والفوز الظفر بالبغية وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس بما يحب أن يؤتى به إليه" {وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ} أي لذاتها وزخارفها {إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ} شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن آثرها على الآخرة ومن آثر الآخرة عليها فهي له متاع بلاغ أي تبليغ إلى الآخرة وإيصال إليها فلذلك سماه الله خيراً حيث قال : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فالعاقل لا يغتر بالدنيا فإنها لين مسها قاتل سمها ظاهرها مطية السرور وباطنها مطية الشرور :
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
ترا دنيا همي كويد شب وروز
كه هان از صحبتم رهيز ورهيز
مده خودرا فريب از رنك وبويم
كه هست اين خنده من كريه آميز
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يقول الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، وإن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرأوا إن شئتم وظل ممدوح ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها واقرأوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور".
138
بناز ونعمت دنيا منه دل
كه دل بر داشتن كاريست مشكل
فمن أتى بالطاعات واجتنب عن السيآت وأعرض عن الدنيا ولذاتها فاز بالجنة ودرجاتها ومن عكس الأمر عوقب بالحرمان في دركات النيران.
ـ روي ـ أن جبريل عليه السلام جاء النبي صلى الله عليه وسلّم متغير اللون فسأله النبي صلى الله عليه وسلّم عن تغير لونه فقال : جئتك وقد أمر الله أن ينفخ في نار جهنم فقال عليه السلام : "صف لي جهنم فقال : لما خلق الله جهنم أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت والذي بعثك بالحق نبياً لو أن جمرة منها وقعت لاحترقت أهل الدنيا ولو أن ثوباً من أثوابها علق بين السماء والأرض لماتوا من نتن رائحته لها سبعة أبواب بعضها أسفل من بعض فقال صلى الله تعالى عليه وسلم من سكان هذه الأبواب فقال : الباب الأول فيه المنافقون واسمه الهاوية والباب الثاني فيه المشركون واسمه الجحيم والباب الثالث فيه الصابئون واسمه سقر والباب الرابع فيه إبليس واتباعه والمجوس واسمه لظى والباب الخامس فيه اليهود واسمه الحطمة والباب السادس فيه النصارى واسمه السعير والباب السابع فيه عصاة الموحدين واسمه النار يدخلونها ثلاثة أيام فأخبر سلمان حال النبي عليه السلام لفاطمة فسألت النبي فأخبرها النبي عليه السلام فقالت فاطمة رضي الله عنها كيف يدخلونها فقال صلى الله عليه وسلّم أما الرجال فباللحى وأما النساء فبالذوائب ثم إنهم يخرجون من النار بشفاعة النبي عليه السلام" فتبين أن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وأنزل الله على بعض أنبيائه يا ابن آدم تشتري النار بثمن غال ولا تشتري الجنة بثمن رخيص قيل في معناه أن فاسقاً يتخذ ضيافة للفساق بمائة درهم أو مائتين فيشتري النار ولو اتخذ ضيافة للفقراء بدرهم أو درهمين يكون ثمن الجنة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
غم وشادماني نماند وليك
جزاي عمل ماند ونام نيك
كرم اي دارد نه ديهيم وتخت
بده كزتو اين ماند اي نيكبخت
من تكيه برملك وجاه وحشم
كه يش ازتوبودست وبعد ازتوهم
(2/112)
واعلم أن البعد عن النار ودخول الجنة بالاجتناب عن المعاصي والمسارعة إلى الطاعة وذلك بالهرب عن مقام النفس والدخول في مقام القلب فإن من دخل حرم القلب كان آمناً كما قال تعالى : {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا} (آل عمران : 97) فمن وصل إلى ذلك الحرم فقد خلص من أنواع الألم فهو جنة عاجلة.
قال بعضهم للعارف : جنة عاجلة وهي جنة المعرفة.
ثم إن أعظم أسباب دخول الجنة كلمة الإخلاص والتوحيد وفقنا الله وإياكم.
ثم اعلم أن النفوس على ثلاثة أقسام : قسم منها يموت ولا حشر له للبقاء كسائر الحيوانات ، وقسم يموت في الدنيا ويحشر في الآخرة كنفوس الإنسان والملائكة والجن والشياطين ، وقسم منها يموت في الدنيا ويحشر في الدنيا والآخرة جميعاً وهي نفوس خواص الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام : "المؤمن حي في الدارين" على أن لها موتاً معنوياً في الدنيا كما قال تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا يَمْشِي بِه فِى النَّاسِ} (الأنعام : 122) وهو البقاء بنور الله ففي قوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} إشارة إلى
139
أن كل نفس مستعدة للفناء في الله فلا بدلها من موت فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب ومن كان فناؤه في الله يكون بقاؤه بالله {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} على قدر تقواكم وفجوركم {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} أي عن نار القطيعة وأخرج من جحيم الطبيعة على قدمي الشريعة والطريقة {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} الحقيقية {فَقَدْ فَازَا وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ} ونعيمها {إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ} أي متاع يغتر به المغرور والممكور {لَتُبْلَوُنَّ} أصل الإبتلاء الإختبار أي تطلب الخبرة بحاله المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً ملابسة أو مفارقة وذلك إنما يتصور ممن لا وقوف له على عواقب الأمور وأما من جهة العليم الخبير فلا يكون إلا مجازاً من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين أو الأمور قبل أن يرتب عليه شيء هو من مباديه العادية.
والجملة جواب قسم محذوف أي والله لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأعمال الحسنة
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
{فِى أَمْوَالِكُمْ} بما يقع فيها من ضروب الآفات المؤدية إلى الهلاك {وَأَنفُسَكُمْ} بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ونحو ذلك {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} من العرب كأبي جهل والوليد وأبي سفيان وغيرهم {أَذًى كَثِيرًا} من الطعن في الدين الحنيف والقدح في أحكام الشرع الشريف وصد من أراد أن يؤمن وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأصحابه من هجاء المؤمنين وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحو ذلك مما لا خير فيه أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال على المكروه ويستعدوا للقائها فإن هجوم الأوجال مما يزلزل أقدام الرجال والاستعداد للكروب مما يهون الخطوب {وَأَن تَصْبِرُوا} على تلك الشدائد والبلوى عند ورودها وتقابلوها بحسن التقابل.
{وَتَتَّقُوا} أي : تتبتلوا إلى الله تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه {فَإِنَّ ذَالِكَ} يعني : الصبر والتقوى {مِنْ عَزْمِ الامُورِ} من معزوماتها التي تنافس فيها المتنافسون أي مما يجب أن يعزم عليه كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه يعني أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد أن تصبروا وتتقوا.
واعلم أن مقابلة الإساءة تفضي إلى ازدياد الإساءة فأمر بالصبر تقليلاً لمضار الدنيا وأمر بالتقوى تقليلاً لمضار الآخرة فالآية جامعة لآداب الدنيا والآخرة.
فعلى العاقل أن يتخلق بأخلاق الأنبياء والأولياء ويتأدب بآدابهم فإنهم كانوا يصبرون على الأذى ولا يقابلون السفيه بمثل مقابلته وإذا مروا باللغو مرواً كراماً.
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن الى من أساء
وقد مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم بقوله : "وإنك لعلى خلق عظيم" قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلق النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن ، يعني تأدب بآداب القرآن قيل مدار عظم الخلق بذل المعروف وكف الأذى أي احتماله ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان موصوفاً بها وقد أنزل الله في معروفه {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء : 29) وتحمل الأذى إنما يكون
140
(2/113)
بصبر قوي وهو عليه السلام كان صبوراً لتحمل الأذى أكثر من أن يحصى قال عليه السلام : "صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك" وما أمر عليه السلام غيره بها إلا بعد أن تخلق بها وأمته لا بد أن تتبعه في تحمل الأذى وغيرها لا تسمع بدون الحجة القوية والابتلاآت التي ترد من طرف الحق كلها لتصفية النفس وتوجيهها من الخلق إلى الخالق ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" كأنه قال ما صفي نبي مثل ما صفيت وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ادع الله على المشركين فقال : "إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً" فالابتلاء رحمة ونعمة ، قال جلال الدين قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
درد شتم داد حق تامن زخواب
بر جهم درنيم شب باسوز وتابتانخسبم جمله شب ون كاوميش
دردها بخشيد حق از لطف خويش
والإشارة في الآية {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} بالجهاد الأصغر هل تجاهدون بها وتنفقونها في سبيل الله وبالجهاد الأكبر أما الأموال فهل تؤثرون على أنفسكم ولو كان بكم خصاصة وأما الأنفس فهل تجاهدون في الله حق جهاده أو لا {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} يعني أهل العلم الظاهر {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي أهل الرياء من القراء والزهاد {أَذًى كَثِيرًا} بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض {وَأَن تَصْبِرُوا} على جهاد النفس وبذل المال وأذية الخلق {وَتَتَّقُوا} بالله عما سواه {فَإِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} الذي هو من أمور أولي العزم كما قال {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف : 35) ومن لم يحافظ على هذه الأمور كان من المدعين.
مشكل آيد خلق را تغيير خلق
آنكه بالذات است كى زائل شود
أصل طبع است وهمه أخلاق فرع
فرع لا بد أصل را مائل شود
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
فظهر أن من لم يهد الله لا يهتدي إلى مكارم الأخلاق وحسان الخصال وسنيات الأحوال {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ} أي : اذكر يا محمد وقت أخذه تعالى {مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} وهم علماء اليهود والنصارى وذلك أخذ على لسان الأنبياء عليهم السلام {لَتُبَيِّنُنَّهُ} حكاية لما خوطبوا به والضمير للكتاب وهو جواب قسم ينبىء عنه أخذ الميثاق كأنه قيل لهم بالله لتبينه {لِلنَّاسِ} وتظهرنّ جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلّم وهو المقصود بالحكاية {وَلا تَكْتُمُونَهُ} عطف على الجواب وإنما لم يؤكذ بالنون لكونه منفياً كما في قولك : والله لا يقوم زيد.
{فَنَبَذُوهُ} النبذ الرمي والإبعاد أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق الموثوق بفنون التأكيد والقوه {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلاً فإن نبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية {وَاشْتَرَوْا بِهِ} أي : بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموا أي تركوا ما أمروا به وأخذوا بدله.
{ثَمَنًا قَلِيلا} أي شيئاً تافهاً حقيراً من حطام الدنيا وأعراضها ، وهو ما تناولوه من سفلتهم فلما كرهوا أن يؤمنوا فينقطع ذلك عنهم كتموا ما علموا من ذلك وأمروهم أن يكذبوه {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون
141
صفة والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً يشترونه ذلك الثمن وظاهر الآية وإن دل على نزولها في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يخفون الحق ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا إلا أن حكمهما يعم من كتم من المسلمين أحكام القرآن الذي هو أشرف الكتب وأنهم أشراف أهل الكتاب.
قال صاحب الكشاف وكفى به دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم أو لجر منفعة من حطام الدنيا لنفسه مما لا دليل عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إلى غيرهم انتهى بعبارته فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً من هذه الأمور دخل تحت وعيد الآية كذا في "تفسير الإمام".
فعلى المرء أن يحسن نيته حال الإضمار والإظهار ويطهر سريرته من لوث الإعراض والأوزار والإنكار :
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
زيان مى كند مرد تفسير دان
كه علم وأدب ميفروشد بنان
بدين أي فرومايه دنى مخر
وخر بانحبيل عيسى مخر
يعني لا تشتر بالعلم والقرآن ما تربي به نفسك من شهواتك ولا تخف من الخلق من إظهار الأحكام وأصدع بما أمرت به.
(2/114)
ـ حكي ـ أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال : ما الذي بلغني عنك؟ فقال : ما كل الذي بلغك قلته ولا كل ما قلته بلغك قال : أنت الذي قلت أن النفاق كان مقموعاً فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً فقال : نعم فقال : وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه قال : لأن الله أخذ ميثاق الذي أوتوا الكتاب لتبييننه للناس ولا تكتمونه.
قال قتادة مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب وكان يقول : طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خبراً فوعاه قال صلى الله عليه وسلّم "من كتم علماً على أهله الجم بلجام من نار".
قال الفضيل ـ رحمه الله ـ : لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعاً وعز الإسلام وأهله ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يسألوا ما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما في أيدي الناس فذلوا وهانوا على الناس.
وعن الفضيل أيضاً قال : بلغني أن الفسقة من العلماء ومن حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأصنام فيقولون : ربنا ما بالنا فيقول الله ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع في خسران مبين ولا يخفى أن مداره على حب الدنيا ساقنا الله وإياكم إلى طريق القناعة.
ـ حكي ـ أن ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا وجعلوا قبور موتاهم على أبوابهم يقتاتون بنبات الأرض ويشتغلون بالطاعة فأرسل ذو القرنين إلى رئيسهم فقال : مالي حاجة إلى صحبة ذي القرنين فجاء ذو القرنين فقال : ما سبب قلة الذهب والفضة عندكم؟ قال : ليس للدنيا طالب عندنا لأنها لا تشبع أحداً فجعلنا القبور عندنا حتى لا ننسى الموت ثم أخذ قحف إنسان وقال : هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعية ويجمع حطام الدنيا فقبضه الله تعالى وبقي عليه السيآت ثم أخرج آخر وقال هذا أيضاً رأس ملك عادل مشفق فقبضه وأسكنه جنته ورفع درجته ثم وضع يده على رأس ذي القرنين
142
وقال : من أي الرأسين يكون رأسك؟ فبكى ذو القرنين وقال : إن رغبت في صحبتي شاطرتك مملكتي وسلمت إليك وزارتي فقال : هيهات فقال ذو القرنين : ولم؟ قال : لأن الناس أعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم أحبابي بسبب القناعة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
نيرزد عسل جان من زخم نيش
قناعت نكوتر بدو شاب خويش
كدايى كه هر خاطرش بندنيست
به ازاد شاهى كه خرسند نيست
اكرادشا هست اكر بينه دوز
و خفتند كرددشب هردوروز
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
{لا تَحْسَبَنَّ} يا محمد أو الخطاب لكل أحد ممن يصلح له {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا} أي : بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق.
{وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق {فَلا تَحْسَبَنَّهُم} تأكيد لقوله لا تحسبن والمفعول الثاني له قوله : {بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} أي ملتبسين بنجاة منه {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بكفرهم وتدليسهم {وَلِلَّهِ} أي : خاصة {مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيف يشاء ويريد إيجاداً وإعداماً إحياء وإماتة تعذيباً وإثابة من غير أن يكون لغيره شائبة دخل في شيء من ذلك بوجه من الوجوه وهو يملك أمرهم ويعذبهم بما فعلوا لا يخرجون عن قبضة قدرته ولا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على عقابهم وكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر.
ـ روي ـ أنه عليه السلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيه وأروه أنهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فنزلت وقيل : هم المنافقون كافة وهو الأنسب بظاهر قوله تعالى : {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} فإنهم كانوا يفرحون بما فعلوه من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة والأولى إجراء الموصول على عمومه شاملاً لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار من الفضائل وأنواع البر وكون السبب خاصاً لا يقدح في عمومية حكم الآية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
واعلم أن الفرح بمتاع الدنيا وحب مدح الناس من صفات أرباب النفس الأمارة المغرورين بالحياة الدنيا وتمويهات الشيطان المحجوبين عن السعادات الأخروية والقربات المعنوية.
قال الإمام في تفسيره وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم من أهل العفاف والصدق والدين.
(2/115)
اي برادر ازتو بهتر هي كس نشناسدت
زانجه هسستي يك سرمو خويش را افزون منه
كرفزون از قدرتو بشناسدت تابخردي
قدر خود بشناس واي ازحد خود بيرون منه
فعلى العاقل أن لا يتعدى طوره ولا يفرح بما ليس فيه فإنه لا يغني عنه شيئاً.
قال بعض المشايخ : الناس يمدحونك لما يظنون فيك من الخير والصلاح اعتباراً بما يظهر من ستر الله عليك فكن أنت ذامّاً لنفسك لما تعلمه منها من القبائح والمؤمن إذا مدح استحيى من الله أن يثني عليه بوصف
143
لا يشهده من نفسه وأجهل الناس من يترك يقين ما عنده من صفات نفسه التي لا شك فيها لظن ما عند الناس من صلاحية حاله.
قال الحارث المحاسبي رحمه الله : الراضي بالمدح بالباطل كمن يهزأ به ويقال إن العذرة التي تخرج من جوفك لها رائحة كرائحة المسك ويفرح بذلك ويرضى بالسخرية به :
بحبل ستايش فراه مشو
و حاتم اصم باش وعيبت شنو
يعني لا تغتر بالمدح حتى لا تقع في بئر الهلاك وكن كالشيخ حاتم الأصم صورة فإن الخلق إذا ظنوك يتكلمون في حقك ما لا ترضى به من القول لو سمعت فإذن تسمع عيوبك منهم وفي ذلك فائدة عظيمة لك لأن المرء إذا عرف عيبه يجتهد في قمعه والتحلي بالأوصاف الجميلة والعارف هو الذي يستوي قلبه في المدح والذم لا ينقبض من الذم ولا ينبسط من المدح وكيف ينبسط بما يتحقق به مما يقوله الخلق من هو أعرف بحال نفسه وإن انبسط فهو المغرور والمدعي هو الذي يرى نفسه صادقاً في الأحوال والمعاملات وكل الحالات كأنه لا يتعرض لشيء من الدنيا أصلاً وحاله شاهدة عليه في هذا الباب فإن المرء له محك في أقواله وأفعاله وأحواله قال عليه السلام : "إنما مثل صاحب الدنيا كمثل الماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبل قدماه فمن هذا يعرف جهالة الذين يزعمون أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم عنها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة الشيطان بل هم لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا أعظم المتفجعين بفراقها فكما أن المشي في الماء يقتضي بللا لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب بل علاقة القلب مع الدنيا تمنع حلاوة العبادة".
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
قال الشيخ أبو عبد الله القرشي ـ رحمه الله ـ : شكا بعض الناس لرجل من الصالحين أنه يعمل البر ولا يجد حلاوته في القلب فقال : لأن عندك ابنة إبليس في قلبك وهي الدنيا ولا بد للأب أن يزور ابنته في بيتها وهو قلبك ولا يؤثر دخوله إلا فساداً قال الله تعالى : (يا داود إن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب أبداً).
وروي أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه : لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم قالوا : ومن الموتى؟ قال : الراغبون في الدنيا المحبون لها.
برمرد هشيار دنيا خسست
كه هرمدتي جاي ديكر كسست
منه برجهان دل كه بيكانه ايست
و مطرب كه هرروزدر خانه ايست
نه لايق بود عشق بادلبرى
كه هر بامدادش بود شو هرى
عصمنا الله وإياكم.
{إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم بآية لصحة دعواه لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده فنزل {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} خلقين عظيمين ويقال فيما خلق الله في السموات من الشمس والقمر والنجوم وما خلق الله في الأرض من الجبال والبحار والأشجار والوحوش والطيور {إِنَّ فِى خَلْقِ} يعني ذهاب الليل ومجيء النهار ويقال في اختلاق لونيهما أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قرباً وبعداً بحسب الأزمنة {لايَـاتٍ لاوْلِى الالْبَـابِ} لعبرات كثيرة لذوي العقل
144
الخالص من شوائب الأوهام والخيالات.
واللب خالص العقل فإن العقل له ظاهر وله لب ففي أول الأمر يكون عقلاً وفي حال كماله ونهاية أمره يكون لباً {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} نعت لأولي الألباب أي يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين فإن الإنسان لا يخلو عن هذه الهيآت غالباً.
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} يعني : يعتبرون في خلقهما ، وإنما خصص التفكر بالخلق لقوله عليه السلام : "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق" وإنما نهى عن التفكر في الخالق لأن معرفة حقيقته المخصوصة غير ممكنة للبشر فلا فائدة في التفكر في ذات الخالق.
ولما كان الإنسان مركباً من النفس والبدن كانت العبودية بحسب النفس وبحسب البدن فأشار إلى عبودية البدن بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
(2/116)
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} الخ فإن ذلك لا يتم إلا باستعمال الجوارح والأعضاء وأشار إلى عبودية القلب والروح بقوله : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} .
وعن عطاء بن أبي رباح قال : دخلت مع ابن عمر وعبيد الله بن عمر على عائشة رضي الله عنها فسلمت عليها فقالت : من هؤلاء؟ فقلت : عبيد الله بن عمر فقالت : مرحباً بك يا عبيد الله بن عمر مالك لا تزورنا؟ فقال عبيد الله : زر غباً تزدد حباً قال ابن عمر : دعونا من هذا حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله عليه السلام فبكت بكاء شديداً فقالت : كل أمره عجيب أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي فقال : "يا عائشة أتأذنين لي أن أتعبد لربي" فقلت : والله إني لأحب قربك وهواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى بلغ الدموع حقويه حتى اتكأ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى حتى ادرّت الدموع وبلغت الأرض ثم أتاه بلال بعدما أذن للفجر فلما رآه يبكي قال : لم تبكي يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : "يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ومالي لا أبكي وقد أنزلت علي الليلة إن في خلق السموات والأرض إلى قوله فقنا عذاب النار ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" وفي الحديث "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة".
وفي التفضيل وجهان :
أحدهما : أن التفكر يوصلك إلى الله ، والعبادة توصلك إلى ثواب ، الله والذي يوصلك إلى الله خير مما يوصلك إلى غير الله.
والثاني : أن التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح.
ثم شرع في تعليم الدعاء تنبيهاً على أن الدعاء إنما يجدي ويستحق الإجابة إذا كان بعد تقديم الوسيلة وهي إقامة وظائف العبودية من الذكر والفكر فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
{رَبَّنَآ} يعني يتفكرون ويقولون ربنا {مَا خَلَقْتَ هَـاذَا} أي السموات والأرض وتذكير الضمير لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى المخلوق {بَـاطِلا} أي خلقاً باطلاً عبثاً ضائعاً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما ينبىء عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظماً لحكم جليلة ومصالح عظيمة من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العباد ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما أفصحت عنه الرسل والكتب الإلهية
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
{سُبْحَـاـنَكَ} أي ننزهك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها خلق ما لا حكمة فيه {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي من عذاب النار الذي هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم
145
(2/117)
على الاستعاذة.
وفيه إشارة إلى عظم ذكر الله وإشارة إلى ثلاث مراتب : أولاها الذكر باللسان ، وثانيتها التفكر بالقلب ، وثالثتها المعرفة بالروح لأن ذكر اللسان يوصل صاحبه إلى ذكر القلب فهو الفكر في قدرة الله وذكر القلب يوصل إلى مقام الروح فيعرف في ذلك حقائق الأشياء ويشاهد الحكم الإلهية في خلق الله فيقول بعد المشاهدة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} فينبغي للمؤمن أن يلازم ذكر الله بلسانه في جميع الأحوال حتى يصل بسبب الذكر باللسان إلى ذكر القلب ثم إلى ذكر الروح ويحصل له اليقين والمعرفة ويخلص من ظلمة الجهل ويتنور بنور المعرفة.
قال بعضهم : معنى لا إله إلا الله للعوام لا معبود إلا الله.
ومعناها للخواص لا محبوب ولا مقصود إلا الله.
ومعناها لأخص الخواص لا موجود إلا الله فإنه يكون في تلك الحالة مستهلكاً في بحر الشهود فلا يشعر بشيء سوى الله ولا يرى موجوداً.
وفي "تفسير الحنفي" منقول في التوحيد أربع مراتب وهو ينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر.
وتمثيل ذلك تقريباً إلى الإفهام الضعيفة بالجوز في قشرتيه العليا والسفلى فإن له قشرتين وله لب وللب دهن وهو لب اللب.
فالمرتبة الأولى من التوحيد أن يقول الإنسان باللسان لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافق.
والثانية أن يصدق بمعناه قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد.
والثالثة أن يشاهد ذلك بواسطة نور إلهي وذلك أن يرى الأشياء صادرة من الواحد القهار.
والرابعة أنه لا يرى في الوجود إلا وجوداً وهو مشاهدة الصديقين وهو الفناء في التوحيد بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه.
فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا من السيف والسنان.
والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال من التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقد على القلب ليس فيه انشراح وانفتاح ولكنها تحفظ صاحبها من العذاب في الآخرة إن توفي عليها ولم يضعف بالمعاصي عقدتها ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة.
والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً إذا انكشف له لا فاعل بالحقيقة كما هي عليه لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن ذلك رتبة العوام والمتكلمين إذ لا فرق بينهما في الاعتقاد بل فيه صفة تلفيق الكلام.
والرابع موحد بمعنى أنه لا يرى غير الواحد وهذه الغاية القصوى في التوحيد.
فالأول كالقشرة العليا من الجوز.
والثاني كالقشرة السفلى.
والثالث كاللب.
والرابع كالدهن المستخرج من اللب وكما أن القشرة العليا لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر وإن أخذ حطباً أطفأ النار وأكثر الدخان وإن ترك في البيت ضيق المكان ولا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى فكذلك التوحيد فمجرد اللسان عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت والقشرة السفلى هي البدن فيصون من السيف وإنما يتجرد عند الموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنه يصون اللب ويحرسه من الفساد عند الادخار وإذا فصل أمكن أن ينتفع به حطباً لكونه لا قدر له بالنسبة إلى اللب فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف
146
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمجاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه وإشراق نور الحق فيه إذ ذلك الشرح هو المراد بقوله تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22) وقوله : {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} وكما أن اللب نفيس بالإضافة إلى القشرة لأنه المقصود لكن لا يخلو عن شوب بالنسبة إلى الدهن كذلك هذا التوحيد لا يخلو عن ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لم ير سوى الواحد الحق انتهى ما في الحنفي.
(2/118)
واعلم أن الآية تدل على جواز ذكر الله تعالى قائماً ولهذا قال المشايخ ولا بأس أن يقوموا ترويحاً لقلوبهم ولا يتحركوا في ذلك ولا يستظهروا بحال ليس عندهم منه حقيقة.
والحاصل أن التوحيد إذا قرن بالآداب فليس له وضع مخصوص يجوز قائماً وقاعداً ومضجعاً ولكن ورد في الأحاديث ما يدل على استحباب الإخفاء في ذكر الله وذكر شارح الكشاف أن هذا بحسب المقام والشيخ المرشد يأمر المبدأ برفع الصوت لتنقلع عن قلبه الخواطر الراسخة فيه كذا في "شرح المشارق" ويوافقه ما ذكر في "المظهر" حيث قال : الذكر برفع الصوت جائز بل مستحب إذا لم يكن عن رياء ليغتنم الناس بإظهار الدين ووصول بركة الذكر إلى السامعين في الدور والبيوت والحوانيت ويوافق الذاكر من سمع صوته ويشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته وبعض المشايخ اختار الإخفاء لأنه أبعد عن الرياء وهذا يتعلق بالنية فمن كانت نيته صادقة فرفع صوته بقراءة القرآن والذكر أولى لما ذكرنا ومن خاف من نفسه الرياء فالأولى له إخفاء الذكر لئلا يقع في الرياء انتهى قيل : إذا كان وحده فإن كان من الخواص فالإخفاء في حقه أولى وإن كان من العوام فالجهر في حقه أولى وإذا كانوا مجتمعين على الذكر فالأولى في حقهم رفع الصوت بالذكر والقوة فإنه أكثر تأثيراً في رفع الحجب ومن حيث الثواب فلكل واحد ثواب ذكر نفسه وسماع ذكر رفقائه قال الله تعالى : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة : 74) شبه القلوب بالحجارة ومعلوم أن الحجر لا ينكسر إلا بقوة فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد أشد من قوة ذكر شخص واحد كذا في "ذخرة العابدين" ، قال حسين الواعظ الملقب بالكاشفي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
كفت وكوى عاشقان دركار رب
جوشس عشقست نه ترك ادب
هركه كرد ازجام حق يك جرعه نوش
نه ادب ماند درو نه عقل وهوش
والمقصود أن السالك إذا سلب اختياره عند التوحيد بغلبة الوجد فلا دخل لشيء من أوضاعه وحركاته فإنه إذاً ليس في يده فلا يرد ما قيل :
كار نادان كوته انديشست
ياد كردن كسى كه دريشست
فإن الجهر وحركات الموحد بالنسبة إلى مقامه وحاله ممدوحة جداً وأما المتصلفون المتكلفون فحركاتهم وأفعالهم من عند أنفسهم وقد نهى المشايخ في كتبهم عن أمثال هؤلاء وأفعالهم وأقوالهم.
فعلى العاقل أن يراعي الآداب والأطوار ولا ينفك لحظة عن ذكر الملك الغفار {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} غاية الإخزاء ونظيره قولهم : "من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك" أي المرعى الذي لا مرعى بعده والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيهاً على شدة
147
خوفهم وطلبهم الوقاية منه وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع.
{وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} أراد بهم المدخلين وجمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين أي وما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأنها هي الدفع بطريق اللين والمسألة فنفى النصرة لا يستلزم نفي الشفاعة {رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ} أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه والمراد به الرسول عليه السلام فإنه ينادي ويدعو إلى الإيمان حقيقة قال تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النمل : 125) {أَنْ ءَامِنُوا} أي آمنوا على أن أن تفسيرية أو بأن آمنوا على أنها مصدرية {بِرَبِّكُمْ} بمالككم ومتولى أموركم ومبلغكم إلى الكمال {فَـاَامَنَّا} أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءه {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي : كبائرنا فإن الإيمان يجب ما قبله {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} أي : صغائرنا فإنها مكفرة عن مجتنب الكبائر {وَتَوَفَّنَا} أي : اقبض أرواحنا {مَعَ الابْرَارِ} أي : مخصوصين بصحبتهم مغتنمين بجوارهم معدودين من زمرتهم فالمراد من المعية ليس المعية الزمانية لأن ذلك محال ضرورة أن توفيهم إنما هو على سبيل التعاقب بل المراد المعية في الاتصاف بصفة الأبرار حال التوفي.
وفيه إشعار بأنهم كانوا يحبون لقاء الله ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه فمن جعل الله ممن آمن بداعي الإيمان فقد أكرمه مع أوليائه في الجنان فطوبى للذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وطوبى لمن اتعظ بالموعظة الحسنة ، قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
نصيحت كوش كن جانا كه ازجان دوست تردارند
جوانان سعاد تمند ند يردانارا
قال الشيخ السعدي :
يكوى آنه داني سخن سود مند
وكر هي كس را نيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه أوخ راحق نكردم بكوش
(2/119)
قال أبو عامر الواعظ : بينما أنا جالس بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاءني غلام وأعطاني رقعة فإذا فيها أسعدك الله يا أخي أبا عامر بلغني قدومك واشتقت إلى رؤيتك فذهبت مع الغلام فوصلنا إلى بيت في خربة له باب من جريد النخل وإذا فيه شيخ مقعد مستقبل القبلة محزون من الخشية قد ذهبت عيناه من البكاء فسلمت عليه فرد علي السلام فقال : يا أبا عامر لم يزل قلبي إلى استماع موعظتك مشتاقاً وبي داء قد أعيى الواعظين علاجه فقلت : أيها الشيخ ارم ببصر قلبك في ملكوت السماء وتنقل بحقيقة إيمانك إلى جنة المأوى تر ما أعد الله فيها للأولياء ثم انظر في نار لظى تر ما أعد الله للأشقياء فشتان ما بين الدارين وليس الفريقان على السواء فلما سمع قولي أنّ وصاح صيحة ثم قال : والله لقد وقع دواؤك على الداء زدني رحمك الله فقلت : إن الله عالم بسريرتك فيطلع عليك عند استتارك ومبارزتك فلما سمع صاح صيحة أعظم من الأولى فخر ميتاً فعند ذلك خرجت جارية عليها مدرعة وخمار من صوف قد ذهب السجود بجبهتها فقالت : أحسنت يا مداوي قلوب العارفين إن هذا الشيخ كان والدي وهو مبتلى بالسقم منذ عشرين سنة وكان يتمناك من الله ويقول : حضرت مجلس أبي عامر فأحيى قلبي وطر عني غفلتي وإن سمعته ثانياً قتلني فجزاك الله خيراً ثم أكبت على والدها
148
وجعلت تقبل بين عينيه وتبكي فقلت لها : يا أيتها الباكية إن أباك نحبه قد مضى وورد دار الجزاء فإن كان محسناً فله الزلفى فإن كان مسيئاً فوارد دار من أساء فصاحت ثم ماتت فبقيت حزيناً عليهما فرأيتهما في المنام في أحسن مقام عليهما حلتان خضراوتان فسألت عن حليهما فقال الشيخ :
أنت شريكي في الذي نلته
فقم وشاهد يا أبا عامر
وكل من أيقظ ذا غفلة
فنصف ما يعطاه للآمر
ثم قال : قدمت على رب كريم غير غضبان فأسكنني الجنان وزوجني من الحور الحسان فاحرص يا أبا عامر على كثرة الدعاء والاستغفار إلى الله الملك الغفار وطلب المغفرة آناء الليل وأطراف النهار من شيم الأخيار والأبرار.
واعلم أن من تنصح بكلمة فقد آمن بمنادي الحق على لسان عبده فنجا من نيرانه ووصل إلى المغفرة والحمة في جنانه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
ـ روي ـ أن حداداً كان يمسك الحديد المحمى بيده فسئل عنه فقال : عشقت امرأة فراودتها وعرضت عليها مالاً فقالت : إن لي زوجاً لا أحتاج إلى المال ثم مات زوجها فطلبت أن أتزوجها فامتنعت وقالت : لا أريد إذلال أولادي ثم بعد زمان احتاجت فأرسلت إلي فقلت : لا أعطيك شيئاً حتى تعطيني مرادي فلما دخلت معها موضعاً ارتعدت فقلت : مالك؟ فقالت : أخاف الله السميع البصير فتركتها فقالت : أنجاك الله من النار فمن ذلك الوقت لا تحرقني نار الدنيا وأرجو من الله تعالى أن لا تحرقني نار الآخرة فمن خشي الرحمن وذكر أنه بمحضر من الله فهو لا يجترىء على الذنب والآثام فيسلم من عذاب النار ويتنعم في دار السلام عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب" وأما الدعاء فهو مخ العبادة وينفع في الدنيا فيدفع الآفات وأما في الآخرة فإن الله يعطيه هدايا على أيدي الملائكة ويقول : إن هذه في مقابلة دعائك في الدنيا :
از آستان حضرت حق سررا كشم
دولت درين سرا وكشايش درين درست
قال الحافظ :
هركه خواهد كوبيا وهره خواهد كوبكو
كبروناز وحاجب ودربان درين دركاه نيست
حقق الله رجاءنا وقبل دعاءنا وأعطانا ما هو خير لنا في الدنيا والآخرة {رَبَّنَا وَءَاتِنَا} أعطنا {مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} على تصديق رسلك أو على ألسنة رسلك من الثواب والكرامة {وَلا تُخْزِنَا} لاتهنا {يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} بأن تعصمنا مما يقتضيه {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} اسم مصدر بمعنى الوعد وهذا الدعوات وما في تضاعيفها من كمال الضراعة والابتهال ليست لخوفهم من إخلاف الميعاد بل لخوفهم أن لا يكونوا من جملة الموعودين لسوء عاقبة.
أو قصور في الامتثال فمرجعها إلى الدعاء بالتثبيت أو للمبالغة في التعبد والخشوع.
ثم قوله : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} شبيه بقوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) فإنه ربما ظن الإنسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ثم أنه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضالاً وعمله كان ذنباً فهناك تحصل الحجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد وذلك هو العذاب الروحاني وهو أشد من العذاب
149
(2/120)
الجسماني ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذه الأنواع الخمسة من الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العقاب الجسماني وهو قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وآخرها الاحتراز عن العقاب الروحاني وهو قوله : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ذلك يدل على ما قلنا ولذلك قالوا : الفرقة أشد من الحرقة ، قال مولانا جلال الدين رومي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
جور دوران وهرآن رنجي كه هست
سهلتر از بعد حق وغفلتست
كر جهاد وصوم سختست وخشن
ليك اين بهتر زبعد اي ممتحن
فليسارع المؤمن إلى الطاعات ليدخل في زمرة من وعد الله لهم من الكرامات.
عن جابر رضي الله عنه كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "ألا أحدثكم بغرف الجنة" قلنا : بلى يا رسول الله قال : "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وفيها من النعيم واللذات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت" قلت : يا رسول الله لمن هذه الغرف؟ قال : "لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام".
وعن أبي بكر الوراق رحمه الله : طلبنا أربعة فوجدناها في أربعة.
وجدنا رضى الله في طاعته.
وسعة الرزق في صلاة الضحى.
وسلامة اعيم واللذات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت" قلت : يا رسول الله لمن هذه الغرف؟ قال : "لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام".
وعن أبي بكر الوراق رحمه الله : طلبنا أربعة فوجدناها في أربعة.
وجدنا رضى الله في طاعته.
وسعة الرزق في صلاة الضحى.
وسلامة امة الظل فيشتاق إلى ظلها فيقول : أي رب ادنني منها ولا أسألك غيرها فيدنيه منها ويشرب من مائها ثم يرفع له شجرة أعظم من الأولى فيقول : أي رب ادنني منها ويعاهد أن لا يسأل غيرها فيدنيه منها فيرفع له شجرة أعظم مما تقدم فيسأله أن يدنيه فإذا أدنى سمع أصوات أهل الجنة ويقول : أي رب لو أوصلتها لا أسألك فيقول الله : يا ابن آدم ما أغدرك كم تعاهد وتكذب أترضى أن أعطيك مثل الدنيا ومثلها؟ فيقول : أتستهزىء بي وأنت رب العالمين" ثم ضحك ابن مسعود فقالوا : مم تضحك؟ فقال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : مم ضحك رسول الله قال : من ضحك رب العالمين "فيقول الله ول : أي رب لو أوصلتها لا أسألك فيقول الله : يا ابن آدم ما أغدرك كم تعاهد وتكذب أترضى أن أعطيك مثل الدنيا ومثلها؟ فيقول : أتستهزىء بي وأنت رب العالمين" ثم ضحك ابن مسعود فقالوا : مم تضحك؟ فقال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : مم ضحك رسول الله قال : من ضحك رب العالمين "فيقول الله ول : أي رب لو أوصلتها لا أسألك فيقول الله : يا ابن آدم ما أغدرك كم تعاهد وتكذب أترضى أن أعطيك مثل الدنيا ومثلها؟ فيقول : أتستهزىء بي وأنت رب العالمين" ثم ضحك ابن مسعود فقالوا : مم تضحك؟ فقال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : مم ضحك رسول الله قال : من ضحك رب العالمين "فيقول الله ول : أي رب لو أوصلتها لا أسألك فيقول الله : يا ابن آدم ما أغدرك كم تعاهد وتكذب أترضى أن أعطيك مثل الدنيا ومثلها؟ فيقول : أتستهزىء بي وأنت رب العالمين" ثم ضحك ابن مسعود فقالوا : مم تضحك؟ فقال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : مم ضحك رسول الله قال : من ضحك رب العالمين "فيقول
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
الله دهد ثمري
معتبر نيسست لائق تبراست
150
عصمنا الله تعالى وإياكم من النار وأدخلنا الجنة مع الأسخياء والأبرار {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} إلى طلبهم وهو أخص من أجاب فإن إجاب أعطاه الجواب وهو قد يكون بتحصيل المطلوب وبدونه واستجاب إنما يقال لتحصيل المطلوب وبعدي بنفسه وباللام {إِنِّى} أي باني {لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم} وهو ما حكي عنهم من المواظبة على ذكر الله تعالى في جميع حالاتهم والتفكر في مصنوعاته استدلالاً واعتباراً الثناء على الله بالاعتراف بربوبيته وتنزيهه عن العبث وخلق الباطل والاشتغال بالدعاء وجعل هذه الأعم بنفسه وباللام {إِنِّى} أي باني {لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم} وهو ما حكي عنهم من المواظبة على ذكر الله تعالى في جميع حالاتهم والتفكر في مصنوعاته استدلالاً واعتباراً الثناء على الله بالاعتراف بربوبيته وتنزيهه عن العبث وخلق الباطل والاشتغال بالدعاء وجعل هذه الأعمكر والأنثى إذا كانا جميعاً في التمسك بالطاعة على التوبة والفضل في باب الدين بالأعمال لا بسائر صفات العالمين لأن كون بعضهم ذكراً أو أنثى أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب {بَعْضُكُم مِّنا بَعْضٍ} لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر.
قال الإمام فيه وجوه أحسنها أن يقال من بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفال : هذا من قولهم فلان مني أي على خلقي وسيرتي وهي معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال.
(2/121)
ـ روت ـ أم سلمة قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكل الأحسنها أن يقال من بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفال : هذا من قولهم فلان مني أي على خلقي وسيرتي وهي معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
ـ روت ـ أم سلمة قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكل الم من الثواب على المدح والتعظيم كأنه قال فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة من مبتدأ أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة {وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} أي اضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشأوا بإيذاء المشركين.
قال الإمام المراد من قوله {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول والمراد من الذين أخرجوا من ديارهم الذين ألجأوا الكفار ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لأنهم اختاروا خدمة الرسول وملازمته على الاختيار فكانوا أفضل {وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى} في سبيل الحق ودين التوحيد بسبب إيمانهم بالله ومن أجله وهو متناول لكل أذية نالتهم من قبل المشركين {وَقَـاتِلُوا} أي الكفار في سبيل الله {وَقُتِّلُوا} استشهدوا في القتال {لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} أي والله لأمحوّن عنهم سيآتهم {وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ ثَوَابًا} الثواب في الأصل اسم لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطي إلا أنه قد يوضع موضع المصدر فهو مصدر مؤكد بمعنى إثابة لأن تكفير السيآت وإدخال الجنة في معنى الإثابة أي لأثيبنهم بذلك إثابة {مِنْ عِندِ اللَّهِ} صفة له أي كائنة من عند الله قصد بتوصيفه به تعظيم شأنه فإن السلطان العظيم الشأن إذا قال لعبده ألبسك خلعة من عندي دل ذلك لعى كون تلك الخلعة في غاية الشرف وأكد كون
151
ذلك الثواب في غاية الشرف بقوله : {وَاللَّهُ عِندَه حُسْنُ الثَّوَابِ} أي حسن الجزاء على الطاعات قادر عليه وهو نعيم الجنة الباقي لا كنعيم الدنيا الفاني :
نعيم آخرت باقيست اي دل
خنك آنكس كه باشد عبد مقبل
ولا يخفى أن هذا الجزاء العظيم والأجر الجسيم للذين جمعوا بين المهاجرة والإخراج من الأوطان والتأذى في سبيل الله والقتال والمقتولية.
فعلى السالك أن يهاجر من وطن النفس والعمل السيء والخلق الذميم ويخرج من ديار الطبيعة إلى عالم الحقيقة حتى يدخل مقام العندية الخاصة فإن ثمرات المجاهدات المشاهدات والعمل الصالح يستدل به على حس العاقبة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
ـ روي ـ أن صفوان بن سليم كان يجتهد في العبادة القيام وكان يبيت على السطح في أيام الشتاء لئلا يستريح من البرد وفي الصيف ينزل إلى بيته ليعذب نفسه بحر الهواء وكان عادته ذلك إلى أن مات في سجدته ووصل إلى رحمة الله وجنته فهذا هو الاجتهاد فعليك به فإن احتالت نفسك عليك في ذلك فحدثها بأخبار السلف وأحوالهم وحكاياتهم كي ترغب في الطاعة والاجتهاد فإن في ذلك نفعاً كلياً وتأثيراً عظيماً ، قال الفاضل الجامي قدس سره :
هجوم نفس وهوا كز ساه شيطانند
و زور بردل مرد خدا رست آرد
بجز جنود حكايات رهنمايا خود
ه تاب آنكه بران رهزنان شكست آرد
فإن قالت النفس أنهم كانوا رجالاً أقوياء كيف يداني بهم في الطاعة من خلفهم فحدثها بأخبار النساء كيف كن إناثاً ومع ذلك لم يتخلفن عن مجاهدات الرجال حتى وصلن إلى ما وصلوا إليه كرابعة العدوية وغيرها ، قال بعضهم :
ولو كان النساء كمن ذكرنا
لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
قال الشيخ السعدي قدس سره :
زناني كي طاعت برغبت برند
زمردان نا ارسا بكذرند
تراشرم نايد زمردىء خويش
كه باشد زنانرا قبول ازتوبيش
قال الحسن البصري رحمه الله يا عجباً لأقوام بلا زاد وقد نودوا بالرحيل وحبس أولهم لآخرهم وهم قعود يلعبون.
ـ حكي ـ أن ملك الموت دخل على بعض الصالحين ليقبض روحه فقال مرحباً أنا والله منذ خمسين سنة أتأهب لك.
ولما بلغ عبد الله بن المبارك النزع فتح عينه ثم ضحك فقال لمثل هذا فليعمل العاملون.
قال بعض العلماء : من أراد أن ينال الجنة فعليه أن يداوم على خمسة أشياء.
الأول أن يمنع نفسه من المعاصي قال الله تعالى : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} والثاني أن يرضى باليسير من الدنيا لأنه روى في الخبر "إن ثمن الجنة الطاعة وترك الدنيا".
والثالث أن يكون حريصاً على الطاعات ويتعلق بكل طاعة فلعل تلك الطاعة تكون سبب المغفرة ووجوب الجنة قال الله تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والرابع أن يحب الصالحين
152
(2/122)
وأهل الخير ويخالطهم ويجالسهم فإن الصالح إذا غفر له يشفع لإخوانه وأصحابه.
والخامس أن يكثر الدعاء ويسأل الله تعالى أن يرزقه ويختم له بخير والحاصل أنه لا بد للعاقل من التأهب لمعاده بتزكية النفس وإصلاح القلب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
قال القاشاني في تأويلاته {أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ} القلب من الأعمال القلبية كالإخلاص واليقين والمكاشفة {أَوْ أُنثَى} النفس من الأعمال القالبية كالطاعات والمجاهدات والرياضيات {بَعْضُكُم مِّنا بَعْضٍ} يجمعكم أصل واحد وحقيقة واحدة هي الروح أن بعضكم منشأ من بعد فلا أثيب بعضاً وأحرم آخر {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} من أوطان مألوفات النفس {وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} من ديار صفاتها أو هاجروا من أحوالهم التي التذوا بها وأخرجوا من مقاماتهم التي يسكنون إليها {وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى} أي ابتلوا في سلوك سبيل أفعالي بالبلاء والمحن والشدائد والفتن ليتمرنوا بالصبر ويفوزوا بالتوكل أو في سلوك سبيل صفاتي بسطوات تجليات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا إلى مقام الرضى {وَقَـاتِلُوا} البقية بالجهاد في {وَقُتِّلُوا} في الجب في بالكلية {لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} كلها من صغائر ظهور أفعالهم وصفاتهم وكبائر بقايا ذواتهم في تلويثاتهم {وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} الجنات الثلاث المذكورة {ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي عوضاً عما أخذت منهم من الوجودات الثلاثة {وَاللَّهُ عِندَه حُسْنُ الثَّوَابِ} ولا يكون عند غيره الثواب المطلق الذي لا ثواب وراءه ولهذا قال : والله لأنه اسم الذات الجامع لجميع الصفات فلم يحسن أن يقع غيره من الرحمن أو الرحيم أو سائر الأسماء موقعه {لا يَغُرَّنَّكَ} الخطاب للنبي عليه السلام لأن العصمة لا تزيل النهي فإنه لو زال النهي عنه بذلك لبطلت العصمة فإن العصمة هي الحفظ من الخلاف وإذا زال النهي لم يكن خلاف فلا تكون عصمة فالمراد تثبيته على ما هو عليه من عدم التفاته إلى الدنيا أو الخطاب له والمراد أمته كما يخاطب سيد القوم ومقدمهم والمراد به كلهم كأنه قيل : لا يغرنكم {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـادِ} والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلاً للسبب وهو التقلب منزلة المسبب وهو اغترار المخاطب للمبالغة والمعنى لا تمدن عينيك ولا تستشرف نفسك إلى ما هم عليه من سعة الرزق وإصابة حظوظ الدنيا ولا تغتر بظاهر حالهم من التبسط في الأرض والتصرف في البلاد يتكسبون ويتجرون ويتدهقنون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
ـ روي ـ أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون أن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت {مَتَـاعٌ قَلِيلٌ} أي ذلك التقلب متاع قليل لا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين قال عليه السلام : "ما الدنيا في الآخرة الأمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" فإذا لا يجدي وجوده لواجديه ولا يضر فقدانه لفاقديه {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} أي مصيرهم الذي يأوون إليه لا يبرحونه {جَهَنَّمَ} التي لا يوصف عذابها يعني أنه مع قلته سبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سبباً للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي بئس بما يمهدون لأنفسهم جهنم {لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} أي خافوه فلم يخالفوا أمره ولا نهيه
153
{لَهُمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} وجه الاستدراك أنه تعالى لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في البلاد لأجل التجارة وجاز أن يتوهم متوهم أن قلة النفع من لوازم التقلب من حيث هو استدرك أن المتقين وأن تقلبوا وأصابوا ما أصابه الكفار أو لم يصيبوا لهم مثوبات حسني لا يقادر قدرها {نُزُلا مِّنْ عِندِ اللَّهِ} حال من جنات لتخصصها بالوصف.
والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما {وَمَا عِندَ اللَّهِ} لكثرته ودوامه {خَيْرٌ لِّلابْرَارِ} مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أما البرة فإن الله تعالى يقول : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلابْرَارِ} وأما الفاجرة فإنه يقول : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مشربة وأنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وأن عند رجليه قرظاً مصبوراً وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : (ما يبكيك) فقلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "أما ترضى أن يكون لهما الدنيا ولنا الآخرة".
(2/123)
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
ازى ذكر وشوق حق مارا
دردو عالم دل وزباني بس
وزطعام ولباس أهل جهان
كهنه دلقى ونيم ناني بس
ومما وجد في خزائن الإسكندر مكتوباً بالذهب الأحمر حركات الأفلاك لا تبقى على أحد نعمة فإذا أعطى العبد مالاً أو جاهاً أو رفعة فلتكن همته في انتهاز الفرصة وتقليد المنن أعناق الرجال فإن الدنيا والجاه والرفعة نزول أما ندم طويل أو مدح جزيل فأكرموا من له حسب في الأصل أو قدم في المروءة ولا يغرنكم تقلب الزمان بأهله فإن للدهر عثرات يجبر كما يكسر ويكسر كما يجبر والأمر إلى الله تعالى ، قال جلال الدين الرومي قدس سره :
ند كويى من بكيرم عالمي
اين جهانرا ركنم ازخود همي
كرجهان ربرف كردد سربسر
تاب خور بكدازدش ازيك نظر
وعن الحسن قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم على أصحابه فقال : "هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً.
ألا أنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد في الدنيا وقصر أمله أعطاه الله تعالى علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية.
ألا أنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبة إلا باتباع الهوى.
ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه تعالى ثواب خمسين صديقاً" قال ابن عباس رضي الله عنهما يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء وأنيابها بادية مشوهة خلقها وتشرف على الخلائق فيقال : أتعرفون هذه فيقوء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه تعالى ثواب خمسين صديقاً" قال ابن عباس رضي الله عنهما يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء وأنيابها بادية مشوهة خلقها وتشرف على الخلائق فيقال : أتعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من ةمعرفة هذه هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الارحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم تقذف في جهنم فتنادى يارب اين اتباعي واشياعي فيقول الله تعالى الحقوا بها اتباعها قال عليه السلام"يحشر اقوام يوم القيامة واعمالهم كجبال تهامة
154
يؤمر بهم إلى النار" قالوا : يا رسول الله مصلين قال : "نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل فإذا عرض لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه" قالت عائشة رضي الله عنها قلت : يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك قالت : وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الحجر على بطنه من السغب فقال : "يا عائشة والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهباً لأجراها حيث شئت من الأرض ولكني اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد".
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
ـ روي ـ إنه عليه السلام عرض عليه عشار من النوق وهي الحوامل منها فأعرض عنها وغض بصره مع أنها من أحب الأموال إليهم وأنفسها عندهم لأنها كانت تجمع الظهر واللحم واللبن ولعظمتها في قلوبهم قال الله عز وجل : {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} فلما لم يلتفت إليها قيل له يا رسول الله هذه أنفس أموالنا فلم لم تنظر إليها قال : "قد نهى الله عن ذلك" ثم تلا قوله تعالى : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} الآية هذا معاملته مع الدنيا.
وفي التوجه إلى الآخرة ما كان يريد إلا الرفيق الأعلى قال صلى الله عليه وسلّم "أنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم ومن دونه ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر" والمقصود أن في الفقر والقناعة فضيلة وأن الفقراء يدخلون الجنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل الأغنياء :
أي قناعت توانكرم كردان
كه وراي توهي نعمت نيست
كنج صبر اختيار لقما نست
هركرا صبر نيست حكمت نيست
فعلى العبد العاقل أن يجتنب عن الدنيا وأخوانها ويرغب في الآخرة وجنانها بل يترقى إلى الوصول إلى الله تعالى.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره في عباد الله عبد لو أعطى الجنات بزينتها لهرب كما يهرب أهل النار من النار وهو الذي غلب عليه محبة الله فلا يميل إلى غيره ومن ذلك المقام قال أبو يزيد غاب قلبي عني ثمانين سنة فلما أردت أن آخذه قيل : أتطلب غيرنا.
(2/124)
ـ وحكي ـ عن بعض الصالحين أنه رأى في المنام معروف الكرخي شاخصاً بصره نحو العرش قد اشتغل على الحور العين وقصور الجنة فسأل رضوان من هذا قال معروف الكرخي مات مشتاقاً إلى الله فأباح له أن ينظر إليه فمطمح نظر العارف الجنة المعنوية وهي جنة معرفة الله ووصوله التي هي خير من جنة الفردوس وأعلى عليين فليسارع السالك إلى وصول هذه الجنة ودخولها قبل إدراك منيته وانقضاء عمره ومجيىء أجله :
حضوري كرهمي خواهي ازوغائب مشو حافظ
متى ما تلق من تهوي دع الدنيا وأهملها
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
أوصلنا الله وإياكم إلى الحضور واليقين {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل في أربعين من نجران واثنين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل في أصمحة النجاشي فإنه لما مات نعاه جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في اليوم الذي مات فيه فقال صلى الله عليه وسلّم لأصحابه : "اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم" فقالوا : من هو؟ قال : "النجاشي" فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فابصر سرير النجاشي فصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على
155
علج نصراني حبشي لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله هذه الآية {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من الكتابين {خَـاشِعِينَ} أي متواضعين له من خوف عذابه ورجاء ثوابه وهو حال من فاعل يؤمن لأن من في معنى الجمع {لا يَشْتَرُونَ} لا يأخذون {لَّه مَقَالِيدُ} المكتوبة في التوراة والإنجيل من نعت النبي عليه السلام {ثَمَنًا قَلِيلا} أي عرضاً يسيراً من حطام الدنيا خوفاً على الرسالة كفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم والجملة حال مما قبله {أولئك} أي أهل هذه الصفة {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي المختص بهم الموعود لهم في قوله تعالى : {أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} {عِندَ رَبِّهِمْ} نصب على الحالية من أجرهم والمراد به التشريف {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لنفوذ علمه بجميع الأشياء فهو عالم بما يستحقه كل عامل من الأجر من غير حاجة إلى تأمل ووعى صدر وكتب يد والمراد أن الأجر الوعود سريع الوصول إليهم فإن سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
والإشارة في قوله : {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إلى أن العلماء المتقين الذين يؤمنون بالواردات والإلهامات والكشوف بأرباب القلوب والخواطر الرحمانية وهم الحكماء الإلهية يعجل الله في جزاء أعمالهم بحسب نياتهم لتبليغهم إليّ مقاماتهم في القرب قبل وفاتهم ولا يؤجل إلى ما بعد وفاتهم فإن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى والإنسان يموت كما يعيش ويبعث على ما مات عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهو يقول : مالي أراك مغموماً حزيناً قال عليه السلام : "يا جبريل طال تفكري في أمتي يوم القيامة" قال في أمر أهل الكفر أم في أهل الإسلام فقال : "يا جبريل في أمر أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله" فأخذ بيده حتى أقامه إلى مقبرة بني سلمة ثم ضرب بجناحه الأيمن على قبر ميت فقال : قم بإذن الله فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال جبريل عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الأيسر فقال : قم بإذن الله فخرج رجل مسود الوجه أزرق العينين وهو يقول : واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل : عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم قال : يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تموتون كما تعيشون وتبعثون كما تموتون" فظهر أن الله سريع الحساب يوصل إلى كل جزاء عمله.
فأما الواصلون فهم في الجنة المعنوية في الدنيا يتنعمون.
وأما الغافلون فهم في نار البعد والفراق ولكنهم لا يحسون الألم قبل وفاتهم فإذا ماتوا انقلب الحال من المعنى إلى الحس عصمنا الله وإياكم من نار البعد وعذاب السعير وشرفنا بنعيم وصاله ورؤية حماله المنير :
كنون بايد أي خفته بيدار بود
ومرك اندر آرد زخوابت ه سود
تواك آمدي بر حذر باش واك
كه تنكست نا اك رفتن بخاك
كنون بايد اين مرغ را اي بست
نه آنكه كه سر رشته بردت زدست
وذكر أن إبراهيم بن أدهم رحمة الله أراد أن يدخل الحمام فمنعه الحمامي وقال : لا تدخل إلا بأجرة فبكى إبراهيم وقال : لا يؤذن لي أن أدخل بيت الشياطين مجاناً فكيف بالدخول إلى بيت النبيين
156
والصديقين مجاناً فظهر أن من كان في الدنيا غافلاً فهو في الآخرة مع الغافلين وحسابه في الآخرة على مقدار عمله فمن لم يعمل صالحاً كان هناك خالياً عن المثوبات :
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
برفتند وهركس درود آنه كشت
نماند بجز نام نيكو وزشت
(2/125)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن في الجنة حوراء يقال لها لعبة لو بصقت في البحر بصقة لعذب البحر مكتوب على نحرها من أحب أن يكون له مثلي فليعمل بطاعة ربي" ونعم ما قيل :
بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلى سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلا
يغوص البحر من طلب اللآلي
فلا بد من تدارك أمر الآخرة.
وتوفيت امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة وخرج فيها الحسن البصري فقال الحسن للفرزدق يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها وأنشد هذه الأبيات :
أخاف وراء القبر إن لم يعافني
أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة ازرقا
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت : النار اللهم أجره من النار" فنسأل الله سبحانه أن يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة مع الأبرار ويوفقنا للأعمال الصالحة المنجية ويجعلنا من الفرقة الناجية بحق النبي الذي به وصل من وصل إلى الله عز وجل في المشارق والمغارب وانتهى إلى منازل المقاصد والمآرب يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا} على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد كالمرض والفقر والقحط والخوف وغير ذلك من المشاق {وَصَابِرُوا} وغالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى.
والمصابرة نوع خاص من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعوبته وكونه أكمل وأفضل من الصبر على ما سواه والصبر هو حبس النفس عمالاً يرضاه الله وأوله التصبر وهو التكلف لذلك ثم المصابرة وهي معارضة ما يمنعه عن ذلك ثم الاصطبار والاعتبار والالتزام ثم الصبر وهو كماله وحصوله من غير كلفة {وَرَابِطُوا} أبدانكم وخيولكم في النغور مترصدين وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه السلام : "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات" قالوا : بلى يا رسول الله قال : "أسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط" {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} واتقوه بالتبرى مما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح أو اتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد
157
الواردات المعبر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة فعلم من هذا أن الصبر دون المصابرة والمصابرة دون المرابطة قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
توكز سراي طبيعت نميروي بيرون
كجا بكوى طريقت كذر تواني كرد
ولا بد من السلوك حتى يتجاوز العبد عن الأْوال والمقامات إلى أقصى النهايات.
ـ وحكي ـ عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله راجلاً فإذا أعرابي على ناقة فقال : يا شيخ إلى أين؟ فقال إبراهيم إلى بيت الله قال : كيف وأنت راجل لا راحلة لك فقال : إن لي مراكب كثيرة فقال : ما هي قال : إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر وإذا نزلت عليّ نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضى وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي : أنت الراكب وأنا الراجل سر في بلاد الله فالاشتغال طول العمر بالمجاهدة لازم حتى تنقلع الأخلاق الذميمة من النفس وتتبدل بالأوصاف الشريفة من الصبر وغيره ومثل هذه المجاهدة هي المرابطة.
ـ روي ـ أن واحداً من الصلحاء كان يختم كل ليلة ويجتهد في العبادة فقيل له : إنك تتعب نفسك وتوقعها في المشقة فقال : كم عمر الدنيا فقيل : سبعة آلاف سنة فقال : وكم مقدار يوم القيامة فقيل : خمسون ألف سنة فقال : لو عمر المرء بعمر الدنيا الحق له أن يجتهد في العبادة لهذا اليوم الطويل فإنه أسهل بالنسبة إليه.
وكانت معاذة العدوية امرأة صالحة كانت إذا جاء النهار تقول : هذا اليوم يوم متى فتشتغل بالعبادة إلى المساء فإذا جاء الليل تقول : هذه الليلة ليلة موتي فتحييها إلى الصباح إلى أن ماتت على هذه النمط قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة" فهذا في الجهاد الأصغر فكيف الحال في الجهاد الأكبر يعني أن المثوبات والدرجات أكثر في حفظ النفس ومراقبتها وحبسها على الطاعات والعبادات :
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانابه ازعالميست
سراز جيب غفلت بر آور كنون
كه فردا نماني بخجلت نكون
قال الحافظ :
داناكه زد تفرج اين رخ حقه باز
هنكامه بازيد ودر كفت وكوببست
(2/126)
قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله العارف من كان همه هماً واحداً ولم ينتقل قلبه إلى ما رأت عيناه وسمعت أذناه.
ـ روي ـ أن زاهداً كان يجتهد في العبادة فرآه رجل قد صار لباسه ذا وسخ فقال : أيها العابد لم لا تغسل ثوبك قال العابد لأنه إن غسلته بتوسخ ثانياً قال الرجل فاغسله مرة أخرى قال العابد إن الله لم يخلقنا لأن نغسل ثيابنا ويذهب عمرنا بهذا العمل بل للطاعة والعبادة ، قال مولانا جلال الدين قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 145
أول استعداد جنت بايدت
تا زجنت زندكاني زايدت
تداركنا الله تعالى بلطفه ، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : إني أصوم شهر رمضان وأصلي كل يوم خمس صلوات ولا أزيد على هذا لأني فقير ليس على زكاة ولا حج
158
فإذا قامت القيامة ففي أي دار أكون أنا؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : "إذا حفظت عينيك عن اثنين عن النظر إلى المحرمات والنظر إلى الحلق بعين الاحتقار وحفظت قلبك عن اثنين عن الغل والحسد وحفظت لسانك على اثنين عن الكذب والغيبة تكون معي في الجنة".
جزء : 2 رقم الصفحة : 145(2/127)
سورة النساء
وهي مائة وخمس اوست أو سبع وسبعون آية"
جزء : 2 رقم الصفحة : 158
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب عام يتناول الموجودين في زمان الخطاب ومن بعدهم دون المنقرضين بدليل أنهم ما كانوا متعبدين بشرعنا فلو كان عاماً لجميع بني آدم لزم أن يتعبدوا بشرعنا وهو محال {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} في حفظ ما بينكم من الحقوق وما يجب وصله ومراعاته ولا تضيعوه ولا تقطعوا ما أمرتم بوصله {الَّذِى خَلَقَكُم} أي قدر خلقكم حالاً بعد حال على اختلاف صوركم وألوانكم {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم وعقب الاتقاء بمنة الخلق كيلا يتقي إلا الخالق وبين اتحاد الأب فإن في قطع التزاحم حضاً على التراحم {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من تلك النفس يعني من بعضها {زَوْجَهَا} أمكم حواء بالمد من ضلع من أضلاعه اليسرى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 159
ـ روي ـ أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من قصيراه فلما انتبه وجدها عنده فمال إليها ألفها لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه وأخرت حواء في الذكر وإن كانت مقدمة في الخلق لأن الواو لا ترتيب فيها {وَبَثَّ} أي فرق ونشر {مِّنْهُمَا} من تلك النفس وزوجها المخلوقة بطريق التوالد والتناسل {رِجَالا كَثِيرًا} تذكيره للحمل على الجمع والعدد {وَنِسَآءً} أي بنين وبنات كثيرة.
واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكون أكثر.
وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لأن المراد به تمهيد للأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها فكأنه قيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم حيث جعلكم صنواناً متفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعضكم على بعض من حقوق المواضلة التي بينكم فحافظوا عليها ولا تغفلوا عنها {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي لا تقطعوا في الدين والنسب أغصاناً تتشعب من جرثومة واحدة {الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ} فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض اسألك بالله {وَالارْحَامَ} أي يسأل بعضكم بعضاً بالله فيقول بالله فيقول : بالله وبالرحم وأناشدك الله والرحم افعل كذا على سبيل الاستعطاف وجرت عادة العرب على أن أحدهم إذا استعطف غيره يقرن الرحم في السؤال والمناشدة بالله ويستعطف به.
فقوله والأرحام بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمراً أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكان منه وعنه صلى الله عليه وسلّم "الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله" وقال صلى الله عليه وسلّم "ما من عمل حسنة أسرع
159
ثواباً من صلة الرحم وما من عمل سيئة أسرع عقوبة من البغي" فينبغي للعباد مراعاة الحقوق لأن الكل أخ لأب وأم هما آدم وحواء سيما المؤمنين لأن فيهم قرابة الإيمان والدين وكذا الحال في قرابة الطين {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} الرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريداً لمجازاتكم بذلك فبين الله تعالى أنه يعلم السر وأخفى إذا كان كذلك فيجب أن يكون المرء حذراً خائفاً فيما يأتي ويذر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 159
واعلم أن التقوى هي العمدة وهي سبب الكرامة العظمى في الدنيا والعقبى.(2/128)
ـ حكي ـ أنه كان بالبصرة رجل معروف بالمسكى لأنه كان يفوح منه رائحة المسك فسئل عنه فقال : كنت من أحسن الناس وجهاً وكان لي حياء فقيل لأبي : لو أجلسته في السوق لانبسط مع الناس فأجلسني في حانوت بزاز فجازت عجوز وطلبت متاعاً فأخرجت لها ما طلبت فقالت : لو توجهت معي لثمنه فمضيت معها حتى أدخلتني في قصر عظيم فيه قبة عظيمة فإذا فيها جارية على سرير عليه فرش مذهبة فجذبتني إلى صدرها فقلت : الله الله فقالت : لا بأس فقلت : إني حازق فدخلت الخلاء وتغوطت ومسحت به وجهي وبدني فقيل : إنه مجنون فخلصت ورأيت الليلة رجلاً قال لي : أين أنت من يوسف بن يعقوب ثم قال : أتعرفني؟ قلت : لا قال : أنا جبريل ثم مسح بيده على وجهي بودني فمن ذلك الوقت يفوح المسك علي من رائحة جبريل عليه السلام وذلك ببركة التقوى.
والتقوى في عرف الشرع وقاية النفس عما يضرها في الآخرة وهي على مراتب : الأولى التوقي عن العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، والثانية التجنب عن كل إثم وهو المتعارف باسم التقوى وهو المعنى بقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَـابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلادْخَلْنَـاهُمْ} ، والثالثة التنزه عن جميع ما يشغله وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ومن هذا القبيل ما حكي عن ذي النون المصري أنه لما جاء إليه بغض الوزراء وطلب الهمة وأظهر الخشية من السلطان قال له : لو خشيت أنا من الله كما تخشى أنت من السلطان لكنت من جملة الصديقين :
كرنبودي اميد راحت ورنج
اي درويش بر فلك بودي
وروزير ازخدا بترسيدي
همنان كزملك ملك بودي
فينبغي للسالك أن يتقي ربه ويراقب الله في جميع أحواله كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والمراقبة : علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه وهذا أصل كل خير ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف وأصلح حاله في الوقت ولازم طريق الحق وأحسن ما بينه وبين الله من مراعاة القلب وحفظه مع الله الأنفاس وراقب الله سبحانه في عموم أحواله فيعلم أنه عليه رقيب ومن قلبه قريب يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة؟ قال سليمان بن علي لحميد الطويل : عظني قال : لئن كنت عصيت الله خالياً وظننت أنه يراك فقد اجترأت على أمر عظيم ولئن كنت تظن أنه لا يراك فقد
160
كفرت لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
وكان بعض الصالحين له تلامذة وكان يخص واحداً منهم بإقباله عليه أكثر مما يقبل على غيره فقالوا له في ذلك فقال : أبين لكم فدفع لكل واحد من تلامذته طائراً وقال له : اذبحه بحيث لا يراك أحد ودفع إلى هذا أيضاً فمضوا ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طيره وجاء هذا بالطير حياً فقال له : هلا ذبحته؟ فقال : أمرتني أن أذبحه بحيث لا يراه أحد ولم أجد موضعاً لا يراه أحد فقال : لهذا أخصه بإقبالي عليه.
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
جزء : 2 رقم الصفحة : 159
{وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ} اليتامى جمع يتيم وهو من الناس المنفرد عن الأب بموته ومن سائر الحيوانات عن الأم وحق هذا الاسم أن يقع على الصغير والكبير لبقاء معنى الانفراد عن الأب إلا أنه غلب استعماله في الصغير لاستغناء الكبير بنفسه عن الكافل فكأنه خرج عن معنى اليتيم وهو الانفراد والمراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها وكف أكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة لا الإعطاء بالفعل فإنه مشروط بالبلوغ وإيناس الرشد وإنما عبر عما ذكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجرد ترك التعرض لها والمعنى أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها إليهم وقت استحقاقهم تسليمها إليهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
(2/129)
{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} تبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصول أي لا تستبدلوا الحلال المكتسب بالحرام المغتصب يعني لا تستبدلوا مال اليتامى وهو حرام بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبعوث في الأرض فتأكلوه مكانه {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} المراد من الأكل التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة والدليل عليه أن في المال ما لا يصح أن يؤكل وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف وإلى بمعنى مع قال تعالى : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ} أي مع الله والأصح أن المعنى لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ولا تسووا بينها وهذا حلال وذاك حرام وقد خص من ذاك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيراً وإذا أكل مال اليتيم وله مال كان ذلك أقبح ولذا ورد النهي عن أكله مع مال نفسه بعد أن قال : ولا تتبدلوا الخ {إِنَّهُ} أي الأكل المفهوم من النهي {كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي ذنباً عظيماً عند الله فاجتنبوه.
ـ روي ـ أن رجلاً من بني غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي عليه السلام فنزلت هذه الآية فلما سمع العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره" يعني : جنته فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال عليه السلام : "ثبت الأجر وبقي الوزر" فقالوا : كيف بقي الوزر؟ فقال : "ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده" ، قال الشيخ السعدي قدس سره :
از زر وسيم راحتي برسان
خويشتن هم تمتعي بر كير
ونكه اين خانه ازتو خواهد ماند
خشتى ازسيم وخشتى از زركير
161
قال تعالى : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ} تزكية من آفة الحرص والحسد والدناءة والخسة والطمع وتحلية بالأمانة والديانة وسلامة الصدر وقال : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} تزكية من الجور والحيف والظلم وتحلية بالعدل والإنصاف فإن اجتماع هذه الرذائل {إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي حجاباً عظيماً.
فعلى العاقل أن يزكي نفسه من الأخلاق الرديئة ولا يطمع في حق أحد جل أو قل بل يكون سخياً باذلاً ماله على الأرامل والأيتام ويراعي حقوقهم بقدر الإمكان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ست موبقات ليس لهن توبة : أكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والشرك بالله ، وقتل نبي من الأنبياء.
ويقال : طوبى للبيت الذي فيه يتيم.
وويل للبيت الذي فيه يتيم يعني ويل لأهل البيت الذي لم يعرفوا حق اليتيم وطوبى لهم إذا عرفوا حقه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
يكى خار اي يتيمي بكند
بحواب اندرش ديد صدر خجند
كه ميكفت ودر روضها مى ميد
كزاي خار بر من ه كلها دميد
ـ وروي ـ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : عندي يتيم مم ضربه قال : "مما تضرب ولدك" يعني لا بأس أن تضربه للتأديب ضرباً غير مبرح مثل ما يضرب الوالد ولده.
ـ وروي ـ عن الفضيل بن عباس أنه قال : رب لطمة انفع لليتيم من أكلة خبيص.
قال الفقيه في "تنبيه الغافلين" إن كان هذا يقدر أن يؤدبه بغير ضرب ينبغي له أن يفعل ذلك ولا يضربه فإن ضرب اليتيم أمر شديد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن اليتيم إذا ضرب اهتز عرش الرحمن لبكائه فيقول الله : يا ملائكتي من أبكى الذي غيبت أباه في التراب وهو أعلم به قال : تقول الملائكة : ربنا لا علم لنا قال : فإني أشهدكم أن من أرضاه أرضه من عندي يوم القيامة".
وبيني يتيمي سرافكند يش
مده بوسه برروى فرزند خويش
يتيم اربكريد كه بارش برد
وكر خشم كيرد كه نازش خرد
ألا تانكريد كه عرش عظيم
بارزد همي ون بكريد يتيم
اكرسايه خودبرفت ازسرش
تو درسايه خويشتن رورش
قال الله تعالى لداود النبي عليه السلام : (كن لليتيم كالأب الرحيم واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد).
واعلم أن المرأة الصالحة لزوجها كالملك المتوّج بالذهب كلما رآها قرت عينه والمرأة السوء لبعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير :
كراخانه آباد وهمخوابه دوست
خدارا برحمت نظر سوى اوست
دلارام باشد زن نيك خواه
وليك از زن بدخدايا ناه
تهى اي رفتن به از كفش تنك
بلاي سفر به كه درخانه جنك
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
(2/130)
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى} الإقساط العدل والمراد بالخوف العلم عبر عنه بذلك إيذاناً بكون المعلوم مخوفاً محذوراً لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملاً لمن يصبر على الجور ولا يخافه وسبب النزول أنهم كانوا يتزوجون من يحل لهم من اليتامى اللاتي يلونهن لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن
162
ويسيئون في الصحبة والمعاشرة ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن وقيل : هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة نسائها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا أن ينكحوا من سواهن من النساء والمعنى إن خفتم أن لا تعدلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق {فَانكِحُوا مَا} موصولة أو موصوفة أوثرت على من ذهاباً بها إلى الوصف أي نكاحاً {طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} أي غير اليتامى بشهادة قرينة المقام أي فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيات {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ} حال من فاعل طاب أي فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً وأربعاً حسبما تريدون على معنى أن لكل واحد منهم أن يختار أي عدد شاء من الأعداد المذكورة لا أن بعضها لبعض منهم وبعضها لبعض آخر.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا} أي فيما بينهن ولو في أقل الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى أو كما لم تعدلوا فيما فوق هذه الأعداد {فَوَاحِدَةً} فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع بالكلية {أَوْ مَا} ولم يقل من إيذاناً بقصور رتبة الإماء عن رتبة العقلاء {مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} أي من السراري بالغة ما بلغت من مراتب العدد وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين وإنما سوي في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين السراري من غير حصر في عدد لقلة تبعيتهن وخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم فيهن
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
{ذَالِكَ} إشارة إلى اختيار الواحدة {أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} العول الميل من قولهم عال الميزان عولاً إذا مال وعال في الحكم جار والمراد ههنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من أن لا يميلوا ميلاً محظوراً لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول وانتفاء حظره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والحظر {وَءَاتُوا النِّسَآءَ} أي اللاتي أمر بنكاحهن {صَدُقَـاتِهِنَّ} جمع صدقة وهي المهر.
{نِحْلَةً} فريضة من الله لأنها مما فرضه الله في النحلة أي الملة والشريعة والديانة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهن حال كونها فريضة من الله أو تديناً فانتصابها على أنه مفعول له أي أعطوهن ديانة وشرعة أو هبة وعطية من الله وتفضلاً منه عليهن فانتصابها على الحالية منها أيضاً وعطية من جهة الأزواج من نحله إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الأزواج لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضى وطيب الخاطر وانتصابها على المصدرية لأن الإيتاء والنحلة بمعنى الإعطاء كأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم فالخطاب للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم وكانوا يقولون : هنيئاً لك النافجة لمن يولد له بنت يعنون تأخذ مهرها فتنفج به مالك أي : تعظم {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ} الضمير للصدقات وتذكيره لأجرائه مجرى ذلك فإنه قد يشار به إلى المتعدد واللام متعلقة بالفعل
163
وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافي والتجاوز ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق وفيه بعث لهن إلى تقليل الموهوب {نَفْسًا} تمييز والتوحيد لما أن المقصود بيان الجنس أي وهبن لكم شيئاً من الصداق متجافياً عن نفوسهن طيبات غير خبيثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاية أخلاقكم وسوء معاشرتكم {فَكُلُوهُ} أي : فخذوا ذلك الشيء الذي طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه تملكاً وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية {هَنِياـاًا مَّرِياـاًا} صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ونصبهما على أنهما صفتان للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
(2/131)
ـ روي ـ أن ناساً كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئاً مما ساقه إليها فنزلت.
وفي الآية دليل على وجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس ولذا قيل : يجوز الرجوع بما وهبن إن خدعن من الأزواج وبيان لجواز معروفها وترغيب في حسن المعاشرة بينهما فإن خير الناس خيرهم لأهله وأنفعهم لعياله وفي الحديث "جهاد المرأة حسن التبعل" وكانت المرأة على عهد النبي عليه السلام تستقبل زوجها إذا دخل وتقول مرحباً بسيدي وسيد أهل بيتي وتقصد إلى أخذ ردائه فتأخذه من عنقه وتعمد إلى نعله فتخلعه فإن رأته حزيناً قالت : ما يحزنك إن كان حزنك لآخرتك فزاد الله فيها وإن كان لدنياك فكفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "يا فلان اقرئها مني السلام وأخبرها أن لها نصف أجر الشهيد" وعلامة الزوجة الصالحة عند أهل الحقيقة أن يكون حسنها مخافة الله وغناها القناعة وحليها العفة أي التكفف عن الشرور والمفاسد وعبادتها بعد الفرائض حسن الخدمة للزوج وهمتها الاستعداد للموت.
اكر ارسا باشد وخوش سخن
نكه درنكويى وزشتى مكن
زن خوب وخوش طبع كنجست ومار
رهاكن زن زشت ناساز كار
يعني لا تلتفت إلى امرأة ليس لها حسن ولا موافقة لك بحسن الخلق.
ـ روي ـ أن الإسكندر كان يوماً عنده جمع من ندمائه فقال واحد منهم : إن الله تعالى أعطى لك مملكة كثيرة وشوكة وافرة فأكثر من النساء حتى يكثر أولادك ويبقوا بعدك قال الإسكندر : أولاد الرجال ليست ما ذكرت بل هي العادات الحسنة والسير المرضية والأخلاق الكريمة وليس مما يليق بالرجل الشجيع أن تغلب عليه النساء بعد أن غلب هو على أهالي الدنيا ونعم ما قيل :
يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام†
ونيست يش بدراين قدر يقين كه سر
زخيل بي خردانست يا خرد مندان
بسست سيرت نيكو حكيم را فرزند
زبون زن ه شود براميد فرزندان
قال الشيخ السعدي قدس سره في "البستان" :
ه نغز آداين يك سخن زان دوتن
كه سركشته بودنداز وست زن
يكى كفت كس را زن بد مباد
دكر كفت زن درجهان خودمباد
زن نو كن اي دوست هر نوبهار
كه تقويم ارين نيايد بكار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ثلاثة من أمتي يكونون في جهنم كعمر الدنيا سبع مرات : أولهم
164
متسمنون مهزولون ، والثاني كاسون عارون ، والثالث عالمون جاهلون" قيل من هؤلاء يا رسول الله قال : "أما المتسمنون المهزولون فالنساء متسمنات باللحم مهزولات في أمور الدين وأما الكاسون العارون فهن النساء كاسيان من الثياب عاريات من الحياء وأما العالمون الجاهلون فهم أهل الدنيا التاجرون الكاسبون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" فهؤلاء عالمون في أمور الدنيا جاهلون في أمور الآخرة لا يبالون من أين يجمعون المال وهم لا يشبعون من الحلال ولا يبالون من الحرام نعوذ بالله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
(2/132)
{وَلا تُؤْتُوا} أيها الأولياء {السُّفَهَآءَ} أي : المبذرين من الرجال والنساء والصبيان واليتامى {أَمْوَالَكُمُ} أضاف الأموال إلى الأولياء تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء فكان أموالهن عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي مبالغة في حملهم على المحافظة عليها وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطاً لمعاش أصحابها بجعلها مناطاً لمعاش الأولياء بقوله : {الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون فلو ضيعتموه لضعتم ولما كان المال سبباً للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقاً لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة فكأنها من فرط قيامهم بها واحتياجهم إليها نفس قيامهم {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} الرزق من الله العطية من غير حد ومن العباد إجراء موقت محدود أي أطعموهم منها ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروا فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} كلاماً ليناً تطيب به نفوسهم.
قال القفال : القول المعروف هوانه إن كان المولى عليه صبياً فالولي يعرفه أن المال ماله وهو خازن له وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه وإن كان المولى عليه سفيهاً وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والإسراف وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام وإذا كان رشيداً فطلب ماله ومنعه الولي يأثم.
وفي الآية تنبيه على عظم خطر المال وعظم نفعه.
قال السلف : المال سلاح المؤمن هيىء للفقر الذي يهلك دينه وكانوا يقولون اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه وربما رأوا رجلاً في جنازة فقالوا له : اذهب إلى دكانك ، قال الإمام وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادات والرهن والعقل أيضاً يؤيد ذلك لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل الدنيا والآخرة ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأنه به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار.
شب را كنده خسبد آنكه بديد
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
نبود وجسه بامدادانش
مور كرد آورد بتابستان
تافراغت بود زمستانش
فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة على اكتساب سعادة الآخرة
165
أما من أرادها لنفسها وعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة فخير المال ما كان متاع البلاغ ولا ينبغي للمرء أن يسرف في المال الذي يبلغه إلى الآخرة والجنة والقربة.
ودخلت نيست خرج آهسته تركن
كه ملاحان همي كويند سرودي
اكر باران بكوهستان نبارد
بسالي دجله كردد خشك رودي
درخت اندر خزانها برفشاند
زمستان لا جرم بي برك ماند
والإشارة أن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح دين العباد ودنياهم فالعاقل منهم من يجعله قياماً لمصالح دينه ما أمكنه ولمصالح دنياه بقدر حاجته الضرورية إليه والسفيه من جعله لمصالح دنياه ما أمكنه والمنهى عنه أن تؤتوا إليه أموالكم كائناً من كان ومن جملة السفهاء النفس التي هي أعدى عدوك وكل ما أنفقه الرجل على نفسه بهواها ففيه مفاسد دينه ودنياه إلا المستثنى منه كما أشار تعالى بقوله : {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} يعني : ما يسد به جوع النفس {وَاكْسُوهُمْ} يعني : ما يستر عورتها فإن ما زاد على هذا يكون إسرافاً في حق النفس والإسراف منهي عنه.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} فالقول المعروف مع النفس أن يقول : أكلت رزق الله ونعمه فأدي شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه واذيبي طعامك بذكر الله كما قال عليه السلام"أذيبوا طعامكم بالصلاة والذكر" وأقل ذلك أن يصلي ركعتين أو يسبح مائة تسبيحة أو يقرأ جزءاً من القرآن عقيب كل أكلة وسببه أنه إذا نام على الطعام من غير إذابته بالذكر والصلاة بعد أكله يقسو قلبه ونعوذ بالله من قسوة القلب ففي الإذابة رفع القسوة وأداء الشكر.
واعلم أن في قوله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ} الخ إشارة أخرى وهي أن أموال العلوم وكنوز المعارف لا تؤتى لغير أهلها من العوام ولا تذكر كما حكي أن بعض الكبار ذكر بعض الكرامات لولي فنقل ذلك بعض السامعين في مجلس آخر وأنكره رجل فلما رجع إلى الأصل قال : لا يباع الإبل في سوق الدجاج.
درغست باسفله كفت ازعلوم
كه ضايع شهود تخم درشوره بوم
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
(2/133)
{وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى} أي : واختبروا أيها الأولياء والأوصياء من ليس من اليتامى بين السفه قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين والاهتداء إلى ضبط المال وحسن التصرف فيه وجربوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارة فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعاً وابتياعاً وإن كانوا ممن له ضياع وأهل وخدم فبأن تعطوا منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدهم وخدمهم وإجرائهم وسائر مصارفهم حتى يتبين لكم كيفية أحوالهم.
{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} بأن يحتلموا لأنهم يصلحون عنده للنكاح.
{فَإِنْ ءَانَسْتُم} أي : شاهدتم وتبينتم.
{مِّنْهُمْ رُشْدًا} صلاحاً في دينهم واهتداء إلى وجوه التصرفات من غير عجز وتبذير {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} من غير تأخير عن حد البلوغ.
وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه ماله أبداً وبه أخذ أبو يوسف ومحمد ، وقال أبو حنيفة ينتظر إلى خمس وعشرين سنة لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة فإذا زادت عليها بسبع سنين وهي مدة معتبرة في تغيير أحوال الإنسان لما قال عليه السلام : "مروهم بالصلاة لسبع" دفع إليه ماله أونس منه رشد أولم يونس.
{وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا} بغير حق حال أي : مسرفين
166
وليس فيه إباحة القليل وتحريم الإسراف بل هو بيان أنه إسراف {وَبِدَارًا} أي مبادرين ومسارعين إلى إنفاقها مخافة {أَن يَكْبَرُوا} فتفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن تكبر اليتامى رشداً فينتزعوها من أيدينا ويلزمنا تسليمها إليهم {وَمَن كَانَ غَنِيًّا} من الأولياء والأوصياء فليتنزه عن أكلها وليمتنع وليقنع بما آتاه الله من الغنى والرزق إشفاقاً على اليتيم وإبقاء على ماله واستعفف أبلغ من عف كأنه يطلب زيادة العفة {وَمَن كَانَ} من الأولياء والأوصياء {فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي بما عرف في الشرع بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته وفيه ما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
بعدما راعيتم الشرائط المذكورة {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت منها ذممكم لما أن ذلك أبلغ من التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة وإن لم يكن واجباً عند أصحابنا فإن الوصي مصدق في الدفع مع اليمين وقال مالك والشافعي لا يصدق في دعواه إلا بالبينة {وَكَفَى بِاللَّهِ} الباء صلة {حَسِيبًا} محاسباً وحافظاً لأعمال خلقه فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم واعلموا أن اللائق للعاقل أن يحترز عن حق الغير خصوصاً اليتيم فإنه يجره إلى نار الجحيم فأكل حقه من الكبائر ومن ابتلى بحق من حقوق العباد فعليه بالاستحلال قبل الانتقال إلى دار السؤال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من كانت عنده مظلمة لأخيه أو شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمة وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيآت صاحبه فحمل عليه" ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال أرباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص وليسرّ ببعض الحسنات بينه وبين الله بكمال الإخلاص حيث لا يطلع عليه إلا الله فعساه يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب الإيمان في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم".
قال العلماء : إذا زنى بامرأة ولها زوج فما لم يجعل ذلك الرجل في حل لا يغفر له لأن خصمه الآدمي فإذا تاب وجعله في حل فإن يغفر له ويكتفي بحل منه ولا يذكر الزنى ولكن يقول كل حق لك علي فاجعلني في حل منه ومن كل خصومة بيني وبينك وهذا صلح بالمعلوم على المجهول وذلك جائز كرامة لهذه الأمة لأن الأمم السالفة ما لم يذكروا الذنب لا يغفر لهم وكذا غصب أموال عباد الله وأكلها وضربهم وشتمهم وقتلهم كلها من الحقوق التي يلزم فيها إرضاء الخصماء والتوبة والمبادرة إلى الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة فإذا لم يتب العبد من أمثال هذه ولم يرض خصماءه كان خاسراً خالياً عن العمل عند العرض الأكبر.
تماند ستمكار بد روزكار
بماند برو لعنت ايدار
نان زى كه ذكرت بتحسين كند
ومردى نه بركور نفرين كنند
نبايد برسم بد آيين نهاد
كه كويند لعنت بران كين نهاد
فينبغي للظالم أن يتوب من الظلم ويتحلل من المظلوم في الدنيا فإذا لم يقدر عليه ينبغي أن يستغفر له ويدعو له فإن يرجى أن يحلله بذلك.
وعن فضيل بن عياض رحمه الله أنه قال : قراءة آية من
167
(2/134)
كتاب الله والعمل بها أحب إلي من ختم القرآن ألف ألف مرة وإدخال السرور على المؤمن وقضاء حاجته أحب إلي من عبادة العمر كله وترك الدنيا ورفضها أحب إليّ من التعبد بعبادة أهل السموات والأرض وترك دانق من حرام أحب إلي من مائتي حجة من المال الحلال.
وقال أبو القاسم الحكيم : ثلاثة أشياء تنزع الإيمان من العبد : أولها ترك الشكر على الإسلام ، والثاني : ترك الخوف على ذهاب الإسلام ، والثالث : الظلم على أهل الإسلام وعن أبي ميسرة قال : أتى بسوط إلى رجل في قبله بعدما دفن يعني جاءه منكر ونكير فقالا له : إنا ضارباك مائة سوط فقال : الميت أنا كنت كذا وكذا يتشفع حتى حطا عنه عشراً ثم لم يزل بهما حتى صارت إلى ضربة واحدة فقالا له : إنا ضارباك ضربة واحدة فضرباه ضربة واحدة التهب القبر ناراً فقال : لم ضربتماني قالا مررت برجل مظلوم فاستغاث بك فلم تغثه فهذا حال الذي لم يغث المظلوم فكيف يكون حال الظالم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
واعلم أن الكبار يكفون أنفسهم عن المشتبهات فضلاً عن الحرام فإن اللقمة الطيبة لها أثر عظيم في إجابة الدعاء ولذا قال الشيخ نجم الدين الكبرى قدس سره : أول شرائط إجابة الدعاء إصلاح الباطن بلقمة الحلال وآخر شرائطها الإخلاص وحضور القلب يعني التوجه الأحدي إذ القلب الحاضر في الحضرة شفيع له قال تعالى : {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (غافر : 14) فحركة الإنسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب ولولة الواقف على الباب وصوت الحارس على السطح فعلى العاقل أن يحترز عن الحرام والمشتبهات كي يستجاب دعاؤه في الخلوات {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} .
ـ روي ـ أن أوس بن صامت الأنصاري رضي الله عنه خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال : "ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله" فنزلت هذه الآية فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابني العم والمعنى لذكور أولاد الميت حظ كائن {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ} من ذوي القرابة للميت والمراد المتوارثون منهم دون المحجوبين عن الإرث وهم الأبوان والزوجان والإبن والبنت {وَلِلنِّسَآءِ} أي لجماعة الإناث {نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} مما الأخيرة بإعادة الجار بدل وإليها يعود الضمير المجرور وهذا البدل مراد في الجملة الأولى أيضاً محذوف للتعويل على المذكور وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال وتحقيق أن لكل من الفريقين حقاً من كل ما جل ودق.
{نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} نصب على الاختصاص أي أعني نصيباً مقطوعاً مفروضاً واجباً لهم وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 161
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} أي : قسمة التركة والميراث.
{أُوْلُوا الْقُرْبَى} للميت ممن لا يرث منه {وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينُ} من الأجانب {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} أي : أعطوهم شيئاً من المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة أو مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب كلف به البالغون
168
من الورثة تطييباً لقلوب الطوائف المذكورة وتصدقاً عليهم وكان المؤمنون يفعلون ذلك إذا اجتمعت الورثة وحضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بشيء من ورثة المتاع فحثهم الله على ذلك تأديباً من غير أن يكون فريضة فلو كان فريضة لضرب له حد ومقدار كما لغيره من الحقوق {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} وهو أن يدعوا لهم ويقولوا خذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك لاو يمنوا عليهم وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل فهو معروف وما أنكرته لقبحه شرعاً أو عقلاً فهو منكر وفي الحديث "كل معروف صدقة" وفي المثل أصنع المعروف والقه في الماء فإن لم يعرفه السمك يعرفه من سمك السماء :
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
تونيكي كن بآب اندازاي شاه
اكر ما هي نداند داند الله
(2/135)
ـ حكي ـ أن حية أتت رجلاً صالحاً فقالت : أجرني من عدوي أجارك الله ففتح لها رداءه فقالت : يراني فيه فإن أردت المعروف فافتح فاك حتى أدخل فيه فقال : أخشى أن تهلكيني قالت : لا والله والله وسكان سمواته وأرضه شاهدة على ذلك ففتح فاه فدخلت ثم عارضه رجل في ذلك فأنكر فلما اندفع خوفها قالت : يا أحمق اختر لنفسك كبدك أو فؤادك فقال : أين العهد واليمين قالت : ما رأيت أحمق منك إذ نسيت العداوة التي بيني وبين أبيك آدم وما الذي حملك على اصطناع المعروف مع غير أهله فقال : مهليني حتى آتي تحت هذا الجبل ثم توجه إلى الله فظهر رجل حسن الوجه طيب الرائحة وأعطاه ورقة خضراء وأمره بالمضغ ففعل فلم يلبث إلا خرج قطع الحية من الأسفل فخلصه الله تعالى من شرها ثم سأل من أنت؟ فقال : أنا المعروف وموضعي في السماء الرابعة وأنت لما دعوت الله ضجت الملائكة في السموات السبع إلى الله فانطلقت إلى الجنة وأخذت من شجرة طوبى ورقة بأمر الله فاصنع المعروف فإنه لا يضيع عند الله وإن ضيعه المصطنع إليه.
نكو كارى ازمردم نيك رأى
يكى را بده مى نويسد خداي
ومما يكتب من الصدقة الكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والمعونة في الحاجة وعيادة المريض وتشييع الجنازة وتطييب قلب مسلم وغير ذلك.
واعلم أن الرجال في الحقيقة أقوياء الطلبة والسلاك فلهم نصيب بقدر صدقهم في الطلب ورجوليتهم في الاجتهاد مما ترك المشايخ والإخوان في الله والأعوان على الطلب وتركتهم بركنهم وسيرتهم في الدين وأنوار هممهم العلية ومواهب ولايتهم السنية والنساء ضعفاء القوم فلهم أيضاً نصيب مفروض أي قدر معلوم على وفق صدق التجائهم إليه وجدهم في الطلب وحسن استعدادهم لقبول فيض الولاية وهذا حال المجتهدين الذين هم ورثة المشايخ كما أنهم ورثة الأنبياء فأما المنتمون إلى ولايتهم بالإرادة وحسن الظن والمقتبسون من أنوارهم والمقتفون على آثارهم والمشبهون بزيهم والمتبركون بهم على تفاوت درجاتهم فهم بمثابة أولى القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا القسمة عند محافل صحبتهم ومجامع سماعهم ومجالس ذكرهم فإنها مقاسم خيراتهم وبركاتهم فارزقوهم منه أي من مواهب ولايتهم وآثار هدايتهم وإعطاف عنايتهم وإلطاف رعايتهم وقولوا
169
لهم قولاً معروفاً في التشويق وإرشاد الطريق والحث على الطلب والتوجه إلى الحق والإعراض عن الدنيا وتقرير هوانها على الله وخسارة أهلها وعزة أهل الله في الدارين وكمال سعادتهم في المنزلين فإذا وقفت على هذا فاجتهد حتى لا تحرم من ميراثه الحقيقة ونصيب المعرفة ونعم ما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
ميراث در خواهي تو علم در آموز
كين مال در خرح توآن كردبده روز
رزقنا الله وإياكم ثمرات الأحوال وبلغنا إلى تصفية الباطن وإصلاح البال.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ} صفتهم وحالهم أنهم {لَوْ تَرَكُوا} أي : لو شارفوا أن يتركوا {مِنْ خَلْفِهِمْ} أي : بعد موتهم {ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا} أولاداً عجزة لا غنى لهم وذلك عند احتضارهم {خَافُوا عَلَيْهِمْ} أي : الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم والفقر والتكفف والمراد بالذين هم الأوصياء أمروا أن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى وليشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً وشفقتهم عليهم وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} في ذراري غيرهم {وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} أي : وليقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب والترهيب ويدعوهم بيا بني ويا ولدي ولا يؤذوهم {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} ظالمين أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته وإنما قيد به لأنه إذا أكل منه بالمعروف عند الحاجة أو بما قدر له به القاضي بقدر عمله فيه لم يعاقب عليه {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ} أي : ملىء بطونهم يقال : أكل في بطنه إذا ملأه وأسرف وفي معاه إذا اقتصد فيه {نَارًا} أي : ما يجر إلى النار ويؤدي إليه فكأنه نار في الحقيقة {وَسَيَصْلَوْنَ} أي : سيدخلون يوم البعث {سَعِيرًا} أي : ناراً مسعرة أو هائلة مبهمة الوصف.
ـ روي ـ أن آكل مال اليتيم يبعث يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وانفه وأذنيه وعينيه ويعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا.
ـ وروي ـ أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (البقرة : 220) الآية وفي الحديث قال النبي عليه السلام : "رأيت ليلة أسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما قالصة على منخريه والأخرى على بطنه وخزنة جهنم يلقمونه جمر جهنم وصخرها فقلت : يا جبريل من هؤلاء قال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً".
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
كسى كز صرصر ظلمش دمادم
(2/136)
راغ عيش مظلومان بميرد
نمى ترسد ازين كايزد تعالى
اكره دير كيرد سخت كيرد
وقد أمر الله تعالى أن لا يؤذى اليتيم ويقال له القول السديد فكيف يكون حال من آذاه وغيره من المؤمنين وأكل أموالهم بالغصب والظلم.
ـ روي ـ أن لجهنم جبابا يعني مواضع كساحل البحر فيها حيات كالبخاتي وعقارب كالبغال الدلم فإذا استغاث أهل جهنم أن يخفف عنهم قيل لهم أخرجوا إلى الساحل فيخرجون فتأخذ الحياة شفاههم ووجوههم ما شاء الله فيكشطن فيستغيثون فراراً منها إلى النار فيسلط عليهم الجرب فيحك أحدهم جلده حتى
170
يبدو العظم فيقال يا فلان هل يؤذيك هذا؟ فيقول : نعم فيقال : ذلك بما كنت تؤذي المؤمنين.
فعلى المرء أن يجتنب عن الإيذاء وإيصال الألم إلى الخلق فإن الدعاء السوء من المظلومين يقبل البتة في حق الظالم والمؤذي.
خرابي كند مرد شمشيرزن
نندانكه دود دل طفل وزن
رياست بدست كساني خطاست
كه ازدست شان دستها برخداست
مكافات مؤذى بمالش مكن
كه بيخش بر آورد بايد زين
سر كرك بايد هم أول بريد
نه ون كوسفندان مردم دريد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم عن الحرام وادخلوا الجنة".
ـ وروي ـ عن ابن المبارك أنه قال : ترك فلس من حرام أفضل من مائة ألف فلس يتصدق بها عنه.
وعنه أنه كان بالشام يكتب الحديث فانكسر قلمه فاستعار قلماً فلما فرغ من الكتابة نسي فجعل القلم في مقلمته فلما رجع إلى مرو رأى القلم وعرفه فتجهز للخروج إلى الشام قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار فما ينفعكم إلا بالورع".
قال إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ الزهد ثلاثة أصناف : زهد فرض ، وزهد فضل ، وزهد سلامة.
فزهد الفرض هو الزهد في الحرام ، وزهد الفضل هو الزهد في الحلال ، وزهد السلامة هو الزهد في الشبهات.
وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً ولا يأكل سميناً ولا يشرب بارداً ستين سنة فرؤي في المنام بعد ما مات فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : خيراً غير أني محبوس عن الجنة بابرة استعرتها فلم أردها.
ومر عيسى عليه السلام بمقبرة فنادى رجلاً منهم فأحياه الله تعالى فقال : من أنت؟ فقال : كنت حمالاً أنقل للناس فنقلت يوماً لإنسان حطباً فكسرت منه خلالاً تخللت به فأنا مطالب به منذ مت.
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
خوف داري اكر زقهر خدا
نروي راه حرام دنيا
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} أي : يأمركم ويعهد إليكم {فِى أَوْلَـادِكُمْ} أولاد كل واحد منكم أي : في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ} والمعنى منهم فحذف للعلم به أي : يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه {فَإِن كُنَّ} أي : الأولاد والتأثيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى : {نِسَآءً} أي : خلصا ليس معهن ذكر {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} خبر ثان {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام وحكم البنتين كحكم ما فوقهما {وَإِن كَانَتْ} أي : المولودة {وَاحِدَةً} أي : امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت {فَلَهَا النِّصْفُ} مما ترك {وَلابَوَيْهِ} أي : لأبوي الميت {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} كائناً ذلك السدس {مِّمَّا تَرَكَ} المتوفى {إِن كَانَ لَهُ} أي : للميت {وَلَدٌ} أو ولد ابن ذكراً كان أو أنثى واحداً أو متعدداً غير أن الأب في صورة الأنوثة بعد ما أخذ فرضه المذكور يأخذ ما بقي من ذوي الفروض بالعصوبة {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّه وَلَدٌ} ولا ولد ابن {وَوَرِثَه أَبَوَاهُ} فحسب {فَلامِّهِ الثُّلُثُ} مما ترك والباقي للأب هذا إذا لم يكن
171
معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما أحد الزوجين فلأمه ثلث ما بقي من فرض أحدهما لا ثلث الكل كما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فإنه يفضي إلى تفضيل الأم على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل أضعافه عليها عند انفرداهما عن أحد الزوجين وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع {فَإِن كَانَ لَه إِخْوَةٌ} أي : عدد من الإخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما وسواء كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختلطين وسواء كان لهم ميراث أو محجوبين بالأب
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
(2/137)
{فَلامِّهِ السُّدُسُ} وأما السدس الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجوده ولهم عند عدمه وعليه الجمهور {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي : هذه الإنصباء للورثة من بعدما كان من وصية {يُوصِى بِهَآ} الميت وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها {أَوْ دَيْنٍ} عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف بل هو متعلق بتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرار في الصحة وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور {وَأَبْنَآؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً} الخطاب للورثة أي : أصولكم وفروعكم الذين يتوفون لا تدرون أيهم أنفع لكم أمن يوصي ببعض ماله فيعرضكم لثواب الآخرة بتنفيذ وصيته؟ أم من لا يوصي بشيء فيوفر عليكم عرض الدنيا؟ يعني الأول أنفع إن كنتم تحكمون نظراً إلى ظاهر الحال بأنفعية الثاني وذلك لأن ثواب الآخرة لتحقق وصوله إلى صاحبه ودوام تمتعه به مع غاية قصر مدة ما بينهما من الحياة الدنيا أقرب وأحضر وعرض الدنيا لسرعة نفاده وفنائه أبعد وأقصى.
{فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} أي : فرض الله ذلك الميراث فرضاً {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالخلق ومصالحهم {حَكِيمًا} في كل ما قضى وقدر ودبر.
واعلم أن في هذه الآية تنبيهاً على أن العبد ينبغي أن يجانب الميل إلى جانبي الإفراط والتفريط برأيه وعمله بل يستمسك بالعروة الوثقى التي هي العدالة في الأمور كلها وهو الميزان السوي فيما بين الضعيف والقوي وذلك لا يوجد إلا بمراعاة أمر الله تعالى والمحافظة على الأحكام المقضية الصادرة من العليم بعواقب الأمور الحكيم الذي يضع كل شيء في مرتبته فعليكم بالعدل الذي هو أقرب للتقوى والتجانب عن الجور بين العباد في جميع الأمور خصوصاً فيما بين الأقارب فإن لهم مزيد فضل على الأجانب ولمكانة صلة الرحم عند الله قرن الأرحام باسمه الكريم في قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ} (النساء : 1) فحافظوا على مراعاة حقوق أصولكم وفروعكم وآتوا كل ذي حق حقه فمن حقوق الوالدين على الولد ترك التأفيف والبر والتكلم بقول لطيف.
وفي الخبر يسأل الولد عن الصلاة ثم عن حق الوالدين وتسأل المرأة عن الصلاة ثم عن حق زوجها ويسأل العبد عن الصلاة ثم عن حق المولى ثم إن الحق للوالدة أعظم من الوالد لكونها أكثر زحمة ورحمة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
ـ روي ـ أن رجلاً قال : يا رسول الله إن أمي هرمت عندي فأطعمها بيدي وأسقيها بيدي وأوضيها وأحملها على عاتقي فهل جازيت حقها؟ قال : "لا ولا واحداً من مائة" قال : ولم يا رسول الله؟ قال : "لأنها خدمتك
172
في وقت ضعفك مريدة حياتك وأنت تخدمها مريداً مماتها ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل كثيراً" وجاء رجل إلى النبي عليه السلام ليستشيره في الغزو فقال : "ألك والدة" قال : نعم قال عليه السلام : "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها" ذكره في الإحياء قيل فيه ونعم ما قيل :
جنت كه سراي ما درانست
زير قد مات ما درانست
روزي بكن أي : خداي مارا
يزي كه رضاي ما درانست
ويطيع الوالدين فيما أبيح في دين الإسلام وإن كانا مشركين ويهجرهما إن أمراه بشرك أو معصية قال تعالى : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (لقمان : 15).
ون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهترازمودت قربى
(2/138)
قال بعضهم : كل ما لا يؤمن من الهلاك مع الجهل فطلب علمه فرض عين سواء كان من الأمور الإعتقادية كمعرفة الصانع وصفاته وصدق النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله أو من الأعمال الحسنة المتعلقة بالظاهر كالصلاة والصوم وغيرهما أو بالباطن كحسن النية والإخلاص والتوكل وغيرها أو من السيئة المتعلقة بالظاهر كشرب الخمر وأكل الربا والنظر إلى أجنبية بشهوة أو بالباطن كالكبر والعجب والحسد وسائر الأخلاق الرديئة للنفس فإن معرفة هذه الأمور فرض عين يجب على المكلف طلبها وإن لم يأذن له أبواه وأما ما سواها من العلوم فقيل : لا يجوز له الخروج لطلبه إلا بإذنهما.
وفي "فتاوي قاضي خان" : رجل طلب العلم وخرج بغير إذن والديه فلا بأس به ولم يكن عقوقاً قيل هذا إذا كان ملتحياً فإذا كان أمرد صبيح الوجه فلأبويه أن يمنعاه.
وأما حق الولد على الوالد فكالتسمية باسم حسن كأسماء الأنبياء والمضاف إلى اسمه تعالى لأن الإنسان يدعى في الآخرة باسمه واسم أبيه قال عليه السلام : "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم" ولذا قيل : يستحب تغيير الأسماء القبيحة المكروهة فإن النبي صلى الله عليه وسلّم سمي المسمى بالعاصي مطيعاً.
وجاء رجل اسمه المضطجع فسماه المنبعث.
ومن حقه عليه الختان وهو سنة.
واختلفوا في وقته قيل : لا يختن حتى يبلغ لأنه للطهارة ولا طهارة عليه حتى يبلغ وقيل إذا بلغ عشراً أو قيل تسعاً والأولى تأخير الختان إلى أن يثغر الولد ويظهر سنه لما فيه من مخالفة اليهود لأنهم يختنون في اليوم السابع من الولادة.
ومن حقه أن يرزقه بالحلال الطيب وأن يعلمه علم الدين ويربيه بآداب السلف الصالحين ، قال الشيخ سعدي قدس سره في حق الأولاد :
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
بخردى درش زجر وتعليم كن
به نيك وبدش وعده وبيم كن
بياموز رورده رادست رنج
وكردست داري وقارون كنج
بايان رسد كيسه سيم وزر
نكردد تهى كيسه يسه يشه ور
ـ وروى ـ أنس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال : "يعق عنه في اليوم السابع ويسمى ويماط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب وإذا بلغ سبع سنين عزل فراشه وإذا بلغ عشر سنين ضرب عن الصلاة وإذا بلغ ست عشرة زوجه أبوه ثم أخذ بيده وقال : قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة".
والحاصل أنه ينبغي أن لا يعتمد الإنسان على رأي نفسه بل يكل أمره إلى الله فإنه أعلم وأرحم.
والإشارة في الآيات أن المشايخ للمريدين
173
بمثابة الآباء للأولاد فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته على ما قاله عليه السلام وقال صلى الله عليه وسلّم "أنا لكم كالوالد لولده" ففي قوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} الآية إشارة إلى وصايات المشايخ والمريدين ووراثتهم في قرابة الدين لقوله تعالى : {أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ} (المؤمنون : 10) فكما أن الوراثة الدنيوية بوجهين بالسبب والنسب فكذلك الوراثة الدينية بهما.
أما السبب فهو الإرادة ولبس خرقتهم والتبرك بزيهم والتشبه بهم.
وأما النسب فهو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولايتهم ظاهراً وباطناً بصدق النية وصفاء الطوية مستسلماً لأحكام التسليك والتربية ليتوالد السالك بالنشأة الثانية فإن الولادة تنقسم على النشأة الأولى وهي ولادة جسمانية بأن يتولد المرء من رحم الأم إلى عالم الشهادة وهو الملك والنشأة الثانية وهي ولادة روحانية بأن يتولد السالك من رحم القلب إلى عالم الغيب وهو الملكوت كما حكي النبي عليه السلام عن عيسى عليه السلام أنه قال : (لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين) فالشيخ هو الأب الروحاني والمريدون المتولدون من صلب ولايته هم الأولاد الروحانيون وهم فيما بينهم أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله كقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال عليه السلام : "الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد" ولهذا قال عليه السلام : "كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي" لأن نسبه كان بالدين كما سئل من النبي صلى الله عليه وسلّم من آلك يا رسول الله؟ قال : "آلي كل مؤمن تقي" وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة والاجتهاد وحسن الاستعداد وإنما مواريثهم العلوم الدينية واللدنية كما قال صلى الله عليه وسلّم "العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر" ، قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
ون كرفتي يرهين تسليم شو
همو موسى زير حكم خضررو
كرتوسنك وصخره ومرمر شوي
ون بصاحب دل رسى كوهر شوينار خندان باغ را خندان كند
صحبت مردانت از مردان كند
جزء : 2 رقم الصفحة : 168
(2/139)
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} من المال إذا متن وبقيتم بعدهن {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} أي : ولد وارث من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو متعدداً منكم أو من غيركم والباقي لورثتهن من ذوي الفروض والعصبات أو غيرهم أو لبيت المال إن لم يكن لهن وارث آخر أصلاً {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} على نحو ما فصل {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} أي : تركت أزواجكم من المال والباقي لباقي الورثة {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده {يُوصِينَ بِهَآ أَوْ} من بعد قضاء {دَيْنٍ} سواء كان ثبوته بالبينة أو بالإقرار {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} إن متم وبقين بعدكم {إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} ذكر أو أنثى منهن أو من غيرهن أو ولد ابن والباقي لبقية وراثتكم من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلاً
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
{فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} على التفصيل المذكور {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} من المال والباقي
174
للباقين {مِّنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} أي : بعد إخراج الوصية وقضاء الدين هذا كله إذا لم يمنع مانع من الموانع الأربعة كقتل واختلاف دين ورق واختلاف دار {وَإِن كَانَ رَجُلٌ} أي : ذكر ميت {يُورَثُ} أي : يورث منه من ورث لا من أورث صفة رجل {كَلَـالَةً} خبر كان أي : من لا ولد له ولا والد وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الإعياء في التكلم ونقصان القوة فيه فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد لضعفها بالنسبة إلى القرابة من جهتهما {أَوِ امْرَأَةٌ} عطف على رجل مقيد بما قيد به أي : إن كان الميت أنثى يورث منها كلالة {وَلَهُ} أي : وللميت الموروث منه سواء كان رجلاً أو امرأة {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} كلاهما من الأم بالإجماع لأن حكم غيرهما سيبين في آخر السورة {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} أي : أي من الأخ والأخت من الأم {السُّدُسُ} من غير تفضيل للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة {فَإِن كَانُوا} أي : أولاد الأم {أَكْثَرَ} في الوجود {مِن ذَالِكَ} أي : من الأخ أو الأخت المنفردين بواحد أو أكثر {فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ} يقتسمونه بالسوية لا يزيد نصيب ذكرهم على أنثاهم والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} قوله : غير مضار نصب حالاً من فاعل يوصي المقدر المدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول أي : يوصي الميت بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غير مدخل الضرر على الورثة بما زاد على الثلث أو تكون الوصية لقصد الإضرار به وبأن يقر في المرض بدين كاذباً {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} أي : يوصيكم الله وصية بها لا يجوز تغيرها قال عليه السلام : "من قطع ميراثاً فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة" {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بالمضار وغيره {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بالإمهال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
{تِلْكَ} أي : الأحكام التي تقدمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث {حُدُودُ اللَّهِ} شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في جميع الأوامر والنواهي التي من جملتها ما فصل ههنا {يُدْخِلْهُ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} صيغة الجمع أي : خالدين بالنظر إلى جمعية من بحسب المعنى {وَذالِكَ} أي : هذا الثواب {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي : النجاة الوافرة يوم القيامة والظفر الذي لا ظفر وراءه {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ولو في بعض الأوامر والنواهي {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} شرائعه المحدودة في جميع الأحكام {يُدْخِلْهُ نَارًا} أي : عظيمة هائلة لا يقادر قدرها {خَـالِدًا فِيهَا وَلَه عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي : وله غير عذاب الحريق الجسماني عذاب آخر لا يعرف كنهه وهو العذاب الروحاني كما يؤذن به وصفه والجملة حالية وأفرد خالداً في أهل النار وجمع في أهل الجنة لأن في الانفراد وحشة وعذاباً للنفس وذلك أنسب بحال أهل النار.
اعلم أن الإطاعة سبب لنيل المطالب الدنيوية والأخروية ويرشدك على شرف الإطاعة أن كلب أصحاب الكهف لما تبعهم في طاعة الله وعد له دخول الجنة.
بابدان يار كشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
سك أصحاب كهف روزي ند
ي مردم كرفت ومردم شد
فإذا كان من اتبع المطيعين كذلك فما ظنك بالمطيعين؟ قال حاتم الأصم قدس سره : ألزم خدمة
175
(2/140)
مولاك تأتك الدنيا راغمة والآخرة راغبة.
ومن كلامه : من ادعى ثلاثاً بغير ثلاث فهو كذاب ، من ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب ، ومن الدعى محبة الله من غير ورع عن محارم الله فهو كذاب ، ومن ادعى محبة النبي عليه السلام من غير محبة الفقراء فهو كذاب وكلما ازداد العبد في عبادة الله وطاعته ازداد قرباً منه وبعداً من كيد الشيطان.
قال السري : سألت معروف الكرخي عن الطائعينبأي شيء قدروا على الطاعة : قال بخروج الدنيا من قلوبهم ولو كانت في قلوبهم ما صحت لهم سجدة ، قال جلال الدين الرومي قدس سره :
بند بكسل باش آزاد أي : ند باشي بند سيم وبند زرهركه از ديدار برخوردار اين جهان درشم أو مردارشد
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز
شم نركس را ازين كركس بدوز ومن أكرمه الله بمعرفة عظمته اضطر إلى كمال طاعته.
ـ حكي ـ أن شاباً من بني إسرائيل رفض دنياه واعتزل الناس وجعل يتعبد في بعض النواحي فخرج إليه رجلان من مشايخ قومه ليرداه إلى منزله فقالا له : يا من أخذت بأمر شديد لا صبر عليه فقال لهما الشاب : قيامي بين يدي الله أشد من هذا فقالا : إن كل أقربائك مشتاق إليك فعبادتك فيهم أفضل فقال الشاب : إن الله تعالى إذا رضي عني يرضى كل قريب وبعيد فقالا له : أنت شاب لا تعلم وإنا جربنا هذا الأخر وإنا نخاف العجب فقال لهما الشاب : من عرف نفسه لم يضره العجب فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال له : قم فإن هذا الشاب وجد ريح الجنة ولا يقبل قولنا.
وعن وهب بن منبه كان داود عليه السلام جعل نوبة عليه وعلى أهله وأولاده ولا تمر ساعة من الليل إلا وهو يصلي ويذكر ففي سره تحرك قلبه بالنظر إلى طاعته وكان بين يديه نهر فانطق الله ضفدعاً فقال : والذي أكرمك بالنبوة إنه منذ خلقني الله تعالى وأنا قائم على رجل ما استرحت مع أني لا أرجو الثواب ولا أخاف العقاب فما عجبك فيه يا داود؟ فعلم أن المحسن هو الذي يعلم أنه مسيىء ولا يعجب بطاعته فلا بد للمؤمن من العمل الصالح ومن الصون عما يبطله من رؤيته وسائر الأمراض الفاسدة ولذلك كان الكبار يختارون الوحدة.
قال الإمام جعفر الصادق وكذا سفيان الثوري : هذا زمان السكوت وملازمة البيوت فقيل لسفيان : إذا لازمنا بيوتنا فمن أين يحصل لنا الرزق؟ قال : اتقوا الله فإن الله يرزق المتقين من غير كسب كما قال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق : 2 ـ 3) ، قال جلال الدين الرومي :
بردل خودكم نه انديشه معاش
عيش كم نايد توبر دركاه باشس
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
{وَالَّـاتِى} جمع التي {يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ} الإتيان الفعل والمباشرة والفاحشة الفعلة القبيحة أريد بها الزنى لزيادة قبحه على كثير من القبائح أي : اللاتي يفعلن الزنى كائنات {مِّن نِّسَآاـاِكُمُ} أي : من زوجاتكم {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} أي : فاطلبوا أن يشهد عليهن بإتيانها أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم {فَإِن شَهِدُوا} عليهن بذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ} فاحبسوهن فيها واجعلوها سجناً عليهن {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} أي يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن.
وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح أو
176
يتوفاهن ملائكة الموت {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} أي : طريقاً يخرجن به من الحبس بأن تنكح فإنه مغن عن السفاح أي : الزنى {وَالَّذَانِ} تثنية الذي {يَأْتِيَـانِهَا} أي : الفاحشة {مِنكُمْ} هما الزاني والزانية بطريق التغليب.
قال السدي : أريد بهما البكران منهما كما ينبىء عنه كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد وبذلك يندفع التكرار {فَـاَاذُوهُمَا} فوبخوهما وذموهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله وذلك بعد الثبوت {فَإِن تَابَا} عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجر الأذية وقوارع التوبيخ {وَأَصْلَحَا} أي : لعملهما وغير الحال {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَآ} بقطع الأذية والتوبيخ فإن التوبة والإصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا} مبالغاً في قبول التوبة {رَّحِيمًا} واسع الرحمة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
(2/141)
واعلم أن الرجل إذا زنى بامرأة وهما محصنان فحدهما الرجم لا غير وإن كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير وإن كان أحدهما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد والمحصن هو أن يكون عاقلاً بالغاً مسلماً حراً دخل بامرأة بالغة عاقلة حرة مسلمة بنكاح صحيح فالرجم كان مشروعاً في التوراة ثم نسخ بآية الإيذاء من القرآن ثم صار الإيذاء منسوخاً بآية الحبس وآية الإيذاء وإن كانت متأخرة في الترتيب والنظم إلا أنها سابقة على الأولى نزولاً ثم صار الحبس منسوخاً بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلّم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" ثم نسخ هذا كله بآية الجلد {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ} وصار الحد هو الجلد في كل زان وزانية ثم صار هذا منسوخاً بالرجم في حق المحصن بحديث ماعز رضي الله عنه وبقي غير المحصن في حكم الجلد وهو الترتيب في الآيات والأحاديث وعليه استقر الحكم عندنا كذا في تفسير "التيسير".
فالواجب على كل مسلم أن يتوب من الزنى وينهى الناس عن ذلك فإن كل موضع ظهر فيه الزنى ابتلاهم الله بالطاعون ويزيد فقرهم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي : ذنب أعظم عند الله قال : "أن تجعلنداً وهو خلقك" قلت ثم أي؟ قال : "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك" قلت : ثم أي؟ قال : "أن تزني بحليلة جارك" وأشد الزنى ما هو مصر عليه وهو الرجل الذي يطلق امرأته وهو يقيم معها بالحرام ولا يقر عند الناس مخافة أن يفتضح فكيف لا يخاف فضيحة الآخرة يوم تبلى السرائر يعني تظهر الأسرار فاحذر فضيحة ذلك اليوم واجتنب الزنى ولا تصر عليه فإنه لا طاقة لك مع عذاب الله وتب إلى الله فإن الله كان يقبل التوبة عن عباده إن الله كان تواباً رحيماً ، قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره :
مركب توبه عجائب مركبست
بر فلك تازد بيك لحظه زستون برآرند از شيماني انين
عرش لرزد ازانين المذنبينعمرا كربكذشت بيخش اين دم است
آب توبه اش ده اكر اوبي نمستبيخ عمرت رابده آب حيات
تادرخت عمر كردد باثبات
جمله ماضيها ازين نيكو شوند
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
زهر ارينه ازين كرد دوقند
177
والإشارة في تحقيق الآيتين أن {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} هي النفوس الأمارة بالسوء والفاحشة ما حرمته الشريعة من أعمال الظاهر وحرمته الطريقة من أحوال الباطن وهي الركون إلى غير الله قال عليه السلام : "سعد غيور وأنا أغير منه والله أغير منا" ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ} على النفوس باتيان الفاحشة {أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} أي : من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والركاكة والذل والطمع والمهانة واللؤم.
والماء ومن خواصه اللين والعجز والكسل والأنوثة والشره في المأكل وفي المشرب.
والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والحقد والعداوة والشهوة والزينة.
والنار ومن خواصها التبختر والتكبر والفخر والصلف والحدة وسوء الخلق وغير ذلك مما يتعلق بالأخلاق الذميمة ورأسها حب الدنيا والرياسة واستيفاء لذاتها وشهواتها {فَإِن شَهِدُوا} أي : ظهر بعض هذه الصفات من النفوس {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ} فاحبسوهن في سجن المنع عن التمتعات الدنيوية فإن الدنيا سجن المؤمن واغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} أي : تموت النفس إذا انقطع عنها حظوظها دون حقوقها وإلى هذا أشار بقوله عليه السلام : "موتوا قبل أن تموتوا" {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيوب فتهب منها ألطاف الحق وجذبات الألوهية التي جذبة منها توازي عمل الثقلين {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} أي : النفس والقالب يأتيان الفواحش في ظاهر الأفعال والأعمال وباطن الأحوال والأخلاق {فَـاَاذُوهُمَا} ظاهراً بالحدود وباطناً بترك الحظوظ وكثرة الرياضات والمجاهدات {فَإِن تَابَا} ظاهراً وباطناً {وَأَصْلَحَا} لذلك {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَآ} باللطف بعد العنف وباليسر بعد العسر فإن مع العسر يسراً.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا}
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
(2/142)
لمن تاب {رَّحِيمًا} لمن أصلح من "تفسير نجم الدين الرازي الكبرى" {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} أي : أن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقضتى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته.
{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ} أي : المعصية صغيرة كانت أو كبيرة.
فقوله : إنما التوبة على الله مبتدأ وخبره ما بعده {بِجَهَـالَةٍ} أي : يعملون ملتبسين بها أي : جاهلين سفهاء فإن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه الجهل ولذلك قيل : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع من جهالته.
وفي "التيسير" ليست هذه جهالة عدم العلم لأنه ذنب لأن ذلك عذر لكنها التغافل والتجاهل وترك التفكر في العاقبة كفعل من يجهله ولا يعلمه {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي : من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت أي : قبل أن يغرغروا وسماه قريباً لأن أمد الحياة الدنيا قريب قال تعالى : {قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} (النساء : 77) فعمر الدنيا قليل قريب الانقضاء فما ظنك بعمر فرد ومن تبعيضية أي : يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمي ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زماناً قريباً ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب {فأولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي : : يقبل توبتهم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بخلقه يعلم إخلاصهم في التوبة {حَكِيمًا} في صنعه والحكيم لا يعاقب التائب.
فعلى المؤمن أن يتدارك الزلة بالتوبة والاستغفار ويسارع في الرجوع إلى الملك الغفار.
ـ روي ـ أن جبريل عليه السلام أتاه عند موته فقال : يا محمد
178
الرب يقرئك السلام ويقول : من تاب قبل موته بجمعة قبلت توبته قال صلى الله عليه وسلّم "الجمعة كثيرة" فذهب ثم رجع وقال : قال الله تعالى : من تاب قبل موته بساعة قبلت توبته فقال : "الساعة كثيرة" فذهب ثم رجع وقال : إن الله يقرئك السلام ويقول : إن كان هذا كثيراً فلو بلغ روحه الخلق ولم يمكنه الاعتذار بلسانه واستحيى مني وندم بقلبه غفرت له ولا أبالي قال صلى الله عليه وسلّم "إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر" أي : لم يبلغ روحه الحلقوم وعند ذلك يعاين ما يصير إليه من رحمة أو هوان ولا ينفع حينئذٍ توبة والا إيمان قال تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (فاطر : 85) فالتوبة مبسوطة للعبد يعاين قابض الأرواح وذلك عند غرغرته بالروح وإنما يغرغر به إذا قطع الوتين فشخص من الصدر إلى الحلقوم فعندها المعاينة وعندها حضور الموت فيجب على الإنسان أن يتوب قبل المعاينة والغرغرة وهو معنى قوله تعالى : {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
طريق بدست آر وصلحى بجوي
شفيعي برانكيز وعذري بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد آمان
و يمانه رشد بدور وزمان
والتوبة فرض على المؤمنين ولها شروط أربعة : الندم بالقلب ، وترك المعصية في الحال.
والعزم على أن لا يعود إلى مثلها وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى وخوفاً منه لا من غيره.
قال الحسن البصري : استغفارنا يحتاج إلى استغفار ، قال القرطبي في "تذكرته" : هذا يقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكباً على الظلم حرصاً عليه لا يقلع والسبحة في يده زاعماً أنه يستغفر من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف ومن أظلم ممن اتخذ آيات الله هزؤاً فيلزم حقيقة الندم.
ـ روي ـ أن الملائكة تعرج إلى السماء بسيآت العبد فإذا عرضوها على اللوح المحفوظ يجدون مكانها حسنات فيخرون على وجوههم ويقولون : ربنا إنك تعلم أنا ما كتبنا عليه إلا ما عمل فيقول الله تعالى : صدقتم ولكن عبدي ندم على خطيئته واستشفع إليّ بدمعه فغفرت ذنبه وجدت عليه بالكرم وأنا أكرم الأكرمين ، قال مولانا جلال الدين قدس سره :
ازي هر كريه آخر خنده ايست
مرد آخر بين مبارك بنده ايستهركجا آب روان سبزه بود
هزكجا اشك روان رحمت شود
تانكريد ابركي خندد من
تانكريد طفل كي جوشد لبن قال أحمد بن عبد الله المقدسي : سألت إبراهيم بن أدهم عن بدء حاله فقال : نظرت من شباك قصري فرأيت فقيراً بفناء القصر قد أكل الخبز بالماء والملح ثم نام فدعوته وقلت له : قد شبعت وتهيأت للنوم قال : نعم فتبت إلى الله ولبست الليلة مسوحاً وقلنسوة من صوف وخرجت حافياً إلى مكة.
واعلم أن الله إذا أراد بعبد خيراً اصطفاه لنفسه وجعل في قلبه سراجاً يفرق بين الحق الباطل ويبصر عيوب نفسه حتى يترك الدنيا وحطامها ويلقي عليها زمامها ، قال جلال الدين رومي قدس سره :
179
ملك برهم زن تو ادهم وار زود
تابيابي همو أو ملك خلود
اين جهان خود حبس جانهاي شماست
هين رويد آن سوكه صحراي شماست
قال العطار قدس سره :
نقاب ازروي ون خورشيد بردار
اكر هستي زروي خود خبر دار
زكوه قاف جسماني كذركن
بدار الملك روحاني سفركن
مشو مغرور اين ملك مزور
نه عزت ماند ونه مال ونه زر
اكر رنكت فروشويند زرخسار
(2/143)
خريدارت بنامش كس ببازار
عصمنا الله وإياكم من الركون إلى الدنيا وموت القلب بالإصرار على الهوى في الصبح والمساء.
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ} أي الذنوب {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي وقع في سكرات الموت وشاهد ملك الموت سوى علاماته فإن التوبة تقبل فيها {قَالَ} عند النزع ومشاهدة ما فيه {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ} من ذنوبي يعني لا يقبل التوبة منه ثمة لأنها حالة الاضطرار دون حالة الاختيار {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ} عطف على الذين يعملون السيآت أي ليست التوبة للذين ماتوا {وَهُمْ كُفَّارٌ} مصرون على كفرهم إذا تابوا عند قرب الموت أو عند معاينة العذاب في الآخرة {أولئك} أي الفريقان {أَعْتَدْنَا} أصله أعددنا أبدلت الدال الأولى تاء {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي هيأنا لهم عذاباً وجيعاً دائماً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
اعلم أن الله تعالى سوى بين من سوف التوبة وأخرها إلى حضور الموت من الفسقة وبين من مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة كأنه قال : توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة فكما أن الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين فكذلك المسوف إلى حضرة الموت لعدم محلها وتلك التسوية لكيلا يهمل المذنب في أمر التوبة ولا يتأهل العاقل في المسارعة إلى طلب المغفرة ، قال جلال الدين رومي قدس سره :
كرسيه كردي تونامة عمر خويش
توبه كن زانهاكه كردستي تويشتوبه آرند وخدا توبه ذير
امر او كيرند واو نعم الأمير وإذا هب من الله رياح العناية تجد العبد يسرع إلى التوبة ويمد نفسه إلى أسبابها ويتأثر بشيء يسير فيتوب عن قبح معاملته.
قال أبو سليمان الداراني : اختلفت إلى مجلس قاص فأثر في قلبي كلامه فلما قمت لم يبق في قلبي شيء فعدت ثانياً فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي وكسرت آلة المخالفات ولزمت الطريق فحكي هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال : عصفور اصطاد كركيا أراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركي أبا سليمان :
مرد بايد كيرداندر كوش
ورنوشته اسد ند برديوار
قال تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران : 133) فمسارعة المذنب بالتوبة وترك الإصرار والرجوع إلى باب الملك الغفار ومسارعة المطيع بالاجتناب عن السيآت وزيادة الخيرات والحسنات قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال فإذا عمل العبد حسنة يكتب له صاحب اليمين عشراً" :
180
نكو كاري از مردم نيك رأى
يكى رابده مي نويسد خداي
"وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتب قال صاحب اليمين امسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر فيها فلم يكتب عليه وإن لم يستغفر كتب سيئة واحدة" فالواجب على كل مسلم أن يتوب إلى الله حين يصبح وحين يمسي ولا يؤخرها.
قال أبو بكر الواسطي قدس سره التأني في كل شيء حسن إلا في ثلاث خصال عند وقت الصلاة وعند دفن الميت والتوبة عند المعصية وكان في الأمم الماضية إذا أذنبوا حرم عليهم حلال وإذا أذنب واحد منهم ذنباً وجد على بابه أو على جبهته مكتوباً أن فلان ابن فلان قد أذنب كذا وتوبته كذا فسهل الله الأمر على هذه الأمة فقال : {وَمَن يَعْمَلْ سُواءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَه ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء : 110).
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
ـ روي ـ أن الله لما لعن إبليس سأله النظرة فانظره أي أمهله إلى قيام الساعة فقال انظر ماذا ترى؟ فقال : وعزتك لا أخرج من صدر عبدك حتى تخرج نفسه فقال الرب : وعزتي وجلالي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى تخرج نفسه فانظر إلى رحمة الله ورأفته على عباده أنه سماهم مؤمنين بعدما أذنبوا فقال : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} (النور : 31) وأحبهم بعد التوبة فقال : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة : 222) ، قال الحافظ قدس سره :
بمهلتي كه سهرت دهد زراه مرو
تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كفت
فينبغي أن لا يغتر الإنسان بشيء من الأشياء في حال من الأحوال فإنه وإن كان يمهل ولكن لا يهمل فإن الموت يجيء البتة إذا فنى العمر وامتلأ الإناء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
(2/144)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا} مصدر في موضع الحال من النساء كان الرجل إذا مات قريبه يلقي ثوبه على امرأته أو على خبائها ويقول : أرث امرأته كما أرث ماله فيصير بذلك أحق بها من كل أحد ثمخ إن شاء تزوجها بصداقها الأول وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئاً وإن شاء عضلها أي حبسها وضيق عليها لتفتدي بما ورثت من زوجها وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل إلقاء الثوب فهي أحق بنفسها فنهوا عن ذلك وقيل لهم لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث على زعمكم كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} عطف على ترثوا ولا لتأكيدالنفي والخطاب للأزواج.
والعضل الحبس والتضييق وداء عضال ممتنع عسر العلاج وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر وضيق عليها لتفتدي منه بمالها وتخلع فقيل لهم : ولا تعضلوهن أي لا تضيقوا عليهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أي من الصداق بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} من بين بمعنى تبين أي القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء أي : الفحش والسلاطة أي حدة اللسان أو الفاحشة الزنى وهو استثناء من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أو أعم العلل ولا يحل لكم عضلهن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات أو لعلة من العلل إلا في حال إتيانهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانهن بها أو إلا لإتيانهن بها فإن السبب حئنذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورون في طلب الخلع
جزء : 2 رقم الصفحة : 181
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} خطاب للذين يسيئون العشرة معهن.
والمعروف ما لا ينكره
181
الشرع والمروءة والمراد ههنا النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول ونحو ذلك {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} وسئمت صحبتهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك من الأمور المذكورة فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس واصبروا على معاشرتهن {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْـاًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} والمراد بالخير الكثير ههنا الولد الصالح أو المحبة والألفة والصلاح في الدين وهو علة للجزاء أقيمت مقامه للإيذان بقوة استلزامها إياه كأنه قيل : فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه.
وعسى تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن تقدير الخبر أي فقد قربت كراهتك شيئاً وجعل الله فيه خيراً كثيراً فإن النفس ربما تكره ما هو أصلح في الدين وأحمد عاقبة وأدنى إلى الخير وتحب ما هو بخلافه فليكن نظرك إلى ما فيه خير وصلاح دون ما تهوي أنفسكم.
اعلم أن معاشرتهن بالمعروف والصبر عليهن فيما لا يخالف رضى الله تعالى وإلا فالرد من مواضع الغيرة واجب فإن الغيرة من أخلاق الله وأخلاق الأنبياء والأولياء قال عليه السلام : "أتعجبون من غيرة سعد وأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" أي ما كان من أعمال الظاهر وهو ظاهر وأحوال الباطن وهو الركون إلى غير الله والطريق المنبىء عن الغيرة أن لا يدخل عليها الرجال ولا تخرج هي إلى الأسواق دون الحمام قال الإمام قاضي خان : دخول الحمام مشروع للرجال والنساء خلافاً لما قاله البعض.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل الحمام وتنوّر ، وخالد بن وليد دخل حمام حمص لكن إنما يباح إذا لم يكن فيه إنسان يكشف العورة انتهى والناس في زماننا لا يمتنعون عن كشف العورة أعاليهم وأسافلهم فالمتقي يجتنب عن الدخول في الحمام من غير عذر والحاصل أن المرأة إذا برئت من مواقع الخلل واتصفت بالعفة فعلى الزوج أن يعاشرها بالمعروف ويصبر على سائر أوضاعها وسوء خلقها بخلاف ما إذا كانت غير ذلك ، قال الشيخ السعدي :
و مستور باشد زن خوبروى
بديدار أو دربهشت است شوي
اكر ارساباشد وخوش سخن
نكه درنكويى وزشتي مكن
جزء : 2 رقم الصفحة : 181
وزن راه ازار كيرد بزن
وكرنه تودرخانه بنشين وزن
زبيكانكان شم زن كورباد
و بيرون شدازخانه در كورباد
شكوهى نماند دران خاندان
كه بانك خروش آيدازما كيان
كريز از كفش دردهان نهنك
كه مردن به اززندكاني به ننك
ثم اعلم أن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال لأنهن أرق ديناً واضعف عقلاً وأضيق خلقاً فحسن معاشرتهن والصبر عليهن مما يحسن الأخلاق فلا جرم يعد الصابر من المجاهدين في سبيل الله وكان عليه السلام يحسن المعاشرة مع أزواجه المطهرة.
(2/145)
ـ روي ـ أن بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته إلى أن ماتت وعرض عليه التزوج فامتنع وقال : الوحدة أروح لقلبي قال : فرأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها كأن أبواب السماء قد فتحت وكأن رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضاً وكلما نظر إلي واحد منهم يقول لمن وراءه هذا هو
182
المشؤوم فيقول الآخر : نعم ويقول الثالث : كذلك فخفت أن أسألهم إلى أن مرّ بي آخرهم فقلت له : من هذا المشؤوم؟ قال : أنت قال : فقلت ولم؟ قال : كنا نرفع عملك مع أعمال المجاهدين في سبيل الله فمنذ جمعة أمرنا أن نضع عملك مع الخالفين فلا ندري ما أحدثت؟ فقال : لإخوانه زوجوني فلم يكن يفارقه زوجتان أو ثلاث وكثرة النساء ليست من الدنيا لأن الزهاد والعباد كانوا يتزوجون ثلاثاً وأربعاً قال صلى الله عليه وسلّم "حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة" ، قال بعض أرباب الأحوال : كنت بمجلس بعض القصاصّ فقال : ما سلم أحد من الهوى ولا فلان وسمى بمن لا يليق ذكره في هذا المقام لعظم الشأن فقلت : اتق الله فقال : ألم يقل : "حبب إلي" فقلت : ويحك إنما قال : حبب ولم يقل أحببت قال : ثم خرجت بالهم فرأيت النبي عليه السلام فقال : لا تهتم فقد قتلناه قال : فخرج ذلك القاص إلى بعض القرى فقتله بعض قطاع الطريق ، فقال بعض العلماء : إكثاره عليه السلام في أمر النكاح بفعل بواطن الشريعة ، قال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول الأنبياء زيدوا في القوة بفضل نبوتهم وذلك أن النور إذا امتلأت منه الصدور ففاض في العروق التذت النفس والعروق فأثار الشهوة وقواها وأما الطيب فإنه يزكي الفؤاد ويقوي القلب وأصل الطيب إنما خرج من الجنة بهبوط آدم منها بورقة تستر بها فتركت عليه.
وأما الصلاة فهي مناجاة الله كما قال عليه السلام : "المصلى يناجي ربه" فإذا عرفت حقيقة الحال فإياك والإنكار فإن كل عمل عند الأخيار له سر من الأسرار ولكن عقول العوام لا تحيط به وإن عاشوا ألف عام ، قال مولانا جلال الدين قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 181
ازمحقق تامقلد فرقها ست
كين وداودست وآن ديكر صداستكار درويشي وراي فهم تست
سوي درويشان بمنكر سست سست {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} أي : تزوج امرأة ترغبون فيها {مَّكَانَ زَوْجٍ} ترغبون عنها بأن تطلقوها {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ} أي : إحدى الزوجات فالمراد بالزوج هو الجنس {قِنْطَارًا} أي : مالاً كثيراً {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ} أي ذلك القنطار {شَيْـاًا} يسيراً فضلاً عن الكثير {أَتَأْخُذُونَهُ} أي : شيئاً منه {بُهْتَـانًا} باهتين أو مفعول له أي للبهتان والظلم العظيم فإن أحدهم كان إذا تزوج امرأة فأعجبه غيرها وأراد أن يتزوجها بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزويج الجديدة فنهوا عن ذلك.
والبهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة وأصله من بهت الرجل إذا تحير فالبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويدهشه وقد يستعمل في الفعل الباطن ولذلك فسر ههنا بالظلم {وَإِثْمًا مُّبِينًا} أي : آثمين عياناً أو للذنب الظاهر.
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} أي : لأي وجه ومعنى تفعلون هذا {وَقَدْ} والحال أنه قد {أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قد جرى بينكم وبينهن أحوال منافية له من الخلوة وتقرر المهر وثبوت حق خدمتهن لكم وغير ذلك {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} عطف على ما قبله داخل في حكمه أي أخذن منكم عهداً وثيقاً وهو حق الصحبة والممازجة والمعاشرة أو ما أوثق الله عليكم في شأنهن بقوله تعالى {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ} (البقرة : 229) أو ما أشار إليه النبي عليه السلام بقوله : "أخذتموهن بأمانة
183
الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
اعلم أن هذه المعاملات من تضييق النساء ومنعهن من الأزواج وأخذ ما في أيديهن ظلماً بعدما أخذن ميثاقاً غليظاً في رعاية حقوقهن كلها وأمثالها ليست من أمارة الإيمان ونتائجه وثمراته لأن المؤمن أخ المؤمن لا يظلمه ولا يشتمه قال عليه السلام : "المؤمن للمؤمن كالبينان يشد بعضه بعضاً" وقال : "الدين النصيحة" وقد صرح بنفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه قال صلى الله عليه وسلّم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير".
جزء : 2 رقم الصفحة : 181
هر آنكه تخم بدي كشت وشم نيكي داشت
دماغ بيهده خت وخيال باطل بست
زكوش نبه برون آر وداد خلق بده
اكر تومى ندهى داد روز دادي هست
فعلى المرء أن ينصف في جميع أحواله للأجانب خصوصاً الأقارب والأزواج فإن تحرى العدل لهم من الواجبات.
(2/146)
واعلم أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة في المهر لأن قوله تعالى : {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا} لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء : 22) لا يدل على حصول الآلهة.
والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كذا قال الإمام في تفسيره ويؤيد ما قيل في "مرشد المتأهلين" أن المرأة التي يراد نكاحها يراعى فيها خفة المهور قال صلى الله عليه وسلّم "خير نسائكم أحسنهن وجوهاً وأخفهن مهوراً" وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم نساءه على عشرة دراهم وأثاث البيت وكان رحى وجرة ووسادة من أديم حشوها ليف وفي الخبر "من بركة المرأة سرعة تزوجها وسرعة رحمها إلى الولادة ويسر مهرها" ولا بد للرجل أن يوفيها صداقها كملاً أو ينوي ذلك فمن نوي أن يذهب بصداقها جاء يوم القيامة زانياً كما أن من استدان ديناً وهو ينوي أن لا يقضيه يصير سارقاً ولا يماطل مهرها إلا أن يكون فقيراً أو تؤجله المرأة طوعاً ويعلمها أحكام الطهارة والحيض والصلاة وغير ذلك بقدر ما تؤدي بها لواجب ويلقنها اعتقاد أهل السنة ويردها عن اعتقاد أهل البدعة وإن لم يعلم فليسأل ولينقل إليها جواب المفتي وإن لم يسأل فلا بد لها من الخروج للسؤال ومتى علمها الفرائض فليس لها الخروج إلى تعلم أو مجلس ذكر إلا برضاه فمهما أهمل المرء حكماً من أحكام الدين ولم يؤدبها ولم يعلمها أو منعها عن التعلم شاركها في الإثم وفي الحديث "أشد الناس عذاباً يوم القيامة من أجهل أهله" قال عليه السلام : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
جزء : 2 رقم الصفحة : 181
{وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ} ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة.
وقوله من النساء بيان لما نكح واسم الآباء ينتظم الأجداد مجازاً كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء مما نكح مفيد للمبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال أي لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من ماتت منهن والمقصود سد طريق الإباحة بالكلية ونظيره قوله تعالى : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} (الأعراف : 40) {إِنَّهُ} أي نكاحهن {كَانَ فَـاحِشَةً} أي فعلة قبيحة ومعصية شديدة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم {وَمَقْتًا} ممقوتاً
184
عند ذوي المروآت والمقت أشد البغض {وَسَآءَ سَبِيلا} نصب على التمييز أي بئس السبيل سبيل من يراه ويفعله فإنه يؤدي صاحبه إلى النار.
قيل : مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي وإليه أشير بقوله : {إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً} ، والقبح الشرعي وإليه أشير بقوله : {مَقْتًا} ، والقبح العادي وإليه الإشارة بقوله : {وَسَآءَ سَبِيلا} ومتى اجتمعت فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح.
والإشارة في الآية أن الآباء هي العلويات والأمهات هي السفليات وبازدواجهما خلق الله تعالى المتولدات منهما فيما بينهما ففي قوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ} إشارة إلى نهي التعلق والتصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرفة فيها آباؤكم العلوية {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح والأشباح فالحاجات الضرورية للإنسان مسيسة به {إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلا} يعني التصرف في السفليات والتعلق بها والركون إليها مما يلوث الجوهر الروحاني بلوث الصفات الحيوانية ويجعله سفلي الطبع بعيداً عن الحضرة محباً للدنيا ناسياً للرب ممقوتاً للحق وساء سبيلاً إلى الهداية بالضلالة ، قال حافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
غلام همت آنم كه زير ر كبود
زهره رنك تعلق ذيرد آزاداست
قال مولانا الجامي :
أي كه درشرع خداوتدان حال
ميكني ازسنت وفرضم سؤال
سنت آمد دل زدنيا تافتن
فرض راه قرب مولا يافتن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن أقرب الناس مجلساً إلى الله يوم القيامة من طال حزنه وجوعه في الدنيا افترش الناس الفراش وافترش الأرض فالراغب من رغب في مثل ما رغبوا والخاسر من خالفهم أكلوا الشعير ولبسوا الخرق وخرجوا من الدنيا سالمين" ، قال مولانا جلال الدين :
هركه محجوبست أوخود كودكيست
مرد آن باشدكه بيرون از شكيستأي خنك آنكه جهادي ميكند
بر بدن زجرى ودادي ميكند
أي بساكاراكه أول صعب كشت
بعد ازان بكشاده شد سختي كذشتاندرين ره مي تراش و مي خراش
تا دمي آخر دمي فارغ مباش قال أبو علي الدقاق : ـ رحمه الله ـ : من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سريرته بالمشاهدة قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69).
(2/147)
واعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة.
قال أبو الحسن الوراق : كان أجل أحكامنا في مبادي أمرنا في مسجد أبي عثمان الإيثار حتى يفتح علينا وأن لا نبيت على معلوم ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا بل نعتذر إليه ونتواضع له وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا في خدمته والإحسان إليه حتى يزول.
قال أبو حفص : ما أسرع هلاك من لا يعرف عيبه فإن المعاصي بريد الكفر :
عيب رندان مكن اي زاهد اكيزه سرشت
كه كناه دكران برتو نخواهند نوشت
185
من اكرنيكم وكربدتو بروخود را باش
هركسى آن درود عاقبت كاركه كشت
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} أي نكاحهن لأن المفهوم في العرف من حرمة كل شيء ما هو الغرض المقصود منه فيفهم من تحريم النساء تحريم نكاحهن كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله.
والأمهات تعم الجدات وإن غلون من الأب والأم أو من قبل إحداهما {وَبَنَـاتُكُمْ} الصلبية وبنات الأولاد وإن سفلن {وَأَخَوَاتُكُمْ} من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما فيتضمن الأخوات من الجهات الثلاث.
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
واعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الإلهية بل إن زرادشت رسول المجوس قال بحله إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذاباً أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحاً في زمن آدم عليه السلام وإنما حكم الله بإباحة ذلك على سبيل الضرورة.
وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم أن الوطء إذلال وإهانة فإن الإنسان يستحيي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه إن أنعام الأم على الولد أعظم وجوه الأنعام فوجب صونها عن هذا الإذلال والبنت جزء من الإنسان وبعض منه فيجب صونها عن هذا الإذلال لأن المباشرة معها تجري مجرى الإذلال وكذا القول في البقية ذكره الإمام في "تفسيره" {وَعَمَّـاتُكُمْ} العمة كل أنثى ولدها من ولد والدك قريباً أو بعيداً {وَخَـالَـاتُكُمْ} الخالة كل أنثى ولدها من ولد والدتك قريباً أو بعيداً يعني العمات تعم أخوات الآباء والأجداد وكذا الخالات تعم أخوات الأمهات والجدات سواءكن من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما {وَبَنَاتُ الاخِ وَبَنَاتُ الاخْتِ} من كل جهة ونوافلهما وإن بعدت.
واعلم أن الله تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفاً من النسوان سبع منهن من جهة النسب وهن هذه المذكورات وسبع أخرى من جهة السبب وإلى تعدادها شرع فقال : {وَأُمَّهَـاتُكُمُ الَّـاتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} أي حرم نكاح الأمهات والأخوات كلتاهما من الرضاعة كما حرمتا من النسب نزل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة اختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الإرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهو حكم كلي جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب ليست حرمتهن من جهة النسب حتى تحل بعمومه ضرورة حلهن في صور الرضاع بل من جهة المصاهرة ألا يرى من الأولى موطوءة أبيه والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته والرابعة موطوءة جده الصحيح والخامسة موطوءة جده الفاسد {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ} المراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولاً بهن أم لا وعليه
186
(2/148)
جمهور العلماء وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها : "إنه لا بأس بأن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها" ويلحق بهن الموطوءات بوجه من الوجوه المعدودات فيما سبق آنفاً والممسوسات ونظائرهن وأمهات تعم المرضعات كما تعم الجدات {وَرَبَائبُكُمُ الَّـاتِى فِى حُجُورِكُم} أي حرم نكاح الربائب جمع ربيبة والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر فعيل بمعنى مفعول والتاء للنقل إلى الإسمية.
قال الإمام والحجور جمع حجر وفيه لغتان قال ابن السكيت حجر الإنسان وحجره بالفتح والكسر هو ما يجمع على فخذيه من ثوبه والمراد بقوله في حجوركم أي في تربيتكم يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلاً أجلسه في حجره فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال فلان في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الإبط ثم إن كون التربية في حجر الرابّ ليس بشرط للحرمة عند جمهور العلماء والوصف في الآية خرج على الأغلب لأنهن كن لا يتزوجن غالباً إذا كانت لهن أولاد كبار ويتزوجن مع الأولاد الصغار ليستعن بالأزواج على تربية الأولاد فخرج الكلام مخرج الغالب لا على الاشتراط كما في قوله تعالى : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ} (البقرة : 187) والمباشرة في غير المساجد حالة الاعتكاف حرام أيضاً {مِّن نِّسَآاـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي كائنة تلك الربائب من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فمن متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ربائبكم ومعنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهي كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب وفي حكم الدخول اللمس ونظائره {فَإِن لَّمْ تَكُونُوا} أي : فيما قبل {دَخَلْتُم بِهِنَّ} أصلاً {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في نكاح الربائب فارقتموهن أي أمهاتهن أو متنّ وهو تصريح بما أشعر به ما قبله {وَحَلَائلُ أَبْنَآاـاِكُمُ} أي : وحرم عليكم زوجات أبنائكم سميت الزوجة حليلة لحلها للزوج أو لحلولها في محله وقيل لحل كل منهما إزار صاحبه وفي حكمهن مزنياتهم ومن يجري مجراهن من الممسوسات ونظائرهن {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ} لإخراج الأدعياء دون أبناء الأولاد والأبناء من الرضاع فإنهم وإن سفلوا في حكم الأبناء الصلبية فالمتبنى إذا فارق امرأته يجوز للمتبني نكاحها وقد تزوج النبي عليه السلام زينب ابنة جحش الأسدية بنت عمته أميمة ابنة عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة وكان قد تبناه وادعاه ابنا فعيره المشركون بذلك لأن المتبنى في ذلك الوقت كان بمنزلة الابن فأنزل الله تعالى {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ} وقوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} (الأحزاب : 4) {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ} (النساء : 23) أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح لا في ملك اليمين وأما جمعهما في الوطء بملك اليمين فيلحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع أي لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} لمن فعل ذلك في الجاهلية {رَّحِيمًا} لمن تاب من ذنوبه وأطاع لأمر ربه في الإسلام.
187
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
{وَالْمُحْصَنَـاتُ} هن ذوات الأزواج أحصنهن التزوج أو الأزواج أو الأولياء أي : عفهن عن الوقوع في الحرام.
وقد ورد الإحصان في القرآن بإزاء أربعة معان : الأول التزوج كما في هذه الآية ، والثاني : العفة كما في قوله {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـافِحِينَ} (النساء : 24) ، والثالث : الحرية كما في قوله : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ} (النساء : 25) ، والرابع : الإسلام كما في قوله : {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره أي : أسلمن وهي معطوفة على المحرمات السابقة أي وحرم عليكم ذوات الأزواج كائنات {مِّنَ النِّسَآءِ} وفائدته تأكيد عمومها لا دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس كما توهم {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} يريد ما ملكت إيمانكم من اللاتي سبين ولهن الأزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين إن كن محصنات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 188(2/149)
قال نجم الدين الكبرى ـ قدس سره ـ : إن الله تعالى حرم المحصنات من النساء على الرجال عفة للحضانة وصحة للنسب ونزاهة لعرض الرجال عن خسة الاشتراك في الفراش علواً للهمة فإن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها وقال : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} يعني : ملكتم بالقوة والغلبة على أزواجهن من الكفار واقتطاعهن من حيز الاشتراك وإفساد نسب الأولاد وتخليطه ولهذا أوجب الشرع فيها الاستبراء بحيضة {كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} مصدر مؤكد أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه فرضاً {وَأُحِلَّ لَكُم} عطف على حرمت عليكم وتوسيط قوله {كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة {مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة أي : أحل لكم نكاح ما سواهن انفراداً وجمعاً وخص منه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها {أَن تَبْتَغُوا} متعلق بالفعلين المذكورين أي : حرمت وأحل على أنه فعول له لكن لا باعتبار بيانهما وإظهارهما أي : بين لكم تحريم المحرمات المعدودة وإحلال ما سواهن إرادة أن تبتغوا النساء أي تطلبوهن {بِأَمْوَالِكُم} بصرفها إلى مهورهن أو أثمانهن {مُّحْصِنِينَ} حال من فاعل تبتغون والإحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب {غَيْرَ مُسَـافِحِينَ} حال ثانية منه والسفاح الزنى والفجور من السفح الذي هو صب المنى سمي به لأنه الغرض منه ومفعول الفعلين محذوف أي : محصنين فروجكم غير مسافحين الزواني وهي في الحقيقة حال مؤكدة لأن المحصن غير مسافح البتة والمعنى لا تضيعوا أموالكم في الزنى لئلا يذهب دينكم ودنياكم ولكن تزوجوا بالنساء فهو خير لكم وذكر الأموال يدل على أن غير المال لا يصلح مهراً وأن القليل لا يكفي مهراً فإن الدرهم ونحوه لا يسمي مالاً ثم هو عندنا لا يكون أقل من عشرة دراهم قال صلى الله عليه وسلّم "لا مهر أقل من عشرة" {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ}
188
أي : فالذي انتفعتم به من النساء بالنكاح الصحيح من جماع أو خلوة صحيحة أو غير ذلك {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ} مهورهن فإن المهر في مقابلة الاستمتاع {فَرِيضَةً} حال من الأجور بمعنى مفروضة {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ} أي : في أن تراضيتم بعد النكاح على زيادة المهر من جانب الزوج أو على الحط من المهر من جانب الزوجة وأن تهب لزوجها جميع مهرها {مِنا بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي بعد المفروضة للزوجة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بمصالح العباد {حَكِيمًا} فيما شرع لهم من الأحكام ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 188
(2/150)
اعلم أن المحرم عندنا من حرم نكاحه على التأبيد بنسب أو مصاهرة أو رضاع ولو بوطء بطء حرام فخرج بالأول ولد العمومة والخؤولة وبالثاني أخت الزوجة وعمتها وخالتها وشمل أم المزني بها وبنتها وأبا الزاني وابنه وأحكامه تحريم النكاح وجواز النظر والخلوة والمسافرة إلا المحرم من الرضاع فإن الخلوة بها مكروهة وكذا بالصهرة الشابة وحرمة النكاح على التأبيد لا مشاركة للمحرم فيها فإن الملاعنة تحل إذا كذب نفسه أو خرج من أهلية الشهادة والمجوسية تحل بالإسلام أو بتهودها أو تنصرها والمطلقة ثلاثاً بدخول الثاني وانقضاء عدته ومنكوحة الغير بطلاقها وانقضاء عدتها ومعتدة الغير بانقضائها وكذا لا مشاركة للمحرم في جواز النظر والخلوة والسفر وإما عبدها فكالأجنبي على المعتمد لكن الزوج يشارك المحرم في هذه الثلاثة والنساء الثقات لا يقمن مقام المحرم والزوج في السفر.
ويختص المحرم النسيب بأحكام : منها عتقه على قريبه لو ملكه ولا يختص بالأصل والفرع ، ومنها وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغني فلا بد من كونه رحماً من جهة القرابة فابن العم والأخ من الرضاع لا يعتق ولا تجب نفقته ويغسل المحرم قريبه ، ومنها أنه لا يجوز التفريق بين الصغير ومحرم ببيع أو هبة إلا في عشر مسائل ، ومنها أن المحرمية مانعة من الرجوع في الهبة.
وتختص الأصول والفروع من بين سائر المحارم بأحكام ، منها أنه لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر ، ومنها لا يقضي ولا يشهد أحدهما للآخر ، ومنها تحريم موطوءة كل منهما على الآخر ولو بزنى ، ومنها تحريم منكوحة كل منهما على الآخر بمجرد العقد ، ومنها لا يدخلون في الوصية للأقارب.
وتختص الأصول بأحكام ، منها لا يجوز له قتل أصله الحربي إلا دفعاً عن نفسه وإن خاف رجوعه ضيق عليه وألجأه ليقتله غيره وله قتل فرعه الحربي كمحرمه ، ومنها لا يقتل الأصل بفرعه ويقتل الفرع بأصله ، ومنها لا يحد الأصل بقذف فرعه ويحد الفرع بقذف أصله ، ومنها لا تجوز مسافرة الفرع إلا بإذن أصله دون عكسه ، ومنها لو ادعى الأصل ولد جارية ابنه ثبت نسبه والجد أب الأب كالأب عند عدمه بخلاف الفرع إذا ادعى ولد جارية أصله لم يصح إلا بتصديق الأصل ، ومنها لا يجوز الجهاد إلا بإذنهم بخلاف الأصول لا يتوقف جهادهم على إذن الفروع ، ومنها لا تجوز المسافرة إلا بإذنهم إن كان الطريق مخوفاً وإلا فإن لم يكن ملتحياً فكذلك وإلا فلا ، ومنها إذا دعا أحد أبويه في الصلاة وجبت إجابته إلا أن يكون عالماً بكونه فيها ولم أر حكم الأجداد والجدات وينبغي الإلحاق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 188
ـ ومنها كراهة حجه بدون إذن من كرهه من أبويه إن احتاج إلى خدمته ، ومنها جواز تأديب الأصل فرعه والظاهر عدم الاختصاص بالأب فالأم والأجداد والجدات
189
كذلك ، ومنها تبعية الفرع للأصل في الإسلام ، ومنها لا يحبسون بدين الفرع والأجداد والجدات كذلك واختصت الأصول الذكور بوجوب الإعفاف.
واختص الأب والجد لأب أحكام ، منها ولاية المال فلا ولاية للأم في مال الصغير إلا الحفظ وشراء ما لا بد منه للصغير ، ومنها تولى طرفي العقد فلو باع الأب ماله من ابنه أو اشترى وليس فيه غبن فاحش انعقد بكلام واحد ، ومنها عدم خيار البلوغ في تزويج الأب والجد فقط وأما ولاية الإنكاح فلا تختص بهما فتثبت لكل والي سواء كان عصبة أو من ذوي الأرحام ، وكذا الصلاة على الجنازة لا تختص بهما ، وفي "الملتقط" من النكاح لو ضرب المعلم الولد بإذن الأب فهلك لم يغرم إلا أن يضربه ضرباً لا يضرب مثله ولو ضرب بإذن الأم غرم الدية إذا هلك والجد كالأب عند فقده إلا في ثنتي عشرة مسألة.
فائدة : يترتب على النسب اثنا عشر حكماً توريث المال والولاية وعدم صحة الوصية عند المزاحمة ويلحق بها الإقرار بالدين في مرض موته وتحمل الدية وولاية التزويج وولاية غسل الميت والصلاة عليه وولاية المال وولاية الحضانة وطلب الحد وسقوط القصاص هذا كله من "الأشباه والنظائر" نقلته ههنا لفوائده الكثيرة وملاءمته المحل على ما لا يخفى.
(2/151)
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ} من لم يستطع أي من لم يجد كما يقول الرجل لا أستطيع أن أحج أي لا أجد ما أحج به.
ومنكم حال من فاعل يستطيع أي حال كونه منكم.
والطول القدرة وانتصابه على أنه مفعول يستطيع وأن ينكح في موضع النصب على أنه مفعول القدرة والمراد بالمحصنات الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات فإن حريتن أحصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان والمعنى ومن لم يجد طول حرة أي ما يتزوج به الحرة المسلمة {فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم} فلينكح امرأة أو أمة من النوع الذي ملكته إيمانكم {مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ} حال من الضمير المقدر في ملكت الراجع إلى ما أي من إمائكم المسلمات.
والفتاة أصلها الشابة والفتاء بالمد الشباب والفتى الشاب والأمة تسمى فتاة والعبد يسمى فتى وإن كانا كبيرين في السن لأنهما لا يوقران للرق توقير الكبار ويعاملان معاملة الصغار {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِكُمْ} تأنيس بنكاح الإماء وإزالة الاستنكاف منه أي أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان فربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة وإيمان المرأة من إيمان الرجل.
فلا ينبغي للمؤمن أن يطلب الفضل والرجحان إلا باعتبار الإيمان والإسلام لا بالأحساب والأنساب {بَعْضُكُم مِّنا بَعْضٍ} أنتم وأرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإسلام كما قيل :
جزء : 2 رقم الصفحة : 188
الناس من جهة التمثال أكفاء
أبو همو آدم والأم حواء
فبينكم وبين ارقائكم المواخاة الايمانية والجنسية الدينية لا يفضل حر عبدا الابرجحان في الايمان وقدم الدين {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} اي واذ قد وقفتم على جلية الامر فانكحوهن باذن مواليهن ولاتترفعوا عنهن وفي اشتراط إذن الموالى دون مباشرتهم للعقد اشعار بجواز مباشرتهن له {وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي أدوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإلجاء إلى الافتداء واللز أي المضايقة والإلحاح {مُحْصَنَـاتٍ} حال من مفعول فانكحوهن أي حال كونهن عفائف عن الزنى {غَيْرَ مُسَـافِحَـاتٍ} حال مؤكدة أي غير مجاهرات به
190
والمسافح الزاني من السفح وهو صب المنى لأن غرضه مجرد صب الماء {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} جمع خدن وهو الصديق سراً والجمع للمقابلة بالانقسام على معنى أن لا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى أن لا يكون لها أخدان أي غير مجاهرات بالزنى ولا مسرات له وكان زناهن في الجاهلية من وجهين السفاح وهو بالأجر من الراغبين فيها والمخادنة وهي مع صديق لها على الخصوص وكان الأول يقع إعلاناً والثاني سراً وكانوا لا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية ولذا أفرد الله كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على حرمتهما معاً {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} أي بالزويج {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـاحِشَةٍ} أي فعلن فاحشة وهي الزنى {فَعَلَيْهِنَّ} فثابت عليهن شرعاً {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ} أي الحرائر الابكار {مِنَ الْعَذَابِ} من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون كما هو كذلك قبل الاحصان فالمراد بيان عدم تفاوت حدهن بالاحصان كتفاوت حد الحرائر ولا رجم عليهن لان الرجم لا يتنصف وجعلوا حد العبد مقيسا على الامة والجامع بينهما الرق والاحصان عبارة عن بلوغ مع عقل وحرية ودخول في نكاح صحيح وإسلام خلافاً للشافعي في الإسلام {ذَالِكَ} أي نكاح المملوكات عند عدم الطول لمن {خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} أي خاف الزنى وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر أعظم من موافقة الاسم بأفحش القبائح وإنما سمي الزنى به لأنه سبب المشقة بالحد في الدنيا والعقوبة في العقبى
جزء : 2 رقم الصفحة : 188
(2/152)
{وَأَن تَصْبِرُوا} أي عن نكاحهن متعففين كافين أنفسكم عما تشتهيه من المعاصي {خَيْرٌ لَّكُمْ} من نكاحهن وإن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرق ولأن حق المولى فيها فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ولأن المولى يقدر على استخدامها كيف ما يريد في السفر والحضر وعلى بيعها للحاضر والبادي.
وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح والعزة هي اللائقة بالمؤمنين ولأن مهرها لمولاها فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج فلا ينتظم أمر المنزل وقد قال صلى الله عليه وسلّم "الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت" {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن لم يصبر {رَّحِيمٌ} بالرخصة والتوسعة فنكاح الأمة عند الطول والقدرة على نكاح الحرة لا يحل عند الشافعي وعند الحنفية يحل ما لم يكن عنده امرأة حرة ومحصله أن الشافعي أخذ بظاهر الآية وقال : لا يجوز نكاح الأمة إلا بثلاثة شرائط اثنان في الناكح عدم طول الحرة وخشية العنت والثالث في المنكوحة وهي أن تكون أمة مؤمنة لا كافرة كتابية وعند أبي حنيفة شيء من ذلك ليس بشرط فهو حمل عدم استطاعة الطول على عدم ملك فراش الحرة بان لا يكون تحته حرة فحينئذ يجوز نكاح الامة وحمل النكاح على الوطء وحمل قوله : {مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ} على الأفضل أي نكاح الأمة المؤمنة أفضل من نكاح الكتابية فجعله على الندب واستدل عليه بوصف الحرائر مع كونه ليس بشرط.
قال في التيسر وأما قوله : {مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ} ففيه إباحة المؤمنات وليس فيه تحريم الكتابيات فالغنى والفقر سواؤ في جواز نكاح الأمة سواء كانت مؤمنة أو يهودية أو نصرانية.
اعلم أن النكاح من سنن المرسلين وشرعة المخلصين إلا أن الحال يختلف فيه
191
باختلاف أحوال الناس فهو واجب بالنسبة إلى صاحب التوقان ومستحب بالنسبة إلى من كان في حد الاعتدال ومكروه بالنسبة إلى من عجز عن الوقاع والإنفاق.
قال في "الشرعة" وشرحها : ويختار للتزوج المرأة ذات الدين فإن المرأة الصالحة خير متاع الدنيا فإن بها يحصل تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكلف بشغل الطبخ والكنس والفرش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعسر عليه العيش في منزله وحده إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاعت أكثر أوقاته ولم يتفرغ للعلم والعمل فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل معينة على الدين بهذا الطريق واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش ولذلك قال أبو سليمان الدراني : الزوجة الصالحة ليست من الدنيا فإنها تفرّغك للآخرة ، قال الشيخ السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 188
زن خوب فرمان برارسا
كند مرد درويش را ادشا
سفر عيد باشد بران كتخداي
كه يارى زشتش بود درسراي
ثم أن بعضهم اختاروا البكر وقالوا : أنها تكون لك فأما الثيب فإن لم يكن لها ولد فنصفها لك وإن كان لها ولد فكلها لغيرك تاكل رزقك وتحب غيرك والحاصل أن اختيار نكاح المملوكات رخصة والصبر عنه عزيمة ولا ريب أن العزيمة أولى لأنه بالصبر يترقى العبد إلى الدرجات العلي وفي الخبر "يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله تعالى جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له : أترضى أن نجزيك جزاء الشاكرين فيقول : نعم يا رب فيقول الله كلا أنعمت عليك فشكرت وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر عليه فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين" وقد يجمع العبد فضيلتي الصبر والشكر بأن يصبر على مقتضى النفس زماناً ثم بعد النيل والفوز ، يشكر على نعمه الجزيلة حققنا الله وإياكم بحقائق الصبر والشكر :
نعمت حق شكار وشكر كذار
نعمتش را اكره نيست ليتك
شكر باشد كليد كنج نريد
كنج خواهي منه زدست كليد
وقيل في حق الصبر :
جون بماني بسته دربند حرج
صبر كن كه الصبر مفتاح الفرج
صبركن حافظ بسختى روزشب
عاقبت روزي بيابي كام را
ثم إن رحمته لعباده أوسع من أن تذكر ولذلك قال : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومن جملة رحمته بيان طرائق من سلف وتقدم من أهل الرشاد ليسلكوا مناهجهم وينالوا إلى المراد وقال عليه السلام : "يا كريم العفو" فقال جبريل أتدري ما معنى كريم العفو؟ هو أن يعفو عن السيآت برحمته ثم يبدلها بحسنات بكرمه ، قال جلال الدين الرومي قدس سره :
توبه آرند وخدا توبه بذير
أمر أو كيرند أو نعم الأميرسسيآتت را مبدل كرد حق
تاهمه طاعت شود آن ما سبقس
جزء : 2 رقم الصفحة : 188
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} اللام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة ومفعول يبين محذوف أي يريد الله أن يبين لكم ما هواه خفي عنكم من مصالحكم وافاضل أعمالكم أو ما
192
(2/153)
تعبدكم به من الحلال والحرام {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي يدلكم على مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يرجع بكم عن معصيته إلى طاعته بالتوفيق للتوبة ما كنتم عليه من الخلاف وليس الخطاب لجميع المكلفين حتى يتخلف مراده عن ارادته فيمن لم يتب منهم بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بكم {حَكِيمٌ} فيما يريده لكم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} بيان لكمال منفعة ما اراده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفجرة بخلاف الأول فإنه بيان ارادته تعالى لتوبته عليهم فلا تكرار {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها وأما المتعاطي لما سوغه الشرع من المشتهيات دون غيره فهو متبع له لا لها.
وقيل المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت فلما حرمهن الله تعالى قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمة والخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت {أَن تَمِيلُوا} عن القصد والحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات وتكونوا زناة مثلهم {مَيْلا عَظِيمًا} أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة بلا استحلال {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} ما في عهدتكم من مشاق التكاليف فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص {وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا} عاجزاً عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبر عن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات.
قال الكلبي : أي لا يصبر عن النساء.
قال سعيد بن المسيب ما أيس الشيطان من ابن آدم إلا أتاه من قبل النساء وقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف على نفسي فتنة النساء.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : اللهم إني أعوذ بك من أن أزني وأسرق فقيل له كبر سنك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتخاف على نفسك من الزنى والسرقة؟ قال : كيف آمن على نفسي وإبليس حي؟ قال الحافظ :
جزء : 2 رقم الصفحة : 192
ه جاي من كه بلغزد سهر شعبده باز
ازين حيل كه در انبانه بهانه تست
والإشارة في تحقيق الآيات أن الله تعالى أنعم على هذه الأمة بإرادة أربعة أشياء : أولها التبيين وهو أن يبين لهم صراط المستقيم إلى الله ، وثانياً الهداية وهو أن يهديهم إلى الصراط المستقيم بالعيان بعد البيان ، وثالثها التوبة عليهم وهي أن يرجع بهم إلى حضرته على صراط الله ، ورابعها التخفيف عنهم وهو أن يوصلهم إلى حضرته بالمعونة ويخف عنهم المؤونة.
وهذا مما اختص به نبينا عليه السلام وأمته لوجهين : أحدهما أن الله أخبر عن ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى حضرته باجتهاده وهو المؤونة بقوله : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) وأخبر عن موسى عليه السلام بمجيئه وهو أيضاً المؤونة وقال : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا} وأخبر عن حال نبينا عليه السلام بقوله : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} وهو المعونة فخفف عنه المؤونة وأخبر عن حال هذه الأمة بقوله : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) وهو أيضاً بالمعونة وهي جذبات العناية ، والوجه الثاني أن النبي
193
صلى الله عليه وسلّم وأمته مخصوصون بالوصول والوصال مخفف عنهم كلفة الفراق والانقطاع فأما النبي عليه السلام فقد خص بالوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى وبالوصال بقوله : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم : 11) وانقطع سائر الأنبياء عليهم السلام في السموات السبع كما رأى ليلة المعراج آدم في سماء الدنيا إلى أن رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة فعبر عنهم جميعاً إلى كمال القرب والوصول.
وأما الأمة فقال في حقهم "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" فهذا هو حقيقة الوصول والوصال ولكن الفرق بين النبي والولي في ذلك أن النبي مستقل بنفسه في السير إلى الله والوصول ويكون حظه من كل مقام بحسب استعداده الكامل والولي لا يمكنه السير إلا في متابعة النبي وتسليكه في سبيل الله {قُلْ هَـاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} (يوسف : 108) ويكون حظه من المقامات بحسب استعداده فينبغي أن يسارع العبد إلى تكميل المراتب والدرجات برعاية السنة وحسن المتابعة لسيد الكائنات.
قال جنيد البغدادي قدس سره مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.
قال علي كرم الله وجهه : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم
جزء : 2 رقم الصفحة : 192
كرت بايدكه بيني روي إيمان
(2/154)
رخ از آيينه امرش مكردان
زشرعش سر مي رويى
كه همون شانه ميكردى بمويى
قال الشيخ السعدي قدس سره :
خلاف يمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
محالت سعدى كه راه صفا
توان رفت جزبربي مصطفا
ثم في قوله تعالى : {وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا} إشارة إلى أن الإنسان لا يصبر عن الله لحظة لضعفه مهما يكون على الفطرة الإنسانية فطرة الله التي فطر الناس عليها فإنه يحبهم ويحبونه وهو ممدوح بهذا الضعف فإن من عداه يصبرون عن الله لعدم اضطرارهم في المحبة والإنسان مخصوص بالمحبة.
واعلم أن هذا الضعف سبب لكمال الإنسان وسعادته وسبب لنقصانه وشقاوته لأنه يتغير لضعفه من حال إلى حال ومن صفة إلى أخرى فيكون ساعة بصفة بهيمة يأكل ويشرب ويجامع ويكون ساعة أخرى بصفة ملك يسبح بحمد ربه ويقدس له ويفعل ما يؤمر ولا يعصى فيما نهاه عنه وهذه التغيرات من نتائج ضعفه وليس هذا الاستعداد لغيره حتى الملك لا يقدر أن يتصف بصفات البهيمة والبهيمة لا تقدر أن تتصف بصفة الملك لعدم ضعف الإنسانية وإنما خص الإنسان بهذا الضعف لاستكماله بالتخلق بأخلاق الله واتصافه بصفات الله كما جاء في الحديث الرباني "أنا ملك حي لا أموت أبداً عبدي أطعني أجعلك ملكاً حياً لا يموت أبداً" فعند هذا الكمال يكون خير البرية وعند اتصافه بالصفات البهيمية يصير شر البرية :
كي شوي انسان كام
أي دل ناقص عقل
جزء : 2 رقم الصفحة : 192
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا} أي : لا تأخذوا وعبر عن الأخذ بالأكل لأن المقصود الأعظم من الأموال الأكل فكما أن الأكل محرم فكذلك سائر وجود التصرفات {أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} أي : بوجه
194
غير شرعي كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا والرشوة واليمين الكاذبة وشهادة الزور والعقود الفاسدة ونحوها.
{إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} استثناء منقطع وعن متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة أي إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة وتلحق بها أسباب الملك المشروعة كالهبة والصدقة والإرث والعقود الجائزة لخروجها عن الباطل وإنما خص التجارة بالذكر لكونها أغلب أسباب المكاسب وقوعاً وأوفقها لذوي المروءات والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد.
{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} بالبخع كما يفعله جهلة الهند أو بإلقاء النفس إلى الهلكة.
ويؤيده ما روي أن عمراً بن العاص رضي الله عنه تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلّم أو بارتكاب المعاصي المؤدية إلى هلاكها في الدنيا والآخرة أو باقتراف ما يذللها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس وقيل المراد بالنفس من كان من جنسهم من المؤمنين فإن كلهم كنفس واحدة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي أمر بما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم معناه إن كان بكم يا أمة محمدة رحيماً حيث أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
أي القتل أو إياه وسائر المحرمات المذكورة فيما قبل {عُدْوَانًا وَظُلْمًا} إفراطاً في التجاوز عن الحد وإتياناً بما لا يستحقه وقيل : أريد بالعدوان التعدي على الغير وبالظلم الظلم على النفس لتعريضها للعقاب ومحلهما النصب على الحالية أي متعدياً وظالماً {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} أي ندخله {نَارًا} أي ناراً مخصوصة هائلة شديدة العذاب {وَكَانَ ذَالِكَ} أي إصلاء النار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لتحقق الداعي وعدم الصارف.
قال الإمام : واعلم أن الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية وحينئذٍ يمتنع أن يقال أن بعض الأفعال أيسر عليه من بعض بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف بيننا أو يكون معناه المبالغة في التهديد وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه.
فعلى العاقل أن يتجنب عن الوقوع في المهالك ويبالغ في حفظ الحقوق وقد جمع الله في التوصية بين حفظ النفس وحفظ المال لأنه شقيقها من حيث أنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها ولذلك قيل :
توانكرانرا وقفست وبذل ومهاني
زكاة وفطرة وأعتاق وهدى وقرباني
توكي بدولت ايشان رسى كه نتواني
جزاين دور كعت وآن هم بصدير يشاني
فإن وفقت للمال فاشكر له وإلا فلا تتعب نفسك ولا تقتلها كما يفعله بعض من يفتقر بعد الغنى لغاية ألمه واضطرا به من الفقر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة" وقال صلى الله عليه وسلّم "كان فيمن قبلكم جرح برجل ارابه فجزع منه فأخرج سكيناً فجزيها يده فما رأقرأ الدم حتى مات فقال الله تعالى بارزني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة" كذا في "تفسير البغوي" وكذلك حكم من قتل نفسه لفقر أو لغير ذلك من الأسباب.
(2/155)
واعلم أن أكل المال بالباطل مما يفسد دين الرجل ودنياه بل يضر بنفسه ويكون سبباً لهلاكه فإن بعض الأعمال يظهر أثره في الدنيا.
ـ روي ـ أن رجلاً ظالماً غصب سمكة من فقير فطبخها
195
فلما أراد أكلها عضت يده فأشار إليه الطبيب بالقطع فلم يزل يقطع من كل مفصل حتى وصل إلى الإبط فجاء إلى ظل شجرة فأخذت عيناه فقيل له : لا تتخلص من هذا إلا بإرضاء صاحبها المظلوم فلما أرضاه سكن وجعه ثم أنه تاب وأقلع عما فعل فرد الله إليه يده فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام (وعزتي لولا أنه أرضى المظلوم لعذبته طول حياته).
قال العلماء حرمة مال المسلم كحرمة دمه قال عليه السلام : "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله" وقال عليه السلام : "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة نفس منه" فالظلم حرام شرعاً وعقلاً ، قال الجامي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
هزار كونه خصومت كنى بخلق جهان
زبس كه در هوس سيم وآرزوي زرى
تراست دوست زروسيم خصم صاحب آن
كه كيرى از كفش آثرا بظلم وحيله كرى
نه مقتضاي خرد بأشد ونتيجة عقل
كه دوست بكذاري وخصم را ببرى
فعلى السالك أن يجتنب عن الحرام ويأكل من الحلال الطيب ولبعض الكبار دقة عظيمة واهتمام تام في هذا الباب.
ـ حكي ـ أن بعض الملوك أرسل إلى الشيخ ركن الدين علاء الدولة غزالاً وقال : إنها حلال فقال الشيخ : كنت بمشهد طوس فجاء إلى بعض الأمراء بأرنب قال : كل منها فاني رميتها بيدي فقلت : الأرنب حرام على قول الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه.
قال في حياة الحيوان يحل أكل الأرنب عند العلماء كافة إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن أبي ليلى أنهما كرها أكلها ثم أنه جاء يوم بغزال فقال : كل منها فاني رميتها بسهم عملته بيدي على فرس ورثتها عن أبي فقلت : خطر ببالي أن واحداً من الأمراء جاء إلى مولانا الجمال بإوزتين وقال : كل منهما فاني قد أخذتهما ببازي فقال مولانا ليس الكلام في الإوزتين وإنما الكلام في قوت البازي من دجاجة أية عجوز أكل حتى قوي للاصطياد فالغزال التي رميتها على فرسك وإن كانت من الصيد لكن قوت الفرس من شعير أي مظلوم حصل فلم يأكل منها.
ـ حكي ـ أن خياطاً قال لبعض الكبار : هل أكون معيناً للظلمة بخياطة ثيابهم فقال : ليس الكلام فيك وإنما الكلام في الحداد الذي يعمل الإبرة.
والحاصل أن لا بد من الاهتمام في طلب الحلال وإن كان في زماننا هذا نادراً ولوصول إليه عزيزاً ، قال الجامي قدس سره :
خواهي كه شوي حلال روزي
همخاته مكن عيال بسيار
داني كه درين سراه تنك
حاصل نشود حلال بسيار
رزقنا الله وإياكم من فضله إنه الجواد {إِن تَجْتَنِبُوا} الاجتناب التباعد ومنه الأجنبي {كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها {نُكَفِّرْ عَنكُمْ} التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة والإحباط نقيضه وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على الطاعة والمعنى نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا} بضم الميم اسم مكان هو الجنة {كَرِيمًا} أي حسناً مرضياً أو مصدر ميمي أي : إدخالاً مع كرامة.
قال المفسرون الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الصغائر إذا اجتنب الكبائر.
واختلف
196
في الكبائر والأقرب أن الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : إنكم تعملون اليوم أعمالاً في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الكبائر.
وقال القشيري : الكبائر على لسان أهل الإشارة الشرك الخفي ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق واستجلاب قلوبهم والتودد إليهم والإغماض عن حق الله بعينهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
واعلم أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وعند انتفاء الصغائر والكبائر يمكن الدخول في المدخل الكريم وهو حضرة أكرم الأكرمين قال عليه السلام : "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".
وجملة الكبائر مندرجة في ثلاثة أشياء : أحدها اتباع الهوى والهوى ميلان النفس إلى ما يستلذ به من الشهوات فقد يقع الإنسان به في جملة من الكبائر مثلاً البدعة والضلالة والارتداد والشبهة وطلب الشهوات واللذات والتنعمات وحظوظ النفس بترك الصلاة والطاعات كلها وعقوق الوالدين وقطع الرحم وقذف المحصنات وأمثال ذلك ولهذا قال تعالى : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص : 26) وقال عليه السلام : "ما عبداً له أبغض على الله من الهوى" :
غبار هوا شم عقلت بدوخت
سموم هوس كشت عمرت بسوخت
بكن سرمه غفلت از شم اك
كه فردا شوى سرمه درشم خاك
(2/156)
وثانيها حب الدنيا فإنه مطية كثير من الكبائر مثل القتل والظلم والغصب والنهب والسرقة والربا وأكل مال اليتيم ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمانها واليمين الغموس والحيف في الوصية وغيرها واستحلال الحرام ونقض العهد وأمثاله ولهذا قال تعالى : {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} وقال عليه السلام : "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وعنه صلى الله عليه وسلّم "أتاني جبريل وقال : إن الله تعالى قال : وعزتي وجلالي إنه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حب الدنيا" :
عاقلان ميل بسويت نكند اي دنيا
هم اميد كرم ولطف تو جاهل دارد
هركه خواهد بكنداز تو مرادي حاصل
حاصل آنست كه انديشه باطل دارد
وثالثها رؤية الغير فإن منها ينشأ الشرك والنفاق والرياء وأمثاله ولهذا قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء : 48) وقال عليه السلام : "اليسير من الرياء شرك".
وقال بعض المشايخ : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب آخر فمن تخلص من ذنب وجوده فلا يرى غير الله فلا ينتشىء منه الشرك ولا حب الدنيا وتخلص من الهوى فيتحقق له الوصول واللقاء قال تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا} (الكهف : 110) لعمري أن هذا لهو المدخل الكريم والفوز العظيم والنعيم المقيم ، فعلى العاقل أن يتخلص من الأغيار ويشاهد في المجالي أنوار الواحد القهار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
كره زندانست بر صاحب دلان
هركجا بويى زوصل يار نيست
هي زندان عاشق محتاج را
تنك تراز صحبت أغيار نيست
ولذا قيل : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وما سوى الحق أغيار ، قال إبراهيم عليه السلام :
197
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} فلا بد للسالك أن يجتهد في سلوكه ويتخلص من رق الغير كي يصل إلى المراد والعاشق الصادق لا يكون في عبودية غير معشوقة ولا يتسلى عن الدنيا والآخرة إلا بوصاله فليس له مطلب سواه :
عاشق كه زهجر دوست دادي خواهد
يابر در وصلش ايستادي خواهد
ناكس ترا زو كس نبود درعالم
كزدوست بجزدوست مرادي خواهد
وهذا مقام شريف ومطلب عزيز أوصلنا الله تعالى وإياكم {وَلا تَتَمَنَّوا} التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون {مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي عليكم أن لا تتمنوا ما أعطاه الله بعضكم من الأمور الدنيوية كالجاه والمال وغير ذلك مما يجري فيه التنافس دونكم فإن ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد مترتب على الإحاطة بجلائل شؤونهم ودقائقها.
فعلى كل أحد من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده عليه لما أنه معارضة لحكمة القدر فالانصباء كالاشكال وكما أن اختلاف الأشكال مقتضى حكمة إلهية لم يطلع على سرها أحد فكذلك الأقسام.
وقيل : لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله تعالى : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} فإنه صريح في جريان التمني بين فريق الرجال والنساء والمعنى لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} أي لا تتمنوا ما يختص بغيركم من نصيبه المكتسب له واسألوا الله تعالى ما تريدون من خزائن نعمه التي لا نفاد لها فإنه يعطيكموه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان ففضله عن علم وحكمة وتبيان وفي الحديث "لن يزال الناس بخير ما تباينوا" أي تفاوتوا "فإذا تساووا هلكوا" وذلك لاختلال النظام المرتبط بذلك.
وقد يقال معناه أنه لا يغتم لتفاوت الناس في المراتب والصنائع بأن يكون مثلاً بعضهم أميراً وبعضهم سلطاناً وبعضهم وزيراً وبعضهم رئيساً وبعضهم أهل الصنائع لتوقف النظام عليه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
(2/157)
واعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية كالذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية وكالعفة والشجاعة وغير ذلك وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة وإما خارجية ككثرة الأولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الأصدقاء والأعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوباً لقلوب الناس حسن الذكر فيهم فهي مجامع السعادات والإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ووجد نفسه خالياً عن جملتها أو عن أكثرها فحينئذٍ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ثم يعرض ههنا حالتان : إحداهما أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان والأخرى أن لا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له والأول هو الحسد المذموم لأن المقصود
198
الأول لمدبر العالم وخالقه الإحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين وأيضاً ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان فيكون هذا اعتراضاً على الله وقدحاً في حكمته وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الإيمان وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فكذلك هو سبب الفساد في الدنيا فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة وينقلب كل ذلك إلى أضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه بقوله : {وَلا تَتَمَنَّوا} الآية فلا بد لكل عاقل من الرضى بقضاء الله تعالى.
ـ حكى ـ الرسول صلى الله عليه وسلّم عن رب العزة أنه قال : "من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقاً وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب رباً سواي".
حاشا كه من ازجور وجفاي توبنا لم
بيداد لطفيان همه لطفست وكرامت
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الإنسان.
ومما يؤكد ذلك ما روي ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فإن الله هو رازقها" والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا هذا أيضاً لا يجوز لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا فلهذا السبب قال المحققون أنه لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم أعطني داراً مثل دار فلان وزوجة مثل زوجة فلان بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحاً في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي وإذا تأمل الإنسان كثيراً لم يجد أحسن مما ذكره الله في القرآن تعليماً لعباده وهو قوله : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} (البقرة : 20).
وعن الحسن لا يتمنى أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد من قوله : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} .
قال الشيخ كمال الدين القاشاني : {وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} من الكمالات المترتبة بحسب استعداد الأولية فإن كل استعداد يقتضي بهويته في الأزل كمالاً وسعادة تناسبه وتختص به وحصول ذلك الكمال الخاص لغيره محال ولذلك ذكر طلبه بلفظ التمني الذي هو طلب ما يمتنع حصوله للطالب لامتناع سببه {لِّلرِّجَالِ} أي الأفراد الواصلين {نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا} بنور استعدادهم الأصلي {وَلِلنِّسَآءِ} أي الناقصين القاصرين عن الوصول {نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} بقدر استعدادهم {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} أي اطلبوا منه إفاضة كمال يقتضيه استعدادكم بالتزكية والتصفية حتى لا يحول بينكم وبينه فتحجبوا وتعذبوا بنيران الحرمان منه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ} مما يخفى عليكم كامناً في استعدادكم بالقوة {عَلِيمًا} فيجيبكم بما يليق بكم كما قال تعالى : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي بلسان الاستعداد الذي ما دعاه أحد به إلا أجاب ، كما قال تعالى : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} انتهى.
وعلى هذا التأويل يكون قوله : {وَلا تَتَمَنَّوا} نهياً ومنعاً عن طلب المحال الذي فوق الاستعداد الأزلي ويكون قوله : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} أمراً وحثاً على طلب الممكن
199
الذي هو قدر استعدادكم كي لا تضيع فضيلة الإنسانية فإن بعض المقدورات قد يكون معلقاً على الكسب ، فينبغي أن لا يتكاسل العبد في العبادات وكسب الفضائل لينال الكمالات الكامنة في خزانة الاستعداد ويسأل الله تعالى دائماً من فضله فإنه مجيب الدعوات وولي الهداية والرشاد فمن طلب شيئاً وجدّ وجد ومن قرع باباً ولجّ ولج ، قال مولانا جلال الدين قدس سره :
(2/158)
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
ون دَرِ معنى زنى بازت كنند
رّ فكرت زن كه شبهازت كنندون طلب كردي بجد آيد نظر
جد خطا نكند نين آمد خبرون زاهي ميكنى هرزوز خاك
عاقبت اندر رسى در آب اككفت يغمبركه ون كوبى درى
عاقبت زان دربرون آيد سرى
در طلب زن دائماً توهر دودست
كه طلب درراه نيكور هبرست {وَلِكُلٍّ} أي : لكل تركة ومال.
{جَعَلْنَا مَوَالِىَ} جمع مولى أي : ورثة متفاوتة في الدرجة يلونها ويحرزون منها أنصباءهم بحسب استحقاقهم المنوط بما بينهم وبين المورث {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ} بيان لكل مع الفصل بالمعامل وهو جعلنا لأن لكل مفعول ثان له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل بالبعض دون البعض ، والموالي هم أصحاب الفرائض والعصبات وغيرهما من الوراث ويجوز أن يكون المعنى ولكل قوم جعلناهم موالي أي وراثاً نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك الوالدان والأقربون على أن جعلنا موالي صفة لكل والضمير الراجع إليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر على طريقة قولك لكل من خلقه الله إنساناً نصيب من رزق أي حظ منه {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ} هم موالي الموالاة كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله تعالى : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (الأحزاب : 6) وعند أبي حنيفة إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلاً فهو مؤخر عن ذوي الأرحام وإسناد العقد إلى الإيمان لأن المعتاد المماسكة بها عند العقد والمعنى عقدت إيمانكم عهودهم العهود وأقيم المضاف إليه مقامه ثم حذف وهو مبتدأ متضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر أعني قوله تعالى : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} بالفاء أي حظهم من الميراث {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع {شَهِيدًا} أي شاهداً ففيه ترغيب في الإعطاء للتهديد على منع نصيبهم قال بعضهم المراد قال بعضهم المراد {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ} الحلفاء والمراد بقوله : {فَـاَاتُوهُمْ} النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة والمخالصة في المخالطة.
فعلى كل أحد أن ينصر أخاه المؤمن ويخالطه على وجه الخلوص والنصيحة لا على النفاق والعداوة قال صلى الله عليه وسلّم "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
بني آدم أعضاي يكد يكرند
كه در آفريتش زيك جوهرند
و عضوي بدرد آورد روز كار
دكر عضو هارا نماند قرار
توكز محنت ديكران بي غمي
نشايد كه نامت نهند آدمي
200
فالواجب أن يحب المرء للناس ما يحب لنفسه من الخير وينصح لهم في ظاهر الأمر فإن النصيحة عماد الدين ويزيل ما يوجب التأذي عن ظاهرهم وأعمالهم بالموعظة والزجر أي المنع عما لا يليق ويعاملهم بالرحمة والشفقة ولا يذكر أحداً بما يكره فإن ملكاً وكل بالعبد يرد عليه ما يقول لصاحبه ولا يستبشر بمكروه أحد كائناً من كان :
مكن شادماني بمرك كسى
كه دهرت نماند س ازوي بسى
ويتودد إلى الناس بالإحسان إلى برهم وفاجرهم وإلى من هو أهل الإحسان وإلى من ليس بأهل له ويتحمل الأذى منهم وبه يظهر جوهر الإنسان :
حمل و زهرت نمايد نخست
ولي شهد كردد و در طبع رست
ويجعل من شتمه أو جفاه أو آذاه إيذاء في حل منه ولا يطمع في السلامة من أذاهم فإنه محال فإن الله لم يقطع لسان الخلق عن نفسه فكيف يسلم مخلوق من مخلوق.
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام قال : إلهي أسألك أن لا يقال لي ما ليس في فأوحى الله إليه ما فعلت ذلك لنفسي فكيف أفعل لك؟ ويقوم بحاجات الناس ومهماتهم ففي الحديث : "من سعى في حاجة لأخيه المسلموله فيها صلاح فكأنما خدم الله ألف سنة وييسر على المعسر تسيراً ويفرج عن الغموم فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم" وفي الحديث : "إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على قلب أخيك المسلم".
(2/159)
قال الشيخ نجم الدين الكبرى في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ} يعني : الذين جرى بينكم وبينهم عقد الإخوة في الله بأن أخذتم بأيمانكم أيمانهم بالإرادة وصدق الالتجاء وتابوا على أيديكم {فَـاَاتُوهُمْ} بالنصح وحسن التربية والاهتمام بهم والقيام بمصالحهم على شرائط الشيخوخة والتسليك بهم {نَصِيبَهُمْ} الذي أودع الله تعالى لهم عندكم بعلمه وحكمته {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الودائع أينما أودعه ولمن أودعه {شَهِيدًا} يشهد عليهم يوم القيامة إن يخونوا في إعطاء ودائعهم بالخيانة ويسألكم عنها ويشهد لكم بالأمانة ويجازيكم عليها خير الجزاء انتهى فالكاملون لا يخونون في الأمانات بل يسلمون الودائع إلى الأرباب بحسب الاستعدادات ولا يفشون السر إلى من ليس له أهلية في هذا الباب وإلا يلزم الخيانة في أسرار رب الأرباب ، قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
عارفاً نكه جام حق نوشيده اند
رازها دانسته ووشيده اندهركرا اسرار كار آموختند
مهر كردندو دهانش دوختندبرلبش قفلست ودردل رازها
لب خموش ودل راز آوازها
كوش آن كس نوشد أسرار جلال
كووسوسن صدرزبان افتا دولال
تانكوئي سر سلطانرا بكس
تانر يزي قندرا يش مكس
درخور دريا نشد جز مرغ آب
فهم كن والله أعلم بالصواب
جزء : 2 رقم الصفحة : 194
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} قائمون بالأمر بالمصالح والنهي عن الفضائح قيام الولاة على الرعية مسلطون على تأديبهم وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال : {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الضمير البارز لكلا الفريقين تغليباً أي بسبب تفضيله الرجال على النساء بالحزم
201
والعزم والقوة والفتوة والمير والرمي والحماسة والسماحة والتشمير لخطة الخطبة وكتبة الكتابة وغيرها من المخايل المخيلة في استدعاء الزيادة والشمائل الشاملة لجوامع السعادة {وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي : وبسبب إنفاقهم من أموالهم في نكاحهم كالمهر والنفقة وهذا أدل على وجوب نفقات الزوجات على الأزواج.
ـ روي ـ أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار رضي الله عنهم نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشكا فقال عليه السلام : "لنقتصن منه" فنزلت فقال صلى الله عليه وسلّم "أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير" ورفع القصاص فلا قصاص في اللطمة ونحوها والحكم في النفس وما دونها مذكور في الفروع.
{فَالصَّـالِحَـاتُ} منهن {قَـانِتَـاتٌ} مطيعاتتعالى قائمات بحقوق الأزواج {حَـافِظَـاتٌ لِّلْغَيْبِ} أي : لمواجب الغيب أي : لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة الأزواج من الفروج والأموال والبيوت.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "خير النساء امرأة إنْ نظرتَ إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبتَ عنها حفظتك في مالها ونفسها" وتلا الآية وإضافة المال إليها للإشعار بأن ماله في حق التصرف في حكم مالها {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهن بالأمر بحفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له.
جزء : 2 رقم الصفحة : 201
أو موصولة أي بالذي حفظ الله لهن عليهن من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى} خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن والخوف حالة تحصل في القلب عند حدوث أمر مكروه أو عند الظن أو العلم بحدوثه وقد يراد به أحدهما أي تظنون عصيانهن وترفعهن عن مطاوعتكم {فَعِظُوهُنَّ} فانصحوهن بالترغيب والترهيب.
قال الإمام أبو منصور : العظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة وهي بتذكير العواقب {وَاهْجُرُوهُنَّ} بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة والهجر الترك عن قلى {فِى الْمَضَاجِعِ} أي في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن جمع مضجع وهو موضع وضع الجنب للنوم {وَاضْرِبُوهُنَّ} إن لم ينجع ما فعلتم من العظة والهجران غير مبرح ولا شائن ولا كاسر ولا خادش فالأمور الثلاثة مترتبة ينبغي أن يدرج فيها {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بذلك كما هو الظاهر لأنه منتهي ما يعد زاجراً {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} بالتوبيخ والأذية أي فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا} أي أعلى عليكم قدرة منكم عليهن {كَبِيرًا} أي أعظم حكماً عليكم منكم عليهن فاحذروا واعفوا عنهن إذا رجعن لأنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن جنى عليكم إذا رجع.
قال في "الشرعة" وشرحها : إذا وقف واطلع من زوجته على فجور أي : فسق أو كذب أو ميل إلى الباطن فإنه يطلقها إلا أن لا يصبر عنها فيمسكها.
(2/160)
ـ روي ـ أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله لي امرأة لا ترد يد لامس قال : "طلقها" قال : أحبها قال : "إمسكها" خوفاً عليه بأنه إن طلقها اتبعها وفسد هو أيضاً معها فرأى ما في دوام نكاحه
202
من دفع الفساد عنه مع ضيق قلبه أولى فلا بد للرجال من تحمل المكاره إلا أنه لا ينبغي للمرء أن يكون ديوثاً كما قال بعض العارفين :
كريز از كفش دردهان نهنك
كه مردن به از زندكاني به ننك
جزء : 2 رقم الصفحة : 201
وكان بعض العلماء يقول : التحمل على أذى واحد من المرأة احتمال في الحقيقة من عشرين أذى منها مثلاً فيه نجاة الولد من اللطمة ونجاة القدر من الكسر ونجاة العجل من الضرب ونجاة الهرة من الزجر أي المنع من أكل فضول الخوان وسقاطه والثوب من الحرق والضيف من الرحيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وقال أيضاً : "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة" وقال أيضاً : "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجه من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا" قال النبي عليه السلام مخاطباً لعائشة رضي الله عنها "أيما امرأة تؤذي زوجها بلسانها إلا جعل الله لسانها يوم القيامة سبعين ذراعاً ثم عقد خلف عنقها.
يا عائشة وأيما امرأة تصلي لربها وتدعو لنفسها ثم لا تدعو لزوجها إلا ضرب بصلاتها وجهها حتى تدعو لزوجها ثم تدعو لنفسها.
يا عائشة وأيما امرأة جزعت على ميتها فوق ثلاثة أيام أحبط الله عملها.
يا عائشة وأيما امرأة ناحت على ميتها إلا جعل الله لسانها سبعين ذراعاً وجرت إلى النار مع من تبعها.
يا عائشة أيما امرأة أصابتها مصيبة فلطمت وجهها ومزقت ثيابها إلا كانت مع امرأة لوط ونوح في النار وكانت آيسة من كل خير وكل شفاعة شافع يوم القيامة يا عائشة وأيما امرأة زارت المقابر إلا لعنها الله تعالى ولعنها كل رطب ويابس حتى ترجع فإذا رجعت إلى منزلها كانت في غضب الله ومقته إلى الغد من ساعته فإن ماتت من وقتها كانت من أهل النار.
يا عائشة اجتهدي ثم اجتهدي فإنكن صواحبات يوسف وفاتنات داود ومخرجات آدم من الجنة وعاصيات نوح ولوط.
يا عائشة ما زال جبريل يوصيني في أمر النساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن.
يا عائشة أنا خصم كل امرأة يطلقها زوجها" ثم قال : "يا عائشة وما من امرأة تحبل من زوجها حين تحبل إلا ولها مثل أجر الصائم بالنهار والقائم بالليل الغازي في سبيل الله.
يا عائشة ما من امرأة أتاها الطلق إلا ولها بكل طلقة عتق نسمة وبكل رضعة عتق رقبة.
يا عائشة أيما امرأة خففت عن زوجها من مهرها إلا كان لها من العمل حجة مبرورة وعمرة متقبلة وغفر لها ذنوبها كلها حديثها وقديمها سرها وعلانيتها عمدهاوخطأها أولها وآخرها.
يا عائشة المرأة إذا كان لها زوج فصبرت على أذى زوجها فهي كالمتشحطة في دمها في سبيل الله وكانت من القانتات الذاكرات المسلمات المؤمنات التائبات" كذا في "روضة العلماء" وفيه تطويل قد اختصرته وحذفت بعضه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 201
والإشارة في الآية أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء لأن وجودهن تبع لوجودهم وهم الأصول وهن الفروع فكما أن الشجرة فرع الثمرة بأنها خلقت منها فكذلك النساء خلقن من ضلوعهم فكما كان قيام حواء قبل خلقها وهي ضلع بآدم عليه السلام وهو قوام عليها فكذلك الرجال على النساء بمصالح أمور دينهن ودنياهن قال تعالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) واختص الرجال باستعدادية
203
الكمالية للخلافة والنبوة فكان وجودهم الأصل ووجودهن تبعاً لوجودهم للتوالد والتناسل قال عليه السلام : "كمل من الرجال كثير وما كمل من النساء إلا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم بنت عمران وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" ومع هذا ما بلغ كمالهن إلى حد يصلحن للخلافة أو النبوة وإنما كان كمالهن بالنسبة إلى النسوة لا إلى الرجال لأنهن بالنسبة إليهم ناقصات عقل ودين حتى قال في عائشة رضي الله عنها مع فضلها على سائر النساء "خذوا ثلثي دينكم عن هذه الحميراء" فهذا بالنسبة إلى الرجال نقصان حيث لم يقل خذوا كمال دينكم ولكن بالنسبة إلى النساء كمال لأنه على قاعدة قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ} (النساء : 11) يكون حظ النساء من الدين الثلث فكماله كان الثلثين بمثابة الذكور بمثل حظ الأنثيين ، قال الفقير جامع هذه المجالس النفيسة :
مرد بايد تاكه اقدامي كند
در طريقت غيرت نامي كند
ون نه كامل زمردي دم مزن
ون نه دلبر مكو از حسن تن
زن كه كامل شد زمردان دست برد
مرد ناقص ون زن ناقص بمرد
جزء : 2 رقم الصفحة : 201
(2/161)
{وَإِنْ خِفْتُمْ} أي علمتم أو ظننتم أيها الحكام {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي خلافاً بين المرأة وزوجها ولا تدرون من قبل أيهما يقع النشوز والشقاق المخالفة إما لأن كلا منهما يريد ما يشق على الآخر وإما لأن كلاً منهما في شق غير شق الآخر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما والجزم بوجود انشقاق لا ينافي بعث الحكمين لأنه لرجاء إزالته لا لتعرف ودوده بالفعل {فَابْعَثُوا} أي إلى الزوجين لإصلاح ذات البين {حَكَمًا} رجلاً عادلاً صالحاً للحكومة والإصلاح {مِّنْ أَهْلِهِ} من أهل الزوج {وَحَكَمًا} آخر على صفة الأول {مِّنْ أَهْلِهَآ} أي : أهل الزوجة فإن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهم واطلب للصلاح بينهم وانصح لهم وأسكن لنفوسهم لأن نفوس الزوجين تسكن إليهما وتبرز ما في ضمائرها من حب أحدهما الآخر وبغضه {إِن يُرِيدَآ} أي الزوج والزوجة {إِصْلَـاحًا} لهما أي ما بينهما من الشقاق {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ} يوقع بين الزوجين الموافقة والإلفة بحسن سعي الحكمين ويلقي في نفوسهما المودة والرأفة.
وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه وفقه الله لما ابتغاه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} بالظواهر والبواطن فيعلم كيف يرفع الشاق ويوقع الوفاق.
وفي الآية حث على إصلاح ذات البين قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة" قالوا : بلى قال : "إصلاح ذات البين" وقال صلى الله عليه وسلّم "ألا إنما الدين النصيحة" قالها ثلاثاً قالوا : لمن يا رسول الله قال : " ولرسوله ولكتابه ولأئمة المؤمنين ولعامتهم" فالنصيحةتعالى أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً وتعمل بما أمر الله تعالى به وتنتهي عما نهى عنه وتدعو الناس إلى ذلك وتدلهم عليه وأما النصيحة لرسوله أن تعمل بسنته وتدعو الناس إليها.
وأما النصيحة لكتابه أن تؤمن به وتتلوه وتعمل بما فيه وتدعو الناس إليه.
وأما النصيحة للأئمة أن لا تخرج عليهم بالسيف
204
وتدعو لهم بالعدل والإنصاف وتدل الناس عليه.
وأما النصيحة للعامة فهو أن تحب لهم ما تحب لنفسك وأن تصلح بينهم ولا تهجرهم وتدعو لهم بالصلاح.
ولا شك أن المصلحين هم خيار الناس بخلاف المفسدين فإنهم شرار الخلق إذ هم يسعون في الأرض بالفساد والتفريق وإيقاظ الفتنة دون إزالتها وقد ورد : "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 204
ازان همنشين تاتواني كريز
كه مر فتنه خفته را كفت خبز
ومن المفسدين من يوصل كلام أحد إلى أحد فيه ما يسوؤه ويحزنه فالعاقل لا يصيخ إلى مثل هذا القائل :
بدى درقفاعيب من كرد وخفت
بتر زو قريني كه آورد وكفت
يكى تيرى افكنده ودرره فتاد
وجودم نيازرد ورنجم نداد
توبر داشتى وآمدي سوى من
همي در سوزى به بهلوى من
والإشارة في الآية أنه إذا وقع الخلاف بين الشيخ الواصل والمريد المتكاسل {فَابْعَثُوا} متواسطين أحدهما من المشايخ المعتبرين والثاني من معتبري السالكين لينظرا إلى مقالهما ويتحققا أحوالهما {إِن يُرِيدَآ إِصْلَـاحًا} بينهما بما رأيا فيه صلاحهما {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ} بالإرادة وحسن التربية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ} في الأزل {عَلِيمًا} بأحوالهما {خَبِيرًا} بمآلهما فقدر لكل واحد منهما بما عليهما وبما لهما كذا في "تأويلات" الشيخ العارف نجم الدين الكبرى قدس سره وقد عرف منه أن التهاجر والمخالفة تقع بين الكاملين كما بين عوام المؤمنين ولا يمنع اختلافهم الصوري اتفاقهم المعنوي وقد اقتضت الحكمة الإلهية ذلك فلمثل هذا سر لا يعرفه عقول العامة ، قال مولانا جلال الدين في بيان اتحاد الأولياء والكاملين :
ون ازيشان مجتمع بيني دويار
هم يكى باشند وهم شش صدر هزاربر مثال موجها إعداد شان
در عدد آورده باشد اشان
تفرقه در روح حيواني بود
نفس واحد روح انساني بود
مؤمنان معدود ليك إيمان يكى
جسم شان معدود ليكن جان يكى والحاصل أن أهل الحق كلهم نفس واحدة والتفرقة بحسب البشرية والتخالف سبب لا ينافي توافقهم في المعنى من كل وجه وجهة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 204
(2/162)
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ} العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به بمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح {وَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا} من الأشياء صنماً أو غيره أو شيئاً من الإشراك جلياً وهو الكفر أو خفياً وهم الرياء {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا} أي : وأحسنوا إليهما إحساناً.
فالباء بمعنى إلى كما في قوله : {وَقَدْ أَحْسَنَ بِى} (يوسف : 100) وبدأ بهما لأن حقهما أعظم حقوق البشر فالإحسان إليهما بأن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة {وَبِذِى الْقُرْبَى} وبصاحب القرابة من أخ أو عم أو خال أو نحو ذلك بصلة الرحم والمرحمة إن استغنوا والوصية وحسن الإنفاق إن افتقروا {وَالْيَتَـامَى} بإنفاق ما هو أصلح لهم أو بالقيام على أموالهم إن كان وصياً {وَالْمَسَـاكِينُ}
205
بالمبار والصدقات وإطعام الطعام أو بالرد الجميل {وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى} أي الذي قرب جواره أو الذي له مع الجوار اتصال بنسب أو دين قال عليه السلام : "والذي نفسي بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار إن افتقر أغنيته وإن استقرض أقرضته وإن أصابه خير هنأته وإن أصابه شر عزيته وإن مرض عدته وإن مات شيعت جنازته" {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي : البعيد أو الذي لا قرابة له.
وعنه عليه السلام : "الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق واحد هو حق الجوار وهو الجار من أهل الكتاب"
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنابِ} أي : الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافر الذي سافر عن بلده وماله والإحسان بأن تؤويه وتزوده أو هو الضيف الذي ينزل عليك وحقه ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يخرجه {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} من العبيد والإماء والإحسان إليهم بأن يؤدبهم ولا يكلفهم ما لا طاقة لهم ولا يكثر العمل لهم طول النهار ولا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة ويعطيهم من الطعام ولكسوة ما يحتاجون إليه.
قال بعضهم كل حيوان فهو مملوك والإحسان إليه بما يليق به طاعة عظيمة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا} أي متكبراً يأنف من أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم {فَخُورًا} بما لا يليق يتفاخر عليهم ولا يقوم بالحقوق ويقال فخوراً في نعم الله لا يشكر قال الله تعالى لموسى عليه السلام : (يا موسى إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وحدي لا شريك لي فمن لم يرض بقضائي ولم يشكر على نعمائي ولم يصبر على بلائي ولم يقنع بعطائي فليعبد ربا سواي.
يا موسى لولا من يسجد لي ما أنزلت من السماء قطرة ولا أنبت في الأرض شجرة ولولا من يعبدني مخلصاً لما أمهلت من يجحدني طرفة عين ولولا من يشكر نعمتي لحبست القطر في الجو.
يا موسى لولا التائبون لخسفت بالمذنبين ولولا الصالحون لاهلكت الصالحين).
واعلم أن العبادة أن تعبد الله وحده بطريق أوامره ونواهيه ولا تعبد معه شيئاً من الدنيا والعقبى فإنك لو عبدت الله خوفاً من شيء أو طمعاً في شيء فقد عبدت ذلك الشيء والعبودية طلب المولى بالمولى بترك الدنيا والعقبى والتسليم عند جريان القضاء شاكراً صابراً في النعم والبلوى فلا بد من التوحيد الصرف وترك الشرك حتى يوصله الله إلى مبتغاه ، قال بعض العارفين :
نقد هستي محو كن در "لا اله"
تابه بيني دار ملك ادشاه
غير حق هرذره كان مقصودتست
تيغ "لا" بركش كه آن معبودتست
"لا" كه عرش وفرش رابرمي درد
از فنا سوى بقاره ميبرد
"لا" ترا از تو رهايى ميدهد
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
با خدايت آشنايى ميدهد
ون توخودرا از ميان برداشتى
قصر ايمانرا درى افراشتى
206
(2/163)
فإذا حصل المقصود ووصل العابد إلى المعبود فحينئذٍ يصح منه بالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين الآية لأن الإحسان صفات الله تعالى لقوله تعالى : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة : 7) والإساءة من صفات الإنسان لقوله : {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ} (يوسف : 53) فالعبد لا يصدر منه الإحسان إلا أن يكون متخلقاً بأخلاق نفسه كما قال تعالى : {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء : 79) وفيه إشارة أخرى وهي أن شرط العبودية الإقبال على الله بالكلية والإعراض عما سواه ولا يصدر منه الإحسان إلا إذا اتصف بأخلاق الله حتى يخرج من عهدة العبودية بالوصول إلى حضرة الربوبية فتفنى عنك به وتبقى به للوالدين وغيرهما محسناً لإحسانه بلا شرك ولا رياء فإن الشرك والرياء من بقاء النفس ولهذا قال عقيب الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} لأن الاختيال والفخر من أوصاف النفس والله تعالى لا يحب النفس ولا أوصافها لأن النفس لا تحب الله ولا المحبة من أوصافها فإنها تحب الدنيا وزخارفها وما يوافق مقتضاها قال صلى الله عليه وسلّم "الشرك أخفى في ابن آدم من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء" ومن خدم مخلوقاً خوفاً من مضرته أو طمعاً في منفعته فقد أشرك عملاً :
كه داند و دربند حق نيستي
اكر بي وضو درنماز استي
بروى ريا خرقة سهلست دوخت
كرش باخدا درتواني فروخت
اكرجز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
قال تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23) يعني الأعمال التي عملوها لغير وجه الله أبطلنا ثوابها وجعلناها كالهباء المنثور وهو الغبار الذي يرى في شعاع الشمس وجاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال : يا رسول الله إني أتصدق بالصدقة فالتمس بها وجه الله تعالى وأحب أن يقال لي فيه خير فنزل قوله تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ} (الكهف : 110) يعني من خاف المقام بين يدي الله تعالى ويريد ثوابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا} (الكهف : 110) رزقنا الله وإياكم الإخلاص.
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بما منحوا به وهو مبتدأ خبره محذوف أي احقاء بكل ملامة {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} به أي بما منحوا به عطف على ما قبله {وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أي من المال والغنى {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} وضع الظاهر موضع المضمر إشعار بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله ومن كان كافراً بنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحة لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
{وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِاـاَآءَ النَّاسِ} أي للفخار وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهو عطف على الذين يبخلون ورئاء الناس مفعوله وإنما شاركهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق فيما لا ينبغي من حيث أنه طرفا تفريط وإفراط سواء في القبح واستتباع الذم واللوم {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ} ليحوزوا بالإنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركوا مكة المنفقون أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ومن يكن الشيطان
207
له قريناً فساء قريناً".
أي : بئس الصاحب والمقارن الشيطان وأعوانه حيث حملوهم على تلك القبائح وزينوها لهم {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي على من ذكر من الطوائف {لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} ابتغاء لوجه الله لأن ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة أي وما الذي عليهم في الإيمان بالله تعالى والإنفاق في سبيل وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطاً فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ} وبأحوالهم المحققة {عَلِيمًا} فهو وعيد لهم بالعقاب فقد أخبر الله تعالى بدناءة همة الأشقياء وقصور نظرهم وأنهم يقنعون بقليل من الدنيا الدنية ويحرمون من كثير من المقامات الأخروية السنية ولا ينفقونه في طلب الحق ورضاه بل ينفقونه فيما لا ينبغي :
هركه مقصودش ازكرم آنست
كه بر آرد بعالم آوازه
باشد از مصر فضل وجود وكرم
جزء : 2 رقم الصفحة : 207
(2/164)
خانه أو برون ز در وازه
قال بعض الحكماء : مثل من يعمل الطاعات للرياء والسمعة كمثل رجل خرج إلى السوق وملأ كيسه حصى فيقول الناس : ما املأ كيس هذا الرجل ولا منفعة له سوى مقالة الناس ولو أراد أن يشتري به شيئاً لا يعطى له شيء كذلك الذي عمل للرياء والسمعة.
قال حامد اللفاف : إذا أراد الله هلاك امرىء عاقبه بثلاثة أشياء : أولها يرزقه العلم ويمنعه عن عمل العلماء ، والثاني يرزقه صحبة الصالحين ويمنعه عن معرفة حقوقهم ، والثالث يفتح عليه باب الطاعة ويمنعه الإخلاص وإنما يكون ذلك المذكور لخبث نيته وسوء سريرته لأن النية لو كانت صحيحة لرزقه الله منفعة العلم ومعرفة حقوقهم وإخلاص العمل :
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
ه زنار مغ درميانت ه دلق
كه دروشى ازبهر ندار خلق
فعلى الفتى أن يتخلص من الرياء في إنفاقه وفي كل أعماله ويكون سخياً لا شحيحاً فإن شكر المال إنفاقه في سبيل الله ، قال الشيخ العطار قدس سره :
توانكر كه ندارد اس درويش
زدست غير تش برجان رسدنيش
ويناسبه ما قال الحافظ :
كنج قارون كه فروميرود از فكر هنوز
خوانده باشى كه هم از غيرت درويشانست
وإذا كان بخيلاً ومع هذا أمر الناس بالبخل يكون ذلك وزراً على وزر.
قال صاحب "الكشاف" ولقد رأينا ممن بلى بلاء البخل من إذا طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد شخص بصره وحل حبوته واضطرب وزاغت عيناه في رأسه كأنما نهب رحله وكسرت خزائنه ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده انتهى وهذا مشاهد في كل زمان لا يعطون ويمنعون من يعطي إن قدروا.
والحاصل أنهم يجتهدون في منع من قصد خيراً كبناء القناطر ولجسور وحفر الآبار وسائر الخيرات
208
وذلك لكمال دناءتهم وقصور نظرهم وعدم شكرهم واللئيم لا يفعل إلا ما يناسب طبعه :
و منعم كند سفله را روزكار
نهد بردل تنك درويش بار
و بام بلندش بود خود رست
كندبول وخاشاك بربام ست
قال بشير بن الحارث النظر إلى البخيل يقسي القلب فلا بد من مجانبة مجالسته وصحبته :
ونكه باشد مجاورت لازم
همجوار كريم بايد بود
كركنى باكسى مشاوره
آن مشاور حكيم بايد بود
ففي السخاء بركات في الدين والدنيا والآخرة.
قيل : إن مجوسياً تصدق بمائة دينار فرأى الشبلى ذلك فقال : ما تنفعك هذه الصدقة؟ فبكى المجوسي ونظر إلى السماء فإذا رقعة وقعت عليه مكتوب فيها بخط أخضر :
جزء : 2 رقم الصفحة : 207
مكافأة السماحة دار خلد
وأمن من مخافة يوم بوس
وما نار بمحرقة جوادا
ولو كان الجواد من المجوس
يعني : أن الله تعالى يوفق السخي للإيمان إن كان كافراً ولزيادة الطاعة والإخلاص فيها إن كان مؤمناً فيترقى إلى الدرجات العلى ويليق بمشاهدة ربه الأعلى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 207
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب شيئاً مقدار ذرة وهي النملة الصغيرة الحمراء التي لا تكاد ترى من صغرها أو الصغير جداً من أجزاء التراب أو ما يظهر من أجزاء الهباء المنبث الذي تراه في البيت من ضوء الشمس وهو الأنسب بمقام المبالغة وهذا نفي للظلم لأنه إذا نفى القليل نفى الكثير لأن القليل داخل في الكثير {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} أي وإن يك مثقال الذرة حسنة أنث الضمير لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث وحذف النون من غير قياس تشبيهاً بحروف العلة وتخفيفاً لكثرة الاستعمال {يُضَـاعِفْهَا} أي يضاعف ثوابها لأن تضاعف نفس الحسنة بأن يجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضيل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل {أَجْرًا عَظِيمًا} عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً لكونه تابعاً للأجر مزيداً عليه.
قال في "التيسير" : وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره؟ مع أنه سمى الدنيا وما فيها قليلاً وسمي هذا الفضل عظيماً.
ـ روي ـ أنه يؤتى يوم القيامة بالعبد وينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له : اعط هؤلاء حقوقهم فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة وإنما خص هذا النوع بقوله من لدنه لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والكمال لا ينال بالأعمال الجسدية بل إنما ينال مما يودع الله في جوهر النفس المقدسة من الإشراق والصفاء والنور وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات
209
(2/165)
الجسمانية وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادات الروحانية.
ورد في الخبر الصحيح : "إن الله تعالى يقول لملائكته حين دخل أهل الجنة الجنة أطعموا أوليائي فيؤتى بألوان الأطعمة فيجدون لكل نعمة لذة غير ما يجدون للأخرى فإذا فرغوا من الطعام يقول الله تعالى : اسقوا عبادي فيؤتى بأشربة فيجدون لكل شربة لذة بخلاف الأخرى فإذا فرغوا يقول الله تعالى : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم قالوا : ربنا نسألك رضوانك مرتين أو ثلاثاً فيقول : رضيت عنكم ولدي المزيد فاليوم أكرمكم بكرامة أعظم من ذلك كله فيكشف الحجاب فينظرون إليه ما شاء الله فيخرون إليه سجداً فيكونون في السجود ما شاء الله تعالى ثم يقول لهم : ارفعوا رؤوسكم ليس هذا موضع عبادة فينسون كل نعمة كانوا فيها ويكون النظر إليه أحب إليهم من جميع النعم".
جزء : 2 رقم الصفحة : 209
جان بيجمال جانان ميل جهان ندارد
وانكس كه اين ندارد حقاكه آن ندارت
"فيهب ريح من تحت العرش على تل من مسك أذفر فينشر المسك على رؤوسهم ونواصي خيولهم فإذا رجعوا إلى أهليهم يرون أزواجهم في الحسن والبهاء أفضل مما تركوهن ويقول لهم أزواجهم قد رجعتم أحسن مما كنتم" ومطمح نظر العارف الجنة المعنوية.
قال أبو يزيد البسطامي حلاوة المعرفة الإلهية خير من جنة الفردوس وأعلى عليين لو فتحوا لي الجنات الثمان واعطوني الدنيا والآخرة لم يقابل أنيني وقت السحر طال أنسي بالله.
وقال مالك بن دينار : خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا أطيب الأشياء قيل : وما هو؟ قال : معرفة الله تعالى ، قال جلال الدين قدس سره :
أي خنك انراكه ذات خود شناخت
اندر امن سرمدي قصري بساخت
س و آهن كره تيره هيكلي
صيقلي كن صيقلي كن صيقليدفع كن از مغز ازبيني زكام
تاكه ريح الله درآيد از مشامهي مكذار ازتب وصفرا اثر
تابيابي درجهان طعم شكر
أوصانا الله وإياكم إلى معرفته وأدخلنا الجنة برحمته {فَكَيْفَ} محلها النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال أو الظرف أي فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم {إِذَا جِئْنَا} يوم القيامة {مِن كُلِّ أُمَّة} من الأمم {بِشَهِيدٍ} يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأفعال وهو نبيهم {وَجِئْنَا بِكَ} أحضرناك يا محمد {عَلَى هَـاؤُلاءِ} إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر من قوله بشهيد {شَهِيدًا} تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعك لمجامع قواعدهم أو إشارة إلى المكذبين المستفهم عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيان كما يشهد سائر الأنبياء على أممهم {يَوْمَـاـاِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ} بيان لحالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى : {فَكَيْفَ} الخ وعصيان الرسول محمول على المعاصي المغايرة للكفر فلا يلزم عطف الشيء على نفسه أي يتمنى الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الرسول والمراد الذين كفروا والذين عصوا الرسول {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الارْضُ} لو بمعنى أن المصدرية والجملة مفعول يود أي يودون أن يدفنوا فتسوي بهم الأرض كالموتى فتسوية الأرض بهم كناية عن دفنهم أو يودون أنهم لم يبعثوا ولم يخلقوا وكأنهم والأرض سواء.
قال بعض
210
جزء : 2 رقم الصفحة : 209
الأفاضل الباء للملابسة أي تسوى الأرض ملتبسة بهم ولا حاجة إلى الحمل على القلب لقلة الفرق بين تسويتهم بالأرض والتراب وتسويتها بهم {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} عطف على يود أي : ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم أو الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثاً ولا يكذبونه بقولهم والله ربنا ما كنا مشركين إذ روى أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك فيقول : هل بلغت؟ فيقول : نعم فيقال لأمته هل بلغكم؟ فتقول : ما جاءنا من نذير فيقول : من يشهدك لك؟ فيقول : محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً ثم يدعى غيره من الأنبياء عليهم السلام ثم ينادى كل إنسان باسمه واحداً واحداً وتعرض أعمالهم على رب العزة قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها".
وذكر أبو حامد في كتاب "كشف علوم الآخرة" إن هذا يكون بعد ما يحكم الله تعالى بين البهائم ويقتص للجماء من القرناء ويفصل بين الوحوش والطير ثم يقول لهم : كونوا تراباً فتسوى بهم الأرض فحينئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ويتمنى الكافر فيقول : يا لبيتني كنت تراباً.
(2/166)
واعلم أنه يعرض على النبي عليه السلام أعمال أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم وتعرض على الله يوم الخميس ويوم الإثنين وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة فتفكر يا أخي وإن كنت شاهدا عدلاً بأنك مشهود عليك في كل أحوالك من فعلك ومقالك وأعظم الشهود لديك المطلع عليك الذي لا يخفى عليه خائنة عين ولا يغيب عنه زمان ولا أين فاعمل عمل من يعلم أنه راجع إليه وقادم عليه يجازي على الصغير والكبير والقليل والكثير :
در خير بازست وطاعت وليك
نه هركس تواناست بر فعل نيك
همه برك بودن همه ساختي
بتدبير رفتن نرداختي
فلا تضيع أيامك فإن أيامك رأس مالك وإنك ما دمت قابضاً على رأس مالك فإنك قادر على طلب الربح لأن بضاعة الآخرة كاسدة في يومك هذا فاجتهد حتى تجمع بضاعة الآخرة في وقت الكساد فإنما يجيىء يوم تصير هذه البضاعة عزيزة فأكثر منها في يوم الكساد ليوم العزة فإنك لا تقدر على طلبها في ذلك اليوم.
ـ روي ـ أن الموتى يتمنون أن يؤذن لهم بأن يصلوا ركعتين أو يؤذن لهم أن يقولوا مرة واحدة لا إله إلا الله أو يؤذن لهم في تسبيحة واحدة فلا يؤذن لهم ويتعجبون من الأحياء إنهم يضيعون أيامهم في الغفلة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 209
مهلكه عمر به بيهوده بكذرد حافظ
بكوش وحاصل عمر عزيزرا درياب
قال القاشاني في قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} الشهيد والشاهد ما يحضر كل أحد مما بلغه من الدرجة وهو الغالب عليه فهو يكشف عن حاله وعمله وسعيه ومبلغ جهده مقاماً كان أو صفة من صفات الحق أو رأيا فلكل أمة شهيد بحسب ما دعاهم إليه نبيهم وعرفه إليهم ولم يبعث إلا بحسب ما يقتضيه استعداد أمته فما دعاهم إلا إلى ما يطلب استعدادهم مما وصل إليه النبي من مقامه في المعرفة فلا يعرف أحد باطن أمرهم وما هم عليه من أحوالهم كنبيهم ولذلك جعل كل نبي شهيداً
211
على أمته وقد ورد في الحديث "إن الله يتجلى لعباده في صورة معتقدهم فيعرفه إلا الموحدون الواصلون إلى حضرة الأحدية من كل باب" وكما أن لكل أمة شهيداً فلكل أهل مذهب شهيد ولكل أحد شهيد يكشف عن حال مشهوده.
وأما المحمديون فهم شهداء على الأمم ونبيهم شهيد عليهم لكونهم من الأمم ولكون نبيهم حبيباً مؤتى بجوامع الكلم متمماً لمكارم الأخلاق فلا جرم يعرفون الله عند التحول في جميع الصور إذا تابعوا نبيهم حق المتابعة ونبيهم يشهدهم ويعرف أحوالهم انتهى بعبارته جعلنا الله وإياكم من الكاملين الواصلين إلى حق اليقين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 209
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .
(2/167)
ـ روي ـ أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد إلى آخرها بطرح اللا آت فنزلت فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك.
قال في "التيسير" ثم النهي ليس عن عين الصلاة فإنها عبادة فلا ينهى عنها بل هو نهي اكتساب السكر الذي يعجز به عن الصلاة على الوجه.
قال الإمام أبو منصور رحمه الله : وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا صلاة للعبد الآبق ولا للمرأة الناشزة" ليس فيه النهي عن الصلاة لكن النهي عن الاباق والنشوز وهذا لأن الاباق والنشوز والسكر ليست بالتي تعمل في إسقاط الفرض فالمعنى لا تقيموها حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولون إذ بتلك التجربة يظهر أنهم يعلمون ما سيقرؤنه في الصلاة والسكر اسم لحالة تعرض بين المبرء وعقله وأكثر ما يكون من الشراب وقد يكون من العشق والنوم والغضب والخوف لكنه حقيقة في الأول فيحمل عليه هنا.
والسكارى جمع سكران كالكسالى جمع كسلان وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع السكران وشراؤه ويؤاخذ بالاستهلاكات والقتل والحدود وصح طلاقه وعتاقه عقوبة له عندنا خلافاً للشافعي {وَلا جُنُبًا} عطف على قوله : وأنتم سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً.
والجنب من أصابته الجنابة يستوي في المؤنث والمذكر والواحد والجمع لجريانه مجرى المصدر وأصل الجنابة البعد والجنب مبعد عن القراءة والصلاة وموضعها {إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيده بالحال الثانية دون الأولى والعامل فيه النهي أي لا تقربوا الصلاة جنباً في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين فتعذرون بالسفر فتصلون بالتيمم {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غاية للنهي عن قربان الصلاة حالة الجنابة.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وأن يزكي نفسه عما يدنسها ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية عند إمكان أعاليها {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} جمع مريض.
والمرض على ثلاثة أقسام :
جزء : 2 رقم الصفحة : 212
أحدها أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة.
212
وثانيها أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة ويشتد مرضه أو يمتد.
وثالثها أن لا يخاف الموت ولا الآلام الشديدة لكنه يخاف بقاء شين أو عيب في البدن فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين وما جوزوه في القسم الثالث {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر وإيراده مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته وتعليق التيمم بالمرض والسفر مع أتم الحكم كذلك في كل موضع تحقق العجز حتى قال أبو حنيفة : يجوز التيمم للجنابة في المصر إذا عدم الماء الحار لأن العجز عن استعمال الماء يقع فيها غالباً {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآاـاِطِ} وهو المكان المنخفض المطمئن والمجيء منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} أي جامعتموهن يعني إذا أصابكم المرض أو السفر أو الحدث أو الجنابة {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً} أي لم تقدروا على استعماله لعدمه أو لبعده أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو والرشاء أو المانع عنه من حية أو سبع أو عدو {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فاقصدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً.
قال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً أو غيره وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" إلى المرفقين لما روي أنه صلى الله عليه وسلّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ولأنه بدل من الوضوء فيتقدر بقدره والباء زائدة أي فامسحوا وجوهكم وأيديكم منه أي من الصعيد {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} تعليل للترخيص والتيسر وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخطائين ويغفر للمذنبين لا بد من أن يكون ميسراً لا معسراً.
(2/168)
والإشارة أن الصلاة معراج المؤمن وميقات مناجاته والمصلي هو الذي يناجي ربه يعني يا مدعي الإيمان {لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى} أي : لا تجدوا القربة في الصلاة وأنتم سكارى من الغفلات وتتبع الشهوات لأن كل ما أوجب للقلب الذهول عن الله فهو ملتحق بالسكر ومن أجله جعل السكر على أقسام : فسكر من الخمر وسكر من الغفلة لاستيلاء حب الدنيا وأصعب السكر سكرك من نفسك فإن من سكر من الخمر فقضاؤه الحرقة ومن سكر من نفسه ففي الوقت على الحقيقة له القطيعة والفرقة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 212
أي اسيرننك نام خويشتن
بستة خودرا بدام خويشتن
ورنكنجي باود اندر كوى أو
كم شو ازخود تابيابي كوي أو
تاتونزديك خودي زين حرف دور
غائبي يابي اكر خواهي حضور
تاتو ازغفلت وباده مست شهدي
لا جرم ازطور وصلت ست شدي
{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ولماذا تقولون كما تقولون الله أكبر لتكبيرة الإحرام عند رفع اليدين ومعناه الله أعظم وأجل من كل شيء فإن كنت تعلم عند التقول به فينبغي أن لا يكون في تلك الحالة في قلبك عظمة شيء آخر وأمارة ذلك أن لا تجد ذكر شيء في قلبك مع ذكره تعالى ولا محبة شيء مع محبته ولا طلب شيء مع طلبه فإنه تبارك وتعالى واحد لا يقبل الشركة في جميع صفاته وإلا كنت كاذباً في قولك الله أكبر بالنسبة إلى حالك وكنت كالسكران لا تجد القربة من صلاتك لأن القربة مشروطة بشرط السجود كما خوطب به {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق : 19) والسجود أن تنزل من مركب
213
أوصاف وجودك لتحمل على رفرف جوده إلى قاب قوسين أوصاف وجوده لشهود جماله وجلاله وهذا هو سر التشهد بعد السجود ثم قال : {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ} يعني كما لا تجدون القربة وأنتم سكارى من الغفلات أيضاً لا تجدونها مع جنابة استحقاق البعد وهي ملابسة الدنيا الدنية إلا على طريق العبور بقدم ظاهر الشرع في سبيل الأوامر والنواهي كعبور طريق الاعتداد بالمطعم والمشرب لسد الرمق وحفظ القوة والاكتساء لدفع الحر والبرد وستر العورة والمباشرة لحفظ النسل {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} بماء القربة والإنابة وصدق الطلب وحسن الإرادة وخلوص النية من جنابة ملابسة الدنيا وشهواتها {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} بانحراف مزاج القلب في طلب الحق {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} التردد بين طلب الدنيا وطلب العقبى والمولى {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآاـاِطِ} من غائط تتبع الهوى {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} أي لابستم الأشغال الدنيوية فأجنبتم وتباعدتم عن الله بعدما كنتم مجاوري حظائر القدس ووقعتم في رياض الأنس {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً} صدق ا لإنابة والرجوع إلى الحق بالإعراض والانقطاع عن الخلق {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وهو تراب أقدام الرجال الطيبين من سوء الأخلاق والأعمال {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} تراب أقدامهم وتمسكوا {بِأَيْدِيكُمْ} أذيال كرمهم مستسلمين بصدق الإرادة لأحكامهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} يعفو عنكم التعصب وعدم الانقطاع إليه بالكلية ولعله يعفو عنكم التلوث بالدنيا الدنية بهذه الخصلة مرضية {غَفُورًا} لكم آثار الشقوة من غبار الشهوة فإنهم يسعد بهم لأنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم :
جزء : 2 رقم الصفحة : 212
كليد كنج سعادت قبول أهل دلست
مبادكس كه درين نكته شك وريب كند
شبان واديء أيمن كهى رسد بمراد
كه ند سال بجان خدمت شعيب كند
{أَلَمْ تَرَ} الخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين والرؤية بصرية لشهرة شنائع الموصوفين حتى انتظمت في سلك الأمور المشاهدة {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} حظاً كائنا {مِّنَ الْكِتَـابِ} من علم الكتاب وهو التوراة والمراد بهم أحبار اليهود أي ألم تنظر إليهم فإنهم أحقاء بأن تشاهدهم وتتعجب من أحوالهم.
نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رئيس المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه يثبطانهم عن الإسلام {يَشْتَرُونَ الضَّلَـالَةَ} كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل : يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهداية {وَيُرِيدُونَ} أي لا يكتفون بضلالة أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته صلى الله عليه وسلّم {أَن تَضِلُّوا} أنتم أيضاً أيها المؤمنون {السَّبِيلَ} المستقيم الموصل إلى الحق وإنما أرادوا ذلك ليكون الناس كلهم على دينهم فتكون لهم الرياسة على الكل وأخذ المرافق من الكل.
(2/169)
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ} أي : منكم {بِأَعْدَآاـاِكُمْ} جميعاً ومن جملتهم هؤلاء وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون لكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلم بحالهم ومآل أمرهم {وَكَفَى بِاللَّهِ} الباء مزيدة {وَلِيًّا} متكفلاً في جميع أموركم ومصالحكم أو محباً لكم {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} في كل المواطن فثقوا به واكتفوا بولايته ونصرته ولا تتولوا غيره أو لا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء فإنه تعالى معين يكفيكم مكرهم وشرهم ففيه وعد
214
ووعيد.
والإشارة أن من رزق شيئاً من علم الكتاب ظاهراً ولم يرزق أسراره وحقائقه وهم علماء السوء المداهنون في دين الله حرصاً على الدنيا وطمعاً في المال والجاه وحباً للرياسة والقبول {يَشْتَرُونَ الضَّلَـالَةَ} وهي المداهنة واتباع الهوى فيبيعون الدين بالدنيا {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ} يا معشر العلماء الأتقياء وورثة الأنبياء وطلاب الحق من بين الخلق عن سبيل الحق بما يحسدونكم وينكرون عليكم ويلومونكم ويؤذونكم بطريق النصح وإظهار المحبة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَآاـاِكُمْ} فلا تقبلوا نصيحتهم فيما يقطعون عليكم طريق الحق ويردونكم عنه ويصدونكم عن الله بالتحريض على طلب غير الله ورعاية حق غير الله وأطيعوا أمر الله تعالى فيما أمركم به.
جزء : 2 رقم الصفحة : 212
واعلم أنك لا ترى حالاً أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والإضلال وأكثر ما يكونان في العلماء يطمعون فيما في أيدي الخلق فيداهنون فيضلون فسبب زوال المداهنة قطع الطمع.
ـ روي ـ عن بعض المشايخ إنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً وأخرج السنور أولاً ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب : لا أعطيك بعد اليوم لسنورك شيئاً فقال : ما أحتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك فهو كما قال : فمن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة لم يتيسر له الحسبة.
فعلى العاقل أن يزكي نفسه عن الأخلاق الرديئة ويطهرها من الخصال الذميمة :
ون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست
نبود خير در آن خانه كه عصمت نبود
جزء : 2 رقم الصفحة : 212
{مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا} خبر مبتدأ محذوف أي : من الذين هادوا قوم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} الكَلِم اسم جنس ولذا ذكر الضمير في مواضع وجمع المواضع لتكرره في التوراة في مواضع بحسب الجنس أي : يزيلون لأنهم لما غيروه ووضعوا مكانه غيره فقد أزالوه عن مواضعه التي وضعه الله فيها وأمالوه عنها.
والتحريف نوعان : أحدهما صرف الكلام إلى غير المراد بضرب من التأويل الباطل كما يفعل أهل البدعة في زماننا بالآيات المخالفة لمذاهبهم.
والثاني : تبديل الكلمة بأخرى وكانوا يفعلون ذلك نحو تحريفهم في نعت النبي صلى الله عليه وسلّم أسمر ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طوال مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله.
{وَيَقُولُونَ} في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي عليه السلام أم لا بلسان المقال والحال {سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا} أمرك عناداً وتحقيقاً للمخالفة {وَاسْمَعْ} أي : قولنا {غَيْرَ مُسْمَعٍ} حال من المخاطب وهو كلام ذو وجهين : أحدهما المدح بأن يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروهاً ، والثاني الذم بأن يحمل على منى أسمع حال كونك غير مسمع كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع فكان أصم غير مسمع فكأنهم قالوا ذلك تمنياً لأجابة دعوتهم عليه كانوا يخاطبون به النبي عليه السلام مظهرين له إرادة المعنى الأول وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأخير مطمئنون به {وَرَاعِنَا} كلمة ذات جبهتين أيضاً : محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانتظرنا واصرف سمعك إلى كلامنا نكلمك ، وللشر بحملها على السب بالرعونة أي الحمق
215
أو بإجرائها مجرى شبهها من كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي راعنا كانوا يخاطبون به النبي صلى الله عليه وسلّم ينوون الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والاحترام.
فإن قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : سمعنا وعصينا؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء حشمة منه عليه السلام وخوفاً من بطش المؤمنين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 215
(2/170)
{لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} انتصابه على العلية أي : يقولون ذلك للفتل بها ولصرف الكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا غير مسمع موضع لا استمعت مكروهاً وأجروا راعنا المشابهة لراعينا مجرى انظرنا أو فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير {وَطَعْنًا فِى الدِّينِ} أي : قدحاً فيه بالاستهزاء والسخرية {وَلَوْ أَنَّهُمْ} عندما سمعوا شيئاً من أوامر الله ونواهيه {قَالُوا} بلسان المقال أو بلسان الحال مكان قولهم سمعنا وعصينا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وبدل قولهم واسمع غير مسمع {وَاسْمَعْ} ولا يلحقون به غير مسمع وبدل قولهم راعنا {وَانظُرْنَا} ولم يدسوا تحت كلامهم شراً وفساداً أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكان ما قالوا من الأقوال.
{لَكَانَ} قولهم ذلك {خَيْرًا لَّهُمْ} مما قالوا {وَأَقْوَمَ} أي : أعدل وأسد في نفسه وأصوب من القيم أي : المستقيم ، قالوا لمّا لم يكن في الذي اختاروه خير أصلاً فلِمَ جعل هذا خيراً من ذلك وجوابه كذلك على زعمهم فخوطبوا على ذلك وهو كقوله : {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل : 59) {وَلَـاكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي : ولكن قالوا ذلك واستمروا على كفرهم فخذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم ذلك {فَلا يُؤْمِنُونَ} بعد ذلك {إِلا قَلِيلا} استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي : ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً فإنه تعالى لم يلعنهم فلم ينسد عليهم باب الإيمان وقد آمن بعد ذلك فريق من الأحبار كعبد الله بن سلام وكعب وأضرا بهما وهو استثناء من ضمير لا يؤمنون أي : لا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانهم بموسى وكفرهم بمحمد عليهما السلام.
والإشارة أن العلماء السوء من هذه الأمة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} بالفعال لا بالمقال كما كان أهل الكتاب يحرفونه بالمقال.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} بالمقال فيما أمر الله به من ترك الدنيا وزينتها واتباع الهوى ومن إيثار الآخرة على الأولى والانقطاع عن الخلق في طلب المولى {وَعَصَيْنَا} بالفعال إذ لا يشمون روائح هذه المعاملات ولا يدورون حول هذه المقامات وينكرون على أهل هذه الكرامات ويستهزءون بأنواع المقالات فلا يؤمنون بالقلوب السليمة إلا قليلاً منهم بأن يكفروا بهوى نفوسهم ويؤمنوا بالإيمان الحقيقي الذي هو من نتائج الإرادة والصدق في طلب الحق والإخلاص في العملوترك الدنيا وزخارفها بل بذل الوجود في طلب المعبود ، قال العطار قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 215
مشو مغرور اين نطق مزور
بناداني مكن خودرا تو سرور
اكر علم همه عالم بخواني
وبى عشقي ازو حروفي نداني
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من تعلم علماً لا يبتغي به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة" أي : ريحها.
قال الشيخ الشاذلي : العلم النافع هو الذي يستعان به على طاعة الله ويلزمك المخافة من الله والوقوف على حدود الله وهو علم المعرفة
216
بالله.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : العلوم كالدنانير والدراهم إن شاء نفعك بها وإن شاء أضرك معها والعلم إن قارنته الخشية فلك أجره وثوابه وحصول النفع به وإلا فعليك وزره وعقابه وقيام الحجة به وعلامة خشية الله ترك الدنيا والخلق ومحاربة النفس والشيطان ، فإن الشيخ السعدي قدس سره :
دعوى كنى كه بر ترم ازديكران بعلم
ون كبر كردى ازهمه دونان فروترى
شاخ درخت علم ندانم بجز عمل
تا علم باعمل نكنى شاخ بي بري
علم آدميتست وجوا نمردي وادب
ورنه بدى بصورت الإنسان برابري
ترك هواست كشتى درياي معرفت
عارف بذات شونه بدين قلندري
هر علم راكه كارنه بندى ه فائدة
شم از براي آن بود آخركه بنكري
جزء : 2 رقم الصفحة : 215
(2/171)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} أي التوراة {بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا} من القرآن حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} من التوراة ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم بالاعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث أن كلاً منهما حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعاً ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي" {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها من عين وحاجب وأنف وفم {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ} فنجعلنا على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما نجعلها كخف البعير وحافر الدابة فتكون الفاء للتسبيب أي بأن نردها على أدبارها أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها على أنهم توعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر طمسها ثم ردها على أدبارها {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أو نخزي أصحاب الوجوه بالمسخ.
{كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ} مسخناهم قردة وخنازير ووقوع الوعيد مشروط بالإيمان ومعلق به وجوداً وعدماً بمعنى إن وجد منهم الإيمان لم يقع وإلا وقع وقد وجد الإيمان منهم حيث آمن ناس منهم فلم يقع الوعيد {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} أي عذابه {مَفْعُولا} كائناً لا محالة وهذا وعيد شديد لهم يعني : أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعاً لا محالة فكونوا على حذر من هذا الوعيد وارجعوا عن الكفر إلى الإيمان والإقرار بالتوبة والاستغفار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 217
اعلم أن المسخ قد وقع في هذه الأمة أيضاً ، ومنه ما روي عن أبي علقمة أنه قال : كنت في قافلة عظيمة فأمرنا رجلاً نرتحل بأمره وننزل بأمره فنزلنا منزلاً وهو يشتم أبا بكر وعمر فقلنا له في ذلك فلم يجب إلينا بشيء فلما أصبحنا وأوقرنا وأصلحنا الراحلة لم يناد مناديه فجئناه ننظر ما حاله وما يصنع فإذا هو متربع وقد غطى رجليه بكساء له فكشفنا عنهما فإذا هو قد صار رجلاه كرجلي الخنازير فهيأنا راحلته وحملناه
217
إليها فوثب من راحلته وقام برجليه وصاح ثلاث مرات صيحة الخنازير واختلط بالخنازير وصار خنزيراً حتى لا يعرفه منا أحد كذا في "روضة العلماء".
ـ روي ـ أن واحداً من رواة الأحاديث تحول رأسه رأس حمار لإنكار وقوع مضمون حديث صحيح ورد في حق المقتدي بالإمام الرافع رأسه قبله أو واضعه وحاصل الحديث : "أن من رفع رأسه قبل الإمام أو وضعه كيف لا يخاف من أن يصير رأسه رأس حمار" ، فوقع فيما وقع وهذا هو مسخ الصورة ومسخ المعنى أشد وأصعب منه فإن أعمى الصورة مثلاً يمكن أن يكون في الآخرة بصيراً ولكن من كان في هذه أعمى يعني بالقلب فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
فعلى السالك أن يجتهد حتى لا يرد وجهه الناطق إلى الله تعالى على الدنيا واتباع الهوى ولا يمسخ صفاته الإنسانية بالسبعية والشيطانية ، قال الشيخ السعدي :
باتو ترسم نشود شاهد روحاني دوست
كالتماس توبجز عالم جسماني نيست
سعى كن تاز مقام حيوان در كذرى
كاهنست آينه ما دامكه نوراني نيست
خفتكانرا ه خبر زمزمه مرغ سحر
حيوانرا خبر از عالم انساني نيست
(2/172)
قال الإمام في تفسير الآية وتحقيق القول فيها أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات فقدامه عالم المعقولات ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في وصفهم {نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ} (السجدة : 12) انتهى فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الشر بعد الخير ، عن عبد الله بن أحمد المؤذن قال : كنت أطوف حول البيت وإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : اللهم أخرجني من الدنيا مسلماً لا يزيد على ذلك شيئاً فقلت له : لم لا تزيد على هذا الدعاء فقال : لو علمت قصتي كنت تعذرني فقلت : وما قصتك؟ قال : كان لي أخوان وكان الأكبر منهما مؤذناً أذن أربعين سنة احتساباً فلما حضره الموت دعا بالمصحف فظننا أن يتبرك به فأخذه بيده واشهد على نفسه من حضر أنه بريء مما فيه ثم تحول إلى دين النصرانية فمات نصرانياً فلما دفن أذن الآخر ثلاثين سنة فلمّا حضره الموت فعل كما فعل الآخر فمات على النصرانية وإني أخاف على نفسي أن أصير مثلهما فأدعو الله تعالى أن يحفظ على ديني فقلت : ما كان ديدنهما؟ فقال : كانا يتتبعان عورات النساء وينظران إلى المردان فهذا من آثار الرد واللعن والمسخ فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لتزكية النفس وإصلاحها ويختم عاقبتنا بالخير.
جزء : 2 رقم الصفحة : 217
خدايا بحب بني فاطمة
كه بر قول ايمان كنم خاتمه
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} أي : لا يغفر الكفر ممن اتصف به بلا توبة وإيمان لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحها ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ} أي : ويغفر ما دون الشرك في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة تفضلاً من لدنه وإحساناً من غير توبة عنها لكن لا لكل أحد بل {لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له ممن اتصف به فقط أي : لا بما فوقه.
قال شيخنا السيد الثاني سمي جامع القرآن : وهم المؤمنون
218
الذين اتقوا من الإشراك بالله تعالى فيغفر لهم ما دون الإشراك من الصغائر والكبائر لعدم إشراكهم به ولا يغفر للمشركين ما دون الإشراك أيضاً لإشراكهم به فكما أن إشراكهم لا يغفر فكذلك ما دون إشراكهم لا يغفر بخلاف المؤمنين فإنه تعالى كما وقاهم من عذاب الإشراك بحفظهم عنه كذلك وقاهم من عذاب ما دونه بمغفرته لهم {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أي : من افترى واختلق مرتكباً إثماً لا يقادر قدره ويستحقر دونه جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعاً.
وهذه الآية من أجل الآيات التي كانت خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وما غربت وأعظمها لأنها تؤذن بأن ما دون الشرك من الذنب مغفور بحسب المشيئة والوعد المعلق بالمشيئة من الكريم محقق الإنجاز خصوصاً لعباده الموحدين المخلصين من المحمديين كما قال لهم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزمر : 53).
جزء : 2 رقم الصفحة : 217
(2/173)
ـ روي ـ أن وحشياً قاتل حمزة عم النبي عليه السلام كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إني أريد أن أسلم ولكن يمنعني من الإسلام آية في القرآن نزلت عليك وهو قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} (الفرقان : 68) وإني قد فعلت هذه الأشياء الثلاثة فهل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية {إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْـاًا} فكتب أن في الآية شرطاً وهو العمل الصالح فلا أدري أنا أقدر على العمل الصالح أم لا؟ فنزل قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء : 48) فكتب بذلك إلى وحشي فكتب إليه أن في الآية شرطاً فلا أدري أيشاء أن يغفر لي أم لا فنزل قوله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزمر : 53) فكتب إلى وحشي فلم يجد الشرط فقدم المدينة وأسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من مات ولم يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" ورأى أبو العباس شريح في مرض موته كأن القيامة قد قامت وإذا الجبار سبحانه وتعالى يقول : أين العلماء؟ فجاءوا فقال : ماذا عملتم فيما علمتم فقلنا : يا رب قصرنا وأسأنا فأعاد السؤال فكأنه لم يرض به وأراد جواباً آخر فقلت : أما أنا فليس في صحيفتي شرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه فقال الله تعالى اذهبوا فقد غفرت لكم ومات شريح بعده بثلاث ليال وهذا من حسن الظن بالله تعالى.
كنونت كه شمست اشكى ببار
زبان در دهانست عذري بيار
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه ون نفس ناطق زكفتن بخفت
غنيمت شمار اين كرامي نفس
كه بي مرغ قيمت ندارد قفس
واعلم أن للشرك مراتب وللمغفرة مراتب.
فمراتب الشرك ثلاث : الجلي والخفي والأخفى.
وكذلك مراتب المغفرة.
فالشرك الجلي بالأعيان وهو للعوام وذلك بأن يعبد شيء من دون الله تعالى كالأصنام والكواكب وغيرها فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقاً بالسر والعلانية.
والشرك الخفي بالأوصاف وهو للخواص وذلك شوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية في العبادة كالدنيا والهوى وما سوى المولى فلا يغفر إلا بالوحدانية وهي إفراد الواحد للواحد بالواحد.
والشرك الأخفى وهو للأخص وذلك رؤية الأغيار والأنانية فلا يغفر إلا بالوحدة وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ليبقى بالهوية
219
دون الأنانية فإن الله لا يغفر بمراتب المغفرة أن يشرك به بمراتب الشرك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أي لمن يشاء المغفرة فيستغفر الله تعالى من مراتب الشرك فيغفر له بمراتب المغفرة ومن يشرك بالله بمراتب الشرك فقد افترى إثماً عظيماً أي جعل بينه وبين الله حجاباً من إثبات وجود الأشياء وأنانيته وهي أعظم الحجب كما قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب :
جزء : 2 رقم الصفحة : 217
نيستي جولانكه أهل دلست
شاهراه عاشقان كاملست
ون وجودت محو كردى ازميان
نور وحدث شم دل را شد عيان
شرك رهزن باشد اي دل در طريق
ذكر توحيد خدارا كن رفيق
(2/174)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم} خطاب للنبي عليه السلام على وجه التعجيب أي : ألم تنظر إلى اليهود الذين يطهرون نفوسهم من الذنوب وألسنتهم ولم يزكوها حقيقة بقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه وبقولهم : نحن كالأولاد الصغار فهل عليهم ذهب أي : انظر إليهم وتعجب من حالهم وادعائهم أنهم أزكياء عند الله مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم واللفظ عام يشتمل كل من زكى نفسه ووصفها بزيادة التقوى والطاعة والزلفى عند الله ففيه تحذير من إعجاب المرء بعمله {بَلِ اللَّهُ} يعني هم لا يزكونها في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله {يُزَكِّى مَن يَشَآءُ} تزكيته ممن يستأهلها من المرتضين من عباده المؤمنين فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح وقد وصفهم بما هم متصفون به من القبائح {وَلا يُظْلَمُونَ} أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب {فَتِيلا} أي : أدنى ظلم وأصغره وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في القلة والحقارة والظلم في حق المعاقب الزيادة على حقه وفي حق المثاب النقصان منه {انظُرْ كَيفَ} أي : في أي حال أو على أي حال {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في زعمهم أنهم أبناء الله وأزكياء عنده والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً للمبالغة في تقبيح حالهم {وَكَفَى بِهِ} بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام.
{إِثْمًا مُّبِينًا} ظاهراً بيناً كونه إثماً والمعنى كفى بذلك وحده في كونهم أشد إثماً من كل كفار أثيم ولو لم يكن لهم من الذنوب إلا هذا الافتراء لكان إثماً عظيماً ونصب إثماً مبيناً على التمييز.
قال الإمام أبو منصور رحمه الله : قول الرجل أنا مؤمن ليس بتزكية النفس بل إخبار عن شيء أكرم به وإنما التزكية أن يرى نفسه تقياً صالحاً ويمدح به.
قال السري قدس سره : من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى.
فيجب على العبد المؤمن أن يمتنع عن مدح نفسه ألا يرى إلى قوله عليه السلام : "أنا سيد ولد آدم" كيف عقبه بقوله : "ولا فخر" أي : لست أقول هذا تفاخراً كما يقصده الناس بالثناء على أنفسهم لأن افتخاره عليه السلام كان بالله وتقربه من الله لا بكونه مقدماً على أولاد آدم كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يكون بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقديمه على بعض رعاياه :
جزء : 2 رقم الصفحة : 217
اكر مردى ازمردىء خود مكوى
نه هر شهسواري بدر برد كوى
220
كنهكار انديشناك از خدا
بسى بهتر از عابد خود نما
اكر مشك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود فاش كردد ببوى
ونعم ما قيل :
جوز خالي درميان جوزها
مى نمايد خويشتن را از صدا
والإشارة في الآيتين أن الذين يزكون أنفسهم من أهل العلوم الظاهرة بالعلم ويباهون به العلماء ويمارون به السفهاء لا تزكي أنفسهم بمجرد تعلم العلم بل تزيد صفاتهم المذمومة مثل المباهاة والمماراة والمجادلة والمفاخرة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وطلب الاستيلاء والغلبة على الأقران والأمثال {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ} التزكية ويتهيأ لها بتسليم النفس إلى أرباب التزكية وهم العلماء الراسخون والمشايخ المحققون كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجلعه أديماً فمن يسلم نفسه للتزكية إلى المزكي ويصبر على تصرفاته كالميت في يد الغسال ويصغ إلى إشاراته ولا يعترض على معاملاته ويقاس شدائد أعمال التزكية فقد أفلح بما تزكى والمزكي هو النبي عليه السلام في أيام حياته كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة : 2) الآية وبعدهم العلماء الذين أخذوا التزكية ممن أخذوا منه قرناً بعد قرن من الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان إلى يومنا هذا ولعمري إنهم في هذا الزمان أعز من الكبريت الأحمر ، قال الشيخ الحسيني :
در طريقت رهبر دانا كزين
زانكه ره دورست ورهزن در كمين
رهبري بايد بمعنى سر بلند
از شريعت وز طريقت بهره مند
أصل وفرع وجزء وكل آموخته
شمع از نور علم افروخته
ظاهرش از علم كسبي باخدا
باطنش ميراث دار مصطفا
هركه از دست عنايت بر كرفت
روز أول دامن رهبر كرفت
هركه در زندان خود رأيى فتاد
بند اورا سالها نتوان كشاد
اي سليم القلب دشوارست كار
تاننداري كه ندارست كار
فعلى السالك أن يتمسك بذيل المرشد ويتشبث به إلى الوقوف على علم التوحيد ثم الفناء عن نفسه لأن مجرد العرفان غير منج ما لم يحصل التحقيق بحقيقة الحال ولذا قال عليه السلام : "شر الناس من قامت عليه القيامة وهو حي" أي : وقف على علم التوحيد ونفسه لم تمت بالفناء حتى يحيى بالله فإنه حينئذٍ زنديق قائل بالإباحة في الأشياء عصمنا الله وإياكم من المعاصي والفحشاء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 217
(2/175)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} إلى اليهود الذين {أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ} حظاً من علم التوراة أي : انظر يا محمد وتعجب من حالهم فكأنه قيل ماذا يفعلون حتى ينظر إليهم فقيل : {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله {وَالطَّـاغُوتِ} الشيطان ويطلق لكل باطل من معبود أو غيره.
جزء : 2 رقم الصفحة : 221
ـ روي ـ أن حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة في سبعين راكباً من اليهود ليحالفوا قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه عليه السلام فقالوا : أنتم أهل كتاب
221
وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا وقال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً نحن أم محمد؟ فقال : ماذا يقول محمد؟ قال : يأمر بعبادة الله تعالى وحده وينهى عن الشرك قال : وما دينكم؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم قال : أنتم أهدى سبيلاً وذلك قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي : لأجلهم وفي حقهم {هَـاؤُلاءِ} إشارة إلى الذين كفروا {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا} أي أقوم ديناً وأرشد طريقة {أولئك} إشارة إلى القائلين {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي أبعدهم عن رحمته وطردهم {وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ} أي : يعبده عن رحمته تعالى : {فَلَن تَجِدَ لَه نَصِيرًا} يدفع عنه العذاب دنيوياً كان أو أخروياً لا بشفاعة ولا بغيرها.
وفيه تنصيص على حرمانهم مما طلبوا من قريش {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} أم منقطعة ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أن ملك الدنيا سيصير إليهم {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون أحداً مقدار نقير وهو النقرة في ظهر النواة يضرب به المثل في القلة والحقارة وهذا هو البيان الكاشف عن كل حالهم فإنهم إذا بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا أذلاء متفاقدين {أَمْ يَحْسُدُونَ} منقطعة أيضاً {النَّاسُ} بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه {عَلَى مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} يعني : النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوماً فيوماً {فَقَدْ ءَاتَيْنَآ} يعني أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل هذا {إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ} الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلّم وأبناء أعمامه {الْكِتَـابِ} المنزل من السماء {وَالْحِكْمَةَ} أي : النبوة والعلم {وَءَاتَيْنَـاهُم} مع ذلك {مُّلْكًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره فكيف يستبعدون نبوته صلى الله عليه وسلّم ويحسدونه على إيتائها قال ابن عباس رضي الله عنهما : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام {فَمِنْهُم} من اليهود {مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} بمحمد عليه السلام {وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي أعرض عنه ولم يؤمن به {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} ناراً مسعورة أي موقدة يعذبون بها أي : إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 221
واعلم أن الله تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى ثم وصفهم بالبخل والحسد.
فالبخل هو أن لا يدفع إلى أحد شيئاً مما آتاه الله من النعمة.
والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئاً من النعم فالبخل والحسد يشتركان في من يريد منع النعمة عن الغير.
فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن غيره.
وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله عن عباده فهما شر الرذائل وسببهما الجهل.
أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول سعادة الآخرة وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل.
وأما الحسد
222
فلأن الآلهية عبارة عن إيصال النعم والإحسان إلى العبيد فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الإله عن الإلهية وذلك محض الجهل ثم إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ، قال السعدي قدس سره :
شور بختان بآرزو خواهد
مقبلا نرا زوال نعمت وجاه
كرنبيند بروز شبره شم
شمه آفتابرا ه كناه
راست خواهي هزار شم نان
كور بهتركه آفتاب سياه
(2/176)
ولا يسود الحسود والبخيل في جميع الزمان ألا ترى أن الله تعالى جعل بخل اليهود كالمانع من حصول الملك لهم فهما لا يجتمعان وذلك لأن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته والإنسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمراً مطلوباً مرغوباً فيه وجهات الحاجات محيطة بالناس فإذا صدر من إنسان إحسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سبباً لصيرورته منقاداً مطيعاً له فلهذا قيل بالبر يستعبد الحر فأما إذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصاً من المعارض فلا يحصل الانقياد ألبتة ، قال السعدي :
خورش ده بكنجشك وكبك وحمام
كه يك روزت افتنده يابى بدام
زر ازبهر خوردن بود اي سر
زبهر نهادن ه سنك وه زر
وقد شبه بعض الحكماء ابن آدم في حرصه على الجمع ووخامة عاقبته بدود القز الذي يكاد ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مخلص فيقتل نفسه.
.
.
ويصير القز لغيره فاللائق بشأن المؤمن القناعة بما رزقه الودود وترك الحرص والبذل من الموجود.
وقيل : لما عرج النبي عليه السلام اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام : "ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسه النار" فقال جبريل عليه السلام : هذا حاتم طي صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده فالجود صارف عن المرء عذاب الدنيا والعقبى وباعث لوصول الملك في الأولى والأخرى.
ثم إن الملك على ثلاثة أقسام : ملك على الظواهر فقط وهذا هو ملك الملوك ، وملك على البواطن فقط فهذا هو ملك العلماء ، وملك على الظواهر والبواطن معاً وهذا هو ملك الأنبياء عليهم السلام فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سبباً لانقياد الخلق لهم وامتثالهم لأوامرهم وكمال هذه الصفات كان حاصلاً لمحمد عليه السلام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 221
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآياتنا} القرآن وسائر المعجزات {سَوْفَ} كلمة تذكر للتهديد والوعيد يقال : سوف أفعل وتذكر للوعد أيضاف فتفيد التأكيد {نُصْلِيهِمْ نَارًا} ندخلهم ناراً عظيمة هائلة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 221
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم} أي احترقت {بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} غير يذكر ويراد به الضد تقول الليل غير النهار وأيضاً يقال للمثل المتبدل تقول للماء الحار إذا برد هذا غيره وهو المراد هنا أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورة وإن كان عينه مادة.
والحاصل أنه يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك صغت من خاتمي خاتماً غيره فالخاتم الثاني هو الأول
223
وإنما الصياغة اختلفت.
فإن قلت الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله تعالى مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان ذلك تعذيباً لمن لم يعص وهو غير جائز.
قلت : العذاب للجلدة الحساسة وهي التي عصت لا للجلد مطلقاً والذات واحدة فالعذاب لم يصل إلا إلى العاصي {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه.
قال الحسن : تأكلهم النار في كل يوم سبعين مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا.
ـ وروي ـ مرفوعاً أن جلد الكافر أربعون ذراعاً وضرسه مثل أحد وشفته العليا تضرب سرته وبين لحمه وجلده ديدان كحمر الوحش تركض بين جلده ولحمه وحيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال وهذا ليس بزيادة تخلق وتعذب من غير معصية لكن إذا زيد ذلك ثقلة على العبد ويكون نفس الثقل عقوبة عليه كسائر عقوبات جهنم من السلاسل والأغلال والعقارب والحيات.
فإن قلت : إنما يقال فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئاً قليلاً منه والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العباد؟ قلت : المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بالعذاب في كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق ودوام الملابسة ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على بقاء إدراك العذاب وذوقه بحاله مع الاحتراق أو مع إبقاء أبدانهم على حالهم مصونة عن الاحتراق أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا} لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين {حَكِيمًا} يعاقب من يعاقب على حكمته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 223
(2/177)
اعلم أن هذا العذاب والتبديل الذي في الآخرة كان حاصلاً له في الدنيا ولكن لم يكن يذوقه كالنائم يجرح نفسه بحديدة في يده فتكون الجراحة حاصلة له في الدنيا ولكن لم يذق ألمها حتى ينتبه فالناس نيام فإذا ماتوا انتهبوا.
فعلى العبد أن يعمل على وفق الشرع وخلاف النفس والهوى حتى يجعل الله تعالى باكسير الشرع نحاس الصفات الظلمانية النفسانية قضية الصفات النورانية الروحانية فإذا تخلص في الدنيا من شوب المعصية بإصلاح النفس والجريان على وفق الشرع لم يحتج في الآخرة إلى التهذيب والتنقيح بالنار.
ـ روي ـ أن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلِّها الذين ماتوا على كبائرهم غير تائبين ولا نادمين منهم من دخل النار في الباب الأول في جهنم حتى لا تزرق أعينهم ولا تسود وجوههم ولا يقرنون مع الشياطين ولا يغلون بالسلاسل ولا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران في النار حرم الله تعالى أجسادهم ووجوههم على النار من أجل السجود فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى عنقه قدر ذنوبهم وأعمالهم ثم إن منهم من يمكث فيها شهراً ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثاً كقدر الدنيا منذ خلقت إلى يوم تفنى.
وكان ابن السماك يقول فيما يعاتب نفسه يا نفس تقولين قول الزاهدين وتعملين عمل المنافقين وفي الجنة تطمعين أن تدخلين هيهات هيهات إن للجنة قوماً آخرين ولها أعمال غير ما تعملين ويحك أخذت بزي كسرى وقيصر والفراعنة وتريدين أن ترافقي
224
رسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الجلال فاعرض نفسك على كتاب الله فيما وصف أولياءه وأعداءه فانظر من أي الصنفين أنت؟
ترادر زكار بدان شرم دار
كه در روي نيكان شوي شرمسار
نريزد خدا آب روي كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسي
وذُكِر عن يزيد بن مرثد : أنه كان لا تنقطع دموع عينيه ساعة ولا يزال باكياً فسئل عن ذلك فقال : لو أن الله تعالى أوعدني بأني لو أذنبت لحبسني في الحمام أبداً لكان حقيقاً عليّ أن لا تنقطع دموعي فكيف وقد أوعدني أن يحبسني في نار أو قد عليها ثلاثة آلاف سنة أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء كالليل المظلم ، قال أبو هريرة رضي الله عنه لا تغبطن فاجراً بنعمته فإن وراءه طالباً حثيثاً وهي جهنم كلما خبث زدناهم سعيراً ، قال الحافظ قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 223
قلندران حقيقت به نيم جو نخرند
قباي اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من كانت همته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت همته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له" ، قال السعدي قدس سره :
آنكس ازدزد برسد كه متاعي دارد
عارفان جمع نكردند وريشاني نيست
هر كرا خيمه بصحراي قناعت زده اند
كرجهان لرزه بكيرد غم ويراني نيست
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله وبمحمد والقرآن وسائر الآيات والمعجزات {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} التي أمر الله بها {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} أي : مقيمين فيها لا يخرجون منها ولا يموتون {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي مما نساء الدنيا عليه من الأحوال المستقذرة البدنية والادناس الطبيعية كالحيض والنفاس والحقد والحسد وغير ذلك {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا} فينانا لا جوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس أي لا تزيله وسجسجا وهو من الزمان ما لا حر فيه ولا برد ومن المكان ما لا سهولة فيه ولا حزونة.
والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال : ليل أليل ويوم أيوم وما أشبه ذلك.
فإن قلت : إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ وأيضاً يرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس إليها يكون هواؤها عفناً فاسداً مؤذياً فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ قلت : إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه السلام : "السلطان ظل الله في الأرض" فإذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظل الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة.
قال الإمام في تفسيره : هذا ما يميل إليه خاطري قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطعها اقرأوا إن شئتم وظل ممدود وفي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرأوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين فموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم
225
(2/178)
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أهل الجنة شباب جعد جرد مرد ليس لهم شعر إلا في الرأس والحاجبين واشفار العينين" يعني : ليس لهم شعر عانة ولا شعر من الإبط "على طول آدم عليه السلام ستون ذراعاً وعلى مولد عيسى عليه السلام ثلاث وثلاثون سنة بيض الألوان خضر الثياب يوضع لأحدهم مائدة بين يديه فيقبل الطائر فيقول : يا ولي الله أما إني قد شربت من عين السلسبيل ورعيت من رياض الجنة تحت العرش وأكلت من ثمار كذا فاطعم مني فيطعم فيكون أحد جانبيه مطبوخاً والآخر مشوياً فيأكل منهما ما شاء الله وعليه سبعون حلة ليس فيها حلة على لون آخر".
قال الفقيه أبو الليث : من أراد أن ينال هذه الكرامة فعليه أن يداوم على خمسة أشياء :
جزء : 2 رقم الصفحة : 223
الأول : أن يمنع نفسه من جميع المعاصي.
ونهى النفس بفرمود الله
بايدت ترك هواي ترك كناه
والثاني : أن يرضى باليسير من الدنيا لأن ثمن الجنة ترك الدنيا.
اين زن زانية شوي كش دنيارا
كر على وار طلاقش ندهم نامردم
والثالث : أن يكون حريصاً على الطاعات فيتعلق بكل طاعة فلعل تلك الطاعة تكون سبب المغفرة ودخول الجنة.
عمل بايد اندر طريقت نه دم
كه سودى ندارد دم بي قدم
والرابع : أن يحب الصالحين وأهل الخير ويخالطهم ويجالسهم :
نخست موعظه ير مجلس اين حرفست
كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد
فلزم أن يكون مصاحب الإنسان أهل خير لأن الصحبة مؤثرة وأن واحداً من الصلحاء إذا غفر الله له يشفع لإخوانه وأصحابه.
اميدس ازانان كه طاعت كنند
كه بي طاعتا نرا شفاعت كنند
والخامس : أن يكثر الدعاء ويسأل الله تعالى أن يرزقه الجنة وأن يجعل خاتمته في الخير.
غنيمت شمارند مردان دعا
كه جوشن بود يش تير بلا
جزء : 2 رقم الصفحة : 223
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نزلت في عثمان بن عبد الدار الحجبي وكان سادن الكعبة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت ، فأمر علياً أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلي : أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال : لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآناً وقرأ عليه فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهبط جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً ، ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى ابنه شيبة فهو في ولده إلى اليوم {وَإِذَا حَكَمْتُم} أي : ويأمركم إذا قضيتم {بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} والإنصاف والتسوية
226
{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} أي نعم شيئاً ينصحكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل فلما نكرة بمعنى شيء ويعظكم به صفته والمخصوص بالمدح محذوف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا} لما يقوله الخزنة {بَصِيرًا} بما تعمله الأمناء أي اعملوا بأمر الله ووعظه فإنه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم.
اعلم أن الأمانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق إليه.
والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب للإنسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفع إلى من له ذلك الحق ولما كان الترتيب الصحيح أن يبذل الإنسان نفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالأمانة أولاً ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق ونزول هذه الآية عند القصة المذكورة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القصة بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 226
فاعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد أو مع نفسه ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة.
أما رعاية الأمانة مع الرب فهي فعل المأمورات وترك المنهيات وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود : الأمانة في كل شيء لازمة في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك.
مثلاً إن أمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها.
وأمانة العينين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام.
وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي واستماع الفحش والأكاذيب وغيرها وكذا القول في جميع الأعضاء ، قال السعدي قدس سره :
زبان ازبهر شكر وساش
بغيبت نكرداندش حق شناس
كذركاه قرآن وبندست كوش
به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دوشم ازى ازى صنع بارى نكوست
نه عيب برادر بود كيردوست
(2/179)
وأما القسم الثاني : وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيه رد الودائع ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن ويدخل فيه أن لا يفشى على الناس عيوبهم ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعد العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها وفي أن لا تلحق بالزوج ولداً تولد من غيره وفي إخبارها عن اقضاء عدتها.
وأما القسم الثالث وهو أمانة الإنسان مع نفسه وهو أن لا يفعل إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" قال عليه السلام : "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" فعلى العبد المؤمن أن يؤدي الأمانات كلها ما استطاع ويتعظ بمواعظ الحق في كل زمان فإن الوعظ نافع جداً.
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب روان ناصح ما ازتوشاد باد
قاله الحافظ ، وقال في موضع :
ند حكيم محض صوابست ومحض خير
فروخنده بخت آنكه بسمع رضا شنيد
227
ثم إن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانات إلى أهلها.
قال الحسن : إن الله أخذ على الحكام ثلاثاً : أن لا يتبعوا الهوى ، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ، وأن لا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً ، قال صلى الله عليه وسلّم "ينادي منادٍ يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار" ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 226
جهان نماند وآثار معدلت ماند
بخير كوش وصلاح وبعدل كوش وكرم
كه ملك ودولت ضحاك مردمان آزار
نماند وتا بقيامت برو بماند رقم
قال عليه السلام : "من دل سلطاناً على الجور كان مع هامان وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً" فمقتضى الإيمان هو العدل والسببية للصلاح ونظام العالم وإجراء الشرع والاحتراز عن الرشوة فإن من أخذها لا يسامح في الشرع.
وغضب الاسكندر يوماً على بعض شعرائه فأقضاه وفرق ماله في أصحابه فقيل له في ذلك فقال : أما أقضائي له فلجرمه وأما تفريقي ماله في أصحابه فلئلا يشفعوا فيه فانظر كيف كان أخذ المال سبباً لعدم الشفاعة لأنهم لو استشفعوا في حقه فشفعوا لزم الاسترداد فلما طمعوا تركوا الشفاعة :
ازتوكر انصاف آيد در وجود
به كه عمري در ركوع ودر سجود
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ} وهم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله والرسول في وجوب الطاعة فإنهم اللصوص المتغلبة لأخذهم أموال الناس بالقهر والغلبة وإنما أفرد بالذكر طاعة الله ثم جمع طاعة الرسول مع طاعة أولي الأمر حيث قال تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ} ولم يقل وأطيعوا أولي الأمر منكم تعليماً للأدب وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز {فَإِن تَنَـازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ} أصل النزع الجذب لأن المتنازعين يجذب كل واحد منهما إلى غير جهة صاحبه أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} فارجعوا فيه إلى كتاب الله {وَالرَّسُولِ} أي إلى سننه صلى الله عليه وسلّم وتعلق أصحاب الظواهر بظاهر هذه الآية في أن الاجتهاد والقياس لا يجوز لأن الله تعالى أمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة ولا يوجد في كل حادثة نص ظاهر فعلم أنه أمر بالنظر في مودوعاته والعمل على مدلولاته ومقتضياته ولكن الآية في الحقيقة دليل على حجة القياس كيف لا ورد المختلف فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو المعنى بالقياس ويؤيده الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة : ثابت بالكتاب وثابت بالسنة وثابت بالرد إليهما بالقياس
جزء : 2 رقم الصفحة : 226
{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} فإن الإيمان بهما يوجب ذلك أما الإيمان بالله فظاهر وأما الإيمان باليوم الآخر فلما فيه من العقاب على المخالفة {ذَالِكَ} أي الرد إلى الكتاب والسنة {خَيْرٍ} لكم
228
(2/180)
من التنازع وأصلح {وَأَحْسَنُ} في نفسه {تَأْوِيلا} أي عاقبة ومآلا.
ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم قال صلى الله عليه وسلّم "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وقال صلى الله عليه وسلّم "من عامل الناس فلم يظلمهم ومن حدثهم فلم يكذبهم ومن وعدهم فلم يخلفهم فهو من كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته" ولا بد للأمراء من خوف الله وخشيته بأجراء الشرائع والأحكام واتباع سنن النبي عليه السلام حتى يملأ الله قلوب الناظرين إليهم رعباً وهيبة فحينئذٍ لا يحتاجون إلى محافظة الصورة والهيئة الظاهرة.
ـ روي ـ إن كلب الروم أرسل إلى عمر رضي الله عنه هدايا من الثياب والجبة فلما دخل الرسول إلى المدينة قال : أين دار الخليفة وبناؤه فقيل ليس له دار عظيم كما توهمت إنما له بيت صغير فدلوه عليه فأتاه فوجد له بيتاً صغيراً حقيراً قد اسود بابه لطول الزمان فطلبه فلم يصادفه وقيل : إنه خرج إلى السوق لحاجته وحوائج المسلمين أي : للاحتساب فخرج الرسول إلى طلبه فوجده نائماً تحت ظل حائط قد توسد بالدرة فلما رآه قال عدلت فأمنت فنمت حيث شئت وأمراؤنا ظلموا فاحتاجوا إلى الحصون والجيوش ، قال السعدي قدس سره :
ادشاهي كه طرح ظلم افكند
اي ديوار ملك خويش بكند
نكند جور يشه سلطاني
كه نيايد زكرك وباني
ومن كلام أردشير : الدين أساس الملك والعدل حارسه فما لم يكن له أس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع.
ـ وروي ـ أي أنوشروان كان له عامل على ناحية فكتب إليه يعلمه بوجودة الريع ويستأذنه في الزيادة على الرسول فامسك عن إجابته فعاوده العامل في ذلك فكتب إليه قد كان في ترك إجابتك ما حسبتك تنزجر به عن تكليف ما لم تؤمر به فإذن قد أبيت إلا تمادياً في سوء الأدب فاقطع إحدى أذنيك واكفف عما ليس من شأنك فقطع العامل إذنه وسكت عن ذلك الأمر وبالجملة فالظلم عار وجزاؤه نار والاجتناب منه واجب على كل عاقل وإذا كان نية المؤمن العدل فليجانب أهل الظلم وليجتنب عن إطاعتهم فإن الإطاعة لأهل الحق لا لغيرهم قال عليه السلام : "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير العادل فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني".
جزء : 2 رقم الصفحة : 226
واعلم أن الولاة إنما يكونون على حسب أعمال الرعايا وأحوالهم صلاحاً وفساداً.
ـ روي ـ أنه قيل للحجاج بن يوسف : لِمَ لا تعدل مثل عمر وأنت قد أدركت خلافته أفلم ترَ عدله وصلاحه؟ فقال في جوابهم : تباذروا أي : كونوا كأبي ذر في الزهد والتقوى أتعمر لكم أي أعاملكم معاملة عمر في العدل والإنصاف وفي الحديث "كما تكونون يولي عليكم أحدكم" يعني : إن تكونوا صالحين وإن تكونوا طالحين فيجعل وليكم رجلاً صالحاً وإن تكونوا طالحين فيجعل وليكم رجلاً طالحاً.
ـ وروي ـ أن موسى عليه السلام ناجى ربه فقال : يا رب ما علامة رضاك من سخطك فأوحى إليه (إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضايي ، وإذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي).
ثم اعلم بأن المراد بأولى الأمر في الحقيقة المشايخ الواصلون ومن بيده أمر التربية فإن أولي أمر المريد شيخه في التربية فينبغي للمريد في كل وارد حق يدق باب قلبه أو إشارة أو إلهام أو واقعة تنبىء عن أعمال أو أحوال في حقه أن يضرب على محك نظر شيخه فما يرى فيه الشيخ من المصالح ويشير إليه أو يحكم عليه يكون
229
منقاداً لأوامره ونواهيه لأنه أولوا أمره.
وأما الشيخ فأولوا أمره الكتاب والسنة فينبغي له أن ما سنح له من الغيب بوارد الحق من الكشوف والشواهد والأسرار والحقائق يضرب على محك الكتاب والسنة فما صدقاه ويحكمان عليه فيقبله وإلا فلا لأن الطريقة مقيدة بالكتاب والسنة كذا ذكره الشيخ الكامل نجم الدين في تأويلاته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 226
(2/181)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} أي : يدعون والمراد بالزعم هنا الكذب لأن الآية نزلت في المنافقين {أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي بالقرآن {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} أي بالتوراة وغيرها من الكتب المنزلة وكأنه قيل ماذا يفعلون فقيل : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّـاغُوتِ} عن ابن عباس أن منافقاً خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبي عليه السلام لأنه كان يقضي بالحق ولا يلتفت إلى الرشوة ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف لأنه كان شديد الرغبة إلى الرشوة واليهودي كان محقاً والمنافق كان مبطلاً ثم أصر اليهودي على قوله فاحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر : قضي لي رسول الله فلم يرض بقضائه وخاصم إليك فقال عمر للمنافق : أكذلك فقال : نعم فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى مات وقال : هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت فهبط جبرائيل عليه السلام وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق فالطاغوت كعب بن الأشرف سمي به لإفراطه في الطغيان وعداوة الرسول وفي معناه ومن يحكم بالباطل ويؤثر لأجله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 230
{وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} أي : والحال أنهم قد أمروا أن يتبرأ من الطاغوت {وَيُرِيدُ الشَّيْطَـانُ} أي : كعب بن الأشرف أو حقيقة الشيطان عطف على يريدون {أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـا بَعِيدًا} أي اضلالاً بعيداً لا غاية له فلا يهتدون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي : للمنافقين {تَعَالَوا} أي : جيئوا {إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} أي : إلى ما أمره في كتابه {وَإِلَى الرَّسُولِ} وإلى ما أمره رسوله {رَأَيْتَ الْمُنَـافِقِينَ} إظهار المنافقين في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم والرؤية بصرية {يَصُدُّونَ عَنكَ} حال من المنافقين {صُدُودًا} أي يعرضون عنك إعراضاً وأي : إعراض {فَكَيْفَ} يكون حالهم وكيف يصنعون يعني أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمراً ولا يوردونه {إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةُ} أي وقت إصابة المصيبة إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقهم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عملوا من الجنايات التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت وعدم الرضى بحكم الرسول.
{ثُمَّ جَآءُوكَ} للاعتذار عما صنعوا من القبائح وهو عطف على إصابتهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} حال من فاعل جاؤك {إِنْ أَرَدْنَآ إِلا إِحْسَـانًا وَتَوْفِيقًا} أي : ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا سخطاً لحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار {أولئك} أي : المنافقون {الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من النفاق فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي : لا تقبل اعتذارهم ولا تفرج عنهم بدعائك.
{وَعِظْهُمْ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 230
أي : ازجرهم عن النفاق والكيد {وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ} أي في حق أنفسهم الخبيثة وقلوبهم
230
(2/182)
المطوية على الشرور التي يعلمها الله تعالى أو في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم مساراً بالنصيحة لأنها في السرانجع {قَوْا بَلِيغًا} مؤثراً وأصلاً إلى كنه المراد مطابقاً لما سبق له المقصود والقول البليغ بأن يقول إن الله يعلم سركم وما في قلوبكم فلا يغني عنكم إخفاؤه فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم من رذيلة الكفر وداووها من مرض النفاق وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك وشراً من ذلك واغلظ عسى أن تنجع فيهم الموعظة {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما أرسلنا رسولاً من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى في طاعته وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه لأنه مؤد عنه تعالى وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} وعرضوها للعذاب بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك تائبين من النفاق {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} بالتوبة والإخلاص {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} بأن يسأل الله أن يغفر لهم عند توبتهم.
فإن قلت : لو تابوا على وجه صحيح لقبلت توبتهم فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم.
قلت : التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله وكان أيضاً إساءة إلى الرسول عليه السلام وإدخالاً للغم إلى قلبه عليه السلام ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الغير {لَوَجَدُوا اللَّهَ} لصادفوه حال كونه تعالى {تَوَّابًا} مبالغاً في قبول التوبة {رَّحِيمًا} مبالغاً في التفضل عليهم بالرحمة بدل من توابا {فَلا} أي ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم فقال : {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي : يجعلونك حكماً يا محمد ويترافعوا إليك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه {ثُمَّ لا يَجِدُوا} عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتقضى بينهم ثم لا يجدوا {فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} أي مما قضيت به يعني يرضون بقضائك ولا تضيق صدورهم من حكمك {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وينقادوا لك انقياداً بظاهرهم وباطهم.
وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلّم فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم فاتباع الرسول عليه السلام فرض عين في الفرائض العينية وفرض كفاية في الفروض على سبيل الكفاية وواجب في الواجبات وسنة في السنن وهكذا ومخالفته تزيل نعمة الإسلام :
جزء : 2 رقم الصفحة : 230
خلاف يمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهدرسيد
فالنبي صلى الله عليه وسلّم هو الدليل في طريق الحق ومخالفة الدليل ضلالة ، قال الحافظ :
بكوى عشق منه بي دليل راه قدم
كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئت به" وقال عليه السلام : "من ضيع سنتي" أي جعلها ضائعة بعدم اتباعها "حرمت عليه شفاعتي" وقال صلى الله عليه وسلّم "من حفظ سنتي أكرمه الله تعالى بأربع خصال : المحبة في قلوب البررة ، والهيبة في قلوب الفجرة ، والسعة في الروق ، والثقة في الدين" فإنما أمته من اتبعه ولا يتبعه إلا من أعرض عن الدنيا فإنه عليه السلام ما دعا إلا إلى الله تعالى
231
واليوم الآخر وما صرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة فبقدر ما أعرضت عنها وأقبلت على الله وصرفت الأوقات لأعمال الآخرة فقد سلكت سبيله الذي سلكه وبقدر ذلك اتبعته وبقدر ما اتبعته صرت من أمته ولو أنصفنا لعلمنا أننا من حين نمسي إلى حين نصبح لا نسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا نتحرك إلا لأجل الدنيا الفانية ثم نطمع في أن نكون غداً من أمته واتباعه.
(2/183)
ـ روي ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لَيأتي على الناس زمان تخلق سنتي فيه وتتجدد فيه البدعة فمن اتبع سنتي يومئذٍ صار غريباً وبقي وحيداً ومن اتبع بدع الناس وجد خمسين صاحباً أو أكثر" فقال الصحابة يا رسول الله عليك السلام هل بعدنا أحد أفضل منا؟ قال : "بلى" قالوا : أفيرونك يا رسول؟ قال : "لا" قالوا : فكيف يكونون فيها؟ قال : "كالملح في الماء تذوب قلوبهم كما يذوب الملح في الماء" قالوا : فكيف يعيشون في ذلك الزمان؟ قال : "كالدود في الخل" قالوا : كيف يحفظون دينهم يا رسول الله؟ قال : "كالفحم في اليد إن وضعته طفىء وإن أمسكته أو عصرته أحرق اليد" وعن أبي نحيج العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا قال : "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" فعلى المؤمن أن يتبع سنة الرسول ويجتنب عن كل ما هو بدعة وضلالة ويصلح ظاهره بالشريعة وباطنه بالطريقة حتى ينال شفاعته صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة ويتخلص من عذاب النار ويدخل الجنة مع الأبرار.
فالمؤمن في الآخرة في الجنات كشجرة مثمرة لا تنفك عن البستان.
والمنافق في الدركات كشجرة غير مثمرة تقلع من البستان وتوقد بها النار ، قال الفردوسي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 230
درختي كه شيرين بود باراو
نكردد كسى كرد ازار او
وكر زانك شيرين نباشد برش
زاي اندر آرند ناكه سرش
بماند بباغ آن ورد آتش اين
تو خواهي نان باش وخواهي نين
جزء : 2 رقم الصفحة : 230
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أي : أوجبنا أو فرضنا على هؤلاء المنافقين.
{أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـارِكُم} كما أوجبناه على بني إسرائيل حين طلبوا التوبة من ذنوبهم {مَّا فَعَلُوهُ} أي المكتوب المدلول عليه بكتبنا {إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} إلا ناس قليل منهم وهم المخلصون {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من متابعة الرسول وطاعته والمشي تحت رايته والانقياد لما يراه ويحكم به ظاهراً وباطناً وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ لاقترانها بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب {لَكَانَ} أي فعلهم ذلك {خَيْرًا لَّهُمْ} أي : أحمد عاقبة في الدارين {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} لهم على الإيمان وأبعد من الاضطراب فيه {وَإِذَا} كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا {لاتَيْنَـاهُم مِّن لَّدُنَّآ} من عندنا {أَجْرًا عَظِيمًا} ثواباً كثيراً في الآخرة لا ينقطع {وَلَهَدَيْنَـاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} يصلون بسلوكه إلى عالم القدس ويفتح لهم أبواب الغيب قال صلى الله عليه وسلّم "من عمل بما علم ورثه الله علم
232
ما لم يعلم".
واعلم أن قتل النفس في الحقيقة قمع هواها التي هي حياتها وإفناء صفاتها والخروج من الديار خروج من المقامات التي سكنت القلوب بها وألفتها من الصبر والتوكل والرضى والتسليم وأمثالها لكونها حاجبة عن التوحيد والفناء في الذات كما قال الحسين بن منصور لإبراهيم بن أدهم حين سأله عن حاله وأجابه بقوله أدور في الصحاري وأطوف في البراري بحيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر هل حالي حال التوكل أو لا؟ فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 232
جان عارف دوست را طالب شده
نور حق باستيش غالب شده
رتو ذات از حجاب كبريا
كرده اورا غره بحر فنا
وعن إبراهيم بن أدهم قال : دخلت جبل لبنان فإذا أنا بشاب قائم وهو يقول : يا من شوقي إليه وقلبي محب له ونفسي له خادم وكلي فناء في إرادتك ومشيئتك فأنت ولا غيرك متى تنجيني من هذه العذرة قلت : رحمك الله ما علامة حب الله؟ قال : اشتهاء لقائه قلت : فما علامة المشتاق؟ قال : لا له قرار ولا سكون في ليل ولا نهار من شوقه إلى ربه قلت : فما علامة الفاني؟ قال : لا يعرف الصديق من العدو ولا الحلو من المر من فنائه عن رسمه ونفسه وجسمه قلت : فما علامة الخادم قال : إنه يرفع قلبه وجوارحه وطمعه من ثواب الله ، قال الحافظ قدس سره :
توبندكي و كدايان بشرط مزد مكن
كه دوست خودروش بنده روري داند
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يكونن أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل ولا كالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل" وبالجملة إنه لا بد للسالك من إقامة وظائف العبادات والأوراد فإن الله أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات فإن من فاته صنف أو أعوزه من الموافقات جنس فقد من النور بمقدار ذلك وليس للوصول سبيل ولا إلى الفناء دليل غير العبودية وترك ما سوى الحق.
بشب حلاج راديدند در خواب
بريده سر بكف برجام جلاب
بدو كفتند وني سر بريده
(2/184)
بكو تا يست اين جام كزيده
نين كفت اوكه سلطان نكونام
بدست سر بريده ميدهد جام
كسى اين جام معنى ميكند نوش
كه كرداول سر خودرافر اموش
كما قيل : من لم يركب الأهوال لم ينل الأموال فيا أيها العبد الذي لا يفعل ما يوعظ به ولا يخاف من ربه كيف تركت ما هو خير لك وأعرضت عما ينفعك فليس لك الآن إلا التوبة عما يوقعك في المعاصي والمنهيات والرجوع إلى الله بالطاعات والعبادات والفناء عن الذات بالإصغاء إلى المرشد الرشيد الواصل إلى سر التفريد وقبول أمره وعظته وتسليم النفس إلى تربيته ودوام المراقبة في الطريق ومن الله التوفيق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 232
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} والمراد بالطاعة هو الانقياد التام والامتثال الكامل بجميع الأوامر والنواهي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
ـ روي ـ أن ثوبان مولى رسول الله أتاه يوماً وقد تغير وجهه ونحل جسمه فسأله عن حاله فقال : ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة على لقائك ثم ذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني
233
عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلتك وإن لم أدخل فذاك حين أراك ابداً فنزلت فقال صلى الله عليه وسلّم "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين" فأولئك إشارة إلى المطيعين {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} أي : أتم الله عليهم النعمة وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد إلى الله وأرفعهم درجات عنده {مِّنَ النَّبِيِّانَ} بيان للمنعم عليهم وهم الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل {وَالصِّدِّيقِينَ} المبالغين في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها {وَالشُّهَدَآءِ} الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق حتى بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة الله {وَالصَّـالِحِينَ} الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته وليس المراد بالمعية الاتحاد في الدرجة لأن التساوي بين الفاضل والمفضول لا يجوز ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعد ما بينهما من المسافة {وَحَسُنَ أُوالَـائِكَ رَفِيقًا} في معنى التعجب كأنه قيل وما أحسن أولئك رفيقاً أي النبيين ومن بعدهم ورفيقاً تمييز وإفراده لما أنه كالصديق والخليط والرسول يستوي فيه الواحد والمتعدد والرفيق الصاحب مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولاً وفعلاً {ذَالِكَ الْفَضْلُ} مبتدأ والفضل صفته وهو إشارة إلى ما للمطيعين من عظيم الأجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء المنعم عليهم {مِّنَ اللَّهِ} خبره أي لا من غيره {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
وهذه الآية عامة في جميع المكلفين إذ خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ فكل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات والمراتب الشريفة عند الله تعالى :
ـ روي ـ عن بعض الصالحين أنه قال : أخذتني ذات ليلة سنة فنمت فرأيت في منامي كأن القيامة قد قامت وكأن الناس يحاسبون فقوم يمضي بهم إلى الجنة وقوم يمضي بهم إلى النار قال : فأتيت الجنة فناديت يا أهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنان في محل الرضوان؟ فقالوا لي : بطاعة الرحمان ومخالفة الشيطان ثم أتيت باب النار فناديت يا أهل النار بماذا نلتم النار؟ قال : بطاعة الشيطان ومخالفة الرحمان :
كجا سربر آريم ازين عاروننك
كه با او بصلحيم وباحق بجنك
نظر دوست تادر كند سوى تو
ودر روى دشمن بودروى تو
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل : ومن أبى؟ قال : "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" فعلى المرء أن يتبع الرسول ويتبع أولياء الله فإن الأنبياء لهم وحي إلهي والأولياء لهم الهام رباني والاتباع لهم لا يخلو عن الاتباع للرسول قال عليه السلام : "المرء مع من أحب" فإن أحب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين كان معهم في الجنة.
وفي الآية تنبيه على أنه ينبغي للعبد أن لا يتأخر من مرتبة الصلاح بل يسعى في تكميل الصلاح ثم يترقى إلى مرتبة الشهادة ثم إلى الصديقية وليس بين النبوة وبين الصديقية
234
(2/185)
واسطة رزقنا الله وإياكم الفوز بهذا النعيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" وأقل الصدق استواء السر والعلانية والصادق من صدق في أقواله والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله.
وكان جعفر الخواص يقول : الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه وثمرات الصدق كثيرة فمن بركاته في الدنيا أنه حكي عن أبي عمر الزجاجي أنه قال : ماتت أمي فورثت داراً فبعتها بخمسين ديناراً وخرجت إلى الحج فلما بلغت بابل استقبلني واحد من القافلة وقال : أي شيء معك؟ فقلت من نفسي الصدق خير ثم قلت : خمسون ديناراً فقال : ناولنيها فناولته الصرة فحلها فإذا هي خمسون وقال لي : خذها فلقد أخذني صدقك ثم نزل عن الدابة وقال : اركبها فقلت : لا أريد فقال : لا وألح فركبتها فقال : وأنا على أثرك فلما كان العام القابل لحق بي ولازمني حتى مات ، قال الحافظ قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست
يعني أن الصبح الكاذب تعقبه الظلمة والصبح الصادق يعقبه النور فمن صدق فقد بهر منه النور يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي : تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم يقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه {فَانفِرُوا} فاخرجوا إلى جهاد العدو {ثُبَاتٍ} جماعات متفرقة سرية بعد سرية إلى جهات شتى وذلك إذا لم يخرج النبي عليه السلام.
جمع ثبة وهي جماعة من الرجال فوق العشرة ومحلها النصب على الحالية {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة وذلك إذا خرج النبي عليه السلام.
{وَإِنَّ مِنكُمْ} خطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلهم المؤمنين والمنافقين {لِّمَنِ} الذي أقسم بالله {لَّيُبَطِّئَنَّ} ليتأخرن عن الغزو ويتخلفن تثاقلاً من بطأ لازم بمعنى أبطأ أو ليبطئن غيره ويثبطه عن الجهاد وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبي وهو الذي يثبط الناس يوم أحد والأول أنسب لما بعده وهو قوله تعالى حكاية يا الَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ} وبالجملة المراد بالمبطئين المنافقون من العسكر لأنهم كانوا يغزون نفاقاً {فَإِنْ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} نالتكم نكبة من الأعداء كقتل وهزيمة {قَالَ} أي : المبطىء فرحاً بصنعه وحامداً لربه {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ} أي : بالقعودوالتخلف عن القتال {إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} أي حاضراً في المعركة فيصيبني ما أصابهم {وَلَـاـاِنْ أَصَـابَكُمْ فَضْلٌ} كائن {مِّنَ اللَّهِ} كفتح وغنيمة {لَيَقُولَنَّ} ندامة على تثبيطه وقعوده وتهالكاً على حطام الدنيا وتحسراً على فواته {كَأَن لَّمْ تَكُنا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَه مَوَدَّةٌ} اعتراض وسط بين الفعل ومفعوله الذي هو قوم
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
يا الَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ} في تلك الغزوة {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي آخذ حظاً وافراً من الغنيمة وإنما وسعه بينهما لئلا يفهم من مطلع كلامه أن تمنيه معية المؤمنين لنصرتهم ومظاهرتهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على المال كما ينطق به آخره وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم {فَلْيُقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاخِرَةِ} أي : يبيعونها بها ويأخذون الآخرة بدلها
235
(2/186)
وهم المؤمنون فالفاء جواب شرط مقدر أي إن بطأ هؤلاء عن القاتل فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون فالفاء للتعقيب أي ليتركوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق القعود عن القتال في سبيل الله {وَمَن يُقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره وعدله الأجر العظيم غلب أو غلب ترغيباً في القتال أو تكذيباً لقولهم قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً وإنما قال : فيقتل أو يغلب تنبيهاً على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين بالظفر والغلبة ولا يخطر بباله القسم الثالث أصلاً وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل بل إلى إعلاء الحق وإعزاز الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه" مع ما نال من أجر وغنيمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" وذلك بأن تدعوا عليهم بالخذلان والهزيمة وللمسلمين بالنصر والغنيمة وتحرضوا القادرين على الغزو وفي الحديث "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا" أي : كان خلفاً لأهل بيته في إقامة حوائجهم وتتميم مصالحهم وفضائل الجهاد لا تكاد تضبط.
فعلى المؤمن أن يكون في طاعة ربه بأي وجه كان من الوجوه التعبدية فإن الآية الأولى وهي قوله : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} الآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الحيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات :
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "بادروا بالأعمال قبل أن تجيىء فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا" وعن الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقي من الحجاج فقال : اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشد منه شراً حتى تتقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلّم
روزي اكر غمي رسدت تنك دل مباش
روشكر كن مبادكه ازبد بترشود
واعلم أن العدة والسلاح في جهاد النفس والشيطان يعني آلة قتالهما ذكر الله وبه يتخلص الإنسان من كونه أسير الهوى النفساني قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده" وعن أبي واقد الحارث بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذهب واحد فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها.
وأما الآخر فجلس خلفهم.
وأما الثالث فادبر ذاهباً فلما فرغ
236
رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستح يا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
بذ كرش هره بيني درخروشست
دلى داند درين معنى كه كوشست
نه بلبل بركلش تسبيح خوانيست
كه هر خاري بتوحيدش زبانيست
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
(2/187)
{وَمَا لَكُمْ} أي : أي شيء حصل لكم من العلل أيها المؤمنون حال كونهم {لا تُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي تاركين القتال يعني لا عذر لكم في ترك المقاتلة وهذا استفهام بمعنى التوبيخ ولا يقال ذلك إلا عند سبق التفريط {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} عطف على السبيل بحذف المضاف لا على اسم الله وإن كان أقرب لأن خلاص المستضعفين سبيل الله لا سبيلهم والمعنى في سبيل الله وفي خلاص الذين استضعفهم الكفار بالتعذيب والأسر وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد وإنما خصهم بالذكر مع أن سبيل الله عام في كل خير لأن تخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ} بيان للمستضعفين والولدان الصبيان جمع ولد وإنما ذكرهم معهم تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الوالدان غير المكلفين إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء.
ودلت الآية على أن استنقاذ الأساري من المسلمين من أيدي الكفار واجب بما قدروا عليه من القتال وإعطاء المال {الَّذِينَ} صفة للمستضعفين {يَقُولُونَ} يعني لا حيلة لهؤلاء المستضعفين ولا ملجأ إلا الله فيقولون داعين {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ} مكة {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} بالشرك الذي هو ظلم عظيم وبأذية المسلمين
جزء : 2 رقم الصفحة : 237
{وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} أي ول علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا يحفظ علينا ديننا وشرعنا {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} ينصرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة قبل الفتح وجعل لمن بقي منهم إلى الفتح خير ولي وأعز ناصر ففتح مكة على يدي نبيه صلى الله عليه وسلّم فتولاهم أي تولية ونصرهم أي نصرة ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فجعل يضعف قدر الضعيف للحق ويعز العزيز بالحق فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا حتى صاروا أعز أهلها {الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله الحق الموصل لهم إلى الله عز وجل في إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّـاغُوتِ} أي فيما يوصلهم إلى الشيطان فلا ناصر لهم سواه {فَقَـاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَـانِ} كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياء الشيطان {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ} الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال {كَانَ ضَعِيفًا} أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله بالكافرين ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه وهذا كما يقال للحق دولة وللباطل جولة قالوا : إدخال كان في أمثال هذه المواقع لتأكيد بيان أنه منذ كان كان كذلك
237
فالمعنى أن كيد الشيطان منذ كان كان موصوفاً بالضعف.
قال الإمام في تفسيره : {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ كَانَ ضَعِيفًا} لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أوليائه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة ، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرضوا ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا طللهم ، قيل : النار حفت بالشهوات وأن في كل نفس شيطاناً يوسوس إليها وملكاً يلهمها الخير فلا يزال الشيطان يزين ويخدع ولا يزال الملك يمنعها ويلهمها الخير فأيهما كانت النفس معه كان هو الغالب.
قيل : إن كيد الشيطان والنفس بمثابة الكلب إن قاومته مزق الاهاب وقطع الثياب وإن رجعت إلى ربه صرفه عنك برفق فالله تعالى جعل الشيطان عدواً للعباد ليوحشهم به إليه وحرك عليهم النفس ليدوم إقبالهم عليه فكلما تسلطا عليهم رجعوا إليه بالافتقار وقاموا بين يديه على نعت اللجأ والاضطرار.
قال أحمد بن سهل أعداؤك أربعة : الدنيا وسلاحها لقاء الخلق وسجنها العزلة ، والشيطان وسلاحه الشبع وسجنه الجوع ، والنفس وسلاحها النوم وسجنها السهر ، والهوى وسلاحه الكلام وسجنه الصمت.
جزء : 2 رقم الصفحة : 237
واعلم أن كيد الشيطان ضعيف في الحقيقة فإن الله ناصر لأوليائه كل حين ويظهر ذلك الإمداد في نفوسهم بسبب تزكيتهم النفس وتخلية القلب عن الشواغل الدنيوية واملاء أسرارهم بنور التوحيد فإن الشيطان ظلماني يهرب من النوراني لا محالة.
(2/188)
ـ روي ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استأذن يوماً على النبي عليه السلام وعنده نساء من قريش يسألنه عالية أصواتهن على صوته فلما دخل ابتدرن الحجاب فجعل صلى الله عليه وسلّم يضحك فقال : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال صلى الله عليه وسلّم "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك بادرن الحجاب" فقال عمر : أنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم أقبل عليهن فقال : أي : عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلن : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله فقال عليه السلام : "يا ابن الخطاب فوالذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك".
ـ وروي ـ عن وهب بن منبه أنه قال : كان عابد في بني إسرائيل أراد الشيطان أن يضله فلم يستطع من أي جهة أراده من الشهوة والغضب وغير ذلك فأراده من قبل الخوف وجعل يدلي الصخرة من الجبل فإذا بلغه ذكر الله تباعد عنه ثم تمثل بالحية وهو يصلي فجعل يلتوي على رجليه وجسده حتى يبلغ رأسه وكان إذا أراد السجود التوى في موضع رأسه فجعل ينحيه بيده حتى يتمكن من السجود فلما فرغ من صلاته وذهب جاء إليه الشيطان فقال له : فعلت لك كذا وكذا فلم أستطع منك على شيء فأريد أن أصادقك أي أن أكون صديقاً لك فإني لا أريد ضلالتك بعد اليوم فقال العابد : ما لي حاجة في مصادقتك فقال الشيطان : ألا تسألني بأي شيء أضل به بني آدم قال : نعم قال : بالشح والحدة والسكر فإن الإنسان إذا كان شحيحاً قللنا ماله في عينه فيمنعه من حقوقه ويرغب في أموال الناس :
كريمانرا بدست اندر درم نيست
خداوندان نعمت را كرم نيست
وقيل في بعض الأشعار :
238
باشد وابر بي مطر وبحر بي كهر
آنراكه باجمال نكوجود بارنيست
وإذا كان الرجل حديداً أدرناه بيننا كما يدير الصبيان الاكرة ولو كان يحيي الموتى لم نبال به :
اكر آيد زدوستي كنهي
بكناهي نشايد آزردن
ور زبانرا بعذر بكشايد
بايدت خشم را فروخردن
زانكة نزديك عاقلان بترست
عفو ناكردن ازكنه كردن
وأما إذا سكر قدناه إلى كل شيء كما تقاد العنز بإذنها :
مي مزيل عقل شد أي ناخلف
جزء : 2 رقم الصفحة : 237
تابندي ميخوري در روزكار
آدمي را عقل بايد دربدن
ورنه جان دركالبد دارد حمار
فعلى العاقل أن يجاهد في سبيل الله فإن المجاهدة على حقيقتها تقوي الروح الضعيف الذي استضعفه النفس بالاستيلاء عليه ويتضرع إلى الله بالصدق والثبات حتى يخرج من قرية البدن الظالم أهلها وهوالنفس الأمارة بالسوء ويتشرف بولاية الله تعالى في مقام الروح رزقنا الله وإياكم فتح باب الفتوح آمين يا ميسر كل عسير.
جزء : 2 رقم الصفحة : 237
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} .
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
(2/189)
ـ روي ـ أن ناساً أتوا النبي صلى الله عليه وسلّم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة وشكوا إليه ما يلقون من أذى المشركين قالوا : كنا في عز في حالة الجاهلية والآن صرنا أذلة فلو أذنت لنا قتلنا هؤلاء المشركين على فرشهم فقال صلى الله عليه وسلّم "كفوا أيديهم" أي أمسكوا "عن القتال" {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ} واشتغلوا بما أمرتم به فإني لم أومر بقتالهم وكانوا في مدة إقامتهم بمكة مستمرين على تلك الحالة فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأمروا بالقتال في وقت بدر كرهه بعضهم وشق ذلك عليه لكن لا شكا في الدين ولا رغبة عنه بل نفوراً من الأخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجب الجبلة البشرية لأن حب الحياة والنفرة من القتل من لوازم الطباع وذلك قوله تعالى : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} أي : فرض عليهم الجهاد {إِذَا فَرِيقٌ} إذا للمفاجأة وفريق مبتدأ {مِّنْهُمْ} صفة {يَخْشَوْنَ النَّاسَ} خبره والجملة جواب لما أي فاجأ فريق منهم أن يخشو الكفار أن يقتلوهم {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} مصدر مضاف إلى المفعول محله النصب على أنه حال من فاعل يخشون أي يخشونهم متشبهين بأهل خشية الله تعالى {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} عطف عليه بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية الله وكلمة أو للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله أو خشية بعضهم أشد منها {وَقَالُوا} عطف على جواب لما أي فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا : {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} في هذا الوقت لا على وجه الاعتراض على حكمه تعالى والإنكار لإيجابه بل على طريقة تمني التخفيف {لَوْلا أَخَّرْتَنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي هلا أمهلتنا وتركتنا إلى الموت حتى نموت بآجالنا على الفراش وهذا استزادة في مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر حذراً من الموت وحباً للحياة {قُلِ} أي : تزهيداً لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي {مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} أي : ما يتمتع وينتفع به في الدنيا سريع النقض وشيك الانصرام وإن
239
أخرتم إلى ذلك الأجل ولو استشهدتم في القتال صرتم أحياء فتتصل الحياة الفانية بالحياة الباقية {وَالاخِرَةُ} أي ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالقتال.
{خَيْرٍ} لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وإنما قيل : {لِّمَنِ اتَّقَى} حثاً لهم على اتقاء العصيان والإخلاص بمواجب التكليف {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} عطف على مقدر أي تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم التي من جملتها مسعاتكم في شأن القتال فلا ترغبوا عنه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
اعلم أن الآخرة خير من الدنيا لأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة ونعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ونعم الآخرة صافية عن الكدورات ونعم الدنيا مشكوكة فإن أعظم الناس تنعماً لا يعرف أنه كيف تكون عاقبته في اليوم الثاني ونعم لآخرة يقينية.
فعلى العاقل أن يختار ما هو خير من كل وجه وهو الآخرة على ما هو شر من كل جهة وهو الدنيا ، قال السعدي في بعض قصائده :
عمارت باسراي ديكر انداز
كه دنيارا أساسي نيست محكم
فريدون را سرآمد ادشاهي
سليما نرا برفت ازدست خاتم
وفاداري مجوى ازدهر خو نخوار
محالست انكبين دركام ارقم
مثال عمر سربر كرده شمعيست
كه كوته باز مى باشد دمادم
ويا برفي كدازان بر سركوه
كزو هو لحظه جزئي ميشودكم
ـ روي ـ أن رجلاً اشترى داراً فقال لعلي ـ رضي الله عنه ـ : اكتب القبالة فكتب (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد اشترى مغرور من مغرور داراً دخل فيها في سكة الغافلين لا بقاء لصاحبها فيها الحد الأول ينتهي إلى الموت والثاني إلى القبر والثالث إلى الحشر والرابع إلى الجنة أو إلى النار والسلام) فقرأ على الرجل فرد الدار وتصدق بالدنانير كلها وتزهد في الدنيا فهذا هو حال العارفين حقيقة الحال.
قال القشيري رحمه الله مكنك من الدنيا ثم قللها فلم يعدها لك شيئاً ثم لو تصدقت منها بشق تمرة استكثر منك وهذا غاية الكرم وشرط المحبة وهو استقلال الكثير من نفسه واستكثار القليل من حبيبه وإذا كان قيمة الدنيا قليلة فاخس من الخسيس من رضي بالخسيس بدلاً من النفس وقال : إن الله تعالى اختطف المؤمن من الكون بالتدريج فقال أولاً : {قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} فاختطفهم من الدنيا بالعقبى ثم استلبهم عن الكونين بقوله : {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فلا بد للسالك أن يترقي إلى أعلى المنازل ويسعى من غير فتور وكلال ، قال مولانا جلال الدين قدس سره :
أي برادر بي نهايت دركهيست
هركجا كه مى رسى بالله مايست
وثمرة المجاهدة لا تضيع البتة بل تجزي كل نفس بما عملت.
(2/190)
قال بعض المشايخ إنما جعل الدار الآخرة محلاً لجزاء عباده المؤمنين لأن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم ظاهراً وباطناً وكل ما في الجنة لا يوافق ما في الدنيا إلا من حيث التسمية ولأنه تعالى أجل أقدارهم عن أن يجازيهم في دار لا بقاء لها قال تعالى : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىا} ثم الجزاء في تلك الدار له علامة في هذه الدار وهي أنه من وجد ثمرة عمله عاجلاً وهي الحلاوة فيه والتوفيق لغيره والشكر عليه
240
فهو دليل على وجود القبول لأن الجزاء على ذلك مقصور.
قال إبراهيم بن أدهم : لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال بعضهم : ليس شيء من البر إلا ودونه عقبة يحتاج إلى الصبر فيها فمن صبر على شدتها أفضى إلى الراحة والسهولة وإنما هي مجاهدة النفس ثم مخالفة الهوى ثم المكابدة في ترك الدنيا ثم اللذة والتنعم وإنما يطيع العبد ربه على قدر منزلته منه فمن سره أن يعوف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله في قلبه.
وقيل لبعضهم : هل تعرف الله؟ فغضب وقال : تراني أعبد من لا أعرف فقال له السائل : أو تعصي من تعرف ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
عمري كه ميرود بهمه حال سعى كن
تادر رضاي خالق بيون بسر بري
وقال أيضاً :
ير بودي وره ندانستي
تونه يرى كه طفل كتابي
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} المقدر بالأجل أو العذاب وفي لفظ الإدراك إشعار بأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم وهو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب {وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} أي وإن كنتم في قصور عالية إلى السماء محكمة بالشيد وهو الجص لا يصعد إليها بنو آدم.
قال مجاهد في هذه الآية : كان فيمن قبلكم امرأة وكان لها أجير فولدت جارية فقالت لأجيرها : اقتبس لنا ناراً فخرج فوجد بالباب رجلاً فقال له الرجل : ما ولدت هذه المرأة قال : جارية قال : أما هذه الجارية لا تموت حتى تزني بمائة ويتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت فقال الأجير في نفسه : فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة لأقتلنها فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصغيرة وخرج على وجهه وركب البحر وخيط بطن الصبية فعولجت وبرئت وشبت فكانت تزني فأتت ساحلاً من ساحل البحر فأقامت عليه تزني ولبث الرجل ما شاء الله ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير فقال لامرأة من أهل الساحل : اطلعي لي امرأة من أجمل النساء أتزوجها فقالت : ههنا امرأة من أجمل النساء ولكنها تفجر فقال : ائتيني بها فأتتها فقالت : قد قدم رجل له مال كثير وقال لي كذا وكذا فقالت : إني تركت الفجور ولكن إن أراد أن يتزوجني تزوجته قال : فتزوجها فوقعت منه موقعاً فبينما هو يوماً عندها إذ أخبرها بأمره فقالت : أنا تلك الجارية وأرته الشق في بطنها وقد كنت أفجر فما أدري بمائة أو أقل أو أكثر فقال زوجها في نفسه : إن الرجل الذي كان خارج الباب قال : يكون موتها بالعنكبوت ثم أخبرها بذلك قال : فبنى لها برجاً في الصحراء وشيده فبينما هي يوماً في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف فقالت : هذا يقتلني لأقتلنه إذ لا يقتله أحد غيري فحركته فسقط فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته فساح سمه بين ظفرها واللحم فاسودت رجلها فماتت وفي ذلك نزلت هذه الآية {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ولا أجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك مستعداً لذلك قال عليه السلام : "أكثروا ذكرها ذم اللذات" يعني الموت وهو كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه اللذة الحاضرة ومنعه من تمنيها في المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل ولكن النفوس
241
الراكدة والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ وإلا ففي قوله عليه السلام : "أكثروا ذكر هاذم اللذات" مع قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} ما يكفي السامع ويشغل الناظر فيه ، قال الحافظ قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
سهر برشده رويزنست خون افشان
كه ريزه اش سركسري وتاج رويزست
قال السعدي قدس سره :
جهان أي سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفاداري اميد نيست
نه برباد رفتى سحركاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدى كه برباد رفت
خنك آنكه بادانش وداررفت
(2/191)
والإشارة في الآية أن يا أهل البطالة في زي الطلبة الذين غلب عليكم الهوى وحبب إليكم الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى ثم رضيتم بالحياة الدنيا واطمأننتم بها {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} اضطراراً إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختياراً {وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} أي أجساد مجسمة قوية أمزجتها أوصلنا الله وإياكم إلى حقيقة الفناء والبقاء آمين {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي نعمة كخصب {يَقُولُوا هَـاذِه مِنْ عِندِ اللَّهِ} نسبوها إلى الله {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلية كقحط {يَقُولُوا هَـاذِه مِنْ عِندِكَ} أضافوها إليك يا محمد وقالوا : إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها {قُلْ كُلٌّ} من الحسنة والسيئة {مِنْ عِندِ اللَّهِ} يبسط ويقبض حسب إرادته {فَمَالِ هَـاؤُلاءِ الْقَوْمِ} أي أي شيء حصل لليهود والمنافقين من العلل حال كونهم {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي لا يقربون من فهم حديث عن الله تعالى كالبهائم ولو فهموا لعلموا أن الكل من عند الله والفقه هو الفهم ثم اختص من جهة العرف بعلم الفتوى {مَّآ أَصَابَكَ} يا إنسان {مِنْ حَسَنَةٍ} من خير ونعمة {فَمَنَّ اللَّهُ} تفضلاً منه فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافىء نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره ولذلك قال عليه السلام : "ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله" قيل : ولا أنت قال : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} من بلية وشيء تكرهه {فَمِن نَّفْسِكَ} لأنها السبب فيها لاستجلابها المعاصي وهو لا ينافي قوله {كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} فإن الكل منه إيجاداً وإيصالاً غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كما قالت عائشة رضي الله عنها : ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يغفر الله أكثر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
واعلم أن للأعمال أربع مراتب : منها مرتبتانتعالى وليس للعبد فيهما مدخل وهما التقدير والخلق ، ومنها مرتبتان للعبد هما الكسب والفعل فإن الله تعالى منزه عن الكسب وفعل السيئة وأنهما يتعلقان بالعبد ولكن العبد وكسبه مخلوق خلقه الله تعالى كما قال : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات : 96) فهذا تحقيق قوله : {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي خلقا وتقديراً لاكسبا وفعلا فافهم واعتقد فإنه مذهب أهل الحق وأرباب الحقيقة كذا في "التأيلات النجمية".
قال الضحاك ما حفظ الرجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ
242
{وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى : 30) قال : فنسيان القرآن من أعظم المصائب {وَأَرْسَلْنَـاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا} (النساء : 79) أي رسولاً للناس جميعاً لست برسول للعرب وحده بل أنت رسول العرب والعجم كقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ : 28) فرسولاً حال قصد بها تعميم الرسالة والجار متعلق بها قدم عليها للاختصاص {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على رسالتك بنصب المعجزات.
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَـاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا} أي الناس الذين قد نسوا الله ونسوا ما شاهدوا منه وما عاهدوا عليه الله وأرسلناك إليهم لتبلغهم كلامنا وتذكرهم أيامنا وتجدد لهم عهودنا وترغبهم في شهودنا وتدعوهم إلينا وتهديهم إلى صراطنا وتكون لهم سراجاً منيراً يهتدون بهداك ويتبعون خطاك إلى أن توصلهم إلى الدرجات العلى وتنزلهم في المقصد الأعلى {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي شاهداً لأحبائه وأوليائه لئلا يكتفوا براحة دون لقائه انتهى ، قال الحافظ قدس سره :
يوسف عزيزم رفت اي برادر آن زمن
كزغمش عجب ديدم حال ير كنعان
وفي الآية تعليم الأدب ورؤية التأثير من الله تعالى.
ـ روي ـ أن أبا بكر رضي الله عنه ابتلى بوجع السن سبع سنين فاعلمه جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسأل عليه السلام عن حاله فقال : "لِمَ لم تذكر يا أبا بكر" فقال : كيف أشكو مما جاء من الحبيب فلا بد من التخلق بالأخلاق الحسنة لأن الكل من عند الله وإنما أرسل الله رسوله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور فإذا تأدبوا بالآداب وصلوا إلى الحقيقة المحمدية ، قال الشيخ العطار :
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
دعوتش فرمود بهر خاص وعام
نعمت خودرا برو كرده تمام
مبعث أو سر نكونى بتان
امت او بهترين امتان
برميان دو كتف خورشيد وار
داشنه مهر نبوت آشكار
(2/192)
وكان خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلّم إشارة إلى عصمته من وسوسة الشيطان لأن الخناس يجيىء من بين الكتفين فيدخل خرطومه قبل قلب الإنسان فيوسوس إليه فإذا ذكر الله خنس وراءه وكان حول خاتم النبوة شعرات مائلة إلى الخضرة مكتوب عليه (محمد نبي أمين) وقيل غير ذلك والتوفيق بين الروايات بتعدد الخطوط وتنوعها بحسب الحالات والتجليات أو بالنسبة إلى أنظار الناظرين ، ثم إنه قد اتفق أهل العلم على أفضلية شهر رمضان لأنه أُنزِل فيه القرآن ثم شهر ربيع الأول لأنه مولد حبيب الرحمن.
وأما أفضل الليالي فقيل ليلة القدر لنزول القرآن فيها ، وقيل ليلة المولد المحمدي لولاه ما أنزل القرآن ولا تعينت ليلة القدر فعلى الأمة تعظيم شهر المولد وليلته كي ينالوا منه شفاعته ويصلوا إلى جواره.
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لأنه في الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى.
ـ روي ـ أنه عليه السلام قال : "من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله" فقال المنافقون لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت {وَمَن تَوَلَّى} أي : أعرض عن طاعته {فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
قوله حفيظاً حال من كاف أرسلناك
243
وعليهم متعلق بحفيظاً {وَيَقُولُونَ} إذا أمرتهم بأمر {طَاعَةٌ} أي : أمرنا وشأننا طاعة {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ} أي : خرجوا {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ} أي : زورت خلاف ما قلت لها يا محمد فالضمير للخطاب أو ما قالت لك من ضمان الطاعة فالضمير للغيبة واشتقاق البيت من البيتوتة ولما كان غالب الأفكار التي يستقصي فيها الإنسان واقعاً في الليل إذ هناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل سمي الفكر المستقصي مبيتاً {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} يثبته في صحائف أعمالهم للمجازاة {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قلل المبالاة بهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في الأمور كلها سيما في شأنهم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} يكفيك معرتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعز أنصاره.
والوكيل هو العالم بما يفوض إليه من التدبير {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 243
يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه وأصل التدبير النظر في أدبار الشيء وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ثم استعمل في كل تأمل {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ} أي : ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} من تناقض المعنى وتفاوت النظم وكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً ، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل ومطابقة بعض أخبار المستقبلة للواقع دون بعض وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية.
وهل يجوز أن يقال بعض كلام الله أبلغ من بعض؟ قال الإمام السيوطي في "الإتقان" : جوزه قوم لقصور نظرهم فينبغي أن يعلم أن معنى قول القائل هذا الكلام أبلغ من هذا الكلام أن هذا في موضعه له حسن ولطف وبلاغة وذاك في موضعه له حسن ولطف وهذا الحسن في موضعه أكمل وأبلغ من ذلك في موضعه فلا ينبغي أن يقال أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) أبلغ من {تُبْتُ} بل ينبغي أن يقال {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} دعاء عليه بالخسران فهل توجد عبارة للدعاء بالخسران أحسن من هذه؟ وكذلك في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) لا توجد عبارة تدل على وحدانيته أبلغ منها فالعالم إذا نظر إلى {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} في باب الدعاء بالخسران ونظر إلى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في باب التوحيد لا يمكنه أن يقول أحدهما أبلغ من الآخر.
وقال بعض المحققين : كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره فـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أفضل من {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} لأن فيه فضيلة الذكر وهو كلام الله وفضيلة المذكور وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته الإيجابية والسلبية وسورة تبت فيها فضيلة الذكر فقط وهو كلام الله تعالى.
قال الغزالي في "جوهر القرآن" : ومن توقف في تفضيل الآيات أوَّل قوله عليه السلام : أفضل سورة وأعظم سورة بأنه أراد في الأجر والثواب لا أن بعض القرآن أفضل من بعض فالكل في فضل الكلام واحد والتفاوت في الأجر لا في كلام الله تعالى من حيث هو كلام الله القديم القائم بذاته تعالى انتهى.
يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة : قولهم إن هذه الآية في غاية الفصاحة كما قال القاضي عند قوله تعالى : {وَقِيلَ يا اأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ} (هود : 44) الآية يشعر بجواز القول بالتفاوت في طبقات الفصاحة كما عليه علماء البلاغة ومن هنا ، قال من قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 243
(2/193)
دربيان ودر فصاحت كي بوديكسان سخن
كره كوينده بود ون جاحظ وون أصمعي
244
در كلام ايزد بيون كه وحى منزلست
كى بود تبت يدا ما نند يا ارض ابلعي
قال العلماء : القرآن يدل على صدقه عليه السلام من ثلاثة أوجه : أحدها اطراد ألفاظه في الفصاحة ، وثانيها : اشتماله على الإخبار عن الغيوب ، والثالث : سلامته من الاختلاف وسبب سلامته منه على ما ذهب إليه أكثر المتكلمين أن القرآن كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله وإنما هو وحي أوحي إليه عليه السلام من عند الله بوساطة جبرائيل فمن أطاعه فيه فقد أطاع الله والإطاعة سبب لنيل المطالب الدنيوية والآخروية ويرشدك على شرف الإطاعة أن كلب أصحاب الكهف لما تبعهم في طاعة الله وعد له دخول الجنة ، كما قال السعدي :
سك أصحاب كهف روزي د
ي مردم كرفت ومردم شد
فإذا كان من تبع المطيعين؟ كذلك فما ظنك بالمطيعين وكما أن من صلى ولم يؤد الزكاة لم تقبل منه الصلاة ومن شكر الله في نعمائه ولم يشكر الوالدين لا يقبل منه فكذلك من أطاع الله ولم يطعع الرسول لا يقبل منه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 243
والإشارة أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان لوصفه بالفناء فانياً في الله باقياً بالله قائماً مع الله فكان خليفة الله على الحقيقة فيما يعامل الخلق حتى قال : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال : 17) وكان الله خليفته فيما يعامله الخلق حتى قال : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الأنفال : 10) ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلّم "الله خليفتي على أمتي" {وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} فإنك لست لك حافظاً فكيف لهم فإنهم تولوا عني لا عنك فإنما علي حسابهم لا عليك وفي قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} إشارة إلى أحوال أكثر مريدي هذا الزمان إذا كانوا حاضرين في الصحبة ينعكس تلألؤ أشعة أنوار الولاية في مرآة قلوبهم فيزدادون إيماناً مع إيمانهم وإرادة مع إرادتهم فيصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الحسنة ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ويقولون السمع والطاعة فيما يسمعون ويخاطبون به {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ} وهب لهم رياح الهوى وشهوة الحرص وتمايلت قلوبهم عن مجازات القرار على الولاية وعاد المشئوم إلى طبعه {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُا وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي يغير عليهم ما يغيرون على أنفسهم لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فاصفح عنهم واصبر معهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} لعل الله يصلح بالهم ولا يجعل التغيير وبالهم ويحسن عاقبتهم وما لهم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} للمتوكلين عليه والملتجئين إليه ثم أخبر عن الدواء كما أخبر عن الداء بقوله : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} والإشارة أن العباد لو كانوا يتدبرون القرآن ويتفكرون في آثار معجزاته وأنوار هداياته ونظم آياته وكمال فصاحته وجمال بلاغته وجزالة ألفاظه ورزانة معانيه ومتانة مبانيه وفي أسراره وحقائقه ودقة إشاراته ولطائفه وأنواع معالجاته لأمراض القلوب من إصابة ضرر الذنوب لوجدوا فيه لكل داء دواء ولكل مرض شفاء ولكل عين قرة ولكل وجه غرة ولرأوا كأسه موصوفاً بالصفاء محفوظاً من القذى بحراً لا ينقضي عجائبه وبراً لا تنتفي غرائبه روحاً لا تباغض فيه ولا خلاف وجثة لا تناقض فيها ولا اختلاف
245
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} ولم يجدوا فيه نقيراً ولا قطميراً انتخبته من "التأويلات النجمية" وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 243
ون تودر قرآن حق بركيختي
باروان انبيا آميختي
هست قرآن حالهاي انبيا
ماهيان بحر اك كبريا
وربخواني ونه قرآن زير
انبياو اوليارا ديده كير
جزء : 2 رقم الصفحة : 243
(2/194)
{وَإِذَا جَآءَهُمْ} أي بلغ ضعفة المسلمين {أَمْرٌ مِّنَ الامْنِ أَوِ الْخَوْفِ} أي : خبر من السرايا الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ظفر وغنيمة أو نكبة وهزيمة {أَذَاعُوا بِهِ} أي أفشوا ذلك الخبر وأظهروه لعدم خبرتهم بالأحوال واستنباطهم للأمور وكانت إذاعتهم مفسدة يقال إذاع السرور أذاع به والباء مزيدة {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي : ذلك الخبر {إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الامْرِ مِنْهُمْ} بترك التعرض له وجعله بمنزلة غير المسموع وتفويض أمره إلى رأي الرسول صلى الله عليه وسلّم ورأى كبار أصحابه كالخلفاء الأربعة أو رأي أمراء السرايا ، فكبار الصحابة أولوا أمر على معنى أنهم البصراء بالأمور وإن لم يكن لهم أمر على الناس والأمراء أولوا الأمر على الناس مع كونهم بصراء بالأمور {لَعَلِمَهُ} أي : لعلم تدبير ما أخبروا به على أي وجه يتذكرونه {الَّذِينَ} أي : الرسول وأولوا الأمر الذين {يَسْتَنابِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجون تدبيره بتجاربهم وأنظارهم الصحيحة ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها.
وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر أول ما تحفر يقال انبط الحفار إذا بلغ الماء وسمي القوم الذين ينزلون بالبطائح بين العراقيين نبطاً لاستنباطهم الماء من الأرض وقيل كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون منه فالمراد بالمستنبطين منهم على كلا الوجهين الرسول وأولوا الأمر.
ومن في قوله يستنبطونه منهم إما تبعيضية وإما بيانية تجريدية.
وفي الآية نهي عن إفشاء السر قيل لبعض الأدباء كيف حفظك للسر قال : أنا قبره ومن هذا قيل صدور الأبرار قبور الأسرار وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 246
وربكوئي بايكي دو الوداع
كل سر جاوز الاثنين شاغنكته كان جست ناكه اززبان
هموتيري دان كه جست آن ازكمانس
وانكردد ازره آن تيراي سر
بند بايد كرد سيلي را زسر
وفي الآية إشارة إلى أرباب السلوك إذا فتح لهم باب من الأنس أو الهيبة أو الحضور أو الغيبة من آثار صفات الجمال والجلال أشاعوه إلى الأغيار ولو كان رجوعهم في حل هذه المشكلات إلى سنن الرسول صلى الله عليه وسلّم وإلى سير أولي الأمر منهم وهم المشايخ البالغون الواصلون ومن كان له شيخ كامل فهو ولي أمره لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهم أرباب الكشوف بحقائق الأشياء فهم الغواصون في بحار أوصاف البشرية المستخرجون من أصداف
246
العلوم درر حقائق المعرفة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بإرسال الرسول وإنزال الكتاب {اتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَـانَ} بالكفر والضلال {إِلا قَلِيلا} أي : إلا قليلاً منكم فإن من خصه الله بعقل راجح وقلب غير متكدر بالانهماك في اتباع الشهوات يهتدي إلى الحق والصواب ولا يتبع الشيطان ولا يكفر بالله وإن فرض عدم إنزال القرآن وبعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهما ممن كان على دين المسيح قبل بعثته.
وقال الشيخ نجم الدين قدس سره في تأويلاته لعل الاستثناء راجع إلى الصديق رضي الله عنه فإنه كان قبل مبعث النبي عليه السلام يوافقه في طلب الحق قالت عائشة رضي الله عنها : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشياً.
ـ وروي ـ عن النبي عليه السلام "كنت وأبو بكر كفرسي رهان سبقته فتبعني ولو سبقني لتبعته" وفي الحقيقة كان النبي عليه السلام فضل الله ورحمته يدل عليه قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا} (الجمعة : 2) إلى قوله : {ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} (الحديد : 21) وقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) فلولا وجود النبي عليه السلام وبعثته لبقوا في تيه الضلالة تائهين كما قال تعالى : {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران : 103) يعني قبل بعضته وكانوا قد اتبعوا الشيطان إلى شفا حفرة من النار وكان عليه السلام فضلاً ورحمة عليهم فأنقذهم منها كما قال تعالى : {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} ، قال الشيخ العطار قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 246
خويشتن راخواجه عرصات كفت
إنما أنا رحمة مهدات كفت
وقال حضرة الهدايي قدس سره :
سرماية سعادت عالم محد است
مقصود ازين طينت آدم محمد است
در صورت آدم آمدا كره مقدما
(2/195)
در معنى بيشوا ومقدم محمد است
كره هدايى رسالت مكرم است
محبوب حق محمد وخاتم محمد است
قال بعض الحكماء : إن الله تعالى خلق محمداً صلى الله عليه وسلّم فجعل رأسه من البركة وعينيه من الحياء وأذنيه من العبرة ولسانه من الذكر وشفتيه من التسبيح ووجهه من الرضى وصدره من الإخلاص وقلبه من الرحمة وفؤاده من الشفقة وكفيه من السخاوة وشعره من نبات الجنة وريقه من عسل الجنة فلما أكمله بهذه الصفة أرسله إلى هذه الأمة فقال : هذا هديتي إليكم فاعرفوا قدر هديتي وعظموه كذا في "زهرة الرياض".
وقيل في وجه عدم ارتحال جسده الشريف النظيف من الدنيا مع أن عيسى عليه السلام قد عرج إلى السماء بجسده أنه إنما بقي جسمه الطاهر هنا لإصلاح عالم الأجساد وانتظامه فإنه مظهر الذات وطلسم الكائنات فجميع الانتظام بوجوده الشريف كذا في "الواقعات المحمودية" نقلاً عن حضرة الشيخ الشهير بافتاده افنده قدس الله سره آمين آمين يا رب العالمين {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} الفاء جزائية والجملة جواب لشرط مقدر أي إن تثبط المنافقون وقصر الآخرون وتركوك وحدك ، فقاتل أنت يا محمد وحدك في الطريق الموصل إلى رضى الله وهو الجهاد ولا تبال مما فعلوا {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} مفعول
247
ثان للفعل المخاطب المجهول أي إلا فعل نفسك لا يضرك لمخالفتهم وتقاعدهم فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود.
والتكلف اسم لما يفعل بمشقة أو بتصنع فالمحمود منه ما فعل بمشقة حتى ألف ففعل بمحبة كالعبادات والمذموم منه ما يتعاطى تصنعاً ورياء {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} على القتال أي : رغبتهم فيه بذكر الثواب والعقاب أو بوعد النصرة والغنيمة وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب لا التعنيف بهم.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة وهي سوق من المدينة على ثمانية أميال ويقال لها حمراء الأسد أيضاً فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية فخرج صلى الله عليه وسلّم في سبعين راكباً فكفاهم الله القتال كما قال : {عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ} أي : يمنع {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} البأس في الأصل المكروه ثم وقع موضع الحرب والقتال قال تعالى : {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا} (الأحزاب : 18) وعسى من الله واجب لأنه في اللغة الإطماع والكريم إذا أطمع أنجز وقد فعل حيث ألقى في قلوب الكفرة الرعب حتى رجعوا من مر الظهران.
جزء : 2 رقم الصفحة : 246
ـ ويروى ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وافى بجيشه بدراً وقام بها ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً وقد مر في سورة آل عمران {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} أي من قريش {وَأَشَدُّ تَنكِيلا} أي تعذيباً وعقوبة ينكل من يشاهدها عن مباشرة ما يؤدي إليها ويجوز أن يكونا جميعاً في الدنيا وأن يكون أحدهما في الدنيا والآخر في العقبى.
ثم له ثلاثة أوجه :
أحدها أن معناه أن عذاب الله تعالى أشد من جميع ما ينالكم بقتالهم لأن مكروههم ينقطع ثم تصيرون إلى الجنة وما يصل إلى الكفار والمنافقين من عذاب الله يدوم ولا ينقطع.
والثاني لما كان عذاب الله أشد فهو أولى أن يخاف ولا يجري في أمره بالقتال منكم خلاف وهذا وعيد.
والثالث لما كان عذاب الله أشد فهو يدفعهم عنكم ويكفيكم أمرهم وهذا وعد وإنما جبن المتقاعدون لشدة بأس الكفار وصولتهم ولكن الله قاهر فوق عباده وقوة اليقين رأس مال الدين والموت تحفة المؤمن الكامل خصوصاً إذا كان في طريق الجهاد والدنيا سريعة الزوال ولا تبقى على كل حال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما ينشد هذه الأبيات :
لا شيء مما نرى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويردى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فيما بينها ترد
اين الملوك التي كانت لعزتها
من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب
لا بد من ورده يوماً كما وردوا
"وفي التأويلات النجمية" {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} المعنى فجاهد في طلب الحق نفسك فإن في طلب الحق لا تكلف نفساً أخرى إلا نفسك وفيه معنى آخر لا تكلف نفس أخرى بالجهاد لأجل نفسك لأن حجابك من نفسك لا من نفس أخرى فدع نفسك وتعال فإنك صاحب يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم اختص بهذا المقام
248
(2/196)
من جميع الأنبياء والمرسلين وأن يكون فاني النفس والذي يدل عليه أن الأنبياء يوم القيامة يقولون لبقاء نفوسهم : نفسي نفسي ويقول النبي عليه السلام لفناء نفسه : أمتي أمتي فافهم جداً ثم قال : {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} على القتال يعني في الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر {عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ظاهراً وباطناً فالظاهر الكفار والباطن النفس {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلا} في استيلاء سطوات صفات قهره عند تجلي صفة جلاله للنفس من بأس الكافر عليها انتهى ، وفي "المثنوي" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 246
اتدرين ره مى تراش ومي خراش
تادم آخر دمى فارغ مباشاي شهام كشتيم ما خصمي برون
ماند خصمي زوان بتردر اندرونكشتن اين كار عقل وهوش نيست
شير باطن سخره خركوش نيست
سهل شيري دانكه صفها بشكند
شير آنست آنكه خودرا بشكند
جزء : 2 رقم الصفحة : 246
{مَّن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّه نَصِيبٌ مِّنْهَا} وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها والشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله تعالى ولم تؤخذ عليها رشوة وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق {وَمَن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً سَيِّئَةً} وهي ما كانت بخلاف الحسنة {يَكُن لَّه نَصِيبٌ مِّنْهَا} أي : نصيب من وزرها مساولها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء.
وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك لا أتكلم فيما بقي منها.
ومن بلاغات الزمخشري شيآن شينان في الإسلام الشفاعة في الحدود والرشوة في الأحكام والحدود عقوبة مقدرة يجب على الإمام إقامتها حقاًتعالى لئلا يتضرر العباد فالتعزير ليس بحد إذ ليس له قدر معين فإن أكثره تسعة وثلاثون سوطاً وأقله ثلاثة وكذا القصاص لا يسمى حداً لأنه حق العبد وهو ولي القصاص ولهذا سقط بالعفو والاعتياض فحد الزنى لغير المحصن مائة جلدة وللعبد نصفها وحد شرب الخمر ثمانون سوطاً للحر وأربعون للعبد مفرقاً على بدنه كما في حد الزنى وحد القذف كحد الشرب فمن قذف محصناً أو محصنة بصريح الزنى حد بطلب المقذوف المحصن لأن فيه حق العبد من حيث دفع العار عنه وكذا طلب المسروق منه شرط القطع في السرقة فهذه حدود لا يجري فيها الشفاعة إذ الحق علم القاضي بالواقعة ولهذا قال في ترجمة "وصايا الفتوحات المكية" (ونزديك حاكم در حدود الله شفاعت مكن از ابن عباس رضي الله عنهما در خواست كردند در باب دزدى شفاعت كند ابن عباس رضي الله عنهما كفت هركه شفاعت كند وهركه قبول كند هردودر لعنت اندرا كربيش آزانكه بحاكم معلوم نشود ميكفتيد مي شد) انتهى.
ولما كانت الشفاعة في القصاص غير الشفاعة في الحدود قال صلى الله عليه وسلّم "ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان" قيل : وكيف ذلك؟ قال : "الشفاعة يحقن بها الدم ويجر بها المنفعة إلى آخر ويدفع بها المكروه عن آخر" ذكره الإمام الغزالي رحمه الله.
وافصح الحديث عن أن الشفاعة هي التوسط بالقول في وصول شخص إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية وخلاصه من مضرة ما كذلك وإذا كانت
249
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
في أمر غير مشروع لا تكون صدقة بل سيئة.
وذكر في ترجمة "الوصايا" أيضاً (ون براي كسى شفاعت كنى وكار او ساخته شود زنهار هديه أو قبول مكن كه رسول الله صلى الله عليه وسلّم انرا جمله ربا نهاده است شيخ أكبر قدس سره الأطهر فرمودكه در بعض بلا عرب يكى ازاعيان مرا بخانه خود دعوت كرد وترتيبي كرده بود وكرامتي مهيا داشته ون طعام احضار كردند اورا بسلطان بلند حاجتي بود ازمن طلب شفاعت كرد وسخن من نزد سلطان ردغايت قبول بود شيخ فرمود كه اورا كفتم نعم وبر خاستم وطعام نخوردم وهدايا قبول نكردم وحاجت او يش سلطان كواردم واملاك وى بوى باز كشت ومرا هنوز حديث نبوي وقوف نبود ولكن مروءت من نين تقاضا كرد واستنكاف كردم كه كسى را بمن حاجتي باشد وازوى بمن نفعي عائد شود ودر حقيقت آن عنايت وعصمت حق بود) انتهى.
وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يشفع للجاني إلى المجنّى عليه بل ومن حقوق الإسلام أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة ويسعى في قضاء حاجته بما يقدر عليه ، قال السعدي قدس سره :
كر ازحق نه توفيق خيرى رسد
كى ازبنده خيري بغيري رسد
اميداست ازآنانكه طاعت كنند
كه بى طاعتانرا شفاعت كنند
(2/197)
ومن الشفاعة الحسنة الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله تعالى وعن النبي عليه السلام "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك" وهذا بيان لمقدار النصيب الموعود والدعوة على المسلم بضد ذلك وإنما يستجاب الدعاء بظهر الغيب لعبده عن شائبة الطمع والرياء بخلاف دعاء الحاضر للحاضر لأنه قلما يسلم من ذلك فالغائب لا يدعو للغائب إلاخالصاً فيكون مقبولاً والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في الصلاة وغيرها دعاء من العبد المصلي لمحمد صلى الله عليه وسلّم عن ظهر الغيب فشرع ذلك رسول الله وأمر الله به في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّا يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب : 56) ليعود هذا الخير من الملك على المصلي ولهذا جوز الحنفية قراءة الفاتحة لروحه المطهر عليه السلام ومنعها الشافعية لأن الدعاء بالترحم يوهم التقصير ولذا لا يقال عند ذكر الأنبياء رحمة الله عليهم بل عليهم السلام والجواب أن نفع القراءة يعود على القارىء فأي ضرر في ذلك {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا} أي : مقتدراً مجازياً بالحسنة والسيئة من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيداً حفيظاً.
قال الإمام الغزالي في شرح الأسماء الحسنى : معنى المقيت خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة وإلى القلوب وهي المعرفة فيكون بمعنى الرازق إلا أنه أخص منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت والقوت ما يكتفي به في قوام البدن أو يكون معناه المستولي على الشيء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم وعليه يدل قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا} أي : مطلعاً قادراً فيكون معناه راجعاً إلى العلم والقدرة فوصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده لأنه دال على اجتماع المعنيين وبذلك يخرج هذا الاسم من الترادف.
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
والإشارة في الآية {مَّن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً حَسَنَةً} لإيصال نوع من الخيرات إلى الغير {يَكُن لَّه نَصِيبٌ مِّنْهَا} فإنها من
250
خصوصيتها أن يكون له نصيب منها أي له نصيب من هذه الحسنة فمن تلك الخصوصية قد يشفع شفاعة حسنة {وَمَن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ} أي : في جبلته {كِفْلٌ مِّنْهَا} يعني : من تلك السيئة التي هي إيصال نوع من الشر فيها قد يشفع شفاعة سيئة كما قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} (الأعراف : 58) {وَكَانَ اللَّهُ} في الأزل {عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا} شهيداً في إيجاد المحسن والمسيء مقتدراً عليماً حفيظاً يعطيهما استعداد شفاعة حسنة وسيئة لا يقدران اليوم على تبديل استعدادهما لقابلية الخير والشر فافهم جداً ، قال الحافظ قدس سره :
نقش مستوري ومستي نه بدست من وتست
آنه استاد ازل كفت بكن آن كردم
وقال السعدي قدس سره :
كرت صورت حال بد يانكوست
نكاريده دست تقدير اوست
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ} التحية مصدر على حيى كالتسمية من سمي أصلها تحيية كتفعلة وأصل الأصل تحيي ، بثلاث ياآت فحذفت الأخيرة وعوض عنها تاء التأنيث وأدغمت الأولى في الثانية بعد نقل حركتها إلى الحاء وأصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت في كل دعاء لأن الدعاء بالخير لا يخلو شيء منه عن الدعاء بنفس الحياة أو بما هو السبب المؤدي إلى قوتها وكمالها أو بما هو الغاية المطلوبة منها وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضاً يقول : حياك الله أي جعل الله لك حياة وأطال حياتك ويقول بعضهم : عش ألف سنة.
ثم استعملها الشرع في السلام وهي تحية الإسلام قال تعالى : {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النور : 61) قيل : تحية النصارى وضع اليد على الفم وتحية اليهود الإشارة بالأصابع وتحية المجوس الانحناء.
وفي السلام مزية على تحية العرب وهي حياك الله لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية فإنه إذا قال الإنسان لغيره السلام عليك فقد دعا في حقه بالسلامة منها ويتضمن الوعد بسلامة ذلك الغير وأمانة منه كأنه قال : أنت سليم مني فاجعلني سليماً منك والسلامة مستلزمة لطول الحياة وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك ولأن السلام من أسمائه تعالى فالبداية بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته ومعنى الآية إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين.
{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} أي : بتحية أحسن منها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله إن اقتصر المسلم على الأول وبان تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهو أن يقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته منتهى الأمر في السلام لكونه مستجمعاً لجميع فنون المطالب التي هي السلامة من المضار ونيل المنافع ودوامها ونمائها ولهذا اقتصر على هذا القدر في التشهد.(2/198)
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
ـ روي ـ عنه عليه السلام أنه قال : "من قال : السلام عليكم كتب له عشر حسنات ومن قال السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة" والمبتدىء بالسلام إن شاء يقول السلام عليكم وإن شاء يقول سلام عليكم لأن كل واحد من التعريف والتنكير وارد في ألفاظ القرآن قال الله تعالى : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} {وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا} ولكن التنكير أكثر والكل جائز.
وأما التحليل من الصلاة فلا بد فيه من الألف واللام
251
بالاتفاق ومعنى الجمع في السلام عليكم الخطاب إلى الرجل والملكين الحافظين معه فإنهما يردان السلام ومن سلم عليه الملك فقد سلم من عذاب الله تعالى {أَوْ رُدُّوهَآ} أي : ردوا مثلها وأجيبوا به لأن رد عينها محال فحذف المضاف نحو {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82).
قال في "الكشاف" : رد السلام ورجعه جوابه بمثله لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرر.
ـ وروي ـ أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم السلام عليك فقال : "عليك السلام ورحمة الله" وقال الآخر : السلام عليك ورحمة الله فقال : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته" وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال : "وعليك" فقال الرجل نقصتني فأين ما قال الله وتلا الآية أي أين رد الأحسن المذكور في الآية فقال عليه السلام : "إنك لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله" فيكون قوله عليه السلام وعليك أي وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من قبيل رد المثل وجواب التسليم واجب وإنما التخيير بين الزيادة وتركها.
قال أبو يوسف : من قال لآخر اقرىء فلاناً مني السلام وجب عليه أن يفعل وإذا ورد سلام في كتاب فجوابه واجب بالكتاب للآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيبًا} الحسيب بمعنى المحاسب على العمل كالجليس بمعنى المجالس أي : أنه تعالى كان على كل شيء من أعمالكم سيما رد السلام بمثله أو بأحسن منه محاسباً مجازياً فحافظوا على مراعاة التحية حسبما أمرتم به.
فالجمهور على أن الآية في السلام فالسنة أن يسلم الراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والقليل على الكثير ويسلم على الصبيان وهو أفضل من تركه.
قال في "البستان" وبه نأخذ ويسلم على أهل بيته حين يدخله فإن دخل بيتاً ليس فيه أحد فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإن الملائكة ترد عليه السلام ويسلم على القوم حين يدخل عليهم وحين يفارقهم أيضاً فمن فعل ذلك شاركهم في كل خير عملوه بعده.
قال القرطبي : ولا يسلم على النساء الشابات الأجانب خوف الفتنة من مكالمتهن بنزغة شيطان أو خائنة عين.
وأما السلام على المحارم والعجائز فحسن ويسلم على أهل الإسلام من عرف منهم ومن لم يعرف.
ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج والمغنى والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري في الحمام وغيره.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" ومن دخل الحمام ورأى الناس متزرين يسلم عليهم وإن لم يكونوا متزرين لا يسلم عليهم لأنه لا يسلم على المشتغل بمعصية انتهى لكن قال الإمام الغزالي في "الأحياء" : لا يسلم عند الدخول أي في الحمام وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام بل يسكت إن أجاب غيره وإن أحب أن يجيب قال : عافاك الله ولا بأس أن يفتتح الداخل ويقول : عافاك الله لابتداء الكلام انتهى ولا يرد في الخطبة وتلاوة القرآن جهراً ورواية الحديث وعند دراسة العلم والأذان والإقامة وكذا لا يرد القاضي إذا سلم عليه الخصمان وكذا لا يسلم القاضي على الخصوم إذا جلس للحكم لتبقى الهيبة وتكثر الحشمة وبهذا جرى الرسم بأن الولاة والأمراء لا بأس بأن لا يسلموا إذا دخلوا فالمحتسب لا يسلم على أهل السوق في طوافه للحسبة ليبقى على الهيبة.
وقال بعضهم : لا يسع القاضي والوالي والأمير ترك السلام إذا دخلوا لأنه سنة فلا يسعهم ترك السنة بسبب تقلد العمل وكذا المتصدق إذا سلم عليه السائل أو أن سؤاله لا يرد وكذا من له ورد من القرآن والدعوات فسلم عليه أحد في حال ورده لا يرد وكذا
252
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
(2/199)
إذا جلس في المسجد للتسبيح أو للقراءة أو لانتظار الصلاة وإذا دخل الزائر في المسجد فسلم عليه أحد من الداخلين في المسجد يجوز وإذا لم يكن في المسجد أحد إلا من يصلي ينبغي أن يقول الداخل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ولا يسلم فإنه تكليف جواب في غير محله حتى لا يرده قبل الفراغ وبعده وهو الصحيح.
ولا يبادر بالسلام على الذمي إلا لضرورة أو حاجة له عنده ولا بأس بالدعاء للكافر والذمي بما يصلحه في دنياه.
قال ابن الملك : الدعاء لأهل الكتاب بمقابلة إحسانهم غير ممنوع لما روي أن يهودياً حلب للنبي عليه السلام لقحة فقال عليه السلام : "اللهم جمله"" فبقي سواد شعره إلى قريب من سبعين سنة.
قال النووي : الصواب أن ابتداء أهل الكتاب بالسلام حرام لأنه إعزاز ولا يجوز إعزاز الكفار.
وقال الطيبي : المختار أن المبتدع لا يبدأ بالسلام ولو سلم على من لا يعرفه فظهر ذمياً أو مبدعاً يقول : استرجعت سلامي تحقيراً له.
وأما الأكل مع الكافر فإن كان مرة أو مرتين لتأليف قلبه على الإسلام فلا بأس فإنه صلى الله عليه وسلّم أكل مع كافر مرة فحملناه على أنه كان لتأليف قلبه على الإسلام ولكن تكره المداومة عليه كما في "نصاب الاحتساب"
وفيه أيضاً هل يحتسب على المسلم إذا شارك ذمياً الجواب نعم أما في المفاوضة فلأنها غير جائزة بين المسلم والذمي فكان الاحتساب عليه لدفع التصرف الفاسد.
وأما في العنان فلأنها مكروهة بين المسلم والذمي من شرح الطحاوي فكان الاحتساب لدفع المكروه وإذا سلم الذمي فقل : عليك بلا واو وهو الرواية من الثقات أو عليك مثله.
قال في "الكشف" ولا يقال لأهل الذمة وعليكم بالواو لأنها للجمع وقال عليه السلام : "إذا سلم عليكم أحد من اليهود فإنما يقول : السام عليكم فقل عليك" أي : عليك مثله.
ـ روي ـ أنه عليه السلام أتاه ناس من اليهود فقالوا : السام عليكم يا أبا القاسم فقال : "عليكم" فقالت عائشة : بل عليكم السام والذام فقال عليه السلام : "يا عائشة إن الله لا يحب الفحش والتفحش" قانت فقلت : أما سمعت ما قالوا قال : "أوليس قد رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في" والسنة الجهر في السلام لقوله عليه السلام : "أفشو السلام" وعن أبي حنيفة رحمة الله عليه لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير.
ـ وحكي ـ أن سياحاً دخل على عالم فسلم عليه فرد عليه السلام وخافت ثم دخل عليه غني فسلم فرد عليه الجواب وجهر فصاح السياح وقال : رحمك الله ما تقول في السلام أعلى نوعين أم على ثلاثة أنواع؟ فقال : لا بل على نوع واحد فقال : أيد الله الفقيه أرى السلام ههنا على نوعين فتحير الفقيه وخجل في نفسه فقال : أيد الله الفقيه اسألك مسألة ما تقول فيمن حلف لا يدخل الدار التي بنيت بغير سنة فدخل دارك هذه أيحنث أم لا؟ فسكت الفقيه فلم يجبه فقال تلاميذ الفقيه للسياح : اخرج فإنك شغلتنا فقال : أيها الشبان ما مثله ومثلكم إلا كمثل ضال ضل طريقه فجعل يسترشد من ضال مثله أرشده أم لا فهذا أستاذكم ضل طريق الآخرة وأنتم جئتم تطلبون منه أن يرشدكم؟ فأنى يرشدكم ثم خرج كذا في "روضة العلماء" ، قال الصائب :
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
زبى دردان علاج درد خود جستن بان ماند
كه خار ازا برون آردكسى بانيش عقربها
إلى هنا كلام الإحياء فإذا بلغ المقابر ومر بها قال : وعليكم السلام أهل الديار من المسلمين والمؤمنين رحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين منا أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وإنا إن شاء الله بكم
253
(2/200)
لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وفي الحديث "ما من عبد يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام" قال ابن السيد علي في "شرح الشرعة" : ولعل المراد أنه يرد السلام بلسان الحال لا بلسان المقال يؤيده ما ورد في بعض الأخبار من أنهم يتأسفون على انقطاع الأعمال عنهم حتى يتحسرون على رد السلام وثوابه انتهى.
قال الإمام السيوطي رحمه الله : الأحاديث الآثار تدل على أن الزائر متى جاء علم به المزور وسمع كلامه وآنس به ورد عليه وهذا عام في حق الشهداء وغيرهم وأنه لا توقيت في ذلك وهو الأصح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرع لأمته أن يسلموا على أهل القبور سلام من يخاطبون من يسمع ويعقل.
قال أرباب الحقيقة : للروح اتصال بالبدن بحيث يصلي في قبره ويرد على المسلم عليه وهو في الرفيق الأعلى ومقره في عليين ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان وإنما يأتي الغلط هنا من قياس الغائب على الشاهد فيعتقد أن الروح مما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يمكن أن تكون في غيره.
وقد مثل بعضهم بالشمس في السماء وشعاعها في الأرض كالروح المحمدي يرد على من يصلي عليه عند قبره دائماً مع القطع بأن روحه في أعلى عليين وهو لا ينفك عن قبره كما قال عليه السلام : "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام".
فإن قلت : هل يلزم تعدد الحياة من تلك وكيف يكون ذلك؟ قلت : يؤخذ من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم حي على الدوام في البرزخ الدنيوي لأنه محال عادة أن يخلو الوجود كله من واحد يسلم على النبي عليه السلام في ليل أو نهار فقوله صلى الله عليه وسلّم "رد الله على روحي" أي : أبقى الحق فيَّ شعور حياتي الحسي في البرزخ وإدراك حواسي من السمع والنطق فلا ينفك الحس والشعور الكلي عن الروح المحمدي الكلي ليس له غيبة من الحواس والاكوان لأنه روح العالم الكلي وسره الساري ، قال العطار قدس سره في نعت النبي المختار :
خواجه كزهر ه كويم بيش بود
درهمه يزى همه دريش بود
وصف اودر كفت ون آيدمرا
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
ون عرق ازشرم خون آيد مرا
أو فصيح عالم ومن لال او
كي توانم داد شرح حال او
وصف اوكى لائق اين ناكسست
واصف او خالق عالم بسست
انيبا از وصف توحيران شده
سرشناسان نيز سر كردان شده
والإشارة في الآية {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ} من الخير والشر {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} أما الخير فبخير أحسن منه وأما الشر فبحلم وعفو أو مكافأة بالخير {أَوْ رُدُّوهَآ} يعني كافئوا المحسن بمثل إحسانه والمسيء بمثل إساءته يدل عليه قوله تعالى : {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى : 40) وقال : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (البقرة : 237) وقد ورد عن النبي عليه السلام عن جبريل عن الله تعالى في تفسير قوله : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 237) وقال النبي عليه السلام : "تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك" {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من العفو والإحسان {حَسِيبًا} محاسباً فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
{اللَّهُ} مبتدأ وخبره قوله : {لا إله إِلا هُوَ} أي : لا إله في الأرض ولا في السماء غيره
254(2/201)
{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جواب قسم محذوف أي والله ليحشرنكم من قبولكم {إِلَى} حساب {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} والقيامة بمعنى القيام والتاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول {لا رَيْبَ فِيهِ} حال من اليوم أي حال كون ذلك اليوم لا شك فيه أنه كائن لا محالة أو صفة مصدر محذوف أي : جمعاً لا ريب فيه فضمير فيه يرجع إلى الجمع {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} إنكار لأن يكون أحد أكثر صدقاً منه فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص وهو على الله محال دون غيره وفي الحديث "كذبني ابن آدم" أي : نسبني إلى الكذب "ولم يكن له ذلك" يعني لم يكن التكذيب لائقاً به بل كان خطأ "وشتمني" الشتم وصف الغير بما فيه نقص وازراء "ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني" يعني : لن يحييني الله تعالى بعد موتي "وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته" بل إعادته أسهل لوجود أصل البنية وهذا مذكور على طريق التمثيل لأن الإعادة بالنسبة إلى قوانا أيسر من الإنشاء وأما بالنسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة له في شيء ولا صعوبة "وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً" وإنما صار هذا شتماً لأن التولد هو انفصال الجزء من الكل بحيث ينمو وهذا إنما يكون في المركب وكل مركب محتاج "وأنا الأحد" أي المنفرد بصفات الكمال من البقاء والتنزه وغيرهما "الصمد" بمعنى المصمود يعني : المقصود إليه في كل الحوائج "الذي لم يلد" هذا نفي للتشبيه والمجانسة "ولم يولد" هذا وصف بالقدم والأولية "ولم يكن له كفواً أحد" هذا تقرير لما قبله كذا في "شرح المشارق" لابن الملك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 254
واعلم أن القيامة ثلاث : الصغرى وهي موت كل أحد قال النبي عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته" ، والوسطى وهي موت جميع الخلائق بالنفخة الأولى ، والكبرى وهي حشر الأجساد والسوق إلى المحشر للجزاء بالنفخة الثانية ، وفي "المثنوي" :
سازد اسرافيل روزي ناله را
جان دهد و سيده صد ساله را
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشان حياتست ونما
وإنما تحصل الحياة الباقية بعد الفناء عن النفس وأوصافها وطريقه ذكر الله تعالى بالإخلاص فإذا تجلى معنى لفظ الجلالة الذي هو الاسم الأعظم يضمحل العالم والوجود ويحصل الاستغراق في بحر التوحيد فإذا استغرق فيه يغيب عنه ما سوى الله تعالى كما أن الإنسان إذا استغرق في الماء لا يرى الغير أصلاً.
قال الشيخ أبو يزيد البسطامي : ومن قال الله وقلبه غافل عن الله فخصمه الله.
ـ وحكي ـ أن بعض الصلحاء دخل ليلة بقبوليجة في بلدة بروسة فرأى أنه قد وضع سرير على الحوض وعليه بنت سلطان الجن ومعها جماعة كثيرة من هذه الطائفة فسألهم عن أصل ماء قبوليجة فأرسلت ببعض جماعتها إلى أصله فرأى أنه ماء بارد فقال : كيف يكون هذا أصله وهو حار فقالوا : جماعتنا يذكرون في رأس هذا الماء في كل أسبوع الاسم الله والاسم هو فبحرارته يسخن الماء فتأثير الذكر غير منكر خصوصاً من لسان أرباب التزكية والتصفية ، وفي "المثنوي" :
ذكر حق كن بانك غولا نرابسوز
شم نركس را ازين كركس بدوز
والإشارة في الآية {اللَّهُ لا إله إِلا هُوَ} يعني : كان الله في الأزل لا إله أي لم يكن معه أحد يوجد الخلق من العدم إلا هو {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} في العدم مرة أخرى {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} فيفرقكم فيها
255
فريق في الجنة وفريق في السعير وفريق في مقعد صدق عند مليك مقتدر {لا رَيْبَ فِيهِ} أي : لا شك في الرجوع إلى هذه المنازل والمقامات {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ليحدثكم بمصالح دينكم ودنياكم ومفاسد أخراكم وأولاكم ويهديكم إلى الهدى وينجيكم من الردى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 254
(2/202)
كذا في "التأويلات النجمية" {مَالَكُمْ} أيها المؤمنون والمراد بعضهم.
قوله ما مبتدأ ولكم خبره والاستفهام للإنكار والنفي {فِى الْمُنَـافِقِينَ} متعلق بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم فيهم أي في أمرهم وشأنهم {فِئَتَيْنِ} أي فرقتين وهو حال من الضمير المجرور في لكم والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين وبيان وجوب بت القول بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكام وذلك أن ناساً من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخروج إلى البدر لاجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة حتى لحقوا بالمشركين بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم : هم كفار وقال بعضهم هم مسلمون فأنزل الله تعالى الآية {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم} حال من المنافقين أي والحال أنه تعالى ردهم إلى الكفر وأحكامه من الذل والصغار والسبي والقتل ، والإركاس الرد والرجع يقال : ركست الشيء وأركسته لغتان إذا رددته وقلبت آخره على أوله {بِمَا كَسَبُوا} أي : بسبب ما كسبوا من الارتداد واللحوق بالمشركين والاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلّم {أَتُرِيدُونَ} أيها المخلصون القائلون بإيمانهم {أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي تجعلوه من المهتدين ففيه توبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدي إلى المحال الذي هو هداية من أضل الله تعالى وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم وهم بمعزل من ذلك سعى في هدايتهم وإرادة لها {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} أي ومن يخلق فيه الضلال كائناً من كان {فَلَن تَجِدَ لَه سَبِيلا} من السبل فضلاً عن أن تهديه إليه وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المخاطبين للإشعار بشمول عدم الوجدان للكل على طريق التفصيل والجملة حال من فاعل تريدون أو تهدوا والرابط هو الواو {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم وكلمة لو مصدرية فلا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا.
{كَمَا كَفَرُوا} نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي كفرا مثل كفرهم فما مصدرية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 254
{فَتَكُونُونَ سَوَآءً} عطف على تكفرون والتقدير ودوا كفركم وكونكم مستوين معهم في الضلال.
وفيه إشارة إلى أن من ود الكفر لغيره كان ذلك من إمارات الكفر في باطنه وإن كان يظهر الإسلام لأنه يريد تسوية الاعتقاد فيما بينهما وهذا من خاصية الإنسان يحب أن يكون كل الناس على مذهبه واعتقاده ودينه وقال صلى الله عليه وسلّم "الرضى بالكفر كفر" {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أي : إذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا توالوهم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بهجرة كائنةتعالى ورسوله عليه السلام لا لغرض من أغراض الدنيا وسبيل الله ما أمر بسلوكه.
{فَإِن تَوَلَّوْا} أي : عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة {فَخُذُوهُمْ} إذا قدرتم عليهم {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من الحل والحرم فإن
256
حكمهم حكم سائر المشركين أسراً وقتلاً.
{وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي : جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبداً.
والإشارة في الآية إلى أرباب الطلب السائرين إلى الله تعالى فإنهم نهوا عن اتخاذ أهل الدنيا أحباء وعن مخالطتهم حتى يهاجروا عما هم فيه من الحرص والشهوة وحب الدنيا ويوافقوهم في طلب الحق وأمروا بأن يعظوهم بالوعظ البليغ ويقتلوهم ، أي : أنفسهم وصفاتها الغالبة كلما رأوهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 254(2/203)
{إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـاقٌ} استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميون فإنه عليه السلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال {أَوْ جَآءُوكُمْ} عطف على الصلة أي والذين جاؤكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} حال بإضمار قد أي : وقد ضاقت صدورهم فإن الحصر بفتحتين الضيق والانقباض {أَن يُقَـاتِلُوكُمْ} أي : ضاقت عن أن يقاتلوكم مع قومهم.
{أَوْ يُقَـاتِلُوا قَوْمَهُمْ} معكم والمراد بالجائين الذين حصرت صدورهم عن المقاتلة بنوا مدلج وهم كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشاً أن لا يقاتلوهم فضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم ولأنه تعالى قذف الرعب في قلوبهم وضاقت صدورهم عن قتال قومهم لكونهم على دينهم نهى الله تعالى عن قتل هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمؤمنين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 257
أي : بني مدلج {عَلَيْكُمْ} بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم.
قال في "الكشاف" فإن قلت : كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين قلت : ما كانت مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين فذلك معنى التسليط {فَلَقَـاتَلُوكُمْ} عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جواب لو على التكرير.
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ} أي : فإن لم يتعرضوا لكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى.
{وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي : الانقياد والاستسلام {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} أي : طريقاً بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وإن لم يقاتلوا قومهم أيضاً والقاءهم إليكم السلم وإن لم يعاهدوكم كافية في استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم.
قال بعضهم الآية منسوخة بآية القتال والسيف وهي قوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 5) وقال آخرون : إنها غير منسوخة وقال : إذا حملنا الآية على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة.
قال الحدادي في تفسيره : لا يجوز مهادنة الكفار وترك أحد منهم على الكفر من غير جزية إذا كان بالمسلمين قوة على القتال وأما إذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على أنفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر الموادعة كان بسبب القوة فإذا زال السبب زال الحظر {سَتَجِدُونَ} قوماً {ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} أي يظهرون لكم الصلح
257
يريدون أن يأمنوا منكم بكلمة التوحيد يظهرونها لكم {وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} أي من قومهم بالكفر في السر وهم قوم من أسد وغطفان إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} دعوا من جهة قومهم إلى قتال المسلمين {أُرْكِسُوا فِيهَا} عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا فيها شراً من كل عدو شرير {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} بالكف عن التعرض لكم بوجه ما {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي : لم يلقوا إليكم الصلح والعهد بل نبذوه إليكم {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} أي : لم يكفوها عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي : تمكنتم منهم {وَأُولَئكُمْ} الموصوفون بما عد من الصفات القبيحة {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا مُّبِينًا} أي : حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر وغدرهم وإضرارهم بأهل الإسلام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 257(2/204)
والإشارة في الآية الأولى أن الاختلاف واقع بين الأمة في أن خذلان المنافقين هل هو أمر من عند أنفسهم أو أمر من عند الله وقضائه وقدره فبين الله بقوله : {فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَـافِقِينَ فِئَتَيْنِ} أي : صرتم فرقتين : فرقة يقولون الخذلان في النفاق منهم ، وفرقة يقولون من الله وقضائه وقدره.
{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا} يعني : أن الله أركسهم بقدره وردهم بقضائه إلى الخذلان بالنفاق ولكن بواسطة كسبهم ما ينبت النفاق في قلوبهم ليهلك من هلك عن بينة ولهذا مثال وهو أن القدر كتقدير النقاش الصورة في ذهنه والقضاء كرسمه تلك الصورة لتلميذه بالأسرب ووضع التلميذ الاصباغ عليها متبعاً لرسم الأستاذ كالكسب والاختيار فالتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ وكذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر ولكنه متردد بينهما ومما يؤكد هذا المثال والتأويل قوله تعالى : {قَـاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة : 14) وقال : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} (النحل : 127) وذلك مثل ما ينسب الفعل إلى السبب الأقرب تارة وإلى السبب الأبعد أخرى فالأقرب كقولهم قطع السيف يد فلان والأبعد كقولهم قطع الأمير يد فلان ونظيره قوله تعالى : {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} (السجدة : 11) وفي موضع {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر : 42) قال ابن نباتة :
إذا ما الاله قضى أمره
فانت لما قد قضاه السبب فعلى هذه القضية من زعم أن لا عمل للعبد أصلاً فقد عاند وجحد ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك فاختيار العبد بين الجبر والقدر لأن أول الفعل وآخره إلى الله فالعبد بين طرفي الاضطرار مضطر إلى الختيار فافهم جداً كذا في "التأويلات النجمية".
واعلم أن الجبرية ذهبت إلى أنه لا فعل للعبد أصلاً ولا اختيار وحركته بمنزلة حركة الجمادات والقدرية إلى أن العبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى ومذهب أهل السنة والجماعة الجبر المتوسط وهو إثبات الكسب للعبد وإثبات الخلقتعالى وأما مشاهدة الآثار في الأفعال من الله تعالى كما عليه أهل المكاشفة فذلك ليس من قبيل الجبر.
قال في "المثنوي" :
258
كر برانيم تير آن نى زماست
جزء : 2 رقم الصفحة : 257
ما كمان وتير اندازش خداست
اين نه جبراين معنى جباريست
ذكر جباري براي زاريست
زاري ماشد دليل اضطرار
خجلت ماشد دليل اختيار
جزء : 2 رقم الصفحة : 257
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي : وما صح له ولا لاق بحاله {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} بغير حق فإن الإيمان زاجر عن ذلك {إِلا خَطَـاًا} أي : ليس من شأنه ذلك في حال من الأحوال إلا حال الخطأ فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية فالمؤمن مجبول على أن يكون محلاً لأن يعرض له الخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو إلى الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالباً أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه.
ـ روي ـ أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفاً من أهله وذلك قبل هجرة النبي عليه السلام فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد بن أبي أنيس فأتياه وهو في أطم أي جبل ففتل منه أبو جهل في الذروة والغارب وقال : أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ أمك ولك علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك حتى نزل وذهب معهما فلما بعدا من المدينة شدا يديه إلى خلف بحبل وجلده كل واحد منهما مائة جلدة فقال للحارث هذا أخي فمن أنت؟ يا حارثعلي إن وجدتك خالياً أن أقتلك وقدما به على أمه فحلفت لا يحل وثاقه حتى يرجع عن دينه ففعل بلسانه مطمئناً قلبه على الإيمان ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحارث وهاجر فلقيه عياش لظهر قبا فانحنى عليه فقتله ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَاًا} صغيراً كان أو كبيراً {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي : فعليه إعتاق نسمة عبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس {مُّؤْمِنَةٍ} محكوم بإسلامها سواء تحققت فيها فروع الإيمان وثمراته بأن صلت وصامت أو لم يتحقق فدخل فيها الصغير والكبير والذكر والأنثى وهذا التحرير هو الكفارة وهي حق الله تعالى الواجب على من قتل مؤمناً مواظباً على عباده الله تعالى والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله تعالى فإذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات.
جزء : 2 رقم الصفحة : 259(2/205)
{وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أي : مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث بعد قضاء الدين منها وتنفيذ الوصية وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال لا المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال صلى الله عليه وسلّم "أنا وارث من لا وارث له" {إِلا أَن يَصَّدَّقُوا} أي : يتصدق أهله عليه سمى العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله وفي الحديث "كل معروف صدقة" وهو متعلق بعليه المقدر عند قوله : {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} أو بمسلمة أي : تجب الدية ويسلمها إلى أهله إلا وقت تصدقهم عليه لأن الدية حق الورثة فيملكون إسقاطها بخلاف التحرير فإنه حق الله تعالى فلا يسقط بعفو الأولياء وإسقاطهم.
واعلم أن الدية مصدر من ودي القاتل المقتول إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس وذلك المال يسمى الدية تسمية بالمصدر والتاء في آخرها عوض عن الواو المحذوفة في الأول كما في العدة وهي أي الدية في الخطأ من الذهب ألف دينار ومن الفضة عشرة آلاف درهم وهي على العاقلة في الخطأ
259
وهم الأخوة وبنوا الأخوة والأعمام وبنو الأعمام يسلمون إلى أولياء المقتول ويكون القاتل كواحد من العاقلة يعني : يعطي مقدار ما أعطاه واحد منهم لأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره وسميت الدية عقلاً لأنها تعقل الدماء أي تمسكه من أن يسفك الدم لأن الإنسان يلاحظ وجود الدية بالقتل فيجتنب عن سفك الدم فإن لم تكن له عاقلة كانت الدية في بيت المال في ثلاث سنين فإن لم يكن ففي ماله {فَإِن كَانَ} أي : المقتول {مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} كفار محاربين {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم بالهجرة إلى دار الإسلام أو بأن أسلم بعدما فارقهم لمهم من المهمات {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي : فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله لكونه كفاراً ولأنهم محاربون {وَإِن كَانَ} أي المقتول المؤمن {مِن قَوْمٍ} كفرة {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـاقٌ} أي : عهد موقت أو مؤيد {فَدِيَةٌ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
أي فعلى قاتله دية {مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} من أهل الإسلام إن وجدوا {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} كما هو حكم المسلمين {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي : رقبة لتحريرها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها وهو ما يصلح أن يكون ثمناً للرقبة فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وسائر حوائجه الضرورية من المسكن وغيره {فَصِيَامُ} أي : فعليه صيام {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وإيجاب التتابع يدل على أن المكفر بالصوم لو أفطر يوماً في خلال شهرين أو نوى صوماً آخر فعليه الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس أو نحوهما مما لا يمكن الاحتراز عنه فإنه لا يقطع التتابع والإطعام غير مشروع في هذه الكفارة بدليل الفاء الدالة على أن المذكور كل الواجب وإثبات البدل بالرأي لا يجوز فلا بد من النص {تَوْبَةً} كائنة {مِّنَ اللَّهِ} ونصبه على المفعول له أي : شرع لكم ذلك توبة أي : قبولاً لها من تاب الله عليه إذا قبل توبته.
فإن قيل : قتل الخطأ لا يكون معصية فما معنى التوبة.
قلت : إن فيه نوعاً من التقصير لأن الظاهر أنه لو بالغ في احتياط لما صدر عنه ذلك.
فقوله توبة من الله تنبيه على أنه كان مقصراً في ترك الاحتياط {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بحاله أي : بأنه لم يقصد القتل ولم يتعمد فيه{حَكِيمًا} فيما أمر في شأنه.
والإشارة في قوله تعالى : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أن تربية النفس وتزكيتها ببذل المال وترك الدنيا مقدم على تربيتها بالجوع والعطش وسائر المجاهدات فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وهي عقبة لا يقتحمها إلا الفحول من الرجال كقوله تعالى : {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد : 11 ـ 12) الآية.
وأن أول قدم السالك أن يخرج من الدنيا وما فيها.
وثانيه أن يخرج من النفس وصفاتها كما قال "دع نفسك وتعال" والإمساك عن المشارب كلها من الدنيا والآخرة على الدوام إنما هو بجذبة من الله تعالى وإعطائه القابلية لذلك ، كما قيل :
داد حق را قابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد حق
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
ـ حكي ـ أن أولاد هارون الرشيد كانوا زهاداً لا يرغبون في الدنيا والسلطنة فلما ولد له ولد قيل له : ادخله في بيت من زجاج يعيش فيه مع التنعم والترنم والأغاني حتى يليق للسلطنة ففعل فلما كبر كان يوماً يأكل اللحم فوقع عظم من يده فانكسر الزجاج فرأى السماء والعرض فسأل
260
(2/206)
عنهما فأجابوا على ما هو فطلب منهم أن يخرجوه من البيت ، فلما خرج رأى ميتاً وجاء إليه وتكلم له فلم يتكلم فسأل عنه فقالوا هو ميت لا يتكلم وقال : وأنا أكون كذلك قالوا : كل نفس ذائقة الموت فتركهم وذهب إلى الصحراء فذهبوا معه فإذا خمسة فوارس جاءوا إليه ومعهم فرس ليس عليه أحد فأركبوه وأخذوه وغابوا وليس كل قلب يصلح لمعرفة الرب كما أن كل بدن لا يصلح لخدمته ولهذا قال تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} أي : بمن يصلح للجذبة والخدمة.
قال الصائب :
درسر هرخام طينت نشئه منصور نيست
هرسفالي را صداي كاسه فغفور نيست
وهذا لا يكون بالدعوى فإن المحك يميز الجيد والزيوف وعالم الحقيقة لا يسعه القيل والقال ألا يرى أن من كان سلطاناً أعظم لا يرفع صوته بالتكلم لأنه في عالم المحو وكان أمر سليمان عليه السلام لآصف بن برخيا باتيان عرش بلقيس مع أنه في مرتبة النبوة لذلك أي لما أنه كان في عالم الاستغراق فلم يرد التنزل وقوله عليه السلام : "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" إشارة إلى تلك المرتبة اللهم اجعلنا من الواصلين إلى جناب قدسك والمتنعمين في حاضر قولك وأنسك.
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} حال كون ذلك القاتل {مُّتَعَمِّدًا} في قتله أي : قاصداً غير مخطىء.
ـ روي ـ أن مقيس بن صبابة الكناني كان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد أخاه قتيلاً في بني النجار فأتى رسول الله عليه السلام وذكر له القصة فأرسل عليه السلام معه الزبير بن عياض الفهري وكان من أصحاب بدر إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه وبأداء الدية إن لم يعلموه فقالوا : سمعاً وطاعة تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدي ديته فأتوه بمائة من الإبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريق أتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه فقال : أتقبل دية أخيك فتكون مسبة عليك أي عاراً أقتل هذا الفهري الذي معك فتكون نفس مكان نفس وتبقى الدية فضلة فرماه بصخرة فشدخ رأسه فقتله ثم ركب بعيراً من الإبل وساق بقيتها إلى مكة كافراً وهو يقول :
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
قتلت به فهراً وحملت عقله
سراة بني النجار أصحاب قارع
وادركت ثاري واضطجعت موسداً
وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت الآية وهو الذي استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح ممن آمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة ، ونعم ما قيل :
هركه كند بخود كند
كر همه نيك وبد كند
{فَجَزَآؤُهُ} الذي يستحقه بجنايته {جَهَنَّمَ} وقوله تعالى : {خَـالِدًا فِيهَا} حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه مقام الكلام كأنه قيل فجزاؤه أن يدخل جهنم خالداً فيها {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل بطريق الاستئناف تقريراً وتأكيداً لمضمونها حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه أي : انتقم منه {وَلَعَنَهُ} أي : أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر {وَأَعَدَّ لَهُ} في جهنم {عَذَابًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره.
واعلم أن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب والكلام في كفر من استحل دم المؤمن وخلوده في النار حقيقة فأما المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً غير مستحل لقتله
261
(2/207)
فلا يكفر بذلك ولا يخرج من الإيمان فإن أقيد ممن قتله كذلك كان كفارة له وإن كان تائباً من ذلك ولم يكن مقاداً كانت التوبة أيضاً كفارة له لأن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت توبة الكافر فتوبة هذا القاتل أولى بالقبول وإن مات بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله تعالى إن شاء غفر له وأرضى خصمه وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعده بإيمانه لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد فالمراد بالخلود في حقه المكث الطويل لا الدوام مع أن هذا إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال الله عز وجل {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى : 40) ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة مثلها لعارضه قوله تعالى : {وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} (الشورى : 30) وقد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً فهذا التشديد والتغليظ الذي هو سنة الله تعالى لا يتعلق بالقاتل التائب ولا بمن قتل عمداً بحق كما في القصاص بل يتعلق بمن لم يتب وبمن قتل ظلماً وعدواناً وفي الحديث : "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم" وفيه "لو أن رجلاً قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لاشترك في دمه" وفيه "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى" وفيه "إن هذا الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه" وقد روي أن داود عليه السلام أراد بنيان بيت المقدس فبناه مراراً فكلما فرغ منه تهدم فشكا إلى الله تعالى فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء فقال داود : يا رب ألم يك ذلك القتل في سبيلك قال : بلى ولكنهم أليسوا من عبادي فقال : يا رب فاجعل بنيانه على يدي من؟ فأوحى الله إليه أن أومر ابنك سليمان يبنيه والغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية وأن إقامتها أولى من هدمها ألا ترى إلى أعداء الدين أنه قد فرض الله في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "أتدرون من المفلس" قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" وفي الحديث : "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضي بين الناس في الدماء" ثم يحاسب العبد ويقضي عليه في حق زكاته وغيرها هل منعها أو أداها" إلى غير ذلك من الأحوال الجزئية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
ثم اعلم أن المقتول إذا اقتص منه الولي فذلك جزاؤه في الدنيا وفيما بين القاتل والمقتول الأحكام باقية في الآخرة لأن الولي وإن قتله فإنما أخذ حق نفسه للتشفي ودرء الغيظ فأما المقتول فلم يكن له في القصاص منفعة كذا في تفسير الحدادي ولا كفارة في القتل العمد لقوله عليه السلام : "خمس من الكبائر لا كفارة فيها لإشراك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وقتل النفس عمداً واليمين الغموس" والولي مخير بين ثلاث في القتل العمد القصاص والدية والعفو وذلك لأن في شرع موسى عليه السلام القصاص وهو القتل فقط وفي دين عيسى عليه السلام العقل أو العفو فحسب وفي ملتنا للتشفي القصاص وللترفه الدية وللتكرم العفو وهو أفضل.
قال السعدي قدس سره :
262
بدى رابدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن إلى من أسا(2/208)
والإشارة في الآية أن القلب مؤمن في أصل الفطرة والنفس كافرة في أصل الخلقة وبينهما عداوة جبلية وقتال أصلي وتضاد كلي فإن في حياة القلب موت النفس وفي حياة النفس موت القلب فلما كانت نفوس الكفار حية كانت قلوبهم ميتة فسماهم الله الموتى ولما كانت نفس الصديق ميتة وقلبه حياً قال النبي عليه السلام : "من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى الصديق" فالإشارة في قوله : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} إلى القلب والنفس يعني النفس الكافرة إذا قتلت قلباً مؤمناً متعمدة للعداوة الأصلية باستيلاء صفاتها البهيمية والسبعية والشيطانية على القلب الروحاني وغلبة هواها عليه حتى يموت القلب بسمها.
القاتل {فَجَزَآؤُهُ} أي جزاء النفس {جَهَنَّمَ} وهي سفل عالم الطبيعة {خَـالِدًا فِيهَا} لأن خروج النفس عن سفل الطبيعة إنما كان بحبل الشريعة والتمسك بحبل الشريعة إنما كان من خصائص القلب المؤمن كقوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (التين : 5 ـ 6) فالإيمان والعمل الصالح من شان القلب وصنيعه فإذا مات القلب وانقطع عمله تخلد النفس في جهنم سفل عالم الطبيعة أبداً.
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} بأن يبعدها ويطردها عن الحضرة والقربة ويحرمها من إيصال الخير والرحمة إليها بخطاب ارجعي إلى ربك {وَأَعَدَّ لَه عَذَابًا عَظِيمًا} هجراناً عن حضرة العلي العظيم وحرماناً من جنات النعيم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} نزلت الآية في شأن مرداس بن نهيك من أهل فدك وكان أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان عليه السلام بعث سرية إلى قومه كان عليها غالب بن فضالة الليثي فلما وصلت السرية إليهم هربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه فلما وصلوا فدك كبروا وكبر مرداس معهم وكان في سفح جبل ومعه غنمه فنزل إليهم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك فوجد وجداً شديداً وقال : "قتلتموه إرادة ما معه وهو يقول لا إله إلا الله" فقال أسامة : إنه قال بلسانه دون قلبه وفي رواية إنما قالها خوفاً من السلاح فقال عليه السلام : "هلا شققت عن قلبه فنظرت أصادق هو أم كاذب" ثم قرأ الآية على أسامة فقال : يا رسول الله استغفر لي فقال : "فكيف بلا إله إلا الله" قال أسامة : فما زال صلى الله عليه وسلّم يعيدها حتى وددت إن لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ ثم استغفر لي وأمر برد الأغنام وتحرير رقبة مؤمنة والمعنى أيها المؤمنون {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي سافرتم وذهبتم للغزو من قول العرب ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو نحوهما {فَتَبَيَّنُوا} التفعل بمعنى الاستفعال الدال على الطلب أي اطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ} أي لمن حياكم بتحية الإسلام {لَسْتَ مُؤْمِنًا} وإنما أظهرت ما أظهرت متعوذاً بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} حال من فاعل لا تقولوا منبىء عما يحملهم على العجلة وترك التأني لكن لا على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد فقط كما في قولك لا تطلب العلم تبتغي به الجاه بل إليهما جميعاً أي لا تقولوا له ذلك حال كونكم طالبين لماله الذي هو حطام سريع النفاد وعرض الدنيا ما يتمتع به فيها
263(2/209)
من المال نقداً كان أو غيره قليلاً كان أو كثيراً يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وتسميته عرضاً تنبيه على أنه سريع الفناء قريب الانقضاء {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تغنيكم عن قتل أمثاله لماله وهو تنبيه على أن ثواب الله تعالى موصوف بالدوام والبقاء {كَذَالِكَ} أي مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام {كُنتُمْ} أنتم أيضاً {مِّن قَبْلِ} أي : في مبادي إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.
الفاء للعطف على كنتم {فَتَبَيَّنُوا} الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير وثوق على تواطىء الظاهر والباطن {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها {خَبِيرًا} فيجازيكم بحسبها إن خيراً فخير وإن شراً فشر فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا فيه.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الخبير هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبر وهو بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ويسمى صاحبه خبيراً وحظ العبد من ذلك أن يكون خبيراً بما يجري في عالمه وعالمه قلبه وبدنه والخفايا التي يتصف القلب بها من الغش والخيانة والطواف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير والبخل بإظهار الإخلاص والإفلاس عنه ولا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرهاً وتلبيسها وخدعها فحاربها وتشمر لمعاداتها وأخذ الحذر منها فذلك من العباد جدير بأن يسمى خبيراً انتهى كلام الإمام.
قال السعدي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
نمى تازد ابن نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان بر آيد بزور
مصاف لنكان نبايد زمور
ودلت الآية على أن المجتهد قد يخطىء كما أخطأ أسامة وأن خطأه قد كان مغتفراً حيث لم يقتص منه وعلى أن الذكر اللساني معتبر كما أن إيمان المقلد صحيح لكن ينبغي للمؤمن أن يترقى من الذكر اللساني إلى الذكر القلبي ثم إلى الذكر الروحي ويحصل له التعين والمعرفة ويخلص من ظلمة الجهل ويتنور بنور المعرفة لأن الإنسان يموت كما يعيش.
عن ابن عباس أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي عليه السلام فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهو يقول مالي أراك مغموماً حزيناً قال عليه السلام : "يا جبريل طال تفكري في أمتي يوم القيامة" قال : أفي أمر أهل الكفر أم أهل الإسلام فقال : "يا جبريل في أمر أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله" فأخذ بيده حتى أقامه إلى مقبرة بني سلمة ثم ضرب بجناحه الأيمن على قبر ميت قال : قم بإذن الله فقام الرجل مبيض الوجه وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال جبريل : عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الأيسر فقال : قم بإذن الله فخرج رجل مسود الوجه أرزق العينين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم قال : يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تموتون كما تعيشون وتبعثون
264
كما تموتون" :
هركسى آن درود عاقبت كار كه كشت†
جزء : 2 رقم الصفحة : 263(2/210)
والإشارة في الآية إلى البالغين الواصلين بالسير إلى الله أن يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} ووفقوا لمجرد الإيمان بالغيب {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} يعني : سرتم بقدم السلوك في طلب الحق حتى صار الإيمان إيقاناً والإيقان إحساناً والإحسان عياناً والعيان غيباً وصار الغيب شهادة والشهادة شهوداً والشهود شاهداً والشاهد مشهوداً وبهما أقسم الله بقوله : {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (البروج : 3) فافهم جداً وهذا مقام الشيخوخة {فَتَبَيَّنُوا} عن حال المريدين وتثبتوا في الرد والقبول وفي قوله : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} إشارة إلى أرباب الطلب في البدء والإرادة أي إذا تمسك أحد بذيل إرادتكم وألقى إليكم السلام بالانقياد والاستسلام لكم فلا تقولوا لست مؤمناً أي صادقاً مصدقاً في التسليم لأحكام الصحبة وقبول التصرف في المال والنفس على شرط الطريقة ولا تردوه ولا تنفروه بمثل هذه التشديدات وقولوا له كما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} (طه : 44) فما أنتم أعز من الأنبياء ولا المريد المبتدىء أذل من فرعون ولا يهولنكم أمر رزقه فتجتنبون منه طلباً للتخفيف وإلى هذا المعنى أشار بقوله : {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} فلا تهتموا لأجل الرزق {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب {كَذَالِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} أي : كذلك كنتم ضعفاء في الصدق والطلب محتاجين إلى الصحبة والتربية بدواء الإرادة {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم والإقبال على تربيتكم وإيصال رزقكم إليكم وشفقتهم وعطفهم عليكم {فَتَبَيَّنُوا} أن تردوا صادقاً اهتماماً لزرقه أو تقبلوا كاذباً حرصاً على تكثير المريدين {إِنَّ اللَّهَ كَانَ} في الأزل {بِمَا تَعْمَلُونَ} اليوم من الرد والقبول والاحتياج إلى الرزق الذي تهتمون له {خَبِيرًا} بتقدير أمور قدرها في الأزل وفرغ منها كما قال عليه السلام : "إن الله فرغ من الخلق والرزق والأجل" وقال : "الضيف إذا نزل برزقه وإذا ارتحل ارتحل بذنوب مضيفة" كذا في "التأويلات النجمية" {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ} عن الجهاد {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} حال من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتها الإيذان من أول الأمر بعدم إخلال وصف القعود بإيمانهم والإشعار بعلة استحقاقهم كما سيأتي من الحسنى {غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} بالرفع صفة للقاعدون.
5
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
فإن قلت كلمة غير لا تتعرف بالإضافة فكيف جاز كونها صفة للمعرفة.
قلت : اللام في القاعدون للعهد الذهني فهو جار مجرى النكرة حيث لم يقصد به قوم بأعيانهم والأظهر أنه بدل من القاعدون.
والضرر المرض والعاهة من عمى أو عرج أو شلل أو زمانة أو نحوها وفي معناه العجز عن الأهبة ، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها أي تكسرها ثم سري عنه وأزيل ما عرض له من شدة الوحي فقال : "اكتب فكتبت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سري عنه فقال : "اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" قال زيد : أنزلها الله وحدها فألحقتها فالمراد
265
بالقاعدين هم الأصحاء الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم لأن الغزو فرض كفاية قال ابن عباس رضي الله عنهما هم القاعدون عن بدر والخارجون إليها وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول {وَالْمُجَاهِدُونَ} عطف على القاعدون {فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة في الأجر والثواب.
فإن قلت معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفي الاستواء.
قلت : فائدته تذكير ما بينهما من التفاوت العظيم ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه فإن انتفاء الاستواء بينهما يحتمل أن يكون بزيادة درجة أحدهما على درجة الآخر وبنقصانها فبين الله تعالى بهذه الجملة أن انتفاء استوائهما إنما هو بأنه تعالى فضل المجاهدين كأنه قيل : ما لهم لا يستوون فأجيب بذلك {عَلَى الْقَاعِدِينَ} غير أولي الضرر لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف {دَرَجَةً} تنوينها للتفخيم كما سيأتي ونصبها بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدرية لأنه لتضمنه معنى التفضيل ووقوعه موقع المرة من التفضيل كان بمنزلة أن يقال فضلهم تفضيلة واحدة ونظيره قولك ضربه سوطاً بمعنى ضربه ضربة(2/211)
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
{وَكُلا} من القاعدين والمجاهدين {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب.
قوله كلا مفعول أول لوعد والحسنى مفعوله الثاني وتقديم الأول على الفعل لإفادة القصر تأكيداً للوعد أي كلا منهما وعد الله الحسنى لا أحدهما فقط والجملة اعتراض جيىء بها تداركاً لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول.
قال الفقهاء : وهذا يدل على أن الجهاد فرض كفاية وليس مفروضاً على كل أحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين عنه الحسنى كما وعد المجاهدين ولو كان الجهاد واجباً على كل أحد على التعيين لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه بالحسنى {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ عَلَى الْقَـاعِدِينَ} عطف على قوله فضل الله {أَجْرًا عَظِيمًا} نصب على المصدر لأن فضل بمعنى آجر أي آجرهم أجراً عظيماً وإيثاره على ما هو مصدر من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجراً لأعمالهم أو مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء أي وأعطاهم زيادة على القاعدين أجراً عظيماً.
وقيل نصب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر عظيم {دَرَجَـاتٍ} بدل من أجراً بدل الكل مبين لكمية التفضيل {مِنْهُ} صفة لدرجات دالة على فخامتها وجلالة قدرها أي درجات كائنة منه تعالى وهي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفاً أو سبعمائة درجة وفي الحديث "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" ويجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطاً أي ضربات كأنه قيل فضلهم تفضلات {وَمَغْفِرَةً} بدل من أجرا بدل البعض لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة أي : مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي لا يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تعد من خصائصهم {وَرَحْمَةً} بدل الكل من أجراً
266
مثل درجات ويجوز أن يكون انتصابهما بإضمار فعلهما أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبىء عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن الانتظام إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيداً لسلوك طريقة الإيهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما في قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (هود : 58) كأنه قيل فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يفهم كنهها وحيث كان تحقق هذا العنوان البعيد بينهما موهماً لحرمان القاعدين قيل وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل ولله در شأن التنزيل وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول والله سبحانه أعلم.
وقيل : المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه السلام : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوب من جاهد في سبيله {رَّحِيمًا} يدخله الجنة برحمته وهو تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة.
قال القشيري ـ رحمه الله ـ : إن الله سبحانه جمع أولياءه في الكرامات لكنه غاير بينهم في الدرجات فمن غني وغيره أغنى منه ومن كبير وغيره أكبر منه هذه الكواكب منيرة لكن القمر فوقها وإذا طلعت الشمس بهرت أي غلبت جميعها بنورها انتهى فالجنة مشتركة بين الواصلين البالغين والطالبين المنقطعين بعذر وعوام المؤمنين القاعدين عن الطلب بلا عذر لكن الطائفة الأولى في واد والأخريان في واد آخر لا يستوون عند الله تعالى.
قال المولى الجامي قدس سره :
أي كمند بدن و طفل صغير
مانده دردست خواب غفلت اسير
يش ازان كت أجل كند يدار
كر نمردي زخواب سر بردار
إنما السائرون كل رواح
يحمدون السري لدى الاصباح
ودلت الآية على أن أولي الضرر مساوون للمجاهدين في الأجر والثواب.
(2/212)
ـ روي ـ عنه عليه السلام أنه لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال : "إن في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه" قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة قال : "نعم وهم بالمدينة حبسهم حابس العذر" وهم الذين صحت نياتهم وتعلقت قلوبهم بالجهاد وإنما منعهم عن الجهاد الضرر :
267
هر كسى از همت والاى خويش
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
سود برد درخور كالاي خويش
قال عليه السلام : "إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ" وقال المفسرون في قوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (التين : 5 ـ 6) إن من صار هرماً كتب الله له أجر عمله قبل هرمه غير منقوص.
وقالوا في تفسير قوله عليه السلام : "نية المؤمن خير من عمله" إن المؤمن ينوي الإيمان والعمل الصالح لو عاش أبداً فيحصل له ثواب تلك النية أبداً قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قد ذكرت في قوله تعالى في أواخر سورة التوبة {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة : 91) والنصيحة لهما طاعة لهما والطاعة لهما في السر والعلن وتوليهما في السراء والضراء والحب فيهما والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه كذا في تفسير "الإرشاد".
واعلم أن الجهاد من أفاضل المكاسب وأماثل الحِرَف فلا ينبغي للعاقل أن يترك الجهاد أو التحدث به فإن من مات ولم يغزو ولم يحدث به نفسه فقد مات ميتة جاهلية ومعنى التحدث طلبه الغزو وإخطاره بالبال.
قال بعض الكبار : السبق بالهمم لا بالقدم وفي الحديث "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" ومعناه أن من أنعم الله عليه بهاتين النعمتين وهما صحة الجسد بالعافية التي هي كالتاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا السقيم والفراغ من شواغل الدنيا وعلقها فمن حصل له هاتان النعمتان واشتغل عن القيام بواجب حق الله تعالى فهذا هو الذي غبن بضياع حظه ونصيبه من طاعة الله وبذل النفس في الخدمة وتحصيل ما ينفعه لآخرته من أنواع الطاعات والقربات اللهم اجعلنا من المنتفعين بحياتهم والمتوجهين إليك في مرضهم وضحتهم ولا تقطعنا عنك ولو لحظة عين ولا تشغلنا عن الوصل بالبين إنك أنت الغفور الرحيم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَـائِكَةُ} يحتمل أن يكون ماضياً فيكون أخباراً عن أحوال قوم معينين انقرضوا ومضوا وأن يكون مضارعاً قد حذف منه إحدى التاءين وأصله تتوفاهم وعلى هذا تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة والظاهر أن لفظ المضارع ههنا على حكاية الحال الماضية والقصد إلى استحضار صورتها بشهادة كون خبر أن فعلاً ماضياً وهو قالوا والمراد بتوفي الملائكة إياهم قبض أرواحهم عند الموت والملك الذي فوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وله أعوان من الملائكة وإسناد التوفي إلى الله تعالى في قوله : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ} (الزمر : 42) وفي قوله : {وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} (الحج : 66) مبني على أن خالق الموت هو الله تعالى : {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإنها نزلت في ناس من مكة قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة فإنه تعالى لم يكن يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة إلا بالهجرة إليها ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله عليه السلام : "لا هجرة بعد الفتح" قال الله تعالى فيمن آمن وترك الهجرة {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال : 72) وهو حال من ضمير توفاهم فإنه وإن كان مضافاً إلى المعرفة وحق الحال أن يكون نكرة إلا أن أصله ظالمين أنفسهم فتكون الإضافة لفظية {قَالُوا} أي الملائكة
268
للمتوفين تقريراً لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه من الصلاة ونحوها وتوبيخاً لهم بذلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 268(2/213)
{فِيمَ كُنتُمْ} أي : في أي شيء كنتم من أمور دينكم كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل : {قَالُوا} متجانفين عن الإقرار الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ} أي : في أرض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين أهلها {قَالُوا} إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قطر آخر منها تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وقيل : كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدر فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة بانتظامهم في عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللاً بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوهم أي إلى بدر كارهين فرد عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص من قهرهم متمكنين من المهاجرة فأولئك الذين حكيت أحوالهم الفظيعة أي : في الآخرة {جَهَنَّمَ} كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار وكون جهنم مأواهم نتيجة لما قبله وهو الجملة الدالة على أن لا عذر لهم في ذلك أصلاً فعطف عليه عطف جملة على أخرى {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} مصيرهم جهنم {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ} الاستثناء منقطع فإن المتوفين ظالمين أنفسهم إما مرتدون أو عصاة بتركهم الهجرة مع القدرة عليها وهؤلاء المستضعفون أي المستذلون المقهورون تحت أيدي الكفار ليسوا بقادرين عليها فلم يدخلوا فيهم فكان الاستثناء منقطعاً والجار والمجرور حال من المستضعفين أي كائنين منهم.
فإن قلت : المستثنى المنقطع وإن لم يكن داخلاً في المستثنى منه لكن لا بد أن يتوهم دخوله في حكم المستثنى منه ومن المعلوم أن لا يتوهم دخول الأطفال في الحكم السابق وهو كون مأواهم جهنم فكيف ذكر في عداد المستثنى.
قلت للمبالغة في التحذير من ترك الهجرة وإيهام أنها لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والإشعار بأنه لا محيص لهم عنها البتة تجب عليهم إذا بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه فيكون في حكم المنكر واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر إليه بنفسه أو بدليل فأولئك إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز {عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} معنى كونه عفواً صفحه وإعراضه عن العقوبة ومعنى كونه غفوراً ستر القبائح والذنوب في الدنيا والآخرة فهو كامل العفو تام الغفران ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 2 رقم الصفحة : 268
س رده بيند عملهاى بد
هم اورده وشد ببالاى خود
269
وفي الآية الكريمة إرشاد إلى وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة أمور دينه بأي سبب كان.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليه السلام".
قال الحدادي في قوله تعالى : {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} دليل أنه لا عذر لأحد في المقام على المعصية في بلده لأجل المال والولد والأهل بل ينبغي أن يفارق وطنه إن لم يمكنه إظهار الحق فيه ولهذا روي عن سعد بن جبير أنه قال : إذا عمل بالمعاصي بأرض فاخرج منها :
سعد يا حب وطن كره حديث است صحيح
نتوان مرد بسختي كه من اينجاز آدم
(2/214)
والإشارة في الآية أن المؤمن عام وخاص وخاص الخاص كقوله : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} (فاطر : 32) وهو العام {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} (فاطر : 32) وهو الخاص {وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر : 32) وهو خاص الخاص {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَـائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدسيتها من غير تزكيتها عن أخلاقها الذميمة وتحليتها بالأخلاق الحميدة ليفلحوا فخابوا وخسروا كما قال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} (الشمس : 9 ـ 10) {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ} أي : قالت الملائكة حين قبضوا أرواحهم في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري؟ وفي أي وادٍ من أودية الهوى تهيمون؟ وفي أي روضة من رياض الدنيا كنتم تؤثرون الفاني على الباقي وتنسون الطهور والساقي وإخوانكم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ويهاجرون عن الأوطان ويفارقون الإخوان والأخدان {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ} أي عاجزين في استيلاء النفس الأمارة وغلبة الهوى مأسوري الشيطان في حبس البشرية {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ} أي أرض القلب {وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}
جزء : 2 رقم الصفحة : 268
فتحرجوا من مضيق أرض البشرية فتسلكوا في فسحة عالم الروحانية بل تطيروا في هواء الهوية فأولئك يعني ظالمي أنفسهم {مَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ} البعد عن مقامات القرب {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} جهنم البعد لتاركي القرب والمتقاعدين عن جهاد النفس {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ} الذي صفتهم {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} في الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال ولا على قهر النفس وغلبة الهوى ولا على قمع الشيطان في طلب الهدى {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} إلى صاحب ولاية يتمسكون بعروته الوثقى ويعتصمون بحبل إرادته في طلب المولى فيخرجهم من ظلمات أرض البشرية إلى نور الربوبية على أقدام العبودية وهم المقتصدون المشتاقون ولكنهم بحجب الأنانية محجوبون ومن شهود جمال الحق محرومون فعذرهم بكرمه ووعدهم رحمته وقال : {فأولئك عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} السكون عن الله والركون إلى غير الله {وَكَانَ اللَّهُ} في الأزل {عَفُوًّا} ولعفوه أمكنهم التقصير في العبودية {غَفُورًا} ولغفرانه أمهلهم في إعطاء حق الربوبية كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 2 رقم الصفحة : 268
{وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها وسبيل الله ما أمر بسلوكه {يَجِدْ فِى الارْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} أي متحولاً يتحول إليه ومهاجراً وإنما عبر عنه بذلك تأكيداً للترغيب لما فيه من الإشعار
270
بكون ذلك المتحول بحيث يصل المهاجر بما فيه من الخير والنعمة إلى ما يكون سبباً لرغم أنف قومه الذين هاجرهم.
والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام ولما كان الأنف من جملة الأعضاء في غاية العزة والتراب في غاية الذلة جعل قولهم رغم أنفه كناية عن الذلة {وَاسِعَةً} في الرزق وإظهار الدين {وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِه مُهَاجِرًا} أي مفارقاً قومه وأهله وولده {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إلى طاعة الله وطاعة رسوله {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أي : قبل أن يصل إلى المقصد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبىء عنه إيثار الخروج من بيته من المهاجرة {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى اللَّهِ} الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى ثبت أجره عند الله ثبوت الأمر الواجب {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} مبالغةً في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج {رَّحِيمًا} مبالغاً في الرحمة فيرحمه بإكمال ثواب هجرته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 270(2/215)
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما بعث بالآيات المحذرة عن ترك الهجرة إلى مسلمي مكة.
قال جندب بن ضمرة من بني الليث لبنيه وكان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يركب الراحلة احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي الطريق ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة فحمله على سرير متوجهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيم وهو موضع قريب من مكة أشرف على الموت فأخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات حميداً فلما بلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا : لو توفى بالمدينة لكان أتم أجراً وقال المشركون وهم يضحكون ما أدرك هذا ما طلب فأنزل الله هذه الآية فمن هذا قالوا : المؤمن إذا قصد طاعة ثم أعجزه العذر عن إتمامها كتب الله له ثواب تمام تلك الساعة.
وفي الكشاف قالوا : كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ورسوله وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله انتهى.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره من مات قبل الكمال فمراده يجيىء إليه كما أن من مات في طريق الكعبة يكتب له أجر حجين.
يقول : الفقير سمي الذبيح المتخلص بحقي : سمعت مرة شيخي العارف العلامة أبقاه الله بالسلامة وهو يقول عند تفسير هذه الآية : إن الطالب الصادق إذا سافر من أرض بشريته إلى مقام القلب فمات قبل أن يصل إلى مراده فله نصيب من أجر البالغين إلى ذلك المقام لصدق طلبه وعدم انقطاعه عن الطريق إلى حد الموت بل الله يكمله في عالم البرزخ بوساطة روح من أرواحه أو بوساطة فيضه.
ومثل هذا جاء في حق بعض السلاك وله نظير في الشريعة كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : بلغني أن المؤمن إذا مات ولم يحفظ القرآن أمر حفظته أن يعلموه القرآن في قبره حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة مع أهله فإذا كان طالب القرآن الرسمي بالغاً إلى مراده ، وأنّ في البرزخ لحرصه على التحصيل فليس ببدع أن يكون طالب القرآن الحقيقي وأصلاً إلى مرامه في عالم المثال المقيد لشغفه على التكميل.
أقول : وأما ما قال الشيخ الكبير صدر الدين القنوي قدس سره في الفلك الآخر من الفلوك : من المتفق شرعاً وعقلاً وكشفاً أن كل كمال لم يحصل للإنسان
271
في هذه النشأة وهذه الدار فإنه لا يحصل له بعد الموت في الدار الآخرة انتهى فلعله في حق أهل الحجاب الذين قعدوا عن الطلب رأساً لا في حق أهل الحجاب الذين سلكوا فماتوا قبل الوصول إلى مكاشفة الأفعال ومشاهدة الصفات ومعاينة الذات.
قال المولى الجامي في شرح الكلمة الشعيبية من الفصوص الحكمية : فما يدل على عدم الترقي بعد الموت من قوله تعالى : {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى} (الإسراء : 72) الآية إنما هو بالنسبة إلى معرفة الحق لا لمن لا معرفة له أصلاً فإنه إذا انكشف الغطاء ارتفع العمي بالنسبة إلى الدار الآخرة ونعيمها وجحيمها والأحوال التي فيها وأما قوله عليه السلام : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله" فهو يدل على أن الأشياء التي يتوقف حصولها على الأعمال لا تحصل وما لا يتوقف عليها بل يحصل بفضل الله ورحمته فقد يحصل وذلك من مراتب التجافي انتهى كلامه.
فعلى السالك أن لا ينقطع عن الطريق ويرجو من الله التوفيق كي يصل إلى منزل التحقيق ، قال الحافظ الشيرازي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 270
كاروان رفت تودرراه كمين كاه بخواب
وه كه بس بي غلغل ندين جرسي
بال بكشاي صفير از شجر طوبى زن
حيف باشد وتو مرغى كه اسير قفسي
تاو مجمر نفسي دامن جانان كيرم
جان نهاديم بر آتش زى خوش نفسي
ند ويد بهواي توبهر سو حافظ
يسر الله طريقاً بك يا ملتمسي
(2/216)
وفي "التأويلات النجمية" : أن الإشارة في الآية من غاية ضعف الإنسان وحياته الحيوانية واستهواء الشيطان يكون الخوف غالباً على الطالب الصادق في بدء طلبه فكما أراد أن يسافر عن الأوطان ويهاجر عن الإخوان طالباً فوائد إشارة سافروا لتصحوا وتغنموا لإزالة مرض القلب ونيل صحة الدين والفوز بغنيمة صحبة شيخ كامل مكمل وطبيب حاذق مشفق ليعالج مرض قلبه ويبلغه كعبة طلبه فتسول له النفس أعداد الرزق وعدم الصبر ويعده الشيطان بالفقر فقال تعالى على قضية {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلا} (البقرة : 268) {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي طلب الله {يَجِدْ فِى الارْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} أي : بلاداً أطيب من بلاده وإخواناً في الدين أحسن من إخوانه {وَاسِعَةً} في الرزق.
وفيه إشارة أخرى وهي ومن يهاجر عن بلد البشرية في طلب حضرة الربوبية يجد في أرض الإنسانية مراغماً كثيراً أي متحولاً ومنازل مثل القلب والروح والسر وسعة أي وسعة في تلك العوالم الوسيعة أو سعة من رحمة الله كما أخبر الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام عن تلك الوسعة والسعة بقوله : "لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن" فافهم يا كثير الفهم قصير النظر قليل العبر ثم قال دفعاً للهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية في التخويف بالموت والإيعاد بالفوت {وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِهِ} أي بيت بشريته بترك الدنيا وقمع الهوى وقهر النفس بهجران صفاتها وتبديل أخلاقها {مُهَاجِرًا} إلى الله طالباً له في مبايعة رسوله {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} قبل وصوله {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى اللَّهِ} يعني : فقد أوجب الله تعالى على ذمة كرمه بفضله ورحمته أن يبلغه إلى أقصى مقاصده وأعلى مراتبه في الوصول بناء على صدق نيته وخلوص طويته إذا كان المانع من أجله ونية المؤمن خير من عمله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنب بقية أنانية وجوده {رَّحِيمًا} عليه يتجلى صفة جوده ليبلغ
272
العبد إلى كمال مقصوده بمنه وكرمه وسعة جوده انتهى كلام "التأويلات".
جزء : 2 رقم الصفحة : 270
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرْضِ} شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمطر والمرض أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت للهجرة أو للجهاد أو لغيرهما {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي : حرج ومأثم في {أَن تَقْصُرُوا} شيئاً {مِنَ الصَّلواةِ} فهو صفة لمحذوف والقصر خلاف المد يقال قصرت الشيء أي جعلته قصيراً بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق القصر حقيقة إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر وعلى هذا فقوله من الصلوة ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصروا على زيادة من حسبما رآه الأخفش وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفاً كما هو رأى سيبويه أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بصفة الكل والمراد قصر الرباعيات بالتنصيف فإنها تصلي في السفر ركعتين فالقصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء دون المغرب والفجر وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبي حنيفة رحمه الله مسيرة ثلاثة أيام ولياليها الأيام للمشي والليالي للاستراحة بسير الإبل ومشي الإقدام بالاقتصاد ، ولا اعتبار بإبطاء الضارب أي المسافر السائر وإسراعه فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن في يوم قصر ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام لم يقصر ثم تلك المسيرة ستة برد جمع بريد كل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاثة أقدام خطوة.
وظاهر الآية الكريمة التخيير بين القصر والإتمام وأن الإتمام أفضل لكن عندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة توفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "صدقة تصدق الله بها عليكم" وهو يدل على عدم جواز الإكمال لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد فليس لنا إلا التدين بما شرع الله والعمل بما حكم.
قال في "الأشباه" : القصر للمسافر عندنا رخصة إسقاط بمعنى العزيمة بمعنى أن الإتمام لم يبق مشروعاً حتى أثم به وفسدت لوأتم ومن لم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته لاتصال النافلة بها قبل كمال أركانها وإن قعد في آخر الركعة الثانية قدر التشهد أجزأته الأخريان نافلة ويصير مسيئاً بتأخير السلام.
قال في تفسير الحدادي المسافر إذا صلى الظهر أربعاً ولم يقعد في الثانية قدر التشهد فسدت صلاته كمصلي الفجر أربعاً انتهى.
فإن قلت فما تصنع بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 270
(2/217)
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا} فلم ورد ذلك بنفي الجناح.
قلت : لما أنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فصرح بنفي الجناح عنهم لتطيب به نفوسهم ويطمئنوا إليه كما في قوله تعالى : {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (التوبة : 158) مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعي ثم أن العاصي كالمطيع في رخصة السفر حتى أن الآبق وقاطع الطريق يقصران لأن المقيم العاصي يمسح يوماً وليلة كالمقيم المطيع فكذا المسافر ولأن السفر ليس بمعصية فلا يعتبر غرض العاصي {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن خفتم
273
أن يتعرضوا لكم بما تكرهون من القتال وغيره فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة والقصر ثابت بهذا النص في حال الخوف خاصة وأما في حال الأمن فبالسنة.
قال المولى أبو السعود في تفسيره وهو شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقاً لتظاهر السنن على مشروعيته.
ثم قال بعد كلام بل نقول : إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلاة وفي مقدار مدة القصر الذي نيط به القصر فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلّم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيان على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لا جمال الكتاب انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين مكة والمدينة لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين.
كذا في "الوسيط" {إِنَّ الْكَـافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} أي ظاهر العداوة وكمال عداوتهم من موجبات التعرض لكم بقتال أو غيره.
جزء : 2 رقم الصفحة : 270
{وَإِذَا كُنتَ} يا محمد {فِيهِمْ} أي مع مؤمنين الخائفين {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواةَ} أي : إذا أردت أن تقيم بهم الصلاة.
قال ابن عباس لما رأى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر وهو يؤمهم وذلك في غزوة ذات الرقاع ندموا على تركهم الإقدام على قتالهم فقال بعضهم : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم وأموالهم يريدون صلاة العصر فإن رأيتموهم قاموا إليها فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبرائيل عليه السلام بهؤلاء الآيات بين الصلاتين فعلمه كيفية أداء صلاة الخوف وأطلعه الله على قصدهم ومكرهم ذهب الجمهور إلى أن صلاة الخوف ثابتة مشروعة بعده صلى الله عليه وسلّم في حق كل الأمة غايته أنه تعالى علم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيفية أداء الصلاة حال الخوف لتقتدي به الأمة فيتناولهم الخطاب الوارد له عليه السلام.
قال في "الكشاف" : إن الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في كل عصر قوام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولاً لكل إمام يكون حاضراً بجماعة في حال الخوف عليه أن يؤمهم كما أم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجماعات التي كان يحضرها ألا يرى أن قوله تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} (التوبة : 103) لم يوجب كونه عليه السلام مخصوصاً بها دون غيره من الأئمة بعده فكذا صلاة الخوف فاندفع قول من قال صلاة الخوف مخصوصة بحضرة الرسول عليه السلام حيث شرط كونه بينهم {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ}
جزء : 2 رقم الصفحة : 274
بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم {وَلْيَأْخُذُوا} أي الطائفة القائمة معك وهم المصلون {أَسْلِحَتَهُمْ} أي : لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها ابتداء {فَإِذَا سَجَدُوا} أي القائمون معك وأتموا الركعة {فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآاـاِكُمْ} أي فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} بعد وهي الطائفة الواقفة تجاه العدو للحراسة {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} الركعة الباقية ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين وقد بين ذلك بالسنة حيث روي عن ابن عمر وابن مسعود أن النبي عليه السلام حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة
274
(2/218)
الأخرى ركعة كما في الآية ثم جاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه إلى العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخرى بلا قراءة وسلموا ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان هذا إذا كان مسافراً أو في الفجر لأن الركعة الواحدة شطر صلاته وأما إذا كان مقيماً أو في المغرب فيصلي بالطائفة الأولى الركعتين لأنهما الشطر.
وفي الكافي لو أخطأ الإمام فصلى بالأولى الركعتين وبالثانية ركعتين أي في المغرب فسدت صلاة الطائفتين.
وتفصيل كيفية الصلاة عند الخوف من عدو أو سبع كفى مؤونته باب الصلاة الخوف في الفروع فارجع إليه {وَلْيَأْخُذُوا} أي هذه الطائفة {حِذْرَهُمْ} وهو التحذير والتيقظ {وَأَسْلِحَتَهُمْ} .
إن قلت الحذر من قبيل المعاني فكيف يتعلق الأخذ الذي لا يتعلق إلا بما هو من قبيل الأعيان كالسلاح.
قلت : إنه من قبيل الاستعارة بالكناية فإنه شبه الحذر بآلة يستعملها الغازي وجعل تعلق الأخذ به دليلاً على هذا التشبيه المضمر في النفس فيكون استعارة تخييلية ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز من حيث أن إسناد الأخذ إلى الأسلحة حقيقة وإلى الحذر مجاز وذلك لأن الأخذ على حقيقته وإنما المجاز إيقاعه فافهم ولعل زيادة الأمر بالحذر في هذه المرة كونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي عليه السلام في شغل شاغل وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليف كل من الطائفتين بأخذ الحذر والأسلحة لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن ذكرها ومئنة لهجوم العدو كما ينطق به ما بعد الآية.
قال الإمام الواحدي في قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 274
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} : رخصة للخائف في الصلاة لأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} الخطاب للفريقين بطريق الالتفات أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم شدة واحدة والمراد بالأمتعة ما يتمتع به في الحرب لا مطلقاً {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} رخصة لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر أو يضعفهم من مرض وهذا يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب.
وقال الفقهاء : حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب لأن الحمل ليس من أعمال الصلاة والأمر في قوله تعالى : {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} محمول على الندب {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر أي بالتيقظ والاحتياط لئلا يهجم عليهم العدو غيلة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم محارباً ببني أنمار فهزمهم الله تعالى فنزل النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون ولا يرون من العدو أحداً فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله يمشي لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه عليه السلام وبين أصحابه فجلس في أصل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فانحدر من الجبل ومعه السيف وقال لأصحابه قتلني الله إن لم أقتل محمداً فلم يشعر رسول الله إلا وهو قائم على رأسه وقد سل سيفه من غمده فقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال عليه السلام : "الله عز وجل" ثم قال : "اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت" ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله ليضربه فانكب على وجهه من زلخة
275
زلخها بين كتفيه فندر سيفه فقام رسول الله فأخذه ثم قال : "يا غورث من يمنعك مني" قال : لا أحد قال عليه السلام : "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك" قال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً فأعطاه سيفه فقال غورث : والله لأنت خير مني فقال عليه السلام : "أنا أحق بذلك منك" فرجع غورث إلى أصحابه فقص عليه قصته فآمن بعضهم قال : وسكن الوادي فرجع رسول الله إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} تعليل للأمر بأخذ الحذر أي : أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 274
(2/219)
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ} صلاة الخوف أي أديتموها على الوجه المبين وفرغتم منها فظهر منه أن القضاء يستعمل فيما فعل في وقته ومنه قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ} (البقرة : 200) {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} حال كونكم {قِيَـامًا} أي قائمين {وَقُعُودًا} أي قاعدين {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي : مضطجعين أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافظوا على مراقبته ومناجاته ودعائه في جميع الأحوال حتى في حال المسابقة والقتال كما في قوله تعالى : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال : 45) {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد ما تضع الحرب أوزارها {فَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ} أي : الصلاة التي دخل وقتها حينئذٍ أي أدوها بتعديل أركانها ومراعاة شرائعها.
ومن حمل الذكر على ما يعم الذكر باللسان والصلاة من الحنفية فله أن يقول في تفسير الآية : فداوموا على ذكر الله في جميع الأحوال وإذا أردتم أداء الصلاة فصلوها قائمين حال الصحة والقدرة على القيام وقاعدين حال المرض والعجز عن القيام ومضطجعين على الجنوب حال العجز عن القعود {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـابًا مَّوْقُوتًًا} أي : فرضاً موقتاً.
قال مجاهد وقته تعالى عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوف أيضاً على الوجه المشروع وقيل مفروضاً مقدراً في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدي في كل وقت حسبما قدر فيه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 276
قال في "شرح الحكم العطائية" ولما علم الله تعالى ما في العباد من وجود الشره المؤدي إلى الملل القاطع عن بلوغ العمل جعل الطاعات في الأوقات إذ جعل في اليوم خمساً وفي السنة شهراً وفي المائتين خمساً وفي العمر زورة رحمة بهم وتيسيراً للعبودية عليهم ولو لم يقيد الطاعات بأعيان الأوقات لمنعهم عنها وجود التسويف فإذا يترك معاملته تعامياً وبطراً وبطالة واتباع للهوى وإنما وسع الوقت كي تبقى حصة الاختيار وهذا سر الوقت وكان الواجب على الأمة ليلة المعراج خمسين صلاة فخفف الله عنهم وجازاهم بكل وقت عشراً فاجر خمسين في خمسة أوقات قالوا وجه كون يوم القيامة على الكافر خمسين ألف سنة لأنه لما ضيع الخمسين عوقب بكل صلاة ألف سنة كما أقروا على أنفسهم بقولهم : {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} وفي الحديث : "من ترك صلاة حتى مضى وقتها ثم قضى عذب في النار حقباً" والحقب ثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم ألف سنة مما تعدون يعني ترك الصلاة إلى وقت القضاء إثم لو عاقب الله به يكون جزاءه هكذا ولكن الله يتكرم بأن لا يجازي به إذا تاب عنه كذا في "مشكاة الأنوار" وفي الحديث : "خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم ولا يخفف عنهم
276
من عذابها.
مشرك بالله.
وعاق لوالديه.
والزاني بحليلة جاره.
ورجل سلم أخاه إلى سلطان جائر.
ورجل أو امرأة سمع المؤذن ولم يجب من غير عذر" يعني : أخرها عن وقتها بغير عذر كذا في "روضة العلماء" وفي الحديث : "ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد شيئاً أحب إليه من الصلاة ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة تعبد به ملائكته فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد" وكان آخر ما أوحي به إلي النبي عليه السلام الصلاة وما ملكت إيمانكم.
واعلم أنعباداً قد منحهم ديمومية الصلاة فهم في صلاتهم دائمون من الأزل إلى الأبد وليس هذا يدرك بالعقول القاصرة ولا يعقلها إلا العالمون بالله تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـابًا مَّوْقُوتًًا} يعني : واجباً في جميع الأوقات حين فرضت بقوله : {أَقِيمُوا الصَّلَواةَ} أي أديموها رخص فيها بخمس صلوات في خمسة أوقات لضرورة ضعف الإنسانية كما كان الصلاة الخمس خمسين صلاة حين فرضت ليلة المعراج فجعلها بشفاعة النبي عليه السلام خمساً وهذا لعوام الخلق وإلا أثبت دوام الصلاة للخواص بقوله : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَآاـاِمُونَ} (المعارج : 23).
وفي المثنوي :
جزء : 2 رقم الصفحة : 276
نج وقت آمد نماز رهنمون
عاشقانش في صلاة دائمون
نيست زرغبا وظيفه ماهيان
زانكه بي دريا ندارد انس وجان
هي كس باخويش زرغبا نمود
هي كس باخود بنوبت يا ربود
دردل عاشق بجز معشوق نيست
درميان شان فارق وفاروق نيست
{وَلا تَهِنُوا فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ} نزلت في بدر الصغرى وهي موضع سوق لبني كنانة كانوا يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام.
(2/220)
ـ روي ـ أن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت فقال صلى الله عليه وسلّم "إن شاء الله تعالى" فلما كان القابل ألقى الله الرعب في قلبه فندم على ما قال فبعث نعيم بن مسعود ليخوف المؤمنين من الخروج إلى بدر فلما أتى نعيم المدينة وجد المؤمنين يتجهزون للخروج فقال لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ففتر المؤمنين فقال عليه السلام : "لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد" فأنزل الله هذه الآية إرشاداً لمن طرأ عليهم الوهن في ابتغاء القوم أي طلب أبي سفيان وقوله.
والمعنى لا تفتروا ولا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال أي لا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد من القتل والجراحات فتوراً وضعفاً {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} من الجراح {فَإِنَّهُمْ} أي القوم {يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} أي : إن كان لكم صارف عن الحرب وهو أنكم تألمون من الجراح فلهم مثل ذلك من الصارف ولكم أسباب داعية إلى الحرب ليست لهم كما أشار إليها بقوله : {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} من الثواب والنصر {مَا لا يَرْجُونَ} والحاصل ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ثم أنهم يصبرون على ذلك فما لكم لا تصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجون من الله من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب في الآخرة ما لا يخطر ببالهم قطعاً {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} مبالغاً في العلم فيعلم أعمالكم وضمائركم {حَكِيمًا} فيما يأمر وينهى فجدّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة وفي أمره بابتغاء القوم بالقتال لهمة بالغة كاملة ومصلحة تامة شاملة فاطلبوهم بالقتال فإن الله يعذبهم في الدنيا بأيديكم وفي الآخرة بأيدي الزبانية فهل ينتظرون إلا سنة الله في الكافرين
277
الأولين وهو إنزال العذاب بهم حين كذبوا أنبياءهم فلن تجد لسنة الله تبديلاً يجعل التعذيب غير تعذيب وغير التعذيب تعذيباً ولن تجد لسنة الله تحويلاً بنقل التعذيب عنهم إلى غيرهم والحاصل أنه لا يبدل نفس السنة ولا يحول محل السنة إذ لقد حق القول عليهم ولا يتبدل القول لديه
جزء : 2 رقم الصفحة : 276
وفي الآية الكريمة حث على الشجاعة والتجلد وإظهار الغلظة كما قال تعالى : {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} .
(التوبة : 123) ، قيل :
هست نرمي آدت جان سمور
وزدرشتي ميبردجان خارشت
قال سلمان الفارسي رضي الله عنه : إذا اضطرب قلب المؤمن عند محاربة الكافر تتحدر ذنوبه كتحدر أوراق الشجرة بهبوب النسيم.
وقال عطية بن قيس إذا خرجت غازياً فإن خطر ببالي كثرة العدد والعدد رجعت عن السفر خوفاً من الغرور وإن خطر قلتهما قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ومن كلمات بهرمام :
(هر آنكه سرتاج دارد
بايدكه دل از سربر دارد)
هر آنكه اي نهد در نكار خانه ملك
يقين كه مال وسروهره هست دربازد
ومن كلمات السعدي قدس سره :
درقا كند مرد بايدبود
برمخنث سلاح جنك ه سود
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي الذي هو منزلة روحي من جسدي أنه قال السلطان والوزير بالنسبة إلى العساكر الإسلامية كالقلب بالنسبة إلى الأعضاء والجوارح الإنسانية فإذا ثبت ثبتوا كما في القلب إذا صلح صلح الجسد كله فإن كان إقبال الإمام بعشر مراتب كان إقبال قومه بمرتبة واحدة وإن كان بمائة مرتبة كان إقبالهم بعشر مراتب وهكذا وأما إدباره فعكسه فإن كان بمرتبة كان إدبار القوم بعشر مراتب وإن كان بعشر مراتب كان أدبارهم بمائة مرتبة وهكذا وليس الدخول بدار من باب تفرج البلدان والخروج إلى المسير والتنعم فلا بد لكل مجاهد أن يجتهد في خدمة الدين ويتوكل على الله ويعقد على وعده ويصبر على البلاء حتى يبلغ الكتاب أجله وإن أتى الباب فلا يستعجل الأمناء ولا يهن ولا يحزن بمكث الفتح المطلوب بل ينتظر إلى فرج الله بالنصر والفتح عن قريب فإن انكسار القلوب مفتاح أبواب الغيوب ومدار انفتاح أنواع الفتوح.
والإشارة في الآية {وَلا تَهِنُوا فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ} أي في طلب النفس وصفاتها والجهاد معها {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} في الجهاد معها وتتعبون بالرياضات والمجاهدات وملازمة الطاعات والعبادات ومداومة الذكر ومراقبة القلب في طلب الحق والقبول والوصول إلى المقامات العلية {فَإِنَّهُمْ} يعني : النفس والبدن في طلب الشهوات الدنيوية واللذات الحيوانية والمرادات الجسمانية {يَأْلَمُونَ} ويتعبون في طلبها {كَمَا تَأْلَمونَا وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} العواطف الأزلية والعوارف الأبدية {مَا لا يَرْجُونَ} النفوس الردية من هممها الدنية التي لا تتجاوز من قصورها عن المقاصد الدنيوية {وَكَانَ اللَّهُ} في الأزل {عَلِيمًا} باستعداد كل طائفة من أصناف الخلق {حَكِيمًا} فيما حكم لكل واحد منهم من المقاصد والمشارب قد علم كل إناس مشربهم وكل حزب بما لديهم فرحون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 276
(2/221)