بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب : تفسير روح البيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف : إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي , المولى أبو الفداء , متصوف مفسر , تركي مستعرب.
ولد في آيدوس وسكن القسطنطينية وانتقل إلى بروسة , وكان من أتباع الطريقة (الخلوتية) فنفي إلى تكفور طاغ واوذي , وعاد إلى بروسة فمات فيها.
له كتب عربية وتركية.
فمن العربية.
- روح البيان في تفسير القرآن.
- الرسالة الخليلية في التصوف.
- الفروقات وهو معجم في موضوعات مختلة.
توفي عام 1127 هـ الموافق لعام 1715م.
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
عدد الأجزاء / 10
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى(1/1)
سورة فاتحة الكتاب
وجه التسمية بفاتحة الكتاب إما لافتتاح المصاحف والتعليم وقراءة القرآن والصلاة بها وإما لأن الحمد فاتحة كل كلام وإما لأنها أول سورة نزلت وإما لأنها أول ما كتب في اللوح المحفوظ وإما لأنها فاتحة أبواب المقاصد في الدنيا وأبواب الجنان في العقبى وإما لأن انفتاح أبواب خزائن أسرار الكتاب بها لأنها مفتاح كنوز لطائف الخطاب بانجلائها ينكشف جميع القرآن لأهل البيان لأن من عرف معانيها يفتح بها أقفال المتشابهات ويقتبس بسناها أنوار الآيات وسميت بأم القرآن وأم الشيء أصله لأن المقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة : إقرار بالألوهية والنبوة وإثبات القضاء والقدر تعالى فقوله :
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يدل على الألوهية وقوله :
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يدل على المعاد وقوله :
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله تعالى ، وسميت بالسبع المثاني لأنها سبع آيات أو لأن كل آية منها تقوم مقام سبع من القرآن فمن قرأها أعطي ثواب قراءة الكل أو لأن من فتح فاه بقراءة آياتها السبع غلقت عنه أبواب النيران السبعة هذه وجوه التسمية بالسبع وأما بالمثاني : فلأنها تثنى في كل صلاة أو في كل ركعة بالنسبة إلى الأخرى أو المراد تشفع في كل ركعة سورة حقيقة أو حكماً أو لأن نزولها مرتين مرة في مكة ومرة في المدينة ، وسميت بسورة الصلاة وسورة الشفاء والشافية وأساس القرآن والكافية والوافية وسورة الحمد وسورة السؤال وسورة الشكر وسورة الدعاء لاشتمالها عليها وسورة الكنز لما يروى أن الله تعالى قال : "فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشي".
{الْحَمْدُ} لامه للعهد أي : الحمد الكامل وهو حمد الله أو حمد الرسل أو كمل أهل الولاء أو للعموم والاستغراق أي : جميع المحامد والاثنية للمحمود أصلاً والممدوح عدلاً والمعبود حقاً عينية كانت تلك المحامد أو عرضية من الملك أو من البشر أو من غيرهما كما قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} (الإسراء : 44) والحمد عند الصوفية : إظهار كمال المحمود وكماله تعالى صفاته وأفعاله وآثاره.
قال الشيخ داود القيصري : الحمد قولي وفعلي وحالي أما القولي : فحمد اللسان وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان أنبيائه عليهم السلام وأما الفعلي : فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى وتوجهاً إلى جنابه الكريم لأن الحمد كما يجب على الإنسان باللسان كذلك يجب عليه بحسب كل عضو بل على كل عضو كالشكر وعند كل حال من الأحوال كما قال النبي عليه السلام : "الحمدعلى كل حال" وذلك لا يمكن إلا باستعمال كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقياداً لأمره لا طلباً لحظوظ النفس ومرضاتها وأما الحالي : فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالأخلاق الإلهية لأن الناس مأمورون بالتخلق بأخلاق الله تعالى بلسان الأنبياء عليهم السلام لتصير
10
الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم وفي الحقيقة هذا حمد الحق أيضاً نفسه في مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له وأما حمده ذاته في مقامه الجمعي الإلهي قولاً فهو ما نطق به في كتبه وصحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية وفعلاً فهو إظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه إلى شهادته ومن باطنه إلى ظاهره ومن علمه إلى عينه في مجالي صفاته ومحال ولاية أسمائه وحالاً فهو تجلياته في ذاته بالفيض الأقدس الأولى وظهور النور الأزلي فهو الحامد والمحمود جمعاً وتفصيلاً كما قيل :
لقد كنت دهراً قبل أن يكشف الغطا
أخالك أني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهداً
بأنك مذكور وذكر وذاكر
وكل حامد بالحمد القولي يعرف محموده بإسناد صفات الكمال إليه فهو يستلزم التعريف انتهى كلامه.
والحمد شامل للثناء والشكر والمدح ولذلك صدر كتابه بأن حمد نفسه بالثناء في الله والشكر في رب العالمين والمدح في الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم ليس للعبد أن يحمده بهذه الوجوه الثلاثة حقيقة بل تقليداً ومجازاً ؛ أما الأول فلأن الثناء والمدح بوجه يليق بذاته أو بصفاته فرع معرفة كنههما وقد قال الله تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} (طه : 110) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الزمر : 67) وأما الثاني فكما أن النبي عليه السلام لما خوطب ليلة المعراج بأن أثننِ علي قال : "لا أحصي ثناء عليك" وعلم أن لا بد من امتثال الأمر وإظهار العبودية "فقال : أنت كما أثنيت على نفسك" فهو ثناء بالتقليد وقد أمرنا أيضاً أن نحمده بالتقليد بقوله : {قُلِ الْحَمْدُ} (النمل : 59) كما قال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن : 16) كذا في "التأويلات النجمية".
قال السعدي قدس سره :(1/2)
جزء : 1 رقم الصفحة : 10
عطا ييست هر موى ازو برتنم
ه كونه بهر موى شكرى كنم
وذكر الشيخ الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في "منهاج العابدين" أن الحمد والشكر آخر العقبات السبع التي لا بد للسالك من عبورها ليظفر بمبتغاه فأول ما يتحرك العبد لسلوك طريق العبادة يكون بخطرة سماوية وتوفيق خاص إلهي وهو الذي أشار إليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلّم بقوله : "إن النور إذا دخل قلب العبد انفتح وانشرح" فقيل : يا رسول الله هل لذلك من علامة يعرف بها؟ فقال : "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله" فإذا خطر بقلب العبد أول كل شيء أن له منعماً بضروب من النعم ، وقال إنه يطالبني بشكره وخدمته فلعله إن غفلت يزيل نعمته ويذيقني نقمته وقد بعث إلي رسولاً بالمعجزات وأخبرني بأن لي رباً عالماً قادراً على أن يثيب بطاعته ويعاقب بمعصيته وقد أمر ونهى فيخاف على نفسه عنده فلم يجد في طريق الخلاص من هذا النزاع سبيلاً سوى الاستدلال بالصنعة على الصانع فيحصل له اليقين بوجود ربه الموصوف بما ذكر فهذه عقبة العلم والمعرفة استقبلته في أول الطريق ليكون في قطعها على بصيرة بالتعلم والسؤال من علماء الآخرة فإذا حصل له اليقين بوجود ربه بعثته المعرفة على التشمر للخدمة ولكنه لا يدري كيف يعبده فيتعلم ما يلزمه من الفرائض الشرعية ظاهراً وباطناً فلما استكمل العلم والمعرفة بالفرائض انبعث للعبادة فنظر فإذا هو صاحب ذنوب كما هو حال أكثر الناس فيقول كيف أقبل على الطاعة
11
وأنا مصر متلطخ بالمعاصي فيجب أن أتوب إليه ليخلصني من أسرها وأتطهر من أقذارها فأصلح للخدمة فيستقبله ههنا عقبة التوبة فلما حصلت له إقامة التوبة الصادقة بحقوقها وشرائطها نظر للسلوك فإذا حوله عوائق من العبادة محدقة به فتأمل فإذا هي أربع : الدنيا ، والخلق ، والشيطان ، والنفس ، فاستقبلته عقبة العوائق فيحتاج إلى قطعها بأربعة أمور : التجرد عن الدنيا ، والتفرد عن الخلق ، والمحاربة مع الشيطان ، والنفس وهي أشدها إذ لا يمكنه التجرد عنها ولا أن يقهرها بمرة كالشيطان إذ هي المطية والآلة ولا مطمع أيضاً في موافقتها على الإقبال على العبادة إذ هي مجبولة على ضد الخير كالهوى واتباعها له :
نمي تازد أين نفس سركش جنان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان برآيد بزور
مصاف بلنكان نيايد زمور
جزء : 1 رقم الصفحة : 10
فاحتاج إلى أن يلجمها بلجام التقوى لتنقاد فيستعملها في المراشد ويمنعها عن المفاسد فلما فرغ من قطعها وجد عوارض تعترضه وتشغله عن الإقبال على العبادة فنظر فإذا هي أربعة : رزق تطلبه النفس ولا بد ، وإخطار من كل شيء يخافه أو يرجوه أو يريده أو يكرهه ولا يدري أصلاحه في ذلك أم فساده ، والثالث : الشدائد والمصائب تنصب عليه من كل جانب لا سيما وقد انتصب لمخالفة الخلق ومحاربة الشيطان ومضارة النفس ، والرابع : أنواع القضاء فاستقبلته ههنا عقبة العوارض الأربعة فاحتاج إلى قطعها بأربعة : بالتوكل على الله في الرزق والتفويض إليه في موضع الخطر والصبر عند الشدائد والرضى بالقضاء فإذا قطعها نظر فإذا النفس فاترة كسلى لا تنشط ولا تنبعث لخير كما يحق وينبغي وإنما ميلها إلى غفلة ودعة وبطالة بل إلى سرف وفضول فاحتاج إلى سائق يسوقها إلى الطاعة وزاجر يزجرها عند المعصية وهما : الرجاء والخوف ، فالرجاء في حسن ما وعد من الكرامات والخوف من صعوبة ما أوعد من العقوبات والإهانات فهذه عقبة البواعث استقبلته فاحتاج إلى قطعها بهذين المذكورين فلما فرغ منها لم ير عائقاً ولا شاغلاً ووجد باعثاً وداعياً فعانق العبادة بلزام الشوق فنظر فإذا تبدو بعد كل ذلك آفتان عظيمتان هما الرياء والعجب فتارة يرائي بطاعته الناس وتارة يستعظم ذلك ويكرم نفسه فاستقبلته ههنا عقبة القوادح فاحتاج إلى قطعها بالإخلاص وذكر المنة فإذا قطعها بحسن عصمة الجبار وتأييده حصلت العبادة له كما يحق وينبغي ولكنه نظر فإذا هو غريق في بحور نعم الله من إمداد التوفيق والعصمة فخاف أن يكون منه إغفال للشكر فيقع في الكفران وينحط عن تلك المرتبة الرفيعة التي هي مرتبة أغذية الخالصين فاستقبلته ههنا عقبة الحمد والشكر فقطعها بتكثيرهما فلما فرغ منها فإذا هو بمقصوده ومبتغاه فيتنعم في طيب هذه الحالة بقية عمره بشخص في الدنيا وقلب في العقبى ينتظر البريد يوماً فيوماً ويستقذر الدنيا فاستكمل الشوق إلى الملأ الأعلى فإذا هو برسول رب العالمين يبشره بالرضوان من عند رب غير غضبان فينقلونه في طيبة النفس وتمام البشر والأنس من هذه الدنيا الفانية إلى الحضرة الإلهية ومستقر رياض الجنة فيرى لنفسه الفقيرة نعيماً وملكاً عظيماً قال الشيخ سعدي قدس سره :
عروسي يود نوبت ما تمت
كرت نيك روزى بود خاتمت
12
قال خسرو عند وفاته :
زد نياميرود خسرو بزيرلب همى كويد
دلم بكرفت ازغربت تمناي وطن دارم(1/3)
جزء : 1 رقم الصفحة : 10
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} لما نبه على استحقاقه الذاتي بجميع المحامد بمقابلة الحمد باسم الذات أردفه بأسماء الصفات جمعاً بين الاستحقاقين وهو أي رب العالمين كالبرهان على استحقاقه جميع المحامد الذاتي والصفاتي الدنيوي والأخروي ، والرب بمعنى التربية والإصلاح أما في حق العالمين فيربيهم بأغذيتهم وسائر أسباب بقاء وجودهم وفي حق الإنسان فيربي الظواهر بالنعمة وهي النفس ويربي البواطن بالرحمة وهي القلوب ويربي نفوس العابدين بأحكام الشريعة ويربي قلوب المشتاقين بآداب الطريقة ويربي أسرار المحبين بأنوار الحقيقة ويربي الإنسان تارة بأطواره وفيض قوي أنواره في أعضائه فسبحان من أسمع بعظم وبصر بشحم وأنطق بلحم وأخرى بترتيب غذائه في النبات بحبوبه وثماره وفي الحيوان بلحومه وشحومه وفي الأراضي بأشجاره وأنهاره وفي الأفلاك بكواكبه وأنواره وفي الزمان بسكونك وتسكين الحشرات والحركات المؤذية في الليالي وحفظك وتمكينك من ابتغاء فضله بالنهار فيا هذا يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت لا تخدمه أو تخدمه كأن لك رباً غيره ، والعالمين جمع عالم ، والعالم : جمع لا واحد له من لفظه ، قال وهبثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء ، وقال الضحاك ثلاثمائة وستون ثلاثمائة منهم حفاة عراة لا يعرفون خالقهم وهم حشو جهنم وستون عالماً يلبسون الثياب مر بهم ذو القرنين وكلمهم ، وقال كعب الأحبار : لا يحصى لقوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} (المدثر : 31) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الله تعالى خلق الخلق أربعة أصناف : الملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس ، ثم جعل هؤلاء عشرة أجزاء تسعة منهم الملائكة وواحد الثلاثة الباقية ثم جعل هذه الثلاثة عشرة أجزاء تسعة منه الشياطين وجزء واحد الجن والإنس ثم جعلهما عشرة أجزاء فتسعة منهم الجن وواحد الإنس ثم جعل الإنس مائة وخمسة وعشرين جزءاً فجعل مائة جزء في بلاد الهند منهم : ساطوح : وهم أناس رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب ، ومالوخ : وهم أناس أعينهم على صدورهم ، وماسوخ : وهم أناس آذانهم كآذان الفيلة ، ومالوف : وهم أناس لا يطاوعهم أرجلهم يسمون دوالياي ومصير كلهم إلى النار وجعل اثني عشر جزءاً منهم في بلاد الروم النسطورية والملكانية والإسرائيلية كل من الثلاث أربع طوائف ومصيرهم إلى النار جميعاً وجعل ستة أجزاء منهم في المشرق : يأجوج ، ومأجوج ، وترك ، وخاقان ، وترك حدخلخ ، وترك خزر ، وترك جرجير ، وجعل ستة أجزاء في المغرب : الزنج والزط والحبشة والنوبة وبربر وسائر كفار العرب ومصيرهم إلى النار وبقي من الإنس من أهل التوحيد جزء واحد فجزأهم ثلاثاً وسبعين فرقة اثنتان وسبعون على خطر وهم أهل البدع والضلالات وفرقة ناجية وهم أهل السنة والجماعة وحسابهم على الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفي الحديث : "أن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين فرقة وتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة" قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : "من هم على ما أنا عليه وأصحابي" يعني : ما أنا عليه وأصحابي من الاعتقاد والفعل والقول فهو حق وطريق موصل إلى الجنة والفوز والفلاح وما عداه باطل وطريق إلى النار إن كانوا إباحيين فهم خلود وإلا فلا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 10
{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} في التكرار وجوه ، أحدها ما سبق
13(1/4)
من أن رحمتي البسملة ذاتيتان ورحمتي الفاتحة صفاتيتان كماليتان ، والثاني ليعلم أن التسمية ليست من الفاتحة ولو كانت منها لما أعادهما لخلو الإعادة عن الفائدة ، والثالث أنه ندب العباد إلى كثرة الذكر فإن من علامة حب الله حب ذكر الله وفي الحديث : "من أحب شيئاً أكثر ذكره" ، والرابع : أنه ذكر رب العالمين فبين أن رب العالمين هو الرحمن الذي يرزقهم في الدنيا الرحيم الذي يغفر لهم في العقبى ولذلك ذكر بعده مالك يوم الدين يعني أن الربوبية إما بالرحمانية وهي رزق الدنيا وإما بالرحيمية وهي المغفرة في العقبى ، والخامس أنه ذكر الحمد وبالحمد ، تنال الرحمة فإن أول من حمد الله تعالى من البشر آدم عطس فقال : الحمدوأجيب للحال يرحمك ربك ولذلك خلقك فعلم خلقه الحمد وبين أنهم ينالون رحمته بالحمد ، والسادس أن التكرار للتعليل لأن ترتيب الحمد على هذه الأوصاف إمارة علية مأخذها فالرحمانية والرحيمية من جملتها لدلالتهما على أنه مختار في الإحسان لا موجب في ذلك استيفاء أسباب استحقاق الحمد من فيض الذات برب العالمين وفيض الكمالات بالرحمن الرحيم ولا خارج عنهما في الدنيا وفيض الأثوبة لطفاً والأجزية عدلاً في الآخرة ومن هذا يفهم وجه ترتيب الأوصاف الثلاثة ، والفرق بين الرحمن والرحيم إما باختصاص الحق بالأول أو بعمومه أو بجلائل النعم فعلى الأول هو الرحمن بما لا يصدر جنسه من العبادة والرحيم بما يتصور صدوره منهم فذا كما روي عن ذي النون قدس سره : وقعت ولولة في قلبي فخرجت إلى شط النيل فرأيت عقرباً يعدو فتبعته فوصل إلى ضفدع على الشط فركب ظهره وعبر به النيل فركبت السفينة واتبعته فنزل وعدا إلى شاب نائم وإذا أفعى بقربه تقصده فتواثبا وتلادغا وماتا وسلم النائم ويحكى أن ولد الغراب إذا خرج من القشر يكون كلحم أحمر ويفر الغراب منه فيجتمع عليه البعوض فيلتقمه إلى أن ينبت ريشه فعند ذلك تعود الأم إليه ولهذا قيل : يا رازق النعاب في عشه وإما على أن الرحمن عام.
فقيل : كيف ذلك وقلما يخلو أحد بل حالة له عن نوع بلوى؟ قلنا : الحوادث منها ما يظن أنه رحمة ويكون نقمة وبالعكس قال الله تعالى : {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْاًا} (النساء : 19) الآية فالأول كما قال :
إن الشباب والفراغ والجده
جزء : 1 رقم الصفحة : 13
مفسدة للمرء أي مفسده
وكل منها في الظاهر نعمة والثاني كحبس الولد في المكتب وحمله على التعلم بالضرب وكقطع اليد المتأكلة فالأبله يعتبر بالظواهر والعاقل ينظر إلى السرائر فما من بلية ومحنة إلا وتحتها رحمة ومنحة وترك الخير الكثير للشر القليل شر كبير فالتكاليف لتطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية وخلق النار لصرف الأشرار إلى أعمال الأبرار وخلق الشيطان لتميز المخلصين من العباد ، فشأن المحقق أن يبني على الحقائق كالخضر عليه السلام في قصة موسى عليه السلام معه فكل ما يكره الطبع فتحته أسرار خفية وحكمة بالغة فلولا الرحمة وسبقها للغضب لم يكن وجود الكون ولما ظهر للاسم المنعم عين.
وإما على أن الرحمن لجلائل النعم فإنما أتبعه بالرحيم لدفع توهم أن يكون طلب العبد الشيء اليسير سوء أدب كما قيل لبعضهم : جئتك لحاجة يسيرة قال : اطلب لها رجلاً يسيراً فكأن الله يقول : لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت عني ولكني رحيم فاطلب مني حتى شراك نعلك وملح قدرك.
قال الشيخ السعدي قدس سره العزيز :
محالست اكر سربرين درنهى
كه باز آيدت دست حاجت تهى
14
قال أهل الحقيقة الحضرات الكلية المختصة بالرحمن ثلاث : حضرة الظهور ، وحضرة البطون ، وحضرة الجمع ، وكل موجود فله هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها وعلى هذه المراتب تنقسم أحكام الرحمة في السعداء والأشقياء والمتنعمين بنفوسهم دون أبدانهم كالأرواح المجردة وبالعكس والجامعين بين الأمرين وكذا من أهل الجنة منهم سعداء من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم لكونهم لم يقدموا في الجنة ما يستوجبون به النعيم الصوري وإن كان فنزر يسير بالنسبة إلى من سواهم وعكس ذلك كالزهاد والعباد الذين لا علم لهم فإن أرواحهم قليلة الحظ من النعيم الروحاني لعدم المناسبة بينهم وبين الحضرات العلمية الإلهية ولهذا لم تتعلق هممهم زمان العمل بما وراء العمل بل ظنوه الغاية فوقفوا عنده واقتصروا عليه رغبة فيما وعدوا به ورهبة مما حذرو منه وأما الجامعون بين النعيمين تماماً فهم الفائزون بالحظ الكامل في العلم والعمل كالرسل عليهم الصلاة والسلام ومن كملت وراثته منهم أعني الكمل من الأولياء : قال المولى جلال الدين قدس سره :
هركبوتر مى رد درمذهبي
وين كبوتر جانب بى جانبي
جزء : 1 رقم الصفحة : 13(1/5)
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} اليوم في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس والمراد ههنا مطلق الوقت لعدم الشمس ثم أي مالك الأمر كله في يوم الجزاء فإضافة اليوم إلى الدين لأدنى ملابسة كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الوادث كليوم الأحزاب ويوم الفتح وتخصيصه إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرده بإجراء الأمر فيه وانقطاع العلائق بين الملاك والأملاك حينئذ بالكلية ففي ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره وأصل الملك والملك الربط والشد والقوة فللّه في الحقيقة القوة الكاملة والولاية النافذة والحكم الجاري والتصرف الماضي وهو للعباد مجاز إذ لملكهم بداية ونهاية وعلى البعض لا الكل وعلى الجسم لا العرض وعلى النفس لا النفس لا النفس وعلى الظاهر لا الباطن وعلى الحي لا الميت بخلاف المعبود الحق إذ ليس لملكه زوال ولا لملكه انتقال وقراءة مالك بالألف أكثر ثواباً من ملك لزيادة حرف فيه.
يحكى عن أبي عبد الله محمد بن شجاع الثلجي رحمه الله تعالى أنه قال : كان من عادتي قراءة مالك فسمعت من بعض الأدباء أن ملك أبلغ فتركت عادتي وقرأت ملك فرأيت في المنام قائلاً يقول : لم نقصت من حسناتك عشراً أما سمعت قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم "من قرأ القرآن كتب له بكل حرف عشر حسنات محيت عنه عشر سيآت ورفعت له عشر درجات" فانتبهت فلم أترك عادتي حتى رأيت ثانياً في المنام أنه قيل لي : لم لا تترك هذه العادة أما سمعت قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم "اقرأوا القرآن فخماً مفخماً" أي عظيماً معظماً فأتيت قطرباً وكان إماماً في اللغة فسألته ما بين المالك والملك فقال : بينهما فرق كثير ، أما المالك فهو الذي ملك شيئاً من الدنيا وأما الملك فهو الذي يملك الملوك.
قال في تفسير الإرشاد : قرأ أهل الحرمين المحترمين ملك من الملك الذي هو عبارة عن السلطان القاهر والاستيلاء الباهر والغلبة التامة والقدرة على التصرف الكلي في أمور العامة والنهي وهو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين انتهى.
ولكل وجوه ترجيح ذكرت في التفاسير فلتطالع ثمة.
والوجه في سرد الصفات الخمس كأنه يقول : خلقتك فأنا إله ثم ربيتك بالنعم فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ثم تبت فغفرت فأنا رحيم.
15
ثم لا بد من الجزاء فأنا مالك يوم الدين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 15(1/6)
وفي "التأويلات النجمية" الإشارة في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أن الدين في الحقيقة الإسلام يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَامُ} (آل عمران : 19) والإسلام على نوعين إسلام بالظاهر وإسلام بالباطن فإسلام الظاهر بإقرار اللسان وعمل الأركان فهذا الإسلام جسداني والجسداني ظلماني ويعبر عن الليل بالظلمة وأما إسلام الباطن فبانشراح القلب والصدر بنور الله تعالى فهذا الإسلام الروحاني نوراني ويعبر عن اليوم بالنور فالإسلام الجسداني يقتضي إسلام الجسد لأوامر الله ونواهيه والإسلام الروحاني يقتضي استسلام القلوب والروح لأحكام الأزلي وقضائه وقدره فمن كان موقوفاً عند الإسلام الجسداني ولم يبلغ مرتبة الإسلام الروحاني وهو بعد في سير ليلة الدين متردد ومتحير فيرى ملوكاً وملاكاً كثيرة كما كان حال الخليل عليه السلام فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال : هذا ربي ومن تنفس صح سعادته وطلعت شمس الإسلام الروحاني من وراء جبل نفسه من مشرق القلب فهو على نور من ربه واضح في كشف يوم الدين فيكون ورد وقته أصبحنا وأصبح الملك .
فيشاهد بعين اليقين بل يكاشف حق اليقين أن الملكولا مالك إلا مالك يوم الدين فإذا تجلى له النهار وكشف بالمالك جهاراً يخاطبه وجاهاً ويناجيه شفاهاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن لطائف مالك يوم الدين أن مخالفة الملك تأول إلى خراب العالم وفناء الخلق فكيف مخالفة ملك الملوك كما قال الله تعالى في سورة مريم : {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} (مريم : 90) والطاعة سبب المصالح كما قال تعالى : {نَّحْنُ نَرْزُقُكَا وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه : 132) فعلى الرعية مطاوعة الملوك وعلى الملوك مطاوعة ملك الملوك لينتظم مصالح العالم ، ومن لطائفه أيضاً أن مالك يوم الدين يبين أن كمال ملكه بعدله حيث قال : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْاًا} (الأنبياء : 47) فالملك المجازي إن كان عادلاً كان حقاً فدرّت الضروع ونمت الزروع وإن كان جائراً كان باطلاً فارتفع الخير يحكى أن أنوشروان انقطع في الصيد عن القوم فانتهى إلى بستان فقال لصبي فيه : أعطني رمانة فأعطاه فاستخرج من حبها ماء كثيراً سكن به عطشه فأعجبه وأضمر أخذ البستان من مالكه فسأله أخرى فكانت عفصة قليلة الماء فسأل الصبي عنه فقال : لعل الملك عزم على الظلم فتاب قلبه وسأله أخرى فوجدها أطيب من الأولى فقال الصبي : لعل الملك تاب فتنبه أنوشروان وتاب بالكلية عن الظلم فبقي اسمه مخلداً بالعدول حتى روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه تفاخر فقال : "ولدت في زمن الملك العادل" قال الفناري في تفسير الفاتحة : بل لعله تفاخر بزمنه النوراني حتى ولد فيه مثله وذكر أنوشروان دليلاً على نورانية زمانه حيث لا يتصور في الكافر المسلط أحسن حالاً من العدل انتهى ، قال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" حديث : "ولدت في زمن الملك العادل" لا أصل له ولا صحة وإن صح فإطلاق العادل عليه لتعريفه بالاسم الذي كان يدعى به لا الوصفية بالعدل والشهادة له بذلك أو وصفه بذلك على اعتقاد المعتقدين فيه أنه كان عادلاً كما قال الله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 15
{فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ} (هود : 101) أي : ما كان عندهم آلهة ولا يجوز أن يسمي رسول الله صلى الله عليه وسلّم من يحكم بغير حكم الله عادلاً انتهى كلام المقاصد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه فإن كان مطيعاًفي عمله مضى فيه وإن كان عاصياً انخرق به الجسر فيهوى في جهنم مقدار خمسين عاماً" كذا في "تذكرة الموتى" للإمام القرطبي
16
قال السعدي قدس سره :
مهازور مندى مكن برجهان
كه بريك نمط مى نماند جهان
نماند ستمكار بد روز كار
بماند برو لعنت بايدار
جزء : 1 رقم الصفحة : 15(1/7)
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بنى الله سبحانه أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وتأثير سلطانه ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ، وفيه إشارة أيضاً إلى أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت منه بل من حيث أنها نسبة شريفة ووصلة بينه وبين الحق فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسب إليه ولذلك فضل ما حكى عن حبيبه حين قال : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة : 40) على ما حكاه عن كليمه حيث قال : {إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الشعراء : 62) وتقديم المفعول لقصد الاختصاص أي : نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك والعبادة غاية الخضوع والتذلل.
وعن عكرمة : جميع ما ذكر في القرآن من العبادة التوحيد ومن التسبيح الصلاة ومن القنوت الطاعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلّم قل يا محمد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي : إياك نؤمل ونرجو لا غيرك والضمير المستكن في {نَعْبُدُ} وكذا في {نَسْتَعِينُ} للقارىء ومن معه من لحفظة وحاضري صلاة الجماعة أوله ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب ولهذا شرعت الجماعة.
قال الشيخ الأكبر والمسك الأذفر قدسنا الله بسره الأطهر في كتاب "العظمة" إذا كنى العبد عن نفسه بنون نفعل فليست بنون التعظيم وإذا كنى عن الحق تعالى بضمير الأفراد فإن ذلك لغلبة سلطان التوحيد في قلب هذا العبد وتحققه به حتى سرى في كليته فظهر ذلك في نطقه لفظاً كما كان عقداً وعلماً ومشاهدة وعيناً وهذه النون نون الجمع فإن العبد وإن كان فرداني اللطيفة وحداني الحقيقة فإنه غير وحداني ولا فرداني من حيث لطيفته ومركبها وهيكلها وقالبها وما من جزء في الإنسان إلا والحق تعالى قد طالب الحقيقة الربانية التي فيه أن تلقى على هذه الأجزاء ما يليق بها من العبادات وهي في الجملة وإن كانت المدبرة فلها تكليف يخصها ويناسب ذاتها فلهذه الجمعية يقول العبد تعالى : نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد وإياك نعبد وأمثال هذا الخطاب ولقد سألني سائل من علماء الرسول عن هذه المسألة وكان قد حار فيها فأجبته بأجوبة منها هذا فشفى غليله والحمدانتهى كلام الشيخ قدس سره ، وإنما خصص العبادة به تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم فلا تليق إلا بالمنعم في الغاية وهو المنعم بخلق المنتفع وبإعطاء الحياة الممكنة من الانتفاع كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 17
{وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} (البقرة : 28) الآية {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} (البقرة : 29) ولأن أحوال العبد ماض وحاضر ومستقبل ففي الماضي نقله من العدم والموت والعجز والجهل إلى الوجود والحياة والقدرة والعلم بقدرته الأزلية وفي الحاضر انفتحت عليه أبواب الحاجات ولزمته أسباب الضروريات فهو ربي الرحمن الرحيم وفي المستقبل مالك يوم الدين يجازيه بأعماله
17(1/8)
فمصالحه في الأحوال الثلاثة لا تستتب إلا بالله فلا مستحق للعبادة إلا الله تعالى ، ثم قوله : {نَعْبُدُ} يحتمل أن يكون من العبادة ومن العبودة والعبادة هي العابدية والعبودة هي العبدية ، فمن العبادة الصلاة بلا غفلة والصوم بلا غيبة والصدقة بلا منة والحج بلا إراءة والغزو بلا سمعة والعتق بلا أذية والذكر بلا ملالة وسائر الطاعات بلا آفة ، ومن العبودة الرضى بلا خصومة والصبر بلا شكاية واليقين بلا شبهة والشهود بلا غيبة والإقبال بلا رجعة والإيصال بلا قطيعة ، وأقسام العبادة على ما ذكره حجة الإسلام في كتابه المسمى "بالأربعين" : عشرة.
كما أن الاعتقادات التي قبلها عشرة ، فالمعتقدات الذات الأزلية الأبدية المنعوتة بصفات الجلال والإكرام الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن أي : الأول بوجوده والآخر بصفاته وأفعاله والظاهر بشهادته ومكوناته والباطن بغيبه ومعلوماته ، ثم التقديس عما لا يليق بكماله أو يشين بجماله من النقائص والرذائل ، ثم القدرة الشاملة للممكنات ، ثم العلم المحيط بجميع المعلومات حتى بدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وما هو أخفى منه كهواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر ، ثم الإرادة بجميع الكائنات فلا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير إلا بقضائه ومشيئته مريد في الأزل لوجود الأشياء في أوقاتها المعينة فوجدت كما أرادها ، ثم السمع والبصر لا يحجب سمعه بعد ولا رؤيته ظلام فيسمع من غير أصمخة وآذان ويبصر من غير حدقة وأجفان ، ثم الكلام الأزلي القائم بذاته لا بصوت ككلام الخلق وإن القرآن مقروء ومكتوب ومحفوظ ومع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى وأن موسى سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف كما يرى الأبرار ذات الله من غير شكل ولا لون ، ثم الأفعال الموصوفة بالعدل المحض فلا موجود إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله إذ لا يضاف لغيره ملكاً ليكون تصرفه فيه ظلماً فلا يتصور منه ظلم ولا يجب عليه فعل فكل نعمة من فضله وكل نقمة من عدله ، ثم اليوم الآخر ، والعاشر النبوة المشتملة على إرسال الملائكة وإنزال الكتب ، وأما العبادات العشرة : فالصلاة والزكاة والصوم والحج وقراءة القرآن وذكر الله في كل حال وطلب الحلال والقيام بحقوق المسلمين وحقوق الصحبة والتاسع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعاشر : اتباع السنة وهو مفتاح السعادة وأمارة محبة الله كما قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 38) : قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 17
يا نبي الله السلام عليك
إنما الفوز والفلاح لديك
كر نرفتم طريق سنت تو
هستم از عاصيان امت تو
مانداه ام زير بار عصيان بست
افتم ازباي اكر نكريى دست
وجاء في بيان مراتب العبادة المتوجهين إلى الله : إن الإنسان إذا فعل براً إن قصد به أمراً ما غير الحق كان من الأحرار لا من العبيد وإن لم يقصد أمراً بعينه بل يفعله لكونه خيراً فقط أو لكونه مأموراً به لا مطلقاً بل من حيث الحضور منه مع الآمر فهو الرجل فإن ارتقى بحيث لا يقصد بعمله غير الحق كان تاماً في الرجولية فإن كان بحيث لا يفعل شيئاً إلا بالحق كما ورد في قرب النوافل صار تاماً في المعرفة والرجولية وإن انضم إلى ما سبق حضوره مع الحق في فعله بحيث يشهده بعين الحق لا بنفسه من حيث إضافة الشهود إلى الله والفعل والإضافة إليه لا إلى نفسه فهو العبد المخلص المخلص عمله
18(1/9)
فإن ظهرت عليه غلبة أحكام هذا المقام والذي قبله وهو مقام فبي يسمع غير متقيد بشيء منها ولا بمجموعها مع سريان حكم شهوده الإحدى في كل مرتبة ونسبة دون الثبات على أمر بعينه بل ثابتاً في سعته وقبوله كل وصف وحكم عن علم صحيح منه بما اتصف به وما انسلخ عنه في كل وقت وحال دون غفلة وحجاب فهو الكامل في العبودية والخلافة والإحاطة والإطلاق كذا في تفسير الفاتحة للصدر القنوي قدس سره ، قال في "التأويلات النجمية" في قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} رجع إلى الخطاب من الغيبة لأنه ليس بين المملوك ومالكه إلا حجاب ملك نفس المملوك فإذا عبر من حجاب ملك النفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس كما قال أبو يزيد في بعض مكاشفاته : إلهي كيف السبيل إليك؟ قال له ربه : دع نفسك وتعال فللنفس أربع صفات : أمارة ، ولوامة ، وملهمة ، ومطمئنة ، فأمر العبد المملوك بأن يذكر مالكه بأربع صفات بالصفة الإلهية والربوبية والرحمانية والرحيمية ، فيعبر بعد مدح الإلهية وشكر الربوبية وثناء الرحمانية وتمجيد الرحيمية بقوة جذبات هذه الصفات الأربع من حجاب ممالك الصفات الأربع للنفس فيتخلص من ظلمات ليلة رين نفسه بطلوع صبح صادق مالك يوم الدين فيبقى العبد عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء فيرحمه مالكه ويذكره بلسان كرمه على قضية وعده {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ويناديه ويخاطب نفسه {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر : 27) ثم يجذبه من غيبة نفسه إلى شهود مالكية ربه بجذبة
جزء : 1 رقم الصفحة : 17
{ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} (الفجر : 28) فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز كما قرأ بعضهم : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} نصباً على نداء إياك نعبد ، واعلم أن النفس دنيوية تعبد هواها الدنيوي لقوله تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَه هَوَااهُ} (الجاثية : 23) والقلب أخروي يعبد الجنة لقوله تعالى : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} (النازعات : 40 ـ 41) والروح قربى يعبد القربة والعندية لقوله تعالى : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} (القمر : 55) والسر حضرتي يعبد الحق تبارك لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام : "الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" فلما أنعم الله على عبده بنعمة الصلاة قسمها بينه وبين عبده كما قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام : "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" فتقرب العبد بنصفه إلى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على صفات جماله وجلاله وتقرب الرب على مقتضى كرمه وإنعامه كما قال : "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" بنصفه إلى خلاص عبده من رق عبودية الأغيار بإخراجه من ظلمات بعضها فوق بعض من هوى الناس ومراد القلب وتعلق الروح بغير الحق إلى نور وحدانيته وشهود فردانيته فأشرقت أرض النفس وسموات القلب وعرش الروح وكرسي السر بنور ربها فآمنوا كلهم أجمعون بالله الذي خلقهم وهو مالكهم وملكهم وكفروا بطواغيتهم التي يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى وجعلوا كلهم واحداً وقالوا : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كرر إياك للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة أيضاً والاستعانة طلب العون ويعدى بالباء وبنفسه أي : تطلب العون على عبادتك أو على ما لا طاقة لنا به أو على محاربة الشيطان المانع من عبادتك أو في أمورنا بما يصلحنا في دنيانا وديننا والجامع للأقاويل نسألك أن تعيننا على أداء الحق وإقامة الفروض وتحمل المكاره وطلب المصالح وتقديم العبادة على الاستعانة ليوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسلية على طلب الحاجة
19
أدعى إلى الإجابة وإياك نعبد لما أورثه العجب أردف إياك نستعين إزالة له وإفناء للنخوة ، ففي الجمع بينهما افتخار وافتقار فالافتخار بكونه عابداً والافتقار إلى معونته وتوفيقه وعصمته ، وفيه أيضاً تحقيق لمذهب أهل السنة والجماعة ؛ إذ فيه إثبات الفعل من العبد والتوفيق من الله كالخلق ففيه رد الجبرية النافين للفعل من العبد بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 17(1/10)
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ورد المعتزلة النافين للتوفيق والخلق من الله بقوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم تحقيقهما من العبد أن لا يخدم غير الله ولا يسأل إلا من الله حكي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه أم قوماً في صلاة المغرب فلما قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خر مغشياً عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال : خفت أن يقال فلم تذهب إلى أبواب الأطباء والسلاطين ، وفي تخصيص الاستعانة بالتقديم اقتداء بالخليل عليه السلام في قيد النمرود حيث قال له جبريل عليه السلام : هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا فقال : سله قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي بل زدت عليه أن الخليل قيد رجلاه ويداه لا غير فأما أنا فقيدت الرجلين فلا أسير واليدين فلا أحركهما وعيني فلا أنظر بهما وأذني فلا أسمع بهما ولساني فلا أتكلم به وأنا مشرف على نار جهنم فكما لم يرض الخليل بغيرك معيناً لا أريد إلا عونك فإياك نستعين وكأنه تعالى يقول : فنحن أيضاً نريد حيث قلنا ثمة يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأما أنت فقد نجيناك من النار وأوصلناك إلى الجنة وزدنا سماع الكلام القديم وأمرنا نار جهنم تقول لك جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
قال المولى جلال الدين قدس سره :
ز آتش مؤمن ازين رو أي صفي
ميشود دوزخ ضعيف ومنطفي
كويدش بكذر سبك أي محتشم
ورنه ز آتشهاي تو مرد آتشم
جزء : 1 رقم الصفحة : 17
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بيان المعونة المطلوبة كأنه قيل : كيف أعينك؟ فقالوا : اهدنا الصراط المستقيم وأيضاً أن التعقيب بالدعاء بعد تمام العبادة قاعدة شرعية ، قال في "التيسير" : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إظهار التوحيد {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب العون عليه وقوله : {اهْدِنَا} لسؤال الثبات على دينه وهو تحقيق عبادته واستعانته وذلك لأن الثبات على الهداية أهم الحاجات إذ هو الذي سأله الأنبياء والأولياء كما قال يوسف عليه السلام : توفني مسلماً وسحرة فرعون : توفنا مسلمين ، والصحابة : وتوفنا مع الأبرار ، وذلك لأنه لا ينبغي أن يعتمد على ظاهر الحال فقد يتغير في المآل كما لإبليس وبرصيصا وبلعام بن باعوراء :
قال المولى جلال الدين قدس سره :
صد هزار إبليس وبلعم درجهان
همجنين بودست بيدا ونهان
أين دورا مشهور كردانيداله
تاكه باشند اين دوير باقي كواه
أين دو درزد آويخت بردار بلند
ورنه اندرقهربس دزدان بدند
وفي "تفسير القاضي" إذا قاله العارف الواصل إلى الله عنى به : أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا وتميط غواشي أبداننا لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك ، قال المولى الفناري : ومبناه أن السير في الله غير متناه كما قال قطب المحققين ولا نهاية للمعلومات والمقدورات فما دام معلوم أو مقدور فالشوق للعبد لا يسكن ولا يزول وأصل الهداية أن يُعدى باللام أو إلى فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} (الأعراف : 155) والصراط المستقيم استعارة عن ملة
20
الإسلام والدين الحق تشبيهاً لوسيلة المقصود بوسيلة القصد أو لمحل التوجه الروحاني بمحل التوجه الجسماني وإنما سمي الدين صراطاً لأن الله سبحانه وإن كان متعالياً عن الأمكنة لكن العبد الطالب لا بد له من قطع المسافات ومس الآفات وتحمل المجافاة ليكرم الوصول والموافاة ، ثم في قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مع أنه مهتدٍ وجوه ، الأول : أن لا بد بعد معرفة الله تعالى والاهتداء بها من معرفة الخط المتوسط بين الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوية والغضبية وإنفاق المال والمطلوب أن يهديه إلى الوسط ، والثاني : أنه وإن عرف الله بدليل فهناك أدلة أخرى فمعنى اهدنا : عرفنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وأفعالك ، والثالث : أن معناه بموجب قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 20(1/11)
{وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (الأنعام : 153) طلب الإعراض عما سوى الله وإن كان نفسه والإقبال بالكلية عليه حتى لو أمر بذبح ولده كإبراهيم عليه السلام أو بأن ينقاد للذبح كإسماعيل عليه السلام أو بأن يرمي نفسه في البحر كيونس عليه السلام أو بأن يتلمذ مع بلوغه أعلى درجات الغايات كموسى عليه السلام أو بأن يصير في الأمر بالمعروف على القتل والشق بنصفين كيحيى وزكريا عليهما السلام فعل وهذا مقام هائل إلا أن في قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دون أن يقول صراط الذين ضربوا وقتلوا تيسيراً ما وترغيباً إلى مقام الأنبياء والأولياء من حيث أنعامهم ثم الاستقامة والاعتدالية ثم الثبات عليها أمر صعب ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم "شيبتني هود وأخواتها" حيث ورد فيها {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} (هود : 112) فإن الإنسان من حيث نشأته وقواه الظاهرة والباطنة مشتمل على صفات وأخلاق طبيعية وروحانية ولكل منها طرفا إفراط وتفريط والواجب معرفة الوسط من كل ذلك والبقاء عليه وبذلك وردت الأوامر ونطقت الآيات كقوله تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} (الإسراء : 29) الآية حرضه على الوسط بين البخل والإسراف وكقوله صلى الله عليه وسلّم لمن سأله مستشيراً في الترهب وصيام الدهر وقيام الليل كله بعد زجره إياه : "إن لنفسك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً ولزورك عليك حقاً فصم وأفطر وقم ونم" وهكذا في الأحوال كلها نحو قوله تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء : 110) ، {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67) ، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم : 17) ولما رأى صلى الله عليه وسلّم عمر رضي الله عنه يقرأ رافعاً صوته سأله فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال عليه السلام : "اخفض من صوتك قليلاً" وأتى أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ خافضاً صوته فسأله فقال : قد أسمعت من ناجيت فقال عليه السلام : "ارفع من صوتك قليلاً" وهكذا الأمر في باقي الأخلاق فإن الشجاعة صفة متوسطة بين الهور والجبن والبلاغة بين الإيجاز المجحف والإطناف المفرط ، وشريعتنا قد تكفلت ببيان ميزان الاعتدال في كل ترغيب وترهيب وحال وحكم وصفة وخلق حتى عينت للمذمومة مصارف إذا استعملت فيها كانت محمودة كالمنعوالبغض ، والمستقيم على أقسام منها : مستقيم بقوله وفعله وقلبه ومستقيم بقلبه وفعله دون قوله أي : لم يعلم أحداً ولهذين الفوز والأول أعلى ومستقيم بفعله وقوله دون قلبه وهذا يرجى له النفع بغيره ومنها مستقيم بقوله وقلبه دون فعله ومستقيم بقوله دون فعله وقلبه ومستقيم بقلبه دون قوله وفعله ومستقيم بفعله دون قوله وقلبه وهؤلاء الأربعة عليهم لا لهم وإن كان بعضهم فوق بعض وليس المراد بالاستقامة بالقول ترك الغيبة والنميمة وشبههما فإن الفعل يشمل ذلك
21
جزء : 1 رقم الصفحة : 20
(1/12)
إنما المراد بها إرشاد الغير إلى الصراط المستقيم وقد يكون عريا مما يرشد إليه مثال اجتماعها رجل تفقه في أمر صلاته وحققها ثم علمها غيره فهذا مستقيم في قوله ثم حضر وقتها فأداها على ما علمها محافظاً على أركانها الظاهرة فهذا مستقيم في فعله ثم علم أن مراد الله منه من تلك الصلاة حضور قلبه معه فأحضره فهذا مستقيم بقلبه وقس على ذلك بقية الأقسام ، وفي "التأويلات النجمية" أن أقسام الهداية ثلاثة : الأولى : هداية العامة ، أي : عامة الحيوانات إلى جلب منافعها وسلب مضارها وإليه أشار بقوله تعالى : {أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى} (طه : 50) وقوله : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} (البلد : 10) ، والثانية : هداية الخاصة أي : للمؤمنين إلى الجنة وإليه الإشارة بقوله تعالى : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ} (يونس : 9) الآية ، والثالثة : هداية الأخص وهي هداية الحقيقة إلى الله بالله وإليه الإشارة بقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (البقرة : 120) وقوله : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) وقوله : {اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى : 13) وقوله : {وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى} (الضحى : 7) أي : كنت ضالاً في تيه وجودك فطلبتك بجودي ووجدتك بفضلي ولطفي وهديتك بجذبات عنايتي ونور هدايتي إلي وجعلتك نوراً فأهدي بك إلى من أشاء من عبادي فمن اتبعك وطلب رضاك فنخرجهم من ظلمات الوجود البشري إلى نور الوجود الروحاني ، ونهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ} (المائدة : 15 ـ 16) والصراط المستقيم هو الدين القويم وهو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو خلق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم فيما قال تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) ثم هو إما إلى الجنة وذلك لأصحاب اليمين كما قال تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يونس : 25) الآية وإما إلى الله تعالى وهذا للسابقين المتقربين كما قال تعالى : {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} (الشورى : 52 ـ 53) وكل ما يكون لأصحاب اليمين يحصل للسابقين وهم سابقون على أصحاب اليمين بما لهم من شهود الجمال وكشف الجلال وهذا خاصة لسيد المرسلين ومتابعيه كما قال تعالى : {قُلْ هَاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} (يوسف : 108) : قال الشيخ سعدى قدس سره :
اكر جز بحق مي رود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
جزء : 1 رقم الصفحة : 20
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من الأول بدل الكل والإنعام إيصال النعمة وهي في الأصل الحال التي يستلذها الإنسان فأطلقت على ما يستلذه من نعمة الدين الحق ، قال أبو العباس بن عطاء : هؤلاء المنعم عليهم هم طبقات فالعارفون أنعم الله عليهم بالمعرفة والأولياء أنعم الله عليهم بالصدق والرضى واليقين والصفوة والأبرار أنعم الله عليهم بالحلم والرأفة والمريدون أنعم الله عليهم بحلاوة الطاعة والمؤمنون أنعم الله عليهم بالاستقامة ، وقيل : هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى : {فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ} (النساء : 69) وأضيف الصراط هنا إلى العباد وفي قوله : {وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (الأنعام : 153) إلى ذاته تعالى كما أضيف الدين والهدى تارة إلى الله تعالى نحو {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ} (آل عمران : 83) ، {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} (آل عمران : 73) وتارة إلى العباد نحو {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة : 43) ، {فَبِهُدَااهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام : 90) وسره من وجوه : الأول : بيان أن ذلك كله له شرعاً ولنا نفعاً كما قال تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} (الشورى : 13) ، والثاني : أنه له ارتضاء واختياراً ولنا سلوكاً وائتماراً ، والثالث : أنه أضافه إلى نفسه قطعاً لعجب العبد وإلى العبد تسلية لقلبه ، والرابع : أنه أضافه
22
إلى العبد تشريفاً له وتقريباً وإلى نفسه قطعاً لطمع إبليس عنه كما قيل لما نزل قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) قال الشيطان : إن لم أقدر على سلب عزة الله ورسوله أسلب عزة المؤمنين فقال الله تعالى : {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر : 10) فقطع طمعه كذا في "التيسير" ، وتكرار الصراط إشارة إلى أن الصراط الحقيقي صراطان : من العبد إلى الرب ومن الرب إلى العبد فالذي من العبد إلى الرب طريق مخوف كم قطع فيه القوافل وانقطع به الرواحل ونادى منادي العزة لأهل العزة الطلب رد والسبيل سد وقاطع الطريق يقطع على هذا الفريق(1/13)
جزء : 1 رقم الصفحة : 22
{لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف : 16) الآية والذي من الرب إلى العبد طريق آمن وبالأمان كائن قد سلم فيه القوافل وبالنعم محفوف المنازل يسير فيه سيارته ويقاد بالدلائل قادته {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ} (النساء : 69) الآية أي : أنعم الله على أسرارهم بأنوار العناية وعلى أرواحهم بأسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم في قمع الهوى وقهر الطبع وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وفي مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاية ، والنعم إما ظاهرة : كإرسال الرسل وإنزال الكتب وتوفيق قبول دعوة الرسل واتباع السنة واجتناب البدعة وانقياد النفس للأوامر والنواهي والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية ، وإما باطنة : وهي ما أنعم على أرواحهم في بداية الفطرة بإصابة رشاش نوره كما قال عليه السلام : "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل" فكان فتح باب صراط الله إلى العبد من رشاش ذلك النور وأول الغيث رش ثم ينسكب فالمؤمنون ينظرون بذلك النور المرشوش إلى مشاهدة المغيث وينتظرون الغيث ويستعينون {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بجذبات ألطافك وفتحت عليهم أبواب فضلك ليهتدوا بك إليك فأصابوا بما أصابهم بك منك كذا في "التأويلات النجمية".
قال الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره في "الفكوك" في تأويل الحديث المذكور : لا شك أن الوجود المحض يتعقل في مقابلته العدم المضاد له فإن للعدم تعيناً في التعقل لا محالة وله الظلمة كما أن الوجود له النورانية ولهذا يوصف الممكن بالظلمة فإنه يتنور بالوجود فيظهر فظلمته من أحد وجهيه الذي يلي العدم وكل نقص يلحق الممكن ويوصف به إنما ذلك من أحكام النسبة العدمية وإليه الإشارة يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليه من نوره فظهر" وخلق ههنا بمعنى التقدير فإن التقدير سابق على الإيجاد ورش النور كناية عن إفاضة الوجود على الممكنات فاعلم ذلك انتهى كلام الشيخ.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} بدل من الذين على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال ، وكلمة غير على ثلاثة أوجه : الأول : بمعنى المغايرة وفارسيته "جز" قال الله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 22
{لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} (الإسراء : 73) والثاني : بمعنى لا وفارسيته "نا" قال تعالى : {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} (البقرة : 173) والثالث : بمعنى إلا وفارسيته "مكر" قال تعالى : {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذاريات : 36) وصرفها ههنا على هذه الوجوه محتمل غير أن معنى الاستثناء مخصوص بقراءة النصب ، والغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام يعني : أنه حالة نفسانية تحصل عند غليان النفس ودم القلب لشهوة الانتقام وهنا نقيض الرضى أو إرادة الانتقام أو تحقيق الوعيد أو الأخذ الأليم أو البطش الشديد أو هتك الأستار
23
والتعذيب بالنار لأن القاعدة التفسيرية أن الأفعال التي لها أوائل بدايات وأواخر غايات إذا لم يمكن إسنادها إلى الله باعتبار البدايات يراد بها حين الإسناد غاياتها كالغضب والحياء والتكبر والاستهزاء والغم والفرح والضحك والبشاشة وغيرها والضلال : العدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأ ، والمراد بالمغضوب عليهم العصاة وبالضالين الجاهلون بالله لأن المنعم عليهم هم الجامعون بين العلم والعمل فكان المقابل لهم من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (النساء : 93) والمخل بالعلم جاهل ضال كقوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} (يونس : 32) أو المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى في حقهم : {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} والضالون النصارى لقوله تعالى في حقهم : {قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} وليس المراد تخصيص نسبة الغضب باليهود ونسبة الضلال بالنصارى لأن الغضب قد نسب أيضاً إلى النصارى وكذا الضلال قد نسب إلى اليهود في القرآن بل المراد أنهما إذا تقابلا فالتعبير بالغضب الذي هو إرادة الإنتقام لا محالة باليهود أليق لغاية تمردهم في كفرهم من اعتدائهم وقتلهم الأنبياء وقولهم : {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} وغير ذلك ، فإن قلت : من المعلوم أن المنعم عليهم غير الفريقين فما الفائدة في ذكرهما بعدهم ، قلت : فائدته وصف إيمانهم بكمال الخوف من حال الطائفتين بعد وصفه بكمال الرجاء في قوله : {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} قال عليه السلام : "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا".(1/14)
جزء : 1 رقم الصفحة : 22
واعلم أن حكم الغضب الإلهي تكميل مرتبة قبضة الشمال فإنه وإن كان كلتا يديه المقدستين يميناف مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الأخرى فالأرض جميعاً قبضته والسموات مطويات بيمينه فلليد الواحدة المضاف إليها عموم السعداء الرحمة والحنان وللأخرى القهر والغضب ولوازمهما فسرحكم الغضب هو التكميل المشار إليه في الجمع بين حكم اليدين والوقاية ولصاحب الأكلة إذا ظهرت في عضو واحد وقدر أن يكون الطبيب والده أو صديقه أو شقيقه فإنه مع فرط محبته يبادر لقطع العضو المعتل لما لم يكن فيه قابلية الصلاح والسر الثالث التطهير كالذهب الممزوج بالرصاص والنحاس إذا قصد تمييزه لا بد وأن يجعل في النار الشديدة والضلال هو الحيرة فمنها ما هي مذمومة ومنها ما هي محمودة ولها ثلاث مراتب حيرة أهل اببدايات وحيرة المتوسطين من أهل الكشف والحجاب وحيرة أكابر المحققين وأول مزيل للحيرة الأولى تعين المطلب المرجح كرضى الله والتقرب إليه والشهود الذاتب ثم معرفة الطريق الموصل كملازمة شريعة الكمل ثم السبب المحصل كالمرشد ثم ما يمكن الاستعانة به في تحصيل الغرض من الذكر والفكر وغيرهما ثم معرفة العوائق وكيفية إزالتها كالنفس والشيطان فإذا تعينت هذه الأمور الخمسة حينئذٍ تزول هذه الحيرة وحيرة الأكابر محمودة لا تظنن أن هذه الحيرة سببها قصور في الإدراك ونفص مانع من كمال الجلاء هنا والاستجلاء لما هناك بل هذه حيرة يظهر حكمها بعد كمال التحقق بالمعرفة والشهود ومعاينة سر كل وجود والاطلاع التام على أحدية الوجود.
وفي تفسير النجم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} هم الذين أخطأهم ذلك النور فضلوا في تيه هوى النفس وتاهوا في ظلمات الطبع والتقليد فغضب الله عليهم مثل اليهود ولعنهم
24(1/15)
بالطرد والتبعيد حتى لم يهتدوا إلى الشرع القويم ووقعوا عن الصراط المستقيم أي عن المرتبة الإنسانية التي خلق فيها الإنسان في أحسن تقويم ومسخوا قردة وخنازير صورة أو معنى أو لما وقعوا عن الصراط المستقيم في سد البشرية نسوا ألطاف الربوبية وضلوا عن صراط التوحيد فأخذهم الشيطان بشرك الشرك كالنصارى فاتخذوا الهوى إلهاً والدنيا إلهاً وقالوا : {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} هذا بحسب أول الحال وفيه وجه آخر معتبر فيه عارض المآل وهو أن يراد غير المغضوب عليهم بالغيبة بعد الحضور والمحنة بعد السرور والظلمة غب النور نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة ولا الضالين بغلبة الفسق والفجور وانقلاب السرور بالشرور ووجه ثالث يعبر في السلوك إلى ملك الملوك وهو غير المغضوب عليهم بالاحتباس في المنازل والانقطاع عن القوافل ولا الضالين بالصدود عن المقصود ، {أَمِينٌ} ، اسم فعل بمعنى استجب معناه يا لله استجب دعاءنا أو افعل يا رب بني على الفتح كأين وكيف لالتقاء الساكنين وليست من القرآن اتفاقاً لأنها لم تكتب في الإمام ولم ينقل أحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم أنها قرآن لكن يسن أن يقول القارىء بعد الفاتحة : آمين مفصولة عنها لقوله عليه السلام : "علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب" وزاده علي ـ رضى الله عنه ـ توضيحاً فقال : (آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده) فسره أن الخاتم كما يمنع عن المختوم الاطلاع عليه والتصرف فيه يمنع آمين عن دعاء العبد الخيبة ، وقال وهب : يخلق بكل حرف منه ملك يقول : (اللهم اغفر لمن قال آمين) وفي الحديث "الداعي والمؤمن شريكان" يعني : به قوله تعالى : {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} (يونس : 89) قال عليه السلام : "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا : آمين فإن الملائكة تقولها فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" وسره ما مر في كلام وهب أما الموافقة فقيل في الزمان وقيل في الإخلاص والتوجه الأحدي.
واختلف في هؤلاء الملائكة قيل هم الحفظة وقيل غيرهم ويعضده ما روي أنه عليه السلام قال : "فإن من وافق قوله قول أهل السماء" ويمكن أن يجمع بين القولين بأن يقولها الحفظة وأهل السماء أيضاً ، قال المولى الفناري في تفسير الفاتحة : إن الفاتحة نسخة الكمال لمن أخرج للاستكمال من ظلمة العدم والاستهلاك في نور القدم إلى أنوار الروحانية ثم بواسطة النفخ إلى عامل الجسمانية ليكمل مرتبة الإنسانية التي لجمعيتها مظنة الأنانية فاحتاج إلى طلب الهداية إلى منهاج العناية التي منها جاء ليرجع من الوجود إلى العدم بل من الحدوث إلى القدم فيفقد الموجود فقداناً لا يجده ليجد المفقود وجداناً لا يفقده ولما حصل لهم رتبة الكمال بقبول هذا السؤال كما قال : "ولعبدي ما سأل" فأضافه إلى نفسه بلام التمليك ثم ختم أكرم الأكرمين نسخة حالهم بخاتم آمين إشارة إلى أن عباده المخلصين ليس لأحد من العالمين أن يتصرف فيهم بأن يفك خاتم رب العالمين ولهذا أيس إبليس فقال : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر : 40) ، وعدد آيات سورة الفاتحة سبع في قول الجمهور على أن إحداها ما آخرها أنعمت عليهم لا التسمية أو بالعكس وعدد كلماتها ، ففي "التيسير" أنها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون ، وفي "عين المعاني" كلماتها سبع وعشرون وحروفها مائة واثنان وأربعون وسبب
25(1/16)
الاختلاف بعد عدم اعتبار البسملة اعتبار الكلمات المنفصلة كتابة أو المستقلة تلفظاً واعتبار الحروف الملفوظة أو المكتوبة أو غيرهما ، وسئل عطاء أي وقت أنزلت فاتحة الكتاب؟ قال : أنزلت بمكة يوم الجمعة كرامة أكرم الله بها محمداً عليه السلام وكان معها سبعة آلاف ملك حين نزل بها جبريل على محمد عليهما السلام ، روي أن عيراً قدمت من الشام لأبي جهل بمال عظيم وهي سبع فرق ورسول الله وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصحابة بهم جوع وعرى فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلّم شيء لحاجة أصحابه فنزل قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} (الحجر : 87) أي : مكان سبع قوافل لأبي جهل لا ينظر إلى ما أعطيناك مع جلالة هذه العطية فلم تنظر إلى ما أعطيته من متاع الدنيا الدنية ولما علم الله أن تمنيه لم يكن لنفسه بل لأصحابه قال : {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النمل : 70) وأمره بما يزيد نفعه على نفع المال فقال : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر : 88) فإن تواضعك أطيب لقلوبهم من ظفرهم بمحبوبهم ومن فضائلها أيضاً قوله عليه السلام : "لو كانت في التوراة لما تهود قوم موسى ولو كانت في الإنجيل لما تنصر قوم عيسى ولو كانت في الزبور لما مسخ قوم داود عليهم السلام وأيما مسلم قرأها أعطاه الله من الأجر كأنما قرأ القرآن كله وكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة" ومن فضائلها أيضاً أن الحروف المعجمة فيها اثنان وعشرون وأعوان النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الوحي اثنان وعشرون ، وإن ليست فيها سبعة أحرف ثاء الثبور وجيم الجحيم وخاء الخوف وزاي الزقوم وشين الشقاوة وظاء الظلمة وفاء الفراق فمعتقد هذه السورة وقارئها على التعظيم والحرمة آمن من هذه الأشياء السبعة ، وعن حذيفة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : "إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب الحمدرب العالمين فيسمعه ويرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة" وقد مر ما روي من إيداع علوم جميع الكتب في القرآن ثم في الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكل ومن قرأها فكأنما قرأ الكل ، قال تفسير "الكبير" : والسبب أن المقصود من جميع الكتب علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد علم اشتمالها عليها ، قال الفناري وذلك لما علم أن أولها إلى قوله تعالى : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إشارة إلى العقائد المبدئية المتعلقة بالإلهيات ذاتاً وصفة وفعلاً لأن حصر الحمد يقتضي حصر الكمالات الذاتية والوصفية والفعلية ثم بالنبوات والولايات لأنهما أجلاء النعم أو أخصاؤها ثم إلى العقائد المعادية لكونه مالكاً للأمر كله يوم المعاد وأوسطها من قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى أقسام الأحكام الرابطة بين الحق والعبد من العبادات وذلك ظاهر من المعاملات والمزاجر لأن الاستعانة الشرعية إما لجلب المنافع أو لدفع المضار وآخرها إلى طلب المؤمنين وجوه الهداية المرتبة على الإيمان المشار إليه في القسم الأول والإسلام المشار إليه في القسم الثاني وهي وجوه الإحسان أعني : المراتب الثلاث من الأخلاق الروحانية المحمودة ثم المراقبات المعهودة في قوله عليه السلام : "أن تعبد الله كأنك تراه" ثم الكمالات المشهودة عند الاستغراق في مطالع الجلال الرافع لكاف التشبيه الذي في ذلك الخبر والدافع لغضب تنزيه الجبر وضلال نسبة القدر وهذه هي المسماة بعلوم المكاشفات والله أعلم بأسرار كلية المبطنات.
26
جزء : 1 رقم الصفحة : 22(1/17)
سورة البقرة
مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون إن قلت أي سورة أطول وآيها أقصر؟ وأي آية أطول وآيها أقصر؟ قلت : قال أهل التفسير : أطول سورة في القرآن البقرة وأقصرها الكوثر وأطول آية الدين وأقصرها آية والضحى والفجر وأطول كلمة فيه كلمة {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (الحجر : 22) فإن قلت : ما الحكمة في أن سورة البقرة أعظم السور ما عدا الفاتحة؟ الجواب : لأنها فُصِّلت فيها الأحكام وضُربت الأمثال وأقيمت الحجج إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه ولذلك سميت فسطاط القرآن.
قال ابن العربي في "أحكام القرآن" : سمعت بعض أشياخي يقول فيها : ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر ولعظم فقهها أقام ابن عمر رضي الله عنهما ثماني سنين على تعلمها كذا في أسئلة الحكم.
قال الإمام في التفسير "الكبير" : اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل والغي والعناد وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التصلفات الفارغة عن المعاني والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرنا أمر ممكن الحصول قريب الوصول انتهى.
وإنما سُوِّرت السور طوالاً وأوساطاً وقصاراً تنبيهاً على أن الطول ليس من شرط الإعجاز فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات وهي معجزة إعجاز سورة البقرة ثم ظهرت لذلك التسوير حكمة في التعليم وتدريج الأطفال من السور القصار إلى ما فوقها تيسيراً من الله تعالى على عباده وفي ذلك أيضاً ترغيب وتوسيع في الفضيلة في الصلاة وغيرها كسورة الإخلاص من القصار تعدل ثلث القرآن فمن فهم ذلك فاز بسر التسوير ، فإن قلت ما الحكمة في تعدد مواطن نزول القرآن وتكرر مشاهده مكياً مدنياً ليلياً نهارياً سفرياً حضرياً صيفياً شتائياً نومياً برزخياً يعني بين الليل والنهار أرضياً سماوياً غارياً ما نزل في الغار يعني تحت الأرض برزخياً ما نزل بين مكة والمدينة عرشياً معراجياً ما نزل ليلة المعراج آخر سورة البقرة ، الجواب الحكمة في ذلك تشريف مواطن الكون كلها بنزول الوحي الإلهي فيها وحضور الحضرة المحمدية عندها كما قيل : سر المعراج والإسراء به وسير المصطفى في مواطن الكون كلها كأن الكون والعرش والجنان يسأل كل موطن بلسان الحال أن يشرفه الله تعالى بقدوم قدم حبيبه وتكتحل أعين الأعيان والكبار بغبار نعال قدم سيد السادات ومفخر موجودات الولاة ما شم الكون رائحة الوجود وما بدا من حضرة الكمون لمعة الشهود كما ورد بلسان القدس (لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك).
جزء : 1 رقم الصفحة : 26
{الام} إن قلت ما الحكمة في ابتداء البقرة بألم والفاتحة بالحرف الظاهر؟ المحكم الجواب قال السيوطي رحمه الله ( ـ في "الأنفال" ـ ) أقول في مناسبة ابتداء البقرة بألم أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد بحيث لا يعذر في فهمه ابتدئت البقرة بمقابله وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل ليعلم مراتبه للعقلاء والحكماء ليعجزهم بذلك ليعتبروا ويدبروا آياته
27
كذا في خواتم الحكم وحل الرموز وكشف الكنوز للعارف بالله الشيخ المعروف بعلي دده.
واعلم أنهم تكلموا في شأن هذه الفواتح الكريمة وما أريد بها فقيل إنها من العلوم المستورة والأسرار المحجوبة أي : من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها والألف الله واللام لطيف والميم مجيد أي : أنا الله اللطيف المجيد كما أن قوله تعالى : {الار} (يونس : 1) أنا الله أرى و{كاهيعاص} (مريم : 1) أنا الله الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق وكذا قوله تعالى : {ق} (ق : 1) إشارة إلى أنه القادر القاهر و{} (القلم : 1) إشارة إلى أنه النور الناصر فهي حروف مقطعة كل منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى والاكتفاء ببعض الكلمة معهود إلى العربية كما قال الشاعر :
قلت لها قفي فقالت ق
جزء : 1 رقم الصفحة : 27(1/18)
أي : وقفت وقيل : إن هذه الحروف ذكرت في أوائل بعض السور لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي "ا ب ت ث" فجاء بعضها مقطعاً وبعضها مؤلفاً ليكون إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً لهم على أنه منتظم من عين ما ينظمون منه كلامهم فلولا أنه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلاق القوى والقدر لأتوا بمثله هذا ما جنح إليه أهل التحقيق ولكن فيه نظر لأنه يفهم من هذا القول أن لا يكون لتلك الحروف معان وأسرار والنبي عليه السلام أوتي علم الأولين والآخرين فيحتمل أن يكون الم وسائر الحروف المقطعة من قبيل المواضعات المعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهما وقد واضعها الله تعالى مع نبيه عليه السلام في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل ولا غيره يدل على هذا ما روي في الأخبار أن جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى : {كاهيعاص} (مريم : 1) فلما قال : "كاف" قال النبي عليه السلام : "علمت" فقال : "ها" فقال : "علمت" فقال "يا" فقال : "علمت" فقال : "عين" فقال : "علمت" فقال : "صاد" فقال : "علمت" فقال جبريل عليه السلام : كيف علمت ما لم أعلم؟.
وقال الشيخ الأكبر قدس سره في أول تفسير : {الاما * ذَالِكَ الْكِتَـابُ} وأما الحروف المجهولة التي أنزلها الله تعالى في أوائل السور فسبب ذلك من أجل لغو العرب عند نزول القرآن فأنزلها سبحانه حكمة منه حتى تتوفر دواعيهم لما أنزل الله إذا سمعوا مثل هذا الذي ما عهدوه والنفوس من طبعها أن تميل إلى كل أمر غريب غير معتاد فينصتون عن اللغو ويقبلون عليها ويصغون إليها فيحصل المقصود فيما يسمعونه مما يأتي بعد هذه الحروف النازلة من عند الله تعالى وتتوفر دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاء بها مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم وأبهم الأمر عليهم من عدم اطلاعهم عليها فرد الله بذلك شراً كبيراً من عنادهم وعتوهم ولغوهم كان يظهر منهم فذاك رحمة للمؤمنين وحكمة منه سبحانه انتهى كلامه.
قال بعض العارفين : كل ما قيل في شرحها بطريق النظر والاعتبار فتخمين النظر من قائله لا حقيقة إلا لمن كشف الله له عن قصده تعالى بها.
يقول الفقير جامع هذه المعارف واللطائف شكر الله مساعيه وبسط إليه من عنده أياديه قال شيخي الأكمل في هامش كتاب "اللائحات البرقيات" له بعدما ذكر بعض خواص
28
الم على طريق الحقيقة : زلق في أمثال هذا المتشابه أقدام الزائغين عن العلم وتحير عقول الراسخين في العلم وبعضهم توقف تأدباً مع الله تعالى ولم يتعرض بل قالوا :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{بِه كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا} (آل عمران : 7) وبعضهم تأولوا لكن بوجوه بعيدة عن المرام والمقام بعداً بعيداً إلا أنها مستحسنة شرعاً مقبولة ديناً وعقلاً وما يذكر أي : بالمقصود والمرام على ما هو عليه في نفسه في الواقع إلا أولوا الباب لكن بتذكير الله تعالى وإلهامه واطلاعه تخصيصاً لهم وتمييزاً لهم عما عداهم اختصاصاً إليها أزلياً لهم من عند الله لا بتفكر أنفسهم ونظر عقولهم بل بمحض فيض الله وإلهامه انتهى كلامه الشريف قدس سره ـ اللطيف.
وقال عبد الرحمن البسطامي قدس سره ـ مؤلف "الفواتح المسكية في بحر الوقوف" : ثم إن بعض الأنبياء علموا أسرار الحروف بالوحي الرباني والإلقاء الصمداني وبعض الأولياء بالكشف الجلي النوراني والفيض العلي الروحاني وبعض العلماء بالنقل الصحيح والعقل الرجيح وكل منهم قد أخبر أصحابه ببعض أسرارها إما بطريق الكشف والشهود أو بطريق الرسم والحدود والصحيح أن الله تعالى طوى علم أسرار الحروف عن أكثر هذه الأمة لما فيها من الحكم الإلهية والمصالح الربانية ولم يأذن للأكابر أن يعرفوا منه إلا بعض أسراره التي يشتمل عليها تركيبها الخاص المنتج أنواع التسخيرات والتأثيرات في العوالم العلويات والسفليات إلى غير ذلك انتهى كلام "بحر الوقوف".
وفي "التأويلات النجمية" حيث الصلاة التي ذكرت في القرآن ثلاث : القيامد والركوع لقوله تعالى : {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة : 43) والسجود لقوله تعالى : {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق : 19) فالألف في ألم إشارة إلى القيام واللام إشارة إلى الركوع والميم إشارة إلى السجود يعني من قرأ سورة الفاتحة التي هي مناجاة العبد مع الله في الصلاة التي هي معراج المؤمنين يجيبه الله تعالى بالهداية التي طلبها منه بقوله : اهدنا ، ثم اعلم أن المتشابه كالمحكم من جهة أجر التلاوة لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف" ففي الم تسع حسنات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/19)
{ذَالِكَ الْكِتَـابُ} الم مبتدأ على أنه اسم القرآن على أحد الوجوه وذلك خبره إشارة إلى الكتاب فيكون الكتاب صفة المراد به الكتاب الكامل الموعود إنزاله في الكتب المتقدمة وإنما أشار بذلك إلى ما ليس ببعيد لأن الكتاب من حيث كونه موعوداً في حكم البعيد قالوا : لما أنزل الله تعالى على موسى التوراة وهي ألف سورة كل سورة ألف آية قال موسى عليه السلام : يا رب ومن يطيق قراءة هذا الكتاب وحفظه؟ فقال تعالى : إني أنزل كتاباً أعظم من هذا قال : على من يا رب؟ قال : على خاتم النبيين ، قال : وكيف تقرؤه أمته ولهم أعمار قصيرة؟ قال : إني أيسره عليهم حتى يقرؤه صبيانهم قال : يا رب وكيف تفعل؟ قال : إني أنزلت من السماء إلى الأرض مائة وثلاثة كتب خمسين على شيث وثلاثين على إدريس وعشرين على إبراهيم والتوراة عليك والزبور على داود والإنجيل على عيسى وذكرت الكائنات في هذه الكتب فأذكر جميع معاني هذه الكتب في كتاب محمد وأجمع ذلك كله في مائة وأربع عشرة سورة وأجعل هذه السور في ثلاثين جزءاً ، والأجزاء في سبعة أسباع ومعنى هذه الأسباع في سبع آيات الفاتحة ثم معانيها في سبعة أحرف وهي بسم الله ثم ذلك كله
29
في الألف من الم ثم افتتح سورة البقرة فأقول : الم.
ولما وعد الله ذلك في التوراة وأنزله على محمد عليه السلام ، جحدت اليهود لعنهم الله أن يكون هذا ذلك فقال تعالى {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} كما في تفسير "التيسير" ولهذه الآية وجوه أخر من الإعراب ذكرت في التفاسير فلتطلب ثمة {لا رَيْبَ} كائن {فِيهِ} فقوله {رَيْبَ} اسم لا وفيه خبرها وهو في الأصل من رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيد الطمأنينة وفي الحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ومنه ريب الزمان لنوائبه ، وفي التفسير المسمى بالتسير الريب شك فيه خوف وهو أخص من الشك فكل ريب شك وليس كل شك ريباً والشك هو التردد بين النقيضين لا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك ولم يقدم الظرف على الريب لئلا يذهب الفهم إلى أن كتاباً آخر فيه الريب لا فيه ، فإن قلت : الكفار شكوا فيه فلم يقروا بكتاب الله تعالى والمبتدعون من أهل القبلة شكوا في معاني متشابهة فأجروها على ظاهرها وضلوا بها والعلماء شكوا في وجوهه فلم يقطعوا القول على وجه منها والعوام شكوا فيه فلم يفهموا معانيه ، فما معنى نفي الريب عنه؟ فالجواب أن هذا نفي الريب على الكتاب لا عن الناس والكتاب موصوف بأنه لا يتمكن فيه ريب فهو حق صدق معلوم ومفهوم شك فيه الناس أو لم يشكوا كالصدق صدق في نفسه وإن وصفه الناس بالكذب والكذب كذب وإن وصفه الناس بالصدق فكذا الكتاب ليس مما يلحقه أو يتمكن فيه عيب ويجوز أن يكون خبراً في معنى الأمر ومعناه : لا ترتابوا كقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة : 197) المعنى لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا كما في "الوسيط" و"العيون" {هُدَى} أي هو رشد وبيان {لِّلْمُتَّقِينَ} أي للضالين المشارفين التقوى الصائرين إليها ومثله حديث "من قتل قتيلاً فله سلبه" ، وفي تفسير "الإرشاد" أي : المتصفين بالتقوى حالاً أو مآلاً وتخصيص الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره وإن كان ذلك شاملاً لكل ناظر من مؤمن وكافر وبذلك الاعتبار قال تعالى : {هُدًى لِّلنَّاسِ} أي : كلهم بياناً وهدى للمتقين على الخصوص إرشاداً ، قال في "التيسير" وكذلك يقال في كل من انتفع بشيء دون غيره أنه لك على الخصوص أي : أنت المنتفع به وحدك وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه من أن يكون هدى فالشمس شمس وإن لم يرها الضرير والعسل عسل وإن لم يجد طعمه الممرور والمسك مسك وإن لم يدرك طيبه المأنوف فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والبحر زاخر وبقي في الظلمة والبدر زاهر وخبث والطيب حاضر وذوي والروض ناظر والحسرة كل الحسرة لمن عصى وفسق والقرآن ناه آمر وفارق الرغبة والرهبة والوعد متواتر والوعيد متظاهر ولذلك قال تعالى : {وَإِنَّه لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (الحاقة : 50) ، والمتقي اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة قال البغوي : هو مؤخوذ من الاتقاء ، وأصله الحاجز بين الشيئين ومنه يقال : اتقى بترسه أي : جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده وفي الحديث "كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلّم أي : إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو فكان المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب ، والتقوى في عرف الشرع : عبارة عن كمال التوقي عما يضره في الآخرة وله ثلاث مراتب :
الأولى :
30
التوقي عن العذاب المخلد بالتبري من الكفر وعليه قوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (الفتح : 26).
(1/20)
والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا} (الأعراف : 96).
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق عز وجل ويتبتل إليه بكليته وهو التقوى الحقيقية المأمور بها في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران : 102) وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم السلام حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج إلى عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية ، وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فهداية العام بالإسلام وهداية الخاص بالإيقان والإحسان وهداية الأخص بكشف الحج ومشاهدة العيان.
وفي "التأويلات النجمية" المتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه وصلوا به ما أمر الله أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهراً وباطناً يدل على هذا قوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) إلى قوله : {وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ} (البقرة : 41) أي : إذا أنتم أقررتم بربوبيتي بقولكم بلى يوم الميثاق أوفوا بعهدي الذي عاهدتموني عليه وهو العبودية الخالصة لي أوف بعهدكم الذي عاهدتكم عليه وهو الهداية إلي.
وفي "الرسالة القشيرية" والمتقي مثل ابن سيرين كان له أربعون حباً سمناً ، فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب؟ أخرجتها فقال : لا أدري فصبها كلها.
ومثل أبي يزيد البسطامي اشترى بهمذان جانباً من حب القرطم فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين فرجع إلى همذان ووضع النملتين ـ وحكي أن أبا حنيفة رحمه الله ـ كان لا يجلس في ظل شجرة غريمه ويقول في الخبر (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).
وقيل : إن أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال له : نعلق الثوب في جدار الكروم فقال : لا نضرب الوتد في جدار الناس فقال : نعلقه في الشجر فقال : إنه يكسر الأغصان فقال : نبسطه على الأرض فقال : إنه علف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره حتى جف جانب ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الجملة صفة مقيدة للمتقين إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي مترتبة عليه ترتب التحلية على التخلية والتصوير على التصقيل وموضحة إن فسر بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالباً ألا يرى قوله تعالى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} (العنكبوت : 45) وقوله عليه السلام : "الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام والإيمان هو التصديق بالقلب" لأن المصدق يؤمن المصدق أي : يجعله آمناً من التكذيب أو يؤمن نفسه من العذاب بفعله والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن عباده من عذابه بفضله واستعماله بالباء ههنا لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فإن الواثق يصير ذا أمن وطمأنينة.
قال في "الكواشي" : الإيمان في الشريعة هو الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان والإسلام الخضوع والانقياد فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً إذا
31
لم يكن معه تصديق فقد يكون الرجل مسلماً ظاهرة غير مصدق باطناً ولا يكون مصدقاً باطناً غير منقاد ظاهراً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
قال المولى أبو السعود رحمه الله في "تفسيره" هو في الشرع : لا يتحقق بدون التصديق بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعض والجزاء ونظائرها وهل هو كاف في ذلك أو لا بد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه؟ الأول : رأى الشيخ الأشعري ومن تابعه ، والثاني : مذهب أبي حنيفة رحمه الله ومن تابعه وهو الحق فإنه جعلهما جزأين له خلا أن الإقرار ركن محتمل للسقوط بعذر كما عند الإكراه وهو مجموع ثلاثة أمور إعتقاد الحق والإقرار به والعمل بموجبه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن أخل بالإعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرار فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً عندنا وكافر عند الخوارج وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.
(1/21)
والغيب مصدر سمي به الغائب توسعاً كقولهم للزائر : زور ، وهو ما غاب عن الحس والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو الذي أريد بقوله سبحانه : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ} (الأنعام : 59) وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع واليوم الآخر وأحواله من البعض والنشور والحساب والجزاء وهو المراد ههنا.
فالباء صلة الإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف أو بجعله مجازاً عن الوثوق وهو واقع موقع المفعول به وإن جعلت الغيب مصدراً على حاله كالغيبة فالباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من الفاعل أي : يؤمنون ملتبسين بالغيبة ، أما عن المؤمن به أي : غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلّم غير مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة ويدل عليه أنه قال حارث بن نغير لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : نحن نحتسب لكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى الله عليه وسلّم وصحبته فقال عبد الله : ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه وإن أفضل الإيمان إيمان بالغيب ثم قرأ عبد الله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} كذا في تفسير "أبي الليث" ، وأما عن الناس أي : غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة : 14) وقيل المراد بالغيب القلب لأنه مستور والمعنى : يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فالباء حينئذٍ للآلة.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد منا فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله عليه السلام وركبته تمس ركبته فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "إن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فقال : صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه ثم قال : فما الإيمان؟ قال : "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره" فقال : صدقت ثم قال : فما الإحسان؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال : صدقت ، ثم قال : فأخبرني عن الساعة؟ فقال : "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال : صدقت قال : فأخبرني عن إماراتها؟ قال : "أن تلد
32
الأمة ربتها وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال : صدقت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يا عمر هل تدري من الرجل" قلت : الله ورسوله أعلم قال : "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه".
وفي "التأويلات النجمية" {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي : بنور غيبي من الله في قلوبهم نظروا في قول محمد صلى الله عليه وسلّم فشاهدوا صدق قوله فآمنوا به كما قال عليه السلام : "المؤمن ينظر بنور الله".
واعلم أن الغيب غيبان : غيب غاب عنك ، وغيب غبت عنه ، فالذي غاب عنك عالم الأرواح فإنه قد كان حاضراً حين كنت فيه بالروح وكذرة وجودك في عهد ألست بربكم واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعارف الأرواح من الأنبياء والأولياء وغيرهم فغاب عنك إذ تعلقت بالقالب ونظرت بالحواس الخمس أي : بالمحسوسات من عالم الأجسام وأما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود وما غاب عنك بالوجود وهو معكم أينما كنتم أنت بعيد منه وهو قريب منك كما قال : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} انتهى كلام الشيخ نجم الدين قدس سره قال الشيخ سعدى :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين عجبتركه من ازوى دورم
ه كنم باكه توان كفت كه او
در كنار من ومن مهجورم
جزء : 1 رقم الصفحة : 29(1/22)
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ} الصلاة اسم للدعاء كما في قوله تعالى : {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (التوبة : 103) أي : ادع لهم والثناء كما في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ} (الأحزاب : 56) والقراءة كما في قوله تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} (الإسراء : 110) أي : بقراءتك والرحمة كما في قوله تعالى : {أُوالَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} (البقرة : 157) والصلاة المشروعة المخصوصة بأفعال وأذكار سميت بها لما في قيامها من القراءة وفي قعودها من الثناء والدعاء ولفاعلها من الرحمة.
والصلاة في هذه الآية اسم جنس أريد بها الصلوات الخمس ، وإقامتها عبارة عن المواظبة عليها من قامت السوق إذ نفقت أو عن التشمر لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم : قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد وضده قعد عن الأمر وتقاعد أو عن أدائها فإن قول المؤذن (قد قامت الصلاة) معناه أخذوا في أدائها عبر عن أدائها بالإقامة لاشتمالها على القيام كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح أو عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وأدائها زيغ من أقام العود إذا قومه وعدله وهو الأظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيَد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون.
قال إبراهيم النخعي : إذا رأيت رجلاً يخفف الركوع والسجود فترحم على عياله يعني : من ضيق المعيشة.
وذكر أن حاتماً الزاهد دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم : يا حاتم هل تحسن أن تصلي؟ فقال : نعم قال : كيف تصلي؟ قال : إذا تقارب وقت الصلاة أسبغ الوضوء ثم أستوي في الموضع الذي أصلي فيه حتى يستقر كل عضو مني وأرى الكعبة بين حاجبي والمقام بحيال صدري والله فوقي يعلم ما في قلبي وكأن قدمي
33
على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت خلفي وأظن أنها آخر الصلاة ثم أكبر تكبيراً بإحسان وأقرأ قراءة بتفكر وأركع ركوعاً بالتواضع وأسجد سجوداً بالتضرع ثم أجلس على التمام وأتشهد على الرجاء وأسلم على السنة ثم أسلمها للإخلاص وأقوم بين الخوف والرجاء ثم أتعاهد على الصبر قال عاصم : يا حاتم أهكذا صلاتك؟ قال : كذا صلاتي منذ ثلاثين سنة فبكى عاصم وقال : ما صليت من صلاتي مثل هذا قط.
كذا في "تنبيه الغافلين" : قال السعدى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
كه داند و دربند حق نيستي
اكربي وضو درنماز ايستي
قال في تفسير "التيسير" المذكور في الآية إقامة الصلاة والله تعالى أمر في الصلاة بأشياء بإقامتها بقوله : {وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ} (الروم : 31) وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَآئمُونَ} (المعارج : 23) وبأدائها في أوقاتها بقوله : {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًًا} (النساء : 103) وبأدائها في جماعة بقوله : {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة : 43) وبالخشوع فيها بقوله {الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون : 2) وبعد هذه الأوامر صارت الناس على طبقات : طبقة لم يقبلوها ورأسهم أبو جهل لعنه الله قال الله تعالى في حقه : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} (القيامة : 31) وذكر مصيرهم فقال : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (المدثر : 42 ـ 43) إلى قوله : {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (المدثر : 46) وطبقة قبلوها ولم يؤدوها أهل الكتاب قال الله تعالى : {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} (مريم : 59) وهم أهل الكتاب {فَخَلَفَ مِن} (مريم : 59) وذكر مصيرهم فقال : {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم : 59) وهي دركة في جهنم هي أهيب موضع فيها تستغيث الناس منها كل يوم كذا وكذا مرة ثم قال الله : {إِلا مَن تَابَ} (مريم : 60) أي : من اليهودية والنصرانية {وَءَامَنَ} (مريم : 60) أي : بمحمد {وَعَمِلَ صَالِحًا} (مريم : 60) أي : حافظ على الصلاة ، وطبقة أدوا بعضاً ولم يؤدا بعضاً متكاسلين وهم المنافقون قال الله تعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى} (النساء : 142) وذكر أن مصيرهم ويل وهو وادٍ في جهنم لو جعلت فيه جبال الدنيا لماعت أي : سالت قال النبي صلى الله عليه وسلّم "من ترك صلاة حتى مضى وقتها عذب في النار حقباً" والحقب ثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم ألف سنة مما تعدون.
قالوا وتأخير الصلاة عن وقتها كبيرة وأصغر الكبيرة ما قيل إنه يكون كأنه زنا بأمه سبعين مرة كما في "روضة العلماء".
وطبقة قبلوها وهم يراعونها في مواقيتها بشرائطها ورأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلّم قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29(1/23)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ} (المزمل : 20) وقال تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام : 162) الآية وأصحابه كذلك فذكرهم الله تعالى بقوله : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون : 1 ـ 2) وذكر مصيرهم فقال : {أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (المؤمنون : 10 ـ 11) وهو أرفع موضع في الجنة وأبهاه ينال المؤمن فيه مناه وينظر إلى مولاه.
قال الحكماء : كن نجماً فإن لم تستطع فكن قمراً فإن لم تستطع فكن شمساً أي : مصلياً جميع الليل كالنجم يشرق جميع الليل أو كالقمر يضيء بعض الليل أو كالشمس تضيء بالنهار معناه : فصلِّ بالنهار إن لم تستطع بالليل كذا في "زهرة الرياض".
واعلم أن الجماعة من فروض الكفاية وفيها فضل وليست بفرض عند عامة العلماء حتى إذا صلى
34
وحده جاز وإن فاته فضل الجماعة.
وقال أحمد بن حنبل : إن الجماعة فرض وليست بنافلة حتى إذا صلى وحده لم تجز صلاته غير أنها وإن لم تكن فريضة عندنا فالواجب على المسلم أن يتعاهدها ويحفظها قال تعالى : يا قَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} (الأحقاف : 31) قال بعضهم المراد من الداعي المؤذنون الذين يدعون إلى الجماعة في الصلوات الخمس وتارك الجماعة شر من شارب الخمر وقاتل النفس بغير حق ومن القتات ومن العاق لوالديه ومن الكاهن والساحر ومن المغتاب وهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وهو ملعون على لسان الملائكة لا يعاد إذا مرض ولا تشهد جنازته إذا مات قال النبي عليه الصلاة والسلام : "تارك الجماعة ليس مني ولا أنا منه ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" أي : نافلة وفريضة فإن ماتوا على حالهم فالنار أولى بهم كذا في "روضة العلماء".
وقال في "نصاب الاحتساب" قال عليه السلام : "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وانظر إلى أقوام يتخلفون عن الجماعة فأحرق بيوتهم" وهذا يدل على جواز إحراق بيت الذي يتخلف عن الجماعة لأن الهمَّ بالمعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لأنه معصية فإذا علم جواز إحراق البيت على ترك السنة المؤكدة فما ظنك في إحراق البيت على ترك الواجب والفرض وما ظنك في إحراق آلات المعصية انتهى كلام "النصاب" هذا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بعث الله نبيه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم أكمل لهم الدين.
قال مقاتل : كان النبي عليه السلام يصلي بمكة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشاء فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس كما في "روضة الأخيار" ، وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج لأن المعراج أفضل الأوقات وأشرف الحالات وأعز المناجات والصلاة بعدا لإيمان أفضل الطاعات وفي التعبد أحسن الهيئات ففرض أفضل العبادات في أفضل الأوقات وهو وصول العبد إلى ربه وقربه منه.
وأما الحكمة في فرضيتها فلأنه صلى الله عليه وسلّم لما أسرى به شاهد ملكوت السموات بأسرها وعبادات سكانها من الملائكة فاستكثرها عليه السلام غبطة وطلب ذلك لأمته فجمع الله له في الصلوات الخمس عبادات الملائكة كلها لأن منهم من هو قائم ومنهم من هو راكع ومنهم من هو ساجد وحامد ومسبح إلى غير ذلك فأعطى الله تعالى أجور عبادات أهل السموات لأمته إذا قاموا الصلوات الخمس.
وأما الحكمة في أن جعلها الله تعالى مثنى وثلاث ورباع فلأنه عليه السلام شاهد هياكل الملائكة تلك الليلة أي : ليلة الإسراء أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع فجمع الله ذلك في صور أنوار الصلوات عند عروج ملائكة الأعمال بأرواح العبادات لأن كل عبادة تتمثل في الهياكل النورانية وصورها كما وردت الإشارات في ذلك بل يخلق الملائكة من الأعمال الصالحة كما ورد في الأحاديث الصحيحة وكذلك جعل الله أجنحة الملائكة على ثلاث مراتب فجعل أجنحتك التي تطير بها إلى الله موافقة لأجنحتهم ليستغفروا لك.
وأما الحكمة في كونها خمس صلوات فلأنه عليه السلام بعد سؤاله التخفيف ومراجعته قال له الله تعالى : "يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر حسنات فتلك خمسون صلاة وكانت خمسين على من قبلنا" فحطت ليلة المعراج إلى خمس تخفيفاً وثبت جزاء الخمسين
35(1/24)
تضعيفاً.
وحكمة أخرى في كونها خمس صلوات أنها كانت متفرقة في الأمم السالفة فجمعها سبحانه لنبيه وأمته لأنه عليه السلام مجمع الفضائل كلها دنيا وآخرة وأمته بين الأمم كذلك فأول من صلى الفجر آدم والظهر إبراهيم والعصر يونس والمغرب عيسى والعشاء موسى عليهم السلام فهذا سر القرار على خمس صلوات وقيل صلى آدم عليه السلام الصلوات الخمس كلها ثم تفرقت بعده بين الأنبياء عليهم السلام وأول من صلى الوتر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج لذلك قال : "زادني ربي صلاة" أي : الوتر على الخمس أو صلاة الليل فافهم.
وأول من بادر إلى السجود جبريل عليه السلام ولذلك صار رفيق الأنبياء وخادمهم وأول من قال : سبحان الله جبريل والحمدآدم ولا إله إلا الله نوح والله أكبر إبراهيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كل ذلك في "كشف الكنوز وحل الرموز".
وذكر في "الحكم الشاذلية وشرحها" : إنه لما علم الحق منه وجود الملل لون لك الطاعات لتستريح من نوع إلى نوع وعلم ما فيك من وجود الشره المؤدي إلى الملل القاطع عن بلوغ الأمل فحجرها عليك في الأوقات إذ جعل في اليوم خمساً وفي السنة شهراً وفي المائتين خمسة وفي العمر زورة ولكل واحدة في تفاصيلها وقت لا تصح في غيره كل ذلك رحمة بك وتيسيراً للعبودية عليك وقد قيد الله الطاعات بأعيان الأوقات كيلا ينفك عنها وجود التسويف ووسع الوقت عليك كي تبقى صفة الاختيار.
قال المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
كرنباشد فعل خلق اندرميان
س مكوكس رارا كردى نان
يك مثال أي : دل ي فرقي بيار
تابداني جبررا از اختيار
دست كان لرزان بود ازار تعاش
وانكه دستى را تولرزاني زجاش
هردوجنبش آفريده حق شناس
ليك نتوان كرد اين با آن قياس
وفي "التأويلات النجمية" بداية الصلاة إقامة ثم إدامة فإقامتها بالمحافظة عليها بمواقيتها وإتمام ركوعها وسجودها وحدودها ظاهراً وباطناً وإدامتها بدوام المراقبة وجمع الهمة في التعرض لنفحات ألطاف الربوبية التي هي مودعة فيها لقوله عليه السلام : "إنفي أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" فصورة الصلاة صورة التعرض والآمر بها صورة جذبة الحق بأن يجذب صورتك عن الاستعمال لغير العبودية وسر الصلاة حقيقة التعرض ففي كل شرط من شرائط صورتها وركن من أركانها وسنة من سننها وأدب من آدابها وهيئة من هيئاتها سرّيشير إلى حقيقة التعرض لها ، ومن شرائط الصلاة الوضوء ففي كل أدب وسنة وفرض منه سرّيشير إلى طهارة يستعد بها لإقامة الصلاة ففي غسل اليدين إشارة إلى تطهير نفسك عن تلوث المعاصي وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى لحبيبه عليه السلام : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر : 4) جاء في "التفسير" أي : قلبك فطهر وغسل الوجه إشارة إلى طهارة وجه همتك من دنس ظلمة حب الدنيا فإنه رأس كل خطيئة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة وفيه إشارة إلى الإعراض عما سوى طلب الحق والتوجه إلى حضرة الربوبية لطلب القربة والمناجاة ورفع اليدين إشارة إلى رفع يد الهمة عن الدنيا والآخرة والتكبير
36(1/25)
تعظيم الحق بأنه أعظم من كل شيء في قلب العبد طلباً ومحبة وعظماً وعزة ومقارنة النية مع التكبير إشارة إلى أن صدق النية في الطلب ينبغي أن يكون مقروناً بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا تطلب منه إلا هو فإن من طلب غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب لا الله تعالى فلا تجوز صلاته حقيقة كما لا تجوز صلاته صورة إلا بتكبير الله فإن قال الدنيا أكبر والعقبى أكبر لا يجوز حتى يقول الله أكبر فكذلك في الحقيقة وفي وضع اليمنى على اليسرى ووضعهما على الصدر إشارة إلى إقامة رسم العبودية بين يدي مالكه وحفظ القلب عن محبة ما سواه وفي افتتاح القراءة بوجهت إشارة إلى توجهه للحق خالصاً عن شرك طلبه غير الحق وفي وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها إشارة إلى حقيقة تعرض العبد في الطلب لنفحات ألطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين وطلب الهداية وهي الجذبات الإلهية التي توازي كل جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقسومة بين العبد والرب نصفين والقيام والركوع والسجود إشارة إلى رجوعه إلى عالم الأرواح ومسكن الغيب كما جاء منه فأول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم بالحيوانية ثم بالإنسانية فالقيام من خصائص الإنسان والركوع من خصائص الحيوان والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن : 6) فللعبد في كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران والحكمة في تعلق الروح العلوى النوراني بالجسد السفلي الظلماني كان هذا الربح لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام : "خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم" ليربح الروح في كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد في مراتب العلويات وإن كان قد ابتلى أولاً ببلاء الخسران كما قال تعالى : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا} (العصر : 1 ـ 2 ـ 3) الآية فبنور الإيمان والعمل الصالح يتخلص العبد من بلاء خسران المراتب السفلية ويفوز بربحها فبالقيام في الصلاة بالتذلل وتواضع العبودية يتخلص من خسران التكبر والتجبر الذي من خاصته أن يتكامل في الإنسان ويظهر منه
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} (النازعات : 24) ويفوز بربح علو الهمة الإنسانية التي إذا كملت في الإنسان لا يلتفت إلى الكون في طلب المكون كما كان حال النبي عليه السلام {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم : 16 ـ 17 ـ 18) فإذا تخلص من التكبر الإنساني يرجع من القيام الإنساني إلى الركوع الحيواني بالانكسار والخضوع فبالركوع يتخلص من خسران الصفة الحيوانية ويفوز بربح تحمل الأذى والحلم ثم يرجع من الركوع الحيواني إلى السجود النباتي فبالسجود يتخلص من خسران الذلة النباتية والدناءة السفلية ويفوز بربح الخشوع الذي يتضمن الفلاح الأبدي والفوز العظيم السرمدي كما قال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون : 2) فالخشوع أكمل آلات العروج في العبودية وقد حصل في تعلقه بالجسد النيراني وليس لأحد من العالمين هذا الخشوع وبهذا السر أبت الملائكة وغيرهم أن يحملن الأمانة فأشفقن منها لأن الاباء ضد الخشوع وحملها الإنسان باستعداد الخشوع وكمل خشوعه بالسجود إذ هو غاية التذلل في صورة الإنسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلي وعروجه إلى العالم الروحاني العلوي برجوعه من مراتب الإنسانية
37
والحيوانية والنباتية وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وإنفاق الموجود من أنانية الوجود الذي هو من شرط المصلين كقوله تعالى : {وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الرزق في اللغة العطاء.
وفي العرف ما ينتفع به الحيوان وهو تناول الحلال والحرام عند أهل السنة والقرينة تخصصه ههنا بالحلال لأن المقام مقام المدح وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه وصيغة الجمع في رزقنا مع أنه تعالى واحد لا شريك له لأنه خطاب الملوك والله تعالى مالك الملك وملك الملوك والمعهود من كلام الملوك أربعة أوجه : الإخبار على لفظ الواحد نحو فعلت كذا وعلى لفظ الجمع فعلنا كذا وعلى ما لم يسم فاعله رسم لكم كذا وإضافة الفعل إلى اسمه على وجه المغايبة أمركم سلطانكم بكذا والقرآن نزل بلغة العرب فجمع الله فيه هذه الوجوه كلها فيما أخبر به عن نفسه فقال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29(1/26)
{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (المدثر : 11) على صيغة الواحد وقال تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) على صيغة الجمع وقال فيما لم يسم فاعله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) وأمثاله وقال في "المغايبة" : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ} (الروم : 54) وأمثاله كذا في "التيسير".
ويقول الفقير جامع هذه اللطائف : سمعت من شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة إن الإفراد بالنظر إلى الذات والجمع بالنظر إلى الأسماء والصفات ولا ينافي كثرة الأسماء والصفات وحدة الذات إذ كل منها راجع إليها والإنفاق والإنفاد أخوان خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول والمراد بهذا الإنفاق الصرف إلى سبيل الخير فرضاً كان أو نفلاً ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها وهي الصلاة وقد جوز أن يراد به الإنفاق من جميع المعادن التي منحهم الله إياها من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم "إن علماً لا ينال به ككنز لا ينفق منه" وإليه ذهب من قال في تفسير الآية ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون والأظهر أن يقال المراد من النفقة هي الزكاة وزكاة كل شيء من جنسه كما روي عن أنس بن مالك (زكاة الدار أن يتخذ فيها بيت للضيافة) كما في "الرسالة القشيرية".
قالوا : إنفاق أهل الشريعة من حيث الأموال وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال :
قال المولى جلال الدين قدس سره :
آن درم دادن سخى را لايق است
جان سر دن خود سخاي عاشق است
وإنفاق الأغنياء من أموالهم لا يدخرونها عن أهل الحاجة وإنفاق العابدين من نفوسهم لا يدخرونها عن وظائف الخدمة وإنفاق العارفين من قلوبهم لا يدخرونها عن حقائق المراقبة وإنفاق المحبين من أرواحهم لا يدخرونها عن مجاري الأقضية.
والأقصر أن يقال إنفاق الأغنياء إخراج المال من الجيب وإنفاق الفقراء إخراج الأغيار من القلب ثم ذكر في الآية الإيمان وهو بالقلب ثم الصلاة وهي بالبدن ثم الإنفاق وهو بالمال وهو مجموع كل العبادات ففي الإيمان النجاة وفي الصلاة المناجاة وفي الإنفاق الدرجات وفي الإيمان البشارة وفي الصلاة الكفارة وفي الإنفاق الطهارة وفي الإيمان العزة وفي الصلاة القربة وفي الإنفاق الزيادة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
وقيل : ذكر في هذه الآية أربعة أشياء : التقوى ، والإيمان ، والغيب ، وإقامة الصلاة والإنفاق وهي
38
صفة الخلفاء الراشدين الأربعة ففي الآية بيان فضلهم التقوى لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل : 5 ـ 6) والإيمان بالغيب لعمر الفاروق رضي الله عنه قال الله تعالى : {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال : 64) وإقامة الصلاة لعثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآااِمًا} (الزمر : 9) الآية والإنفاق لعلي المرتضى رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (البقرة : 274) الآية ، وعند القوم أي : الصوفية السخاء هو الرتبة الأولى ثم الجود بعده ثم الإيثار فمن أعطى البعث وأبقى البعث فهو صاحب سخاء ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود والذي قاسى الضرورة وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار وبالجملة في الإنفاق فضائل كثيرة.
وروي عن أبي عبد الله الحارث الرازي أنه قال : أوحى الله إلى بعض أنبيائه (أني قضيت عمر فلان نصفه بالفقر ونصفه بالغنى فخيره حتى أقدم له أيهما شاء) فدعا نبي الله عليه السلام الرجل وأخبره فقال حتى أشاور زوجتي فقالت زوجته : اختر الغنى حتى يكون هو الأول فقال لها : إن الفقر بعد الغنى صعب شديد والغنى بعد الفقر طيب لذيذ فقالت : لا بل أطعني في هذا فرجع إلى النبي عليه السلام فقال : أختار نصف عمري الذي قضى لي فيه بالغنى أن يقدم فوسع الله عليه الدنيا وفتح عليه باب الغنى فقالت له امرأته : إن أردت أن تبقى هذه النعمة فاستعمل السخاء مع خلق ربك فكان إذا اتخذ لنفسه ثوباً اتخذ لفقير ثوباً مثله فلما تم نصف عمره الذي قضى له فيه بالغنى أوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان (إني كنت قضيت نصف عمره بالفقر ونصفه بالغنى لكني وجدته شاكراً لنعمائي والشكر يستوجب المزيد فبشره أني قضيت باقي عمره بالغنى) ، قال المولى جلال الدين قدس سره :
هر كه كادر كردد انبارش تهى
ليكش اندر مزرعه باشد بهى
وانكه در انبار ماند وصرفه كرد
اسش وموش وحوادثها ش خورد
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
قال الحافظ :
احوال كنج قارون كأيام داد برباد
باغنه باز كوييد تازر تهان ندارد(1/27)
وفي "التأويلات النجمية" {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي : من أوصاف الوجود يبذلون بحق النصف المقسوم من الصلاة بين العبد والرب فإذا بلغ السيل زباه والتعرض منتهاه أدركته العناية الأزلية بنفحات ألطافه وهداه إلى درجات قرباته فكما كان جذبة الحق للنبي عليه السلام في صورة خطاب (ادن) فجذبة الحق للمؤمن تكون في صورة خطاب {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق : 19) ففي التشهد بعد السجود إشارة إلى الخلاص من حجب الأنانية والوصل إلى سهود جمال الحق بجذبات الربانية ثم بالتحيات يراقب رسول العباد في الرجوع إلى حضرة الملوك بمراسم تحفة الثناء والتحنن إلى اللقاء وفي التسليم عن اليمين وعن الشمال إشارة إلى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين إلى نعيم الجنات أو عن الشمال إلى اللذات والشهوات وهو في مقامات الإجابات والمناجاة ودرجات القربات مستغرق في بحر الكرامات مقيد بقيد الجذبات كما قال تعالى : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان : 63) فأهل الصورة بالسلام يخرجون من إقامة
39
الصلاة وأهل الحقيقة بالسلام يدخلون في إدامة الصلاة كقوله : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَاِئمُونَ} (المعارج : 23) فقوم يقيمون الصلاة والصلاة تحفظهم كما قال تعالى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} (العنكبوت : 45) فهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} بما لهم في الغيب معد بقوله : "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فعلموا أن ما هو المعد لهم لا تدركه الأبصار ولا الآذان ولا القلوب التي رزقهم الله وليس بينهم وبين ما هو المعد لهم حجاب إلا وجودهم فاشتاقوا إلى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم فآنسوا من جانب طور صلاتهم ناراً لأن صلاتهم بمثابة الطور لهم للمناجاة فلما أتاها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين فجعلوا ما رزقهم الله من أوصاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقونه عليها ويقيمون الصلاة حتى نودوا أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ومن لم يكن له نار تحرق في نار جهنم الصلاة حطب وجوده ووجود كل من يعبد من دون الله فلا بد له من الحرقة بنار جهنم الآخرة فالفرق بين النارين أن نار الصلاة تحرق لب وجودهم الذي هم به محجوبون عن الله تعالى ويبقى جلد وجودهم وهو الصورة والحجاب من لب الوجود لا من جلده وهذا سر عظيم لا يطلع عليه إلا أولوا الألباب المحترقة ونار جهنم تحرق جلودهم ويبقى لب وجودهم لا جرم لا ترفع الحجب عنهم كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون لأن اللب باق والجلد وإن احترق بقي اللب كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (النساء : 56) فمن أنفق لب الوجود وما تبدى منه له الوجود من المال والجاه في سبيل نار الصلاة والقربة إلى الله فينفق الله عليه وجود نار الصلاة كما قال لحبيبه عليه السلام : (أنفق عليك) فبقي بنار الصلاة بلا أنانية الوجود فتكون صلاته دائمة بنور نار الصلاة يؤمن بما أنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} نزلت في مؤمني أهل الكتاب وما قبله إلى قوله تعالى : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} نزلت في مؤمني العرب {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} هو القرآن بأسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقباً حينئذٍ لتغليب المحقق على المقدر أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما في قوله تعالى : {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى} (الأحقاف : 30) مع أن الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعاً ولا كان الجمع إذ ذاك نازلاً.
وفي "الكواشي" لأن القرآن شيء واحد في الحكم ولأن المؤمن ببعضه مؤمن بكله انتهى ثم معنى ما أنزل إليك هو القرآن الذي يتلى والوحي الذي لا يتلى فالمتلو هو هذه الصورة والآيات وغير المتلو ما بين النبي عليه السلام من أعداد الركعات ونصب الزكوات وحدود الجنايات قال تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى} (النجم : 3 ـ 4) والإنزال في هذه الآية بمعنى الوحي ويكون بمعنى الإعلاء وهو النقل من الأسفل إلى الأعلى وإن حمل على الإنزال الذي هو من العلو إلى السفل فمعناه إنزال جبريل لتبليغه كما قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ} (الشعراء : 193) يعني : أن الإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحقوقه الذوات الحاملة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله أعلم بأن يتلقاها الملك من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً أو يحفظها من اللوح
40(1/28)
المحفوظ فينزل بها إلى الرسل فيلقيها عليهم {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفة والإيمان بالكل جملة فرض عين وبالقرآن تفصيلاً من حيث أنا متعبدون بتفاصيله فرض كفاية فإن في وجوبه على الكل عيناً حرجاً بيناً وإخلالاً بأمر المعاش.
قال في "التيسير" الإيمان بكل الكتب مع تنافي أحكامها على وجهين أحدهما التصديق أن كلها من عند الله والثاني الإيمان بما لم ينسخ من أحكامها
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{وَبِالآخِرَةِ} تأنيث الآخر الذي يقابل الأول وهو في المعدودات اسم للفرد اللاحق وهي صفة الدار بدليل قوله تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ} (القصص : 83) وهي من الصفات الغالبة وكذا الدنيا والآخرة بفتح الخاء الذي يلي الأول وسميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا {هُمْ يُوقِنُونَ} الإيقان إتقان العلم بالشيء بنفي الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالاً ولذلك لا يسمى علمه تعالى يقيناً وكذا العلوم الضرورية أي : يعلمون علماً قطعياً مزيحاً لما كان أهل الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لم تمسهم إلا أياماً معدودات واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا وهل هو دائم أو لا فقال فرقة منهم يجري حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا وقال آخرون إن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور وبناء يوقنون على الضمير تعريض بمن عداهم من أهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته فإن اعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين فدل التقديم على التخصيص بأن إيقان من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز إلى ما أثبته الكفار بالإقرار من أهل الكتاب.
قال أبو الليث رحمه الله في "تفسيره" : اليقين على ثلاثة أوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة فأما يقين العيان فهو أنه إذا رأى شيئاً زال الشك عنه في ذلك الشيء وأما يقين الدلالة فهو أن يرى الرجل دخاناً ارتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك ناراً وإن لم يرها وأما يقين الخبر فهو أن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد وإن لم ينته إليها فههنا يقين خبر ويقين دلالة لأن الآخرة حق ولأن الخبر يصير معاينة عند الرؤية انتهى كلامه.
ويقال : علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الإخلاص فيها وحق اليقين المشاهدة فيها والعلم اليقين هو العلم الحاصل بالإدراك الباطني بالفكر الصائب والاستدلال وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا تزيد هذه المرتبة العلمية إلا بمناسبة الأرواح القدسية فإذاً يكون العلم عيناً ولا مرتبة للعين إلا اليقين الحاصل من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة إلا بزوال حجاب الإثنينية فإذاً يكون العين حقاً وزيادة هذه المرتبة أي : حق اليقين عدم ورود الحجاب بعده وعينه للأولياء وحقه للأنبياء وهذه الدرجات والمراتب لا تحصل إلا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الأكل والذكر أو السكوت بالفكر في ملكوت السموات والأرض
41
وبأداء السنن والفرائض وترك ما سوى الحق والغرض وتقليل المنام والعرض وأكل الحلال وصدق المقال والمراقبة بقلبه إلى الله تعالى فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة كذا في "شرح النصوص المسمى بأسرار السرور بالوصول إلى عين النور".
ثم ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها فقد قيل عشرة من المغرورين من أيقن أن الله خالقه ولا يعبده ومن أيقن أن الله رازقه ولا يطمئن به ومن أيقن أن الدنيا زائلة ويعتمد عليها ومن أيقن أن الورثة أعداؤه ويجمع لهم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
توباخود ببرتوشة خويشتن
كه شفقت نيايد زفر زندوزن(1/29)
ومن أيقن أن الموت آت فلا يستعد له ومن أيقن أن القبر منزله فلا يعمره ومن أيقن أن الديان يحاسبه فلا يصحح حجته ومن أيقن أن الصراط ممره فلا يخفف ثقله ومن أيقن أن النار دار الفجار فلا يهرب منها ومن أيقن أن الجنة دار الأبرار فلا يعمل لها كما في "التيسير".
قال ذو النون المصري : اليقين داع إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة والحكمة تورث النظر في العواقب.
قال أبو علي الدقاق ـ رحمه الله ـ في قول النبي عليه السلام في عيسى ابن مريم عليهما السلام : "لو لم يزدد يقيناً ما مشى في الهواء" أشار بهذا الحديث إلى حال نفسه صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج لأن في لطائف المعراج أنه قال : رأيت البراق قد بقي ومشيت.
وقال أبو تراب : رأيت غلاماً في البادية يمشي بلا زاد فقلت : إن لم يكن معه يقين فقد هلك فقلت : يا غلام أتمشي في مثل هذا الموضع بلا زاد؟ فقال : يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غير الله تعالى؟ فقلت : الآن فاذهب حيث شئت.
قال إبراهيم الخواص : طلبت المعاش لآكل الحلال فاصطدت السمك فيوماً وقع في الشبكة سمكة فأخرجتها وطرحت الشبكة في الماء فوقعت أخرى فيها ثم عدت فهتف بي هاتف لم تجد معاشاً إلا أن تأتي إلى من يذكر الله فتقتلهم فكسرت القصبة وتركت كذا في "الرسالة القشيرية".
وذكر في "التأويلات النجمية" أن من تخلص من ذل الحجاب الوجودي يجد عزة الإيقان بالأمور الأخروية وكان مؤمناً بها من وراء الحجاب فصار موقناً بها بعد رفع الحجاب كما قال أمير المؤمنين على كرم الله وجه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً لأن من كشف عنه غطاء الوجود لا يحجبه غطاء المحسوسات الدنيوية عن الأمور الأخروية فبكشف الححب يتخلصون من مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإيقان كما قال تعالى : {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ولكن هذا خاص أي : يوقنون بالآخرة دون ما أنزل على الأنبياء من الكتب فإنهم لا يتخلصون من مرتبة الإيمان بالله وكتبه أبداً وهذا سر عظيم وما رأيت أحداً فرق بين هاتين المرتبتين وذلك لأنه لا يمكن للإنسان أن يشاهد الأمور الأخروية كلها بطريق الكشف في الدنيا وأما بطريق المشاهدة في العقبى فيصير موقناً بها بعدما كان مؤمناً كما قال تعالى : {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق : 22) فأما ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته فلا يمكن لأحد أن يشاهده بالكلية لأنه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدة وإن فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا من مرتبة الإيمان بما لم يشاهدوا بعد ولا يحيطون به علماً إلى أبد الآباد بل ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{أُولَئِكَ} الجملة في محل الرفع أن جعل أحد الموصولين مفصولاً
42(1/30)
عن المتقين خبر له وكأنه لما قيل هدى للمتقين قيل ما بالهم خصوا بذلك؟ أجيب بقوله : الذين يؤمنون إلى آخر الآيات وإلا فاستئناف لا محل لها فكأنه نتيجة الأحكام السابقة والصفات المتقدمة.
وأولاء جمع لا واحد له من لفظه بني على الكسر وكافه للخطاب كالكاف في ذلك أي : المذكورون قبله وهم المتقون الموصوفون بالإيمان بالغيب وسائر الأوصاف المذكورة بعده وفيه دلالة على أنهم متميزون بذلك أكمل تميز منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله عز وجل : {عَلَى هُدًى} خبره وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمه كأنه قيل على هدى أي : هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره كما تقول : لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً وإيراد كلمة الاستعلاء بناء على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يقبل الشيء ويستولي عليه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل يعني أكرمهم الله في الدنيا حيث هداهم وبين لهم طريق الفلاح قبل الموت {مِن رَّبِّهِمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة له مبينة لفخامته الإضافية إثر بيان فخامته الذاتية مؤكدة لها أي : على هدى كائن من عنده تعالى وهو شامل لجميع أنواع هدايته تعالى وفنون توفيقه والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيم الموصوف والمضاف إليهم وتشريفهما.
ثم في هذه الآية ذكر الهدى للموصوفين بكل هذه الصفات وفي قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} (البقرة : 136) إلى قوله تعالى : {فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِه فَقَدِ اهْتَدَوا} (البقرة : 137) ذكر لهم الهداية بالإقرار والإعتقاد بدون سائر الطاعات بياناً لشرف الإيمان وجلال قدره وعلو أمره فإنه إذا قوي لم يبطله نفس المخالفات بل هو الذي يغلب فيرد إلى التوبة بعد التمادي في البطالات وكما هدى اليوم إلى الإيمان يهدي غداً إلى الجنان قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ} (يونس : 9) وذلك أن المطيعين يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم وهم على مراكب طاعاتهم والملائكة تتلقاهم قال تعالى : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (مريم : 85) وتتلقاهم الملائكة وتبقي العصاة منفردين منقطعين في متاهات القيامة ليس لهم نور الطاعات ولا في حقهم استقبال الملائكة فلا يهتدون السبيل ولا يهديهم دليل فيقول الله لهم : عبادي {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ} (يس : 55) أن أهل الجنة من حسن الثواب لا يتفرغون لكم وأهل النار من شدة العقاب لا يرحمونكم معاشر المساكين سلام عليكم كيف أنتم إن كان أشكالكم سبقوكم ولم يهدوكم فأنا هاديكم إن عاملتكم بما تستوجبون فأين الكرم؟ كذا في "التيسير" ، قال السعدى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 42
نه يوسف كه ندان بلاديد وبند
وحكمش روان كشت وقد رش بلند
كنه عفو كرد آل يعقوبرا
كه معنى بود صورت خوبرا
بكردار بد شان مقيد نكرد
بضاعات مزجاتشان ردنكرد
ز لطفت همي ثم داريم نيز
برين بي بضاعت يخش أي : عزيز
بضاعت نياوردم إلا أميد
خدايا زعفوم مكن نا أميد
43
{وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تكرير أولئك للدلالة على أن كل واحد من الحكمين مستبد في تميزهم به عن غيرهم فكيف بهما؟ وتوسط العطف بينهما تنبيه على تغايرهما في الحقيقة وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر الدلالة على أن ما بعده خبر لا صفة وأن المسند ثابت للمسند إليه دون غيره فصفة الفلاح مقصورة عليهم لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى ولا يلزم من هذا أن لا يكون للمتقين صفة أخرى غير الفرح فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس حتى يلزم ذلك والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم نستغلق عليه والتركيب دال على معنى الشق والفتح والقطع ومنه سمي الزارع فلاحاً لأنه يشق الأرض وفي المثل الحديد بالحديد يفلح أي : يقطع والمعنى هم الفائزون بالجنة والناجون من النار يوم القيامة والمقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
وحاصل الفلاح يرجع إلى ثلاثة أشياء :
أحدها : الظفر على النفس فلم يتابعوا هواها ، والدنيا فلم يطغوا بزخارفها ، والشيطان فلم يفتنوا بوساوسه ، وقرناء السوء فلم يبتلوا بمكروهاتهم.
والثاني : النجاة من الكفر ، والضلالة ، والبدعة ، والجهالة ، وغرور النفس ، ووسوسة الشيطان ، وزوال الإيمان ، وفقد الأمان ، ووحشة القبور ، وأهوال النشور ، وزلة الصراط ، وتسليط الزبانية الشداد الغلاظ ، وحرمان الجنان ، ونداء القطيعة والهجران.(1/31)
والثالث : البقاء في الملك الأبدي ، والنعيم السرمدي ، ووجدان ملك لا زوال له ، ونعيم لا انتقال له ، وسرور لا حزن معه ، وشباب لا هرم معه ، وراحة لا شدة معها ، وصحة لا علة معها ، ونيل نعيم لا حساب معه ، ولقاء لا حجاب له كذا في تفسير "التيسير".
وقد تشبثت الوعيدية بالآية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم لا عدم الفلاح لهم رأساً كما في "تفسير البيضاوي".
قال الشيخ نجم الدين داية قدس سره : ذكر هدى بالنكرة أي : على كشف من كشوف ربهم ونور من أنواره وسر من أسراره ولطف من ألطافه وحقيقة من حقائقه فإن جميع ما أنعم الله به على أنبيائه وأوليائه بالنسبة إلى ما عنده من كمال ذاته وصفاته وإنعامه وإحسانه قطرة من بحر محيط لا يعتريه القصور من الإنفاق أبداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم "يمين الله ملأى لا ينقصها نفقة سخاء الليل والنهار" وفيه إشارة لطيفة وهي أنهم بذلك الهدى آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون وأولئك هم المفلحون الذين تخلصوا من حجب الوجود بنور نار الصلاة وشاهدوا الآخرة وجذبتهم العناية بالهداية إلى مقامات القربة وسرادقات العزة فما نزلوا بمنزل دون لقائه وما حطوا رحالهم إلا بفنائه فازوا بالسعادة العظمى والمملكة الكبرى ونالوا الدرجة العليا وحققوا قول الحق {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق : 8) انتهى كلام الشيخ في "تأويلاته" قال المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 42
كرهمي خواهي كه بفروزي وروز
هستىء همون شب خودرا بسوز
هستيت درهست آن هستي نواز
همومس در كيميا اندر كداز
جزء : 1 رقم الصفحة : 42
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} لما ذكر خاصة عباده وخالصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يغنب عنهم الآيات
44
والنذر وتعريف الموصوف إما للعهد والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود أو للجنس متناولاً كل من صمم على كفرهم تصميماً لا يرعوي بعده وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه.
والكفر لغة : الستر والتغطية وفي الشريعة : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلّم به وإنما عدّ لباس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرهما كفراً لدلالته على التكذيب فإن من صدق النبي صلى الله عليه وسلّم لا يكاد يجترىء على أمثال ذلك إذ لا داعي إليه كالزنى وشرب الخمر لا لأنه كفر في نفسه.
والكافر في القرآن على أربعة أوجه :
أحدها نقيض المؤمن قال الله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (النحل : 88).
والثاني الجاحد قال تعالى : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران : 97) أي : جحد وجوب الحج.
والثالث نقيض الشاكر قال تعالى : {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة : 152).
والرابع المتبرىء قال تعالى : {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} (العنكبوت : 25) أي : يتبرأ بعضكم من بعض كذا في "التيسير".
وقال في "البغوي" : الكفر على أربعة أوجه : كفر الإنكار : وهو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به وكفر الجحود : وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس قال الله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (البقرة : 89) وكفر العناد وهو أن يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
جزء : 1 رقم الصفحة : 44(1/32)
وكفر النفاق وهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله بواحد منها لا يغفر له انتهى كلام البغوي لكن الكلام في أبي طالب سيجيء عند قوله تعالى : {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ} (البقرة : 119) {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أي : عندهم وهو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال الله تعالى : {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران : 64) وارتفاعه على أنه خبر لأن وقوله تعالى : {ءَأَنذَرْتَهُمْ} يا محمد {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} مرتفع على الفاعلية لأن الهمزة وأم مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الأمر والنهي لذلك عن معنييهما في قوله عز وجل : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (التوبة : 80) وحرف النداء في قولك : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وعن معنى الطلب لمجرد التخصيص كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم أنذارك وعدمه كقولك إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه.
وأصل الإنذار الإعلام بأمر مخوف وكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً كما في تفسير أبي الليث والمراد ههنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي وإنما اقتصر عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلاً ولأن الإنذار أوقع في القلوب وأشد تأثيراً في النفوس فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأساً أولى ، وإنما لم يقل سواء عليك كما قال لعبدة الأصنام : {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـامِتُونَ} (الأعراف : 193) لأن إنذارك وترك إنذارك ليسا سواء في حقك لأنك تثاب على الإنذار وإن لم يؤمنوا فأما في حقهم فهما سواء لأنهم لا يؤمنون في الحالين وهو نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يثاب به الآمر وإن لم يعمل به المأمور وكان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود عليه السلام : {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ} (الشعراء : 136) وقال تعالى في حق هؤلاء {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ} (البقرة : 6) الخ ويقال لهم في القيامة {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (
جزء : 1 رقم الصفحة : 44(1/33)
الطور : 16) واخبر عنهم أنهم يقولون {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم : 21) فلما كان الوعظ وتركه سواء كان صبرهم في النار وتركه سواء وجزعهم فيها وتركه سواء وأنت إذا كان عصيانك في الشباب والشيب سواء وتماديك في الصحة والمرض سواء وإعراضك في النعمة والمحنة سواء وقسوتك على القريب والبعيد سواء وزيغك في السر والعلانية سواء أما تخشى أن تكون توبتك عند الموت وإصرارك عند النزع وسكوتك سواء وزيارة الصالحين لك وامتناعهم سواء وقيام الشفعاء بأمرك وتركهم سواء كذا في تفسير "التيسير" {لا يُؤْمِنُونَ} جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب ثم هذا تخفيف للنبي عليه السلام وتفريغ لقلبه حيث أخبره عن هؤلاء بما أخبر به نوحاً صلوات الله عليه وعلى سائر الأنبياء في الانتهاء فإنه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان ومقاساة الشدائد والأحزان {أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ} (هود : 36) فدعا بهلاكهم بعد ذلك وكذلك سائر الأنبياء.
وفي الآية الكريمة إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة وفي الآية إثبات فعل العباد فإنه قال لا يؤمنون وفيه إثبات الاختيار ونفى الإكراه والإجبار فإنه لم يقل لا يستطيعون بل قال لا يؤمنون.
فإن قلت : لما علم الله أنهم لا يؤمنون فلم أمر النبي عليه السلام بدعائهم.
قلت : فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة كما أن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن قال الله تعالى : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُا بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء : 165) وقال : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ} (طه : 134).
فإن قلت : لما أخبر الله رسوله أنهم لا يؤمنون؟ فهلا أهلكهم كما أهلك قوم نوح بعدما أخبر أنهم لا يؤمنون.
قلت : لأن النبي عليه السلام كان رحمة للعالمين كما ورد به الكتاب وقد قال الله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال : 33) ثم إن الإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق.
قال الإمام القشيري : من كان في غطاء صفته محجوباً عن شهود حقه فسيان عنده قول من دلّه على الحق وقول من أعانه على استجلاب الحظ بل هو إلى داعي الغفلة أميل وفي الإصغاء إليه أرغب وكما أن الكافر لا يرعوي عن ضلالته لما سبق من شقاوته فكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه فهو لا يبصر رشده ولا يسلك قصده.
وقال أيضاً : إن الذي بقي في ظلمات دعاويه سواء عنده نصح الراشدين وتسويلات المبطلين لأن الله تعالى نزع من أحواله بركات الإنصاف فلا يصغي إلى داعي الرشاد كما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 44
وعلى النصوح نصيحتي
وعلى عصيان النصوح
وفي "التأويلات النجمية" {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : جحدوا ربوبيتي بعد إقرارهم في عهد الست بربكم بإجابة بلى وستروا صفاء قلوبهم برين ما كسبوا من أعمالهم الطبيعية النفسانية وأفسدوا حسن استعدادهم من فطرة الله التي فطر الناس عليها باكتساب الصفات
46
(1/34)
البهيمية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين : 14) وذلك بأن أرواحهم النفيسة لما نظروا بروزنة الحواس الخمس إلى عالم الصورة الخسيسة حجبت عن مألوفاتها ومحابها ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها ولهذا يسمى الإنسان إنساناً لأنه أنيس فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيسة خسيساً فاستحسن ما استحسنت النفس واستلذ به ما استلذ به النفس واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطع عنه الأغذية الروحانية ونسي حظائر القدس وجوار الحق في رياض الإنس ولهذا سمي الناس ناساً لأنه ناس فتاه في أودية الخسران واستهوته الشياطين في الأرض حيران ولما نسوا الله بالكفران نسيهم بالخذلان حتى غلب عليهم الهوى وأوقعهم في مهالك الردى فأصبحوا بنفوس أحياء وقلوب موتى {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ} بالوعد والوعيد وخوفتهم بالعذاب الشديد {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بما أخبرتهم ودعوتهم إليه وأنذرتهم عليه لأن روزنة قلوبهم إلى عالم الغيب منسدة بقساوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مقفول عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (محمد : 24) فما تنسموا روائح الإنس من رياض القدس بل هب عليهم صرصر الشقاوة من مهب حكم السابقة وأدركهم بالختم على أقفالها كما قال تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ} الآية انتهى ما في التأويلات.
ومن أمثال الإنجيل : قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الريح ، قال السعدي :
ون بود أصل جوهري قابل
تربيت را درا وأثر باشد
هي صيقل نكو نداند كرد
آهنى راكه بد كهر باشد
جزء : 1 رقم الصفحة : 44
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} لما ذكر هؤلاء الكفار بصفاتهم وحالاتهم ألحق به ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق وبيان ما يقتضيه.
والختم الكتم سمي به الاشتيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه لأنه كتم له وبلوغ آخره ومنه ختم القرآن نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه ولا ختم على الحقيقة وإنما المراد به أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم وانهماكهم في التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ولا ينفذ فيها الحق أصلاً وسمي هذه الهيئة على الاستعارة ختماً وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : {أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ} وبالإغفال في قوله : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا} (النحل : 108) وبالإقساء في قوله : {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (المائدة : 13) وهي من حيث أن الممكنات بأسرها مسندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله ذلك : {بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (المنافقون : 3) وردت الآية الكريمة ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم فالختم مجازاة لكفرهم والله تعالى قد يسر عليهم السبل فلو جاهدوا لوفقهم فسقط الاعتراض بأنه إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة.
قال الشيخ في "تفسيره" وإسناد الختم الى الله للتنبيه على ان اباءهم عن قبول الحق كالشيء الخلقي غي العرضى انتهى وقال في التيسير حاص الختم
47
عند أهل الحق عقوبة من الله تعالى لا تمنع العبد من الإيمان جبراً ولا تحمله على الكفر كرهاً بل هي زيادة عقوبة له على سوء اختياره وتماديه في الكفر وإصراره يحرم بها من اللطف الذي سهل به فعل الإيمان وترك العصيان يدل عليه أنهم بقوا مخاطبين بالإيمان بقوله تعالى : {بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ} (الحديد : 7) وملومين على الامتناع عنه لقوله تعالى : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (الإنشقاق : 20) ولو صاروا مجبورين وعن الإيمان عاجزين لزال الخطاب وسقط اللوم والعتاب كما في الختم على الأفواه يوم الحساب لما عجزوا به حقيقة عن الكلام لم يبق الخطاب بالكلام وتحقيق المذهب إثبات فعل العبد وتخليق الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 47
والقلوب : جمع قلب وهو الفؤاد سمي قلباً لتقلبه في الأمور ولتصرفه في الأعضاء.
وفي تفسير الشيخ : القلب قطعة لحم مشكل بالشكل الصنوبري معلق بالوتين مقلوباً والوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه ويقال له : الأبهر.
وفي "تفسير الكواشي" القلب قطعة سوداء في الفؤاد وزعم بعضهم أنه الشكل الصنوبري المعلق بالوتين مقلوباً.
(1/35)
وفي تعريفات السيد : القلب لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلّق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان : قال المولى الجامي :
نيست أين بيكر مخروطي دل
بلكه هست أين قفص طوطى دل
كرتو طوطى زقفس تشناسى
بخدا ناس نه نشناسى
والمراد بالقلب في الآية محل القوة العاقلة من الفؤاد وقد يطلق ويراد به المعرفة والعقل كما قال {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} {و} ختم الله {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} أي : على آذانهم فجعلها بحيث تعاف استماع الحق ولا تصغى إلى خير ولا تعيه ولا تقبله كأنها مستوثق منها بالختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم وميلهم إلى الباطل وإيثارهم.
والسمع هو إدراك القوة السامعة وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا لأنه أشد مناسبة للختم وهو المختوم عليه أصالة.
وفي توحيد السمع وجوه :
أحدها : أنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة قال تعالى : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (الطارق : 15 ـ 16) فإن قالوا : فلم جمع الأبصار والواحد بصر وهو كالسمع؟ قلنا : إنه اسم للعين فكان اسماً لا مصدراً فجمع لذلك.
والثاني : أن فيه إضماراً أي : على مواضع سمعهم وحواسه كما في قوله تعالى : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) أي : أهلها وثبت هذا الإضمار دلالة أن السمع فعل ولا يختم على الفعل وإنما يختم على محله.
والثالث : أنه أراد سمع كل واحد منهم والإضافة إلى الجماعة تغني عن الجماعة وفي التوحيد أمن اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم أي : بطونكم إذ البطن لا يشترك فيه.
والرابع : قول سيبويه أنه توسط جمعين فدل على الجمع وإن وحد كما في قوله : {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة : 257) دل على الأنوار ذكر الظلمات وتقديم ختم قلوبهم للإيذان بأنها الأصل في عدم الإيمان وتقديم حال السمع على حال أبصارهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 47
قالوا : السمع أفضل من البصر لأنه تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ولأن السمع شرط النبوة ولذلك ما بعث الله تعالى رسولاً أصم ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقل بالمعارف التي تتلقف من أصحابها {وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ} جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازاً على
48
(1/36)
القوة الباصرة وعلى العضوين وهو المراد ههنا لأنه أشد مناسبة للتغطية {غِشَـاوَةٌ} أي : غطاء ولا تغشية على الحقيقة وإنما المراد بها إحداث حالة تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلي الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين وتصير كأنها غطى عليها وحيل بينها وبين الأبصار ومعنى التنكير أن على أبصارهم ضرباً من الغشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس وهي غشاوة التعامي عن الآيات.
قوله : {غِشَـاوَةٌ} مبتدأ مؤخر خبره المقدم قوله : {وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ} ولما اشترك السمع والقلب في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات وإدراك الأبصار مما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة.
قال في التيسير : إنما ذكر في الآية القلوب والسمع والأبصار لأن الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة في الحق كما قال تعالى : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة : 44) {أَنفُسِكُمْ أَفَلا} (الذاريات : 21) {أَفَلا تَسْمَعُونَ} (القصص : 71) {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي : عقوبة شديدة القوة ومنه العظم والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه وسمي العذاب عذاباً لأنه يمنع عن الجناية إذا تأمل فيها العاقل ومنه الماء العذب لما أنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً لأنه ينقخ العطش أي : يكسره وفراتاً لأنه يرفته على القلب يعني الفرات وهو الماء العذب مأخوذ من الرفت وهو قلبه وقيل إنما سمي به لأنه جزاء ما استعذبه المرء بطبعه أي : استطابه ولذلك قال : {فَذُوقُوا عَذَابِى} (القمر : 37) وإنما يذاق الطيب على معنى أنه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه في الدنيا.
والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكان العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير.
قال في "التيسير" : عظيم أم كبير أو كثير أو دائم وهو التعذيب بالنار أبداً ثم عظمه بأهواله وبشدة أحواله وكثرة سلاسله وأغلاله فتكون هذه الآية وعيداً وبياناً لما يستحقونه في الآخرة وقيل هو القتل والأسر في الدنيا والتحريق بالنار في العقبى ومعنى التوصيف بالعظيم أنه إذا قيس سائر ما يجانسه قصر عنه جميعه ومعنى التنكير أن لهم من الآلام نوعاً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل.
فعلى العاقل أن يجتنب عما يؤدي إلى العذاب الأليم والعقاب العظيم وهو الإصرار على الذنوب والإكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب.
قيل في سبب الحفظ من هذه العقوبة التي هي الختم على الكيس فلا يمنعه عن حق ووضع الختم على اللسان فلا يطلقه في باطل قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 47
بكمراه كفتن نكو ميروي
كناه بزركست وجور قوي
مكو شهد شيرين شكر فأيقست
كسى راكه سقمونيا لايقست
قال النبي صلى الله عليه وسلّم "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد" قيل : وما جلاؤها قال : "تلاوة القرآن وكثرة ذكر الله وكثرة ذكر الموت" وأمهات الخطايا ثلاث : الحرص ، والحسد ، والكبر ، فحصل من هؤلاء ست فصارت تسعاً : الشبع ، والنوم ، والراحة ، وحب المال ، وحب الجاه ، وحب الرياسة فحب المال والرياسة من أعظم ما يجر صاحبه إلى الكفر والهلاك ـ حكي ـ أن ملكاً شاباً قال : إني لا أجد في الملك لذة فلا أدري أكذلك يجده الناس أم أنا أجده
49
فقالوا له : كذلك يجدها الناس قال : فماذا يقيمه؟ قالوا : يقيمه لك أن تطيع الله فلا تعصيه فدعا من كان في بلده من العلماء والصلحاء فقال لهم : كونوا بحضرتي ومجلسي فما رأيتم من طاعة الله فائمروني وما رأيتم من المعصية فازجروني عنها ففعل ذلك فاستقام له الملك أربعمائة سنة ثم إن إبليس أتاه يوماً على صورة رجل وقال له : من أنت؟ قال الملك رجل من بني آدم قال : لو كنت من بني آدم لمت كما تموت بنو آدم ولكنك إله فادع الناس إلى عبادتك ، فدخل في قلبه شيء ثم صعد المنبر فقال : أيها الناس إني أخفيت عليكم أمراً حان إظهاره وهو أني ملككم منذ كذا سنة ولو كنت من بني آدم لمت ولكني إله فاعبدوني فأوحى الله إلى نبي زمانه وقال : أخبره أني استقمت له ما استقام لي فتحول من طاعتي إلى معصيتي فبعزتي وجلالي لأسلطن عليه بخت نصر ولم يتحول عن ذلك فسلطه عليه فضرب عنقه وأوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب ، قال المولى جلال الدين قدس سره :
جز عنايت كه كشايد شم را
جز محبت كه نساند خشم را
جهد بي توفيق خود كس را مباد
در جهان والله أعلم بالرشاد
جزء : 1 رقم الصفحة : 47
(1/37)
وفي "التأويلات النجمية" في الختم إشارة إلى بداية سوابق أحكام القدر بالسعادة والشقاوة على وفق الحكمة والإرادة الأزلية للخليقة كما قال تعالى : {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} (هود : 105) مع حسن استعداد جميعهم بقبول الإيمان والكفر ولهذا لما خاطب الحق ذراتهم بخطاب الست بربكم قالوا : بلى جميعاً ثم أودع الله الذرات في القلوب والقلوب في الأجساد والأجساد في الدنيا في ظلمات ثلاث وكانت روزنة القلوب كلها مفتوحة إلى عالم الغيب بواسطة الذرات المودعات التي سمعت خطاب الحق وشاهدت كمال الحق إلى وقت ولادة كل إنسان كما قال عليه السلام : "كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وفيه إشارة إلى أن الله يكل الأشقياء إلى تربية الوالدين في معنى الدين حتى يلقنوهم تقليد ما ألفوا عليه آباءهم من الضلالة فيضلوهم كما قال تعالى : {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ} (الأنبياء : 54) فكانت تلك الشقاوة المقدرة مضمرة في ضلالة التقليد والصفات النفسانية الظلمانية والهوى والطبيعة ثم جعل تأثيرها وظلمتها ورينها يندرج إلى القلوب فيقسيها ويسودها ويغطيها ويسد روزنتها إلى الذرات فيعميها ويصمها حتى لا يبصر أهل الشقاوة ببصر الذرات من الحق ما كانوا يبصرون ولا يسمع بسمع الذرات من الحق ما كانوا يسمعون فينكرون على الأنبياء ويكفرون بهم وبما يدعونهم إليه فيختم الله شقاوتهم بكفرهم هذا ويطبع به على قلوبهم كقوله تعالى : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فَسِّرُ القدر مستور لا يطلع عليه أحد إلا الله فيظهر آثار السعادة بإقرار السعداء ويظهر آثار الشقاوة بإنكار الأشقياء وكفرهم من القدر كالبذر في الأرض مستور فتظهر الشجرة منه وهو في الشجرة مستور فيخرج مع الأغصان من الشجرة وهو في الأغصان مستور حتى يخرج مع الثمرة من الأغصان وهو الثمرة مستور حتى يظهر من الثمرة فيختم ظهور البذر بالثمرة فكذلك سر القدر وهو بذر السعادة أو الشقاوة مستور في علم الله تعالى فتظهر شجرة وجود الإنسان منه والسعادة والشقاوة مستورة فيها فتخرج مع أغصان
50
الأخلاق وهي مستورة فيها فتخرج مع ثمرة الأعمال وهي الإقرار والإنكار والإيمان والكفر فيختم ظهور سر القدر وهو السعادة أو الشقاوة بثمرة الإيمان أو الكفر فيظهر سر القدر عند الختم بالسعادة أو الشقاوة فالذين {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إنما ختم بخاتم كفرهم وإن كان نقش خاتمهم هو الأحكام الأزلية وسر القدر حتى حرموا من دولة الوصال وبه ختم {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} حتى لم يسمعوا خطاب الملك ذي الجلال {وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ غِشَـاوَةٌ} من العمي والضلال فلم يشاهدوا ذلك الجمال والكمال فلهم حرمان مقيم {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنهم منعوا من مرادهم وهو العلي العظيم فعظم العذاب يكون على قدر عظمة المراد الممنوع منه انتهى ما في "التأويلات".
جزء : 1 رقم الصفحة : 47
{وَمِنَ النَّاسِ} (البقرة : 8) لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بشرح حاله وساق لبيانه ذكر الذين أخلصوا دينهموواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للتقسيم وهم أي : المنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خذاعاً واستهزاء ولذلك طول في بيان خبثهم.
قال القاشاني الاقتصار في وصف الكفار المصرين المطبوع على قلوبهم على آيتين والإطناب في وصف المنافقين في ثلاث عشرة آية للإضراب عن أولئك صفحاً إذ لا ينجع فيهم الكلام ولا يجدي عليهم الخطاب وأما المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعبير وعسى أن يرتدعوا بالتشنيع عليهم وتفظيع شأنهم وسيرتهم وتهجير عادتهم وخبث نيتهم وسريرتهم وينتهوا بقبيح صورة حالهم وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم وتنقاد نفوسهم وتزكي بواطنهم وتضمحل رذائلهم فيرجعون عما هم عليه ويصيرون من المستثنى في قوله تعالى : {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَا وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 146).
جزء : 1 رقم الصفحة : 51
(1/38)
والناس اسم جمع للإنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي قال تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115) ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لِرَبِّه لَكَنُودٌ} (العاديات : 6) أي : نَسَّاء للنعم ذكار للمحن وقيل : لظهوره من آنس أي : أبصر لأنهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنانهم أي : استتارهم عن أعين الناس وقيل : هو من الإنس الذي هو ضد الوحشة لأنهم يستأنسون بأمثالهم أو يستأنس أرواحهم بأبدانهم وأبدانهم بأرواحهم واللام فيه للجنس ومَنْ في قوله : {مَن يَقُولُ} موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون أي : يقرّون باللسان والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي وللمذهب مجازاً ووحد الضمير في يقول باعتبار لفظ من وجمعه في قوله : {مَن} وقوله : {وَمَا هُم} باعتبار معناها لأن كلمة من تصلح للواحد والجمع أو اللام فيه للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ونظراؤه من المنافقين حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي عليه السلام وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود فإنهم من حيث أنهم صمموا على النفاق ودخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم
51
زيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني {بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ} أي : صدقنا بالله {وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ} والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى أي : الوقت الدائم الذي هو آخر الأوقات المنقضية والمراد به البعث أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأيام المحدودة إذ لا حد وراءه وسمي بالآخر لتأخره عن الدنيا وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر له ادعاء أنهم قد حازوا الإيمان من قطريه وأحاطوا به من طرفيه وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وأن الجنة لا يدخلها غيرهم وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم فإن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك إيماناً فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المسلمين واستهزاء بهم فكان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} ما نائبة عن ليس ولهذا عقب بالباء أي : ليسوا بمصدقين لأنهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون وفي الحكم عليهم بأنهم ليسوا بمؤمنين نفى ما ادعوه على سبيل البت والقطع لأنه نفى أصل الإيمان منهم بإدخال الباء في خبر ما ولذا لم يقل وما هم من المؤمنين فإن الأول أبلغ من الثاني.
جزء : 1 رقم الصفحة : 51
دّلت الآية على أن الدعوى مردودة إذا لم يقم عليها دلائل الصحة قال قائلهم : من تحلى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدعيه فإن من مدح نفسه ذم ومن ذم نفسه مدح قال فرعون عليه لعنات الله {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس : 90) فقيل : وكنت من المفسدين وقال يونس عليه السلام : {إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) فقيل له : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصافات : 143) ، قال الحافظ قدس سره :
خوش بود كر محك تجربه آيد بميان
تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
ـ حكي ـ أن شيخاً كان له تلميذ يدعي أنه أمين والشيخ يعلم منه خلاف ذلك وهو يرد على الشيخ في ذلك ويدعي الأمانة ويطلب منه أن يكشف له سراً من أسرار الله تعالى فأخذ الشيخ يوماً تلميذاً من أصحابه وخبأه في بيت وعمد إلى كبش فذبحه وألقاه في عِدْل ودخل ذلك التلميذ المدعى فرأى الشيخ ملطخاً بالدماء والعدل أمامه والسكين في يده فقال له : يا سيدي ما شأنك؟ فقال له : غاظني فلان يعني ذلك التلميذ فقتلته يعني التلميذ يعني بقتله مخالفة هواه حتى لا يكذب الشيخ فتخيل التلميذ أنه في العدل فقال الشيخ : هذه أمانة فاستر علي وادفن معي هذا المذبوح الذي في هذا العدل فدفنه معه في الدار وقصد الشيخ نكاية ذلك التلميذ وأن يفعل معه ما يخرجه وجاء أبو ذلك المخبوء يطلب ابنه فقال له الشيخ هو عندي فمضى الرجل فلما كبر على الرجل نكاية الشيخ مشى إلى والد ذلك المخبوء وأخبره أن الشيخ قتله ودفنه معه ورفع ذلك إلى السلطان فتوقف السلطان في ذلك الأمر لما يعرفه من جلالة الشيخ وبعث إليه بالقاضي والفقهاء وأخذ ذلك التلميذ يسب الشيخ ووقف الشهود حتى حضروا إلى العدل فعاينوا الكبش وخرج التلميذ المخبوء وافتضح وندم حيث لا ينفعه الندم
52
(1/39)
كذا في الرسالة المسماة "بالأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل طريق الله من الشروط" للشيخ الأكبر قدس سره الأطهر فظهر من هذا أن الأسرار لا توهب إلا للأمناء والأنوار لا تفيض إلا على الأدباء ، قال الحافظ قدس سره :
حديث دوست نكويم مكر بحضرت دوست
كه آشنا سخن آشنانكه دارد
وفي "التأويلات النجمية" {وَمِنَ النَّاسِ} هم الذين نسوا الله ومعاهدته يوم الميثاق فمنهم {مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإن الإيمان الحقيقي ما يكون من نور الله الذي يقذفه الله في قلوب خواصه {وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ} أي : بنور الله يشاهد الآخرة فيؤمن به فمن لم ينظر بنور الله فلا يكون مشاهداً لعالم الغيب فلا يعلم الغيب فلا يكون مؤمناً بالله وباليوم الآخر ولهذا قال : {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} أي : بالذين يؤمنون من نور الله تعالى وفيه معنى آخر وما هم بمستعدين للهداية إلى الإيمان الحقيقي لأنهم في غاية الغفلة والخذلان انتهى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 51
{يُخَـادِعُونَ اللَّهَ} (البقرة : 9) بيان ليقول في الآية السابقة وتوبيخ لما هو غرضهم مما يقولون أو استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل ما لهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين فقيل يخادعون إلخ أي : يخدعون وإنما أخرج في زنة فاعل للمبالغة وخداعهم مع الله سبحانه ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث أنه خليفته في أرضه والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده ففيه رفع درجة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث جعل خداعه خداعه ، وإما أن صورة صنعهم مع الله من إظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده تعالى أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجاً لهم وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله تعالى في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين فتكون المخادعة بين الاثنين والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب أو يوهمه المساعدة على ما يريد هو به ليغتر بذلك فينجو منه بسهولة من قولهم ضب خادع وخدع وهو الذي إذا أمر الحارش يده على باب حجره يوهمه الإقبال عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنيين مناسب للمقام فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى منابذيهم أي : يشيعوها إلى مخالفيهم وأعدائهم وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائر الكفرة من القتل والنهب والأسر وأن ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعاً كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإعطاء {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين وهو عطف على الأول ويجوز حمله على الحقيقة في حقهم فإنهم وسعهم كذا في "التيسير" {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} النفس ذات الشيء حقيقته وقد يقال للرروح لأن نفس الحي به وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه وللدم لأن قوامها به وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم أي : يفعلون ما يفعلون والحال أنهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم فإن
53
دائرة فعلهم مقصورة عليهم ومن حافظ على الصيغة قال وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها لا يحيق إلا بهم ووبال خداعهم راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلّم على نفاقهم فيفضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى ، قال المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
بازىء خود ديدى أي : شطرنج باز
بازىء خصمت ببين دور ودراز
(1/40)
وقيل يعاملهم على وفق ما عاملوا وذلك فيما جاء أنهم إذا ألقوا في النيران وعذبوا فيها طويلاً من الزمان استغاثوا بالرحمن قيل لهم : هذه الأبواب قد فتحت فاخرجوا فيتبادرون إلى الأبواب فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم وأعيدوا إلى الآبار والتوابيت مع الشياطين والطواغيت قال تعالى : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (الطارق : 15 ـ 16) وفي الحديث "يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا رايحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك فيقول ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم فإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس وتظهرون خلاف ما تنطوي قلوبكم عليه هبتم الدنيا ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي" يعني : لأجل الناس فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم يعني من جزيل ثوابي كذا "في روضة العلماء" و"تنبيه الغافلين" {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير ما يخدعون أي : يقتصرون على خدع أنفسهم والحال أنهم ما يحسون بذلك لتماديهم في الغفلة والغواية جعل طوق وبال الخداع ورجوع ضررهم إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس وهذا تنزيل لهم منزلة الجمادات وحط من مرتبة البهائم حيث سلب منهم الحس الحيواني فهم ممن قيل في حقهم {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} فلا يشعرون أبلغ وأنسب من لا يعلمون.
والشعور : الإحساس أي : علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه سميت به لكون كل حاسة محلاً للشعور والعظة فيه أن المنافق عمل ما عمل وهو لا يعلم بوبال ما عمل والمؤمن يعلم به فما عذره عند ربه ثم في هذه الآية نفي العلم عنهم وفي قوله : {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران : 71) إثبات العلم لهم والتوفيق بينهما أنهم علموا به حقيقة ولكن لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا وهو كقوله عز وجل : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} (البقرة : 81) فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة لكن لم ينتفعوا بذلك فكانوا كأنهم صم بكم عمي فذو الآلة إذا لم ينتفع بها فهو وعادم الآلة سواء والعالم الذي لا يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء والغنى الذي لا ينتفع بماله فهو والفقير سواء فإثبات العلم للكفار إلزام الحجة وذكر الجهل إثبات المنقصة بخلاف المؤمنين فإن إثبات العلم لهم إثبات الكرامة وذكر الجهل تلقين عذر المعصية كذا في "التيسير".
فعلى المؤمن أن يتحلى بالعلم والعمل ، ويجتنب عن الخطأ والزلل ويطيع ربه خالصاً لوجهه الكريم ويعبده بقلب سليم وفي الحديث "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : "الرياء يقول الله تعالى يوم يجازي العباد
54
بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيراً" وإنما يقال لهم ذلك لأن عملهم في الدنيا كان على وجه الخداع فيعاملون في الآخرة على وجه الخداع كذا في "تنبيه الغافلين" ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
ه قد رآورد بنده نزد رئيس
كه زير قبا دارد اندام يس
وفي "التأويلات النجمية" الإشارة إلى الله تعالى لما قدر لبعض الناس الشقاوة في الأزل أثمر بذر سر القدر المستور في أعماله ثمرة مخادعة الله في الظاهر ولا يشعر أن المخادعة نتيجة بذر سر القدر بطريق تزيين الدنيا في نظره وحب شهواتها في قلبه كما قال تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} (آل عمران : 14) الآية فانخدع بزينة الدنيا وطلب شهواتها عن الله وطلب السعادة الأخروية فعلى الحقيقة هو المخادع الممكور كما قال تعالى : {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 142) فعلى هذا {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} حقيقة في صورة مخادعتهم الله والذين آمنوا لأنهم كانوا قبل مخادعتهم الله مستوجبين النار بكفرهم مع إمكان ظهور الإيمان منهم فلما شرعوا في إظهار النفاق بطريق المخادعة نزلوا بقدم النفاق الدرك الأسفل من النار فأبطلوا استعداد قبول الإيمان وإمكانه عن أنفسهم فكانت مفسدة خداعهم ومكرهم راجعة إلى أنفسهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي : ليس لهم الشعور بسر القدر الأزلي وإن معاملتهم في المكر والخداع من نتائجه لأن في قلوبهم مرضاً ومرض القلب ما يفهم من شعور سر القدر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
(1/41)
{فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} زاد يجيء متعدياً كما في هذه الآية ولازماً كما في قوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات : 147) والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخلل في أفاعيله ويؤدي إلى الموت ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني لأنها مانعة عن نيل الفضائل أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقة الأبدية والآية الكريمة تحتملها فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقاً على ما فات عنهم من الرئاسة وحسداً على ما يرون من ثبات أمر الرسول عليه السلام واستعلاء شأنه يوماً فيوماً فزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره ورفع قدره وأن نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي عليه السلام ونحوها فزاد الله ذلك بأن طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار وبازدياد التكاليف الشرعية وتكرير الوحي وتضاعف النصر لأنهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفراً وقد كان يشق عليهم التكلم بالشهادة فكيف وقد لحقتهم الزيادات وهي وظائف الطاعات ثم العقوبة على الجنايات فازدادوا بذلك اضطراباً وارتياباً على ارتياب ويزدادون بذلك في الآخرة عذاباً على عذاب قال تعالى : {زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (النحل : 88) والمؤمنون لهم في الدنيا ما قال : {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} (مريم : 76) وفي العقبى ما قال : {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} (الشورى : 26).
جزء : 1 رقم الصفحة : 55
قال القطب العلامة أمراض القلب إما متعلقة بالدين وهو سوء الاعتقاد والكفر أو بالأخلاق وهي إما رذائل فعلية كالغل والحسد وإما رذائل انفعالية كالضعف والجبن فحمل المرض أولاً على الكفر ثم على الهيئات الفعلية ثم على الهيئات الانفعالية ويحتمل أن يكون قوله تعالى :
55
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم ، فإن قلت فكيف يحمل على الدعاء والدعاء للعاجز عرفاً والله تعالى منزه عن العجز؟ قلت هذا تعليم من الله عباده أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شر خلق الله لأنه أعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار وهذا كقوله تعالى : {قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ} (التوبة : 30) {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} (التوبة : 68) {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} يصل ألمه إلى القلوب وهو بمعنى المؤلم بفتح اللام على أنه اسم مفعول من الإيلام وصف به العذاب للمبالغة وهو في الحقيقة صفة المعذب بفتح الذال المعجمة كما أن الجد للجاد في قولهم جد جده وجه المبالغة إفادة أن الألم بلغ الغاية حتى سرى المعذب إلى العذاب المتعلق به {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} الباء للسببية أو للمقابلة وما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أي : بسبب كذبهم المتجدد المستمر الذي هو قولهم آمنا إلخ وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم نظراً إلى ظاهر العبارة المتخيلة لانفراده بالسببية مع إحاطة علم السامع بأن لحوق العذاب بهم من جهات شتى وأن الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه.
والكذب : الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله.
وأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام : (كذب ثلاث كذبات) فالمراد به التعريض لكن لما شابه الكذب في صورته سمي به وإحدى الكذبات قوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} (الصافات : 89) أي : ذاهب إلى السقم أو إلى الموت أو سيسقم لما يجد من الغيظ في اتخاذهم النجوم آلهة قاله ليتركوه من الذهاب معهم إلى عيد لهم حتى يخلوا سبيله فيكسر أصنامهم.
والثانية قوله : {بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ} (الأنبياء : 63) هذا على الفرض والتقدير على سبيل الإلزام كأنه قال لو كان إلهاً معبوداً وجب أن يكون قادراً على أن يفعله فإذا لم يكن قادراً عليه يكون عاجزاً والعاجز بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة فكيف حالكم في العكوف عليه فهذا القول تهكم بعقولهم.
وثالثتها قوله في حق زوجته سارة رضي الله عنها : "هذه أختي" والمراد منه الأخوة في الدين وغرضه منه تخليصها من يد الظالم لأن من دين ذلك الملك الذي يتدين به في الأحكام المتعلقة بالسياسة لا يتعرض إلا لذوات الأزواج لأن من دينه أن المرأة إذا اختارت الزوج فالسلطان أحق بها من زوجها وأما اللاتي لا أزواج لهن فلا سبيل عليهن إلا إذا رضين.
وأما قوله : {هَـاذَا رَبِّى} (الأنعام : 76) فهو من باب الاستدراج وهو إرخاء العنان مع الخصم وهو نوع من التعريض لأن الغرض منه حكاية قولهم كذا في "حواشي ابن تمجيد".
جزء : 1 رقم الصفحة : 55
(1/42)
واعلم أن الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب ورأس كل معصية بها يتكدر القلوب وأبغض الأخلاق أنه مجانب للإيمان يعني الإيمان في جانب والكذب في جانب آخر مقابل له وهذا كناية عن كمال البعد بينهما وفي الحديث "ما لي أراكم تتهافتون على الكذب تهافت الفراش في النار كل الكذب مكتوب كذباً لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإن الحرب خدعة أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما أو يحدث امرأته ليرضيها" مثل أن يقول لا أحد أحب إلي منك وكذا من جانب المرأة فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفي معناها ما أداها إذا ارتبط بمقصود صحيح له أو لغيره كما قيل بالفارسية :
دروغ مصلحت آميز به أزراست فتنة انكيز†
لكن هذا في حق الغير وأما في حق نفسه فالصدق أولى وإن لزم الضرر ، كما قال السعدي :
56
تانيك نداني كه سخن عين صوابست
بايد كه بكفتن دهن أزهم نكشابي
كرراست سخن كويي ودربندبماني
به زانكه دروغت دهد ازبند رهايي
واعلم أن المراد بالكذب في الحقيقة الكذب في العبودية والقيام بحقوق الربوبية كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم ولا يصح الاقتداء بأرباب الكذب مطلقاً ولا يعتمد عليهم فإنهم يجرون إلى الهلاك والفراق عن مالك الأملاك.
قال في "المثنوي" :
صبح كاذب كار وانهارا زده است
كه ببوي روز بيروي آمده است
صبح كاذب خلق را رهبر مباد
كو دهد بس كاروانها را بباد
قال القاشاني في تأويل الآية : في قلوبهم حجاب من حجب الرذائل النفسانية الشيطانية والصفات البشرية عن تجليات الصفات الحقانية.
وفي "التأويلات النجمية" : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} وهو التفات إلى غير الله {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي : زاد مرض الالتفات على مرض خداعهم فحرموا من الوصول والوصال {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من حرمان الوصول إلى الله تعالى {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} بقولهم : إنا آمنا بالله فإنهم ليسوا بمؤمنين حقيقة والإيمان الحقيقي نور إذا دخل القلب يظهر على المؤمن حقيقته كما كان لحارثة لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كيف أصبحت يا حارثة" قال : أصبحت مؤمناً حقاً قال : "يا حارثة إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك" قال : أعرضت نفسي عن الدنيا أي : زدت وانصرفت فأظمأ نهارها وأسهر ليلها واستوى عندي حجرها وذهبها وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار ينصاعون وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أصبت فالزم" ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 55
أهل صيقل رسته اند ازبو ورنك
هر دمي بينند خوبي بي درنك
نقش وقشر علم را بكذا شتند
رايت عين اليقين افرا شتند
بر ترنداز عرش وكرسي وخلا
ساكنان مقعد صدق خدا
علم كان نبود زهو بي واسطه
آن نبايد همورنك ماشطه
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي : قال المسلمون لهؤلاء المنافقين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 55
{لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} إسناد قيل إلى لا تفسدوا إسناد له إلى لفظه كأنه قيل وإذا قيل لهم هذا القول كقولك ألف ضرب من ثلاثة أحرف.
والفساد : خروج الشيء عن الاعتدال والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع والفساد في الأرض تهيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلال أمر المعاش والمعاد والمراد بما نهوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم عليه وغير ذلك من فنون الشرور فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل : لا تفسدوا كما يقول الرجل لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار إذا أقدم على ما هذه عاقبته وكانت الأرض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصي فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلّم ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا أعلنوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما في "تفسير أبي الليث" {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} جواب لاذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصلح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالنا
57(1/43)
متمحضة عن شوائب الفساد وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى : {أَفَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا} (فاطر : 8) فأنكروا كون ذلك فساداً وادعوا كونه إصلاحاً محضاً وهو من قصر الموصوف على الصفة مثل إنما زيد منطلق.
قال ابن التمجيد : إن المسلمين لما قالوا لهم لا تفسدوا توهموا أن المسلمين أرادوا بذلك أنهم يخلطون الإفساد بالإصلاح فأجابوا بأنهم مقصورون على الإصلاح لا يتجاوزون منه إلى صفة الإفساد فيلزم منه عدم الخلط فهو من باب قصر الإفراد حيث توهموا أن المؤمنين اعتقدوا الشركة فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدل على القصر القلبي وهو قوله تعالى : {ألا} أيها المؤمنون اعلموا {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فإنهم لما أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين ونفوا الأخرى واعتقدوا ذلك قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه ونفى عنهم ما أثبتوا والمعنى هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان لا يتخطون منه إلى صفة الإصلاح من باب قصر الشيء على الحكم فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين ثم استدرك بقوله تعالى : {وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ} أنهم مفسدون للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
قال الشيخ في "تفسيره" : ذكر الشعور بإزاء الفساد أوفق لأنه كالمحسوس عادة ثم فيه بيان شرف المؤمنين حيث تولى الله جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين كما كان في حق المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الوليد بن المغيرة قال له : إنه مجنون فنفاه الله عنه بقوله : {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (القلم : 2) ثم قال في ذم ذلك اللعين {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءا بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍا بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ} (القلم : 10 ـ 13) أي : حلاف حقير عياب يمشي بين الناس بالنميمة بخيل للمال ظالم فاجر غليظ القلب جاف ومع ذلك الوصف المذكور هو ولد الزنى وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم اتخذ ربه وكيلاً على أموره بمقتضى قوله : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} (المزمل : 9) فهو تعالى يكفي مؤونته كما قال أهل الحقائق : إن خوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من وزرائهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء ومن جملة كمالات الأقطاب ومنن الله عليهم أن لا يبتليهم بصحبة الجهلاء بل يرزقهم صحبة العلماء الأدباء الأمناء يحملون عنهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم وذلك كما كان الكامل آصف بن برخيا وزير سليمان عليه الصلاة والسلام الذي كان قطب وقته ومتصرفاً وخليفة على العالم فظهر منه ما ظهر من إتيان عرش بلقيس كما حكاه الله تعالى في القرآن.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} الإشارة في تحقيق الآيتين أن الإنسان وإن خلق مستعداً لخلافة الأرض ولكنه في بداية الخلقة مغلوب الهوى والصفات النفسانية فيكون مائلاً إلى الفساد كما أخبرت عنه الملائكة وقالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} (البقرة : 30) الآية فبأوامر الشريعة ونواهيها يتخلص جوهر الخلافة عن معدن نفس الإنسان فأهل السعادة وهم المؤمنون ينقادون للداعي إلى الحق ويقبلون الأوامر والنواهي وأهل الشقاوة وهم الكافرون المنافقون يمرقون من الدين ويتبعون الهوى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} أي : لا تسعوا في إفساد حسن استعدادكم وصلاحيتكم
58
للخلافة في الأرض باتباعكم الهوى وحرصكم على الدنيا {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} لا يقبلون النصيحة غافلين عن حقيقتها ، كما قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
كسى را كه بند أر درسر بود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيد أز وعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
فكذبهم الله تعالى بقوله : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} يفسدون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم {وَلَاكِن لا يَشْعُرُونَ} أي : لا شعور لهم بإفساد حالهم وسوء أعمالهم وعظم وبالهم من خسار حسن صنيعهم وادعائهم بالصلاح على أنفسهم كما قال الله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاخْسَرِينَ أَعْمَالا} (الكهف : 103) الآية.
قال المولى جلال الدين قدس سره :
أي كه خودرا شير يزدان خواندة
سالها شد باسكى درمانده
ون كند آن سك براي توشكار
ون شكار سك شد ستى آشكار
جزء : 1 رقم الصفحة : 57(1/44)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} من طرف المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثر نهيهم عن المنكر إتماماً للنصح وإكمالاً للإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله تعالى : {لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ} والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله تعالى : {ءَامَنُوا} حذف المؤمن به لظهوره أي : آمنوا بالله وباليوم الآخر أو أريد افعلوا الإيمان {كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ} الكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف أي : آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة أي : حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم.
واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل أو للعهد والمراد به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه أو من آمن من أهل بلدتهم أي : من أهل ضيعتهم كابن سلام وأصحابه والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحضاً من شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم {قَالُوا} مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان {أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ} الهمزة فيه للإنكار واللام مشار بها إلى الناس الكاملين أو المعهودين أو إلى الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة عقل وسخافة رأى يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والأناة وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك أنفسهم في السفاهة وتماديهم في الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لا محالة ضلالاً أو لتحقير شأنهم فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد الله بن سلام وأمثاله فإن قيل كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقوله : {أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ} ؟ قلنا فيه أقوال :
الأول : أن المنافقين لعنهم الله كانوا يتكلمون بهذا الكلام في أنفسهم دون أن ينطقوا به بألسنتهم لكن هتك الله تعالى أستارهم وأظهر أسرارهم عقوبة على عداوتهم وهذا كما أظهر ما أضمره أهل الإخلاص من الكلام الحسن وإن لم يتكلموا به بالألسن تحقيقاً لولايتهم قال الله تعالى : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (الإنسان : 7) إلى أن قال : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (الإنسان : 9) وكان هذا في قلوبهم فأظهره الله
59
تعالى تشريفاً لهم وتشهيراً لحالهم هذا قول صاحب "التيسير".
جزء : 1 رقم الصفحة : 59
والثاني : أن المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين بذلك هذا قول البغوي.
والثالث : قول أبي السعود في "الإرشاد" حيث قال هذا القول وإن صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم لكن لا يقتضي كونهم مجاهرين لا منافقين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه محتمل للشر كما ذكر في تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اهتموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذي لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرون بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم يقولون على الأول فرد عليهم ذلك بقوله عز وجل : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لا يَعْلَمُونَ} أنهم هم السفهاء ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه والمؤمنون بإيمانهم وإخلاصهم هربوا من السفه وغبوا في العلم والحق وهم العلماء على الحقيقة والمستقيمون على الطريقة وهذا ردّ ومبالغة في تجهيلهم فإن الجاهل نجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.(1/45)
واعلم أن قوله تعالى : {وَمَا يَشْعُرُونَ} في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم وفي الثانية نفي الفطنة لأن معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة وفي الآية الثالثة نفي العلم وفي نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق وذلك أنه بين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس وفي الثاني أنهم لا يفطنون تنبيهاً على أن ذلك لزم لهم لأن من لا حس له لا فطنة له وفي الثالث أنهم لا يعلمون تنبيهاً على أن ذلك أيضاً لازم لهم لأن من لا فطنة له لا علم له فإن العلم تابع للعقل ـ كما حكي ـ أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام أتى إليه جبرائيل بثلاث تحف : العلم ، والحياء ، والعقل ، فقال : يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فأشار جبريل إلى العلم والحياء بالرجوع إلى مقرهما فقالا إنا كنا في عالم الأرواح مجتمعين فلا نرضى أن نفترق بعضنا عن بعض في الأشباح أيضاً فنتبع العقل حيث كان فقال جبريل عليه السلام استقرا فاستقر العقل في الدماغ والعلم في القلب والحياء في العين.
قال المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 59
جملة حيوانرا ي إنسان بكش
جملة انسانرا بكش ازبهر هش
هش ه باشد عقل كل أي : هو شمند
عقل جز وي هش بود اما نند
لطف أو عاقل كند مر نيل را
قهر أو ابله كند قابل را فليسارع العاقل إلى تحصيل العلم والمعرفة حتى يصل إلى توحيد الفعل والصفة.
قال الإمام القشيري رحمه الله : للعقل : نجوم وهي للشيطان رجوم وللعلوم أقمار هي للقلوب أنوار واستبصار وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع والعلم اللدني هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج وللقلب بابان : باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس ، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام ، فمثل القلب كمثل الحوض الذي يجري فيه أنهار خمسة فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة بخلاف ما إذا خرج ماؤه من
60
قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو عن كدرة وشك وشبهة بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض فإنه أصفى وأولى.
وقال الشيخ زين الدين الحافي رحمه الله : والعجب ممن دخل في هذه الطريقة وأراد أن يصل إلى الحقيقة وقد حصل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعاني من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلّم ثم لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته والإعراض عما سواه لتنصب إلى قلبه العلوم اللدنية التي لو عاش ألف سنة في تدريس الاصطلاحات وتصنيفها لا يشم منها رائحة ولا يشاهد من آثارها وأنوارها لمعة فالعلم بلا عمل عقيم والعمل بلا علم سقيم والعمل بالعلم صراط مستقيم.
قال في "المثنوي" :
آنكه بي همت ه باهمت شده
وآنكه باهمت ه با نعمت شده
جزء : 1 رقم الصفحة : 59
وفي "التأويلات النجمية" {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي : لأهل الغفلة والنسيان {ءَامِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ} أي : بعض الناسين منكم الذين تفكروا في آلاء الله تعالى وتدبروا آياته بعد نسيان عهد ألست بربكم ومعاهدة الله تعالى على التوحيد والعبودية فتذكروا تلك العهود والمواثيق فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به {قَالُوا} أي : أهل الشقاوة منهم {أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ} فكذلك أحوال أصحاب الغفلات مدعي الإسلام إذا دعوا عن الإيمان التقليدي الذي وجدوه بالميراث إلى الإيمان الحقيقي المكتسب بصدق الطلب وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع إلى الخلق والتمادي في الباطل ينسبون أرباب القلوب وأصحاب الكرامات العالية إلى السفه والجنون وينظرون إليهم بنظر العجز والذلة والقلة والمسكنة ويقولون أنترك الدنيا كما ترك هؤلاء السفهاء من الفقراء لنكون محتاجين إلى الخلق كما هم محتاجون ولا يعلمون أنهم هم السفهاء لقوله تعالى : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ} فهم السفهاء بمعنيين أحدهما : أنهم يبيعون الدين بالدنيا والباقي بالفاني لسفاهتهم وعدم رشدهم والثاني : أنهم سفهوا أنفسهم ولم يعرفوا حسن استعدادهم للدرجات العلى والقربة والزلفى فرضوا بالحياة الدنيا ورغبوا عن مراتب أهل التقى ومشارب أهل النهي كما قال الله تعالى : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة : 130) فإنه من عرف نفسه فقد عرف ربه ومن عرف ربه ترك غيره وعرف أهل الله وخاصته فلا يرغب عنهم ولا ينسبهم إلى السفه وينظر إليهم بالعزة فإن الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الأطمار ووجوههم المصفرة عند الله كالشموس والأقمار ولكن تحت قباب العزة مستورون وعن نظر الأغيار محجوبون.
قال في "المثنوي" :
مهر ا كان درميان جان نشان
دل مده الا بمهر دلخوشانكرتوسنك صخره ومرمر شوى
ون بصاحب دل رسى جوهر شوى
إنهم تحت قبابي كامنون
جزكه يزدانشان نداند زآزمون(1/46)
جزء : 1 رقم الصفحة : 59
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا} (البقرة : 14) بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صُدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير أي : هؤلاء المنافقون إذا عاينوا وصادفوا
61
واستقبلوا الذين آمنوا بالحق وهم المهاجرون والأنصار {قَالُوا} كذباً {مَن} كإيمانكم وتصديقكم روي أن عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة رضي الله عنهم فقال ابن أبيّ : انظروا كيف أرد هذه السفهاء عنكم فلما دنوا منهم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحباً بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال مرحباً بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال مرحباً بابن عم رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له علي رضي الله عنه : يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خلق الله فقال له : مهلاً يا أبا الحسن أنى تقول هذا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبيّ لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا ما فعلت فأثنوا عليه خيراً وقالوا : ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخبروه بذلك فنزلت الآية : {وَإِذَا خَلَوْا} أي : مضوا أو اجتمعوا على الخلوة وإلى بمعنى مع أو انفردوا ، وإلى بمعنى الباء أو مع تقول خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أصحابهم المماثلين للشيطان في التمرد والعناد المظهرين لكفرهم وإضافتهم إليه للمشاركة في الكفر أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم وكل عاتتٍ متمرد فهو شيطان.
وقال الضحاك المراد بشياطينهم كهنتهم وهم في بني قريظة كعب بن الأشرف وفي بني أسلم أبو بردة وفي جهينة عبد الدار وفي بني أسد عوف بن عامر وفي الشام عبد الله بن سوداء وكانت العرب تعتقد فيهم أنهم مطلعون على الغيب ويعرفون الأسرار ويداوون المرضى وليس من كاهن إلا وعند العرب معه شيطاناً يلقي إليه كهانته وسموا شياطين لبعدهم عن الحق فإن الشطون هو البعد كذا في "التيسير" {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم في حال من الأحوال وكأنه قيل لهم عند قوله : {إِنَّا مَعَكُمْ} فما بالكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الشهادة وتشهدون مشاهدهم وتدخلون مساجدهم وتحجون وتغزون معهم فقالوا : {إِنَّمَا نَحْنُ} أي : في إظهار الإيمان عند المؤمنين {مُسْتَهْزِءُونَ} بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة فنريهم أنا نوافقهم على دينهم ظاهراً وباطناً وإنما نكون معهم ظاهراً لنشاركهم في غنائمهم وننكح بناتهم ونطلع على أسرارهم ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم والاستهزاء التجهيل والسخرية والاستخفاف والمعنى أنا نجهل محمداً وأصحابه ونسخر بهم بإظهارنا الإسلام فرد الله عليهم بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 61
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي : يجازيهم على استهزائهم أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يعاملهم معاملة المستهزىء بهم إما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان وإما في الآخرة فما يروى أنه يفتح لهم باب إلى الجنة وهم في جهنم فيسرعون نحوه فإذا وصلوا إليه سد عليهم الباب
62
وردوا إلى جهنم والمؤمنون على الأرائك في الجنة ينظرون إليهم فيضحكون منهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا فذلك بمقابلة هذا ويفعل بهم ذلك مرة بعد مرة {وَيَمُدُّهُمْ} أي : يزيدهم ويقويهم من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وقواه لا من المد في العمر فإنه يعدي باللام كأملى لهم ويدل عليه قراءة ابن كثير ويمدهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} متعلق بيمدهم والطغيان مجاوزة الحد في كل أمر والمراد إفراطهم في العتو وغلوهم في الكفر وفي إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم وتأييد لما أشير إليه من ترتب المد على سوء اختيارهم {يَعْمَهُونَ} أي : يترددون في الضلالة متحيرين عقوبة لهم في الدنيا لاستهزائهم وهو حال من الضمير المنصوب والمجرور لكون المضاف مصدراً فهو مرفوع حكماً.
والعمه في البصيرة كالعمي في البصر وهو التحير والتردد بحيث لا يدري أين يتوجه(1/47)
وفي الآيتين إشارات :
الأولى : في قوله تعالى : {إِنَّا مَعَكُمْ} وهي أنّ من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم له ذلك والضدان لا يجتمعان ومن كان له من كل ناحية خليط ومن كل زاوية من قلبه ربيط كان نهباً للطوارق ومنقسماً بين العلائق فهذا حال المنافق يذبذب بين ذلك وذلك يعني أن المنافقين لما أرادوا أن يجمعوا بين غبرة الكفار وصحبة المسلمين وأن يجمعوا بين مفاسد الكفر ومصالح الإيمان وكان الجمع بين الضدين غير جائز فبقوا بين الباب والدار كقوله تعالى : {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ لا إِلَى هَاؤُلاءِ وَلا إِلَاى هَاؤُلاءِ} (النساء : 143) وكذلك حال المتمنين الذين يدعون الإرادة ولا يخرجون عن العادة ويريدون الجمع بين مقاصد الدارين يتمنون أعلى مراتب الدين ويرتعون في أسفل مراتع الدنيا فلا يلتئم لهم ذلك قال عليه السلام : "ليس الدين بالتمني" وقال : "بعثت لرفع العادات ودفع الشهوات" وقال : "الدنيا والآخرة ضرتان فمن يدععِ الجمع بينهما فممكور ومغرور" فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ إلى الدرجات العلى فهو كالمستهزىء بطريق هذا الفريق فكم في هذا البحر من أمثاله غريق فالله تعالى يمهلهم في طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوزوا في طلبها حد الاحتياج إليها ويفتح أبواب المقاصد الدنيوية عليهم ليستغنوا بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانهم كما قال الله تعالى : {إِنَّ الانسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ـ 7) فكان جزاء سيئة تلونهم في الطلب الاستهزاء وجزاء سيئة الاستهزاء الخذلان والإمهال إلى أن طغوا وجزاء سيئة الطغيان العمه فيترددون في الضلال متحيرين لا سبيل لهم إلى الخروج من الباطل والرجوع إلى الحق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 62
والإشارة الثانية في قوله تعالى : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وهي أن ذلك يدل على شرف المؤمنين ومنزلتهم عند الله حيث أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله فناب الله عنهم واستهزأ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزل بهم من النكال ويحل عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف به.
ودلت الآية على قبح الاستهزاء بالناس وقد قال : {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} (الحجرات : 11) وقال في قصة موسى عليه السلام : {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة : 67) فأخبر أنه فعل الجاهلين وإذا كان الاستهزاء بالناس قبيحاً فما جزاء الاستهزاء بالله وهو فيما قال النبي صلى الله عليه وسلّم "المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزىء بربه".
والإشارة الثالثة في قوله تعالى :
63
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وهي أن العبد ينبغي له أن لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثرة أمواله وأولاده والله تعالى يقول في أعدائه في حق المعمر {وَيَمُدُّهُمْ} (البقرة : 15) وفي حق المال والبنين {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} (المؤمنون : 55) وكان طول العمر لهم خذلاناً وكثرة الأموال والأولاد لهم حرماناً ولهم في مقابلة هذا المد مد قال الله تعالى : {وَنَمُدُّ لَه مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} (مريم : 79) وقد جعل الله لعدوه في الدنيا مالاً ممدوداً ولوليه في الآخرة ظلاً ممدوداً وقال الله جل جلاله لمحمد صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج : (إن من نعمتي على أمتك أني قصرت أعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم وأقللت أموالهم كيلا يشتد في القيامة حسابهم وأخرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم) وروي أن الله تعالى قال لحبيبه ليلة المعراج : (يا أحمد لا تتزين بلين اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فإن النفس مأوى كل شر وهي رفيق سوء كلما تجرها إلى طاعة تجرك إلى معصية وتخالفك في الطاعة وتطيع لك في المعصية وتطغى إذا شبعت وتتكبر إذا استغنت وتنسى إذا ذكرت وتغفل إذا آمنت وهي قرينة للشيطان) كذا في "مشكاة الأنوار".
جزء : 1 رقم الصفحة : 62(1/48)
{أُولَئِكَ} المنافقون المتصفون بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله : {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أصل الاشتراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأشياء ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره وهو ههنا عبارة عن معاملتهم السابقة المحكية واشتروا الضلالة وهي الكفر والعدول عن الحق والصواب بالهدى وهو الإيمان والسلوك في الطريق المستقيم والاستقامة عليه مستعار لأخذها بدلاً منه أخذاً متصفاً بالرغبة فيها والإعراض عنه أي : اختاروها عليه واستبدلوها به وأخذوها مكانه وجعل الهدى كأنه في أيديهم لتمكنهم منه وهو الاستعداد به فبميلهم إلى الضلالة عطلوه وتركوه.
والباء تصحب المتروك في باب المعارضة وهذا دليل على أن الحكم يثبت بالتعاطي من غير تكلم بالإيجاب والقبول فإن هؤلاء سموا مشترين بترك الهدى وأخذ الضلال من غير التكلم بهذه المبادلة كما في "التيسير".
{فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} ترشيح للمجاز أي : ما ربحوا فيها فإن الربح مسند إلى أرباب التجارة في الحقيقة فإسناده إلى التجارة نفسها على الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث أنها سبب الربح والخسران ودخلت الفاء لتضمن الكلام معنى الشرط تقديره وإذا اشتروا فما ربحوا كما في "الكواشي" والتجارة صناعة التجار وهو التصدي بالبيع والشراء لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال.
{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي : إلى طريق التجارة فإن المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح في صفقة فربما يتدارك في صفقة أخرى لبقاء الأصل وأما إتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين الأصل نائين عن طريق التجارة بألف منزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 62
واعلم أن المهتدي
64
هو الذي ترك الدنيا والعادة ثم اشتغل بوظائف الطاعة والعبادة لا من اتبع كل ما يهواه وخلط هواه بهداه.
حكي أنه كان للشيخ الأستاذ أبي علي الدقاق رضي الله عنه مريد تاجر متمول فمرض يوماً فعاده الشيخ وسأل منه سبب علته فقال التاجر : قمت هذه الليلة لمصلحة التهجد فلما أردت الوضوء بدا لي من ظهري حرارة فاشتد أمري حتى صرت محموماً فقال الشيخ : لا تفعل فعلاً فضولياً ولا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر دنياك وتخرج محبتها من قلبك فاللائق لك أولاً هو ذا ثم الاشتغال بوظائف النوافل فمن كان به أذى من رأسه من صداع لا يسكن ألمه بالطلاء على الرجل ومن تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله وكمه.
قال بعض المشايخ : من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات وهذا غالب في الخلق إلا من عصمه الله ترى الواحد منهم يقوم بالأوراد الكثيرة والنوافل العديدة الثقيلة ولا يقوم بفرض واحد على وجهه.
فعلى العاقل تحصيل رأس المال ثم تحصيل الربح المترتب عليه وذلك بالاختيار لا بالاضطرار وقد أوجب الله على العباد وجود طاعته لما علم من قلة نهوضهم إلى معاملته إذ ليس لهم ما يردهم إليه بلا علة وهذا حال أكثر الخلق بخلاف أهل المروءة والصفا.
قال في "المثنوي" :
اختيار آمد عبادت رانمك
ورنه ميكردد بنا خواه اين فلك
كردش اورا نه اجر ونه عقاب
كاختيار آمد هنر وقت حسابائتيا كرها مهار عاقلان
ائتيا طوعاً مهار بيدلاناين محب دايه ليك از بهر شير
وإن دكر دل داده بهر آن ستير
فأوجب الله عليك وجود طاعته وما أوجب عليك بالحقيقة إلا دخول جنته إذ الأمر آيل إليها والأسباب عدمية فإن تعللت النفس عن التشمير بما هي عليه من الاستغراق في كل دني وحقير فاعلم أن من استغرب أن ينقذه الله من شهوته التي اعتقلته عن الخيرات وأن يخرجه من وجود غفلته التي شملته في جميع الحالات فقد استعجز القدرة الإلهية وقد قال الله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} (الكهف : 45) فأبان سبحانه أن قدرته شاملة صالحة لكل شيء وهذا من الأشياء وإن أردت الاستعانة على تقوية رجائك في ذلك فانظر لحال من كان مثلك ثم أنقذه الله وخصه بعنايته كإبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض وابن المبارك وذي النون المصري ومالك بن دينار وغيرهم من مجرى البداية كذا في "شرح الحكم العطائية".
قال الحافظ قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 62
عاشق كه شدكه يار بحالش نظر نكرد
أي خواجه درد نيست وكرنه طبيب هست(1/49)
قال القاشاني : في تأويل الآية الهدى النور الثاني في قوله تعالى : {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور : 35) وهو النور الفطري الأزلي المراد من قول المحققين هو الاستعداد من فيضه الأقدس والضلالة ظلمة النشأة الحاجية له بسلوك طريق المطالب الطبيعية الفاسدة والمقاصد الهيولانية الفاسقة بهوى النفس وتتبع خطوات الشيطان والربح هو النور الأول المقدس الكمالي المكتسب بالتوجه إلى الحق والاتصال بعالم القدس والانقطاع والتبتل إلى الله من الغير والتبري بحوله وقوته من كل حول وقوة حتى يخلص روح المشاهدة من أعباء المكابدة بطلوع الوجه الباقي وإحراق سبحاته كل
65
ما في بقعة الإمكان من الرسم الفاني وخسرانهم بإضاعة الأمرين هو الحجاب الكلي عن الحق بالرين كما قال تعالى : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين : 14 ـ 15).
وفي "التأويلات النجمية" الإشارة في الآية أن من نتيجة طغيانهم وعمههم أن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأشربوا في قلوبهم الضلالة وتمكنت فكانت هذه الحال من نتيجة معاملتهم فلهذا أضاف الفعل إليهم وقال : {أولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} وإنما قال بلفظ الاشتراء لأنهم أخرجوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع إليه {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} لأن خسران من رضي بالدنيا من العقبى ظاهر ومن آثر الدنيا والعقبى على المولى فهو أشد خسراناً وأعظم حرماناً فإذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحناً بنار الجحيم فما ظنك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت منه الأوقات وبقي في أسر الشهوات لا إلى قلبه رسول ولا لروحه وصول ولا من الحبيب إليه وفود ولا لسره معه شهود فهذا هو المصاب الحقيقي {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} لإبطالهم حسن استعداد قبول الهداية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 62
{مَثَلُهُمْ} المثل في الأصل بمعنى النظير ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده أي : المضروب كما ورد من غير تغيير ولا يضرب إلا بما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن عجيب وفيها غرابة كقوله تعالى : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (الرعد : 35) وقوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى} (النحل : 60) أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال ولما جاء الله بحقيقة حال المنافقين عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير فإن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامح الأبي كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف وإظهار للوحشي في هيئة المألوف وإراءة للخيل محققاً والمعقول محسوساً وتصوير للمعاني بصورة الأشخاص ومن ثمة كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال وفي الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال وفي القرآن ألف آية من الأمثال والعبر وهي في كلام الأنبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة لا تحصى.
ذكر السيوطي في "الإتقان" : من أعظم علم القرآن أمثاله والناس في غفلة عنه والمعنى حالهم العجيبة الشان {كَمَثَلِ الَّذِى} أي : كحال الذين من باب وضع واحد الموصول موضع الجمع منه تخفيفاً لكونه مستطالاً بصلته كقوله : {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (التوبة : 69) والقرينة ما قبله وما بعده خلا أنه وحد الضمير في قوله تعالى : {اسْتَوْقَدَ نَارًا} نظراً إلى الصورة وجمع في الأفعال الآتية نظراً إلى المعنى.
والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
والنار جوهر لطيف مضيء محرق حار والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة أي : أوقد في مفازة في ليلة مظلمة ناراً عظيمة خوفاً من السباع وغيرها {فَلَمَّآ أَضَآءَتْ} الإضاءة فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس : 5) أي : أنارت النار {مَا حَوْلَهُ} أي : ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على أن ما مفعول أضاءت إن جعلته متعدياً وحول نصب على الظرفية وإن جعلته لازماً فهو مسند إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء
66(1/50)
وأماكن وأصل الحول الدوران ومنه الحول للعام لأنه يدور وجوابُ لَمَّا قولُه تعالى : {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي : أذهبه بالكلية وأطفأ نارهم التي هي مدار نورهم وإنما علق الإذهاب بالنور دون نفس النار لأنه المقصود بالاستيقاد وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى وإما لأن الإنطفاء حصل بسبب خفي أو أمر سماوي كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه وما أخذه الله تعالى فأمسكه فلا مرسل له من بعده ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوى لعدم الضعيف والمراد إزالته بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى : {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ لا يُبْصِرُونَ} فإن الظلمة هي عدم النور وانطماسه بالمرة لا سيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكباً بعضها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعده من قوله : {لا يُبْصِرُونَ} لا يتحقق إلا بعد أن لا يبقى من النور عين ولا أثر وترك في الأصل بمعنى طرح وخلي وله مفعول واحد فضمن معنى التصيير فجرى مجرى أفعال القلوب أي : صيرهم {فِي ظُلُمَـاتٍ لا يُبْصِرُونَ} ما حولهم فعلى هذا يكون قوله : {فِي ظُلُمَـاتٍ} وقوله : {لا يُبْصِرُونَ} مفعولين لصير بعد المفعول الأول على سنن الأخبار المتتابعة للمخبر عنه الواحد وإن حمل معناه على الأصل يكونان حالين من المفعول مترادفين أو متداخلين والمعنى أن حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى وظلمة يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} (الحديد : 12) وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو الفطري النوري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
وفي "التيسير" و"العيون" أن المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فاستتاروا بنورها واستعزوا بعزها وآمنوا بسببها فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم فإذا بلغوا إلى آخر العمر كل لسانهم عنها وبقوا في ظلمة كفرهم أبداً لا بد وعادوا إلى الخوف والظلمة.
{صُمُّ} أي : هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا والصم انسداد خروق المسامع بحيث لا يكاد يصل إليها هواء يحصل الصوت بتموجه {بِكُمُ} خرس عن الحق لا يقولونه لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا وهو آفة في اللسان لا يتمكن بها أن يعتمد مواضع الحروف {عُمْىٌ} أي : فاقدو الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤديهم إلى الهدى وفاقدو البصيرة أيضاً لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له فالعمي مستعمل ههنا في عدم البصر والبصيرة جمعياً وهذه صفاتهم في الدنيا ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها.
قال تعالى : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (الإسراء : 97) فلا يسمعون سلام الله ولا يخاطبون الله ولا يرونه والمسلمون كانوا سامعين للحق قائلين بالحق ناظرين إلى الحق فيكرمون يوم القيامة بخطابه ولقائه وسلامه.
{فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي : هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه والآية
67
فذلكة التمثيل ونتيجته وأفادت أنهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات حيث استحقوا الذم بتركه وأن قوله تعالى : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} ليس بنفي الآلات بل هو نفي تركهم استعمالها ، قال السعدي قدس سره :
زبان آمد ازبهر شكر وساس
بغيبت نكرداندش حق شناس
كذركاه قرآن وندست كوش
به بهتان باطل شنيدن مكوش
دوشم از ي صنع باري نكوست
زعيب بردار فرو كبر ودوست
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
(1/51)
ثم إن الله تعالى ندب الخلق إلى الرجوع بالائتمار بأمره والانتهاء بنهيه بقوله تعالى : {وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف : 174) فمن لم يرجع إليه اختياراً رجعوا إليه بالموت والبعث كما قال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِا ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت : 57) ومن رجع إليه في الدنيا بفعله وحقق ذلك بقوله : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة : 156) كان رجوعه إليه بالكرامة ويخاطب بقوله : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 27 ـ 28) ـ حكي ـ أن جباراً عاتياً في الزمن الأول بنى قصراً وشيده وزخرفه ثم آلى بيمينه أن لا يدنو من قصره هذا أحد فمن وقع بصره عليه قتله فكان يفعل ذلك ويقتل حتى جاءه رجل من أهل قريته فوعظه في ذلك فلم يلتفت إلى تحذيره ولم يعبأ بقوله فخرج ذلك الرجل الصالح من قريته وبنى كوخاً وهو بيت من قصب بلا كوة وجعل يعبد الله فيه فبينما هذا الجبار في قصره وأصحابه قيام بين يديه إذ تمثل له ملك الموت على صورة رجل شاب حسن الهيئة فجعل يطوف حول هذا القصر ويرفع رأسه إليه فقال بعض ندمائه أيها الملك إنا نرى رجلاً يطوف حول القصر وينظر إليه فتعالى الملك على منظر له فأبصره فقال : هذا مجنون أو غريب عابر سبيل ولكن انزل إليه فأرحه من نفسه فنزل إليه الرجل فلما أراد أن يرفع إليه السيف قبض روحه فخر ميتاً فقيل للملك : إن هذا قد قتل صاحبك فقال للآخر : انزل إليه فاقتله فلما نزل وأراد أن يقتله قبض روحه فخر ميتاً فرفع ذلك إلى الملك فامتلأ غضباً وأخذ السيف ونزل إليه بنفسه فقال : من أنت؟ أما رضيت أن دنوت من قصري حتى قتلت رجلين من أصحابي؟ فقال : أوما تعرفني؟ أنا ملك الموت فارتعد الملك من هيبته حتى سقط السيف من يده قال : فعرفتك الآن وأراد أن ينصرف فقال له ملك الموت : إلى أين؟ إني أمرت بقبض روحك فقال : حتى أوصي أهلي وأودعهم فقال له : لِمَ لَمْ تفعل في طول عمرك قبل هذا؟ فقبض روحه فخر الملك ميتاً ثم جاء ملك الموت إلى ذلك الرجل الصالح في كوخه فقال له : أيها الرجل الصالح أبشر فإني ملك الموت وقد قبضت روح الملك الجبار فاعلم ذلك وأراد أن يرجع فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت أن اقبض روح الرجل الصالح فقال له ملك الموت : إني أمرت بقبض روحك قال : فهل لك يا ملك الموت أن أدخل القرية فأحدث بأهلي عهداً وأودعهم؟ فأوحي الله تعالى إليه أن أمهله يا ملك الموت فقال : إن شئت فرفع الرجل الصالح قدميه ليدخل القرية فتفكر ثم ندم فقال : يا ملك الموت إني أخاف إن رأيت أهلي أن يتغير قلبي فاقبض روحي فالله تعالى خير لهم مني فقبض روحه على المكان.
قال بعض العارفين : والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه وهو
68
مولاه الذي منّ عليه بكل خير وأولاه ويطلب ما لا بقاء له معه وهو ما يوافق النفس من شهوته وهواه وآخرته ودنياه فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
وأسباب عمي البصيرة ثلاثة : إرساله الجوارح في معاصي الله ، والتصنع بطاعة الله ، والطمع في خلق الله ، فعند عماها يتوجه العبد للخلق ويعرض عن الحق.
(1/52)
وفي "التأويلات النجمية" : الإشارة في تحقيق الآيتين أن مثل المريد الذي له بداية جميلة يسلك طريق الإرادة مدة ويتعنى بمقاساة شدائد الصحبة برهة حتى تنور بنور الإرادة فاستوقد نار الطلب فأضاءت ما حوله فرأى أسباب السعادة والشقاوة فتمسك بحبل الصحبة فلازم الخدمة والخلوة وعزفت نفسه عن الدنيا وأقبل على قمع الهوى فشرقت له من صفاء القلب شوارق الشوق وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق فأمن مكر الله وانخدع بخداع النفس فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس ثم رجع القهقرى إلى ما كان من حضيض الدنيا فغابت شمسه وأظلمت نفسه وانقطع حبل وصاله قبل وصوله وأخرج من جنة نواله بعد دخوله فبقدمي سأمه وملاله عاد إلى أسوأ حاله كما قال تعالى : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) {صُمُّ} يعني بآذان قلوبهم التي سمعوا بها خطاب الله تعالى يوم الميثاق {بِكم} بتلك الألسنة التي أجابوا ربهم بها بقولهم بلى {عُمْىٌ} بالأبصار التي شاهدوا بها جمال ربوبيته فعرفوه {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} إلى منازل حظائر القدس بل إلى ما كانوا فيه من رياض الأنس وذلك لأنهم سدوا روزنة قلوبهم التي كانت مفتوحة إلى عالم الغيب يوم الميثاق يتتبع الشهوات واستيفاء اللذات والخدعة والنفاق فما هبت عليهم من جناب القدس الرياح وما تنسموا نفحات الأرواح فمرضت قلوبهم ثم أرسل إليهم الطبيب الذي أنزل الداء فأنزل معه الدواء كما قال تعالى : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء : 82) الذين يصدقون الأطباء ويقبلون الدواء فلم يصدقوهم ولم يقبلوا الدواء ظلماً على أنفسهم فصار الدواء داء والشفاء وباء كما قال تعالى : {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} (الإسراء : 82) فلما لم يكونوا أهل الرحمة أدركتهم اللعنة الموجبة للصمم والعمي لقوله تعالى : {أَولَئكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد : 23).
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
{أَوْ} مثل المنافقين {كَصَيِّبٍ} أي : كحال أصحاب صيب أي : مطر يصوب أي : ينزل ويقع من الصوب وهو النزول أصله صيوب والكاف مرفوع المحل عطف على الكاف في قوله : {كَمَثَلِ الَّذِى} وأو للتخيير والتساوي أي : كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين والقصتان سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك {مِّنَ السَّمَآءِ} متعلق بصيب.
والسماء : سقف الدنيا وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد فإن كل أفق من آفاقها أي : كل ما يحيط به كل أفق منها سماء على حدة ، والمعنى أنه صيب عام نازل من غمام مطبق آخذ بآفاق السماء وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر.
قال الإمام : من الناس من قال : المطر إنما يتحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فينعقد هناك من شدة برد الهواء ثم ينزل مرة أخرى وأبطل الله ذلك المذهب هنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن تحت العرش بحراً ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحى إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء
69(1/53)
الدنيا ويوحى إلى السحاب أن غربله فيغربله فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان من ماء فإنه نزل بلا كيل ولا وزن كذا في تفسير "التيسير" {فِيهِ} أي : في الصيب {ظُلُمَاتٍ} أنواع منها وهي ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة أظلال ما يلزمه من الغمام المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وليس في الآية ما يدل على ظلمة الليل لكن يمكن أن يؤخذ ظلمة الليل من سياق الآية حيث قال تعالى بعد هذه الآية : {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} وبعده {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} فإن خطف البرق البصر إنما يكون غالباً في ظلمة الليالي وكذا وقوف الماشي عن المشي إنما يكون إذا اشتد ظلمة الليل بحيث يحجب الأبصار عن إبصار ما هو أمام الماشي من الطريق وغيره وظلمة سحمة السحاب وتكاثفه في النهار لا يوجب وقوف الماشي عن المشي كذا في "حواشي ابن التمجيد".
وجعل المطر محلاً للظلمات مع أن بعضها لغيره كظلمة الغمام والليل لما أنهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة في شدته وتهويلاً لأمره وإيذاناً بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام ورفع ظلمات بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف لأن الجملة في محل الجر صفة لصيب على وجه {وَرَعْدٌ} هو صوت قاصف يسمع من السحاب {وَبَرْقٌ} هو ما يلمع من السحاب إذا تحاكت أجزاؤه وكونهما في الصيب مع أن مكانهما السحاب باعتبار كونهما في أعلاه ومنصبه وملتبسين في الجملة به ووصول أثرهما إليه فهما فيه والمشهور بين الحكماء أن الرعد يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض أو من إقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح إياها سوقاً عنيفاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
والصحيح الذي عليه التعويل ما روي عن الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال عليه السلام : "ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث شاء الله" فقالوا : فما هذا الصوت الذي يسمع قال : "زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر" فقالوا : صدقت فالمراد بالرعد في الآية صوت ذلك الملك لا عينه كما في بعض الروايات من (أن الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر وأنه يجوز الماء في نقرة إبهامه وأنه يسبح الله فإذا سبح الله لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل القطر) انتهى والمراد بالبرق ضربه السحاب بتلك المخاريق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً أريد أنها آلة تزجر بها الملائكة السحاب.
قال مرجع الطريقة الجلوتية بالجيم الشيخ الشهير بافتاده افندى البروسوي التوفيق بين قول الحكماء وبين قوله صلى الله عليه وسلّم "إن الرعد صوت ملك على شكل النحل" هو أنه يصيح من خارج هذا العالم ولكن يدخل فيه ويؤثر في داخله فنحن نسمع من داخله كما أن واحداً إذا أكل شيئاً نفاخاً يحصل في داخله رياح ذات أصوات فمنشؤها من الخارج وظهورها في الداخل فكلام النبي صلى الله عليه وسلّم ناظر إلى مبدئها وكلام الحكماء ناظر إلى مظهرها.
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم} الضمائر للمضاف المحذوف لأن التقدير أو كأصحاب صيب كما سبق ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يوذن
70
بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم والمراد أناملهم وفيه من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل كأنهم يدخلون من شدة الحيرة أصابعهم كلها في آذانهم لا أناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز أن يكون هذا إيماء إلى كمال حيرتهم وفرط دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتاد أعني : السبابة وقيل لرعاية الأدب لأنها فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والمهللة وغيرهما ولم يذكر من أمثال هذه الكنايات لأنها ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد {مِّنَ الصَّوَاعِقِ} متعلق بيجعلون أي : من أجل خوف الصواعق المقارنة للرعد وهي جمع صاعقة وهي قصفة رعد هائل تنقض معها شعلة نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه لكنها مع حدتها سريعة الخمود للطافتها ـ حكي ـ أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
قالوا بين السماء وبين الكلة الرقيقة التي لا يرى أديم السماء إلا من ورائها نار منها تكون الصواعق تخرج النار فتفتق الكلة ويكون الصوت منها كما في "روضة العلماء".(1/54)
وقيل : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه أو جرم ثقيل مذاب مفرغ من الأجزاء اللطيفة الأرضية الصاعدة المسماة دخاناً والمائية المسماة بخاراً حار حاد في غاية الحدة والحرارة لا يقع على شيء إلا ثقب وأحرق ونفذ في الأرض حتى بلغ الماء فانطفأ ووقف.
قالوا : إذا أشرقت الشمس على أرض يابسة تحللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية يسمى المركب منهما دخاناً ويخلط بالبخار ويتصاعدان معاً إلى الطبقة الباردة فينعقد البخار سحاباً وينحبس الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبيعته والنزول إن ثقل وكيف كان يمزق السحاب تمزيقاً عنيفاً فيحدث منه الرعد ثم قد يحدث شدة حركة ومحاكة فيحدث منه البرق إن كان لطيفاً والصاعقة إن كان غليظاً قال ابن عباس رضي الله عنهما من سمع صوت الرعد فقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته وكان صلى الله عليه وسلّم يقول إذا سمع الرعد وصواعقه : "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك" كذا في "تفسير الشيخ" و"شرح الشرعة" {حَذَرَ الْمَوْتِ} منصوب بيجعلون على العلة أي : لأجل مخافة الهلاك والموت فساد بنية الحيوان {وَاللَّهُ مُحِيطُ} أصل الإحاطة الاحداق بالشيء من جميع جهاته وهو مجاز في حقه تعالى أي : محدق بعلمه وقدرته {بِالْكَافِرِينَ} أي : لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة فيحشرهم يوم القيامة ويعذبهم والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئاً فإن القدر لا يدافعه الحذر والحيل لا ترد بأس الله عز وجل وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيب الإيذان بأن ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
{يَكَادُ الْبَرْقُ} أي : يقرب استئناف آخر وقع جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل : يكاد ذلك {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي : يختلسها ويستلبها بسرعة من شدة ضوئه {كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم} كلما ظرف والعامل فيه جوابها وهو مشوا وأضاء متعد أي : أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة
71
وهو استئناف ثالث كأنه قيل كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته أيفعلون بأبصارهم ما يفعلون بآذانهم أم لا؟ فقيل كلما نور البرق لهم ممشى ومسلكاً {مَّشَوْا فِيهِ} أي : في ذلك المسلك أي : في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم وإيثار المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} أي : خفي البرق واستتر فصار الطريق مظلماً.
{قَامُوا} أي : وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لحظة أخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم.
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} مفعوله محذوف أي : لو أراد أن يذهب الأسماع التي في الرأس والأبصار التي في العين كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصارهم {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} بصوت الرعد ونور البرق عقوبة لهم لأنه لا يعجز عن ذلك {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} أي : على كل موجود بالإمكان والله تعالى وإن كان يطلق عليه الشيء لكنه موجود بالوجوب دون الإمكان فلا يشك العاقل أن المراد من الشيء في أمثال هذا ما سواه تعالى فالله تعالى مستثنى في الآية مما يتناوله لفظ الشيء بدلالة العقل فالمعنى على كل شيء سواه قدير كما يقال فلان أمين على معنى أمين على من سواه من الناس ولا يدخل فيه نفسه وإن كان من جملتهم كما في "حواشي ابن التمجيد".
{قَدِيرٌ}
جزء : 1 رقم الصفحة : 71(1/55)
أي : فاعل له على قدر ما تقتضيه حكمته لا نقاصاً ولا زائداً ثم إن هذا التمثيل كشف بعد كشف وإيضاح بعد إيضاح أبلغ من الأول شبه الله حال المنافقين في حيرتهم وما خبطوا فيه من الضلالة وشدة الأمر عليهم وخزيهم وافتضاحهم بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق والموت هذا إذا كان التمثيل مركباً وهو الذي يقتضيه جزالة التنزيل فإنك تتصور في المركب الهيئة الحاصلة من تفاوت تلك الصور وكيفياتها المتضامة فيحصل في النفس منه ما لا يحصل من المفردات كما إذا تصورت من مجموع الآية مكابدة من أدركه الوبل الهطل مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر وصوت الرعد الهائل والبرق الخاطف والصاعقة المحرقة ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من تحذر الموت حصل لك منه أمر عجيب وخطب هائل بخلاف ما إذا تكلفت لواحد واحد مشبهاً به يعني إن حمل التمثيل على التشيبه المفرق فشبه القرآن وما فيه من المعلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الأبدية بالصيب الذي هو سبب الحياة الأرضية وما عرض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وتصاممهم عما يقرع أسماعهم من الوعيد بحال من يهوله الرعد والبرق فيخاف صواعقه فيسد أذنه ولا خلاص له منها واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يحرزونه بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيرهم في أمرهم حين عنّ لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم فهذه حال المنافقين قصارى عمرهم الحيرة والدهشة.
فعلى العاقل أن يتمسك بحبل الشرع القويم والصراط المستقيم كي يتخلص من الغوائل والقيود ومهالك الوجود وغاية الأمر خفية لا يدري بم يختم.
قال رجل للحسن البصري : كيف أصبحت؟ قال : بخير قال كيف حالك؟ فتبسم الحسن ثم قال : لا تسأل عن حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت
72
سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة على أي : حال هم قال الرجل على حال شديد قال الحسن : حالي أشد من حالهم فالموت بحري والحياة سفينتي والذنوب خشبتي فكيف يكون حال من وصفه هذا يا بني فلا بد من ترك الذنوب والفرار إلى علام الغيوب وفي الحديث "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" تأمل كيف كان جزاء كل مؤمل ما أمل واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا إشعاراً بعدم اعتبارها لخساستها ولأن وجودها لعب ولهو فكأنه كلا وجود كما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 71
بر مردهشيار دنيا خسست
كه هرمدتي جاي ديكر كسست
وانظر إلى قوله عليه السلام : "فهجرته إلى ما هاجر إليه" وما تضمن من أبعاد ما سواه تعالى وتدبر ذكر الدنيا والمرأة مع أنها منها إذ يشعر بأن المراد كل شيء في الدنيا من شهوة أو مال وإليه يرجع الأكوان وأن المراد بالحديث الخروج عن الدنيا بل وعن كل شيء تعالى ، قال الحافظ :
غلام همت آنم كه زير رخ كبود
زهر ه رنك تعلق ذيرد آزادست
يعني عن كل شيء يقبل التعلق من المال والمنال والأولاد والعيال فلا بد من التعلق بمحبة الملك المتعال.
وفي "التأويلات النجمية" {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ} الإشارة في تحقيق الآيتين أن الله تعالى شبه حال متمني هذا الحديث واشتغالهم بالذكر وتتبع القرآن في البداية وتجلدهم في الطلب وما يفتح لهم من الغيب إلى أن تظهر النفس الملالة وتقع في آفة الفترة والوقفة بحال من يكون في المفازة سائراً في ظلمة الليل والمطر وشبه الذكر والقرآن بالمطر لأنه ينبت الإيمان والحكمة في القلب كما ينبت الماء البقلة {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} أي : مشكلات ومتشابهات تظهر لسالك الذكر في أثناء السلوك ومعان دقيقة لا يمكن حلها وفهمها والخروج عن عهدة آفاتها إلا لمن كان له عقل منور بنور الإيمان مؤيد بتأييد الرحمن كما قال تعالى : {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 1 ـ 2) فكما أن السير لا يمكن في الظلمات إلا بنور السراج كذلك لا يمكن السير في حقائق القرآن ودقائقه ولا في ظلمات البشرية إلا بنور هداية الربوبية ولهذا قال تعالى : {كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ} يعني نور الهداية {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} يعني ظلمة البشرية {وَرَعْدٌ} أي : خوف وخشية ورهبة تتطرق إلى القلوب من هيبة جلال الذكر والقرآن كما قال تعالى : {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر : 21) {وَبَرْقٌ} وهو تلألؤ أنوار الذكر والقرآن يهتدي إلى القلوب فتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فيظهر فيها حقيقة القرآن والدين فيعرفها القلوب لقوله تعالى : {وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} (
جزء : 1 رقم الصفحة : 71(1/56)
المائدة : 83) الآية ولما لاح لهم أنوار السعادة خرجوا من ظلمات الطبيعة وتمسكوا بحبل الإرادة لينالوا درجات الفائزين ولكن يجعلون أصابعهم أي : أصابع آمالهم الفاسدة وأمانيهم الباطلة {أَوْ كَصَيِّبٍ} الواعية {مِّنَ الصَّوَاعِقِ} ودواعي الحق {حَذَرَ} من {الْمَوْتُ} موت النفس لأن النفس سمكة حياتها بحر الدنيا وماء الهوى لو أخرجت لماتت في الحال وهذا تحقيق قوله عليه السلام : "موتوا قبل أن تموتوا" {وَاللَّهُ مُحِيطُ بِالْكَافِرِينَ} فيه إشارة إلى أن الكافر الذي له حياة طبيعية حيوانية لو مات بالإرادة من مألوفات الطبيعة لكان إحياء الله تعالى بأنوار الشريعة كما قال تعالى :
73
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام : 122) فلما لم يمت بالإرادة فالله محيط بالكافرين أي : مهلكهم ومميتهم في الدنيا بموت الصورة وموت القلب وفي الآخرة بموت العذاب فلا يموت فيها ولا يحيى {يَكَادُ الْبَرْقُ} أي : نور الذكر والقرآن {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي : أبصار نفوسهم الأمارة بالسوء {كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم} نور الهدى.
{مَّشَوْا فِيهِ} سلكوا طريق الحق بقدم الصدق {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} ظلمات صفات النفس وغلب عليهم الهوى ومالوا إلى الدنيا.
{قَامُوا} أي : وقفوا عن السير وتحيروا وترددوا وتطرقت إليهم الآفات واعترتهم الفترات واستولى عليهم الشيطان وسولت لهم أنفسهم الشهوات حتى وقوا في ورطة الهلاك {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} أي : لو كانت إرادته أن يهديهم {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} أي : بسمع نفوسهم التي تصغى إلى وساوس الشيطان وغروره {وَأَبْصَارِهِمْ} أي : أبصار نفوسهم التي بها تنظر إلى زينة الدنيا وزخارفها كقوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة : 13) {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} أي : قادر على سلب أسماعهم وأبصارهم حتى لا يسمعوا الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ولا يبصروا المزخرفات الدنيوية والمستلذات الحيوانية لكيلا يغتروا بها ويبيعوا الدين بالدنيا ولكن الله يفعل بحكمته ما يشاء ويحكم بعزته ما يريد انتهى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 71
يا أَيُّهَا النَّاسُ} الآية مسوقة لإثبات التوحيد وتحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام اللذين هما أصل الإيمان.
والناس يصلح اسماً للمؤمنين والكافرين والمنافقين ، والنداء تنبيه الغافلين أو إحضار الغائبين وتحريك الساكنين وتعريف الجاهلين وتفريغ المشغولين وتوجيه المعرضين وتهييج المحبين وتشويق المريدين.
قال بعض العارفين أقبل عليهم بالخطاب جبراً لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب أي : يا مؤنس لا تنس أنسك بي قبل الولادة أو يا ابن النسيان تنبه ولا تنس حيث كنت نسياً منسياً ولم تك شيئاً مذكوراً فخلقتك وخمرتك طيناً ثم نطفة ثم دماً ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ولحوماً وعروقاً وجلوداً وأعصاباً ثم جنيناً ثم طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً وأنت فيما بين ذلك تتمرغ في نعمتي وتسعى في خدمة غيري تعبد النفس والهوى وتبيع الدين بالدنيا لا تنس من خلقك وجعلك من لا شيء شيئاً مذكوراً كريماً مشكوراً علمك وقواك وأكرمك وأعطاك ما أعطاك فهذا خطاب للنفس والبدن.
قال في "التيسير" : وإذا كان الإنسان من النسيان ففيه عتاب وتلقين أما العتاب فكأنه يقول : أيها الناس قابلتم نعمنا بالكفران وأوامرنا بالعصيان وأما التلقين للعذر فكأنه يقول : أيها المخالف لنا ناسياً لا عامداً وساهياً لا قاصداً عذرناك لنسيانك وعفونا عنك لإيمانك.
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعاصين أطيعوا ربكم ويقول للمنافقين أخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم ويقول للمطيعين أثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل لهذه الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم كما في "تفسير أبي الليث".
والعبادة استفراغ الطاعة في استكمال الطاعة واستشعار الخشية في استبعاد المعصية {الَّذِى خَلَقَكُمْ} صفة جرت عنه للتعظيم والتعليل معناه أطيعوا ربكم الذي خلقكم لخلقكم ولم تكونوا شيئاً.
والخلق اختراع الشيء على غير مثال سبق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
خلق {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي : من زمن قبل زمانكم من الأمم فمن ابتدائية متعلقة بمحذوف وفي الوصف به إيماء إلى سبب وجوب عبادته تعالى فإن خلق
74(1/57)
أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم وفيه دلالة على شمول القدرة وتنبيه من سنة الغفلة ، أي : أنهم كانوا فمضوا وجاؤوا وانقضوا فلا تنسوا مصيركم ولا تستجيزوا تقصيركم.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} حال من ضمير اعبدوا أي : راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى.
ولعل للترجي والأطماع وهي من الله تعالى واجب لأن الكريم لا يطمع إلا فيما يفعل والأولون والآخرون مخاطبون بالأمر بالتقوى وخص المخاطبين بالذكر تغليباً لهم على الغائبين كما في "الكواشي".
وفيه تنبيه على أن التقوى منتهى درجة السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء كما قال تعالى : {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة : 16).
{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} (الإسراء : 57) قال السعدي قدس سره :
اكر مردى از مردىء خود مكوى
نه هر شهسواري بدر برد كوى
يعني ليس كل عابد يخلص إيمانه بسبب عبادته.
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ} صفة ثانية لربكم.
قال أهل اللغة الأرض بساط العالم وبسيطها من حيث يحيط بها البحر الذي هو البحر المحيط أربعة وعشرون ألف فرسخ كل فرسخ ثلاثة أميال وهو اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة وكل ذراع ست وثلاثون أصبعاً كل أصبع ست حبات شعير مصفوفة بطون بعضها إلى بعض فللسودان اثنا عشر ألف فرسخ وللبياض ثمانية وللفرس ثلاثة وللعرب ألف كذا في "كتاب الملكوت" وسمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة وأما وسط الأرض كلها عامرها وخرابها فهو الموضع الذي يسمى قبة الأرض وهو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد ويستوي الليل والنهار أبداً لا يزيد أحدهما على الآخر كما في "الملكوت".
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : إنما سميت الأرض أرضاً لأنها تتأرض ما في بطنها يعني : تأكل ما فيها وقال بعضهم لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام {فِرَاشًا} ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحاً حقيقياً وهو الذي له طول وعرض فإن كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها جعل {السَّمَآءِ} وهو ما علاك وأظلك {بِنَآءً} قبة مضروبة عليكم وكل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة والسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض كما في "تفسير أبي الليث".
{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} أي : مطراً ينحدر منها على السحاب ومنه على الأرض وهو رد لزعم أنه يأخذه من البحر {فَأَخْرَجَ بِهِ} أي : أنبت الله بسبب الماء الذي أنزل من السماء.
{مِنَ الثَّمَرَاتِ} هي ههنا المأكولات كلها من الحبوب والفواكه وغيرها مما يخرج من الأرض والشجر كما في "التيسير".
{رِزْقًا لَّكُمْ} وذلك بأن أودع في الماء قوة فاعلية وفي الأرض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما أصناف الثمار فبين المظلة والمقلة شبه عقد النكاح بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزاقاً لبني آدم ومن للبيان ورزقاً أي : طعاماً وعلفاً لكم ولدوابكم والمعنى أن الله تعالى أنعم عليكم بذلك كله لتعرفوه بالخالقية
75
والرازقية فتوحدوه {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} جمع ند وهو المثل أي : أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله يعني لا تقولوا له شركاء تعبد معه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تقولوا لولا فلان لأصابني كذا ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إياكم ولو فانه من كلام المنافقين قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا" ، قال السعدي :
اكر عز وجاهست اكر ذل وقيد
من أزحق شناسم نه از عمرو وزيد
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أن الله هو الذي خلقكم ومن قبلكم وخلق السماء والأرض وخلق الأرزاق دون الأصنام فإنها لا تضر ولا تنفع والوعظ الكلي أنه قال في الآية : {جَعَلَ لَكُمُ} وقال : {رِزْقًا لَّكُمْ} فلو قال لك في القيامة فعلت كذا كله لكم فما فعلتم لي فما تقول.
وعن الشبلي رحمه الله أنه وعظ يوماً الناس فأبكاهم لما ذكر من القيامة وأهوالها فمر بهم أبو الحسين النوري قال : لا تفزعهم فإن حساب يومئذ ليس بهذا الطول إنما هو كلمتان "من ترا بودم تو كرا بودي" وأفادت الآية أنه ينبغي الإخلاص في العبادة بترك ملاحظة الأغيار وبشهود خالق الليل والنهار.
قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
كرت بيخ إخلاص در بوم نيست
درين در كسى ون تو محروم نيست
(1/58)
وفي توصية رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمعاذ (يا معاذ إني محدثك بحديث إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته انقطعت حجتك عند الله تعالى يا معاذ إن الله تبارك وتعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً فيصعد عليه الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتى إذا طلعت به الملائكة إلى السماء زكته وكثرته فيقول الملك الموكل للحفظة قفوا
76
واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يتجاوزني إنه كان يغتاب الناس).
زبان آمد از بهر شكر وساس
بغيبت تكرداندش حق شناس
قال عليه السلام : "ثم يأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بالسماء الثانية قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الفخر إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوز إلى غيري إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم".
ه زنار مغ درميانت ه د لق
كه در وشى از بهر ندار خلق
قال عليه السلام : "ويصعد الحفظة بعمل عبد يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيتجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم".
فروتن بود هو شمند كزين
نهد شاخ ر ميوه سرير زمين
قال عليه السلام : "ويصعد الحفظة بعمل عبد يزهو كما يزهو الكوكب الدري من صلاة وتسبيح وحج وعمرة حتى يجاوزون به إلى الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب فيه".
و رويي بخدمت نهى برزمين
خدارا ثنا كوى خودرا مبين
قال عليه السلام : "ويصعد الحفظة بعمل عبد حتى يجاوزون به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد من يتعلم العلم ويعمل الله وكل من يأخذ بنصيب من العبادة كان يحسدهم ويعيبهم أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني".
عقبه زين صعبتر در راه نيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
أي خنك آنكس حسد همراه نيست
قال عليه السلام : "ويصعد الحفظة بعمل عبد من صيام وصلاة وزكاة وحج وعمرة فيجاوزون به إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً من عباد الله قط وإذا أصابهم بلاء وضر كان يشمت فيهم أنا ملك موكل بالرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني".
اشك خواهي رحم كن براشك بار
رحم خواهي بر ضعيفان رحم آر
قال عليه السلام : "ويصعد الحفظة إلى السماء السابعة بعمل عبد من صلاة وصوم وفقه واجتهاد وورع لها دويّ كدويّ النحل وضوء كضوء الشمس معها ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون بها إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واقفلوا على قلبه أنا أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به ربي إنه كان يعمل لغير الله إنه أراد به رفعة عند الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم يكنتعالى خالصاً لهو رياء".
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا در تواني فروخت
قال عليه السلام : "ويصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة وصوم وصلاة وحج وعمرة وخلق حسن وذكرويشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلصفيقول الله عز وجل : أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على قلبه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي فتقول الملائكة كلهم عليه لعنتك ولعنتنا فتلعنه السموات السبع ومن فيهن" قال معاذ : قلت : يا رسول الله كيف لي بالنجاة والخلوص؟ قال : "اقتد بي وعليك باليقين وإن كان في عملك تقصير وحافظ على لسانك من الوقيعة" أي : الغيبة "في إخوانك من حملة القرآن ولا تزك نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا بعمل الآخرة ولا تمزق الناس فيمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار ولا تراء بعملك الناس" قال السعدي :
أي هنر هانهاده بر كف دست
عيبها بر كرفته زير بغل
تاه خواهي خريدن أي مغرور
روز درماندكي بسيم دغل
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره قال : كابدت العبادة أي : أتعبت نفسي فيها ثلاثين سنة فرأيت
77
قائلاً يقول : يا أبا يزيد خزائنه مملوءة بالعبادة إن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والاحتقار والإخلاص في العمل ، قال أبو يزيد قدس سره :
ار يز آورده ام شاها كه در كنج تونيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
نيستي وحاجت وجرم وكناه آورده ام
(1/59)
قاله لما طلب منه الهدية حين طلع مبشرات الحقيقة فلما عرض تلك الهدية قيل : ادخل جئت بهدية عظمى وحصل الاستحقاق للدخول.
وفي "التأويلات النجمية" :
{ يا أَيُّهَا النَّاسُ} الإشارة في تحقيق الآيتين إنه تعالى خاطب ناسى عهود يوم الميثاق والإقرار بربوبيته ومعاهدته أن لا تعبدوا إلا إياه فخالفوه ونقضوا عهده وعبدوا الطواغيت من الأصنام والدنيا والنفس والهوى والشيطان فزل قدمهم عن جادة التوحيد ووقعوا في ورطة الشرك والهلاك فبعث إليهم الرسول وكتب إليه الكتاب وأخبرهم عن النسيان والشرك ودعاهم إلى التوحيد والعبودية وقال : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 21) يعني ذراتكم وذرات من قبلكم يوم الميثاق وأخذ مواثيقكم بالربوبية والتوحيد والعبادة فأوفوا بعهد العبودية بتوحيد اللسان وتجريد القلب وتفريد السر وتزكية النفس بترك المحظورات وإقامة الطاعات المأمورات {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عن شرك عبادة غير الله فيوفى الله بعهد الربوبية بالنجاة من الدركات ورفع الدرجات بالجنان والإكرام بالقربات والكرامات في الآخرة كما أكرمكم في الدنيا {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} فيه إشارة إلى تعريفه بالقدرة الكاملة ومنته على عباده وفضيلتهم عنده على جميع المخلوقات أما تعريف نفسه بالقدرة الكاملة فقوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ} وأما منته على عباده فقوله تعالى : {لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} أي : خلق هذه الأشياء لكم خاصة وأما فضيلتهم على جميع المخلوقات بأن خلق السموات والأرض وما فيهما لأجلهم وسخره لهم لقوله تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (الجاثية : 13) فكان وجود السموات والأرض تبعاً لوجودهم وما كان وجوده تبعاً لوجود شيء لا يكون مقصوداً وجوده لذاته ولهذا السر أمر الله تعالى ملائكته بسجود آدم عليه السلام وحرم على آدم وأولاده سجود غير الله ليظهر أن الملائكة وإن كانوا قبل وجود آدم أفضل الموجودات فلما خلق آدم وجعله مسجوداً لهم كان هو أفضل المخلوقات وأكرمهم على الله تعالى ومتبوع كل شيء والكل تابع له {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} تحقيقه أن الماء هو القرآن وثمراته الهدى والتقى والنور والرحمة والشفاء والبركة واليمن والسعادة والقربة والحق اليقين والنجاة والرفعة والصلاح والفلاح والحكمة والحلم والعلم والآداب والأخلاق والعزة والغنى والتمسك بالعروة الوثقى والاعتصام بحبل الله المتين وجماع كل خير وختام كل سعادة وزهوق باطل الوجود الإنساني عند مجيء تجليات حقيقة الصفات الربانية كقوله تعالى : {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُا إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء : 81) فأخرج بماء القرآن هذه الثمرات من أرض قلوب عباده فكما أن الله تعالى منّ على عباده بإخراج الثمرات رزقاً لكم وكان للحيوانات فيها رزق ولكن بتبعية الإنسان وهذا مما لا تدركه العقول المشوبة بالوهم والخيال بل تدركه العقول المؤيدة بتأييد الفضل والنوال {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} فيه ثلاثة
78
معان :
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
أولها : إن هذا الذي جعلت لكم من خلق أنفسكم وخلق السموات والأرض وما فيها لكم ليس من شأن أحد غيري {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فلا تجعلوا لي أنداداً في العبودية.
وثانيها : إني جعلت السموات والأرض والشمس والقمر كلها واسطة أرزاقكم وأسبابها وأنا الرزاق فلا تجعلوا الوسائط أنداداً لي فلا تسجدوا للشمس ولا للقمر الآية.
وثالثها : إني خلقت الموجودات وجعلت لكل شيء حظاً في شيء آخر وجعلت حظ الإنسان في محبتي ومعرفتي وكل محظوظ لو انقطع عنه حظه لهلك فلا تنقطعوا عن حظوظكم من محبتي ومعرفتي بأن تجعلوا لي أنداداً تحبونهم كحبي فتهلكوا في أودية الشرك يدل عليه قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة : 165) فالأنداد هي الأحباب غير الله ثم وصف الذين لم ينقطعوا عن حظ محبته بالإيمان وقال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} (البقرة : 165) يعني الذين اتخذوا من دون الله آلهة في المحبة ما آمنوا حقيقة وإن زعموا أنا آمنا فافهم جداً ولا تغتر بالإيمان التقليدي الموروث حتى يصح على هذا المحل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي : في شك من القرآن الذي نزلناه على محمد صلى الله عليه وسلّم في كونه وحياً منزلاً من عند الله تعالى.(1/60)
والتنزيل النزول على سبيل التدريج وأنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا إلى بيت العزة ثم منه على النبي صلى الله عليه وسلّم مفرقاً منجماً في ثلاث وعشرين سنة ليحفظ فإنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه ليثبت عنده حفظه بخلاف غيره من الأنبياء فإنه كان كاتباً قارئاً فيمكنه حفظ الجميع من الكتاب ولذا قالوا : إن سائر الكتب الإلهية أنزلت جملة {ائْتُوا} جواب الشرط وهو أمر تعجيز {بِسُورَةٍ} وحد السورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر أقلها ثلاث آيات ، وإنما سميت سورة لكونها أقوى من الآية من سورة الأسد والشراب أي : قوته هذا إن كانت واوها أصلية وإن كانت منقلبة عن همزة فهي مأخوذة من السؤر الذي هي البقية من الشيء فالسورة قطعة من القرآن مفرزة باقية من غيرها {مِّن مِّثْلِهِ} أي : سورة كائنة من مثل القرآن في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم فالضمير لما نزلنا أي : ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر إذ أنتم وهو سواء في الجوهر والخلقة واللسان وليس هو أولى بالاختلاق منكم ثم القرآن وإن كان لا مثل له لأنه صفة الله وكلام الله ووحي الله ولا مثل لصفاته كما لا مثل لذاته لكن معناه من مثله على زعمكم فقد كانوا يقولون : لو شئنا لقلنا مثل هذا كما في "التيسير".
{وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم} جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناظر {مِّن دُونِ اللَّهِ} إما متعلقة بادعوا فالمعنى أدعوا متجاوزين الله من حضركم كائناً من كان للاستظهار في معارضة القرآن والحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم في الملمات وتعولون عليهم في المهمات أو القائمين بشهادتكم الجارية فيما بينكم من أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة أو القائمين بنصركم حقيقة أو زعماً من الإنس والجن ليعينوكم وإما متعلقة بشهداءكم والمراد بهم الأصنام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 79
و دون بمعنى التجاوز على أنها ظرف مستقر وقع حالاً من ضمير المخاطبين والعامل ما دل عليه شهداءكم ، أي : ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة وزعمتم أنهم يشهدون
79
لكم يوم القيامة أنكم على الحق متجاوزين الله في اتخاذها كذلك.
ودلت الآية على أن الاستعانة بالخلق لا تغني شيئاً وما يغني رجوع العاجز عن العاجز فلا ترفع حوائجك إلا إلى من لا يشق عليه قضاؤها ولا تسأل إلا من لا تفنى خزائنه ولا تعتمد إلا على من لا يعجز عن شيء ينصرك من غير معين ويحفظك من كل جانب ومن غير صاحب ويغنيك من غير مال فيقل أعداد الأعداء الكثيرة إذا حماك ويكثر عدد المال القليل إذا كفاك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه وأن آلهتكم شهداؤكم وهو شرط جوابه محذوف تقديره فافعلوا أي : فائتوا بسورة من مثله {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} أي : ما أمرتم من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود {وَلَن تَفْعَلُوا} فيما يستقبل أبداً وذلك لظهور إعجاز القرآن فإنه معجزة النبي عليه السلام اعتراض بين الشرط وجوابه وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشيء بداية في الجملة لتناقله الرواة خلفاً على سلف {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي : ولما عجزتم عن معارضة القرآن ومثله لزمتكم الحجة أن محمداً رسولي والقرآن كتابي ولزمكم تصديقه والإيمان به ولما لم تؤمنوا صرتم من أهل النار فاتقوها.(1/61)
وفي "الكشاف" : لصيق اتقاء النار وضميمه ترك العناد من حيث أنه من نتائجه لأن من اتقى النار ترك المعاندة فوضع فاتقوا النار موضع فاتركوا العناد {الَّتِى وَقُودُهَا} أي : حطبها وهو ما يوقد به النار {النَّاسُ} أي : العصاة {وَالْحِجَارَةُ} أي : حجارة الكبريت وإنما جعل حطبها منها لسرعة وقودها أي : التهابها وبطء خمودها وشدة حرها وقبح رائحتها ولصوقها بالبدن أو الحجارة هي الأصنام التي عبدوها وإنما جعل التعذيب بها ليتحققوا أنهم عذبوا بعبادتها وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزها وعظمتها والكافر عبد الصنم واعتمده ورجاه فعذب به إظهاراً لجهله وقطعاً لأمله كاتباع الكبراء خدموهم ورجوهم وفي النار يسحبون معهم ليكون أشق عليهم وأقطع لرجائهم.
فإن قلت أنار الجحيم كلها توقد بالناس والحجارة أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت : بل هي نار شتى منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} (الليل : 14) ولعل لكفار الجن ولشياطينهم ناراً وقودها الشياطين كما أن لكفرة الإنس ناراً وقودها هم جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب.
{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي : هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عدة لعذابهم.
وفيه دلالة على أن النار مخلوقة موجودة الآن خلافاً للمعتزلة وفي الآية إشارة إلى أن ثمرة الأخذ بالقرآن والإقرار به وبمحمد صلى الله عليه وسلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس والحجارة وفيه زيادة فضل القرآن وأهله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 79
قال البغوي عند قوله تعالى : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} قيل : السورة اسم للمنزلة الرفيعة وسميت سورة لأن القارىء ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يرجع أتباع إبليس كل عشية إلى سيدهم فيقول كل واحد منهم بين يديه فعلت كذا وغررت فلاناً الزاهد حتى يقول أصغرهم : أنا منعت صبياً من الكتاب فيقوم إبليس بين يديه ويقعده إلى جنبه فرحاً بما فعل وقالت الحكماء حق الولد على أبويه ثلاثة : أن
80
يسمياه باسم حسن عند الولادة وأن يعلماه القرآن والأدب والعلم وأن يختناه ثم أن المقصد الأصلي هو العمل بالقرآن والتخلق بآدابه كما قيل :
مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست
نه ترتيل سورة مكتوب
وللقرآن ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن قال في "المثنوي" :
تو ز قرآن أي : سر ظاهر مبين
ديو آدم را نبيند جزكه طين
ظاهر قرآن و شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
قال الشيخ نجم دايه فظاهره يدل على ما فسره العلماء وباطنه يدل على ما حققه أهل التحقيق بشرط أن يكون موافقاً للكتاب والسنة ويشهدا عليه بالحق فإن كل حقيقة لا يشهد عليها الكتاب والسنة فهي إلحاد وزندقة لقوله تعالى : {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 59) وقال أيضاً في تأويل الآية : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} جعل الله إعراض المعرضين قباب غيرته لحبيبه المرسل لئلا يشاهدوا من الله حبيبه وجعل اعتراض المعترضين سرادقات عزته لئلا يطلعوا على الله وكتابه وسماه عليه السلام بالعبد المطلق ولم يسم غيره إلا بالعبد المقيد باسمه كما قال : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} (ص : 41) {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} (ص : 17) وغيرهما وذلك لأن كمال العبودية ما تهيأ لأحد من العالمين إلا لحبيبه عليه السلام وكمال العبودية في كمال الحرية عما سوى الله وهو مختص بهذه الكرامة كما أثنى عليه بقوله : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم : 17) فائتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله أي : الحاضرين معكم يوم الميثاق لأنكم وأنهم ومحمداً كنتم جميعاً مستمعين خطاب ألست بربكم مجتمعين في جواب بلى فلو كان محمد قادراً على إتيان القرآن من تلقاء نفسه فهو وأنتم في الاستعداد الإنساني الفطري سواء فائتوا بالقرآن من تلقاء أنفسكم أيضاً
جزء : 1 رقم الصفحة : 79(1/62)
{إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى} هي القهر وصورة غضب الحق كما قال الله للنار (إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي) {وَقُودُهَا النَّاسُ} أنانية الإنسان التي نسيان الله من خصوصيتها {وَالْحِجَارَةُ} أي : الذهب لأنه به يحصل مرادات النفس وشهواتها وما يميل إليه الهوى فعبر عما يعبده أنانية الإنسان بالحجارة لأن أكثر الأصنام كان من الحجارة وعن أنانية الإنسان بالناس لأنها إنما طلبت غير الله وعبدته لنسيان الحق ومعاهدة يوم الميثاق ثم جعلها وقود النار لقوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 98) {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} خاصة ولكن يظهر المذنبون بها بتبعية الكافرين كما أن الجنة خلقت وأعدت للمتقين ولكن يدخلها المذنبون من أهل الإيمان بعد تطهيرهم بورود النار والعبور عليها بتبعية المتقين يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم حكاية عن الله تعالى (خلقت الجنة وخلقت لها أهلها وبعمل أهل الجنة يعملون وخلقت النار وخلقت لها أهلها وبعمل أهل النار يعملون).
جزء : 1 رقم الصفحة : 79
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} البشارة الخبر السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة أي : أفرح يا محمد قلوب الذين آمنوا بأن القرآن منزل من عند الله تعالى فالخطاب للنبي عليه السلام وقيل : لكل من يتأتى منه التبشير كما في قوله عليه الصلاة والسلام : "بشر المشائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة" فإنه عليه السلام لم يأمر بذلك واحداً بعينه بل كل أحد
81
مما يتأتى منه ذلك {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي : فعلوا الفعلات الصالحات وهي كل ما كان تعالى وفي عطف العمل على الإيمان دلالة على تغايرهما وإشعار بأن مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين فإن الإيمان أساس والعمل الصالح كالبناء عليه ولا غناء بأساس لا بناء عليه وطلب الجنة بلا عمل حال السفهاء لأن الله تعالى جعل العمل سبباً لدخول الجنة والعبد وإن كان يدخله الله الجنة بمجرد الإيمان لكن العمل يزيد نور الإيمان وبه يتنور قلب المؤمن وكم من عقبة كؤود تستقبل العبد إلى أن يصل إلى الجنة وأول تلك العقبات عقبة الإيمان أنه هل يسلم من السلب أم لا فلزم العمل لتسهيل العقبات {أَنَّ لَهُمْ} أي : بأن لهم {جَنَّاتٍ} بساتين فيها أشجار مثمرة.
والجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم كذا قال الفراء ولفرط التفاف أغصان أشجارها وتسترها بالأشجار سميت جنة كأنها سترة واحدة لأن الجنة بناء مرة وإنما سميت دار الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور لكا أنها مناط نعيمها ومعظم ملاذها.
فإن قلت : ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت : الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 81(1/63)
ثم الجنان ثمان : دار الجلال كلها من نور مدائنها وقصورها وبيوتها وأوانيها وشرفها وأبوابها ودرجها وغرفها وأعاليها وأسافلها وخيامها وحليها وكل ما فيها ، ودار القرار كلها من المرجان ، ودار السلام كلها من الياقوت الأحمر ، وجنة عدن من الزبرجد كلها وهي قصبة الجنة وهي مشرفة على الجنان كلها ، وباب جنة عدن مصراعان من زمرد وياقوت ما بين المصراعين كما بين المشرق والمغرب ، وجنة المأوى من الذهب الأحمر كلها ، وجنة الخلد من الفضة كلها ، وجنة الفردوس من اللؤلؤ كلها وحيطانها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد وملاطها وما يجعل بين اللبنتين مكان الطين المسك وقصورها الياقوت وغرفها اللؤلؤ ومصاريعها الذهب وأرضها الفضة وحصباؤها المرجان وترابها المسك ونباتها الزعفران والعنبر ، وجنة النعيم من الزمرد كلها.
وفي الخبر "إن المؤمن إذا دخل الجنة رأى سبعين ألف حديقة في كل حديقة سبعون ألف شجرة على كل شجرة سبعون ألف ورقة وعلى كل ورقة لا إله إلا الله محمد رسول الله أمة مذنبة ورب غفور كل ورقة عرضها من مشرق الشمس إلى مغربها" {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} الجملة صفة لجنات والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل نهر مصر والمراد بها ماؤها.
فإن قلت : كيف جري الأنهار من تحتها؟ قلت : كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية وعن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود وهو الشق من الأرض بالاستطالة وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة والأنهار في خلالها مطردة ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى وأن الرياض وإن كانت أحسن شيء لا تجلب النشاط حتى يجري فيها الماء وإلا كان السرور الأوفر مفقوداً وكانت كتماثيل لا أرواح لها وصور لا حياة لها لما جاء الله بذكر الجنات البتة مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها والأنهار هي الخمر واللبن والعسل والماء فإذا شربوا من نهر الماء يجدون حياة ثم إنهم لا يموتون وإذا شربوا من اللبن يحصل
82
في أبدانهم تربية ثم إنهم لا ينقصون وإذا شربوا من نهر العسل يجدون شفاء وصحة ثم إنهم لا يسقون وإذا شربوا من نهر الخمر يجدون طرباً وفرحاً ثم إنهم لا يحزنون ، قال في "المثنوي" :
آب صبرت جوى آب خلد شد
جوى شير خلد مهر تست وود
ذوق طاعت كشت جوى انكبين
مستى وشوقي توجوي خمر بين
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
أين سببها ون بفرمان تو بود
ار جوهم مرتراً فرمان نمود
وروي أنه كتب عرضاً بسم الله الرحمن الرحيم على ساق العرش فعين الماء تنبع من ميم بسم ، وعين اللبن تنبع من هاء الله ، وعين الخمر تنبع من ميم الرحمن ، وعين العسل تنبع من ميم الرحيم ، هذا منبعها وأما مصبها فكلها تنصب في الكوثر وهو حوض النبي عليه السلام وهو في الجنة اليوم وينتقل يوم القيامة إلى العرصات لسقي المؤمنين ثم ينقل إلى الجنة ويسقي أهل الجنة أيضاً من عين الكافور ، وعين الزنجبيل ، وعين السلسبيل ، وعين الرحيق ومزاجه من تسنيم بواسطة الملائكة ويسقيهم الله الشراب الطهور بلا واسطة كما قال تعالى : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (الإنسان : 21) {كُلَّمَآ} متى {رُزِقُوا مِنْهَا} أي : أطعموا من الجنة {مِن ثَمَرَةٍ} ليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار ومن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدىء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة {رِّزْقًا} مفعول رزقوا وهو ما ينتفع به الحيوان طعاماً.
{قَالُوا هَـاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أي : هذا مثل الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته وإنما جعل ثمر الجنة كثمر الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غير المعروف وليتبين لها مزية إذ لو كان جنساً غير معهود لظن أنه لا يكون إلا كذلك وإن كان فائقاً فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم وأن الكبرى لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة ثم يبصرون رمانة الجنة وهي تشبع السكن أي : أهل الدار كان ذلك أبين للفضل وأجلب للسرور وأزيد في التعجب من أن يفاجؤوا ذلك الرمان من غير عهد سابق بجنسه وعموم كمما يدل على ترديدهم هذه المقالة كل مرة رزقوا فيما عدا المرة الأولى يظهرون بذلك التبجح وفرط الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذة مع اتحادهما في الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عين ما رزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب ولا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسم فإن ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذة والحسن والهيئة لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلاً كيف وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعاً.
(1/64)
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
{وَأُتُوا بِهِ} أي : جيئوا بذلك الرزق أو المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً فالضمير إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين ونظيره قوله تعالى : {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (النساء : 135) أي : بجنس الغني والفقير {مُتَشَابِهًا} في اللون والجودة فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك أجود وألذ ، يعني : لا يكون فيها رديء.
وعن مسروق نحل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها أي : منضود بعضها على بعض ، أي : متراكب ومجتمع ليس كأشجار الدنيا متفرقة أغصانها وثمرتها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود اثنا عشر ذراعاً ولو اجتمع الخلائق
83
على عنقود لأشبعهم وجاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون فقال : "نعم والذي نفس محمد بيده إن أحدهم ليعطي قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع" قال : فإن الذي يأكل له حاجة والجنة طيبة ليس فيها أذى قال عليه السلام : "حاجة أحدهم عرق كريح المسك" {وَلَهُمْ فِيهَآ} أي : في الجنة {أَزْوَاجٌ} أي : نساء وحور {مُّطَهَّرَةٌ} مهذبة من الأحوال المستقذرة كالحيض والنفاس والبول والغائط والمني والمخاط والبلغم والورم والدرن والصداع وسائر الأوجاع والولادة ودنس الطبع وسوء الخلق وميل الطبع إلى غير الأزواج وغير ذلك.
ومطهرة أبلغ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بأن مطهراً طهرهن وما هو إلا الله سبحانه وتعالى.
قال الحسن هن عجائزكم العمص العمش طهرن من قاذورات الدنيا وعن ابن عباس رضي الله عنهما خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب أي : الأبيض ومن عنقها إلى رأسها من الكافور إذا أقبلت يتلألأ نور وجهها كما يتلألأ نور الشمس لأهل الدنيا {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي : دائمون أحياء لا يموتون ولا يخرجون منها.
قال عكرمة : أهل الجنة ولد ثلاث وثلاثين سنة رجالهم ونساؤهم وقامتهم ستون ذراعاً على قامة أبيهم آدم شباب جرد مرد مكحلون عليهم سبعون حلة تتلون كل حلة في كل ساعة سبعين لوناً لا يبزقون ولا يمتخطون وما كان فوق ذلك من الأذى فهو أبعد يزدادون كل يوم جمالاً وحسناً كما يزداد أهل الدنيا هرماً وضعفاً لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
واعلم أن معظم اللذات الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقضي به الاستقراء وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات إذ كل نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرض الاضمحلال فإنها منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ} أي : يحصل لهم جنات القربة معجلة من بذر الإيمان الحقيقي.
وأعمالهم القلبية الصالحة والروحية والسرية بالتوحيد والتجريد والتفريد من أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوة والمجاهدة والمكابدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والخوف والخشية والرجاء والصفاء والوفاء والطلب والإرادة والمحبة والحياء والكرم والسخاوة والشجاعة والعلم والمعرفة والعزة والرفعة والقدرة والحلم والعفو والرحمة والهمة العالية وغيرها من المقامات والأخلاق تجري من تحتها مياه العناية والتوفيق والرأفة والعطفة والفضل.
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا} من هذه الأشجار.
{مِن ثَمَرَةٍ} من ثمرات المشاهدات والمكاشفات والمعاينات.
{رِّزْقًا} أي : عطفاً وصحة وعطية.
{قَالُوا هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} وذلك لأن أصحاب المشاهدات يشاهدون أحوالاً شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم فيظن بعضهم من المتوسطين أن هذا المشاهد هو الذي يشاهده قبل هذا فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى هو حقيقة أخرى مثاله يشاهد السالك نوراً في صورة نار كما شاهد موسى عليه السلام نور الهداية في صورة نار كما قال : إني آنست ناراً فتكون تارة تلك
84(1/65)
النار صفة غضب كما كان لموسى عليه السلام إذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته ناراً وتارة يشاهد النار وهي صفة الشيطنة وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها وتارة تكون نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فالصورة النارية المشاهدة متشابه بعضها ببعض كما قال تعالى : {وَأُتُوا بِه مُتَشَابِهًا} ولكن السالك الواصل يجد من كل نار منها ذوقاً وصفة أخرى.
{وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ} أي : الأرباب الشهود في جنات القربات أزواج من أبكار الغيب.
{مُّطَهَّرَةٌ} من ملابسة الأغيار.
{وَهُمْ فِيهَا} في افتضاضها {خَالِدُونَ} كما قال عليه السلام "إن من العلوم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله فإذا نطقوا بها لا ينكرها إلا أهل الغرة بالله".
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
واعلم أن كل شيء يشاهد في الشهادة كما أن له صورة في الدنيا له معنى حقيقي في الغيب ولهذا كان النبي عليه السلام يسأل الله تعالى بقوله : "اللهم أرنا الأشياء كما هي" فيكون في الآخرة صورة الأشياء وحقائقها حاصلة ولكن الحقائق والمعاني على الصور غالبة فيرى في الآخرة صورة شيء يعينه فيعرفه فيقول هذا الذي رزقنا من قبل فيكون الاسم والصورة كما كانت ولكنها في ذوق آخر غير ما كنت تعرفه ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ما ليس شيء في الجنة مما في الدنيا غير الأسماء وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كل كِلمة يكلمها المسلم في سبيل الله تكون يوم القيامة كهيئتها يوم طعنت انفجرت دماً اللون لون الدم والعرف عرف المسك" فالآن لون ذلك الدم حاصل في الشهادة ولكن عرفه في الغيب لا يشاهد ههنا ففي الآخرة يشاهد الصورة الدنيوية والمعاني الغيبية فافهم جداً واغتنم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً} عن الحسن وقتادة لمَّا ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فأنزل الله هذه الآية.
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم وهو جار على سبيل التمثيل لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها فمحل أن يضرب ، أي : يذكر النصب على المفعولية وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاماً وشياعاً كأنه قيل مثلاً ما من الأمثال أي : مثل كان فهي صفة لما قبلها وبعوضة بدل من مثلاً والبعوضة صغار البق سميت بعوضة لأنها كأنها بعض البق.
{فَمَا فَوْقَهَا} أي : فيذكر الذي هو أزيد منها كالذباب والعنكبوت أو فما دونها في الصغر قيل : إنه من الأضداد ويطلق على الأعلى والأدنى وهو دابة يسترها السكون ويظهرها التحرك يعني لا تلوح للبصر الحاد إلا بتحركها.
فإن قلت مثل الله آلهتهم بيت العنكبوت وبالذباب فأين تمثيلها بالبعوضة فما دونها.
قلت في هذه الآية كأنه قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثل آلهتكم بالبعوضة فما دونها فما ظنكم بالعنكبوت والذباب.
قال الربيع بن أنس ضرب المثل بالبعوضة عبرة لأهل الدنيا ، فإن البعوضة تحيا ما جاعت وتموت إذا شبعت فكذا صاحب الدنيا إذا استغنى طغى وأحاط به الردى.
وقال الإمام أبو منصور : الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى في الخلق الصغير الجثة والجسم أكثر منها في الكبار العظام لأن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب وتركيب ما يحتاج من الفم والأنف والعين والرجل واليد والمدخل والمخرج ما قدروا عليه ولعلهم يقدرون على تصوير العظام من الأجسام الكبار
85
منها فالبعوضة أعطيت على قدر حجمها الحقير كل آلة وعضو أعطيه الفيل الكبير القوي.
وفيه إشارة إلى حال الإنسان وكمال استعداده كما قال عليه السلام : "إن الله خلق آدم على صورته" أي : على صفته فعلى قدر ضعف الإنسان أعطاه الله تعالى من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجاً ليشاهد في مرآة صفات نفسه كمال صفات ربه كما قال : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" وليس لشيء من المخلوقات هذه الكرامة المختصة بالإنسان كما قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
آدم خاكى زحق آموخت علم
تابهفتم آسمان افروخت علم
نام وناموس ملك را شكست
كورىء آنكس كه باحق درشكست
قطره دلرا يكى كوهر فتاد
كان بكردونها ودرباها نداد
جند صورت آخر أي : صورت رست
جان بي معنيت از صورت نرست
كر بصورت آدمي إنسان بدي
أحمد وبو جهل خود يكسان بدي(1/66)
قال بعضهم : إن الله تعالى قوى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الأجناس وعرف الخلق قدرته في خلق الضعفاء على هيئات الأقوياء فإن البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره وفي البعوض زيادة جناحين فلا يستبعد من كرمه أن يعطي على قليل العمل ما يعطي على كثير العمل من الخلق كما أعطى صغير الجثة مع أعطى كبير الجثة من الخلقة ومن العجيب أن هذا الصغير يؤذي هذا الكبير فلا يمتنع منه ومن لطف الله تعالى أنه خلق الأسد بغاية القوة والبعوض والذباب بغاية الضعف ثم أعطى البعوض والذباب جراءة أظهرها في طيرانهما في وجوه الناس وتماديهما في ذلك مع مبالغة الناس في ذبهما بالمذبة وركب الجبن في الأسد وأظهر ذلك بتباعده عن مساكن الناس وطرقهم ولو تجاسر الأسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس فمنّ الله تعالى وجعل في الضعيف التجاسر وفي القوي الجبن ومن العجب عجزك عن هذا الضعيف وقدرتك على ذلك الكبير ـ وحكي ـ أنه خطب المأمون فوقع ذباب على عينه فطرده فعاد مراراً حتى قطع عليه الخطبة فلما صلى أحضر أبا هذيل شيخ البصريين في الاعتزال فقال له : لم خلق الله الذباب قال : ليذل به الجبابرة قال : صدقت وأجازه بمال كذا في "روضة الأخيار" ففي خلق مثل الذباب حكم ومصالح.
قال وكيع : لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا ومن الأعاجيب أن هذا الضعيف إذا طار في وجهك ضاق به قلبك ونغص به عيشك وفسد عليك بستانك وكرمك وأعجب منه جراءتك مع ضعفك على ما يورثك العار ويوردك النار فإذا كان جزعك هذا من البعوض في الدنيا فكيف حالك إذا تسلطت عليك الحيات والعقارب في لظى.
قال القشيري رحمه الله : الخلق في التحقيق بالإضافة في قدرة الخالق أقل من ذرة من الهباء في الهواء وسيان في قدرته العرش والبعوضة فلا خلق العرش عليه أعسر ولا خلق البعوضة عليه أيسر سبحانه وتقدس عن لحوق العسر واليسر.
واعلم أنه يمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل في الإنجيل غل الصدر بالنخالة قال : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ومثل مخاطبة
86
السفهاء بإثارة الزنابير قال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم وقال فيه أيضاً : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ولا في البرية حيث اللصوص والسموم فيسرقها اللصوص ويحرقها السموم ولكن ادخروا ذخائركم عند الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
وجاء في الإنجيل أيضاً مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان وهو بفتح الزاي وضمها حب مر يخالط البر فقال عبيد الزراع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة زرعت في قريتك؟ قال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان؟ قال : لعلكم إن ذهبتم لتلقطوا الزوان تقلعوا معه حنطة دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين.
والتفسير الزراع أبو البشر والقرية العالم والحنطة الطاعة وزراع الزوان إبليس والزوان المعاصي والحصادون الملائكة يتوفون بني آدم.
وللعرب أمثال مثل قولهم هو أجمع من ذرة يزعمون أنها تدخر قوت سبع سنين وأجرأ من الذباب لأنه يقع على أنف الملك وجفن الأسد فإذا ذب أي : منع آب أي : رجع وأسمع من قراد تزعم العرب أن القراد يسمع الهمس الخفي من مناسم الإبل أي : أخفافها على مسيرة سبع ليال أو سبعة أميال وفلان أعمر من القراد وذلك أنها تعيش سبعمائة سنة وقيل : أعمر من حية لأنها لا تموت إلا قتلاً ويقال : أعمر من النسر لأنه يعيش ثلاثمائة سنة وفلان أصرد من جرادة أي : أبرد لأنها لا تظهر في الشتاء أبداً لقلة صبرها على البرد وأطيش من فراشة أي : أخف منها وهي بالفارسية "روانة" وأعز من مخ البعوض يقال لما لا يوجد ويقال كلفتني مخ البعوض في تكليف ما لا يطاق وأضعف من بعوضة وآكل من السوس وهو القمل الذي يأكل الحنطة والشعير الدويبة التي تقع على الصوف والجوخ وغيرهما فتأكلها.
وبالجملة إن الله تعالى يضرب الأمثال للناس ولا يستحيي من الحق وله في أمثاله مطلقاً حكم ومصالح وما يتذكر إلا أولو الألباب ، قال المولى جلال الدين قدس سره :
بيت من بيت نيست اقليمست
هزل من هزل نيست تعليمست
جزء : 1 رقم الصفحة : 85(1/67)
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالقرآن محمد صلى الله عليه وسلّم والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل : فيضربه {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي : المثل بالبعوضة والذباب {الْحَقِّ} أي : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره {مِن رَّبِّهِمْ} حال من الضمير المستكن في الحق أو من الضمير العائد إلى المثل أي : كائناً منه تعالى فيتفكرون في هذا المثل الحق ويوقنون أن الله هو خالق الكبير والصغير وكل ذلك في قدرته سواء فيؤمنون به.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم اليهود والمشركون {فَيَقُولُونَ مَاذَآ} أي : ما الذي أو أي : شيء {أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا} أي : بالمثل الخسيس وفي كلمة هذا تحقير للمشار إليه واسترذال له.
{مَثَلا} أي : بهذا المثل فلما حذف الألف واللام نصب على الحال أي : ممثلاً أو على التمييز فأجابهم الله تعالى بقوله : {يُضِلُّ بِهِ} أي : يخذل بهذا المثل والإضلال هو الصرف عن الحق إلى الباطل وإسناد الإضلال أي : خلق الضلال إليه سبحانه مبني على أن جميع الأشياء مخلوقة له تعالى وإن كانت أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم {كَثِيرًا} من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالة {وَيَهْدِي بِهِ} أي : يوفق
87
بهذا المثل {كَثِيرًا} من المؤمنين لتصديقهم به فيزدادون هداية يعني يضل به من علم منهم أنه يختار الضلالة ويهدي به من علم أنه يختار الهدي.
فإن قلت : لِمَ وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم؟ قلت : أهل الهدي كثير في أنفسهم وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال وأيضاً فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة لأن هؤلاء على الحق وهم على الباطل.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه السواد الأعظم هو الواحد على الحق {وَمَا يُضِلُّ بِهِ} أي : لا يخذل بالمثل وتكذيبه {إِلا الْفَاسِقِينَ} أي : الكافرين بالله الخارجين عن أمره.
والفسق في اللغة الخروج وفي الشريعة الخروج عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث : الأولى : التغابي وهو ارتكابها أحياناً مستقبحاً لها والثانية : الانهماك في تعاطيها والثالثة : المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الإيمان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} أي : يخالفون ويتركون أمر الله تعالى.
والنقض الفسخ وفك التركيب.
فإن قلت : من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين قيل : عهد الله ثلاثة : الأول ما أخذه على ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته تعالى والثاني : ما أخذه على الأنبياء عليهم السلام بأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه والثالث : ما أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه {مِنا بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي : بعد توثيق ذلك العهد وتوكيده بالقبول فالضمير للعهد أو بعد توثيق الله ذلك بإنزال الكتب وإرسال الرسل فالضمير إلى الله فالمراد بالميثاق هنا نفس المصدر لا نفس العهد.
ـ يحكى ـ عن مالك بن دينار رحمه الله أنه كان له ابن عم عامل سلطان في زمانهم وكان ظالماً جائراً فمرض ذلك الرجل ونذر وعهد على نفسه وقال : لو عافاني الله تعالى مما أنا فيه لا أدخل في عمل السلطان أبداً قال : فأبرأه الله من ذلك المرض فدخل في عمل السلطان ثانياً فظلم الناس أكثر مما ظلمهم في المرة الأولى فمرض ثانياً فنذر ثانياً أن لا يرجع إلى عمل السلطان فبرىء ونقض العهد ودخل فيه وظلم أكثر مما ظلم في المرتين فظهرت به علة شديدة فأخبر بذلك مالك بن دينار فزاره وقال : يا بني أوجب على نفسك شيئاً وعاهد مع الله عهداً لعلك تنجو من هذه العلة فقال المريض : عاهدت الله أن لو قمت من فراشي أن لا أعود إلى عمل السلطان أبداً فهتف هاتف يا مالك إنا قد جربناه مراراً فوجدناه كذوباً فلا ينفعه نذره أي : جربناه بنفسه فأكذب نفسه فمات الفتى على هذه الحالة كذا في "روضة العلماء".
قال في "المثنوي" :
نقض ميثاق وشكست توبها
موجب لعنت شود در انتها
جزء : 1 رقم الصفحة : 88
{وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} محل أن يوصل النصب على أنه بدل من ضمير الموصول أي : ما أمر الله به أن يوصل وهو يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل وفي الحديث "إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل به وتحابوا بالألسن
88(1/68)
وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم" وقال صلى الله عليه وسلّم "ثلاثة في ظل عرش الله يوم القيامة : امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغاراً فخطبت فلم تتزوج وقالت أقوم على أيتامي حتى يغنيهم الله أو يميت" يعني اليتيم "أو هي ورجل له مال صنع طعاماً فأطاب صنعته وأحسن نفقته فدعا عليهم اليتيم والمسكين ورجل وصل الرحم يوسع له في رزقه ويمد له في أجله ويكون تحت ظل عرش ربه" {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي عليها يدور فلك نظام العالم وصلاحه {أولئك هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي : المغبونون بالعقوبة في الآخرة مكان المثوبة في الجنة لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها.
قيل : ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة فإن أطاعه تعالى أتى أهله وخدمه ومنزله في الجنة وإن عصاه ورثه الله المؤمن فقد غبن عن أهله وخدمه ومنزله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 88
وفي "التأويلات النجمية" : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بنور الإيمان يشاهدون الحقائق والمعاني في صورة الأمثلة {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ} حيث أنكروا الحق فجعل ظلمة إنكارهم غشاوة في أبصارهم فما شاهدوا الحقائق في كسوة الأمثلة كما أن العجم لا يشاهدون المعاني في كسوة اللغة العربية فكذلك الكفار والجهال عند تحيرهم في إدراك حقائق الأمثال قالوا : {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} فبجهلهم زادوا إنكاراً على إنكار فتاهوا في أودية الضلالة بقدم الجهالة {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا} ممن أخطأه رشاش النور في بدء الخلق كما قال عليه السلام : "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل" فمن أخطأه ذلك النور في عالم الأرواح فقد أخطأه نور الإيمان ههنا ومن أخطأه نور الإيمان فقد أخطأه نور القرآن فلا يهتدي ومن أصابه ذلك هنالك أصابه ههنا نور الإيمان ومن أصابه نور الإيمان فقد أصابه نور القرآن ومن أصابه نور القرآن فهو ممن قال : {وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا} وكان القرآن لقوم شفاء ورحمة ولقوم شقاء ونقمة لأنه كلامه ، وصفته شاملة اللطف والقهر فبلطفه هدى الصادقين وبقهره أضل الفاسقين لقوله : {وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَاسِقِينَ} الخارجين من إصابة رشاش النور في بدء الخلقة ثم أخبر عن نتائج ذكر الخروج ونقض العهود كما قال الله تعالى : {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي : الذين ينقضون عهد الله الذي عاهدوه يوم الميثاق على التوحيد والعبودية بالإخلاص من بعد ميثاقه {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} من أسباب السلوك الموصل إلى الحق وأسباب التبتل والانقطاع عن الخلق كما قال تعالى : {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} (المزمل : 8) أي : انقطع إليه انقطاعاً كلياً عن غيره {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} أي : يفسدون بذر التوحيد الفطري في أرض طينتهم بالشرك والإعراض عن قبول دعوة الأنبياء وسقي بذر التوحيد بالإيمان والعمل الصالح {أولئك هُمُ الْخَاسِرُونَ} خسروا استعداد كمالية الإنسان المودعة فيهم كما تخسر النواة في الأرض استعداد النخلية المودعة فيها عند عدم الماء لقوله تعالى : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العصر : 1 ـ 2 ـ 3)
جزء : 1 رقم الصفحة : 88(1/69)
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} كيف نصب حالاً من الضمير في تكفرون أي : معاندين
89
تكفرون وتجحدون {بِاللَّهِ} أي : بوحدانيته معكم ما يصرفكم عن الكفر إلى الإيمان من الدلائل الأنفسية والآفاقية والاستفهام إنكاري لا بمعنى إنكار الوقوع بل بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه لأن التعجب من الله يكون على وجه التعجيب والتعجيب هو أن يدعو إلى التعجب وكأنه يقول ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله كما في "تفسير أبي الليث".
وقال القاضي : هو استخبار والمعنى أخبروني على أي : حال تكفرون {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} جمع ميت كأقوال جمع قيل أي : والحال أنكم كنتم أمواتاً أي : أجساماً لا حياة لها عناصر وأغذية ونطفاً ومضغاً مخلقة وغير مخلقة.
قال في "الكشاف" فإن قلت كيف قيل لهم أموات حال كونهم جماداً وإنما يقال ميت فيما تصح منه الحياة من البنى.
قلت : بل يقال ذلك لعادم الحياة لقوله تعالى : {بَلْدَةً مَّيْتًا} (الفرقان : 49) {فَأَحْيَاكُمْ} بخلق الأرواح ونفخها فيكم في أرحام أمهاتكم ثم في دنياكم وهذا إلزام لهم بالبعث والفاء للدلالة على التعقيب فإن الأحياء حاصل إثر كونهم أمواتاً وإن توارد عليهم في تلك الحالة أطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما أشير إليه آنفاً ثم لما كان المقام في الدنيا قد يطول جاء بثم حرف التراخي فقال : {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم وكون الأمانة من دلائل القدرة ظاهر وأما كونها من النعم فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية التي هي الحيوان الأبدي والنعمة العظمى {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للسؤال في القبور فيحيي حتى يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ويقال من ربك ومن نبيك وما دينك ودل ثم التي للتعقيب على سبيل التراخي على أنه لم يرد به حياة البعث فإن الحياة يومئذٍ يقارنها الرجوع إلى الله بالحساب والجزاء وتتصل به من غير تراخ فلا يناسب ثم إليه ترجعون ودلت الآية على إثبات عذاب القبر وراحة القبر كما في "التيسير" {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الحشر لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر وإليه تنشرون من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.
فإن قيل إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون.
قلت تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل به على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر أن أحياهم أو لا قدر أن يحييهم ثانياً فإن بدأ الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 89
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم} هذا بيان نعمة أخرى أي : قدر خلقها لأجلكم ولانتفاعكم بها في دنياكم ودينكم لأن الأشياء كلها لم تخلق في ذلك الوقت {مَّا فِى الأرْضِ} أي : الذي فيها من الأشياء {جَمِيعًا} نصب حالاً من الموصول الثاني وقد يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة كما في "الكواشي".
وقال في "التيسير" : أهل الإباحة من المتصوفة الجهلة حملوا اللام في لكم في قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم} على الإطلاق والإباحة على الإطلاق وقالوا لا حظر ولا نهي ولا أمر فإذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة سقطت الخدمة وزالت الحرمة فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه ولا يمنعه ما يريده ويطلبه وهذا منهم كفر صريح وقد نهى الله تعالى وأمر وأباح وحظر ووعد وأوعد وبشر وهدد والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة فمن حمل هذه الآية على الإباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية انتهى كلام "التيسير".
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} قصد إليها أي : إلى خلقها بإرادته ومشيئته قصداً سوياً بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من إرادة شيء آخر في تضاعيف خلقها
90
أو غير ذلك ولا تناقض بين هذا وبين قوله : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَااهَآ} (النازعات : 30) لأن الدحو البسط.
وعن الحسن خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر أي : الحجر ملء الكف عليها دخان يلتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه ثم بسط منه الأرض كذا في "الكواشي".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أول ما خلق الله جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت ثم ثار منها دخان فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء قالوا فالسماء من دخان خلقت وبريح ارتفعت وبإشارة تفرقت وبلا عماد قامت وبنفخة تكسرت {فَسَوَّااهُنَّ} أي : أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لأنه سواهن بعد أن لم يكن كذلك والضمير فيه مبهم فسر بقوله تعالى : {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فهو نصب على أنه تمييز نحو ربه رجلاً.
قال سلمان : هي سبع : اسم الأولى رقيع وهي من زمردة خضراء ، واسم الثانية أرفلون وهي من فضة بيضاء ، والثالثة قيدوم وهي من ياقوتة حمراء ، والرابعة ماعون وهي من درة بيضاء ، والخامسة دبقاء وهي من ذهب أحمر ، والسادسة وفناء وهي من ياقوتة صفراء ، والسابعة عروباء وهي من نور يتلألأ(1/71)
جزء : 1 رقم الصفحة : 89
{وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} فيه تعليل كأنه قال ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان علمياً فإن إتقان الأفعال وأحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تفتتت وتكسرت وتبددت أجزاؤها واتصلت بما يشاكلها كيف يحمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان.
وفي هذه الآية إشارة إلى مراتب الروحانيات فالأول : عالم الملكوت الأرضية والقوى النفسانية ، والثاني : عالم النفس ، والثالث : عالم القلب ، والرابع : عالم العقل ، والخامس : عالم السر ، والسادس : عالم الروح ، والسابع : عالم الخفاء الذي هو السر الروحي ، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بقوله : سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض وطرقها الأحوال والمقامات كالزهد والتقوى والتوكل والرضى وأمثالها.
واعلم أن المراتب اثنتا عشرة على عدد السموات والعروش الخمسة.
وكان الشيخ الشهير بافتادة أفندي قدس سره يقول للتوحيد : اثنا عشر باباً فالجلوتية يقطعونها بالتوحيد لأن سرهم في اليقين والخلوتية يقطعونها بالأسماء لأن سرهم في البرزخ وهم يقولون جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات وذلك لأن الجنات على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما سبع فإذا كان أربع منها لأهل اليقين أعني الجلوتية فالثلاث لأهل البرزخ أعني الخلوتية وهي الأفعال والصفات والذات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 89
وفي "التأويلات النجمية" : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} إما خطاب توحيد للمؤمنين أي أتكفرون بالله وبأنبيائه لأنكم {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} ذرات في صلب آدم {فَأَحْيَـاكُمْ} بإخراجكم من صلته وأسمعكم لذيذ خطاب ألست بربكم وأذاقكم لذات الخطاب ووفقكم للجواب بالصواب حتى قلتم بلى رغبة لا رهبة {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بالرجعة إلى أصلاب آبائكم وإلى عالم الطبيعة الإنسانية {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ببعثة الأنبياء وقبول دعوتهم
91
{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بدلالة الأنبياء وقدم التوحيد على جادة الشريعة إلى درجات الجنات وإما خطاب تشريف للأنبياء والأولياء أي : أتكفرون وكنتم أمواتاً في كتم العدم فأحياكم بالتكوين في عالم الأرواح ورشاش النور فخمر طينة أرواحكم بماء نور العناية وتخمير يد المحبة بأربعي صباح الوصال ثم يميتكم بالمفارقة عن شهود الجمال إلى مقبرة الحس والخيال ثم يحييكم أما الأنبياء فبنور نور الوحي وأما الأولياء فبروح روح نور الإيمان ثم إليه ترجعون أما الأنبياء فبالعروج وأما الأولياء فبالرجوع بجذبات الحق كما قال تعالى : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} (الفجر : 28) فلما أثبت أن الرجوع إليه أمر ضروري إما بالاختيار كقراءة يعقوب ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم وأما بالاضطرار كقراءة الباقين أشار إلى أن الذي ترجعون إليه {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} أي : ما خلقكم لشيء وخلق كل شيء لكم بل خلقكم لنفسه كما قال تعالى : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} (طه : 41) معناه لا تكن لشيء غيري فإني لست لشيء غيرك فبقدر ما تكون لي أكون لك كما قال عليه السلام : "من كانكان الله له" وليس لشيء من الموجودات هذا الاستعداد أي : أن يكون هوعلى التحقيق وأن يكون الله له وفي هذا سر عظيم وإفشاء سر الربوبية كفر فلا تشتغل بما لك عمن أنت له فتبقى بلا هو {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ} فيه إشارة إلى أن وجود السموات والأرض كان تبعاً لوجود الإنسان {وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} أي : عالم بخلق كل شيء خلقه ولأي شيء خلقه فكل ذرة من مخلوقاته تسبح بحمد ذاته وصفاته وتشهد على أحديته وصمديته وتقول : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ، قال المولى الجامي قدس سره :
دوجهان جلوكاه وجدت تو
شهد الله كواه وحدت تو
جزء : 1 رقم الصفحة : 89
{وَإِذْ} مفعول اذكر مقدرة أي : اذكر لهم وأخبر وقت {قَالَ رَبُّكَ} وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب الذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عياناً {لِلْمَلَـائِكَةِ} اللام للتبليغ وتقديم الجار والمجرور في هذا الباب مطرد لما في المقول من الطول غالباً مع ما فيه من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر.
والملائكة جمع ملك والتاء لتأكيد تأنيث الجماعة وسموا بها فإنهم وسائط بين الله وبين الناس فهو رسله لأن أصل ملك ملأك مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة.
(1/72)
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
والملائكة عند أكثر المسلمين أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والدليل أن الرسل كانوا يرونهم كذلك.
وروي في شرح كثرتهم أن بني آدم عشر الجن وهما عشر حيوانات البر والكل عشر الطيور والكل عشر حيوانات البحار وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة ثم كل أولئك في مقابلة الكرسي نزر قليل ثم جمع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس وما منه من مقدار شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء في مقابلة
92
الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ثم ملائكة اللوح الذي هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفيات عباداتهم إلا باريهم العليم الخبير على ما قال تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} (المدثر : 31) وروي أنه صلى الله عليه وسلّم حين عرج به إلى السماء رأى ملائكة في موضع بمنزلة شرف يمشي بعضهم تجاه بعض فسأل رسول الله جبريل عليهما السلام إلى أين يذهبون فقال جبريل عليه السلام : "لا أدري إلا أني أراهم منذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحداً منهم منذ كم خلقت؟ فقال : لا أدري غير أن الله تعالى يخلق في كل أربعة آلاف سنة كوكباً وقد خلق منذ ما خلقني أربعمائة ألف كوكب فسبحانه من إله ما أعظم قدره وما أوسع ملكوته" ، وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض والجن هم بنو الجان والجان أبو الجن كآدم أبو البشر وخلق الله الجان من لهب من نار لا دخان لها بين السماء والأرض والصواعق تنزل منها ثم لما سكنوا فيها كثر نسلهم وذلك قبل آدم بستين ألف سنة فعمروا دهراً طويلاً في الأرض مقدار سبعة آلاف سنة ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم ملائكة سماء الدنيا وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل وكان أكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض حتى هزموا الجن وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحور وشعوب الجبال وسكنوا الأرض وصار أمر العبادة عليهم أخف لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السموات يكون خوفهم أشد وملائكة السماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان له جناحان من زمرد أخضر وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه وأيضاً كل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها فقال الله تعالى له ولجنوده : {إِنِّي جَاعِلٌ} أي : مصير {فِي الأرْضِ} دون السماء لأن التباغي والتظالم كان في الأرض {خَلِيفَةً} وهو آدم عليه السلام لأنه خلف الجن وجاء بعدهم ولأنه خليفة الله في أرضه أي : أريد أن أخلق في الأرض بدلاً منك ورافعكم إلي فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
واعلم أن الله تعالى يحفظ العالم بالخليفة كما يحفظ الخزائن بالختم وهو القطب الذي لا يكون في كل عصر إلا واحداً فالبدء كان بآدم عليه السلام والختام يكون بعيسى عليه السلام والحكمة في الاستخلاف قصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقى أمره بغير واسطة لأن المفيض تعالى في غاية التنزه والتقدس والمستفيض منغمس غالباً في العلائق الدنيئة كالأكل والشرب وغيرهما والعوائق الطبيعية كالأوصاف الذميمة فالاستفاضة منه إنما تحصل بواسطة ذي جهتين أي : ذي جهة التجرد وجهة التعلق وهو الخليفة أياً كان ولذا لم يستنبىء الله ملكاً فإن البشر لا يقدر على الاستفادة منه لكونه خلاف جنسه ألا يرى أن العظم لما عجز عن أخذ الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد جعل الله تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من اللحم ويعطي العظم وجعل السلطان الوزير بينه وبين رعيته إذ هم أقرب إلى قبولهم منه وجعل
93
المستوقد الحطب اليابس بين النار وبين الحطب الرطب.
وفائدة قوله تعالى : {لِلْمَلَائكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} أربعة أمور :
الأول : تعليم المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة ، قال في "المثنوي" :
مشورت إدراك وهشياري دهد
عقلها مر عقل را يارى دهد
كفت يغمبر بكم أي : رأى زن
مشورت كه المستشار مؤتمن
ويقال : أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب وأفره الدواب لا يستغني عن السوط وأورع النساء لا تستغني عن الزوج.(1/73)
والثاني : تعظيم شأن المجعول بأن بشر بوجوده سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه.
والثالث : إظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وهو قوله : {أَتَجْعَلُ} الخ وجوابه وهو قوله : {إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} الخ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
والرابع : بيان أن الحكمة تقتضي ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير كقطع العضو الذي فيه آكلة شر قليل وسلامة جميع البدن خير كثير فلو لم يقطع ذلك العضو سرت تلك الآفة إلى جميع البدن وأدت إلى الهلاك الذي هو شر كثير {قَالُوا} استئناف كأنه قيل فما ذا قالت الملائكة حينئذٍ فقيل قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي : الأرض {مَن يُفْسِدُ فِيهَا} كما أفسدت الجن وفائدة تكرار الظرف تأكيد الاستبعاد {وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} أي : يصبها ظلماً كما يسفك بنو الجان والتعبير عن القتل بسفك الدماء لما أنه أقبح أنواع القتل.
قال بعض العارفين الملائكة الذين نازعوا في آدم ليسوا من أهل الجبروت ولا من أهل الملكوت السماوية فإنهم لغلبة النورية عليهم وإحاطتهم بالمراتب يعرفون شرف الإنسان الكامل ورتبته عند الله وإن لم يعرفوا حقيقته كما هي بل نازعت ملائكة الأرض والجن والشياطين الذين غلبت عليهم الظلمة والنشأة الموجبة للحجاب وفي قوله تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} بتخصيص الأرض بالذكر وإن كان خليفة في العالم كله في الحقيقة هو إيماء أيضاً بأن ملائكة الأرض هم الطاعنون إذ الظن لا يصدر إلا ممن هو في معرض ذلك المنصب وأهل السموات مدبرات للعالم العلوي فما قالت الملائكة الأرضية إلا بمقتضى نشأتهم التي هم عليها من غبطة منصب الخلافة في الأرض والغيرة على منصب ملكهم وتعبدهم بما هم عليه من التسبيح والتقديس فكل إناء يترشح بما فيه وأما الاعتراض على فعل الحكيم والنزاع في صنعه عند حضرته فمعفو عنه لكمال حكمته وإتقان صنعته ، قال في "المثنوي" :
زانكه أين دمها اكر نالا يقست
رحمت من بر غضب هم سابقست
ازي إظهار أين سبق أي : ملك
درتو بنهم داعيه اشكال وشك
تابكويي ونكير م ر تو من
منكر حلمم نيارد دم زدن
صد در صد ما در اندر حلم ما
هر نفس زايد درافتد درفنا
حلم ايشان كف بحر حلم ماست
كف رود آيد ولى دريا بجاست
وفي "الفتوحات" أن هاروت وماروت من الملائكة الدين نازعوا آدم ولأجل هذا ابتلاهما الله تعالى بإظهار الفساد وسفك الدماء فافهم سر قوله عليه السلام : "دع الشماتة عن أخيك فيعافيه الله تعالى
94
ويبتليك" وأيضاً من تلك الملائكة الطاعنين بسفك الدماء الملائكة التي أرسلها الله تعالى نصرة للمجاهدين وسفك الدماء غيرة على دين الله وشرعه كذا في "حل الرموز وكشف الكنوز" {وَنَحْنُ} أي : والحال أنا {نُسَبِّحُ} أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين {بِحَمْدِكَ} على ما أنعمت علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة فالتسبيح لإظهار صفات الجلال والحمد لتذكير صفات الأنعام {وَنُقَدِّسُ} تقديساً {لَكَ} أي : نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وننزهك عما لا يليق بك فاللام للبيان كما في سقياً لك متعلقة بمصدر محذوف ويجوز أن تكون مزيدة أي : نقدسك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
قال في "التيسير" التسبيح نفي ما لا يليق به والتقديس إثبات ما يليق به.
وقال الشيخ داود القيصري قدس سره التسبيح أعم من التقديس لأنه تنزيه الحق عن نقائص الإمكان والحدوث والتقديس تنزيهه عنها وعن الكمالات اللازمة للأكوان لأنها من حيث إضافتها إلى الأكوان تخرج عن إطلاقها وتقع في نقائص التقييد انتهى وكأنه قيل أتستخلف من شأن ذريته الفساد مع وجود من ليس من شأنه ذلك أصلاً والمقصود عرض أحقيتهم منهم بالخلافة والاستفسار عما رجح بني آدم عليهم مع ما هو متوقع منهم من الفساد وكأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذٍ؟ فقيل : {قَالَ} الله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} من الحكمة والمصلحة باستخلاف آدم عليه السلام وإن من ذريته الطائع والعاصي فيظهر الفضل والعدل فلا تعترضوا على حكمي وتقديري ولا تستكشفوا عن غيبة تدبيري فليس كل مخلوق يطلع على غيب الخالق ولا كل أحد من الرعية يقف على سر الملك.
وفي الآية تنبيه للسالك بأن يتأدب بين يدي الحق تعالى وخلفائه والمشايخ والعلماء لئلا يظهر بالأنانية وإظهار العلم عندهم لأنه سالك لطريق الفناء والفاني لا يكون كطاووس تعشق بنفسه وأعجب بذاته بل لا يرى وجوده أصلاً فقد وعظنا الله تعالى بزجره للملائكة بقوله : {إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
قال السعدي :
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندربند
ند كير ازمصائب ديكران
تانكيرند ديكران زتو ند
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} إنما قال جاعل وما قال خالق لمعنيين :(1/74)
أحدهما : أن الجاعلية أعم من الخالقية فإن الجاعلية هي الخالقية وشيء آخر وهو أن يخلقه موصوفاً بصفة الخلافة إذ ليس لكل أحد هذا الاختصاص كما قال تعالى : {يا دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ} (ص : 26) أي : خلقناك مستعداً للخلافة فأعطيناكها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
والثاني : أن للجعلية اختصاصاً بعالم الأمور وهو للملكوت وهو ضد عالم الخلق لأنه هو عالم الأجسام والمحسوسات كما قال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ} (الأعراف : 54) أي : الملك والملكوت فإنه تعالى حيث ذكر ما هو مخصوص بعالم الأمر ذكره بالجعلية لامتياز الأمر عن الخلق كما قال تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (الأنعام : 1) فالسموات والأرض لما كانتا من الأجسام المحسوسات ذكرهما بالخلقية والظلمات والنور لما كانتا من الملكوتيات غير المحسوسات ذكرهما بالجعلية وإنما قلنا الظلمات والنور من الملكوتيات لقوله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة : 257) فيفيد أنها من الملكوتيات لا من المحسوسات وأما الظلمات والنور التي من المحسوسات فإنها داخلة
95
في السموات والأرض فافهم جداً فكذلك لما أخبر الله تعالى عن آدم بما يتعلق بجسمانيته ذكره بالخلقية كما قال : {إِنِّى خَالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} (ص : 71) ولما أخبر عما يتعلق بروحانيته ذكره بالجعلية وقال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} وفي إني جاعل إشارة أخرى وهو إظهار عزة آدم عليه السلام على الملائكة لينظروا إليه بنظر التعظيم ولا ينكروا عليه بما يظهر منه ومن أولاده من أوصاف البشرية فإنه تعالى يقول ولذلك خلقهم وسماه خليفة وما شرف شيء من الموجودات بهذه الخلقة والكرامة وإنما سمي خليفة لمعنيين :
أحدهما : أنه يخلف عن جميع المخلوقات ولا يخلفه المكونات بأسرها وذلك لأن الله جمع فيه ما في العوالم كلها من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات والدنيويات والأخرويات والجماديات والنباتيات والحيوانيات والملكوتيات فهو بالحقيقة خليفة كل وأكرمه باختصاص كرامة ونفخت فيه من روحي وما أكرم بها أحداً من العالمين وأشار إلى هذا المعنى بقوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) فلهذا الاختصاص ما صلح الموجودات كلها أن تكون خليفة لآدم ولا للحق تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
والثاني : أنه يخلف وينوب عن الله صورة ومعنى أما صورة فوجوده في الظاهر يخلف عن وجود الحق في الحقيقة لأن وجود الإنسان يدل على وجود موجده كالبناء يدل على وجود الباني ويخلف وحدانية الإنسان عن وحدانية الحق وذاته عن ذاته وصفاته عن صفاته فيخلف حياته عن حياته وقدرته عن قدرته وإرادته عن إرادته وسمعه عن سمعه وبصره عن بصره وكلامه عن كلامه وعلمه عن علمه ولإمكانية روحه عن لا مكانيته ولا جهتيته عن لا جهتيته فافهم إن شاء الله تعالى وليس لنوع من المخلوقات أن يخلف عنه كما يخلف آدم وإن كان فيهم بعض هذه لأنه لا يجتمع صفات الحق في أحد كما يجتمع في الإنسان ولا يتجلى صفة من صفاته لشيء كما يتجلى لمرآة قلب الإنسان صفاته وأما الحيوانات فإنها وإن كان لها بعض هذه الصفات ولكن ليس لها علم بوجود موجدها وأما الملائكة فإنهم وإن كانوا عالمين بوجود موجدهم ولكن لا يبلغ حد علمهم إلى أن يعرفوا أنفسهم بجميع صفاتها ولا الحق بجميع صفاته ولذا قالوا : {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} وكان الإنسان مخصوصاً بمعرفة نفسه بالخلافة وبمعرفة جميع أسماء الله تعالى وأما معنى فليس في العالم مصباح يستضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته في الأرض خلافة عنه إلا مصباح الإنسان فإنه مستعد لقبول فيض نور الله لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب والزجاجة في مشكاة الجسد وفي زجاجة القلب زيت الروح يكاد زيتها يضيء من صفات العقل ولو لم تمسسه نار النور وفي مصباح السر فتيلة الخفاء فإذا أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة يتجلى بنور جماله لمصباح السر الإنساني فيهدي لنوره فتيلة خفاء من يشاء فيستنير مصباحه بنار نور الله فهو على نور من ربه فيكون خيلفة الله في أرضه فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة لمستحقيها وبالعزة والقهر والغضب والانتقام لمستحقيها كما قال تعالى : {يا دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص : 26) وقال لحبيبه عليه السلام : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 128) وقال في حقه وحق المؤمنين : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّه وَالَّذِينَ مَعَه أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} ((1/75)
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
الفتح : 29) ولم يظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك وناهيك بحال هاروت وماروت لما أنكرا على ذرية آدم منّ اتباع الهوى والقتل
96
والظلم والفساد وقالا : لو كنا بدلاً منهم خلفاء الأرض ما كنا نفعل مثل ما يفعلون فالله تعالى أنزلهما إلى الأرض وألبسهما لباس البشرية وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك والقتل بغير حق والزنى وشرب الخمر.
قال قتادة فما مر عليهما شهر حتى افتتنا فشربا الخمر وسفكا الدم وزنيا وقتلا وسجدا للصنم فثبت أن الإنسان مخصوص بالخلافة وقبول فيضان نور الله فلو كان للملائكة هذه الخصوصية لما أفتتنا بهذه الأوصاف المذمومة الحيوانية والسبعية كما كان الأنبياء عليهم السلام معصومين من مثل هذه الآفات والأخلاق وإن كانت لازمة لصفاتهم البشرية ولكن بنور التجلي تنور مصباح قلوبهم واستنار بنور قلوبهم جميع مشكاة جسدهم ظاهراً وباطناً وأشرقت الأرض بنور ربها فلم يبق لظلمات هذه الصفات مجال الظهور مع استعلاء النور فالملائكة من بدو الأمر لما نظروا إلى جسد آدم شاهدوا ظلمات البشرية والحيوانية والسبعية في ملكوت الجسد بالنظر الملكوتي الملكي ولم تكن تلك الصفات غائبة عن نظرهم {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} فقولهم هذا يدل على معان مختلفة :
منها أن الله أنطقهم بهذا القول ليتحقق لنا أن هذه الصفات الذميمة في طينتنا مودعة وجبلتنا مركبة فلا نأس من مكر أنفسنا الأمارة بالسوء ولا نعتمد عليها ولا نبرئها كما قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى} (يوسف : 53).
ومنها لنعلم أن كل عمل صالح نعمله هو بتوفيق الله إيانا وفضله ورحمته وكل فساد وظلم نعمله هو من شؤم طبيعتنا وخاصية طينتنا كما قال تعالى : {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء : 79) وكل فساد وظلم لا يجري علينا ولا يصدر منافذ لك من حفظ الحق وعصمة الرب لقوله : {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى} (يوسف : 53).
ومنها لنعلم أن الله تعالى من كمال فضله وكرمه قد قبلنا بالعبودية والخلافة وقال : من حسن عنايته في حقنا للملائكة المقربين {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} لكيلا نقنط من رحمته وننقطع عن خدمته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
ومنها لنعلم أن فساد الاستعداد أمر عظيم وبناء جسيم ومبنى الخلافة على الاستعداد والقابلية وليس للملائكة هذا الاستعداد والقابلية فلا نتغافل عن هذه السعادة ونسعى في طلبها حق السعاية.
ومنها أن الملائكة إنما قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا} الخ لأنهم نظروا إلى جسد آدم قبل نفخ الروح فشاهدوا بالنظر الملكي في ملكوت جسده المخلوق من العناصر الأربعة المتضادة صفات البشرية والبهيمية والسبعية التي تتولد من تركيب أضداد العناصر كما شاهدوها في أجساد الحيوانات والسباع الضاريات بل عاينوها فإنها خلقت قبل آدم فقاسوا عليها أحواله بعد أن شاهدوها وحققوها وهذا لا يكون غيباً في حقهم وإنما يكون غيباً لنا لأنا ننظر بالحس والملكوت يكون لأهل الحس غيباً ومنا من ينظر بالنظر الملكوتي فيشاهد الملائكة والملكوتيات بالنظر الروحاني كما قال تعالى : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 75) وقال : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الأعراف : 185) فحينئذٍ لا يكون غيباً فالغيب ما غاب عنك وما شاهدته فهو شهادة فالملكوت للملائكة شهادة والحضرة الإلهية لهم غيب وليس لهم الترقي إلى تلك الحضرة وإن في الإنسان صورة من عالم الشهادة المحسوسة وروحاً من عالم الغيب الملكوتي غير المحسوس وسراً مستعداً لقبول فيض الأنوار الإلهية فبالتربية يتقرى من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وهو
97
الملكوت وبسر المتابعة وخصوصيتها يترقى من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت والعظموت وهو غيب الغيب ويشاهد بنور الله المستفاد من سر المتابعة أنوار الجمال والجلال فيكون في خلافة الحق عالماً للغيب والشهادة كما أن الله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ} (الجن : 26) أي : الغيب المخصوص به وهو غيب الغيب {أَحَدًا} يعني : من الملائكة {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن : 27) يعني : من الإنسان فهذا هو السر المكنون المركوز في استعداد الإنسان الذي كان الله يعلم منه والملائكة لا يعلمونه كما قال تعالى : {إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 92(1/76)
ومنها أن الملائكة لما نظروا إلى كثرة طاعتهم واستعداد عصمتهم ونظروا إلى نتائج الصفات النفسانية استعظموا أنفسهم واستصغروا آدم وذريته فقال : {أَتَجْعَلُ فِيهَا} يعني : في الأرض {خَلِيفَةً} مع أنه {يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} يعني : نحن لهذه الأوصاف أحق بالخلافة منه كما قال بنوا إسرائيل حين بعث الله لهم {طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} (البقرة : 247) فأجابهم الله تعالى بأن استحقاق الملك ليس بالمال إنما هو بالاصطفاء والبسطة في العلم والجسم فقال : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِا وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَه مَن يَشَآءُ} (البقرة : 247) فكذلك هنا أجابهم الله تعالى بقوله : {إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} إجمالاً ثم فصله بقوله : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ} (آل عمران : 33) وبقوله : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وبقوله : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} (ص : 75) ليعلموا أن استعداد ملك الخلافة واستحقاقها ليس بكثرة الطاعات ولكنه مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء فلما تفاخر الملائكة بطاعتهم على آدم من الله تعالى على آدم بعلم الأسماء ليعلموا أنهم ولو كانوا أهل الطاعة والخدمة فإنه أهل العقل والمنة وأين أهل الخدمة من أهل المنة فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له ليعلموا أن الحق تعالى مستغن عن طاعتهم وبمنته على آدم صار مسجوداً لهم ليعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وفي قوله : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} إشارة أخرى إلى أنه كما يدل على أن لآدم فضائل لا يعلمها الملائكة فكذلك له رذائل وأوصاف مذمومة لا يعلمها الملائكة لأنهم لا يعلمون منه أوصافاً مذمومة هي من نتائج قالبه مشتركة مع الحيوانات مودعة في ملكوته غير أوصاف مذمومة تكون من نتائج النفس الأمارة عند تتابع نظر الروح إلى النفس حالة عدم استعمال الشرع من العجب والرياء والسمعة والحسد واشتراء الحياة الدنيا بالآخرة والابتداع والزيغوغة واعتقاد السوء وغير ذلك مما لا يشاركه الحيوانات فيه انتهى ما في "التأويلات".
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسْمَآءَ كُلَّهَا} قال وهب بن منبه : لمّا أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض أي : أفهمها وألهمها أني جاعل منك خليفة فمنهم من يعطيني فأدخله الجنة ومنهم من يعصيني فأدخله النار فقالت الأرض مني تخلق خلقاً يكون للنار؟ قال : نعم فبكت فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة وبعث إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة من زواياها الأربع من أسودها وأبيضها وأحمرها وأطيبها وسهلها وصعبها وجبلها فلما أتاها جبريل ليقبض منها قالت الأرض : بالله الذي أرسلك لا تأخذ مني شيئاً فإن منافع التقرب إلى السلطان كثيرة ولكن فيه خطر عظيم كما قيل :
بدريا در منافع بيشمارست
اكرخوا هي سلامت در كنارست
98
فرجع جبريل عليه السلام إلى مكانه ولم يأخذ منها شيئاً فقال : يا رب حلفتني الأرض باسمك العظيم فكرهت أن أقدم عليها فأرسل الله ميكائيل عليه السلام فلما انتهى إليها قالت الأرض له كما قالت لجبريل فرجع ميكائيل فقال كما قال جبريل فأرسل الله إسرافيل عليه السلام وجاء ولم يأخذ منها شيئاً وقال مثل ما قال جبريل وميكائيل فأرسل الله ملك الموت فلما انتهى قالت الأرض أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن تقبض مني اليوم قبضة يكون للنار فيها نصيب غداً فقال ملك الموت : وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمراً فقبض قبضة من وجه الأرض مقدار أربعين ذراعاً من زواياها الأربع فلذلك يأتي بنوه أخيافاً أي : مختلفين على حسب اختلاف ألوان الأرض وأوصافها فمنهم الأبيض والأسود والأحمر واللين والغليظ فصار كل ذرة من تلك القبضة أصل بدن للإنسان فإذا مات يدفن في الموضع الذي أخذت منه ثم صعد إلى السماء فقال الله له : أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك؟ فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها فقال : أنت تصلح لقبض أرواح ولده.
قال في "روضة العلماء" : فشكت الأرض إلى الله تعالى وقالت : يا رب نقص مني قال الله على أن أرد إليك أحسن وأطيب مما كان فمن ثمة يحنط الميت بالمسك والغالية انتهى.
فأمر الله تعالى عزرائيل فوضع ما أخذ من الأرض في وادي نعمان بين مكة والطائف بعدما جعل نصف تلك القبضة في النار ونصفها في الجنة فتركها إلى ما شاء الله ثم أخرجها ثم أمطر عليها من سحاب الكرم فجعلها طيناً لازباً وصور منه جسد آدم.(1/77)
واختلفوا في خلقة آدم عليه السلام فقيل : خلق في سماء الدنيا وقيل في جنة من جنات الأرض بغربيتها كالجنة التي يخرج منها النيل وغيره من الأنهار وأكثر المفسرين أنه خلق في جنة عدن ومنها أخرج كما في "كشف الكنوز" ، وفي الحديث القدسي : (خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً) يعني : أربعين يوماً كل يوم منه ألف عام من أعوام الدنيا فتركه أربعين سنة حتى يبس وصار صلصالاً وهو الطين المصوت من غاية يبسه كالفخار فأمطر عليه مطر الحزن تسعاً وثلاثين سنة ثم أمطر عليه مطر السرور سنة واحدة فلذلك كثرت الهموم في بني آدم ولكن يصير عاقبتها إلى الفرح كما قيل إن لكل بداية نهاية وإن مع العسر يسراً :
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
إن مع العسر و يسرش قفاست
شاد برانم كه كلام خداست
وكانت الملائكة يمرون عليه ويتعجبون من حسن صورته وطول قامته لأن طوله كان خمسمائة ذراع الله أعلم بأي ذراع وكان رأسه يمس السماء ولم يكونوا رأوا قبل ذلك صورة تشابهها فمر به إبليس فرآه ثم قال لأمر ما خلقت ثم ضربه بيده فإذا هو أجوف فدخل فيه وخرج من دبره وقال لأصحابه الذين معه من الملائكة هذا خلق أجوف لا يثبت ولا يتماسك ثم قال لهم : أرأيتم إن فضل هذا عليكم ما أنتم فاعلون؟ قالوا : نطيع ربنا فقال إبليس في نفسه والله لا أطيعه إن فضل علي ولئن فضلت عليه لأهلكنه :
عاقبت كرك زاده كرك شود†
وجمع بزاقه في فمه وألقاه عليه فوقع بزاق اللعين على موضع سرة آدم عليه السلام فأمر الله جبريل فقور بزاق اللعين من بطن آدم فحفرة السرة من تقوير جبريل وخلق الله من تلك القوارة كلباً وللكلب ثلاث خصال فأنسه بآدم لكونه من طينة وطول سهره في الليال من أثر مس جبريل عليه السلام وعضه الإنسان وغيره وأذاه من غير خيانة من أثر بزاق اللعين وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة
99
وسمي بآدم لكونه من أديم الأرض لأنه مؤلف من أنواع ترابها ولما أراد الله أن ينفخ فيه الروح أمره أن يدخل فيه فقال الروح موضع بعيد القعر مظلم المدخل فقال له ثانياً ادخل فقال كذلك فقال له ثالثاً فقال كذلك فقال : ادخل كرهاً أي : بلا رضى واخرج كرهاً ولذا لا يخرج الروح من البدن إلا كرهاً فلما نفخه فيه مار في رأس آدم وجبينه وأذنيه ولسانه ثم مار في جسده كله حتى بلغ قدميه فلم يجد منفذاً فرجع منخريه فعطس فقال له ربه قل الحمدرب العالمين فقالها آدم فقال : يرحمك الله ولذا خلقتك يا آدم فلما انتهى إلى ركبتيه أراد الوثوب فلم يقدر فلما بلغ قدميه وثب فقال تعالى وخلق الإنسان عجولاً فصار بشراً لحماً ودماً وعظاماً وعصباً وأحشاء ثم كساه لباساً من ظفر يزداد جسده في كل يوم وهو في ذلك منتطق متوج وجعل في جسده تسعة أبواب : سبعة في رأسه أذنين يسمع بهما وعينين يبصر بهما ومنخرين يجد بهما كل رائحة وفماً فيه لساناً يتكلم به وحنك يجد به طعم كل شيء وبابين في جسده وهما قبله ودبره يخرج منهما ثقل طعامه وشرابه وجعل عقله في دماغه وشرهه في كليتيه وغضبه في كبده وشجاعته في قلبه ورغبته في رئته وضحكه في طحاله وفرحه وحزنه في وجهه فسبحان من جعله يسمع بعظم ويبصر بشحم وينطق بلحم ويعرف بدم فلما سواه ونفخ فيه من روحه علمه أسماء الأشياء كلها أي : ألهمه فوقع في قلبه فجرى على لسانه بما في قلبه بتسمية الأشياء من عنده فعلمه جميع أسماء المسميات بكل اللغات بأن أراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية وعلمه أسماء الملائكة وأسماء ذريته كلهم وأسماء الحيوانات والجمادات وصنعة كل شيء وأسماء المدن والقرى وأسماء الطير والشجر وما يكون وكل نسمة يخلقها إلى يوم القيامة وأسماء المطعومات والمشروبات وكل نعيم في الجنة وأسماء كل شيء حتى القصعة والقصيعة وحتى الجنة والمحلب.
قال في "كشف الكنوز" اتفق جم غفير من أهل العلم على أن الأسماء كلها توقيفية من الله تعالى بمعنى أن الله تعالى خلق لآدم علماً ضرورياً بمعرفة الألفاظ والمعاني وأن هذه الألفاظ موضوعة لتلك المعاني.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
وفي الخبر لما خلق الله آدم بث فيه أسرار الأحرف ولم يبث في أحد من الملائكة فخرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات فجعلها الله صوراً له ومثلت له بأنواع الأشكال.
وفي الخبر علمه سبعمائة ألف لغة فلما وقع في أكل الشجرة سلب اللغات إلا العربية فلما اصطفاه بالنبوة رد الله عليه جميع اللغات فكان من معجزاته تكلمه بجميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها أولاده إلى يوم القيامة من العربية والفارسية والرومية والسريانية واليونانية والعبرانية والزنجية وغيرها.(1/78)
قال بعض المفسرين : علم الله آدم ألف حرفة من المكاسب ثم قال : قل لأولادك إن أردتم الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدين وأحكام الشرائع وكان آدم حراثاً أي : زراعاً ونوح نجاراً وإدريس خياطاً وصالح تاجراً وداود زراداً وسليمان كان يعمل الزنبيل في سلطنته ويأكل من ثمنه ولا يأكل من بيت المال وكان موسى وشعيب ومحمد رعاة وكان أكثر عمله صلى الله تعالى عليه وسلم في البيت الخياطة.
وفي الحديث "عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل" كذا في "روضة الأخيار" وقال العلماء الأسماء في قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ}
100
تقتضي الاستغراق واقتران قوله كلها يوجب الشمول فكما علمه أسماء المخلوقات علمه أسماء الحق تعالى فإذا كان تخصيصه بمعرفة أسماء المخلوقات يقتضي أن يصح سجود الملائكة له فما الظن بتخصيصه بمعرفة أسماء الحق وما الذي يوجب له {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} أي : عرضها أي : المسميات وإنما ذكر الضمير لأن في المسميات العقلاء فغلبهم والعرض إظهار الشيء للغير ليعرف العارض منه حاله.
وفي الحديث "أنه عرضهم أمثال الذر" ولعله عز وجل عرض عليهم من أفراد كل نوع ما يصلح أن يكون أنموذجاً يتعرف منه أحوال البقية وأحكامها والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه وإظهاره الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده وهو المعلم المكرم آدم الصفي كيلا يحتج الملك وغيره بعلمه ومعرفته وذلك رحمة الله التي وسعت كل شيء.
{فَقَالَ} الله عز وجل تبكيتاً وتعجيزاً للملائكة وخطاب التعجيز جائز وهو الأمر بإتيان الشيء ولم يكن إتيانه مراداً ليظهر عجز المخاطب وإن كان ذلك محالاً كالأمر بإحياء الصورة التي يفعلها المصورون يوم القيامة ليظهر عجزهم ويحصل لهم الندم ولا ينفعهم الندم {أَنابِئُونِى} أي : أخبروني {بِأَسْمَآءِ هَاؤُلاءِ} الموجودات {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته كما ينبىء عنه مقالكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
ويقال : هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد تعلم علم اللغة لأنه تعالى أراهم فضل آدم بعلم اللغة.
ودلت أيضاً على أن المدعي يطالب بالحجة فإن الملائكة ادعوا الفضل فطولبوا بالبرهان وبحثوا عن الغيب فقرعوا بالعيان أي : لا تعلمون أسماء ما تعاينون فكيف تتكلمون في فساد من لا تعاينون فيا أرباب الدعاوى أين المعاني ويا أرباب المعرفة أين المحبة ويا أرباب المحبة أين الطاعة.
قال أبو بكر الواسطي : من المحال أن يعرفه العبد ثم لا يحبه ومن المحال أن يحبه ثم لا يذكره ومن المحال أن يذكره ثم لا يجد حلاوة ذكره ومن المحال أن يجد حلاوة ذكره ثم يشتغل بغيره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{قَالُوا} استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل فماذا قالوا حينئذٍ هل خرجوا من عهدة ما كلفوه أو لا؟ فقال : قالوا {سُبْحَانَكَ} أي : نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدس من الأمور التي من جملتها خلو أفعالك من الحكم والمصالح وهي كلمة تقدم على التوبة قال موسى عليه السلام : {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} (الأعراف : 143) وقال يونس : {سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء : 87) وسبحان اسم واقع موقع المصدر لا يكاد يستعمل إلا مضافاً فإذا أفرد عن الإضافة كان إسماً علماً للتسبيح لا ينصرف للتعريف والألف والنون في آخرها.
{لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} اعتراف منهم بالعجز عما كلفوه وإشعار بأن سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً ؛ إذ معناه لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب قابليتنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قدرة لنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا حتى لو كنا مستعدين لذلك لأفضته علينا وما مصدرية أي : إلا علماً علمتناه ومحله رفع بدل من موضع لا علم كقولك لا إله إلا الله {إِنَّكَ أَنتَ} ضمير فصل لا محل له من الإعراب.
{الْعَلِيمُ} الذي لا يخفى عليه خافية وهذه إشارة إلى تحقيقهم لقوله تعالى : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} {الْحَكِيمُ} المحكم لمبتدعاته والذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة.
وأفادت الآية أن العبد ينبغي له أن لا يغفل عن نقصانه وعن فضل الله وإحسانه ولا يأنف أن يقول لا أعلم فيما لا يعلم ولا يكتم فيما يعلم.
وقالوا : لا أدري
101
نصف العلم وسئل أبو يوسف القاضي عن مسألة فقال : لا أدري فقالوا له ترتزق من بيت المال كل يوم كذا كذا ثم تقول لا أدري فقال : إنما أرتزق بقدر علمي ولو أعطيت بقدر جهلي لم يسعني مال الدنيا ـ وحكي ـ أن عالماً سئل عن مسألة وهو فوق المنبر فقال : لا أدري فقيل له : ليس المنبر موضع الجهال فقال : إنما علوت بقدر علمي ولو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 101(1/79)
{قَالَ} استئناف أيضاً يا آدَمُ أَنابِئْهُم} أي : أعلمهم {بِأَسْمَآئِهِمْ} التي عجزوا عن علمها واعترفوا بتقاصير هممهم عن بلوغ مرتبتها {فَلَمَّآ أَنابَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} روى أنه رفع على منبر وأمر أن ينبىء الملائكة بالأسماء فلما أنبأهم بها وهم جلوس بين يديه وذكر منفعة كل شيء {قَالَ} الله تعالى : {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّيا أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} والاستفهام للتقرير أي : قد قلت لكم إني أعلم ما غاب فيهما ولا دليل عليه ولا طريق إليه {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظهرون من قولكم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} تسرون من قولكم لن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منا وهو استحضار لقوله تعالى : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} لكنه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجة عليه فإنه تعالى كما علم ما خفي عليهم من أمور السموات والأرض وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون.
وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى من السؤال وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم وهذه الآيات تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة لأن الملائكة أكثر عبادة من آدم ومع ذلك لم يستحقوا الخلافة وتدل على أن العلم شرط في الخلافة بل العمدة فيها وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر : 9) فالعلم أشرف جوهراً ولكن لا بد للعبادة مع العلم فإن العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة الثمرة فالشرف للشجرة وهو الأصل لكن الانتفاع بثمرتها.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه "حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ألف مريض وشهود ألف جنازة" فقيل : يا رسول الله أو من قراءة القرآن؟ قال : "وهل ينفع القرآن إلا بالعلم" ، قال في "المثنوي" :
خاتم ملك سليمانست علم
جملة عالم صورت وجانست علم
وفي الحديث "النظر إلى وجه الوالد عبادة والنظر إلى الكعبة المكرمة عبادة والنظر في المصحف عبادة والنظر في وجه العالم عبادة من زار عالماً فكأنما زارني ومن صافح عالماً فكأنما صافحني ومن جالس عالماً فكأنما جالسني ومن جالسني في الدنيا أجلسه الله معي يوم القيامة" وفي الحديث "من أراد أن ينظر إلى عتقاء الله من الناس فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفس محمد بيده ما من متعلم يختلف أي : يذهب ويجيء إلى باب العالم إلا يكتب الله له بكل قدم عبادة سنة ويبني بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفوراً له".
جزء : 1 رقم الصفحة : 101
وفي "التأويلات النجمية" : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} الأسماء على ثلاثة أقسام :
قسم منها أسماء الروحانيات والملكوتيات : وهي مقام الملائكة ومرتبتهم فلهم علم ببعضها واستعداد أيضاً لأن ينبؤوا بما لا علم لهم به فإن الروحانيات والملكوتيات لهم شهادة كالجسمانيات لنا.
والقسم
102
الثاني منها أسماء الجسمانيات وهي مرتبة دون مرتبتهم فيمكن إنباؤهم لأن الجسمانيات لهم كالحيوانيات بالنسبة إلينا فإنها مرتبة دون مرتبة الإنسان فيمكن للإنسان الإنباء بأحوالها.
والقسم الثالث منها الإلهيات وهي مرتبة فوق مرتبة الملائكة كما قال تعالى : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل : 50) فلا يمكن للإنسان أن ينبئهم بها ولا يمكن لهم الإنباء فوق ما علمهم الله منها لأنها غيب وليس لهم الترقي إلى عالم الغيب وهو عالم الجبروت وهم أهل الملكوت ولهم مقام معلوم لا يتجاوزون عنه كما قال جبريل عند سدرة المنتهى (لو دنوت أنملة لاحترقت) وإنما كان آدم مخصوصاً بعلم الأسماء لأنه خلاصة العالم وكان روحه بذر شجرة العالم وشخصه ثمرة شجرة العالم ولهذا خلق شخصه بعد تمام ما فيه كخلق الثمرة بعدم تمام الشجرة كما أن الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة كذلك آدم عبر على أجزاء شجرة الموجودات علوها وسفلها وكان في كل جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة فسمي كل شيء منها باسم يلائم تلك المنفعة والمضرة بعلم علمه الله تعالى وهذا من جملة ما كان الله يعلم من آدم والملائكة لا يعلمون وكان من كمال حال آدم أن أسماء الله تعالى جاءت على منفعته ومضرته فضلاً عن أسماء غيره وذلك أنه لما كان مخلوقاً كان الله خالقاً ولما كان مرزوقاً كان الله رازقاً ولما كان عبداً كان الله معبوداً ولما كان معيوباً كان الله ستاراً ولما كان مذنباً كان الله غفاراً ولما كان تائباً كان الله تواباً ولما كان منتفعاً كان الله نافعاً ولما كان متضرراً كان الله ضاراً ولما كان ظالماً كان الله عدلاً ولما كان مظلوماً كان الله منتقماً فعلى هذا قس الباقي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 101(1/80)
{وَإِذْ قُلْنَا} أي : اذكر يا محمد وقت قولنا {لِلْمَلَائِكَةِ} أي : لجمعهم لقوله تعالى : {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (الحجر : 30) {اسْجُدُوا لادَمَ} أي : خروا له والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة والمأمور به أما المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له كسجود إخوة يوسف له وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له : "لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلاتعالى ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فتحية هذه الأمة هي السلام لكن يكره الانحناء لأنه يشبه فعل اليهود كما في "الدرر" ، وكان هذا القول الكريم بعد إنبائهم بالأسماء قيل لما خلق آدم أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم فلما سألهم عن الأسماء فلم يعرفوا وسأل آدم فأخبر بها ظهر لهم أن آدم أعلم منهم ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم فلما أمرهم بالسجود ظهر لهم فضله ومن لطف الله تعالى بنا أن أمر الملائكة بالسجود لأبينا ونهانا عن السجود لغيره فقال : {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ} (فصلت : 37) نقل الملائكة المقربين إلى آدم وسجدته ونقلنا إلى سجدته وخدمته.
وفي "التأويلات النجمية" في قوله : {اسْجُدُوا} ثلاثة معان :
أحدها : أنكم تسجدون بالطبيعة الملكية والروحانية فاسجدوا لآدم خلافاً للطبيعة بل اعبدوا وأرقوا انقياداً للأمر وامتثالاً للحكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
والثاني : اسجدوا لآدم تعظيماً لشأن خلافته وتكريماً لفضيلته المخصوصة به وذلك لأن الله تعالى يتجلى فيه فمن سجد له فقد سجدكما قال تعالى في حق حبيبه عليه السلام
103
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} .
والثالث : اسجدوا لآدم أي : لأجل آدم وذلك لأن طاعتهم وعبادتهم ليست بموجبة لثوابهم وترقي درجاتهم وفائدتها راجعة إلى الإنسان لمعنيين :
أحدهما : أن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر وينزجر عن الإباء والاستكبار كيلا يلحق به اللعن والطرد كما لحق بإبليس ويكون مقبولاً ممدوحاً مكرماً كما كان الملائكة في امتثال الأمر لقوله تعالى : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم : 6).
والثاني : أن الله تعالى من كمال فضله ورحمته مع الإنسان جعل همة الملائكة في الطاعة والتسبيح والتحميد مقصورة على استعداد المغفرة للإنسان كما قال تعالى : {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرْضِ} (الشورى : 5) فلذلك أمرهم بالسجود لأجلهم وليستغفروا لهم {فَسَجَدُوا} أي : سجد الملائكة لأنهم خلقوا من نور كما قال عليه السلام : "خلقت الملائكة من نور" والنور من شأنه الانقياد والطاعة وأول من سجد جبرائيل فأكرم بإنزال الوحي على النبيين وخصوصاً على سيد المرسيلن ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة وقيل : أول من سجد إسرافيل فرفع رأسه وقد ظهر كل القرآن مكتوباً على جبهته كرامة له على سبقه إلى الائتمار.
والفاء في قوله فسجدوا لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال وعدم تلعثمهم في ذلك {إِلا إِبْلِيسَ} أي : ما سجد لأنه خلق من النار والنار من شأنها الاستكبار وطلب العلو طبعاً وللعلماء في هذا الاستثناء قولان :
الأول : إنه استثناء متصل لأن إبليس كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم متصفاً بصفاتهم فغلبوا عليه في قوله فسجدوا ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم.
وأكثر المفسرين على أن إبليس من الملائكة لأن خطاب السجود كان مع الملائكة قال البغوي وهو الأصح ، قال في "التيسير" : أما وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون فذلك دليل تصور العصيان منهم ولولا التصور لما مدحوا به لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع ولا يستنكر من الملائكة تصور العصيان فقد ذكر من هاروت وماروت ما ذكر ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
امتحان مي كرد شان زير وزبر
كي بود سرمست را زاينها خبر(1/81)
والقول الثاني : أنه منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص قال تعالى : {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف : 50) وعن الحافظ أن الجن والملائكة جنس واحد فمن طهر منهم فهو ملك ومن خبث فهو شيطان ومن كان بين بين فهو جن {أَبَى} أي : امتنع عما أمر به من السجود والإباء امتناع باختيار {وَاسْتَكْبَرَ} أي : تعظم وأظهر كبره ولم يتخذه وصلة في عبادة ربه أو تعظيمه وتلقيه بالتحية والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع أي : بالتزين بالباطل وبما ليس له وتقديم الإباء على الاستكبار مع كونه مسبباً عنه لظهوره ووضوح أثره ، قال في "المثنوي" :
اين تكبر يست غفلت ازلباب
منجمد ون غفلت يخ زآفتاب
ون خبر شد زآفتابش يخ نماند
نرم كشت وكرم كشت وتيز راند
قالوا لما سجد الملائكة امتنع إبليس ولم يتوجه إلى آدم بل ولاه ظهره وانتصب هكذا إلى
104
أن سجدوا وبقوا في السجود مائة سنة وقيل خمسمائة سنة ورفعوا رؤوسهم وهو قائم معرض لم يندم من الامتناع ولم يعزم على الاتباع فلما رأوه عدل ولم يسجد وهم وفقوا للسجود سجدواتعالى ثانياً فصار لهم سجدتان سجدة لآدم وسجدةتعالى وإبليس يرى ما فعلوه وهذا اباؤه فغير الله تعالى صفته وحالته وصورته وهيئته ونعمته فصار أقبح من كل قبيح قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد : 11) قال بعضهم جعل ممسوخاً على مثال جسد الخنازير ووجهه كالقردة وللشيطان نسل وذرية والممسوخ وإن كان لا يكون له نسل لكن لما سأل النظرة وأنظر صار له نسل.
وفي الخبر قيل له من قبل الحق : اسجد لقبر آدم أقبل توبتك واغفر معصيتك فقال : ما سجدت لقالبه وجثته فكيف أسجد لقبره وميتته.
وفي الخبر أن الله تعالى يخرجه على رأس مائة ألف سنة من النار ويخرج آدم من الجنة ويأمره بالسجود لآدم فيأبى ثم يرد إلى النار {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي : في علم الله تعالى أو صار منهم باستقباحه أمر الله إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوصل به كما أشعر به قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} (الأعراف : 12) جواباً لقوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّا أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص : 75) لا بترك الواجب وحده ومذهب أهل السنة أن الشقي قد يسعد والسعيد قد يشقى فالكافر إذا أسلم كان كافراً إلى وقت إسلامه وإنما صار مسلماً بإسلامه إلا أنه غفر له ما سلف والمسلم إذا كفر والعياذ بالله كان مسلماً إلى ذلك الوقت إلا أنه حبط عمله ثم إنما قال من الكافرين ولم يكن حينئذٍ كافر غيره لأنه كان في علم الله أن يكون بعده كفار فذكر أنه كان من الكافرين أي : من الذين يكفرون بعده وهذا كما في قوله : {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمناً وهي مسألة الموافاة أي : اعتبار تمام العمر الذي هو وقت الوفاة فإذا كان العبرة بالخاتمة فليسارع العبد إلى الطاعات فكل ميسر لما خلق له خصوصاً في آخر السنة وخاتمتها كي يختم له الدفتر بالعمل الصالح.
قالت رابعة العدوية لسفيان الثوري رحمهما الله : إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعلم واعتبر ولا تقل ذهب لي درهم ودينار وسقط لي مال وجاه بل قل ذهب يومي ماذا عملت فيه فإن باليوم ينقضي العمر.
واحتضر عابد فقال ما تأسفي على دار الأحزان وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى.
وعن العلاء بن ذياد قال : ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم ويقول : يا أيها الناس إني يوم جديد وأنا على ما يعمل في شهيد وإني لو غربت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
قيل : يا رسول الله من خير الناس؟ قال : "من طال عمره وحسن عمله" قيل : فأي الناس شر قال : "من طال عمره وساء عمله وخيف شره ولم يرج خيره" قال الحسن لجلسائه يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا بلغ قالوا : الحصاد قال : يا معشر الشباب فإن الزرع قد تركه الآفة قبل أن يبلغ وأنشد بعضهم :
105
ألا مهد لنفسك قبل موت
فإن الشيب تمهيد الحمام
وقد جد الرحيل فكن مجداً
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
لحط الرحل في دار المقام(1/82)
وعن الحسن قال ابن آدم لا تحمل هم سنة على يوم كفى يومك بما فيه فإن تكن السنة من عمرك يأتك الله فيها برزقك وإلا تكن من عمرك فأراك تطلب ما ليس لك.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ما طلعت شمس إلا وبجنبتيها ملكان يناديان وإنهما ليسمعان من على ظهر الأرض غير الثقلين يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وما غربت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان وإنهما ليسمعان من على ظهر الأرض غير الثقلين اللهم عجل لمنفق خلفاً وعجل للممسك تلفاً ، قال في "المثنوي" :
نان دهى ازبهر حق نانت دهند
جان دهى ازبهر حق جانت دهند
{وَقُلْنَا يا اَدَمُ اسْكُنْ أَنتَ} قال القرطبي في "تفسيره" : لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة وبعد إخراجه قال : يا آدم اسكن أي : لازم الإقامة واتخذها مسكناً وهو محل السكون وليس المراد به ضد الحركة بل اللبث والاستقرار {وَزَوْجُكَ} حواء يقال للمرأة الزوج والزوجة والزوج أفصح كما في "تفسير أبي الليث" وإنما لم يخاطبهما أولاً تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له {الْجَنَّةَ} هي دار الثواب بإجماع المفسرين خلافاً لبعض المعتزلة والقدرية حيث قالوا : المراد بالجنة بستان كان في أرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحاناً لآدم وأولوا الهبوط بالانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى : {اهْبِطُوا مِصْرًا} (البقرة : 61) وفيه نظر لأن الهبوط قد يستعار للانتقال إذا ظهر امتناع حقيقته واستبعادها وهناك ليس كذلك.
واختلفوا في خلقة حواء هل كانت قبل دخول الجنة أو بعده ويدل على الأول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من الذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ والزمرد وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلوهما الجنة ويدل على الثاني ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما خلق الله الجنة وأسكن فيها آدم بقي فيها وحده فألقى الله عليه النوم ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من الجانب الأيسر ووضع مكانه لحماً فخلق منه حواء ومن الناس من قال : لا يجوز أن يقال خلقت حواء من ضلع آدم لأنه يكون نقصاناً منه ولا يجوز القول بنقص الأنبياء قلنا هذا نقص منه صورة تكميل له معنى لأنه جعلها سكنه وأزال بها وحشته وحزنه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ فقالت : إني امرأة فقال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إلي وأسكن إليك فقالت الملائكة : يا آدم ما اسمها قال : حواء قالوا : ولم قال لأنها خلقت من حي أو لأنها أصل كل حي أو لأنها كانت في ذقنها حوة أي : حمرة مائلة إلى السواد وقيل في شفتها وسميت مرأة لأنها خلقت من المرء كما أن آدم سمي بآدم لأنه خلق من أديم الأرض وعاشت بعد آدم سبع سنين وسبعة أشهر وعمرها تسعمائة سنة وسبع وتسعون سنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
واعلم أن الله تعالى خلق واحداً من أب دون أم وهو حواء وآخر من أم دون أب وهو عيسى وآخر من أب وأم أي : أولاد آدم وآخر من غير أب وأم أي : آدم فسبحان من أظهر من عجائب
106
صنعه ما يتحير فيه العقول.
ثم اعلم أن الله تعالى خلق حواء لأمر تقتضيه الحكمة ليدفع آدم وحشته بها لكونها من جنسه وليبقى الذرية على ممر الأزمان والأيام إلى ساعة القيام فإن بقاءها سبب لبعثة الأنبياء وتشريع الشرائع والأحكام ونتيجة لأمر معرفة الله فإن الله تعالى خلق الخلق لأجلها.
وفي الزوجية منافع كثيرة دينية ودنيوية وأخروية ولم يذكر الله تعالى في كتابه من الأنبياء إلا المتزوجين وقالوا : إن يحيى عليه السلام قد تزوج لنيل الفضل وإقامة السنة ولكن لم يجامع لكون ذلك عزيمة في تلك الشريعة ولذلك مدحه الله بكونه حصوراً.
وفي "الأشباه" : ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تلك العبادة لا تستمر في الجنة إلا الإيمان والنكاح.
قيل : فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد وركعة من المتأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب هذا كله لكون التزوج سبباً لبقاء النسل وحفظاً من الزنى والترغيب في النكاح يجري إلى ما يجاوز المائة الأولى من الألف الثاني كما قال عليه السلام : "إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة بعد الألف فقد حلت العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال" وذلك لأن الخلق في المائتين أهل الحرب والقتل فتربية جرو حينئذٍ خير من تربية ولد وأن تلد المرأة حية خير من أن تلد الولد ، كما قال السعدي :
زنان بار دار اي مرد هشيار
اكر وقت ولادت مار زايند
ازان بهتر بنزديك خردمند
كه فرزندان نا هموار زايند
جزء : 1 رقم الصفحة : 103(1/83)
{وَكُلا مِنْهَا} أي : من ثمار الجنة وجه الخطاب إليهما إيذاناً بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له في الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ثم معنى الأمر بهذا والشغل به مع أنه اختصه واصطفاه وللخلافة أبداه أنه مخلوق والذي يليق بالخلق هو السكون بالخلق والقيام باستجلاب الحظ.
{رَغَدًا} أي : أكلاً واسعاً رافهاً بلا تقدير وتقتير {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي : مكان من الجنة شئتما وسع الأمر عليهما إزاحة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر.
{وَلا تَقْرَبَا} بالأكل ولو كان النهي عن الدنو لضمت الراء {هَاذِهِ الشَّجَرَةَ} الشجرة نصب على أنه بدل من اسم الإشارة أو نعت له بتأويلها بمشتق أي : هذه الحاضرة من الشجرة أي : لا تأكلا منها وإنما علق النهي بالقرآن منها مبالغة في تحريم الأكل ووجوب الاجتناب عنه والمراد بها البر والسنبلة وهو الأشهر والأجمع والأنسب عند الصوفية لأن النوع الإنساني ظهر في دور السنبلة وعليها من كل لون وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وأشد بياضاً من الثلج كل حبة من حنطتها مثل كلية البقرة وقد جعلها الله رزق أولاده في الدنيا ولذلك قيل تناول سنبلة فابتلى بحرث السنبلة أو المراد الكرم ولذلك حرمت علينا أو التين ولهذا ابتلاه الحق بلباس ورقها كما ابتلاه بثمرها وهو البلاء الحسن وقيل غير ذلك والأولى عدم تعيينها لعدم النص القاطع {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} مجزوم على أنه معطوف على تقربا أو منصوب على أنه جواب للنهي والمعنى على الأول لا يكن منكما قربان الشجرة وكونكما من الظالمين وعلى الثاني أن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين وأيّا ما كان فالقرب أي : الأكل منها سبب لكونهما من الظالمين أي : الذين ظلموا
107
أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله.
قال القرطبي : قال بعض أرباب المعاني في قوله ولا تقربا إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة وأن سكناهما فيها لا يدوم لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى والدليل على هذا قوله تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30) فدل على خروجه منها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
قال الشيخ نجم الدين قدس سره أن آدم خاطبه مولاه خطاب الابتلاء والامتحان والنهي نهي تعزز ودلال كأنه قال : يا آدم أبحت لك الجنة وما فيها إلا هذه الشجرة فإنها شجرة المحبة والمعرفة والمحبة مطية المحنة وأن منعه منها كان تحريضاً على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع فسكنت نفس آدم إلى حواء وإلى الجنة وما فيها إلا إلى الشجرة المنهي عنها لأنها كانت مشتهى القلب وكان للنفس فيها حظ ولا يزال يزداد توقانه إليها فيقصدها حتى تناول منها فظهر سر الخلافة والمحبة والمحنة والتحقق بمظاهر الجمال والجلال كالتواب والغفور والعفو والقهار والستار.
والحاصل أنه لما علم الله تعالى أنه يأكل من الشجرة نهاه ليكون أكله عصياناً يوجب توبة ومحبة وطهارة من تلوث الذنب كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة : 222) فأورثه ذلك النهي عن أكل الشجرة عصياناً بسبب النسيان ثم توبة بسبب العصيان ثم محبة بسبب التوبة ثم طهارة بسبب المحبة كما ورد في الخبر "إذا أحب الله عبداً لم يضره الذنب" أي : حفظه من الذنب وإذا وقع فيه وفقه للتوبة والندامة وكل زلة عاقبتها التوبة والتشريف والاجتباء فقيل : هي زلة تنزيه واستحقاق آدم اللوم بالنهي التنزيهي من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قال مرجع طريقتنا الجلوتية الشيخ الشهير بالهدائي قدس سره المراد بالدعوة إلى الجنة الدعوة إلى مقام الروح في وجود بني آدم كأنه قال لقلب الإنسان : يا آدم القلب اسكن أنت وزوجك وهي النفس الإنسانية في الروح بالطاعات والعبادات {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي : كلا من المعارف الإلهية لأن الروح مقام المعرفة التي تحصل بسبب الطاعات والعبادات.
{حَيْثُ شِئْتُمَا} أي : عمل أحببتما من الخيرات والصالحات.
{وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ} أي : شجرة المخالفة فإن هذا الخطاب لما كان يشمل عامة العباد إلى يوم القيامة لم ينحصر في آدم وحواء عليهما السلام فينبغي للمؤمن أن يترقى إلى الله تعالى بسبب الطاعات والعبادات ويجتنب عن المخالفات حتى لا يقع في المهالك والدركات ، قال في "المثنوي" :
داروى مردى بخور اندر عمل
تا شوى خورشيد كرم اندر حملجهدكن تانور تو رخشان شود
تا سلوك وخدمتت آسان شودتا جلا باشد مران آيينه را
جزء : 1 رقم الصفحة : 103(1/84)
كه صفا زايد ز طاعت سينه را {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي : أذهب آدم وحواء وأبعدهما عن الجنة يقال زال عني كذا إذا ذهب والإزلال والزلة بالفتح الخطأ وهو الزوال عن الصواب من غير قصد والمقصود حملهما على الزلة بطريق التسبب وهو بالوسوسة والغرور والدعاء.
فإن قلت : إبليس كافر والكافر لا يدخل الجنة فكيف دخل هو؟ قلت : منع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخلها الملائكة ولم يمنع من الدخول للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء
108
{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم والكرامة ولم يقصد إبليس إخراج آدم من الجنة وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد فلم يبلغ مقصده قال الله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 122) قال الشيخ صدر الدين قدس سره في "الفكوك" لما سمع آدم قول إبليس : {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (الأعراف : 20) صدقه هو وزوجته.
وهذه القضية تشتمل على أمرين مشكلين : لم أر أحداً تنبه لهما ولا أجابني أحد من أهل العلم الظاهر والباطن عنهما وهو أنه عليه السلام بعد سجود الملائكة له بأجمعهم ومشاهدة رجحانه عليهم بذلك وبعلم الأسماء والخلافة ووصية الحق له كيف أقدم على المخالفة وتسوف بقول إبليس إلا أن تكونا ملكين وكيف لم يعلم أيضاً أن من دخل الجنة المعرفة بلسان الشريعة لم يخرج منها وأن النشأة الجنانية لا تقبل الكون والفساد فهي لذاتها تقتضي الخلود وكأن هذه الحال تدل دلالة واضحة على أن الجنة التي كان فيها ليست الجنة التي عرضها السموات والأرض والتي أرضها الكرسي الذي هو الفلك الثامن وسقفها عرش الرحمن فإن تلك الجنة لا يخفى على من دخلها أنها ليست محل الكون والفساد ولا أن يكون نعيمها موقتاً ممكن الانقطاع فإن ذلك المقام يعطي بذاته معرفة ما تقتضيه حقيقته وهو عدم انقطاع نعيمها بموت أو غيره كما قال الله تعالى : {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود : 108) أي : غير منقطع ولامتناه فافهم فحال آدم وحواء في هذه القضية كحال بني إسرائيل الذين قال الله في حقهم : {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌا اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} (البقرة : 61) الآية ولهذه المناسبة والمشاركة أردف الحق قصة آدم في سورة البقرة بقصة موسى وبني إسرائيل مع ما بينهما من طول المدة فراعى سبحانه في ذلك المضاهاة في الفعل والحال دون الزمان لهذا من أسرار القرآن انتهى كلام الشيخ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
فإن قلت : ما الحكمة في أن الله تعالى لم يخلق الإنسان في الجنة ابتداء ولم ابتلاه بالخروج إلى الدنيا؟ قلت : تعظيم النعم على العباد واجب فلو لم يخلقوا في الدنيا ابتداء ما عرفوا قدر الجنة وقيل : ليكونوا في الجنة على الجزاء لا على الابتداء وليأمنوا الزوال وقيل : خلقنا في الدنيا ليميز الله الخبيث من الطيب والمطيع من المخالف لاقتضاء الصفات الجلالية لأن الجنان ليست من مظاهر الجلال ولو خلقنا وبقينا في الجنة لما ظهر فينا صفات الجلال كما لم تظهر في الملك فالحكمة الإلهية اقتضت خلق الإنسان في الدنيا وظهور المخالفة منه ليظهر فيه الرحمة والغفران فلو بقي آدم في الجنة لفاته نصف الكمال الذي هو التجليات القهرية فخرج ليتحقق بمظاهر أسماء الجمال والجلال ثم يرد إلى عالم الجنان كاملاً مكملاً بأنواع الفضائل والكمالات والمقصود أيضاً كما سبق تميز الخبيث من الطيب وقد قدر الله تعالى أن يخرج من صلبه سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وخمر طينته بتراب كل مؤمن وعدو فأخرجه إلى الدنيا ليخرج من ظهره الذين لا نصيب لهم في الجنة.
قال الشيخ الكامل المكمل علي رده في هامش "كشف الكنوز وحل الرموز" وهو كتاب فريد في فنه وجدت تذكرة السؤال من بعض الملاحدة على كرسي سيدي ابن نور الدين في مجلس وعظ بجامع أيا صوفية من كلام خواجه حافظ شيرازي :
من ملك بودم وفردوس برين جايم بود
آدم آورد درين دير خراب آبادم
109(1/85)
فأجاب الشيخ بديهة وفهم مراد الملحد عن السؤال فقال : أنت أخرجت آدم من الجنة حيث هجت في صلبه باستعداد الفساد والإلحاد ولو لم يخرج أبونا آدم لبقيت الملاحدة والفجرة في الجنة فاقتضت غيرة الحق خروجه.
وسئل أبو مدين قدس سره عن خروج آدم من الجنة على وجه الأرض ولم تعدى في أكل الشجرة بعد النهي فقال : لو كان أبونا يعلم أنه يخرج من صلبه مثل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لصار يأكل عرق الشجرة فكيف ثمرها ليسارع في الخروج على وجه الأرض ليظهر الكمال المحمدي والجمال الأحمدي.
وسأل خليل الرحمن صلوات الله على نبينا وعليه فقال : يا رب لِمَ أخرجت آدم؟ فقال : أما علمت أن جفاء الحبيب شديد.
وقال مرجع طريقتنا الجلوتية الشيخ الشهير بافتاده أفندي سر خروج آدم من الجنة أنه رأى مرتبة من مراتب التوحيد أعلى من مرتبته التي هو فيها فسألها من الله تعالى؟ فقيل له : لا تصل إليها إلا بالبكاء فأحب آدم أن يبكي فقيل : إن الجنة ليست موضع البكاء بل هي موضع السرور فطلب أن ينزل إلى الدنيا فكون ما صدر عنه ذنباً بالنسبة إليه باعتبار قصور مرتبته عن المرتبة المطلوبة على نهج حسنات الأبرار سيئات المقربين كذا في "واقعات الهدائي".
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
قال الشيخ نجم الدين قدس سره : والإشارة أن آدم عليه السلام أصبح محمود العناية مسجود الملائكة متوجاً بتاج الكرامة ملبساً بلباس السعادة في وسطه نطاق القربة وفي جيده طوق الزلفة لا حد فوقه في الرتبة ولا شخص معه في الرتبة يتوالى عليه النداء كل لحظة يا آدم فلما جاء القضاء ضاق الفضاء ، قال في "المثنوي" :
ون قضا آيد شود دانش بخواب
مه سيه كردد بكيرد آفتاب
فلم يمس حتى نزع لباسه وسلب استئناسه تدفعه الملائكة بعنف أن أخرج بغير مكث ولا بحث {فَأَزَلَّهُمَا} يد التقدير بحسن التدبير {الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي : عن تلك العزة والقرابة وكان الشيطان المسكين في هذا الأمر كذئب يوسف لما أخذ بالجناية ولطخ فمه بدم كذب وإخوته قد ألقوه في غيابة الجب فأخذ الشيطان لعدم العناية ولطخ خرطومه بدم نصح كذب {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من السلامة إلى الملامة ومن الفرح إلى الترح ومن النعمة إلى النقمة ومن المحبة إلى المحنة ومن القربة إلى الغربة ومن الإلفة إلى الكلفة ومن الوصلة إلى الفرقة وكان قبل أكل الشجرة مستأنساً بكل شيء ومؤانساً مع كل أحد ولذلك سمي إنساناً فلما ذاق شجرة المحبة استوحش من كل شيء واتخذ كل أحد عدواً وهكذا شرط صحة المحبة عداوة ما سوى المحبوب فكما أن ذات المحبوب لا يقبل الشركة في التعبد كذا لا يقبل الشركة في المحبة ولهذا قال : {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وكذا كان حال الخليل في البداية يتعلق بالكوكب والقمر والشمس ويقول : {هَاذَا رَبِّى} (الأنعام : 76) فلما ذاق شجرة الخلة قال : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) إني بريء مما تشركون (الأنعام : 78) {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء : 77) {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} خطاب لآدم وحواء وجمع الضمير لأنهما أصلاً الجنس فكأنهما الجنس كله.
وقيل هو لخمسة وخامسهم الطاووس وهذا الأمر وإن انتظمهم في كلمة فما كان هبوطهم جملة بل هبطا إبليس حين لعن وهبوط آدم وحواء كان بعده بكثير إلا أن يحمل على أن إبليس أخرج منها ثانياً
110
بعدما كان يدخلها للوسوسة ودلت كلمة اهبطوا على أنهما كانا في جنة الخلد حيث أمرا بالانحدار وهو النزول من علو إلى سفل وقد سبق في الآيات السابقة ما سبق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
قال القرطبي في "تفسيره" : أن الصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نثر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطهما من الجنة فأخرجهما لأنهما خلقا منها وليكون آدم خليفة الله في الأرض ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30) وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة انتهى كلام القرطبي.
فهبوطه من الجنة هبوط التشريف والامتحان والتمييز بين قبضتي السعادة والشقاوة لأن ذلك من مقتضيات الخلافة الإلهية على ما في "كشف الكنوز".
وأكثر المفسرين على أن المعنى انزلوا استخفافاً بكم لكن القول ما قالت حذام.
قال المولى الشهير بابن الكمال في "رسالة القضاء والقدر" عتاب آدم عليه السلام في قوله تعالى : {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف : 22) عتاب تلطيف لا عتاب تعنيف وتعذيب وتنزيله من السماء إلى الأرض بقوله اهبطوا {مِنْهَا جَمِيعًا} تكميل وتبعيد تقريب كما في قول الشاعر :
سأطلب بُعْدَ الدار عنكم لتقربوا(1/86)
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} حال استغنى فيها عن الواو بالضمير أي : متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله والعدو يصلح للواحد والجمع ولهذا لم يقل أعداء فإبليس عدو لهما وهما عدو لإبليس والحية عدو لبني آدم وهم عدوها هي تلسعهم وهم يدمغونها وإبليس يفتنهم وهم يلعنونه وكذا العداوة بين ذرية آدم وحواء بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين والعداوة مع إبليس دينية فلا ترتفع ما بقي الدين والعداوة مع الحية طبيعية فلا ترتفع ما بقي الطبع ثم هذه عداوة تأكدت بيننا وبينهم لكن حزباً يكون الله معهم كان الظفر لهم ثم قوله بعضكم لبعض عدو إخبار عن كونه أي : التعادي لا أمر بتحصيله ولما قال بعضكم لبعض عدو قال آدم الحمد حيث لم يقل أنا لكم عدو والعدو هو المجاوز حده في مكروه صاحبه.
{وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي : موضع قرار على وجهها أو في القبور.
ثم المستقر ثلاثة : رحم الأم قال تعالى : {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (الأنعام : 98) أودع في صلب الأب واستقر في رحم الأم ، والثاني : الدنيا ، قال تعالى : {وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ} (البقرة : 36) والثالث : العقبى ، أما في الجنة قال تعالى : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَااِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} (الفرقان : 24) وأما في النار ، قال تعالى : {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (الفرقان : 66) الآية {وَمَتَاعٌ} أي : تمتع بالعيش وانتفاع به {إِلَى حِينٍ} إلى آخر أعماركم وهو حين الموت أو إلى القيامة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
قال بعض العلماء في قوله تعالى : {إِلَى حِينٍ} فائدة لآدم عليه السلام ليعلم إنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب ولما هبطوا وقع آدم بأرض الهند على جبل سرنديب ولذلك طابت رائحة أشجار تلك الأودية لما معه من ريح الجنة وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع فأورث أولاده الصلع ووقعت حواء بجدة وبينهما سبعمائة فرسخ والطاووس بمرج الهند والحية بسجستان أو بأصفهان وإبليس بسد يأجوج ومأجوج وسجستان أكثر بلاد الله حيات ولولا العربد
111
تأكلها وتفنى كثيراً منه لأخليت سجستان من أجل الحيات وكانوا في أحسن حال فابتلى آدم بالحرث والكسب وحواء بالحيض والحبل والطلق ونقصان العقل والميراث وجعل الله قوائم الحية في جوفها وجعل قوتها التراب وقبح رجلي الطاووس وجعل إبليس بأقبح صورة وأفضح حالة وكان مكث آدم وحواء في الجنة من وقت الظهر إلى وقت العصر من يوم من أيام الآخرة وكل يوم من أيامها كألف سنة من أيام الدنيا.
يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدوه من نفسها وأظهرت العداوة له هناك فلما أهبطوا تأكدت العداوة فقيل لها : أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك قال عليه السلام : "اقتلوا الحيات واقتلوا ذات الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل" فخصهما بالذكر مع أنهما داخلان في العموم ونبه على ذلك لسبب عظيم ضررهما وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضاً لظاهر الأمر العام وما كان في البيوت لا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام لقوله صلى الله عليه وسلّم "إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام" قال ابن الملك في "شرح المشارق" والجن لكونه جسماً لطيفاً يتشكل بشكل الحيات والجان من الحيات التي نهى عن قتلها وهي حية بيضاء صغيرة تمشي ولا تلتوي.
والصحيح أن النهي عن قتل الحيات ليس مختصاً بالمدينة بل ينهى عن قتل حيات البيوت في جميع البلاد لأن الله تعالى قال : {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ} (الإحقاف : 29) الآية والأبتر وذات الطفيتين تقتلان من غير إيذان سواء كانتا من حيات المدينة أم لا وإذا رأى أحد شيئاً من الحيات في المساكن يقول : أنشدكم بالعهد الذي أخذه عليكم نوح عليه السلام وأنشدكم بالعهد الذي أخذه عليكم سليمان عليه السلام أن لا تؤذونا فإذا رأى منها شيئاً بعد فليقتله ومن خاف من مضرة الحية والعقرب فليقرأ : {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} (الصافات : 79 ـ 80) فإنه يسلم بإذن الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 103(1/87)
واعلم أن ما كان من الحيوان أصله الأذية فإنه يقتل ابتداء لأجل أذيته من غير خلاف كالحية والعقرب والفأر والوزغ وشبهها.
وفي "حواشي الخبازي" على "الهداية" قتل الحيوان إما لدفع المضرة أو لجلب المنفعة.
قال الفقير جامع هذه المجالس الأنيقة يدخل فيه قتل نحلة العسل ودود القز ونحوهما إذا لم يمكن جلب منفعتها بدون القتل فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس بين فكيها ولو كانت تنذره ما تركها تدخل به وقال إبليس : أنت في ذمتي فأمر صلى الله عليه وسلّم بقتلها وقال : "اقتلوها وإن كنتم في الصلاة" يعني الحية والعقرب ، والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت وفي الحديث "من قتل وزغة فكأنما قتل كافراً" والوزغة من ذوات السموم وتفسد الطعام خصوصاً الملح وإذا لم تجد طريقاً إلى إفساده ارتقت السقف وألقت خرءها فيه من موضع يحاذيه فجبلتها على الخبث والإفساد.
والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها.
والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فأقبل على جيفة ونزل وكذا الحدأة والسبع العادي والكلب العقور كله في معنى الحية والأمر بقتل المضر من باب الإرشاد إلى دفع المضرة ،
112
قال السعدي قدس سره :
سنك بر دست ومار بر سر سنك
خيره رأيي بود قياس ودرنك
وقال أيضاً :
ترحم بر لنك تيز دندان
ستمكارى بود بر كو سفندان
وفي "التأويلات النجمية" : أنه لما استقرت حبة المحبة كالبذر في قلب آدم جعل الله شخص آدم مستقر قلبه وجعل الأرض مستقر شخصه وقال : {وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي : التمتع والانتفاع لبذر المحبة بماء الطاعة والعبودية إلى حين إدراك ثمرة المعرفة كقوله تعالى : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم : 25) وعلى التحقيق ما كانت ثمرة شجرة المخلوقات إلا المعرفة لقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) أي : ليعرفون وثمرة المعرفة وإن ظهرت على أغصان العبادة ولكن لا تنبت إلا من حبة المحبة كما أخبر النبي عليه السلام : "أن داود عليه السلام قال : يا رب لماذا خلقت الخلق؟ قال : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" فثبت أن بذر المعرفة هو المحبة ، قال في "المثنوي" :
آفتاب معرفت را نقل نيست
مشرق أو غير جان وعقل نيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 103
{فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَاتٍ} الفاء للدلالة على أن التوبة حصلت عقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به ومن ثمة قال القرطبي إن آدم تاب ثم هبط وإليه الإشارة بقوله تعالى : اهبطوا ثانياً ومنه يعرف أن الأمر بالهبوط ليس للاستخفاف ومشوباً بنوع سخط إذ لا سخط بعد التوبة فآدم أهبط بعد أن تاب الله عليه ومعنى تلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها فإن قلت ما هن؟ قلت قوله تعالى : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) الآية ، قال الحافظ :
زاهد غرور داشت سلامت تبرد راه
رندا زره نياز بدار السلام رفت
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قال أبونا آدم حين اقترف الخطيئة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "أن آدم قال بحق محمد أن تغفر لي قال : وكيف عرفت محمداً قال : لما خلقتني ونفخت في الروح فتحت عيني فرأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه أكرم الخلق عليك حتى قرنت اسمه باسمك فقال : نعم وغفر له بشفاعته" أو الكلمات هي قول آدم عند هبوطه من الجنة يا رب ألم تخلقني بيدك من غير واسطة؟ قال : بلى قال : يا رب ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى قال : يا رب أرأيت إن أصلحت ورجعت وتبت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم فالكلمات هي العهود الإنسانية والمواثيق الآدمية والمناجاة الربانية من الخليفة إلى حضرة الحق تعالى فتاب آدم إلى الله بالرجوع عن المعصية والاعتراف بذنبه والاعتذار لخطئه وسهوه.
{فَتَابَ عَلَيْهِ} أي : فرجع الرب عليه بالرحمة وقبول التوبة وأصل التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعاً عن المعصية إلى الطاعة وإذا وصف به
113(1/88)
الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة.
وتمام التوبة من العبد بالندم على ما كان وبترك الذنب الآن وبالعزم على أن لا يعود إليه في مستأنف الزمان وبرد مظالم العباد وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه باليد والاعتذار منه باللسان واكتفى بذكر آدم عليه السلام لأن حواء كانت تابعة له في الحكم ولذلك طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن {إِنَّه هُوَ التَّوَّابُ} الرجاع على عباده بالمغفرة أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة {الرَّحِيمُ} المبالغ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران والجملة تعليل لقوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْهِ} قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 113
مركب توبه عجائب مر كبست
بر فلك تازد بيك لحظه زستون برارند ازشماني حنين
عرش لزد از انين المذنبين قال ابن عباس رضي الله عنهما : بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً ولم يقرب آدم حواء مائة سنة.
وقال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى قالوا : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة ، قال في "المثنوي" :
ون خدا خواهد كه مان يارى كند
ميل مارا جانب زارى كندأي خنك شمي كه آن كريان أوست
وي هما يون دل كه آن بريان اوست
آخر هر كريه آخر خنده ايست
مرد آخر بين مبارك بنده ايست
باش ون دولاب نالان ثم تر
تا زصحن جان بر رويد خضر
فإذا كان حال من اقترف خطيئة دون صغيرة هذا فكيف حال من انغمس في بحر العصيان والتوبة بمنزلة الصابون فكما أن الصابون يزيل الأوساخ الظاهرة فكذا التوبة تزيل الأوساخ الباطنة العبد إذا رجع عن السيئة وأصلح عمله أصلح الله شأنه وأعاد عليه نعمته الفائتة.
عن ابن أدهم بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل ذبح عجلاً بين يدي أمه فيبست يده فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره وهو يتبصبص فأخذه ورده إلى وكره فرحمه الله لذلك ورد عليه يده بما صنع ولا ريب أن العمل الصالح يمحو الخطيئات.
وفي "التأويلات النجمية" : إن أول نبت أنبتته أمطار الإلهامات الربانية من حبة المحبة في قلب آدم وطينة الإنسانية كان نبات {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف : 23) لأنه أبصر بنور الإيمان أنه ظالم لنفسه إذ أكل حبة المحبة ووقع في شبكة المحنة والمذلة وإن لم يعنه ربه بمغفرته ويقه برحمته لم يتخلص من حضيض بشريته الذي أهبط إليه ويخسر رأس مال استعداد السعادة الأزلية ولم يمكنه الرجوع إلى ذروة مقام القربة فاستغاث إلى ربه وقال : ربنا مضطراً وكانت الحكمة في إبعاده بالهبوط هذا الاضطرار والدعاء فإنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف
114
السوء فبسابقه العناية أخذ بيده وأفاض عليه سجال رحمته {فَتَابَ عَلَيْه إِنَّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} للتائبين فأخرج من نبات الكلمات شجرة الاجتباء وأظهر على دوحتها زهرة التوبة وأثمر منها ثمرة الهداية وهي المعرفة كما قال : {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 113
{قُلْنَا} استئناف مبني على سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا وقع بعد قبول توبته فقيل قلنا : {اهْبِطُوا مِنْهَا} أي : من الجنة {جَمِيعًا} نصب على الحال من ضمير الجمع تأكيد في المعنى للجماعة من آدم وحواء وإبليس والحية والطاووس كأنه قيل اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد وكرر الأمر بالهبوط إيذاناً بتحتم مقتضاه وتحققه لا محالة ودفعاً لما عسى يقع في أمنيته عليه السلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن ذلك ولأن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فاختلف المقصود وكان يصح لو قرن المعنيان بذكر الهبوط مرة لكن اعترض بينهما كلام وهو تلقيه الكلمات ونيله قبول التوبة فأعاد الأول ليتصل المعنى الثاني به وهو الابتلاء بالعبادة والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال في "الإرشاد" : والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة وما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصداً أولياً بل إنما هو دائر على سوء اختيار المكلفين.
ثم إن في الآية دليلاً على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصية واحدة وهذا كما قال القائل :
إذا تم أمر دنا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم(1/89)
قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى} أي : أن يأتينكم والفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به {هُدَى} أي : رشد وبيان شريعة برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم والخطاب في قوله يأتينكم لآدم والمراد ذريته وإبليس وذريته لم يأتهم كتاب ولا رسول ولا يكون منهم اتباع وجواب الشرط هو الشرط الثاني مع جوابه وهو قوله تعالى : {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أي : اقتدى بشريعتي وكرر لفظ الهدى ولم يضمر بأن يقال فمن تبعه لأنه أراد بالثاني أعم من الأول وهو ما أتى به الرسل من الاعتقاديات والعمليات واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه من قبل الشرع مراعياً فيه ما يشهد به العقل من الأدلة الآفاقية والأنفسية {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروه {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات مطلوب فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع أي : لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلاً بل يستمرون على السرور والنشاط كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 114
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} عطف على من تبع الخ قسيم له كأنه قيل ومن لم يتبعه الخ وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعاً لحال الضلالة وإظهاراً لكمال قبحها وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشعار بكثرة الكفرة أي : والذين كفروا برسلنا المرسلة إليهم {وَكَذَّبُوا بِاَايَـاتِنَآ}
115
المنزلة عليهم أو كفراً بالآيات جناناً وكذبوا بها لساناً {أُوالَـائِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب {أَصْحَـابُ النَّارِ} ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها.
وفي الصحبة معنى الوصلة فسموا أصحابها لاتصالهم بها وبقائهم فيها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها {هُمْ فِيهَا} أي : في النار {خَـالِدُونَ} دائمون والجملة في حيز النصب على الحالية ففي هاتين الآيتين دلالة على أن الجنة في جهة عالية دل عليه قوله تعالى : {اهْبِطُوا مِنْهَا} وأن متبع الهدى مأمون العاقبة لقوله تعالى : {فَلا خَوْفٌ} الخ وأن عذاب النار دائم والكافر فيه مخلد وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} فإنه يفيد الحصر.
واعلم أن الشرف في اتباع الهدى كما قيل :
سك أصحاب كهف روزي ند
بي نيكان كرفت مردم شد
فالمؤمن بين أن يطيع الله فيثيبه بالنعيم وبين أن يعصيه فيعاقبه بالجحيم ومن العجب أن الجمادات وغير المكلفين من العباد يخافون عذاب الله ويقومون بحقوق الله ولا يخافه المكلفون كما روى عن مالك بن دينار رحمه الله أنه مر يوماً على صبي وهو يلعب بالتراب يضحك تارة ويبكي أخرى قال : فهممت أن أسلم عليه فامتنعت نفسي تكبراً فقلت : يا نفس كان النبي صلى الله عليه وسلّم يسلم على الصغار والكبار فسلمت عليه فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا مالك بن دينار فقلت : من أين عرفتني ولم تكن رأيتني فقال : حيث التقت روحي بروحك في عالم الملكوت عرف بيني وبينك الحي الذي لا يموت فقلت : ما الفرق بين العقل والنفس قال : نفسك التي منعتك عن السلام وعقلك الذي بعثك عليه فقلت : ما بالك تلعب بهذا التراب فقال : لأنا منه خلقنا وإليه نعود فقلت : أراك تضحك تارة وتبكي أخرى قال : نعم إذا ذكرت عذاب ربي بكيت وإذا ذكرت رحمته ضحكت فقلت : يا ولدي أي : ذنب لك حتى تبكي؟ فقال : يا مالك لا تقل هذا فإني رأيت أمي لا توقد الحطب الكبار إلا ومعه الحطب الصغار ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 115
طفل يك روزه همي داند طريق
كه بكيرم تارسد دايه شفيق
تو نمي داني كه دايه دايكان
كم دهد بي كريه شير او رايكان
كفت فليبكوا كثيراً كوش دار
تا بريزد شير فضل كردكار
(1/90)
والإشارة في تحقيق الآيتين أن الله تعالى لما ابتلى آدم بالهبوط إلى الأرض بشره بأن إلهامه ووحيه لا ينقطع عنه ولا ينقطع عن ذريته هداه بواسطة أنبيائه ووحيه وإنزال كتبه فإما يأتينكم مني هدى فمن أتاه منهم هدى من إلهامي ووحيي ورسولي وكتابي فمن تبع هداي كما تبعه آدم بالتوبة والنوح والبكاء والاستغفار وتربية بذر المحبة بالطاعة والعبودية حتى تثمر التوحيد والمعرفة فلا خوف عليهم في المستقبل من وبال إفساد بذر المحبة من طينة الصفات الحيوانية والسبعية وإبطال استعداد السعادة الأبدية باستيفاء التمتعات الدنيوية ولا هم يحزنون على هبوطهم إلى الأرض لتربية بذر المحبة إذ هم رجعوا بتبع الهداية وجذبات العناية إلى أعلى ذروة حظائر القدس كما قال تعالى : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق : 8) ثم ذكر من كفر بهداه وجعل النار مثواه فقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي : ستروا بذر المحبة بتعلقات الشهوات النفسانية وظلموا
116
على أنفسهم بتكذيب الآيات البينات من الجهالة الإنسانية حتى أفسدوا الاستعداد الفطري وكذبوا بآياتنا أي : معجزات أنبيائنا وكتبنا وما أنزلنا على الأنيباء بالوحي والإلهام والرشد في تربية بذر المحبة وتثمير الشجرة الإنسانية بثمار التوحيد والمعرفة والبلوغ إلى درجات القربات ونعيم الجنات والغرفات أولئك أصحاب النار نار جهنم ونار القطيعة {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} لأنهم خلدوا في أرض الطبيعة واتبعوا أهواءهم فما نبت بذر محبتهم بماء الشريعة فبقوا بإفساد استعدادهم في دركات الجحيم وخسران النعيم خالدين مخلدين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 115
يا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} البنون اسم للذكور والإناث إذا اجتمعوا وإسرائيل اسم يعقوب عليه السلام ومعناه عبد الله لأن إسرا بلغة العبرانية وهي لغة اليهود بمعنى العبد وإيل هو الله أي : يا أولاد يعقوب والخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلّم الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وكانوا من أولاد يعقوب وتخصيص هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفر الناس نعمة وأكثرهم كفراً بها {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} الذكر بضم الذال بالقلب خاصة بمعنى الحفظ الذي يضاد النسيان والذكر بكسر الذال يقع على الذكر باللسان والذكر بالقلب يكون أمراً بشكر النعمة باللسان وحفظها بالجنان أي : احفظوا بالجنان واشكروا باللسان نعمتي لأن النعمة اسم جنس بمعنى الجمع قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} (النحل : 18) {الَّتِى أَنْعَمْتُ} بها {عَلَيْكُمْ} وفيه إشعار بأنهم قد نسوها بالكلية ولم يخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط وتقييد النعمة بكونها عليهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ولذا قيل لا تنظر إلى من هو فوقك في الدنيا لئلا تزدري بنعمة الله عليك فإن من نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر.
قال أرباب المعاني ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى ذكره فقال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد من المنعم إلى النعمة والنعمة ما لم يحجبك عن المنعم {وَأَوْفُوا} أتموا ولا تتركوا {بِعَهْدِى} الذي قبلتم يوم الميثاق وهو عام في جميع أوامره من الإيمان والطاعة ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ما عهده تعالى إليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلّم والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً فحالاً والمراد منه الموثق والوصية والعهد هنا مضاف إلى الفاعل
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أتمم جزاءكم بحسن الإثابة والقبول ودخول الجنة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد وهو هنا مضاف إلى المفعول فإن الله عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ومن الله حقن المال والدم وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث تغفل عن أنفسنا فضلاً عن غيرنا ومن الله الفوز باللقاء الدائم كما قال القشيري {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى} في دار الحجبة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} في دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأنس والرؤية وأوفوا بعهدي بقولكم أبداً ربي ربي أوف بعهدكم بجوابكم أبداً عبدي عبدي {وَإِيَّـاىَ} نصب بمحذوف تقديره وإياي ارهبوا {فَارْهَبُونِ} فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد
117
(1/91)
لا بارهبون لأن ارهبون قد أخذ مفعوله والأصل ارهبوني لكن حذفت الياء تخفيفاً لموافقة رؤوس الآي والفاء الجزائية دالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون والرهبة خوف معه تحرز والآية متضمنة للوعد لقوله : {أُوفِ} والوعيد لقوله : {وَإِيَّـاىَ فَارْهَبُونِ} دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله للحصر المستفاد من تقديم إياي {وَءَامِنُوا} يا بني إسرائيل {بِمَآ أَنزَلْتُ} إفراد الإيمان بالقرآن بالأمر به بعد اندراجه تحت العهد لما أنه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهد أي : صدقوا بهذا القرآن الذي أنزله على محمد {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} أي : حال كون القرآن مصدقاً للتوراة لأنه نازل حسبما نعت فيها وتقييد المنزل بكونه مصدقاً لما معهم لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعاً {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ} فريق {كَافِرا بِهِ} أي : بالقرآن فإن وزر المقتدي يكون على المبتدي كما يكون على المقتدي ، قال في "المثنوي" :
هر كه بنهد سنت بد اي فتا
تادر افتد بعد أو خلق ازعما
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
جمع كردد بروى آن جمله بزه
كوسري بودست وايشان دم غزه
أي : لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون شأنه وحقيقته بطريق التلقي مما معكم من الكتب الإلهية كما تعرفون أبناءكم وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون بزمانه فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم ويجب عليكم ما لا يتوهم صدوره عنكم من كونكم أول كافر به.
ودلت الآية على أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة فكذبه يهود.
المدينة ثم بنوا قريظة وبنوا النضير ثم خيبر ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود {وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى} أي : لا تأخذوا لأنفسكم بدلاً منها.
{ثَمَنًا قَلِيلا} هي الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالنسبة إلى ما فات عنهم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان.
قيل : كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم ويهدون إليهم الهدايا ويعطونهم الرشى على تحريفهم الكلم وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع وكان ملوكهم يجرون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا فلما كان لهم رياسة عندهم ومآكل منهم خافوا أن يذهب ذلك منهم أي : من الأحبار لو آمنوا بمحمد واتبعوه وهم عارفون صفته وصدقه فلم يزالوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويغيرون نعت محمد صلى الله عليه وسلّم كما حكي أن كعب بن الأشرف قال لأحبار اليهود ما تقولون في محمد؟ قالوا : إنه نبي قال لهم : كان لكم عندي صلة وعطية لو قلتم غير هذا قالوا : أجبناك من غير تفكر فأمهلنا نتفكر وننظر في التوراة فخرجوا وبدلوا نعت المصطفى بنعت الدجال ثم رجعوا وقالوا ذلك فأعطى كل واحد منهم صاعاً من شعير وأربعة أذرع من الكرباس فهو القليل الذي ذكره الله في هذه الآية الكريمة ، قال في "المثنوي" :
بود در انجيل نام مصطفا
آن سر بيغمبران بحر صفا
بود ذكر حليها وشكل أو
بود ذكر غزو وصوم وأكل أو
{وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ} بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن حطام الدنيا وأعاده لأن معنى
118
الأول اخشوا في نقض العهد وهذا معناه في كتمان نعت محمد أو لأن الخطاب بالآية الأولى لما عم العالم والمقلد أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك وبالثانية لما خص أهل العلم أمرهم بالتقوى الذي هو منتهاه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ} عطف على ما قبله واللبس بالفتح الخلط أي : لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميز بينهما أو لا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله أو تذكرونه في تأويله لا {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} بإضمار لا أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع أي : لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه فقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل هو نهي عن التغيير وقوله وتكتموا الحق هو نهي عن الكتمان لأنهم كانوا يقولون لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلّم فاللبس غير الكتمان {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي حال كونكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون أو وأنتم تعلمون أنه حق نبي مرسل وليس إيراد الحال لتقييد المنتهى به بل لزيادة تقبيح حالهم إذ الجاهل قد يعذر.
(1/92)
وفي "التيسير" : يجوز صرف الخطاب إلى المسلمين وإلى كل صنف منهم وبيانه أيها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجور وأيها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة وكذا كل فريق.
فهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله وامتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجراً فقد دخل في مقتضى الآية قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "من تعلم علماً لا يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" أي : ريحها فمن رهب وصاحب التقوى لا يأخذ على علمه عوضاً ولا على وصيته ونصيحته صفداً بل يبين الحق ويصدع به ولا يلحقه في ذلك خوف ولا فزع قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان" وفي التنزيل : {يُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لا ـاِمٍ} (المائدة : 54) ـ حكي ـ أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فأقام بها أياماً فقال : هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا له أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له : يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال له أبو حازم : يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت مني؟ قال : أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني قال : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك قال : فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهري فقال : أصاب الشيخ وأخطأت قال سليمان : يا أبا حازم ما لنا نكره الموت فقال : لأنكم خربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب قال : أصبت يا أبا حازم فكيف القدوم غداً على الله تعالى قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال : ليت شعري ما لنا عند الله قال : اعرض عملك على كتاب الله قال : وأي مكان أجده قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 119
{إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} (الانشقاق : 13 ـ 14) قال سليمان : فأين رحمة الله يا أبا حازم قال : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف : 56) قال له سليمان : يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم؟ قال : أولوا المروة والنهي قال له سليمان : فأي الأعمال أفضل؟ قال : أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال سليمان : فأي الدعاء أسمع؟ قال : دعاء المحسن إليه للمحسن فقال : أي الصدقة أفضل؟ قال : على
119
(1/93)
السائل البائس وجهد المقل ليس فيها منّ ولا أذى قال : فأي القول أعدل قال : قول الحق عند من تخافه أو ترجوه قال : فأي المؤمنين أكيس؟ قال : رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها قال : فأي المؤمنين أحمق؟ قال : رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال سليمان : أصبت فما تقول فيما نحن فيه؟ قال : يا أمير المؤمنين اعفني قال له سليمان : لا ولكن نصيحة تلقيها إلي قال : يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم فقال رجل من جلسائه بئس ما قلت يا أبا حازم قال أبو حازم كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء لتبيننه للناس ولا تكتمونه قال سليمان : فكيف لنا أن نصلح قال : تدعون الصلف وتتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية قال له سليمان : كيف لنا بالمأخذ؟ قال : تأخذه من حله وتضعه في أهله قال له سليمان : هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا ونصيب منك؟ قال : أعوذ بالله قال : ولِمَ ذاك؟ قال : أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات قال له : ارفع إلينا حوائجك قال : تنجيني من النار وتدخلني الجنة قال له سليمان : ليس ذاك إلي قال أبو حازم : فما لي إليك حاجة غيرها قال : فادع لي قال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى قال له سليمان عظني قال أبو حازم قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قويس ليس لها وتر قال له سليمان : أوص قال سأوصيك وأوجز عظّم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب أن أنفقها ولك عندي مثلها قال : فردها عليه وكتب إليه يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً أو ردي عليك بذلاً ما أرضاها لك فكيف لنفسي أن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسقى لهما فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما فلما تولى إلى الظل قال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير وذلك أنه كان جائعاً خائفاً لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله : فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام : هذا رجل جائع قال لإحداهما : اذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت أجر ما سقيت لنا فلم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعاً مستوحشاً فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجزها وكانت ذات عجز وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني بقولك فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيئاً فقال له شعيب : اجلس يا شاب فتعش فقال له موسى : أعوذ بالله فقال شعيب : لِمَ أما أنت جائع؟ قال : بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً فقال له شعيب : لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل فإن كانت هذه المائة دينار عوضاً لما حدثت
120
جزء : 1 رقم الصفحة : 119
ونصحت فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه وإن كانت لحق لي في بيت المال فلي فيها نظراء فإن ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة.
(1/94)
قال القرطبي في "تفسيره" بعد إيراد هذه الحكاية قلت : هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء انتهى.
وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم لهذه الآية {وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى ثَمَنًا قَلِيلا} والفتوى في هذا الزمان على جواز الاستئجار لتعليم القرآن والفقه وغيره لئلا يضيع قال صلى الله عليه وسلّم "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" والآية في حق من تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجراً فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك كما إذا كان الغسال في موضع لا يوجد من يغسل الميت غيره كما في القرى والنواحي فلا أجر له لتعينه لذلك وأما إذا كان ثمة ناس غيره كما في الامصار والمدن فله الأجر حيث لم يتعين عليه فلا يأثم بالترك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته.
ويجب على الإمام أن يعين له شيئاً وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثياباً وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال : ومن أين أنفق على عيالي؟ فردوه وفرضوا له كفايته وكذا يجوز للإمام والمؤذن وأمثالهما أخذ الأجرة وبيع المصحف ليس بيع القرآن بل هو بيع الورق وعمل أيدي الكاتب.
وقالوا في زماننا تغير الجواب في بعض مسائل لتغير الزمان وخوف اندراس العلم والدين منها ملازمة العلماء أبواب السلاطين ومنها خروجهم إلى القرى لطلب المعيشة ومنها أخذ الأجرة لتعليم القرآن والأذان والإمامة ومنها العزل عن الحرة بغير إذنها ومنها السلام على شربة الخمور ونحوها فأفتى بالجواز منها خشية الوقوع فيما هو أشد منها وأضر كذا في "نصاب الأحساب" وغيره ، قال في "المثنوي" :
عاشقانرا شادماني وغم أوست
دست مزد واجرت خدمت هم أوست
غير معشوق ازتماشايي بود
عشق نبود هرزه سودايي بود
عشق آن شعله است كوون برفروخت
هركه جز معشوق باقي جمله سوخت
جزء : 1 رقم الصفحة : 119
{وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ} خطاب لبني إسرائيل أي : اقبلوها واعتقدوا فرضيتها وأدوها بشرائطها وحدوها كصلاة المسلمين فإن غيرها كلا صلاة.
{وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} كزكاة المؤمنين فإن غيرها كلا زكاة ، والزكاة من زكى الزرع إذا نما فإن إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم أو من الزكاء بمعنى الطهارة فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل.
واعلم أن الكفار لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات كالصلاة والصوم ولا يعاقبون بتركها عند الحنفية فالتكليف عندهم راجع إلى الاعتقاد والقبول {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي : في جماعاتهم فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس فإن الصلاة كالغزو والمحراب كمحل الحرب ولا بد للقتال من صفوف الجماعة فالجماعة قوة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "ما اجتمع من المسلمين في جماعة أربعون رجلاً إلا وفيهم رجل مغفور له" فالله تعالى أكرم من أن يغفر له
121
ويرد الباقي خائبين خاسرين.
وإنما فضلت صلاة الجماعة على الفذ بسبع وعشرين لأن الجماعة مأخوذة من الجمع والجمع أقله ثلاثة وصلاة الإنسان وحده بعشر حسنات وعشر حسنات فيها واحداً أصل والتسع تضعيف بفضل الله تعالى فإذا اجتمعت التضعيفات كانت سبعاً وعشرين.
قال القرطبي في "تفسيره" : وتجب على من أدمن التخلف عن الجماعة من غير عذر العقوبة.
قال أبو سليمان الداراني أقمت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة فأحدثت بها حدثاً فما أصبحت إلا احتلمت وكان الحدث أن فاتته صلاة العشاء بجماعة.
وفي الحديث "ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد فرضاً أحب إليه من الصلاة ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة لتعبد به ملائكته فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد" وينبغي للمصلي أن يبالغ في الحضور فكان السلف لو شغلهم ذكر مال يتصدقون به تكفيراً فالأصل عمل الباطن قال تعالى : {لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى} (النساء : 43) أي : من حب الدنيا أو كثرة الهموم ولا ينظر الله تعالى إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه فلا بد من دفع الخواطر ، قال في "المثنوي" :
أول أي : جان دفع شر موش كن
وانكه اندر جمع كندم كوش كن
بشنو از اخبار آن صدر صدور
لا صلاة تم إلا بالحضور
جزء : 1 رقم الصفحة : 119
(1/95)
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي في وصاياه للعارف الهدائي قدس الله سرهما : إذا شرعت في الصلاة لا تتفكر في غير إظهار العبودية وتتميمها فإنه إذا تم العبودية يحصل المقصود وأما في غير الصلاة فليكن فكرك وملاحظتك نفي نفسك وإثبات وحدانيته تعالى فإنه المقصود لتوحيد ولا شيء أفضل من التوحيد ولذلك كان أول التكاليف فبعد قبول العبد التوحيد كلف بالصلاة ثم كلف بالصوم لأن فيهما إصلاح الطبيعة وبعدهما بالزكاة وفيها إصلاح النفس بإزالة شحها ثم بالحج وفيه نفع للطبيعة من جهة وللنفس من جهة بذل المال وقدم الثلاث الأول لعمومها للأغنياء والفقراء وأما الأخيران فالفقراء سالمون منهما ثم قال : إذا كان بيت الأغنياء من الجواهر يكون بيت الفقراء من النور حتى يتمنوا أن يكونوا فقراء ، قال في "المثنوي" :
مكرهاً دركسب دنيا باردست
مكرهاً در ترك دنيا واردست
يست دنيا ازخد ا غافل شدن
نى قماش ونقره فرزند وزن
كوزه سربسته اندر آب زفت
از دل رباد فوق آب رفت
باد درويشي ودر باطن بود
بر سر آب جهان ساكن بود
وفي "التأويلات النجمية" : {وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ} بمراقبة القلوب وملازمة الخضوع والخشوع {وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} أي : بالغوا في تزكية النفس عن الحرص على الأمور الدنيوية والأخلاق الذميمة وتطهير القلب عن رؤية الأعمال السيئة وترك مطالبة ما سوى الله فإنه مع طلب الحق زيادة والزيادة على الكمال نقصان.
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي : اقتدوا في الانكسار ونفي الوجود بالمنكسرين الباذلين الوجود لنيل الموجود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 119
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} الخطاب لليهود والأمر القول لمن دونك افعل والمراد بالناس سفلتهم {بِالْبِرِّ} أي : الاعتراف بالنبي واتباع الأدلة وهو التوسع في الخير من البر الذي هو الفضاء الواسع والهمزة تقرير مع توبيخ
122
وتعجيب.
{وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وتتركونها من البر كالمنسيات لأن أصل السهو والنسيان الترك إلا أن السهو يكون لما علمه الإنسان ولما لم يعلمه والنسيان لما عزب بعد حضوره كانوا يقولون لفقرائهم الذين لا مطمع لهم فيهم بالسر آمنوا بمحمد فإنه حق وكانوا يقولون للأغنياء نرى فيه بعض علامات نبي آخر الزمان دون بعض فانتظروا الاستيفاء لما ينالون منهم ويؤخرون أمور أنفسهم فلا يتبعونه في الحال مع عزيمتهم أن يتبعوه يوماً وكذا حال من تمادى فى العصيان وهو يقول : أتوب عند الكبر والشيب وربما يفجأه الموت فيبقى في حسرة الفوت.
قال الحافظ :
ديدى آن قهقهة كبك خرامان حافظ
كه زسر نجه شاهين قضا غافل بود
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
{وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـابَ} أي : والحال أنكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته صلى الله تعالى عليه وسلم الآمرة بالإيمان به {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : ليس لكم عقل تعرفون به أنه قبيح منكم عدم إصلاح أنفسكم والاشتغال بغيركم.
والعقل في الأصل المنع والإمساك ومنه العقال الذي يشد به وظيف البعير إلى ذراعيه لحبسه عن الحراك سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل على ما يحسن ومحله الدماغ لأن الدماغ محل الحس وعند البعض محله القلب لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس وعند البعض هو نور في بدن الآدمي.
ثم هذا التوبيخ ليس على أمر الناس بالبر بل لشرك العمل به فمدار الإنكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة وهي جملة تنسون أنفسكم دون ما عطفت هي عليه وهي أتأمرون الناس بالبر ولا يستقيم قول من لا يجوز الأمر بالمعروف لمن لا يعمل به لهذه الآية بل يجب العمل به ويجب الأمر به وقد قال عليه السلام : "مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه" وهذا لأنه إذا أمر به مع أنه لا يعمل به فقد ترك واجباً وإذا لم يأمر به قد ترك واجبين فالأمر بالحسن حسن وإن لم يعمل به ولكن قلما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه ومن أمر بخير فليكن أشد الناس مسارعة إليه ومن نهى عن شيء فليكن أشد الناس انتهاء عنه.
وهذه الآية كما ترى ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوى صنيعه وعدم تأثره وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحق وتقيم غيرها لا منع الفاسق من الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر ـ يروى ـ أنه كان عالم من العلماء مؤثر الكلام قوي التصرف في القلوب وكان كثيراً ما يموت من أهل مجلسه واحداً واثنان من شدة تأثير وعظه وكان في بلده عجوز لها ابن صالح رقيق القلب سريع الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعه من حضور مجلس الواعظ فحضره يوماً على حين غفلة منها فوقع من أمر الله تعالى ما وقع ثم إن العجوز لقيت الواعظ يوماً في الطريق فقالت :
أتهدي الأنام ولا تهتدي
ألا إن ذلك لا ينفع
فيا حجر الشحذ حتى متى
(1/96)
تسن الحديد ولا تقطع
123
فلما سمعها الواعظ شهق شهقة فخر من فرسه مغشياً عليه فحملوه إلى بيته فتوفى إلى رحمة الله تعالى ، قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
واعظان كين جلوه در محراب ومنبر ميكنند
ون بخلوت ميروند آن كار ديكر ميكنند
مشكلي دارم زدانشمند مجلس باز رس
توبه فرمايان راخود توبه كمتر ميكنند
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "ليلة أسري بي مررت على ناسسٍ تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت : يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجزون نصيبهم في نار جهنم فيقال لهم : من أنتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا".
قال الأوزاعي شكت النواويس إلى الله تعالى ما نجده من جيف الكفار فأوحى الله إليها بطون العلماء السوء أنتن مما أنتم فيه.
وفي الحديث "ما من عبد يخطب خطبة إلا والله تعالى سائله عنها يوم القيامة ما أراد بها".
قال الشيخ أفتادة أفندي : لو أن واعظاً يرى نفسه خيراً من المستمعين يشكل الأمر كذا إذا لم يكن من يصغي إلى كلامه مساوياً لمن يلطم على قفاه يشكل الأمر فلذلك قال عليه السلام : "كم من واعظ يلعب به الشيطان" اللهم إلا أن يقول ينتفع مني المسلمون وإن كنت معذباً في النار فهو نوع فناء لكن يخاف أن يجد حظه في ضمنه.
وقال أيضاً : من كان يعظ الناس إما أن يعتقد أنهم يعرفون ما يعرفه أو يعتقد أنهم لا يعرفون ما يعرفه فعلى الأول لا يحتاج إلى وعظه وعلى الثاني قد أثبت لهم جهلاً ولنفسه فضلاً عليهم فهو محض كبر وبالجملة حيل النفس كثيرة لا تتيسر النجاة منها إلا بمحض لطف الله تعالى وأدنى الحال أن يلاحظ قوله عليه السلام : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاسق" فما دام لم يصل السالك إلى الحقيقة لا يتخلص من الورطة قال عليه الصلاة والسلام : "الناس كلهم سكارى إلا العالمون" الحديث والمخلصون على خطر عظيم وإنما إلا من للمخلص بالفتح وهو الواصل إلى التوحيد الحقيقي الفاني عن القهر والكرم الخارج عن حد الوجود والعدم وهو الفناء الكلي وهم الذين أريدوا بقوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الإسراء : 65) ولا بد من رعاية الشريعة في جميع المراتب فإن الكمال فيها وإلا فهو ناقص ولذلك إن المجاذيب لا يخلون عن النقصان ألا يرى أن الأنبياء عليهم السلام لم يسمع عن واحد منهم عروض السفه والجنون فالكامل في مرتبة الكمال يكون كامل العقل حتى يحس بصرير الباب في حال استغراقه اللهم أوصلنا إلى الكمال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
{وَاسْتَعِينُوا} يا بني إسرائيل على قضاء حوائجكم {بِالصَّبْرِ} أي : بانتظار الظفر والفرج توكلاً على الله تعالى أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس {وَالصَّلَواةِ} أي : التوسل بالصلاة والالتجاء إليها حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب كأنهم أي : بني إسرائيل لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من ترك الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك.
روي أنه عليه السلام "كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة".
وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما نعي له بنت وهو في سفر فاسترجع وقال عورة سترها الله ومؤونة كفاها الله وأجر ساقه الله ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى
124
راحلته وهو يقرأ واستعينوا بالصبر والصلاة.
{وَإِنَّهَا} أي : الاستعانة بهما {لَكَبِيرَةٌ} لثقيلة ساقه كقوله تعالى : {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى : 13) {إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ} أي : المخبتين الخائفين والخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب أو الخشوع بالبصر والخضوع بسائر الأعضاء وإنما لم يثقل عليهم لأنهم يستغرقون في مناجاة ربهم فلا يدركون ما يجري عليهم من المشاق والمتاعب لذلك قال صلى الله عليه وسلّم "وقرة عيني في الصلاة" لأن اشتغاله عليه السلام بالصلاة كان راحة له وكان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً.
(1/97)
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي : يوقنون لأن الظن يكون يقيناً ويكون شكاً فهو من الأضداد كالرجاء يكون أمناً وخوفاً كما في تفسير "الكواشي" {أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ} معاينوه وهو كناية عن شهود مشهد العرض والسؤال يوم القيامة وهو الوجه فيما يروى في الأخبار لقي الله وهو عليه غضبان وما يجري مجراه.
وقيل : أي : يعلمون أنهم يموتون قال النبي عليه الصلاة والسلام : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وأراد به الموت {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي : ويعلمون أنهم راجعون يوم القيامة إلى الله تعالى أي : إلى جزائه إياهم على أعمالهم وأما الذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجون الثواب ولا يخافون العقاب كانت عليهم مشقة خالصة فتثقل عليهم كالمنافقين والمرائين فالصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهم من أخلاق الأنبياء والصالحين.
قال يحيى بن اليمان : الصبر أن لا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضى بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك وهو بمنزلة الرأس من الجسد ، قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
كويند سنك لعل شود در مقام صبر
آرى شود وليك بخون جكر شود
ثم إن الله تعالى وصف جزاء الأعمال وجعل لها نهاية واحدة فقال : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ} (البقرة : 261) الآية وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر : 10) وقد وصف الله نفسه بالصبر كما في الحديث "ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى أنهم ليدعون له ولداً وأنه ليعافيهم ويرزقهم" ووصف الله بالصبر إنما هو بمعنى الحلم وهو تأخير العقوبة عن المستحقين لها.
والفرق بين الحليم والصبور أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم.
وقيل في الخشوع أتريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع في كل فرض افترض عليك فمن أظهر خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق.
قال سهل بن عبد الله لا تكون خاشعاً حتى تخشع كل شعرة على جسدك وهذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقاً متأدباً متذللاً وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان نسكاً صدقاً وخاشعاً حقاً
125
كما في "تفسير القرطبي".
وقال في "التأويلات النجمية" : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} عن شهوات النفس ومتابعة هواها {وَالصَّلَوةِ} أي : دوام الوقوف والتزام العكوف على باب الغيب وحضرة الرب {وَإِنَّهَا} أي : الاستعانة بهما {لَكَبِيرَةٌ} أمر عظيم وشأن صعب {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وهم الذين تجلى الحق لأسرارهم فخشعت له أنفسهم كما قال عليه الصلاة والسلام : "وإذا تجلى الله لشيء خضع له" وقال : {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} (طه : 108) فالتجلي يورث الإلفة مع الحق ويسقط الكلفة عن الخلق {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي : يوقنون بنور التجلي {أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ} أنهم يشاهدون جمال الحق {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} بجذبات الحق التي كل جذبة منها توازي عمل الثقلين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 122(1/98)
يا بَنِى إسرائيل اذْكُرُوا} اشكروا {نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ} بها {عَلَيْكُمْ} بإنزال المنّ والسلوى وتظليل الغمام وتفجير الماء من الحجر وغيرها وذكر النعم على الآباء إلزام الشكر على الأبناء فإنهم يشرفون بشرفهم ولذلك خاطبهم فقال تعالى {فَضَّلْتُكُمْ} ولم يقل فضلت آبائكم لأن في فضل آبائهم فضلهم اذكروا {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} من عطف الخاص على العام للتشريف أي : فضلت آباءكم على عالمي زمانهم بما منحتهم من العلم والإيمان والعمل الصالح وجعلتهم أنبياء وملوكاً مقسطين وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيروا وهذا كما قال في حق مريم : {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران : 42) أي : نساء زمانك فإن خديجة وعائشة وفاطمة أفضل منها فلم يكن لهم فضل على أمة محمد صلى الله عليه وسلّم قال تعالى في حقهم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 110) كما في "التيسير".
فالاستغراق في العالمين عرفي لا حقيقي.
قال بعضهم من آمن من أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كانت له فضيلة على غيره وكان له أجران : أجر إيمانه بنبيه وأجر اتباعه لمحمد صلى الله عليه وسلّم وقد روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "ثلاثة يعطيهم الله الأجر مرتين من اشترى جارية فأحسن تأديبها فأعتقها وتزوجها وعبد أطاع سيده وأطاع الله ورجل من أهل الكتاب أدرك النبي صلى الله عليه وسلّم فآمن به".
قال القشيري : أشهد الله بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : فضلتكم على العالمين وأشهد محمداً صلى الله عليه وسلّم فضل ربه فقال : قل بفضل الله وبرحمته وشتان بين من مشهوده فضل نفسه وبين من مشهوده فضل ربه وشهوده فضل نفسه قد يورث الإعجاب وشهوده فضل ربه يورث الإيجاب ثم إن اليهود كانوا يقولون نحن من أولاد إبراهيم خليل الرحمن ومن أولاد إسحاق ذبيح الله والله تعالى يقبل شفاعتهما فينا فرد الله عليهم فأنزل هذه الآية وقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 126
{وَاتَّقُوا} أي : واخشوا يا بني إسرائيل {يَوْمًا} يوم القيامة أي : حساب يوم أو عذاب يوم يوم فهو من ذكر المحل وإرادة الحال {لا تَجْزِى} أي : لا تقتضي فيه ولا تؤدي ولا تغني فالعائد محذوف والجملة صفة يوم {نَفْسٌ} مؤمنة {عَن نَّفْسٍ} كافرة {شَيْئًا} ما من الحقوق التي لزمت عليها وهو نصب على المفعول به وإيراده منكراً مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكلي قال تعالى : {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ} (الممتحنة : 3) وكيف تنفع وقد قال : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (عبس : 34) الآية ، قال في "المثنوي" :
ون يفر المرء آيد من أخيه
يهرب المولود يوماً من أبيه
زان شود هر دوست آن ساعت عدو
كه بت تو بود وازره مانع أو
126(1/99)
وهذا في حق الكفار فأما المؤمن فقد استثناه فقال : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 88 ـ 89) أي : خال عن الشرك {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا} أي : من النفس الأولى المؤمنة {شَفَاعَةٌ} إن شفعت للنفس الثانية الكافرة عند الله لتخليصها من عذابه والشفاعة مصدر الشافع والشفيع وهو طالب قضاء حاجة غيره مأخوذ من الشفع لأنه يشفع نفسه بمن يشفع له في طلب مراده ولا شفاعة في حق الكافر بخلاف المؤمن قال النبي عليه السلام : "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فمن كذب بها لم ينلها والآيات الواردة في نفي الشفاعة خاصة بالكفار {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا} أي : من المشفوع لها وهي النفس الثانية العاصية {عَدْلٌ} أي : فداء من مال أو رجل مكانها أو توبة تنجو بها من النار.
والعدل بالفتح مثل الشيء من خلاف جنسه وبالكسر مثله من جنسه وسمى به الفدية لأنها تساويه وتماثله وتجري مجراه {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي : يمنعون من عذاب الله تعالى ومن أيدي المعذبين فلا نافع ولا شافع ولا دافع لهم والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة والتذكير لكونها عبارة عن العباد والأناسي والنصرة ههنا أخص من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر.
ثم هذه الآية في غاية البلاغة فإنها جمعت ذكر الوجوه التي بها يتخلص المرء من النكبة التي أصابته في الدنيا وهي أربع ينوب عنه غيره في تحمل ما عليه أو يفتدي بمال فيخلص منها أو يشفع له شافع فيوهب له أو ينصره ناصر فيمنعه فقطعها الله عنهم جميعاً.
وعن عكرمة أنه قال : إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول : يا بني إني أب لك في الدنيا وقد احتجت إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول له ولده إني أتخوف مثل الذي تخوفت أنت فلا أطيق أن أعطيك شيئاً ثم يتعلق بزوجته فيقول لها فلانة إني زوج لك في الدنيا فتثني عليه خيراً فيقول لها : إني أطلب منك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين فتقول : لا أطيق ذلك إني تخوفت مثل الذي تخوفت منه فيقول الله : {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (فاطر : 18) يعني من أثقلته الذنوب لا يحمل أحد من ذنبه شيء ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 126
برفتند هر كس درود آنجه كشت
نمساند بجز نام نيكو وزشت
بر آن خورد سعدى كه بيخي نشاند
كسى برد خر من كه تخمي فشاند
وفي "التأويلات النجمية" : يا بَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ظاهره عام وباطنه خاص مع قوم منهم قد علم الله فيهم خيراً فأسمعهم خطابه في السر فذكروا نعمته التي أنعم بها عليهم وهي استعداد قبول رشاش نوره يوم خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فآمنوا بمحمد عليه السلام من خاصية قبول ذلك الرشاش كما قال عليه السلام : "فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل" {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي : بهذه النعمة أي : فضلتكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بهذه النعمة عند رش النور على من لم يصبهم ذلك النور من العالمين {وَاتَّقُوا يَوْمًا} أي : عذاب يوم يخوف الله العام بأفعاله كما قال واتقوا النار ويخوف الخاص بصفاته كقوله : {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (يس : 76) وقوله : {لِّيَسْاَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} (الأحزاب : 8) ويخوف خاص الخاص بذاته
127
ويحذركم الله نفسه وقوله : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران : 102).
{لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 48).
{وَالامْرُ يَوْمَااِذٍ} (الانفطار : 19) {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة : 48) في حق نفسها ولا في حق غيرها بغير الإذن كقوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} (البقرة : 255) {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} (البقرة : 48) أي : فداء {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَه سَوْفَ يُرَى} (النجم : 39 ـ 40) والسعي المشكور ما يكون ههنا {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} لأنهم ما نصروا الحق ههنا وقد قال الله تعالى : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 126(1/100)
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم} خطاب لبني إسرائيل أي : اذكروا وقت تنجيتنا إياكم أي : آباءكم فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم ومن عادة العرب يقولون قتلناكم يوم عكاظ أي : قتل آباؤنا آباءكم والنجو المكان العالي من الأرض لأن من صار إليه يخلص ثم سمي كل فائز ناجياً لخروجه من ضيق إلى سعة أي : جعلنا آباءكم بمكان حريز ورفعناكم عن الأذى.
{مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} واتباعه وأهل دينه ، وفرعون لقب من ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم وخاقان لملك الترك والنجاشي للحبشة وتبع لأهل اليمن ، والعمالقة الجبابرة وهم أولاد عمليق بن لاود بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام سكان الشام منهم سموا بالجبابرة وملوك مصر منهم سموا بالفراعنة ولعتوه اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتمرد فليس المراد الاستغراق بل الذين كانوا بمصر وفرعون موسى هو الوليد بن مصعب بن الريان وكان من القبط وعمر أكثر من أربعمائة سنة ، وقيل إنه كان عطاراً أصفهانياً ركبته الديون فأفلس فاضطر إلى الخروج فلحق بالشام فلم يتيسر له المقام فدخل مصر فرأى في ظاهرها حملاً من البطيخ بدرهم وفي سوقها بطيخة بدرهم فقال في نفسه إن تيسر لي أداء الديون فهذا طريقه فخرج إلى السواد فاشترى حملاً بدرهم فتوجه به إلى السوق فكل من لقيه من المكاسين أي : العشارين أخذ بطيخة فدخل البلد وما معه إلا بطيخة فباعها بدرهم ومضى بوجهه ورأى أهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى أحد سياستهم وكان قد وقع بها وباء عظيم فتوجه نحو المقابر فرأى ميتاً يدفن فتعرض لأوليائه فقال : أنا أمين المقابر فلا أدعكم تدفنونه حتى تعطوني خمسة دراهم فدفعوها إليه ومضى لآخر وآخر حتى جمع في مقدار ثلاثة أشهر مالاً عظيماً ولم يتعرض له أحد قط إلى أن تعرض يوماً لأولياء ميت فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فأبوا ذلك فقالوا : من نصبك هذا المنصب فذهبوا به إلى فرعون أي : إلى ملك المدينة فقال : من أنت ومن أقامك بهذا المقام قال : لم يقمني أحد وإنما فعلت ما فعلت ليحضرني أحد إلى مجلسك فأنبهك على اختلال حال قومك وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال فأحضره ودفعه إلى فرعون فقال : ولني أمورك ترني أميناً كافياً فولاه إياها فسار بهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر واستقامت أحوال الرعية ولبث فيهم دهراً طويلاً وترامى أمره في العدل والصلاح فلما مات فرعون أقاموه مقامه فكان من أمره ما كان وكان فرعون يوسف عليه السلام ريان وبينهما أكثر من أربعمائة سنة
جزء : 1 رقم الصفحة : 126
{يَسُومُونَكُمْ} أي : يبغونكم {سُواءَ الْعَذَابِ} وأقبحه بالنسبة إلى سائره ويريدونكم عليه ويكلفونكم الأعمال الشاقة ويذيقونكم ويديمون عليكم ذلك من سام السلعة إذا طلبها والسوم بمعنى البغاء وبغى يتعدى إلى مفعولين بلا واسطة فلذلك كان سوء العذاب منصوباً على المفعولية ليسومونكم
128(1/101)
والجملة حال من ضمير المفعول في نجيناكم والمعنى نجيناكم مسومين منهم أقبح العذاب كقولك : رأيت زيداً يضربه عمرو أي : رأيته حال كونه مضروباً لعمرو وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يخدمونه ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليهم الجزية.
وقال وهب : كانوا أصنافاً في أعمال فرعون فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وطائفة ينقلون الحجارة والطين يبنون له القصور وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر وطائفة نجارون وحدادون والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة ويؤدونها كل يوم فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهراً والنساء يغزلن الكتان وينسجن وقيل : تفسير قوله يسومونكم سوء العذاب ما بعده وهو قوله تعالى : {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} كأنه قيل ما حقيقة سوء العذاب الذي يبغونه لنا فأجيب بأنهم يذبحون أبناءكم أي : يقتلونهم والتشديد للتكثير كما يقال فتحت الأبواب.
والمراد من الأبناء هم الذكور خاصة وإن كان الاسم يقع على الذكور والإناث في غير هذا الموضع كالبنين في قوله تعالى : يا بني إسرائيل فإنهم كانوا يذبحون الغلمان لا غير وكذا أريد به الصغار دون الكبار لأنهم كانوا يذبحون الصغار {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي : يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات وذكر النساء وإن كانوا يفعلون هذا بالصغار لأنه سماهن باسم المآل لأنهن إذا استبقوهن صرن نساء بعد البلوغ ولأنهم كانوا يستبقون البنات مع أمهاتهن والاسم يقع على الكبيرات والصغيرات عند الاختلاط ، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس فأحاطت بمصر وأخرجت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة والسحرة عن رؤياه فقالوا يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن : لا يسقط على أيديكن غلام يولد في بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل القوابل فكن يفعلن ذلك حتى قيل إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثني عشر ألف صبي وتسعين ألف وليد وقد أعطى الله نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة ثم أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون عليه السلام في السنة التي لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها فلم يرد اجتهادهم من قضاء الله شيئاً وشمر فرعون عن ساق الاجتهاد وحسر عن ذراع العناد فأراد أن يسبق القضاء ظهوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 126
{وَفِى ذَالِكُم} إشارة إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء {بَلاءٌ} أي : محنة وبلية وكون استحياء نسائهم أي : استبقائهن على الحياة محنة مع أنه عفو وترك للعذاب لما أن ذلك كان للاسترقاق والاستعمال في الأعمال الشاقة ولأن بقاء البنات مما يشق
129
على الآباء ولا سيما بعد ذبح البنين {مِّن رَّبِّكُمْ} من جهته تعالى بتسليطهم عليكم {عَظِيمٌ} صفة للبلاء وتنكيرهما للتفخيم ويجوز أن يشار بذلكم إلى الإنجاء من فرعون ومعنى البلاء حينئذٍ النعمة لأن أصل البلاء الاختبار والله تعالى يختبر عباده تارة بالمنافع ليشكروا فيكون ذلك الاختبار منحة أي : عطاء ونعمة وأخرى بالمضار ليصبروا فيكون محنة فلفظ الاختبار يستعمل في الخير والشر قال تعالى : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} (الأنبياء : 35) ومعنى من ربكم أن يبعث موسى وبتوفيقه لتخليصكم منهم.
والإشارة أن النجاة من آل فرعون النفس الأمارة وهي صفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة في يوم سوء العذاب للروح الشريف بذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في أعمال القدرة الحيوانية لا يمكن إلا بتنجية الله كما قال عليه الصلاة والسلام : "لن ينجي أحدكم عمله" قيل ولا أنت يا رسول الله قال : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله" وفي ذلكم أي : في استيلاء صفات النفس على القلب والروح بلاء عظيم وامتحان عظيم بالخير والشر فمن يهده الله ويصلح باله يرجع إليه الله في طلب النجاة فينجيه الله ويهلك عدوه ومن يضلله ويخذله أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطاً.
ثم في الآية الكريمة تنبيه على أن ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الاختبار فعليه الشكر في المسار والصبر على المضار ، كما قال الحافظ :
اكر بلطف بخواني مزيد الطافست
وكر بقهر براني درون ما صافست
(1/102)
وسنته تعالى استدعاء العباد لعبادته بسعة الأرزاق ودوام المعافاة ليرجعوا إليه بنعمته فإن لم يفعلوا ابتلاهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون لأن مراده تعالى رجوع العباد إليه طوعاً وكرهاً فالأول حال الأحرار والثاني حال الأغيار.
قال داود بن رشيد من أصحاب محمد بن الحسن قمت ليلة فأخذني البرد فبكيت من العري فنمت فرأيت قائلاً يقول يا داود أنمناهم وأقمناك فتبكي علينا فما نام داود بعد تلك الليلة كذا في "روضة الأخيار" ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 126
درد شتم داد حق تا من زخواب
بر جهم هرنيم شب لا بد شتاب
تا نخسبم جمله شب ون كاوميش
دردها بخشيد حق إز لطف خويش
روى أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه أنزلت بعبدي بلائي فدعاني فماطلته بالإجابة فشكاني فقلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك ، ومن ظن انفكاك لطفه تعالى فذلك لقصور نظره في العقليات والعاديات والشرعيات ، أما العقليات فما من بلاء إلا والعقل قاض بإمكان أعظم منه حتى لو قدرنا اجتماع بلايا الدنيا كلها على كافر وعوقب في الآخرة بأعظم عذاب أهل النار لكان ملطوفاً به إذ الله قادر على أن يعذبه بأكثر من ذلك ، وأما العاديات فما وجدت قط بلية إلا وفي طيها خير وحفها لطف باعتبار قصرها على نوعها إذ المبتلي مثلاً بالجذام والعياذ بالله ليس كالأعمى وهما مع الغنى ليسا كهما مع الفقر واجتماع كل ذلك مع سلامة الدين أمر يسير.
وأما الشرعيات فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه" وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبتلي إما اعتباراً بأن كل أفعاله جميل أو لأنه عودك بالفعل الجميل والعطاء الجزيل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 126
اذكروا
130
يا بني إسرائيل {وَإِذْ فَرَقْنَا} فصلنا {بِكُمُ} أي : بسبب إنجائكم فالباء للسببية وهو أولى لأن الكلام مسوق لتعداد النعم والامتنان وفي السببية دلالة على تعظيمهم وهو أيضاً من النعم وقيل الباء بمعنى اللام كقوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} (لقمان : 30) أي : لأن الله {الْبَحْرِ} وهو بحر القلزم بحر من بحار فارس أو بحر من ورائهم يقال له أساف حتى حصل اثنا عشر مسلكاً بعدد أسباط بني إسرائيل والسبط ولد الولد والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب وهم أولاد يعقوب {فَأَنجَيْنَـاكُمْ} أي : من الغرق بإخراجكم إلى الساحل {وَأَغْرَقْنَآ} الغرق الرسوب في الشيء المائع ورسب الشيء في الماء رسوباً أي : سفل فيه والإغراق الإهلاك في الماء {فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ} يريد فرعون وقومه للعلم بدخوله فيهم وكونه أولى به منهم {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} بأبصاركم انفراق البحر حين سلكتم فيه وانطباقه على آل فرعون بعد سلامتكم منه وأيضاً تنظرون إليهم غرقى موتى حين رماهم البحر إلى الساحل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
(1/103)
قال القرطبي : إن الله تعالى لما أنجاهم وأغرق فرعون قالوا : يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن أن فرعون قد غرق حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه.
روي أنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمرهم أن يخرجوا وأن يستعيروا الحلي من القبط وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه وأن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح ومن خرج لطخ بابه بكف من دم ليعلم أنه قد خرج فخرجوا ليلاً وهم ستمائة ألف وعشرون ألف مقاتل لا يعدون فيهم ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره والقبط لا يعلمون ووقع في القبط موت فجعلوا يدفنونهم وشغلوا عن طلبهم فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا : إن يوسف لما حضره الموت أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد عليهم الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلمه أحد غير عجوز قالت : لو دللت على قبره أتعطيني كل ما سألتك فأبى عليها وقال حتى أسأل ربي فأمره الله بإيتاء سؤلها فقالت : إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل في غرفة إلا نزلتها معك قال : نعم قالت : إنه في جوف الماء في النيل فادع الله أن يحسر عنه الماء فدعا الله أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من صنوبر قالوا : إن موسى استخرج تابوت يوسف من قعر النيل بالوفق وهو أول علم أوجده الله بنفسه وعلمه آدم عليه السلام فتوارثه الأنبياء آخراً عن أول ثم إنه حمله حتى دفنه بالشام ففتح لهم الطريق فساروا فكان هارون أمام بني إسرائيل وموسى على ساقتهم فلما علم بذلك فرعون جمع قومه فخرج في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف جواد ذكر ليس فيها رمكة على رأس كل واحد منهم بيضة وفي يده حربة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر والماء في غاية الزيادة فأدركهم فرعون حين أشرقت الشمس فقال فرعون في أصحاب موسى إن هؤلاء لشرذمة قليلون فلما نظر أصحاب موسى إليهم بقوا متحيرين فقالوا لموسى : إنا لمدركون يا موسى أوذينا من قبل
131
أن تأتينا ومن بعدما جئتنا اليوم نهلك فإن البحر أمامنا إن دخلناه غرقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا يا موسى كيف نصنع وأين ما وعدتنا قال موسى : كلا إن معي ربي سيهدين فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعضاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله إليه أن كَنِّه فضربه وقال : انفلق يا أبا خالد فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقاً كل طريق كالجبل العظيم فكان لكل سبط طريق يأخذون فيه وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً فخاضت بنو إسرائيل البحر وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً فقالوا : ما لنا لا نرى إخواننا وقال كل سبط قد قتل إخواننا قال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا : لا نرضى حتى نراهم فقال موسى : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا وهكذا يمنة ويسرة فصار فيها كوى ينظر بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض فساروا حتى خرجوا من البحر فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر فرآه منفلقاً قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا فهاب قومه أن يدخلوه وقيل له : إن كنت ربّاً فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان أدهم أي : ذكر أسود من الخيل ولم يكن في قوم فرعون فرس أنثى فجاء جبريل على أنثى وديق وهي التي تشتهي الفحل وتقدمه إلى البحر فشم أدهم فرعون ريحها فاقتحم خلفها البحر أي : هجم على البحر بالدخول وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل وتبعته الخيول وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يعجلهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم حتى خاضوا كلهم البحر ودخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى وهم أولهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم فانطبق على فرعون وقومه فأغرقوا فنادى فرعون لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين القصة وقالت بنوا إسرائيل الآن يدركنا فيقتلنا فلفظ البحر ستمائة وعشرين ألفاً عليهم الحديد فذلك قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} (يونس : 92) فلفظ فرعون وهو كأنه ثور أحمر فلم يقبل البحر بعد ذلك غريقاً إلا لفظه على وجه الماء.
(1/104)
واعلم أن هذه الوقعة كما أنها لموسى عليه الصلاة والسلام معجزة عظيمة لأوائل بني إسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقتصاصها على ما هي عليه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لأعقابها أن يتلقوها بالإذعان لأنه عليه السلام أخبرهم بذلك مع أنه كان أمياً لم يقرأ كتاباً وهذا غيب لم يكن له علم عند العرب فأخباره به دل على أنه أوحي إليه ذلك وذلك علامة لنبوته فما تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها حيث اتخذوا العجل إلهاً بعد الإنجاء ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها حيث بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضاً وكفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك فيا لها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها.
وفي الآية تهديد للكافرين ليؤمنوا وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا وينتهوا عن المعاصي في جميع الأوقات خصوصاً في الزمان الذي أنجى الله فيه موسى
132
مع بني إسرائيل من الغرق وهو اليوم العاشر من المحرم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم : "ما هذا اليوم الذي تصومونه" فقالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "نحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بصيامه" رواه مسلم وهذا يدل بظاهره على أن النبي عليه السلام إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت : كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه ـ يحكى ـ أنه هرب أسير من الكفار يوم عاشوراء فركبوا في طلبه فلما رأى الفرسان خلفه وعلم أنه مأخوذ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم بحق هذا اليوم المبارك أسألك أن تنجيني منهم فأعمى الله أبصارهم جميعاً فنجا الأسير فصام ذلك اليوم فلم يجد ما يفطر عليه ويتعشى به فنام فأطعم وسقي في المنام فعاش بعذ ذلك عشرين سنة لم يكن له حاجة إلى الطعام والشراب قال النبي عليه السلام : "التمسوا فضله فإنه يوم مبارك اختاره الله من الأيام من صام ذلك اليوم جعل الله له نصيباً من عبادة جميع من عبده من الملائكة والأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين" هذا في الصوم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
وأما الصلاة الواردة في يوم عاشوراء فقد ذكرها الشيخ عبد القادر قدس سره عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل فيه "ومن صلى أربع ركعات في يوم عاشوراء يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسين مرة قل هو الله أحد غفر الله له ذنوب خمسين عاماً مستقبلاً وبنى له في الملأ الأعلى ألف منبر من نور" ويستحب إحياء ليلة عاشوراء ففي الحديث "من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله بعبادة ملائكته المقربين" والإشارة أن البحر هو الدنيا وماؤه شهواتها ولذاتها وموسى هو القلب وقومه صفات القلب وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم وهم سائرون إلى الله تعالى والعدو من خلفهم وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله من العبور على البحر ولا يخوضون البحر بلا ضرب عصا لا إله إلا الله على البحر بيد موسى القلب فإن له يداً بيضاء في هذا الشأن وإلا لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم يكن لها معجزة انفلاق البحر فإذا ضرب يد موسى القلب بعصا الذكر ينفلق بحر الدنيا وماء شهواتها يميناً وشمالاً ويرسل الله ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابساً من ماء الشهوات فيخوض موسى القلب وصفاته فيجاوزونه وتنجيهم عناية الله إلى الساحل وأن إلى ربك المنتهى وقيل لفرعون النفس وقومه اغرقوا فادخلوا ناراً كذا لصاحب "التأويلات النجمية" قدس الله تعالى نفسه الزكية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
اذكروا يا بني إسرائيل {وَإِذْ وَاعَدْنَا} وقت وعدنا وصيغة المفاعلة بمعنى الثاني أو على أصله فإن الوعد وإن كان من الله فقبوله كان من موسى وقبول الوعد شبه الوعد أو أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعده
133
(1/105)
المجيء للميقات إلى الطور {مُوسَى} مفعول أول لواعدنا "مو" بالعبرانية الماء و"شى" بمعنى الشجر فقلت الشين المعجمة سيناً في العربية وإنما سمي به لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون وألقته في البحر فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغسلن فوجدن التابوت فأخذنه فسمي عليه السلام باسم المكان الذي أصيب به وهو الماء والشجر ونسبه عليه الصلاة والسلام موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن روي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام : {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي : تمام أربعين ليلة على حذف المضاف مفعول ثاننٍ أمره الله تعالى بصوم ثلاثين وهو ذو القعدة ثم زاد عليه عشراً من ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور وشهور العرب وضعت على سير القمر ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أولى الشهور والأيام تبع لها أو لأن الظلمة أقدم من الضوء {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} وهو ولد البقرة بتسويل السامري إلهاً ومعبوداً {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد مضيه إلى الميقات وإنما ذكر لفظة ثم لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه وفضيلة بني إسرائيل ليكون ذلك تنبيهاً للحاضرين على علو درجتهم وتعريفاً للغائبين وتكملة للدين كان ذلك من أعظم النعم فلما أتوا عقب ذلك بأقبح أنواع الكفر والجهل كان ذلك في محل التعجب فهو كمن يقول : إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والأذى {وَأَنتُمْ ظَـالِمُونَ} بإشراككم ووضعكم للشيء في غير موضعه أي : وضع عبادة الله تعالى في غير موضعها بعبادة العجل وهو حال من ضمير اتخذتم.
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} أي : محونا جريمتكم حين تبتم {مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي : من بعد الاتخاذ الذي هو متناه في القبح فلم نعاجلكم بالإهلاك بل أمهلناكم إلى مجيء موسى فنبهكم وأخبركم بكفارة ذنوبكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة فإن الأنعام يوجب الشكر وأصل الشكر تصور النعمة وإظهارها وحقيقته العجز عن الشكر ، قال السعدي :
خردمند طبعات منت شناس
بد وزند نعمت بميخ ساس
جزء : 1 رقم الصفحة : 133
{وَإِذْ ءَاتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكِتَـابَ وَالْفُرْقَانَ} أي : التوراة الجامعة بين كونها كتاباً وحجة تفرق بين الحق والباطل كقولك لقيت الغيث والليث تريد الجامع بين الجود والجراءة فالمراد بالفرقان والكتاب واحد.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه وهذا بيان الحكمة دون العلة أي : الحكمة في إنزاله أن يتدبروا فيه فيعلموا أن الله تعالى لم يفعل ذلك به إلا للدلالة على صحة نبوته فيجتهدوا بذلك في اتباع الرشد وإذا فعلتم ذلك آمنتم بمحمد لأنه قد أتى من المعجزات بما يدلكم إذا تدبرتم على صحة دعواه النبوة.
روي أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوهم بإغراق الله آل فرعون ودخولوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها فوعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه : إني ذاهب لميقات ربي آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وتذرون ووعدهم أربعين ليلة واستخلف عليهم أخاه هارون فلما أتى الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له فرس الحياة لا يصيب شيئاً إلا حيى
134
(1/106)
ليذهب بموسى إلى ربه فلما رآه السامري وكان رجلاً صائغاً من أهل باجرمي واسمه ميحا ورأى مواضع الفرس تخضر من ذلك وكان منافقاً أظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبريل على ذلك الفرس قال : إن لهذا شأناً وأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل وقيل : إنه عرف جبريل لأن أمه حين خافت عليه أن يذبح سنة ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل خلفته في غابة وكان جبريل يأتيه فيغذيه بأصابعه فكان السامري يمص من إبهام يمينه عسلاً ومن إبهام شماله سمناً فلما رآه حين عبر البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه فلم تزل القبضة في يده حتى انطلق موسى إلى الطور وكان السامري سمعهم حين خرجوا من البحر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ووقع في نفسه أن يفتنهم من هذا الوجه وكان بنو إسرائيل استعاروا حلياً كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم فأهلك الله تعالى فرعون وبقيت تلك الحلي في يدي بني إسرائيل فلما ذهب موسى إلى المناجاة عد بنو إسرائيل اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً قالوا : قد تم أربعون ولم يرجع موسى إلينا فخالفنا فقال السامري : هاتوا الحلي التي استعرتموها أو أن موسى أمرهم أن يلقوها في حفرة حتى يرجع ويفعل ما يرى فيها فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري عجلاً في ثلاثة أيام ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب سنبك فرس جبريل فخرجت عجلاً من ذهب مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون فصار جسداً له حوار أي : صوت كصوت العجل وله لحم ودم وشعر وقيل : دخل الريح في جوفه من خلفه وخرج من فيه كهيئة الخوار فقال للقوم : هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي : أخطأ موسى الطريق وربه هنا وهو ذهب يطلبه فأقبلوا كلهم على عبادة العجل إلا هارون مع اثني عشر ألفاً اتبعوا هارون ولم يتبعه غيرهم وهارون قد نصحهم ونهاهم وقال : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى وقيل : كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشر وكانت فتنتهم في تلك العشر فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى وظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري عكفوا على العجل يعبدونه.
قال أبو الليث في "تفسيره" : وهذا الطريق أصح فلما رجع موسى ووجدهم على ذلك ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حباً للعجل فظهرت على شفاههم صفرة ورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم هذه حالهم وأما هذه الأمة فلا يحتاجون إلى قتل النفس في الصورة وتوبتهم الحقيقية إنما هي الرجوع إلى الله بقتل النفس الأمارة التي تعبد عجل الهوى ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
أي شهان كشتيم ما خصم برون
ماند خصمي زوبتردر اندرونكشتن اين كار عقل وهوش نيست
شير باطن سخره خركوش نيست
نفس ازدرها ست أوكى مرده است
ازغم بي آلتي افسرده استكربيابد آلت فرعون أو
كه بامر أوهمي رفت آب جو
135
آنكه اوبنياد فرعوني كند
راه صد موسى وصد هارون زند
واعلم أن تعيين عدد الأربعين في الميعاد لاختصاصه في الكمالية وذلك لأن مراتب الأعداد أربع : الآحاد والعشرات والمئات والألوف والعشرة عدد في نفسها كلها كقوله تعالى : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة : 196) وإذا ضعفت العشرة أربع مرات وهو كمال مراتب الأعداد تكون أربعين وهو كمال الكمال وهو إعداد أيام تخمير طينة آدم عليه السلام كقوله تعالى : "خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً" فللأربعين خاصية وتأثير لم توجد في غيره من الإعداد كما قال صلى الله عليه وسلّم "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك" الحديث كما أن انعقاد الطلسم الجسماني على وجه الكنز الروحاني كان مخصوصاً بالأربعين كذلك انحلاله يكون باختصاص الأربعين سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وأما اختصاص الليل بالذكر في قوله أربعين ليلة فلمعنيين :
(1/107)
أحدهما : إن لليل خصوصية في التعبد والتقرب كقوله عليه السلام : "إن أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل" وهكذا قوله عليه السلام : "ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا" الحديث ولهذا المعنى قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِه نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء : 1) الآية وقال تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الإسراء : 1) والآخر إنه لو ذكر اليوم دون الليل يظن أنه موعود بالتعبد في النهار دون الليل وإنما الليل جعل للاستراحة والسكون كقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (يونس : 67) فلما خص الليل بالذكر علم موسى عليه السلام أن التعبد في الليل واليوم جميعاً كذا في "التأويلات النجمية" ، قال الشيخ الشهير بافتادة أفندي قدس سره أن النبي عليه السلام لم يعين الأربعين بل اعتكف في العشر الأخير نعم فعل موسى عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَـاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَـاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف : 122) والخلوتية أخذوا من ذلك كذا في "واقعات الشيخ الهدائي" قدس الله نفسه الزاكية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
قال في "التأويلات النجمية" أيضاً : الشكر على ثلاثة أوجه شكر بالأقوال وشكر بالأعمال وشكر بالأحوال.
فشكر الأقوال أن يتحدث بالنعم مع نفسه إسراراً ومع غيره إظهاراً ومع ربه افتقاراً كما قال تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى : 11) وقوله صلى الله عليه وسلّم "التحدث بالنعم شكر" وشكر الأعمال أن يصرف نعمة الله في طاعته ولا يعصيه بها ويتدارك ما فاته من الطاعات وبادره من المعاصي كقوله تعالى : {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا} (سبأ : 13) وشكر الأحوال أن يتجلى المنعم بصفة الشكورية على سر العبد فلا يرى إلا المنعم في النعمة والشكور في الشكر ويرى المنعم في النعم والنعمة من المنعم والشكور في الشكر والشكر من الشكور ويرى وجوده وشكره نعمتين من نعم المنعم ورؤية النعمة فيكون نعمة وجوده مرآة جمال المنعم ويكون شكره مرآة جمال الشكور ورؤية المنعم والنعمة نعمة أخرى إلى غير نهاية فيعلم أن لا يقوم بأداء شكره ولا يشكره إلا الشكور ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور.
اذكروا يا بني إسرائيل هذا هو الإنعام الخامس {إِذْ قَالَ مُوسَى} وقت قوله : {لِقَوْمِهِ} الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ} أي : يا قومي والإضافة للشفقة {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم} أي : ضررتم أنفسكم
136
بإيجاب العقوبة عليها ونقصتم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} أي : معبوداً قالوا أي : شيء نصنع قال : {فَتُوبُوا} أي : فاعزموا على التوبة والفاء للسببية لأن الظلم سبب للتوبة {إِلَى بَارِئِكُمْ} أي : من خلقكم بريئاً من العيوب والنقصان والتفاوت وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة والتعرض لعنوان البارئية للإرشاد بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغباوة منتهاها حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمته بريئاً من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة وإن من لم يعرف حقوق منعمه حقيق بأن تسترد هي منه ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب وقالوا كيف نتوب؟ قال : {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي : ليقتل البريء منكم المجرم وإنما قال أنفسكم لأن المؤمنين إخوة وأخو الرجل كأنه نفسه قال تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} (الحجرات : 11) يعني : ذكر قتل الأنفس وأراد به قتل الاخوان وهذا كما قال ولا تلمزوا أنفسكم أي : ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين كذا في "التيسير" و"تفسير أبي الليث" والفاء للتعقيب وتوبتهم هي قتلهم أي : فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم كذا في "الكشاف" وقال في "التفسير الكبير" وليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان أن توبتهم لا تتم ولا تحصل إلا بقتل النفس وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل {ذالِكُمْ} أي : التوبة والقتل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
(1/108)
{خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} أنفع لكم عند الله من الامتناع الذي هو إصرار وفيه عذاب لما أن القتل طهرة من الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} خطاب منه تعالى أي : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم أي : قبل توبتكم وتجاوز عنكم وإنما لم يقل فتاب عليهم على أن الضمير للقوم لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم.
فإن قلت إنه تعالى أمر بالقتل والقتل لا يكون نعمة.
قلت : إن الله نبههم على عظيم ذنبهم ثم نبههم على ما به يتخلصون من ذلك العظيم وذلك من النعم في الدين.
{أَنَّهُ} الله تعالى {هُوَ التَّوَّابُ} أي : الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويبالغ في قبولها منهم {الرَّحِيمُ} كثير الرحمة للمطيعين أمره حيث جعل القتل كفارة لذنوبهم ، قال السعدي :
فروماند كانرا برحمت قريب
تضرع كنانرا بدعوت مجيب
روى أنهم لما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين مذعنين وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردود توبته وأصلت القوم عليهم الخناجر أي : حملوا عليهم الخناجر ورفعوا وضربوهم بها وكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله قالوا : يا موسى كيف تفعل؟ فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلونهم إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله السحابة ونزلت التوبة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فقتل منهم سبعون ألفاً فكان من قتل شهيداً ومن بقي مغفورة ذنوبه وأوحى إلى موسى عليه السلام أني أدخل القاتل والمقتول الجنة هذا على رواية أن القاتل من المجرمين على أن معنى قوله فاقتلوا أنفسكم
137
ليقتل بعض المجرمين بعضاً فالقاتل هو الذي بقي من المجرمين بعد نزول أمر الكف عن القتل وإلا فالقاتل على الرواية الأخرى هو البريء كما سبق في تفسير الآية.
روي أن الأمر بالقتل من الأغلال التي كانت عليهم وهي المواثيق اللازمة لزوم الغل ومن الإصر وهو الأعمال الشاقة كقطع الأعضاء الخاطئة وعدم جواز صلاتهم في غير المسجد وعدم التطهير بغير الماء وحرمة أكل الصائم بعد النوم ومنع الطيبات عنهم بالذنوب وكون الزكاة ربع مالهم وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح وكما روى أن بني إسرائيل إذا قاموا يصلون لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية وحبس نفسه على العبادة فهذه الأمور رفعت عن هذه الأمة تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلّم
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
فالتوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها ولها أربع مراتب :
فالأولى مختصة باسم التوبة : وهي أول منزل من منازل السالكين وهي للنفس الأمارة وهذه مرتبة عوام المؤمنين وهي ترك المنهيات والقيام بالمأمورات وقضاء الفوائت ورد الحقوق والاستحلال من المظالم والندم على ما جرى والعزم على أن لا يعود.
والمرتبة الثانية الإنابة : وهي للنفس اللوامة وهذه مرتبة خواص المؤمنين من الأولياء والإنابة إلى الله بترك الدنيا والزهد في ملاذها وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس بمخالفة هواها والمداومة على جهادها فالنفس إذا تحلت بالإنابة دخلت في مقام القلب واتصفت بصفته لأن الإنابة من صفات القلب قال تعالى : {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} (ق : 33).
والمرتبة الثالثة الأوبة : وهي للنفس الملهمة وهذه مرتبة خواص الأولياء والأوبة إلى الله من آثار الشوق إلى لقائه فالنفس إذا تحلت بالأوبة دخلت في مقام الروح ومن أمارات الأواب المشتاق أن يستبدل المخالطة بالعزلة ومنادمة الأخدان بالخلوة ويستوحش عن الخلق ويستأنس بالحق ويجاهد نفسه في الله حق جهاده ساعياً في قطع تعلقاتها عن الكونين.
والمرتبة الرابعة : وهي للنفس المطمئنة وهي مرتبة الأنبياء وأخص الأولياء قال تعالى : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} (الفجر : 28) وهي صورة جذبة العناية الربوبية نفوس الأنبياء والأولياء تجذبها من أنانيتها إلى هوية ربوبيته راضية أي : طائعة تلك النفوس شوقاً إلى لقاء ربها مرضية أي : على طريقة مرضية في السير لربها باذلة نفسها في مشاهدة اللقاء طامعة لرفع الاثنينية ودوام الإلتقاء.
قيل لما قدم الحلاج لتقطع يده قطعت اليد اليمنى أولاً فضحك ثم قطعت اليد اليسرى فضحك ضحكاً بليغاً فخاف أن يصفر وجهه من نزف الدم فكب وجهه على الدم السائل ولطخ وجهه بدمه وأنشأ يقول :
الله يعلم أن الروح قد تلفت
شوقاً إليك ولكني أمنيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي
أشهى إليّ من الدنيا وما فيها
يا قوم إني غريب في دياركمو
سلمت روحي إليكم فاحكموا فيها
ما أسلم النفس للأسقام تتلفها
إلا لعلمي بأن الوصل يحييها
نفسُ المحب على الآلام صابرة
(1/109)
لعل مسقمها يوماً يداويها ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : يا مولاي إني غريب في عبادك وذكرك أغرب مني والغريب يألف الغريب ثم ناده رجل وقال : يا شيخ ما العشق؟ قال : ظاهره ما ترى وباطنه دق
138
عن الورى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
وفي "التأويلات النجمية" : إن لكل قوم عجلاً يعبدونه من دون الله قوم يعبدون عجل الدراهم والدنانير وقوم يعبدون عجل الشهوات وقوم يعبدون عجل الجاه وقوم يعبدون عجل الهوى وهذا أبغضها على الله فالله تعالى يلهم موسى قلب كل سعيد ليقول : يا قوم {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} (البقرة : 54) أي : ارجعوا إلى الله بالخروج عما سواه ولا يمكنكم إلا بقتل النفس {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} بقمع الهوى لأن الهوى هو حياة النفس وبالهوى ادعى فرعون الربوبية وعبد بنو إسرائيل العجل وبالهوى أبى واستكبر إبليس أو ارجعوا بالاستنصار على قتل النفس بنهيها عن هواها فاقتلوا أنفسكم بنصر الله وعونه فإن قتل النفس في الظاهر ييسر للمؤمن والكافر فأما قتل النفس في الباطن وقهرها فأمر صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق بسيف الصدق وبنصر الحق ولهذا جعل مرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء وكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا رجع من غزو يقول : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وذلك لأن المجاهد إذا قتل بسيف الكفار يستريح من التعب بمرة واحدة وإذا قتل بسيف الصدق في يوم ألف مرة تحيا كل مرة نفس على بصيرة أخرى وتزداد في مكرها فلا يستريح المجاهد طرفة عين من جهادها ولا يأمن مكرها وبالحقيقة النفس هي صورة مكر الحق ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} يعني قتل النفس بسيف الصدق خير لكم لأن بكل قتلة رفعة ودرجة لكم عند بارئكم فأنتم تتقربون إلى الله بقتل النفس وقمع الهوى وهو يتقرب إليكم بالتوفيق للتوبة والرحمة عليكم كما قال : "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" وذلك قوله : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، قال "المثنوي" :
عمرا كربكذشت بيخش أين دم است
آب توبش ده اكر اوبي نم است
بيخ عمرت را بده آب حيات
تادرخت عمر كردد باثبات
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
{وَإِذْ قُلْتُمْ} هذا هو الانعام السادس ، أي : واذكروا يا بني إسرائيل وقت قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور للاعتذار عن عبادة العجل وهم غير السبعين الذين اختارهم موسى أول مرة حين أراد الانطلاق إلى الطور بعد غرق فرعون لإتيان التوراة يا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نصدقك لأجل قولك ودعوتك على أن هذا كتاب الله وأنك سمعت كلامه وأن الله تعالى أمرنا بقبوله والعمل به {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي : عياناً لا ساتر بيننا وبينه كالجهر في الوضوح والانكشاف لأن الجهر في المسموعات والمعاينة في المبصرات ونصبها عن المصدرية لأنها نوع من الرؤية فكأنها مصدر الفعل الناصب أو حال من الفاعل والمعنى حتى نرى الله مجاهرين أو من المفعول والمعنى حتى نرى الله مجاهراً بفتح الهاء {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّـاعِقَةُ} هي نار محرقة فيها صوت نازلة من السماء وهي كل أمر مهول مميت أو مزيل للعقل والفهم وتكون صوتاً وتكون ناراً وتكون غير ذلك وإنما أحرقتهم الصاعقة لسؤالهم ما هو مستحيل على الله في الدنيا ولفرط العناد والتعنت ، وإنما الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين في الآخرة وللأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} إلى الصاعقة النازلة فإن كانت ناراً فقد عاينوها
139
وإن كانت صوتاً هائلاً فقد مات بعضهم أولاً ورأى السابقون أنهم ماتوا ويسمى هذا رؤية الموت مجازاً.
(1/110)
{ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم} أي : أحييناكم {مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بتلك الصاعقة وقيد البعث بقوله من بعد موتكم مع أنه يكون بعد الموت لما أنه قد يكون من الإعماء أو من النوم.
قال قتادة : أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم وكان ذلك الموت بلا أجل وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة لغيرهم قبل انقضاء آجالهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة.
فإن قلت كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثوا بعد الموت؟ قلنا : الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة هو الإماتة ثم الإحياء وإنما يمنع من ذلك لأنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصعقة أن لا يكون قد اضطرهم وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الإحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمة الحياة بالتوحيد والطاعة أو لعلكم تشكرون وقت مشاهدتكم بأس الله بالصاعقة نعمة الإيمان التي كفرتموها بقولكم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فإن ترك النعمة لأجل طلب الزيادة كفران لها أي : لعلكم تشكرون نعمة الإيمان فلا تعودون إلى اقتراح شيء بعد ظهور المعجزة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
وأصل القصة أن موسى عليه السلام لما رجع من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل وألقاه في البحر وندم القوم على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين أمر الله موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين من قومه من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربنا حتى يسمعنا كلامه فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه وقال للقوم ادخلوا فكلم الله موسى يأمره وينهاه وكلما كلمه تعالى أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه وسمعوا كلامه تعالى مع موسى افعل لا تفعل فعند ذلك طمعوا في الرؤية وقالوا ما قالوا فأخذتهم الصاعقة فخروا صاعقين ميتين يوماً وليلة فلما ماتوا جميعاً جعل موسى بيكي ويتضرع رافعاً يديه إلى السماء يدعو ويقول : يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم وماذا أقول لهم إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم قبل هذا اليوم مع أصحاب العجل أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله ورد إليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قالوا إن موسى عليه السلام سأل الرؤية في المرة الأولى في الطور ولم يمت لأن صعقته لم تكن موتاً ولكن غشية بدليل قوله تعالى : {فَلَمَّآ أَفَاقَ} (الأعراف : 143) وسأل قومه في المرة الثانية حين خرجوا للاعتذار وماتوا وذلك لأن سؤال موسى كان اشتياقاً وافتقاراً وسؤال قومه كان تكذيباً واجتراء ولم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام وطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال وليس
140
في الآية دليل على نفي الرؤية بل فيها إثباتها وذلك أن موسى عليه السلام لما سأله السبعون لم ينههم عن ذلك وكذلك سأل هو ربه الرؤية فلم ينهه عن ذلك بل قال : {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى} (الأعراف : 143) وهذا تعليق بما يتصور.
قال بعض العلماء الحكماء الحكمة في أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وجوه :
الأول : أن الدنيا دار أعدائه لأن الدنيا جنة الكافر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
الثاني : لو رآه المؤمن لقال الكافر لو رأيته لعبدته ولو رأوه جميعاً لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
الثالث : أن المحبة على غيب ليست كالمحبة على عين.
الرابع : أن الدنيا محل المعيشة ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معائشهم فتعطلت.
الخامس : أنه جعلها بالبصيرة دون البصر ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين.
السادس : ليقدر قدرها إذ كل ممنوع عزيز.
السابع : إنما منعها رحمة بالعباد لما جبلوا عليه في هذه الدار من الغيرة إذ لو رآه أحد تصدع قلبه من رؤية غيره إياه كما تصدع الجبل غيرة من أن يراه موسى.
(1/111)
والإشارة في الآية أن مطالبة الرؤية جهرة هي تعريض مطالبة الذات غفلة فيوجب سوء الأدب وترك الحرمة وذلك من أمارات البعد والشقاوة فمن سطوات العظمة والعزة أخذتهم الرجفة والصعقة إظهاراً للعدل ثم أفاض عليهم سجال النعي إسبالاً للسر على هيئات العبيد والخدم وقال : {ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إظهاراً للفضل ومن علامات الوصلة ودلالات السعادة التولي بمكاشفات العزة مقروناً بملاطفات القربة فمن أصلح حاله لم يطلق لسان الجهل بل أتى البيت من بابه ويتأدب في سؤاله وجوابه ، قال في "المثنوي" :
يش بينايان كنى ترك أدب
نار شهوت را ازان كشتى حطب
ون ندارى فطنت ونور هدا
بهر كوران روى را ميزن جلا
ولا بد من قتل النفس الأمارة حتى تحكم في عالم الحقيقة بما شئت.
قال القشيري التوبة بقتل النفوس غير منسوخة في هذه الأمة إلا أن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سراً وأول قدم هو القصد إلى الله والخروج من النفسقال : ولقد توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق وليس كما توهموا فإن ذلك كان مرة واحدة وأهل الخصوص من هذه الأمة قتلهم أنفسهم في كل لحظة كما قيل :
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الاحياء
وفي "المثنوي" :
قوت ازحق خواهم وتوفيق ولاف
تابسوزن بر كنم اين كوه قاف
سهل شيرى دانكه صفها بشكند
شير آنست آنكه خودرابشكند
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} هذا هو الإنعام السابع ، أي : جعلنا الغمام ظلة عليكم يا بني إسرائيل وهذا جرى في التيه بين مصر والشام فإنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر وقعوا في صحراء لا أبنية فيها أمرهم الله تعالى بدخول مدينة الجبارين وقتالهم فقبلوا فلما قربوا منها سمعوا بأن أهلها جبارون أشداء قامة أحدهم سبعمائة ذراع ونحوها فامتنعوا وقالوا لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة وكانت
141
المفازة يعني التيه اثني عشر فرسخاً فأصابهم حر شديد وجوع مفرط فشكوا إلى موسى فرحمهم الله فأنزل عليهم عموداً من نور يدلى لهم من السماء فيسير معهم بالليل يضيء لهم مكان القمر إذا لم يكن قمر وأرسل غماماً ؛ أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر يظللهم من حر الشمس في النهار وسمي السحاب غماماً لأنه يغم السماء أي يسترها والغم حزن يستر القلب ثم سألوا موسى الطعام فدعا ربه فاستجاب له وهو قوله تعالى : {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} أي : الترنجبين بفتح الراء وتسكين النون كان أبيض مثل الثلج كالشهد المعجون بالسمن أو المن جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" أي : مما منّ الله على عباده والظاهر أن مجرد مائه شفاء لأنه عليه السلام أطلق ولم يذكر الخلط ولما روى عن أبي هريرة أنه قال : عصرت ثلاثة أكمؤ وجعلت ماءها في قارورة فكحلت منه جارية لي فبرئت بإذن الله تعالى.
وقال النووي رأينا في زماننا أعمى كحل عينه بمائها مجرداً فشفي وعاده إليه ثم لما ملّوا من أكله قالوا : يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأنزل الله عليهم السلوى وذلك قوله : {وَالسَّلْوَى} هو السماني كانت تحشره عليهم الريح الجنوب وكانت الريح تقطع حلوقها وتشق بطونها وتمعط شعورها وكانت الشمس تنضجها فكانوا يأكلونها مع المن وأكثر المفسرين على أنهم يأخذونها فيذبحونها فكان ينزل عليهم المن نزول الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وتأتيهم السلوى فيأخذ كل إنسان منهم كفايته إلى الغد إلا يوم الجمعة يأخذ ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت لأنه كان يوم عبادة فإن أخذ أكثر من ذلك دوّد وفسد {كُلُوا} أي : قلنا لهم كلوا : {مِن طَيِّبَـاتِ} حلالات {مَا رَزَقْنَـاكُمْ} من المن والسلوى ولا ترفعوا منه شيئاً ادخاراً ولا تعصوا أمري فرفعوا وجعلوا اللحم قديداً مخافة أن ينفد ولو لم يرفعوا لدام عليهم ذلك ، والطيب : ما لا تعافه طبعنا ولا تكرهه شرعاً {وَمَا ظَلَمُونَا} أي : فظلموا بأن كفروا تلك النعمة الجليلة وادخروا بعدما نهوا عنه وما ظلمونا أي : ما بخسوا بحقنا {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤونة في الدنيا ولا حساب في العقبى فرفعنا ذلك عنهم لعدم توكلهم علينا ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
سالها خوردي وكم نامد زخور
ترك مستقبل كن وماضي نكر
(1/112)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا خيانة حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر" واستمر النتن من ذلك الوقت لأن البادىء للشيء كالحامل للغير على الإتيان به وكذلك استمرت الخيانة من النساء لأن أم النساء خانت بأن أغواها إبليس قبل آدم حتى أكلت من الشجرة ثم أتت آدم فزينت له ذلك حتى حملته على أن أكل منها فاستمرت تلك الخيانة من بناتها لأزواجها ، قال السعدي :
كراخانه آباد وهمخوا به دوست
خدارا برحمت نظر سوى اوست
قال في "الأشباه والنظائر" : الطعام إذا تغير واشتد تغيره تنجس وحرم واللبن والزيت والسمن إذا أنتن لا يحرم أكله انتهى.
والإشارة في الآية أنه تعالى لما أدبهم بسوط الغربة أدركهم بالرحمة
142
في وسط الكربة فأكرمهم بالإنعام وظللهم بالغمام ومنّ عليهم بالمن وسلاهم بالسلوى فلا شعورهم كانت تطول ولا أظفارهم كانت تنبت ولا ثيابهم كانت تخلق أو تتسخ وتدرن بل كانت تنمو صغارها حسب نمو الصغار والصبيان ولا شعاع الشمس كان ينبسط وكذلك سنته بمن حال بينه وبين اختياره يكون ما اختاره خيراً له مما يختاره العبد لنفسه فما ازدادوا بشؤم الطبيعة إلا الوقوع في البلوى كما قيل :
كلوا من طيبات ما رزقناكم بأمر الشرع وما ظلمونا إذ تصرفوا فيها بالطبع ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالحرص على الدنيا ومتابعة الهوى.
قال في التنوير وما أدخلك الله فيه تولى إعانتك عليه وما دخلت فيه بنفسك وكلك إليه فلا تكفر نعمة الله عليك فيما تولاك به من ذلك.
كان بعضهم يسير في البادية وقد أصابه العطش فانتهى إلى بئر فارتفع الماء إلى رأس البئر فرفع رأسه إلى السماء وقال : أعلم أنك قادر ولكن لا أطيق هذا فلو قيضت لي بعض الأعراب يصفعني صفعات ويسقيني شربة ماء كان خيراً لي ثم إني أعلم أن ذلك الرفق من جهته فقد عرفت أن مكر الله خفي فلا تغرنك النعم الظاهرة والباطنة وليكن عزمك على الشكر والإقامة في حد أقامك الله فيه وإلا فتضل وتشقى.
وقد قال الشيخ أبو عبد الله القرشي من لم يكن كارهاً لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصي فهي حجاب في حقه وسترها عنه رحمة فالنعمة كما أنها سبب للسعادة كذلك هي سبب للشقاوة استدراجاً ، قال في "المثنوي" :
بنده مي نالد بحق ازدرد ونيش
صد شكايت ميكند ازرنج خويش
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
حق همي كويدكه آخر رنج ودرد
مرترا لابه كنان وراست كرد
أين كله زان نعمتي كن كت زند
ازدرما دور ومطرودت كند
فلا بد للمؤمن السالك من الفناء عن الذات والصفات والأفعال والدور مع الأمر الإلهي في كل حال حتى يكون من الصديقين وأهل اليقين اللهم لا تؤمنا مكرك ولا تنسنا ذكرك واجعلنا من الذين معك في تقلباتهم وكل معاملاتهم آمين آمين آمين بجاه النبي الأمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
{وَإِذْ قُلْنَا} هذا هو الإنعام الثامن لأنه تعالى أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه أي : اذكروا يا بني إسرائيل وقت قولنا لآبائكم إثر ما أنقذتم من التيه.
{ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} منصوب على الظرفية ، أي : مدينة بيت المقدس والقرية بفتح القاف وكسرها ما يجتمع فيه الناس أخذاً من القرى {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي : أكلاً واسعاً هنيئاً على أن النصب على المصدرية أو هو حال من الواو في كلوا أي : راغدين متوسعين وفيه دلالة على أن المأمور به الدخول على وجه الإقامة والسكنى.
قال في "التيسير" : أي أبحنا لكم ووسعنا عليكم فتعيشوا فيها أنى شئتم بلا تضييق ولا منع وهو تمليك لهم بطريق الغنيمة وذكر الأكل لأنه معظم المقصود.
{وَادْخُلُوا الْبَابَ} أي : باباً من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب والمراد الباب الثاني من بيت المقدس ويعرف اليوم بباب حطة أو باب القبة التي كان يتعبد فيها موسى وهارون ويصليان مع بني إسرائيل إليها {سُجَّدًا} أي : ركعاً منحنين ناكسي رؤوسكم بالتواضع على أن يكون المراد به معناه الحقيقي أو ساجدينتعالى شكراً على إخراجكم من التيه على أن يكون المراد به معناه الشرعي {وَقُولُوا حِطَّةٌ} رفع بخبرية المبتدأ المحذوف أي : مسألتنا من الله أن يحط عنا
143(1/113)
ذنوبنا أو نصب أي : حط عنا ذنوبنا حطة وقيل أريد بها كلمة الشهادة أي : قولوا كلمة الشهادة الحاطة للذنوب {نَّغْفِرْ لَكُمْ} مجزوم على أنه جواب الأمر من الغفر وهو الستر أي : نستر عليكم {خَطَايَاكُمْ} جمع خطيئة ضد الصواب أي : ذنوبكم فلا نجازيكم بها لما تفعلون من السجود والدعاء وهم الذين عبدوا العجل ثم تابوا {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ثواباً من فضلنا وهم الذين لم يعبدوا العجل والمحسن من أحسن في فعله وإلى نفسه وغيره وقيل المحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكف شره وقيل هو الفاعل ما يجمل طبعاً ويحمد شرعاً وأخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد إيذاناً بأن المحسن بصدد زيادة الثواب وإن لم يقل حطة فكيف إذا قالها واستغفر وأنه يقول ويستغفر لا محالة أمرهم بشيئين بعمل يسير وقول صغير فالعمل الإنحناء عند الدخول والقول التكلم بالمقول ثم وعد عليهما غفران السيئات والزيادة في الحسنات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 143
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : غيّر الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية ما قيل لهم من التوبة والاستغفار {قَوْلا} آخر مما لا خير فيه فأحد مفعولي بدل محذوف {غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} غير نعت لقولا وإنما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة تحقيقاً لمخالفتهم وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه.
روي أنهم قالوا مكان حطة حنطة وقيل : قالوا بالنبطية وهي لغتهم حطاً سمقاناً يعنون حنطة حمراء استخفافاً بأمر الله تعالى وقال مجاهد : طوطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فأبوا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على استاهم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول وأما المحسنون ففعلوا ما أمروا به ولذا لم يقل فبدلوا بل قال فبدل الذين ظلموا وظاهره أنهم بدلوا القول وحده دون العمل وبه قال جماعة وقيل : بل بدلوا العمل والقول جميعاً ومعنى قوله : {قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي : أمراً غير الذي أمروا به فإن أمر الله قول وهو تغيير جميع ما أمروا به {فَأَنزَلْنَا} أي : عقيب ذلك {عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : غيروا ما أمروا به ولم يقل عليهم على الاختصار وقد سبق ذكر الذين ظلموا في الآية لأنه سبق ذكر المحسنين أيضاً فلو أطلق لوقع احتمال دخول الكل فيه ثم هذا ليس بتكرار لأن الظلم أعم من الصغائر والكبائر والفسق لا بد وأن يكون من الكبائر فالمراد بالظلم ههنا الكبائر بقرينة الفسق والمراد بالظلم المتقدم هو ما كان من الصغائر {رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ} أي : عذاباً مقدراً والتنوين للتهويل والتفخيم.
{بِمَآ} مصدرية {كَانُوا يَفْسُقُونَ} بسبب خروجهم عن الطاعة والرجز في الأصل ما يعاف ويستكره وكذلك الرجس والمراد به الطاعون.
روي أنه مات في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً ودام فيهم حتى بلغ سبعين ألفاً.
وفي الحديث "الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم أن الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" وفي الحديث أيضاً "أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشأم فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافر" واعلم أن من مات من الطاعون مات شهيداً ويأمن فتنة القبر وكذا الصابر في الطاعون إذا مات بغير الطاعون يوقى فتنة القبر لأنه نظير المرابط في سبيل الله تعالى فالمطعون
144
شهيد وهو من مات من الطاعون والصابر المحتسب في حكمه وكذا المبطون وهو الميت من داء البطن وصاحب الإسهال والاستسقاء داخل في المبطون لأن عقله لا يزال حاضراً وذهنه باقياً إلى حين موته ومثل ذلك صاحب السل وكذا الغرق شهيد وهو بكسر الراء من يموت غريقاً في الماء وكذا صاحب المهدم بفتح الدال ما يهدم وصاحبه من يموت تحته وكذا المقتول في سبيل الله وكذا صاحب ذات الجنب والحرق والمرأة الجمعاء وهي من تموت حاملاً جامعاً ولدها وليس موت هؤلاء كموت من يموت فجأة أو من يموت بالسام أو البرسام والحميات المطبقة أو القولنج أو الحصاة فتغيب عقولهم لشدة الألم ولورم أدمغتهم وإفساد أمزجتها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 143
واعلم أن الطاعون مرض يكثر في الناس ويكون نوعاً واحداً والوباء وهو المرض العام قد يكون بطاعون وقد لا يكون.
وفي الحديث "فناء أمتي بالطعن والطاعون"(1) قيل : يا رسول الله هذا الطعن قد عرفنا فما الطاعون قال : "وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة" قال ابن الأثير الطعن القتل بالرمح والوخز طعن بلا نفاذ وهذا لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر "غدة كغدة البعير تخرج في مراق البطن" وذلك أن الجني إذا وخز العرق من مراق البطن خرج من وخزة الغدة فيكون وخز الجني سبب الغدة الخارجة والغدة هي التي تخرج في اللحم والمراق أسفل البطن.(1/114)
وفي الحديث : "إذا بخس المكيال حبس القطر وإذا كثر الزنى كثر القتل وإذا كثر الكذب كثر الهرج" والحكمة أن الزنى إهلاك النفس لأن ولد الزنى هالك حكماً فلذلك وقع الجزاء بالموت الذريع أي : السريع لأن الجزاء من جنس العمل ألا يرى أن بخس المكيال يجازى بمنع القطر الذي هو سبب لنقص أرزاقهم وكذا الكذب سبب للتفرق والعداوة بين الناس ولهذا يجازي بالهرج الذي هو الفتنة والاختلاط وإنما عمت البلية أينما وقعت لتكون عقوبة على إخوان الشياطين وشهادة ورحمة لعباد الله الصالحين إذ الموت تحفة للمؤمن وحسرة للفاسق ثم يبعثهم الله على قدر أعمالهم ونياتهم فيجازيهم والفرار من الطاعون حرام إذ الفرار نسيان الفاعل المختار كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : الطاعون فتنة على الفار والمقيم أما الفار فيقول بفراره نجوت وأما المقيم فيقول : أقمت فمت.
وفي الحديث "الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف" والزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي : يدب دبيباً والمراد هنا الفرار من الجيش في الغزو ولكن يجب أن يقيد بالمثل أو الضعف فهذا الخبر يدل على أن النهي عن الخروج للتحريم وأنه من الكبائر وليس بعيداً أن يجعل الله الفرار منه سبباً لقصر العمر كما جعل الله تعالى الفرار من الجهاد سبباً لقصر العمر قال تعالى : {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} (الأحزاب : 16) وأما الخروج بغير طريق الفرار فمرخص فيه لكن الرخصة مشروطة بشرائط صعبة لا يقدر عليها إلا الأفراد منها حفظ أمر الاعتقاد والتحرز من الأسباب العادية للمرض كالهواء الفاسد وغيره فهو رخصة لكن مباشرة الحمية لأجل الخلاص من الموت سفه وعبث لا يشك في حرمتها عوام المسلمين فضلاً عن خواصهم قالوا في بعض الأمراض سراية إلى ما يجاوره بإذن الله تعالى كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم :
145
"إن من القرف التلف" والقرف بالتحريك مداناة المرضى وأما قوله عليه السلام : "لا عدوى" فإنما هو نفي للتعدي طبعاً كما هو اعتقاد أهل الجاهلية حيث كانوا يرون التأثير من طبيعة المرض لا نفي للسراية مطلقاً والتسبب واجب للعوام والمبتدئين في السلوك والتوكل أفضل للمتوسطين وأما الكاملون فليس يمكن حصر أحوالهم فالتوكل والتسبب عندهم سيان ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 143
درحذر شوريدن شوروشر ست
روتو كل كن توكل بهترست
باقضا نه مزن اي تند وتيز
تانكيردهم قضا باتوستيز
كردخ بتيد بزد يش حكم حق
تانيايد زحم از رب الفلق
روي أن جالينوس دفع إلى أصحابه قرصين مثل البنادق وقال : اجعلوا أحدهما بعد موتي فوق الحديد الذي يعمل عليه الحدادون والآخر في حب مملوء من الماء ثم اكسروا الحب ففعلوا كما أوصى فذاب الحديد في الأرض ولم يجدوا منه شيئاً وانجمد الماء وقام بلا وعاء قال الحكماء : أراد بذلك إني وإن قدرت إلى إذابة أصلب الأجساد وإقامة الماء الذي من طبعه السيلان ما وجدت للموت دواء ولذا قال بعضهم :
ألا يا أيها المغرور تب من غير تأخير
فإن الموت قد يأتي ولو صيرت قارونا
بسل مات أرسطاليس بقراط بافلاج
وأفلاطون ببرسام وجالينوس مبطونا قال الشافعي رحمه الله أنفس ما يداوى به الطاعون التسبيح ووجهه بأن الذكر يرفع العقوبة والعذاب قال تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصافات : 143) وكذا كثرة الصلاة على النبي المحترم صلى الله تعالى عليه وسلم لكن مثل هذا إنما يكون مؤثراً إذا اقترن بالشرائط الظاهرة والباطنة إذ ليس كل ذكر وصلاة شفيعاً عند الحضرة الإلهية ، قال "المثنوي" :
كرنداري تودم خوش دردعا
رودعا ميخواه از اخوان صفاهركرا دل اك شد از اعتدال
آن دعايش ميرود تا ذو الجلال
آن دعاي بيخودان خودديكرست
آن دعا ازونيست كفت داورستآن دعا حق ميكندون او فناست
آن دعا وآن أجابت ازخداست
هين بجواين قوم را اي مبتلا
هين غنيمت دارشان يش ازيلا
جزء : 1 رقم الصفحة : 143
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} نعمة أخرى كفروها ، أي : اذكروا أيضاً يا بني إسرائيل إذ سأل موسى السقيا {لِقَوْمِهِ} لأجل قومه وكان ذلك في التيه حين استولى عليهم العطش الشديد فاستغاثوا بموسى فدعا ربه أن يسقيهم {فَقُلْنَا} له بالوحي أن {اضْرِب بِّعَصَاكَ} وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى {الْحَجَرَ} اللام إما للعهد والإشارة إلى معلوم فقد روي أنه كان حجراً طورياً حمله معه وكان خفيفاً مربعاً كرأس الرجل له أربعة أوجه في كل وجه ثلاث أعين أو هو الحجر الذي فر بثوبه حين وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله تعالى مما رموه به من الأدرة فأشار إليه جبريل أن ارفعه فإن الله تعالى فيه قدرة ولك
146
(1/115)
فيه معجزة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كان بنو إسرائيل ينظر بعضهم إلى سوءة بعض وكان موسى يغتسل وحده فوضع ثوبه على حجر ففر بثوبه فجمع موسى بأثره يقول : ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوءة موسى فقالوا والله ما بموسى أُدرة" وهي بالضم نفخة بالخصية ، وإما للجنس أي : اضرب الشيء الذي يقال له الحجر وهو الأظهر في الحجة أي : أبين على القدرة فإن إخراج الماء بضرب العصا من جنس الحجر أي : حجر كان أدل على ثبوت نبوة موسى عليه السلام من إخراجه من حجر معهود معين لاحتمال أن يذهب الوهم إلى تلك الخاصية في ذلك الحجر المعين كخاصية جذب الحديد في حجر المغناطيس {فَانفَجَرَتْ} أي : فضرب فالفاء متعلقة بمحذوف والانفجار الانسكاب ولانبجاس الترشح والرش فالرش أول ثم الانسكاب {مِنْهُ} أي : من ذلك الحجر {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} ماء عذباً على عدد الأسباط لكل سبط عين وكان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجر ويضربه إذا ارتحل فييبس {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} أي : كل سبط من الأسباط الاثني عشر {مَّشْرَبَهُمْ} أي : عينهم الخاصة بهم أو موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه والمشرب المصدر والمكان والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر وكل سبط أراد تكثير نفسه فجعل الله لكل سبط منهم نهراً على حدة ليستقوا منها ويسقوا دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة وكان ينبع من كل وجه من الحجر ثلاث أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثني عشر ميلاً ثم أن الله تعالى قد كان قادراً على تفجير الماء وفلق البحر من غير ضرب لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر ويمقر الخل ويجذب الحديد لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء تحت الأرض أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 146
قال القرطبي في "تفسيره" : ما ورد من انفجار الماء ونبعه من يد نبينا صلى الله عليه وسلّم وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وأطراف النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل إذ لم يخرج الماء من لحم ودم.
{كُلُوا} على إرادة القول أي : قلنا لهم أو قيل لهم كلوا {وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ} هو ما رزقهم من المنّ والسلوى والماء فالأكل يتعلق بالأولين والشرب بالثالث وإنما لم يقل من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى فقلنا إيذاناً بأن الأمر بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخطاب بل بواسطة موسى عليه السلام.
{وَلا تَعْثَوْا فِى الأرْضِ} العثي أشد الفساد فقيل لهم : لا تتمادوا في الفساد حال كونهم {مُفْسِدِينَ} فالمراد بهذه الحال تعريفهم بأنهم على الفساد لا تقييد العامل وإلا لكان مفهومه مفيداً معنى تمادوا في الفساد حال كونهم مصلحين وهذا غير جائز والأصل في العثي مطلق التعدي وإن غلب في الفساد فيكون التقييد بالحال تقييداً للعامل بالخاص.
ودلت الآية على فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فإن بني إسرائيل احتاجوا إلى الماء فرجعوا إلى موسى ليسأل
147
واحتاجوا إلى البقل والقثاء وسائر المأكولات ففعلوا ذلك وهذه الأمة أطلق لهم أن يسألوا الله كلما احتاجوه قال تعالى : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} (النساء : 32) وقال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر : 60) وفيها بشارة عظيمة وسأل موسى ربه الماء لقومه بقولهم وسأل عيسى ربه المائدة بقولهم وسأل نبينا عليه الصلاة والسلام المغفرة لنا بأمر الله تعالى قال : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (محمد : 19) فلما أجاب الله لهما فيما سألاه بطلب القوم فلأن يجيب نبينا فيما سأله بأمره أولى.
وأفادت الآية أيضاً إباحة الخروج إلى الاستسقاء وهو إنما يكون إذا دام انقطاع المطر مع الحاجة إليه فالحكم حينئذٍ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة وقد استسقى نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعاً متذللاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً.
وروي عن جندبة "أن أعرابياً دخل عليه صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة وقال : يا رسول الله هلكت الكراع والمواشي وأجدبت الأرض فادع الله أن يسقينا فرفع يديه ودعا قال أنس رضي الله عنه والسماء كأنها زجاجة ليس بها قزعة فنشأت سحابة ومطرت إلى الجمعة القابلة".
جزء : 1 رقم الصفحة : 146
قال في "المثنوي" :
تافرود آيد بلا بي دافعي
ون نباشد ازتضرع شافعيتاسقاهم ربهم آيد خطاب(1/116)
تشنه باش الله أعلم بالصواب وعدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند أهل الطريقة لأنه كالمقاومة مع الله ودعوى التحمل لمشاقه كما قال الشيخ المحقق ابن الفارض قدس سره :
ويحسن إظهار التجلد للعدى
ويقبح غير العجز عند الأحبة
وفي الحديث "لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً مثل خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام فبهم تسقون وبهم تنصرون ما مات منهم أحد ألا أبدل الله مكانه آخر".
كرندارى تودم خوش دردعا
رودعا ميخواه ازاخوان صفا وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : "ما عام بأمطر من عام ولكنه إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي".
قال الشيخ الشهير بافتاده أفندي ترقي الطالب برعاية السنن.
وذكر أنه استسقى الناس مراراً في زمن الحجاج فلم ينزل لهم قطرة فقيل لهم : لو دعا شخص لم يترك سنة العصر وسنة الأولى من العشاء لحصل المقصود وإلا لا يحصل وإن دعوتم أربعين مرة فتفقدوا فلم يجدوا شخصاً على الصفة المذكورة فرجع الحجاج إلى نفسه فوجدها على ما ذكر فدعا فنزل مطر عظيم في هذا الحين وحصل المقصود وهذا ببركة رعاية سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه مشهور بالظلم ولا بد في الاستسقاء من تقديم التوبة والصدقة والصوم وأن يجعل صلحاء الناس وسيلة وشفيعاً في ذلك ويستسقي للدواب العطاش والأنعام السائمة والأطفال الضعيفة فلعلهم يسقون ببركتها وليكن الداعي ربه على يقين الإجابة لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته أو لعدم كرم في المدعو أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي وهذه الأشياء منتفية عن الله تعالى فإنه كريم عالم قادر لا مانع له منا لإجابة وهو أقرب إلى المؤمنين منهم يسمع دعاءهم ويقبل تضرعهم والدعاء مهما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب فإنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق
148
الإجابة فإذا أجاب الله دعاء البعض فهو أكرم من أن يرد الباقي وفي الحديث "ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها" قالوا : يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة قال : "يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك".
وفي تفسير الفاتحة للفناري : أن استقامة التوجه حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوي في الإجابة فمن زعم أنه يقصد مناداة زيد وهو يستحضر غيره ثم لم يجد الإجابة فلا يلومن إلا نفسه إذ لم يناد القادر على الإجابة وإنما توجه إلى ما أنشأه من صفات تصوراته بالحالة الغالبة عليه إذ ذاك.
روي أن فرعون قبل دعوى الإلهية أمر أن يكتب على باب داره بسم الله فلما لم يؤمن بموسى قال : إلهي إني أدعوه ولا أرى فيه خيراً قال : لعلك تريد إهلاكه أنت تنظر إلى كفره وأنا إلى ما كتبه على بابه فمن كتبه على سويداء قلبه ستين سنة أولى بالرحمة فإذا كان حال من كتبه على باب داره هكذا فكيف حال من نقشه على باب قلبه يستجاب دعاؤه لا محالة وأول شرائط الإجابة إصلاح الباطن باللقمة الطيبة وآخرها الإخلاص وحضور القلب يعني التوجه الأحدي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 146
والإشارة في تحقيق الآية أن الروح الإنساني وصفاته في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو يستسقي ربه ليرويها من ماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا لا إله إلا الله ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نوراً عند الاستيلاء ظلمات صفات النفس وقد حملت من جنة حضرة العزة على حجر القلب الذي كالحجارة أو أشد قسوة فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً من ماء الحكمة لأن كلمة لا إله إلا الله اثنا عشر حرفاً من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط الصفات الإنسانية وهم اثنا عشر سبطاً من الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة والقلب والنفس ولكل واحد منهم مشرب من عين حرف من حروف الكلمة قد علم مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمشرب عذب فرات ومشرب ملح أجاج فالنفوس ترد مناهل المنى والشهوات والقلوب تشرب من مشارب التقى والطاعات والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي وسقاهم ربهم شراب الاضمحلال في حقيقة الذات كلوا واشربوا كل واحد من رزق الله بأمره ورضاه ولا تعثوا في الأرض مفسدين بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الآخرة على الأولى واختيارهما على المولى كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 146
(1/117)
{وَإِذْ قُلْتُمْ} تذكير لجناية أخرى لأسلاف بني إسرائيل وكفرانهم لنعمة الله عز وجل خاطبهم تنزيلاً لهم مكان آبائهم لما بينهم من الاتحاد وكان هذا القول منهم في التيه حين سئموا من أكل المنّ والسلوى لكونهما غير مبدلين والإنسان إذا داوم شيئاً واحداً سئمه وتذكروا عيشهم الأول بمصر لأنهم كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : يا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} الطعام ما يتغذى به وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فيصيران طعاماً واحداً أو أريد بالواحد نفي التبدل والاختلاف ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
وفي "تفسير البغوي" : والعرب تعبر عن الواحد
149
بلفظ الاثنين كقوله : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من الملح دون العذب وقيل : لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد بنفسه وكان فيهم أول من اتخذ العبيد والخدم {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أي : سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء {يُخْرِجْ لَنَا} أي : يظهر لنا ويوجد شيئاً فالمفعول محذوف والجزم لجواب الأمر فإن دعوته سبب الإجابة أي : أن تدع لنا ربك يخرج لنا {مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ} إسناد مجازي بإقامة القابل وهو الأرض مقام الفاعل وهو الله تعالى ومن تبعيضية وما موصولة {مِنا بَقْلِهَا} من بيانية واقعة موقع الحال من الضمير أي : مما تنبته كائناً من بقلها والبقل ما تنبت الأرض من الخضر والمراد أصناف البقول التي تأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها {وَقِثَّآئِهَا} أخو القثد وهي شيء يشبه الخيار {وَفُومِهَا} وهو الحنطة لأن ذكر العدس يدل على أنه المراد لأنه من جنسه وقيل : هو الثوم لأن ذكر البصل يدل على أنه هو المراد فإنه من جنسه.
قال ابن التمجيد في "حواشيه" وحمله على الثوم أوفق من الحنطة لاقتران ذكره بالبصل والعدس فإن العدس يطبخ بالثوم والبصل {وَعَدَسِهَا} حب معروف يستوي كيله ووزنه {وَبَصَلِهَا} بقل معروف تطيب به القدور {قَالَ} استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال الله لهم أو موسى عليه السلام فقيل : قال إنكاراً عليهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ} أي : أتأخذون لأنفسكم وتختارون {الَّذِى هُوَ أَدْنَى} أي : أقرب منزلة وأدون قدراً {بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} أي : بمقابلة ما هو خير فإن الباء تصحب الزائل دون الآتي الحاصل وخيرية المن والسلوى في اللذاذة وسقوط المشقة وغير ذلك ولا كذلك الفوم والعدس والبصل وأمثالها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
قال بعضهم : الحنطة وإن كانت أعلى من المن والسلوى لكن خساستها ههنا بالنسبة إلى قيمتها وليس في الآية ما يدل قطعها على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى وحصول ما طلبوا مكانه لتحقق الاستبدال في صورة المناوبة لأنهم أرادوا بقولهم لن نصبر على طعام واحد أن يكون هذا تارة وذاك أخرى {اهْبِطُوا} أي : انحدروا وانزلوا من التيه إن كنتم تريدون هذه الأشياء {مِصْرًا} من الأمصار لأنكم في البرية فلا يوجد فيها ما تطلبون وإنما يوجد ذلك في الأمصار فالمراد ليس مصر فرعون لقوله تعالى : يا قَوْمِ ادْخُلُوا الارْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (المائدة : 21) وإذا وجب عليهم دخول تلك الأرض فكيف يجوز دخول مصر فرعون وهو الأظهر والمصر البلد العظيم من مصر الشيء بمصره أي : قطعه سمي به لانقطاعه عن الفضاء لعمارة وقد تسمى القرية مصراً كما تسمى المصر قرية وهو ينصرف ولا ينصرف فصرف ههنا لأن المراد غير معين وقيل : أريد به مصر فرعون وإنما صرف لسكون وسطه كهند ودعد ونوح أو لتأويله بالبلد دون المدينة فلم يوجد فيه غير العلمية {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} تعليل للأمر بالهبوط أي : فإن لكم فيه ما سألتموه من بقول الأرض {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} أي : الذل والهوان {وَالْمَسْكَنَةُ} أي : الفقر يسمى الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة أي : جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه وألصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان
150
عنهم مجازاة لهم على كفرانهم كما يضرب الطين على الحائط فهوا ستعارة بالكناية فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء أي رجعوا {بِغَضَبٍ} عظيم كائن {مِّنَ اللَّهِ} أي : استحقوه ولزمهم ذلك ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم "أبوء بنعمتك علي" أي : أقربها وألزمها نفسي وغضب الله تعالى ذمه إياهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة {ذَلِكَ} أي : ضرب الذلة والمسكنة والبوء والغضب العظيم {بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب أن اليهود {كَانُوا يَكْفُرُونَ} على الاستمرار {بِاَيَاتِ اللَّهِ}(1/118)
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
الباهرة التي هي المعجزات الساطعة الظاهرة على يدي موسى عليه السلام مما عاد أو لم يعد وكذبوا بالقرآن ومحمد عليه السلام وأنكروا صفته في التوراة وكفروا بعيسى والإنجيل {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} كشعيب وزكريا ويحيى عليهم السلام وفائدة التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضاً بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقداً بحقية قتل أحدهم عليهم السلام.
فإن قيل : كيف جاز أن يخلي بين الكافرين وقتل الأنبياء.
قيل ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين وليس ذلك بخذلان لهم.
قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال وكل من أمر بقتال نصر فظهر أن لا تعارض بين قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} (غافر : 51) وقوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} (الصافات : 171 ـ 172) مع أنه يجوز أن يراد به النصرة بالحجة وبيان الحق وكل منهم بهذا المعنى منصور.
روي أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً ، قال في "المثنوي" :
ون سفيهاً نراست اين كار وكيا
لازم آمد يقتلون الأنبيا
انبيارا كفته قوم راه كم
از سفه إنا تطيرنا بكم
{ذَالِكَ} أي : ما ذكر من الكفر بالآيات العظام وقتل الأنبياء عليهم السلام {بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي أي : جرّ بهم العصيان والتمادي في العدوان إلى المشار إليه فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت إلى كبارها كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها وسقم القلب بالغفلة عن الله تعالى منعهم عن إدراك لذاذة الإيمان وحلاوته لأن المحموم ربما وجد طعم السكر مراً فالغفلة سم للقلوب مهلك فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله نفرتك عن الطعام المسموم.
واعلم أنمراداً وللعبد مراداً وما أراد الله خير فقوله : اهبطوا أي : عن سماء التفويض وحسن التدبير منالكم إلى أرض التدبير والاختيار منكم لأنفسكم موصوفين بالذلة والمسكنة لاختياركم مع الله وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله ولو أن هذه الأمة هي الكائنة في التيه لما قالت مقال بني إسرائيل لشفوف أنوارهم ونفوذ أسرارهم قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) أي : عدلاً خياراً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
وفي "التأويلات" : كما أن بني إسرائيل لم يصبروا على طعام واحد كان ينزل عليهم من السماء وقالوا لموسى من خساسة طبعهم ما قالوا كذلك نفس الإنسان من دناءة همتها لم تصبر على طعام واحد يطعمها ربها الواحد من واردات الغيب كما كان يصبر نفس النبي عليه السلام ويقول :
151(1/119)
"لست كأحدكم فإني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" بل يقول لموسى القلب فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض البشرية من بقل الشهوات الحيوانية وقثاء اللذات الجسمانية قال : أتستبدلون الفاني بالباقي اهبطوا مصر القالب السفلي من مقامات الروح العلوي فإن لكم ما سألتم من المطالب الدنيئة وضربت عليهم الذلة والمسكنة كالبهائم والأنعام بل هم أضل لأنهم باؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بالواردات الغيبية والمكاشفات الروحانية بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق أي : يبطلون ما يفتح الله لهم من أنباء الغيب في مقام الأنبياء وينكرون أسرارهم ذلك يعني حصول هذه المقامات منهم بما عصوا ربهم في نقض العهود ببذل المجهود في طاعة المعبود وكانوا يعتدون من طلب الحق في مطالبة ما سواه انتهى باختصار ، ثم إن في الآية الكريمة دليلاً على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات وكان النبي عليه السلام يحب الحلوى والعسل ويشرب الماء البارد العذب والعدس والزيت طعام الصالحين.
وفي الحديث : "عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرقق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عيسى ابن مريم" وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوماً خبزاً بزيت ويوماً بعدس ويوماً بلحم ولو لم يكن فيه فضيلة إلا أن ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية وهو مما يجفف البدن فيخف للعبادة ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم والحنطة وأكل البصل والثوم وماله رائحة كريهة مباح.
وفي الحديث "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" والمراد بالملائكة الحاضرون مواضع العبادات لا الملازمون للإنسان في جميع الأوقات ومعنى تأذيهم من هذه الروائح وأنه مخصوص بها أو عام لكل الروائح الخبيثة مما يفوض علمه إلى الشارع وهذا التعليل يدل على أنه لا يدخل المسجد وإن كان خالياً من الإنسان لأنه محل الملائكة قال عليه السلام : "إن كنتم لا بد لكم من أكلها فأميتوها طبخاً" وقاس قوم على المساجد سائر مجامع الناس وعلى أكل الثوم ما معه رائحة كريهة كالبخر وغيره وإنما كره النبي عليه صلى الله عليه وسلّم أكل البصل ونحوه لما أنه يأتيه الوحي ويناجي الله تعالى ولكن رخص للسائر ويقال كان آخر ما أكله النبي صلى الله عليه وسلّم البصل إيذاناً لأمته بإباحته والعزيمة أن يقتدي الرجل في أقواله وأفعاله وأحواله برسول الله صلى الله عليه وسلّم قال المولى الجامي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
يا نبي الله السلام عليك
إنما الفوز والفلاح لديك
كر نرفتم طريق سنت تو
هستم از عاصيان امت تو
مانده ام زير بار عصيان بست
افتم از اي اكرنكيري دست
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون بقرينة انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعاً أصلاً ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعاً.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} أي : تهودوا من هاد إذا دخل في اليهودية.
ويهود إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك
152(1/120)
حين تابوا من عبادة العجل وخصوا به لما كانت توبتهم توبة هائلة وإما معرب يهودا كأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ويقال إنما سمي اليهود يهودا لأنهم إذا جاءهم رسول أو نبي هادوا إلى ملكهم فدلوه عليه فيقتلونه {وَالنَّصَارَى} جمع نصران كندامى جمع ندمان سمي بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها ناصرة فسموا باسمها أو لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام.
{وَالصَّابِئِينَ} من صبأ إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الكواكب والملائكة فكانوا كعبدة الأصنام وإن كانوا يقرؤون الزبور لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : لم يسمى الصابئون صابئين فقال عليه السلام : "لأنهم إذا جاءهم رسول أو نبي أخذوه وعمدوا إلى قدر عظيم فأغلوه حتى إذا كان محمى صبوه على رأسه حتى ينفسخ" كذا في "روضة العلماء" {مِّنْ} مبتدأ خبره فلهم أجر عظيم والجملة خبران {مِن} من هؤلاء الكفرة {بِاللَّهِ} وبما أنزل على جميع النبيين {وَالْيَوْمِ الاخِرِ} وهو يوم البعث أي : من أحدث منهم إيماناً خالصاً بالمبدأ والمبدأ والمعاد على الوجه اللائق ودخل في ملة الإسلام دخولاً أصيلاً {وَعَمِلَ} عملاً {صَالِحًا} مرضياً عند الله {فَلَهُمْ} بمقابلة تلك والفاء للسببية {أَجْرُهُمْ} الموعود لهم {عِندَ رَبِّهِمْ} أي : مالك أمرهم ومبلغهم إلى كمالهم اللائق وعند متعلق بما تعلق به لهم من معنى الثبوت أخبر أن هؤلاء إذا آمنوا وعملوا الصالحات لم يؤاخذوا بتقديم فعلهم ولا بفعل آبائهم ولا ينقصون من ثوابهم.
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} عطف على جملة فلهم أجرهم أي : لا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب.
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما وتلخيصه من أخلص إيمانه وأصلح عمله دخل الجنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
واعلم أن هذا الدين الحق حسنه موجود في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد فكل مولود إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيىء لقبول الدين فلو ترك عليها استمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها كما قال عليه السلام : "ما من مولود إلا وقد يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" قال ابن الملك في "شرح المشارق" : المراد بالفطرة قولهم بلى حين قال الله تعالى : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (الأعراف : 172) فلا مخالفة بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام : "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً" والتحقيق إن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من ظهره وقال : ألست بربكم آمنوا كلهم لمشاهدتهم الحق بالمعاينة لكن لم ينفع إيمان الأشقياء لكونهم لم يؤمنوا من قبل فاختلط السعيد والشقي ولم يفرق بينهما في هذا العالم ثم إنهم إذ أنزلوا في بطون الأمهات تميز السعيد من الشقي لأن الكاتب لا ينظر إلى عالم الإقرار بل ينظر إلى ما في علم الله تعالى من أحوال الممكن من السعادة والشقاوة وغيرهما وإذا ولدوا يولدون على فطرة الإسلام وهي فطرة بلى فههنا أربعة مقامات :
الأول : علم الله وهو البطن المعنوي ويقال له في اصطلاح الصوفية بطن الأم وأم الكتاب.
والثاني : مقام بلى ويقال له مولود
153
معنوي.
والثالث : بطن الأم الصوري.(1/121)
والرابع : مولود صوري وهو صورة المولود المعنوي لذلك لا يتميز السعيد من الشقي فيه كما لا يتميز في عالم ألست والبطن الصوري صورة علم الله لذلك يتميز السعيد من الشقي فيها فظهر لك معنى حديث النبي عليه السلام : "السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه" ومعنى الخبر الآخر "السعيد قد يشقى والشقي قد يسعد" ومعنى الحديث "كل مولود يولد على فطرة الإسلام" كذا حققه الشيخ بالي الصوفيوي قدس سره.
يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة قال شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة في كتابه المسمى "باللائحات البرقيات" : لاح ببالي أن المراد ببطن الأم على مشرب أهل التحقيق هو باطن الغيب المطلق الذاتي الأحدي يعني السعيد سعيد في باطن الغيب المطلق أزلاً وفي ظاهر الشهادة المطلقة أبداً ولم تتداخل الشقاوة في واحد منهما أصلاً والشقي شقي في باطن الغيب المطلق أزلاً وفي ظاهر الشهادة المطلقة أبداً ولم تتداخل السعادة في واحد منهما أصلاً إلا أن السعيد قد تتداخله الشقاوة والشقي قد تتداخله السعادة في البرزخ الجامع بينهما فيكون السعيد الشقي سعيداً بالسعادة الذاتية وشقيا بالشقاوة العارضية والشقي السعيد شقياً بالشقاوة الذاتية وسعيداً بالسعادة العارضية والسبق في الغاية للذاتي دون العارضي ويغلب حكم الذاتي على حكم العارضي ويختم به كما بدىء به ويختم آخر نفس الشقي بالشقاوة العارضية بالسعادة الذاتية وتزول شقاوته العارضية ويدخل في زمرة السعداء أبداً ويختم آخر نفس السعيد بالسعادة العارضية بالشقاوة الذاتية وتزول سعادته العارضية ويدخل في زمرة الأشقياء أبداً وإلى هذا التداخل والعروض البرزخي أشار بقوله السعيد قد يشقى والشقي قد يسعد والتبدل في العارضي لا في الذاتي والاعتبار بالذاتي لا العارضي انتهى فمن انشرح قلبه بنور الله فقد آمن بالله لا بالتقليد والرسم والعادة والاقتداء بالآباء وأهل البلد فلا خوف عليهم من حجب الأنانية ولا هم يحزنون بالاثنينية لأنهم الواصلون إلى نون الوحدة والهوية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 149
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} تذكير لجناية أخرى لأسلاف بني إسرائيل أي : اذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا لعهد آبائكم بالعمل على ما في التوراة وذلك قبل التيه حين خرجوا مع موسى من مصر ونجوا من الغرق.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} كأنه ظلة حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق والطور الجبل بالسريانية وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل فقلع الطور من أصله ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم فلما رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود لئلا ينزل عليهم فصارت عادة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ويقولون بهذا السجود رفع عنا العذاب ثم رفع الجبل ليقبلوا التوراة لم يكن جبراً على الإسلام لأن الجبر ما يسلب الاختيار وهو جائز كالمحاربة مع الكفار وأما قوله تعالى : {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} (البقرة : 256) وأمثاله فمنسوخ بالقتال.
قال ابن عطية والذي لا يصح سواه أن الله جبرهم وقت سجودهم على الإيمان لأنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة بذلك {خُذُوا} على إرادة القول أي : فقلنا لهم خذوا {مَا فِيهِ} من الكتاب {بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة ومواظبة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي : احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه
154
ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رجاء منكم أن يكونوا متقين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 149(1/122)
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي : أعرضتم عن الميثاق والوفاء به والدوام عليه {مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ} الميثاق المؤكد {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} عطفه بالإمهال وتأخير العذاب {لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} أي : من الهالكين ولكن تفضل عليكم حيث رفع الطور فوقكم حتى تبتم فزال الجبل عنكم ولولا ذلك لسقط عليكم والخسران في الأصل ذهاب رأس المال وهو ههنا هلاك النفس لأنها الأصل وقد منّ الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلّم حيث فرض عليهم الفرائض واحدة بعد واحدة ولم يفرض عليهم جملة فإذا استقرت الواحدة في قلوبهم فرض عليهم الأخرى وأما بنو إسرائيل فقد فرض عليهم بدفعة واحدة فشق عليهم ذلك ولذا لم يقبلوا حتى رأوا العذاب ثم إن الله تعالى أمر بحفظ الأوامر والعمل وبعدم النسيان والتضييع وقال : واذكروا ما فيه وهو المقصود من الكتب الإلهية لأن العمدة العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيبها فإن ذلك نبذ لها مثاله أن السلطان إذا أرسل منشوراً إلى واحد من أمرائه في ممالكه وأمره فيه أن يبني له قصراً في تلك الديار فوصل الكتاب إليه وهو لا يبني ما أمر به لكنه يقرأ المنشور كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد القصر حاضراً فالظاهر أنه يستحق العتاب بل العقاب فالقرآن إنما هو مثل ذلك المنشور قد أمر الله فيه عبيده أن يعمروا أركان الدين من الصوم والصلاة وغيرهما فمجرد قراءة القرآن بغير عمل لا يفيد قال في "المثنوي" :
هست قرآن خالهاي انبيا
ماهيان بحر اك كبريا
وربخواني ونه قرآن ذير
انبيا وأوليارا ديده كير
روي أنه عليه السلام شخص ببصره إلى السماء يوماً ثم قال : "هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد الأنصاري كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا فقال صلى الله عليه وسلّم "ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم" وفي الموطأ : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان : "إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه يحفظ فيه حدود القرآن ويضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطولون الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون فيه أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطولون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم".
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
والإشارة في الآية أن أخذ الميثاق كان عاماً كما كان في عهد ألست بربكم ولكن قوماً أجابوه شوقاً وقوماً أجابوه خوفاً ليتحقق أن الأمر بيد الله في كلتا الحالتين يسمع خطابه من يشاء موجباً للهداية ويسمع من يشاء موجباً للضلالة فإنه لا برهان أظهر من رفع الطور فوقهم عياناً فلما أوبقهم الخذلان لم ينفعهم إظهار البرهان وفي قوله : {خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ} إشارة إلى أن أخذ ما يؤتي الله من الأوامر والنواهي والطاعات والعلوم وغير ذلك لا يمكن للقوة الإنسانية إلا بقوة ربانية وتأييد إلهي {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} من الرموز والإشارات والدقائق والحقائق {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بالله عما سواه {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي : أعرضتم عن طريق
155
الحق واتباع الشريعة باستيلاء قوة الطبيعة بعد أخذ الميثاق وسلوك طريق الوفاق ابتلاء من الله {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وهو سبق العناية في البداية وتوفيق أخذ الميثاق بالقوة في الوسط وقبول التوبة وتوفيقها والثبات عليها في النهاية.
{لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} المصرين على العصيان المغبونين بالعقوبة والخسران والمبتلين بذهاب الدنيا والعقبى ونكال الآخرة والأولى كما كان حال المصرين منكم والمعتدين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
(1/123)
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} خطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلّم من اليهود أي : وبالله قد عرفتم يا بني إسرائيل {الَّذِينَ اعْتَدَوْا} أي : تجاوزوا الحد ظلماً {مِّنكُم} من أسلافكم محله نصب على أنه حال {فِى} يوم {السَّبْتِ} أي : جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد.
وأصل السبت القطع لأن اليهود أمروا بأن يسبتوا فيه أي : يقطعوا الأعمال ويشتغلوا بعبادة الله ويسمى النوم سباتاً لأنه يقطع الحركات الاختيارية وفيه تحذير وتهديد فكأنه يقول إنكم تعلمون ما أصابهم من العقوبة فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم.
والقصة فيه أنهم كانوا في زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة بين المدينة والشام على ساحل بحر القلزم حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك إما ابتلاء لأولئك القوم وإما لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس ففي كل سبت يجتمعن لزيارتها ويخرجن خراطيمهن من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها وإذا مضى السبت تفرقن ولزمن مقل البحر فلا يرى شيء منها ثم إن الشيطان وسوس إليهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فعمد رجال من أهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها فإذا كان يوم الأحد يصطادونها فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا فكثرت أموالهم ففعلوا ذلك زماناً أربعين سنة أو سبعين لم تنزل عليهم عقوبة وكانوا يتخوفون العقوبة فلما لم يعاقبوا استبشروا وتجرؤوا على الذنب ، وقالوا : ما نرى السبت إلا قد أحل لنا ثم استن الأبناء سنة الآباء فلو أنهم فعلوا ذلك مرة أو مرتين لم يضرهم فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ثلاثة أصناف صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة وكان الناهون اثني عشر الفاً فنهوهم عن ذلك وقالوا : يا قوم إنكم عصيتم ربكم وخالفتم سنة نبيكم فانتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم البلاء فلم يتعظوا وأبوا قبول نصحهم فعاقبهم الله بالمسخ وذلك قوله تعالى : {فَقُلْنَا لَهُمْ} قهراً {كُونُوا قِرَدَةً}
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
جمع قرد كالديكة جمع ديك بالفارسية "وزينه" وهذا أمر تحويل لأنهم لم يكن لهم قدرة على التحول من صورة إلى صورة وهو إشارة إلى قوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) أي : لما أردنا ذلك صاروا كما أردنا من غير امتناع ولا لبث {خَـاسِئِينَ} هو وقردة خبران أي : كونوا جامعين بين القردية والخسء وهو الصغار والطرد وذلك أن المجرمين لما أبوا قبول النصح قال الناهون والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وصيروها بذلك ثنتين فلعنهم داود وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فمسخوا ليلاً فلما أصبح الناهون أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت
156
ولا يعلو منها دخان فتسوروا الحيطان ودخلوا فرأوهم قد صار الشبان قردة والشيوخ خنازير لها أذناب يتعاوون فعرفت القردة أنسابهم من الإنس ولم يعرف الإنس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم عن ذلك فكانوا يشيرون برؤوسهم أي : نعم والدموع تفيض من أعينهم ودل ذلك على أنهم لما مسخوا بقي فيهم الفهم والعقل ثم لم يكن ابتداء القردة من هؤلاء بل كانت قبلهم قردة وهؤلاء حولوا إلى صورتها لقبحها جزاء على قبح أعمالهم وأفعالهم وماتوا بعد ثلاثة أيام ولم يتوالدوا والقردة التي في الدنيا هي نسل قردة كانت قبلهم.
{فَجَعَلْنَـاهَا} أي : صيرنا مسخة تلك الأمة وعقوبتها {نَكَـالا} أي : عبرة تنكل من اعتبر بها أي : تمنعه من أن يقدم على مثل صنيعهم {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي : لما قبلها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين فاستعير ما بين يديها للزمان الماضي وما خلفها للمستقبل {وَمَوْعِظَةً} أي : تذكرة {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متق سمعها فاللام للاستغراق العرفي على التقديرين ، قال السعدي :
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ند كيراز مصائب دكران
تانكيرند ديكران زتو ند
(1/124)
واعلم أن هذا البلاء والخسران جزاء من لم يعرف قدر الإحسان ومن يكافىء المنعم بالكفران يرد من عزة الوصال إلى ذل الهجران وكان عقوبة الأمم بالخسف والمسخ على الأجساد وعقوبة هذه الأمة على القلوب وعقوبات القلوب أشد من عقوبات النفوس قال الله تعالى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} (الأنعام : 110) الآية هكذا حال من لم يتأدب في خدمة الملوك وينخرط في أثناء السلوك ومن لم يتخط بساط القربة بقدم الحرمة يستوجب الحرمان ويستجلب الخسران ويبتلي بسياسة السلطان.
ثم علامة المسخ مثل الخنزير أن يأكل العذرات ومن أكل الحرام فقلبه ممسوخ.
ويقال علامة مسخ القلب ثلاثة أشياء لا يجد حلاوة الطاعة ولا يخاف من المعصية ولا يعتبر بموت أحد بل يصير أرغب في الدنيا كل يوم كذا في "زهرة الرياض".
وروى عن عوف بن عبد الله أنه قال : كان أهل الخير يكتب بعضهم بثلاث كلمات من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته.
قال محمد بن علي الترمذي صلاح أربعة أصناف في أربعة مواطن : صلاح الصبيان في الكتاب ، وصلاح القطاع في السجن ، وصلاح النساء في البيوت ، وصلاح الكهول في المساجد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} توبيخ آخر لأخلاف بني إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت من أسلافهم أي : واذكروا قول موسى عليه السلام لأجدادكم : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هي الأنثى من نوع الثور أو واحد البقر ذكراً كان أو أنثى من البقر وهو الشق سميت به لأنها تبقر الأرض أي : تشقها للحراثة وسببه أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتله بنو عمه طمعاً في ميراثه فطرحوه على باب المدينة أو حملوه إلى قرية أخرى وألقوه بفنائها ثم جاؤوا يطالبون بديته وجاؤوا بناس يدعون عليهم القتل فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى
157
وكان ذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا فيخبرهم بقاتله.
{قَالُوا} كأنه قيل : فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا فقيل : قالوا {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي : أتجعلنا مكان هزء وسخرية وتستهزىء بنا نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ولا جامع بينهما قال بعض العلماء كان ذلك هفوة منهم وجهالة فما انقادوا للطاعة وذبحها {قَالَ} موسى وهو استئناف كما سبق {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لأن الهزؤ في أثناء تبليغ أمر الله جهل وسفه ودل أن الاستهزاء بأمر الدين كبيرة وكذلك بالمسلمين ومن يجب تعظيمه وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد وليس المزاح من الاستهزاء.
قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى : عنه لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حد العبوس.
روي أنه قدم رجل إلى عبيد الله بن الحسين وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال : جبتك هذه من صوف نعجة أو من صوف كبش فقال : أتجهل أيها القاضي فقال له عبيد الله وأين وجدت المزاح جهلاً فتلا هذه الآية فأعرض عنه عبيد الله لأنه رآه جاهلاً لا يعرف المزاح من الاستهزاء ، ثم إن القوم علموا أن ذبح البقرة عزم من الله وجد فاستوصفوها كما يأتي ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وكانت تحته حكمة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 157(1/125)
والقصة : أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عواناً أي : نصفاً بين المسنة والشابة وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالدته وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمه يوماً : إن أباك قد ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك ، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها لأن صفرتها كانت صفرة زين لا صفرة شين ، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بهاوقال : أعزم عليك باله إبراهيم وإسماعيل وأسحق ويعقوب فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت : أيها الفتى البار لوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذ بعنقها فقالت البقرة بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبداً فانطلق فإنك إن أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له : إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة قال بكم أبيعها قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بأمه وكان الله به خبيراً فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة قال : بثلاثة دنانير واشترط عليك رضى والدتي فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى
158
لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضى أمي فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني فانطلق بها إلى السوق فأتى الملك فقال : استأمرت أمك فقال الفتى : أنها أمرتني أن لا أنقصها من ستة على أن استأمرها فقال الملك إني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك فقالت : إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتى فقل له أتأمر أن نبيع هذه البقرة أم لا نفعل فقال له الملك اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكوها وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه ورحمة والوجه في تعيين البقرة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقرة والعجاجيل وحبب إليهم ذلك كما قال تعالى : {وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (البقرة : 93) ثم تابوا وعادوا إلى طاعة الله وعبادته فأراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليظهر منهم حقيقة التوبة وانقلاع ما كان منهم في قلوبهم وقيل : كان أفضل قرابينهم حينئذٍ البقر فأمروا بذبح البقرة ليجعل التقرب لهم بما هو أفضل عندهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 157
{قَالُوا} كأنه قيل فماذا قال قوم موسى بعد ذلك فقيل : توجهوا نحو الامتثال وقالوا يا موسى {ادْعُ لَنَا} سل لأجلنا {رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا} أي : يوضح ويعرف {مَا هِىَ} ما مبتدأ وهي خبره والجملة في حيز النصب بيبين أي : يبين لنا جواب هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لما قرع أسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فما ههنا سؤال عن الحال والصفة تقول ما زيد فيقال طبيب أو عالم أي : ما سنها وما صفتها من الصغر والكبر {قَالَ} أي : موسى عليه السلام بعدما دعا ربه بالبيان وأتاه الوحي {أَنَّهُ} أي : الله تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا} أي : البقرة المأمور بذبحها {بَقَرَةٌ لا} هي {فَارِضٌ} أي : مسنة من الفرض وهو القطع كأنها قطعت سنها وبلغت آخر {وَلا بِكْرٌ} أي : فتية صغيرة ولم يؤنث البكر والفارض لأنهما كالحائض في الاختصاص بالأنثى {عَوَانٌ} أي : نصف {بَيْنَ ذَالِكَ} المذكور من الفارض والبكر {فَافْعَلُوا} أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به {مَا تُؤْمَرُونَ} أي : ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به من ذبح البقرة وحذف الجار قد شاع في هذا الفعل حتى لحق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 157(1/126)
{قَالُوا} كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الثاني والأمر المكرر فقيل : قالوا {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} من الألوان حتى تتبين لنا البقرة المأمور بها واللون عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر {قَالَ} موسى عليه السلام بعد المناجاة إلى الله تعالى ومجيء البيان {أَنَّهُ} الله تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ} والصفرة لون بين البياض والسواد وهي الصفرة المعروفة وليس المراد بها هنا السواد كما في قوله تعالى : {كَأَنَّه جِمَالَتٌ صُفْرٌ} (المرسلات : 33) أي : سود والتعبير عن السواد بالصفرة لما أنها من مقدماته وإما لأن سواد الإبل يعلوه صفرة {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} مبتدأ وخبر والجملة صفة البقرة والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها يقال في التأكيد أصفر فاقع كما يقال أسود حالك وفي إسناده إلى اللون مع كونه
159
من أحوال الملون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد كأنه قيل صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في جد جده قيل : كانت صفراء الكل حتى القرن والظلف {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها ويفرح قلوبهم لتمام خلقتها ولطافة قرونها وأظلافها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
وعن علي رضي الله تعالى عنه من لبس نعلاً صفراء قل همه لأن الله تعالى يقول تسر الناظرين.
ونهى ابن الزبير ومحمد بن كثير عن لباس النعال السود لأنها تهم وذكر أن الخف الأحمر خف فرعون والخف الأبيض خف وزيره هامان والخف الأسود خف العلماء وروى أن خف النبي عليه السلام كان أسود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 159
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ} أسائمة هي أم عاملة.
وفي "الكشاف" : هذا تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها والاستقصاء شؤم.
وعن عمر بن عبد العزيز إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاة سألتني أضائن أم ماعز فإن بينت لك قلت : أذكر أم أنثى فإن أخبرتك قلت : أسوداء أم بيضاء فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني وفي الحديث "أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته" {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي : جنس البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح فذكر البقر لإرادة الجنس أو لأن كل جمع حروفه أقل من واحده جاز تذكيره وتأنيثه {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى البقرة المراد ذبحها وفي الحديث "لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد".
{قَالَ} موسى {أَنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} مذللة ذللها العمل يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر وهو خلاف الصعوبة وهو صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ولم يقل ذلولة لأن فعولاً إذا كان وصفاً لم تدخله الهاء كصبور {تُثِيرُ الارْضَ} أي : تقلبها للزراعة وهي صفة ذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة {وَلا تَسْقِى الْحَرْثَ} أي : ليست بسانية يسقى عليها بالسواقي ولا الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقى على أن الفعلين صفتان لذلول كانه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية كذا في "الكشاف".
قال الإمام أبو منصور رحمه الله دلت الآية على أن البقرة كانت ذكراً لأن إثارة الأرض وسقي الحرث من عمل الثيران وأما الكنايات الراجعة إليها على التأنيث فللفظها كما في قوله وقالت طائفة فالتاء للتوحيد لا للتأنيث خلافاً لأبي يوسف إلا أن يكون أهل ذلك الزمان يحرثون بالأنثى كما يحرث أهل هذا الزمان بالذكر {مُسَلَّمَةٌ} أي : سلمها الله من العيوب أو معفاة من العمل سلمها أهلها منه أو مخلصة اللون من سلم له كذا إذا خلص له لم يشب صفرتها شيء من الألوان ويؤيده قوله تعالى : {لا شِيَةَ فِيهَا} يخالف لون جلدها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها والأصل وشية كالعدة والصفة والزنة أصلها وعد ووصف ووزن واشتقاقها من وشى الثوب وهو استعمال ألوان الغزل في نسجه {قَالُوا} عندما سمعوا هذه النعوت {الْآنَ} أي : هذا الوقت بني لتضمنه معنى الإشارة {جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي : بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها {فَذَبَحُوهَا} الفاء فصيحة أي : فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها بأن وجدوها مع الفتى فاشتروها بملء مسكها ذهباً فذبحوها {وَمَا كَادُوا} أي : وما قربوا {يَفْعَلُونَ} والجملة حال من ضمير ذبحوا أي : فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه.
تلخيصه
160
ذبحوها بعد توقف وبطء قيل : مضى من أول الأمر إلى الامتثال أربعون سنة فعلى العاقل أن يسارع إلى الامتثال وترك التفحص عن حقيقة الحال فإن قضية التوحيد تستدعي ذلك ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 159
تاخيال دوست در اسرار ماست
اكرى وجان سارى كار ماست(1/127)
وفي "الحكم العطائية" اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيباً ومن حضرته قريباً بالاستسلام لقهره ، وذلك يقتضي وجود الحفظ من الله تعالى حتى لا يلم العبد بمعصية وإن ألم بها فلا تصدر منه وإذا صدرت منه فلا يصر عليها إذ الحفظ الامتناع من الذنب مع جواز الوقوع فيه والعصمة الامتناع من الذنب مع استحالة الوقوع في العصمة للأنبياء والحفظ للأولياء فقوله : {قَالَ إِنَّه يَقُولُ} يدل على الرجوع من الهفوة وعدم الإصرار وهذا إيمان محض.
وفي "التأويلات النجمية" : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إشارة إلى ذبح بقرة النفس البهيمية فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهذا هو الجهاد الأكبر الذي كان النبي عليه السلام يشير إليه بقوله : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وبقوله : "المجاهد من جاهد نفسه" وقوله عليه السلام : "موتوا قبل أن تموتوا" أشار إلى هذا المعنى {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي : أتستهزىء بما في ذبح النفس وليس هذا من شأن كل ذي همة سنية.
{قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الذين يظنون أن ذبح النفس أمر هين ويستعد له كل تابع الهوى أو عابد الدنيا {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ} أي : يعين أي : بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق فأشار إلى بقرة نفس {لا فَارِضٌ} في سن الشيخوخة تعجز عن سلوك الطريق لضعف المشيب وخلل القوى النفسانية كما قال بعض المشايخ الصوفي بعد الأربعين فارض {وَلا بِكْرٌ} في سن شرح الشباب فإنه يستهويه سكره {عَوَانٌ بَيْنَ ذَالِكَ} أي : عند كمال العقل قال تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف : 15) {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} فإنكم إن تقربتم إلى الله بما أمرتم فإن الله يتقرب إليكم بما وعدتم {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} (الكهف : 30) في الشيب والشباب
جزء : 1 رقم الصفحة : 159
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} يعني ما لون بقرة نفس تصلح للذبح في الجهاد {قَالَ إِنَّه يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ} إشارة إلى صفرة وجوه أرباب الرياضات وسيما أصحاب المجاهدات في طلب المشاهدات {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} يعني صفرة زين لا صفرة شين كما هي سيما الصالحين {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} من نظر إليهم يشاهد في غرتهم بهاء قد ألبس من أثر الطاعات ويطالع من طلعتهم آثار شواهد الغيب من خمود الشهوات حتى أمن من أحوال البشرية بوجدان آثار الربوبية كقوله تعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح : 29) {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} إشارة إلى كثرة تشبه البطالين بزي الطالبين وكسوتهم وهيئتهم {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى الصادق منهم فالاهتداء إليهم يتعلق بمشيئة الله وبدلالته كما كان حال موسى والخضر عليهما السلام فلو لم يدل الله موسى لما وجده وقوله {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الارْضَ} إشارة إلى نفس الطالب الصادق وهي التي لا تحمل الذلة تثير بآلة الحرص علو أرض الدنيا لطلب زخارفها وتتبع هوى النفس وشهواتها كما قال عليه الصلاة والسلام "عز من قنع ذل من طمع" وقال "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" {وَلا تَسْقِى الْحَرْثَ} أي : حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الحق فيصرف في حرث الدنيا
161
فيذهب ماؤه عند الخلق وعند الحق لقوله تعالى : {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى : 20) {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي : نفس مسلمة من آفات صفاتها مستسلمة لأحكام ربها ليس منها طلب غير الله ولا مقصد لها إلا الله كما وصفهم الله تعالى بقوله : {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 273) إلى قوله : {إِلْحَافًا} (البقرة : 273) {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يشير إلى أن ذبح النفس ليس من الطبيعة الإنسانية فمن ذبحها من الصادقين بسيف الصدق كان ذلك من فضل الله تعالى وحسن توفيقه فأما من حيث الطبيعة فما كادوا يفعلون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 159(1/128)
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} هذا مؤخر لفظاً مقدم معنى لأنه أول القصة أي : وإذ قتلتم نفساً وأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى فقال موسى : إن الله يأمركم الآيات ولم يقدم لفظاً لأن الغرض إنما هو ذبح البقرة للكشف عن القاتل وأضيف القتل إلى اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لرضاهم بفعل أولئك وخوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم والقتل نقض البنية الذي بوجوده تنتفي الحياة والمعنى واذكروا يا بني إسرائيل وقت قتل أسلافكم نفساً محرمة وهي عاميل بن شراحيل {فَادَّارَءاْتُمْ فِيهَا} أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع أي : تدافعتم وتخاصمتم في شأنها إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر أي : يدفع الفعل عن نفسه ويحيل على غيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي : مظهر لا محالة ما كنتم وسترتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً مستوراً.
فإن قلت كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضي.
قلت : قد حكى ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤء كما حكى الحاضر في قوله : {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} (الكهف : 18).
جزء : 1 رقم الصفحة : 162
{فَقُلْنَا} عطف على فادارأتم وما بينهما اعتراض {اضْرِبُوهُ} أي : النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان {بِبَعْضِهَا} أي : ببعض البقرة أي : بعض كان أو بلسانها لأنه آلة الكلام أو بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق أو بغير ذلك من الأعضاء والبعض أقل من النصف والمعنى فضربوه فحيي فحذف ذلك لدلالة قوله : {كَذَالِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى} ـ روي ـ أنه لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك ثم إن موسى عليه السلام أمرهم بضربه ببعضها وما ضربه بنفسه نفياً للتهمة كيلا ينسب إلى السحر أو الحيلة {كَذَالِكَ} على إرادة القول أي : فضربوه فحيي وقلنا كذلك فالخطاب في كذلك للحاضرين عند حياة القتيل أي : مثل ذلك الإحياء العجيب {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} يوم القيامة.
فإن قلت إن بني إسرائيل كانوا مقرين بالبعث فما معنى إلزامهم بقوله : {كَذَالِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى} .
قلت : كانوا مقرين قولاً وتقليداً فثبته عياناً وإيقاناً وهو كقول إبراهيم عليه السلام : {وَلَاكِن لِّيَطْمَااِنَّ قَلْبِى} (البقرة : 260) ويجوز أن يكون الخطاب لمنكري البعث في زمان النبي عليه السلام والحاضرين عند نزول الآية الكريمة فلا حاجة حينئذٍ إلى تقدير القول بل تنتهي الحكاية عند قوله تعالى ببعضها : {وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يقال : عقلت نفسي عن كذا أي : منعتها منه أي : لكي تكمل عقولكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها وتمنعوا نفوسكم من هواها وتطيعوا الله فيما يأمركم به ولعل الحكمة في اشتراط ما اشترط في الإحياء من ذبح البقرة وضربه ببعضها مع ظهور كمال قدرته
162
على إحيائه ابتداء بلا واسطة أصلاً لاشتماله على التقرب إلى الله تعالى وأداء الواجب ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة والتنبيه على بركة التوكل على الله تعالى والشفقة على الأولاد ونفع بر الوالد وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ومن حق المتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه كما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار وأن المؤثر هو الله تعالى وإنما الأسباب أمارات لا تأثيرها لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منها حياة وأن من رام أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي قوته الشهوية حين زال عنها شره الصِّبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا مسلمة من دنسها لاشية بها من قبائحها بحيث يتصل أثره إلى نفسه فيحيا به حياة طيبة ويعرف ما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤء والجدال.
قال بعض أهل المعرفة في قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 162
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَالِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى} إنما جعل الله إحياء المقتول في ذبح البقرة تنبيهاً لعبيده أن من أراد منهم إحياء قلبه لم يتأت له إلا بإماتة نفسه فمن أماتها بأنواع الرياضات أحيا الله قلبه بأنوار المشاهدات فمن مات بالطبيعة يحيا بالحقيقة وكما أن لسان البقرة بعد ذبحها ضرب على القتيل وقام بإذن الله وقال : قتلني فلان فكذلك من ضرب لسان النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر يحيى الله قلبه بنوره فيقول وما أبرىء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء ، قال السعدي :
نميتازد أين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
تو بر كره توسني در كمر
نكر تانيد زحكم توسر
اكرالهنك از كفت دركسيخت
تن خويشتن كشت وخون توريخت(1/129)
فيجب علينا غاية الوجوب أن نتقيد بإحياء نفوسنا بالحياة الحقيقية وإصلاح قلوبنا بالإصلاح الحقيقي وإخلاص أعمالنا بالإخلاص الحقيقي فإن المنظر الإلهي إنما هو القلوب والأعمال لا القصور والأموال كما ورد في الحديث "أن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم بل إلى قلوبكم وأعمالكم" فالمعتبر هو الباطن والسرائر دون السير والظواهر.
والعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والجاهل من نسي نفسه واتبع هواه وما يعقل ذلك إلا العالمون وما يعلمه إلا الكاملون ، قال السعدي :
شخصم بشم عالميان خوب منظرست
وزخبث باطنم سر حجلت فتاده يش
طاوس را بنقش ونكارى كه هست خلق
تحسين كنندا وحجل ازاي زشت خويش
وقد سئل بعض المشايخ عن الإسلام فقال : ذبح النفس بسيوف المخالفة ومخالفتها ترك شهواتها.
قال السري السقطي : إن نفسي تطالبني مدة ثلاثين سنة أو أربعين سنة أن أغمس جوزة في دبس فما أطعمتها ورؤي رجل جالس في الهواء فقيل له : بمَ نلت هذا؟ قال : تركت الهوى فسخر لي الهواء وقيل لبعضهم إني أريد أن أحج على التجريد فقال : جرد أولاً قلبك من السهو ونفسك عن اللهو ولسانك عن اللغو ثم اسلك حيث شئت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 162
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} خطاب لأهل عصر
163
النبي عليه السلام من الأحبار وثم لاستبعاد القسوة من بعد ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ثم أنتم تمترون والقسوة والقساوة عبارة عن الغلظ والصلابة كما في الحجر وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوها عن الاعتبار وأن المواعظ لا تؤثر فيها {مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي : من بعد سماع ما ذكر من إحياء القتيل ومسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وغيرها من الآيات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور {فَهِىَ} أي : القلوب {كَالْحِجَارَةِ} أي : مثل الحجارة في شدتها وقسوتها والفاء لتفريع مشابهتها لها على ما ذكر من القساوة تفريع التشبيه على بيان وجه الشبه كقولك أحمر خده فهو كالورد {أَوْ أَشَدَّ} منها {قَسْوَةً} تمييز وأو بمعنى بل أو للتخيير أي : إن شئتم فاجعلوها أشد منها كالحديد فأنتم مصيبون وإنما لم تحمل على أصلها وهو الشك والتردد لما أن ذلك محال على علام الغيوب.
فإن قلت : لم قيل أشد قسوة وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب.
قلت لكونه أبين وأدل على فرط القسوة من لفظ أقسى لأن دلالته على الشدة بجوهر اللفظ الموضوع لها مع هيئة موضوعة للزيادة في معنى الشدة بخلاف لفظ الأقسى فإن دلالته على الشدة والزيادة في القسوة بالهيئة فقط ووجه حكمة ضرب قلوبهم مثلاً بالحجارة وتشبيهها بها دون غيرهامن الأشياء الصلبة من الحديد والصفر وغيرهما لأن الحديد تلينه النار وهو قابل للتليين كما لان لداود عليه السلام وكذا الصفر حتى يضرب منها الأواني والحجر لا يلينه نار ولا شيء فلذلك شبه قلب الكافر بها وهذا والله أعلم في حق قوم علم الله أنهم لا يؤمنون.
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} بيان لفضل قلوبهم على الحجارة من شدة القسوة وتقرير لقوله أو أشد قسوة ومن الحجارة خبر أن والاسم قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 163
{لِمَا} واللام للتأكيد أي : الحجر {يَتَفَجَّرُ} أي : يتفتح بكثرة وسعة {مِنْهُ} راجع إلى ما {الانْهَارُ} جمع نهر وهو المجرى الواسع من مجاري الماء والمعنى وإن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير أي : يتصبب {وَإِنَّ مِنْهَا} أي : من الحجارة {لَمَا يَشَّقَّقُ} أصله يتشقق أي : يتصدع والصدع جعل الشيء ذا نواحي {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ} أي : ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض ينبع منه الماء أيضاً يعني العيون دون الأنهار {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} أي : يتردى وينزل من أعلى الجبل إلى أسفله {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وهي الحوف عن العلم وهنا مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها وقلوب هؤلاء اليهود لا تنقاد ولا تلين ولا تخشع ولا تفعل ما أمرت به {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي : الذي تعملونه وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الأعمال السيئة فقلب الكافر أشد في القساوة من الحجارة وإنها مع فقد أسباب الفهم والعقل منها وزوال الخطاب عنها تخضع له وتتصدع قال تعالى : {لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر : 21) وقلب الكافر مع وجود أسباب الفهم والعقل وسعة هيئة القبول لا يخضع ولا يلين.
قالت المعتزلة خشية الحجر على وجه المثل يعني لو كان له عقل لفعل ذلك ومذهب أهل السنة أن الحجر وإن كان جماداً لكن الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه فإنتعالى علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية
164(1/130)
كما قال جل ذكره {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} (الإسراء : 44) وقال : {وَالطَّيْرُ صَـافَّـاتٍا كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَهُ} (النور : 21) فيجب على المرء الإيمان به ويحيل علمه إلى الله تعالى روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك فقال له جبل حراء إليّ إليّ يا رسول الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية من فراق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد ونزل رسول الله عليه السلام فاعتنقها فسكنت.
قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 163
آنكه اورا نبود ازاسرار داد
كى كند تصديق او ناله جماد
وبينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه أي : استخلصها فالتفت إليه الذئب فقال : من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس : سبحان الله ذئب تكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أنا أومن به" وأبو بكر وعمر وعلى هذا إنطاق الله جلود الكفار يوم القيامة.
وتسبيح الحصى في كفه عليه السلام.
وكلام الشاة المسمومة.
ومجيء الشجرتين إليه صلى الله عليه وسلّم حتى يستتر بهما في قضاء حاجته ثم رجوعهما إلى مكانهما وأمثال ذلك كثيرة.
ذكر الشيخ قطب وقته الهدائي الإسكداري في "واقعاته" أنه كان يسمع في أثناء سلوكه من الماء الجاري ذكر يا دائم يا دائم ، وفي "المثنوي" :
نطق آب ونطق خاك ونطق كل
هست محسوس حواس أهل دل
فلسفي كومنكر حنانه است
از حواس أوليا بيكانه است
هر كرا دردل شك ويانيست
درجهان أو فلسفي نهانيست
قال بعض الحكماء معنى قوله : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} يبست ويبس القلب أن ييبس عن ماءين أحدهما ماء خشية الله تعالى والثاني ماء شفقة الخلق وكل قلب لا يكون فيه خشية الله ولا شفقة الخلق فهو كالحجارة أو أشد قسوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" وقال أيضاً : "أربعة من الشقاء : جمود العين ، وقسوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا".
جزء : 1 رقم الصفحة : 163
والإشارة في تحقيق الآية أن اليهود وإن شاهدوا عظيم الآيات فحين لم تساعدهم العناية لم يزدهم كثرة الآيات إلا قسوة على قسوة فإن الله أراهم الآيات الظاهرة فرأوها بنظر الحسن ولم يرهم البرهان الذي يراه القلب فيحجزهم عن التكذيب والإنكار يدل عليه قوله تعالى : {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَـانَ رَبِّهِ} (يوسف : 24) وهكذا حال بعض الممكورين حين يشرعون في الرياضات يلوح لهم من صفاء الروحانية ظهور بعض الآيات وخرق العادات فإذا لم يكن مقارناً برؤية البرهان ليكون مؤيداً بالتأييدات الإلهية لم يزدهم إلا العجب والغرور وأكثر ما يقع هذا للرهابين والمتفلسفة الذين استدرجهم الحق بالخذلان من حيث لا يعلمون وإنما تشبه قلوبهم بالحجارة لعدم اللين إلى الذكر الحقيقي وما يتداركه الحق بذكره كقوله : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ومراتب القلوب في القسوة متفاوتة فبعضها بمرتبة الحجارة التي يتفجر منها الأنهار
165
(1/131)
وهو قلب يظهر عليه بغلبات أنوار الروح لصفائه بعض الأشياء المشبهة لخرق العادات كما يكون لبعض الرهابين والكهنة وبعضها بمرتبة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ} وهو قلب يظهر عليه في بعض الأوقات عند انخراق حجب البشرية أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الفلاسفة والشعراء وبعضها بمرتبة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وهو قلب فيه بعض الصفاء فيكون بقدر صفائه قابل عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيه الخوف والخشية كما يكون لبعض أهل الأديان والملل وهذه المراتب مشتركة بين قلوب المسلمين وغيرهم والفرق بينهم أن أحوال هذه المراتب للمسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدهم في قربهم بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق كما قال : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22) وبعض القلوب بمرتبة الحجر القاسي الذي لا يؤثر فيه القرآن والأخبار والحكمة والموعظة وهذا القلب مخصوص بالكافر والمنافق فإنه قلب مختوم عليه {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عاجلاً وآجلاً فأما عاجلاً بأن يجعل إنكاركم سبب مزيد قسوة قلوبكم فيقسيها بأعمالكم الفاسدة ويطبع عليها بطابع إنكاركم قال عليه السلام : "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" وأما آجلاً فيعاقبكم يوم القيامة على قدر سيئات أعمالكم.
كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 163
{أَفَتَطْمَعُونَ} كان عليه السلام شديد الحرص على الدعاء إلى الحق وقبولهم الإيمان منه وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم فقص الله عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية لرسوله فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلة القبول والاستجابة والخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده كما في قولك أتضرب أباك لا لإنكار الوقوع كما في قوله : اضرب أبي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أتسمعون أخبارهم وتعلمون أحوالهم فتطمعون ومآل المعنى أبعد إن علمتم تفاصيل شؤونهم المؤيسة منهم فتطمعون في {أَن يُؤْمِنُوا} جميع اليهود أو علماؤهم فإنهم متماثلون في شدة الشكيمة والأخلاق الذميمة لا يتأتى من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم فلا تحزنوا على تكذيبهم واللام في {لَكُمْ} لتضمين معنى الاستجابة أي : في إيمانهم مستحبين لكم أو للتعليل أي : في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم الحال {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} كائن {مِنْهُم} أي : طائفة ممن سلف منهم والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط {يَسْمَعُونَ كَلَـامَ اللَّهِ} وهو ما يتلونه من التوراة {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} أي : يغيرون ما فيها من الأحكام كتغييرهم صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرجم وقيل : كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس.
قال في "التيسير" : الصحيح إنهم لم يسمعوا كلام الله بلا واسطة فإن ذلك كان لموسى على الخصوص لم يشركه فيه غيره في الدنيا ومعنى يسمعون كلام الله أي : التوراة من موسى بقراءته {مِنا بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي : من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم يبق لهم شبهة في صحته يقول كيف يؤمن هؤلاء وهم يقلدون أولئك الآباء فهم من أهل السوء الذين مضوا بالعناد فلا تطعموا في الإيمان
166
منهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي : يحرفونه والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 166
(1/132)
{وَإِذَا لَقُوا} أي : اليهود {الَّذِينَ ءَامَنُوا} من أصحاب النبي عليه السلام {قَالُوا} أي : منافقوهم {مَن} كإيمانكم وأن محمداً هو الرسول المبشر به {وَإِذَا خَلا} مضى ورجع {بَعْضُهُمْ} الذين لم ينافقوا أي : إذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجهين ومنضمين {إِلَى بَعْضٍ} أي : إلى الذين نافقوا بحيث لم يبق معهم غيرهم {قَالُوا} أي : الساكتون عاتبين لمنافقيهم على ما صنعوا {أَتُحَدِّثُونَهُم} تخبرونهم والاستفهام بمعنى النهي أي : لا تحدثوهم يعنون المؤمنين {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي : بينه الله لكم خاصة في التوراة من نعت النبي عليه السلام والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكنون وباب مغلق لا يقف عليه أحد {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ} اللام متعلقة بالتحديث دون الفتح والضمير في به لما فتح الله أي : ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم {عِندَ رَبِّكُمْ} أي : في حكمه وكتابه كما يقال هو عند الله كذا أي : في كتابه وشرعه والمحدثون به وإن لم يحوموا حول ذلك الغرض وهو المحاجة لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعاً له البتة جعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهاراً لكمال سخافة عقلهم وركاكة آرائهم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} متصل بكلامهم من التوبيخ والعتاب أي : ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وهو أن ذلك حجة لهم عليكم فالمنكر عدم التعقل ابتداء أو أتفعلوان ذلك فلا تعقلون بطلانه مع وضوحه حتى تحتاحون إلى التنبيه عليه فالمنكر حينئذٍ عدم التعقل بعد الفعل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 166
{أَوَلا يَعْلَمُونَ} الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن والضمير للموبخين أي : أيلومونهم على التحديث مخافة المحاجة ولا يعلمون {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي : جميع ما يسرونه وما يعلنونه ومن ذلك أسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان فحينئذٍ يظهر الله للمؤمنين ما أرادوا إخفاءه بواسطة الوحي إلى النبي عليه السلام فتحصل المحاجة والتبكيت كما وقع في آية الرجم وتحريم بعض المحرمات عليهم فأي فائدة في اللوم والعتاب.
{وَمِنْهُمْ} أي : من اليهود {أُمِّيُّونَ} لا يحسنون الكتب ولا يقدرون على القراءة والأمي منسوب إلى أمة العرب وهي الأمة الخالية عن العلم والقراءة فاستعير لمن لا يعرف الكتابة والقراءة {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ} أي : لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة فيؤمنوا {إِلا أَمَانِىَّ} جمع أمنية من التمني والاستثناء منقطع لأنها ليست من جنس الكتب أي : لكن الشهوات الباطلة ثابتة عندهم وهي المفتريات من تغيير صفة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأنهم لا يعذبون في النار إلا أياماً معدودة وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وأن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ويرحمهم ولا حجة لهم في صحة ذلك {وَإِنْ هُمْ} أي : ما هم {إِلا يَظُنُّونَ} ظناً من غير تيقن بها أي : ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 167
{فَوَيْلٌ} كلمة يقولها كل واقع في هلكة بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب أي : عقوبة عظيمة وهو مبتدأ خبره ما بعده قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره" وقال سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه : إنه واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره أي : ذابت {لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ} المحرف
167
(1/133)
{بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد لدفع توهم المجاز فقد يقول إنسان كتبت إلى فلان إذا أمر غيره أن يكتب عنه إليه {ثُمَّ يَقُولُونَ} لعوامهم {هَـاذَا} أي : المحرف {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} في التوراة روي أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي عليه السلام المدينة فاحتالوا في تعويق أسافل اليهود عن الإيمان فعمدوا إلى صفة النبي عليه السلام في التوراة وكانت هي فيها حسن الوجه جعد الشعر أكحل العين ربعة أي : متوسط القامة فغيروها وكتبوا مكانه طوال أزرق سبط الشعر وهو خلاف الجعد فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفته عليه السلام فيكذبونه {لِيَشْتَرُوا بِهِ} أي : يأخذوا لأنفسهم بمقابلة المحرف {ثَمَنًا} هو ما أخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل الزائغ وإنما عبر عن المشترى الذي هو المقصود بالذات في عقد المعاوضة بالثمن الذي هو وسيلة فيه إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة مقصودة بالذات {قَلِيلا} لا يعبأ به إنما وصفه بالقلة إما لفنائه وعدم ثوابه وإما لكونه حراماً لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله كذا في "تفسير القرطبي" {فَوَيْلٌ لَّهُم} أي : العقوبة العظيمة ثابتة لهم {مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} من أجل كتابتهم إياه {وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من أخذهم الرشوة وعملهم المعاصي وأصل الكسب الفعل لجر نفع أو دفع ضر ولهذا لا يوصف به سبحانه.
وفي الآيات إشارات :
الأولى : إن علم الرجل ويقينه ومعرفته ومكالمته مع الله لا يفيده الإيمان الحقيقي إلا أن يتداركه الله بفضله ورحمته قال الله تعالى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النور : 21) وإن الله تعالى كلم إبليس وخاطبه بقوله : يا اإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} (ص : 75) وما أفاده الإيمان الحقيقي إذا لم يكن مؤيداً من الله بفضله ورحمته ولم يبق على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 167
جز عنايت كه كشايد شم را
جز محبت كه نشاند خشم را
جهد بي توفيق خود كس را مباد
درجهان والله أعلم بالسداد
جهد فرعوني وبي توفيق بود
هره أو مي دوخت آن تفتيق بود
والثانية : إن العالم المعاند والعامي المقلد سواء في الضلال لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم وأن الدين ليس بالتمني فالذين ركنوا إلى التقليد المحض واغتروا بظنون فاسدة وتخمينات مبهمة فهم الذين لا تصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها دون معرفة معانيها وإدراك أسرارها وحقائقها وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدعي الإسلام فالمدعي والمتمني عاقبتهما خسران وضلال وحسرة وندامة ووبال.
وفي "المثنوي" :
تشنه راكر ذوق آيد از سراب
ون رسد دروى كريزد جويد آب
مفلسان كرخوش شوند از زر قلب
ليك إن رسوا شود دردار ضرب
والثالثة : أن من بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل في الوعيد المذكور وقد حذر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمته لما علم ما يكون في آخر الزمان فقال :
168
"ألا أن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة" فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس وقد وقع ما حذره وشاع وكثر وذاع فإناوإنا إليه راجعون ، قال السعدي :
نخوا هي كه نفرين كنندا زست
نكوباش تابد نكويد كست
نه هر آدمي زاده ازدد بهست
كه ددز آدمي زاده بدبهست
والرابعة : إن بعض المتسمين بالصوفية ينضم إلى الأولياء وأرباب القلوب ظاهراً ثم لا يصدق الإرادة ويميل إلى أهل الغفلة ويصغي إلى أقوالهم ويشتهي ارتكاب أفعالهم وكلما دعته هواتف الحظوظ سارع إلى الإجابة طوعاً وإذا قادته دواعي الحق تكلف كرهاً ليس له إخلاص في الصحبة في طريق الحق فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون من الإلحاد عن الحق واعتقاد السوء وإغراء الخلق وإضلالهم فهم الذين ضلوا وأضلوا كثيراً ، وفي "المثنوي" :
صد هزار ان دام ودانه است أي : خدا
ماو مرغان حريص بي نوا
دمبدم ما بسته دام نويم
هريكي كرباز وسمير غي شويم
(1/134)
فعلى السالك أن يجتهد في الوصول إلى الموجود الحق ويتخلص من الموهوم المطلق ولا يغتر بظواهر الحالات غافلاً عن بطون الاعتبارات فإن طريق الحق أدق من كل دقيق وماء عميق وفج سحيق وأجهل الناس من يترك يقين ما عنده من صفات نفسه التي لا شك فيها الظن ما عند الناس من صلاحية حاله.
قال حارث بن أسد المحاسبي رضي الله عنه الراضي بالمدح بالباطل كمن يهزأ به فالعاقل لا يغتر بمثله بل يجتهد إلى أن يصل إلى الحقيقة فويل لواعظ تكبر وافتخر بتقبيل الناس يده ورأى نفسه خيراً من السامعين ويتقيد بالمدح والذم اللهم إلا أن يخرج ذلك من قلبه والمعيار مساواة المقبل واللاطم عنده بل رجحان اللاطم والضارب.
قال في مجلس وعظه جنيد البغدادي لو لم أسمع قوله صلى الله عليه وسلّم "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" لما اجترأت على الوعظ فأنا ذلك الرجل الفاجر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 167
{وَقَالُوا} إن اليهود زعماً منهم {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ} أي : لا تصل إلينا النار في الآخرة {إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} قليلة محصورة سبعة أيام فإنهم يقولون إن أيام الدنيا سبعة آلاف سنة فنعذب مكان كل ألف سنة يوماً أو يراد أربعين يوماً مقدار عباده آبائهم العجل.
قال أبو منصور رحمه الله تصرف الأيام المعدودة إلى العمر الذي عصوا فيه وهم لم يروا التعذيب الأعلى قدر وقت العصيان أو كانوا لا يرون التخليد في النار كالجهمي أو لأنهم كانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه فلا نعذب أبداً بل نعذب تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه في وقت قليل ثم يرضى وهذا منهم باطل وعقوبة الكفر أبداً وثواب الإيمان كذلك لأن من اعتقد ديناً إنما يعتقده للأبد فعلى ذلك جزاؤه للأبد {قُلْ} يا محمد تبكيتاً لهم وتوبيخاً {اتَّخَذْتُمُ} بقطع الهمزة لأنه ألف استفهام بمعنى التوبيخ والألف المجتلبة ذهبت بالإدراج أي : اتخذتم {عِندَ اللَّهِ عَهْدًا} خبراً أو وعداً بما تزعمون فإن ما تدعون لا يكون إلا بناءً على وعد قوى ولذلك عبر عنه بالعهد {فَلَن} الفاء فصيحة معربة عن شرط محذوف أي : إن اتخذتم عند الله عهداً وأماناً فلن
169
{يُخْلِفَ اللَّهُ} الإخلاف نقض العهد {عَهْدَه} الذي عهده إليكم يعني ينجز وعده البتة.
قال الإمام أبو منصور : لهذان وجهان : أحدهما هل عندكم خبر عن الله تعالى أنكم لا تعذبون أبداً لكن أياماً معدودة فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده ووعده والثاني ألكم عند الله أعمال صالحة ووعدكم بها الجنة فهو لا يخلف وعده {أَمْ تَقُولُونَ} مفترين {عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقوعه وأم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي : الأمرين المتساويين كائن على سبيل التقرير لأن العلم واقع بكون أحدهما تلخيصه إن كان لكم عنده عهد فلا ينقض ولكنكم تخرصون وتكذبون روى أنهم إذا مضت تلك المدة عليهم في النار يقول لهم خزنة جهنم يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد فأيقنوا بالخلود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 169
{بَلَى} إثبات لما بعد النفي فهو جواب النفي ونعم جواب الإيجاب أي : قلتم لن تمسنا النار سوى الأيام المعدودة بلى تمسكم أبداً بدليل قوله : {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (البقرة : 81) وبين ذلك بالشرط والجزاء وهما {مِّنْ} فهو رفع مبتدأ بمعنى الشرط ولذلك دخلت الفاء في خبره وإن كان جواباً للشرط {كَسَبَ} الكسب استجلاب النفع واستعماله في استجلاب الضر كالسيئة على سبيل التهكم {سَيِّئَةً} من السيئات يعني كبيرة من الكبائر {وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِياـئَتُهُ} تلك واستولت عليه من جميع جوانبه من قلبه ولسانه ويده كما يحيط العدو وهذا إنما يتحقق في الكافر ولذلك فسر السلف السيئة بالكفر فأولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى في كلمة من بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة {أَصْحَـابُ النَّارِ} أي : ملازموها في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا لما يستوجبها من الأسباب التي من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات الله وتحريف كلامه والافتراء عليه وغير ذلك وهو خبر أولئك والجملة خبر للمبتدأ {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} دائمون فأنى لهم التفضي منها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا والجملة في حيز النصب على الحالية لورود التصريح به في قوله : {أَصْحَـابُ النَّارِ خَـالِدِينَ فِيهَا} (التغابن : 10) ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 169
(1/135)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : صدقوا بالله تعالى ومحمد عليه السلام بقلوبهم {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي : أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي {أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} لا يموتون ولا يخرجون منها أبداً جرت السنة الإلهية على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى والتبشير مرة والإنذار أخرى فإن باللطف والقهر يترقى الإنسان إلى الكمال ويفوز بجنة الجمال والجلال ـ حكي ـ أنه كان لشيخ مريد فقال له يوماً : لو رأيت أبا يزيد كان خيراً لك من شغلك فقال : كيف يكون هو خيراً وهو مخلوق ويتجلى الخالق كل يوم سبعين مرة ثم بالآخرة ذهب مع شيخه إلى أبي يزيد البسطامي فقالت امرأته لا تطلبوه فهو امرؤ ذهب للحطب فوقفا في طريقه فإذا هو حمل الحطب على أسد عظيم وبيده حية يضرب الأسد بها في بعض الأوقات فلما رآه المريد مات وقال أبو يزيد لشيخه : قد ربيت مريدك باللطف ولم ترشده إلى طريق القهر فلم يتحمل لما رآني فلا تفعل بعد اليوم وأرهم القهر أيضاً.
قال حضرة الشيخ الشهير : بافتده أفندي إن أبا يزيد برؤية القهر واللطف من الطريق كان مظهراً لتجلي الذات بخلاف المريد فلما رآه فيه لم يتحمل ، قال في "المثنوي" :
170
عاشقم بر قهر وبر لطفش بجد
بو العجب من عاش اين هردوضد
والله ارزين خاردر بستان شوم
همو بلبل زين سبب نالان شوم
أين عجب بلبل كه بكشايد دهان
تاخورد أوخار را با كلستان
أين ه أين نهنك آتشيست
جملة ناخو شهاز عشق أو راخو شيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
والإشارة في الآيات إلى أن بعض المغرورين بالعقل من الفلاسفة والطبايعية وغيرهم لفرط غفلتهم ظنوا أن قبائح أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم لا تؤثر في صفاء أرواحهم فإذا فارقت الأرواح الأجساد يرجع كل شيء إلى أصله فالأجساد ترجع إلى العناصر والأرواح إلى حظائر القدس ولا يزاحمها شيء من نتائج الأعمال إلا أياماً معدودة وهذا فاسد لأن العاقل يشاهد حساً وعقلاً إن تتبع الشهوات الحيوانية واستيفاء اللذات النفسانية يورث الأخلاق الذميمة من الحرص والأمل والحقد والحسد والبغض والغضب والبخل والكبر والكذب وغير ذلك وهو من صفات النفس الأمارة بالسوء فتصير بالمجاورة والتعود أخلاق الروح فيتكدر صفاؤه ويتبدل أخلاقه الروحانية من الحلم والكرم والمروءة والصدق والحياء والعفة والصبر والشكر وغير ذلك بالأخلاق الحيوانية الشيطانية والذي يجتهد في قمع الهوى والشهوات يورث هذه المعاملات من مكارم الأخلاق وصفاء القلب وتحننه إلى وطنه الأصلي وغير ذلك فلا يساوي الروح المتبع للنفس الأمارة كما للعوام بعد المفارقة مع الروح المتبع لإلهامات الحق كما يكون للخواص وبعضهم قالوا وإن تدنست الأرواح بقدر تعلقها بمحبوبات طباعها فبعد المفارقة بقيت في العذاب أياماً معدودة على قدر انقطاع التعلقات عنها وزوال الكدورات ثم تخلص وهذا أيضاً خيال فاسد وكذبهم الله بقوله : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته تظهر على مرآة قلبه بقدرها رينا فإن تاب محي عنه وإن أصر على السيئات حتى إذا أحاط بمرآة قلبه رين السيئات بحيث لا يبقى فيه الصفاء الفطري وخرج منه نور الإيمان وضوء الطاعات فأحاطت به الخطيئات {فَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} وفيه إشارة أيضاً إلى بعض أرباب الطلب ممن يركن إلى شهوات الدنيا في أثناء الطلب فيتظفر عليه الشيطان ويغره بزهده فيوقعه في ورطة العجب فينظر إلى نفسه بنظر التعظيم وإلى الخلق بنظر التحقير فيهلك أو يغتر بما ظهر في أثناء السلوك من بعض الوقائع الصادقة والرؤيا الصالحة وشيء من المشاهدات والمكاشفات الروحانية إلا الرحمانية فيظن المغرور أن ليس وراء عبادته قربة وأنه بلغ مبلغ الرجال فيسكت عن الطلب وتعتريه الآفات حتى أحاطت به خطيئته فرجع القهقرى إلى أسفل الطبيعة وأما الذين آمنوا من أهل الطلب {وَعَمِلُوا} على قانون الشريعة بإشارة شيخ الطريقة الصالحات المبلغات إلى الحقيقة أولئك أصحاب الوصول إلى جنات الأصول خالدين فيها بالسير إلى أبد الآباد فإن المنازل والمقاصد وإن كانت متناهية لكن السير في المقصد غير متناه بخلاف الذين أحاطت بهم خطيئتهم فإنهم خالدون في نار القطيعة ولن تنفعهم المجاهدات والنظر في المعقولات والاستدلال بالشبهات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} في التوراة والميثاق العهد الشديد وهو على وجهين عهد خلقة وفطرة وعهد نبوة ورسالة وإذا نصب بإضمار فعل خوطب به النبي عليه السلام والمؤمنون ليؤديهم التأمل في أحوالهم إلى قطع الطمع عن إيمان أخلافهم
171
لأن قبائح أسلافهم مما تؤدي إلى عدم إيمانهم ولا يلد الحية إلا الحية ومن ههنا قيل :
إذا طاب أصل المرء طابت فروعه†
(1/136)
أو اليهود الموجودون في عصر النبوة توبيخاً لهم بسوء صنيع أسلافهم أي : اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم بأن {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} أي : أن لا تعبدوا فلما أسقط إن رفع تعبدون لزوال الناصب أو على أن يكون إخباراً في معنى النهي كما تقول تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد به الأمر أي : اذهب وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لما فيه من إيهام من المنهي حقه أن يسارع إلى الانتهاء عما نهى عنه فكأنه انتهى عنه فيخبر به الناهي أي : لا توحدوا إلا الله ولا تجعلوا الألوهية إلاوقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قيل وأحلفناهم وقلنا بالله لا تعبدون إلا الله {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي : وتحسنون إحساناً على لفظ تعبدون لأنه إخبار أو وأحسنوا على معناه لأنه إنشاء أي : براً كثيراً وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله {وَذِى الْقُرْبَى} أي : وتحسنون إلى ذي القرابة أيضاً مصدر كالحسنى {وَالْيَتَـامَى} جمع يتيم وهو الصغير الذي مات أبوه قبل البلوغ ومن الحيوانات الصغير الذي ماتت أمه والإحسان بهم بحسن التربية وحفظ حقوقهم عن الضياع {وَالْمَسَـاكِينَ} بحسن القول وإيصال الصدقة إليهم جمع مسكين من السكون كأن الفقر أسكنه عن الحراك أي : الحركة وأثقله عن التقلب قلنا {وَقُولُوا لِلنَّاسِ} قولاً {حَسَنًا} سماه حسناً مبالغة لفرط حسنه أمر بالإحسان بالمال في حق أقوام مخصوصين وهم الوالدان والأقرباء واليتامى والمساكين ولما كان المال لا يسع الكل أمر بمعاملة الناس كلهم بالقول الجميل الذي لا يعجز عنه العاقل يعني وألينوا لهم القول بحسن المعاشرة وحسن الخلق وائمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر أي : وقولوا للناس صدقاً وحقاً في شأن محمد عليه السلام فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموا أمره {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ} كما فرضا عليهم في شريعتهم ذكرهما تنصيصاً مع دخولهما في العبادة المذكورة تعميماً وتخصيصاً تلخيصه أخذنا عهدكم يا بني إسرائيل بجميع المذكور فقبلتم وأقبلتم عليه {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على طريقة الالتفات أي : أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق ورفضتموه {إِلا قَلِيلا مِّنكُمْ} وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه {وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ} جملة تذييلية ، أي : وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق وليس الواو للحال لاتحاد التولي والإعراض فالجملة اعتراضاً للتأكيد في التوبيخ وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة والإقبال إلى جانب العرب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
واعلم أن في الآية عدة أشياء :
منها : العبادة فمن شرط العبودية تفرد العبد لعبادة المعبود وتجرده عن كل مقصود فمن لاحظ خلقاً أو استحلى ثناء أو استجلب بطاعته إلى نفسه حظاً من حظوظ الدنيا والآخرة أو داخله بوجه من الوجوه مزج أو شوب فهو ساقط عن مرتبة الإخلاص برؤية نفسه :
حجاب راه تويى حافظ از ميان برخيز
خوشا كسى كه ازين راه بي حجاب رود
ومنها : الإحسان إلى الوالدين وقد عظم الله حق الوالدين حيث قرن حقه بحقهما في آيات من القرآن لأن النشأة الأولى من عند الله والنشأة الثانية وهي التربية من جهة الوالدين ويقال : ثلاث
172
آيات أنزلت مقرونة بثلاث آيات ولا تقبل إحداها بغير قرينتها إحداها قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء : 59) والثانية : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} (لقمان : 14) والثالثة : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى} (البقرة : 43) والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما والامتثال إلى أمرهما وصلة أهل ودّهما والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما ، قال السعدي :
سالها برتو بكذرد كه كذر
نكني سوى تربت درت
تو بجاي دره كردي خير
تاهمان شم داري ازسرت
وفي "التأويلات النجمية" : إن في قوله : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إشارة إلى أن أعز الخلق على الولد والداه لأجل أنهما سببا وجوده في الظاهر ولكن ينبغي أن يحسن إليهما بعد خروجه من عهدة عبودية ربه إذ هو موجد وجوده ووجود والديه في الحقيقة ولا يختار على أداء عبوديته إحسان والديه فكيف الالتفات لغيرهما ، ومنها البر إلى اليتامى :
برحمت بكن آبش از ديده اك
بشفق بيفشانش ازهره خاك
(1/137)
وفي الحديث "ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فلا يقرب قصعتهم الشيطان" وفي الحديث أيضاً "من ضم يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملاً لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه" قالوا : وما كريمتاه؟ قال : "عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يكبرن أو يمتن غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملاً لا يغفر" فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال : يا رسول الله أو اثنتان فقال صلى الله عليه وسلّم "أو اثنتان" وقال صلى الله عليه وسلّم "كافل اليتيم أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار بالسبابة والوسطى والسبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة لأنهم كانوا يسبون بها فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها بالمشيرة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد والمشيرة من أصابع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانت أطول من الوسطى ثم الوسطى أقصر منها ثم البنصر أقصر من الوسطى فقوله عليه السلام : "أنا وهو كهاتين في الجنة" وقوله في الحديث الآخر : "أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا" وأشار بأصابعه الثلاث فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال : نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلة رفيعة فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حمل تأويل الحديث على الانضمام واقتراب بعضهم من بعض في محل القربة وهذا معنى بعيد لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة ومنازل مختلفة كذا في "تفسير القرطبي".
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
ومنها : البر إلى المساكين وهم الذين أسكنتهم الحاجة وذللتهم وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء وفي الحديث "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" وكان طاووس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله :
نخواهي كه باشي را كنده دل
را كندكانرا ز خاطر مهل
ريشان كن امروز كنجينه ست
كه فردا كليدش نه دردست تست
173
ومنها : القول الحسن ولما خرج الطالب من عهدة حق العبودية وعمت رحمته وشفقته الوالدين وغيرهما لزم له أن يقول للناس حسناً يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الله ويهديهم إلى طريق الحق ويخالقهم بحسن الخلق وأن يكون قوله ليناً ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} (طه : 44) فليس بأفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخسّ من فرعون وقد أمرهما الله باللين معه فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي ، قال الحافظ :
آسايش دوكيتي تفسير اين دو حرفست
بادوستان تلطف با دشمنان مدارا
وقال السعدي :
درشتي نكيرد خرد مند يش
نه سستي كه ناقص كند قدر خويش
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ} أي : واذكروا أيها اليهود وقت أخذنا إقراركم وعهدكم في التوراة وقلنا لكم : {لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} لا يريقَ بعضكم دم بعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلاً أو ديناً فلما بينهم من الاتصال القوي نسباً وديناً أجري كل واحد منهم مجرى أنفسهم وقيل إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه وهو إخبار في معنى النهي كأنه سورع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَـارِكُمْ} أي : لا يخرج بعضكم بعضاً من دياره أو لا تسبوا جيرانكم فتلجئوهم إلى الخروج وفي اقتران الإخراج من الديار بالقتل إيذان بأنه بمنزلة القتل.
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي : بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وبوجوب المحافظة عليه {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} عليها توكيد للإقرار كقولك فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها أو أنتم اليوم أيها اليهود تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
(1/138)
{ثُمَّ أَنتُمْ} مبتدأ {هَـاؤُلاءِ} خبر ومناط الإفادة اختلاف الصفات المنزل منزلة اختلاف الذات كما تقول رجعت بغير الوجه الذي خرجت به والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون والناقضون المتناقضون يعني : أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين كأنهم قالوا : كيف نحن فقيل : {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي : الجارين مجرى أنفسكم فهو بيان لقوله : {ثُمَّ أَنتُمْ هَـاؤُلاءِ} {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَـارِهِمْ} الضمير للفريق وهو الطائفة {تَظَـاهَرُونَ عَلَيْهِم} بحذف إحدى التاءين حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله مبينة لكيفية الإخراج رافعة لتوهم اختصاص الحرمة بالإخراج بطريق الأصالة والاستقلال دون المظاهرة والمعنى تقوون ظهوركم للغلبة عليهم {بِالاثْمِ} حال من فاعل تظاهرون أي : ملتبسين بالإثم وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم {وَالْعُدْوَانِ} أي : التجاوز في الظلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 174
ودلت الآية على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه كذا في "التفسير الكبير".
{وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـارَى} أي : جاؤوكم حال كونهم مأسورين أي : ظهروا لكم على هذه الحالة ولم يرد به الإتيان الاختياري والأسارى والأسرى جمع أسير وهو من يؤخذ قهراً فعيل بمعنى المفعول من الأسر بمعنى الشد والإيثاق والفرق أنهم إذا قيدوا فهم أسارى وإذا حصلوا في اليد من غير
174
قيد فهم أسرى.
{تُفَـادُوهُمْ} أي : تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء والمفاداة تجري بين الفادي وبين قابل الفداء {وَهُوَ} مبتدأ أي : الشان {مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} محرم فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبراً عن إخراجهم والجملة خبر لضمير الشان وذلك أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه وكان قريظة والنضير من اليهود أخوين وكذا الأوس والخزرج وهم أهل شرك يعبدون الأصنام ولا يعرفون القيامة والجنة والنار والحلال والحرام فافترقوا في حرب شمر ووقعت بينهم عَداوة فكانت بنو قريظة معينة للأوس وحلفاءهم أي : ناصريهم والنضير معينة للخزرج وحلفاءهم فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قريظة مع الأوس والنضير مع الخزرج يظاهر كل قوم حلفاءهم على إخوانهم حتى يتسافكوا الدماء وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها وبأيديهم التوراة يعرفون ما فيها مما عليهم ومالهم فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدى قريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم وافتدى النضير ما كان في أيدي الأوس منهم من الأسارى فعيرتهم العرب بذلك وقالوا كيف تقاتلونهم وتفدونهم فقالوا : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم قالوا : فلم تقاتلونهم قالوا : إنا نستحيي أن يستذل حلفاؤنا فذمهم على المناقضة وتلخيصه أعرضتم عن الكل إلا الفداء لأن الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة عليهم مع أعداهم وفداء أساراهم فأعرضوا عن الكل إلا الفداء {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ} وهو الفداء والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي : أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}
جزء : 1 رقم الصفحة : 174
هو حرمة القتال والإخراج مع أن قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقي لكون الكل من عند الله داخلاً في الميثاق فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض {فَمَا جَزَآءُ} نفي أي : ليس جزاء {مَن يَفْعَلُ ذَالِكَ} أي : الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان بالبعض {مِّنكُم} يا معشر اليهود حال من فاعل يفعل {إِلا خِزْىٌ} استثناء مفرغ وقع خبراً للمبتدأ أي : ذل وهو أن مع الفضيحة وهو قتل بني قريضة وأسرهم ، وإجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام وقيل هو أخذ الجزية {فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} صفة خزي ولعل بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهار أنه لا أثر له أصلاً مع الكفر بالبعض {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ} يوم تقام فيه الأجزية {يُرَدُّونَ} أي : يرجعون والرد الرجع بعد الأخذ {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} هو التعذيب في جهنم وهو أشد من خزيهم في الدنيا وأشد من كل عذاب كان قبله فإنه ينقطع وهذا لا ينقطع وفي الحديث "فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة" وإنما كان أشد لما أن معصيتهم كانت أشد المعاصي ، وفي "المثنوي" :
هر كه ظالم تر هش باهول تر
عدل فرموده است بدتررا بتر
{وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ} بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكر أي : لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فيجازيهم بها يوم البعث تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة
175
عظيمة على الطاعة لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق إلى مستحقيها.
(1/139)
{أُوالَـائِكَ} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} واستبدلوها {بِالاخِرَةِ} وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذكر من الكفر ببعض أحكام الكتاب إنما كان مراعاة لجانب حلفائهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافع الدينية والدنيوية {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} دنيوياً كان أو أخروياً {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من العذاب بدفعه عنهم بشفاعة أو جبر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 174
اعلم أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيتهما شاء وأراد فإذا اشتغل بتحصيل إحداهما فقد فوت الأخرى على نفسه فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتابهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء وذلك من الله نهاية الذم ؛ لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم فأن يذم مشترى الدنيا بالآخرة أولى.
فعلى العاقل أن يرغب في تجارة الآخرة ولا يركن إلى الدنيا ولا يسفك دمه بامتثال أوامر الشيطان في استجلاب حظوظ النفس ولا يخرج من ديار دينه التي كان عليها في أصل الفطرة فإنه إذا يضل ويشقى في قوله : {لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} إشارة أخرى إلى أن العبد ولا يجوز له أن يقتل نفسه من جهد أو بلاء يصيبه أو يهيم في الصحراء ولا يأتي البيوت جهلاً في ديانته وسفهاً في حلمه فهو عام في جميع ذلك.
وقد روي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم عزموا أن يلبسوا المسوح وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا إلى البيوت ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء فقال عليه السلام : "إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء وآوي إلى البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني" فرجعوا عما عزموا قال تعالى : "وآت كل ذي حق حقه" فالكمال في التجاوز عن القيود والوصول إلى عالم الشهود وعين العارف لا ترى غير الله في المرايا والمظاهر فمن أي : شيء يهرب وإلى أين يهرب فأينما تولوا فثم وجه الله ولذا قيل : الذي يطلب العلمإذا قيل له غداً تموت لا يضيع الكتاب من يده لكونه وفى الحقوق مشتغلاً بهمخلصاً له النية فلم ير أفضل مما هو فيه فيحب أن يأتيه الموت على ذلك.
واعلم أيضاً أن الأسارى أصناف شتى فمن أسير في قيد الهوى فإنقاذه بالدلالة على الهدى ومن أسير في قيد حب الدنيا فخلاصة بإخلاص ذكر الموت ، وفي "المثنوي" :
ذكر حق كن بأنك غولانرا بسوز
شم نركس را ازين كركس بدوز
ومن أسير بقي في قيد الوسواس فقد استهوته الشياطين ففداؤه برشده إلى اليقين بلوائح البراهين لينقذه من الشكوك والظنون والتخمين ويخرجه من ظلمات التقليد وما تعود بالتلقين ومن أسير تجده في أسر هواجس نفسه ربيط زلاته ففك أسره في إرشاده إلى إقلاعها ومن أسير تجده في أسر صفاته وحبس وجوده فنجاته في الدلالة على الحق فيما يحل عنه وثاق الكون ومن أسير تجده في قبضة الحق فليس لأسيرهم فداء ولا لقتيلهم قود ولا لربيطهم خلاص ولا منهم بدل ولا معهم جدل ولا إليهم لغيرهم سبيل ولا لديهم إلا بهم دليل ولا بهم فرار ولا معهم قرار فهذا مقام الأولياء الكمل فمن اتخذ هذه الطريقة سبيلاً نال مراده ووصل إلى مقام فؤاده
176
وتخلص من الخزي الذي هو عمى القلب عن مشاهدة الحق والعمه في تيه الباطل في الدنيا والآخرة ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 174
أصل صد يوسف جمال ذو الجلال
أي كم أززن شو فداي آن جمالأصل بيند ديده ون اكمل بود
فرع بيند ونكه مرادا حول بودسرمه توحيد از كحال حال
يافته رسته زعلت واعتلال
ولا بد من العشق في طريق الحق ـ وحكي ـ أن عجوزاً أحضرت السوق قطعة غزل وقالت : اكتبوني من مشتري يوسف حتى يوجد اسمي في دفتر العشاق اللهم لا تحجبنا عن جمالك وعنك واجعلنا من الفائزين بنوال وصالك منك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 174
(1/140)
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا} أي : بالله لقد أعطينا يا بني إسرائيل {مُوسَى} لغة عبرانية قد سبق تفصيله عند قوله تعالى : {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} (البقرة : 51) الآية {الْكِتَـابُ} أي : التوراة جملة واحدة {وَقَفَّيْنَا مِنا بَعْدِه بِالرُّسُلِ} يقال قَفَّاه به إذا أتبعه إياه أي : اتبعنا من بعد موسى رسولاً بعد رسول مقتفين أثره وهم يوشع وشمويل وداود وسليمان وشمعون وعشيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم السلام {وَءَاتَيْنَا عِيسَى} بالسريانية اليسوع ومعناه المبارك والأصح أنه لا اشتقاق له ولأمثاله في العربية {ابْنَ} بإثبات الألف وإن كان وقعاً بين العلمين لندرة الإضافة إلى الأم {مَرْيَمَ} بالسريانية بمعنى الخادمة والعابدة قد جعلتها أمها محررة لخدمة المسجد ولكمال عبادتها لربها سماها الحق تعالى في كتابه الكريم مع الأنبياء عليهم السلام سبع مرات وخاطبها كما خوطب الأنبياء كما قال تعالى : يا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} (آل عمران : 43) فشاركها مع الرجال {الْبَيِّنَـاتُ} المعجزات الواضحات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات والإنجيل {وَأَيَّدْنَـاهُ} أي : قويناه {بِرُوحِ الْقُدُسِ} من إضافة الموصوف إلى الصفة أي : بالروح المقدسة المطهرة وهي روح عيسى عليه السلام وصفت بالقدس للكرامة لأن القدس هو الله تعالى أو الروح جبريل ووصفه بالطهارة لأنه لم يقترف ذنباً وسمي روحاً لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب ومعنى تقويته به أنه عصمه من أول حاله إلى كبره فلم يدن منه الشيطان عند الولادة ورفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله وتخصيص عيسى من بين الرسل ووصف بإيتاء البينات والتأييد بروح القدس لما أن بعثتهم كانت لتنفيذ أحكام التوراة وتقريرها وأما عيسى فقد نسخ بشرعه كثير من أحكامها وحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه ببيان حقيقته وإظهار كمال قبح ما فعلوا به وما بين موسى وعيسى أربعة آلاف نبي وقيل سبعون ألف نبي
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ} خاطب أهل عصر النبي عليه السلام بهذا وقد فعله أسلافهم يعني لم يوجد منهم القتل إن وجد الاستكبار لأنهم يتولونهم ويرضون بفعلهم والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام أي : ألم تطيعوهم فكلما جاءكم {رَسُولُا بِمَا لا تَهْوَى} أي : لا تريد {أَنفُسُكُمُ} ولا يوافق هواكم من الحق الذي لا انحراف عنه {اسْتَكْبَرْتُمْ} أي : تعظمتم عن الاتباع له والإيمان بما جاء به من عند الله {فَفَرِيقًا} منهم {كَذَّبْتُمْ} كعيسى ومحمد عليهما السلام {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم السلام.
وقدم فريقاً في الموضعين
177
للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر ولم يقل قتلتم وإن أريد الماضي تفظيعاً لهذه الحالة فكأنها وإن مضت حاضرة لشناعتها ولثبوت عارها عليهم وعلى ذريتهم بعدهم أو يراد وفريقاً تقتلونهم بعد وإنكم على هذه النية لأنكم حاولتم قتل محمد عليه الصلاة والسلام لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة حتى قال عليه السلام عند موته : "ما زالت أكلة خيبر تعاودني" أي : يراجعني أثر سمها في أوقات معدودة "فهذا أوان قطعت أبهري" وهو عرق منبسط في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
وقصته أنه لما فتحت خيبر وهو موضع بالحجاز أهديت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شاة فيها سمٌّ فقال رسول الله : "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي فيه" قالوا : نعم يا أبا القاسم قال : "هل جعلتم في هذه الشاة سماً" قالوا : نعم قال : "فما حملكم على ذلك" قالوا : أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك وإن كنت صادقاً لم يضرك.
واعلم أن اليهود أنفوا من أن يكونوا أتباعاً وكانت لهم رياسة وكانوا متبوعين فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرياسة فما دام لم يخرج حب الرياسة من القلب لا تكون النفس مؤمنة بالإيمان الكامل وللنفس صفات سبع مذمومة العجب والكبر والرياء والغضب والحسد وحب المال وحب الجاه ولجهنم أيضاً أبواب سبعة فمن زكى نفسه عن هذه السبع فقد أغلق سبعة أبواب جهنم ودخل الجنة وأوصى إبراهيم بن أدهم بعض أصحابه فقال : كن ذنباً ولا تكن رأساً فإن الرأس يهلك والذنب يسلم ، قال في "المثنوي" :
تاتواني بنده شو سلطان مباش
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
زخم كش ون كوى شووكان مباشاشتهار خلق بند محكمست
در ره أين از بند آهن كى كم است وعن بعض المشايخ النقشبندية أنه قال : دخلت على الشيخ المعروف بدده عمر الروشني للعبادة فوجدته متغير الحال بسبب أنه داخله شيء من حب الرياسة لأنه كان مشهوراً في بلدة تبريز مرجعاً للأكابر والأصاغر فنعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وفي "شرح الحكم" ادفن وجودك أي : ما يكون سبب ظهور اختصاصك بين الخلق من علم أو عمل أو حال في أرض الخمول التي هي أحد ثلاثة أمور :
(1/141)
أحدهما : أن ترى ما جبلت عليه من النقص فلا تعتد بشيء يظهر منك لعلمك بدسائسك وخباثة نفسك.
الثاني : أن تنظر إليك من حيث أنت فلا ترى لائقاً بك إلا النقص وتنظر إلى مولاك فتراه أهلاً لكل كمال فكل ما يصدر لك من إحسان نسبته إليه اعتباراً بما أنت عليه من خمول الوصف.
الثالث : أن تظهر لنفسك ما يوجب نفي دعواها من مباح مستبشع أو مكروه لم يمنع دواء لعلة العجب لا محرماً متفقاً عليه إذ كما لا يصح دفن الزرع في أرض رديئة لا يجوز الخمول في حالة غير مرضية.
{وَقَالُوا} أي : اليهود الموجودون في عصر النبي عليه السلام {قُلُوبُنَا غُلْفُ} جمع اغلف مستعار من الأغلف الذي لم يختن أي : هي مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفقهه ثم رد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق واضرب وقال : {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي : خذلهم وخلاهم وشأنهم بسبب كفرهم العارض وإبطالهم لاستعدادهم بسوء اختيارهم بالمرة {فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ} ما مزيدة للمبالغة أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون وهو إيمانهم ببعض
178
الكتاب والفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَـابٌ} كائن {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} وهو القرآن ووصفه بقوله من عند الله للتشريف {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} أي : موافق للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع.
قال ابن التمجيد المصدق به ما يختص ببعثة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما يدل عليها من العلامات والصفات لا الشرائع والأحكام لأن القرآن نسخ أكثرها {وَكَانُوا مِن قَبْلُ} أي : قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلّم {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : يستنصرون به على مشركي العرب وكفار مكة ويقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لأعدائهم قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا} من الكتاب لأن معرفة من أنزل هو عليه معرفة له والفاء للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدة منسية {كَفَرُوا بِهِ} حسداً وحرصاً على الرياسة وغيروا صفته وهو جواب لمّا الأولى والثانية تكرير للأولى {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَـافِرِينَ} أي : عليهم وضعاً للظاهر موضع الضمير للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم والفاء للدلالة على ترتيب اللعنة على الكفر واللعنة في حق الكفار الطرد والإبعاد من الرحمة والكرامة والجنة على الإطلاق وفي حق المذنبين من المؤمنين الإبعاد عن الكرامة التي وعد بها من لا يكون في ذلك الذنب ومنه قوله عليه السلام : "من احتكر فهو ملعون" أي : من ادخر ما يشتريه وقت الغلاء ليبيعه وقت زيادة الغلاء فهو مطرود من درجة الأبرار لا من رحمة الغفار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 179
واعلم أن الصفات المقتضية لِلَّعن ثلاث : الكفر والبدعة والفسق وله في كل واحدة ثلاث مراتب :
الأولى : اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله على الكافرين والمبتدعة أو الفسقة.
والثانية : اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى أو على القدرية والخوارج والروافض أو على الزناة والظلمة وأكل الربا وكل ذلك جائز.
والثالثة : اللعن على الشخص فإن كان ممن ثبت كفرهم شرعاً يجوز لعنه إن لم يكن فيه أذى على مسلم كقولك لعنة الله على فرعون وأبي جهل لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً وإن كان ممن لم يثبت شرعاً كلعنة زيد أو عمرو أو غيرهما بعينه فهذا فيه خطر لأن حال خاتمته غير معلوم وربما يسلم الكافر أو يتوب فيموت مقرباً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً ألا يرى أن وحشياً قتل عم النبي عليه السلام أعني حمزة رضي الله عنه ثم أسلم على يد النبي عليه السلام وبشره الله بالجنة وهذه حجة من لم يلعن يزيد لأنه يحتمل أن يتوب ويرجع عنه فمع هذا الاحتمال لا يلعن.
قال بعضهم : لعن يزيد على اشتهار كفره وتواتر فظاعة شره لما أنه كفر حين أمر بقتل الحسين رضي الله عنه ولما قال في الخمر :
فإن حرمت يوماً على دين أحمد
فخذها على دين المسيح ابن مريم واتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين رضي الله عنه أو أمر به أو أجازه أو رضي به كما قال سعد الملة والدين التفتازاني الحق أن رضى يزيد بقتل الحسين واستبشاره وإهانته أهل بيت النبي عليه السلام مما تواتر معناه وإن كان تفاصيله آحاد فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه انتهى.
وكان الصاحب بن عباد يقول إذا شرب ماء بثلج :
179
قعقعة الثلج بماء عذب
(1/142)
تستخرج الحمد من أقصى القلب ثم يقول اللهم جدد اللعن على يزيد ويكف اللسان عن معاوية تعظيماً لمتبوعه وصاحبه عليه السلام لأنه كاتب الوحي وذو السابقة والفتوحات الكثيرة وعامل الفاروق وذي النورين لكنه أخطأ في اجتهاده فتجاوز الله عنه ببركة صحبة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
قال الخياط المتكلم ما قطعني إلا غلام قال ما تقول في معاوية قلت : أنا أقف فيه قال : فما تقول في ابنه يزيد قلت : ألعنه قال : فما تقول فيمن يحبه قلت ألعنه قال : أفترى أن معاوية كان لا يحب ابنه كذا في "روضة الأخبار".
ثم اعلم أن اللعنة ترتد على اللاعن إن لم يكن الملعون أهلاً لذلك ولعن المؤمن كقتله في الاسم وربما يلعن شيئاً من ماله فتنزع منه البركة فلا يلعن شيئاً من خلق الله لا للجماد ولا للحيوان ولا للإنسان قال عليه السلام : "إذا قال العبد لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعصانا لربه" فالأولى أن يترك ويشتغل بدله بالذكر والتسبيح إذ فيه ثواب ولا ثواب في اللعن وإن كان يستحق اللعن قال عليه السلام : "أريت النار وأكثر أهلها النساء فإنهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير فلو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم إذا رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط" قال على كرم الله وجهه : من أفتى الناس بغير علم لعنته السماء والأرض وسألت بنت على البلخي أباها عن القيء إذا خرج إلى الحلق فقال : يجب إعادة الوضوء فرأى رسول الله عليه السلام يقول : لا يا علي حتى يكون ملء الفم فقال : علمت أن الفتوى تعرض على رسول الله فآليت على نفسي أن لا أفتي أبداً كذا في "الروضة".
جزء : 1 رقم الصفحة : 179
{بِئْسَمَا} ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس أي : بئس شيئاً {اشْتَرَوُا} صفة واشترى بمعنى باع وابتاع والمراد هنا الأول {بِهِ} أي : بذلك الشيء {أَنفُسَهُمْ} المراد الإيمان وإنما وضع الأنفس موضع الإيمان إيذاناً بأنها إنما خلقت للعلم والعمل به المعبر عنه بالإيمان ولما بدلوا الإيمان بالكفر كانوا كأنهم بدلوا الأنفس به والمخصوص بالذم قوله تعالى : {أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} أي : بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته {بَغْيًا} علة لأن يكفروا أي : حسداً وطلباً لما ليس لهم كما أن الحاسد يطلب ما ليس له لنفسه مما للمحسود من جاه أو منزلة أو خصلة حميدة والباغي هو الظالم الذي يفعل ذلك عن حسده والمعنى بئس شيئاً باعوا به إيمانهم كفرهم المعلل بالبغي الكائن لأجل {أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ} أو حسداً على أن فإن الحسد يستعمل بعلى {مِن فَضْلِهِ} الذي هو الحي {عَلَى مَن يَشَآءُ} أي : يشاؤه ويصطفيه {مِنْ عِبَادِهِ} المستأهلين لتحمل أعباء الرسالة والمراد ههنا محمد صلى الله عليه وسلّم كانت اليهود يعتقدون نبي آخر الزمان ويتمنون خروجه وهم يظنون أنه من ولد إسحاق فلما ظهر أنه من ولد إسماعيل حسدوه وكرهوا أن يخرج الأمر من بني إسرائيل فيكون لغيرهم أي : رجعوا ملتبسين {بِغَضَبٍ} كائن {عَلَى غَضَبٍ} أي : صاروا مستحقين لغضب مترادف ولعنة إثر لعنة حسبما اقترفوا من كفر على كفر فإنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه {وَلِلْكَـاـفِرِينَ} أي : لهم والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يراد به إهانتهم وإذلالهم لما أن كفرهم بما أنزل الله كان مبنياً على الحسد المبني على طمع النزول عليهم وادعاء
180
الفضل على الناس والاستهانة بمن أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلّم ودل أن عذاب المؤمنين تأديب وتطهير وعذاب الكفار إهانة وتشديد وأن المراتب الدنيوية والأخروية كلها من فيض الله تعالى وفضله فليس لأحد أن يعترض عليه ويحسده على الألطاف الإلهية فإن الكمالات مثل النبوة والولاية ليست من الأمور الاكتسابية التي يصل إليها العبد بجهد كثير وكمال اهتمام أما النبوة ، أي : البعثة فاختصاص إلهي حاصل لعينه الثابتة من التجلي الموجب للأعيان في العلم وهو الفيض الأقدس وأما الولاية فهو أيضاً اختصاص إلهي غير كسبي بل جميع المقامات كذلك اختصاصية عطائية غير كسبية حاصلة للعين الثابتة من الفيض الأقدس وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم المحجوب فيظن أنه كسبي بالتعمل وليس كذلك في الحقيقة فلا معنى للحسد لكن الجاهلين بحقيقة الحال يطيلون ألسنتهم بالقيل والقال ولا ضير فإنه رفع لدرجات العبد واقتضت سنة الله أن يشفع أهل الجمال بأهل الجلال ليظهر الكمال ، قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 179
درين من كل بيخار كس بيد آرى
راغ مصطفوي باشرار بولهبيست
(1/143)
ـ وحكي ـ أن المولى جلال الدين : لمَّا فقد الشمس التبريزي طاف البلاد بالحرارة في طلبه فمر يوماً أمام حانوت ذهبي للشيخ صلاح الدين زركوب فقال له تعالى يا مولانا فدخل في حانوته فقال : لأي شيء تجزع وتدور؟ قال : الفلك إذا فقد شمسه يدور لأجله ليتخلص من ظلمة الفراق فقال الشيخ : أنا شمسك قال مولانا : من أين أعرف أنك شمسي فأخبره عن المراتب التي أوصله إليها الشيخ شمس الدين فقبل يده واعتذر فقال : كان شمسي أراني أولاً بطانته فالآن أراني وجهه فاشتغل عنده فوصل إلى ما وصل ثم لما سمعه بعض أتباع مولانا أرادوا قتله وحسدوا عليه فأرسل إليه مولانا ابنه سلطان ولد فقال الشيخ : إن الله تعالى أعطاني قدرة على قلب السماء إلى الأرض فلو أردت لأهلكتهم بقدرة الله لكن الأولى أن نتحمل وندعو لإصلاح حالهم فدعا الشيخ فأمن سلطان ولد فلانت قلوبهم واستغفروا ، قال في "المثنوي" :
ون كنى بربي حسد مكر وحسد
زان حسد دل را سياهيها رسد
خاك شو مردان حق را زير ا
خاك برسركن خسدرا هموما
وهكذا أحوال الأنبياء والأولياء ألا يرى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" وكان الأصحاب رضي الله عنهم يبكون دماً من أخلاق النفس ولا يزالون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلّم عما به يتخلصون من الأوصاف الذميمة ويتطهرون ظاهراً وباطناً طلباً للنجاة من العذاب المهين وأشده الفراق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 179
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي : وإذا قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليهود أهل المدينة ومن حولها ومعنى اللام الإنهاء والتبليغ {بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا} من الكتب الإلهية جميعاً {قَالُوا نُؤْمِنُ} أي : نستمر على الإيمان {بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوراة وما أنزل على أنبياء بني إسرائيل لتقرير حكمها ويدسون فيه أن ما عدا ذلك غير منزل عليهم وأسندوا الإنزال على أنفسهم لأن المنزل على نبي منزل على أمته معنى لأنه يلزمهم هم {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ} أي : سوى ما أنزل {وَهُوَ}
181
أي : والحال إن ما وراء التوراة {الْحَقِّ} أي : المعروف بالحقية الحقيق بأن يخص به اسم الحق على الإطلاق {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة غير مخالف له حال مؤكدة من الحق والعامل فيها ما في الحق من معنى الفعل وصاحب الحال ضمير دل عليه الكلام أي : أحقه مصدقاً أي : حال كونه موافقاً لما معهم وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل نبي بقوله تعالى : {قُلْ} يا محمد تبكيتاً لهم من جهة الله تعالى ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم {فَلِمَ} أصله لما لامه للتعليل دخلت على ما التي للاستفهام وسقطت الألف فرقاً بين الاستفهامية والخبرية {تَقْتُلُونَ أَنابِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} صيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وهو جواب شرط محذوف أي : قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون فلأي شيء تقتلون أنبياء الله من قبل وهو فيها حرام وأسند فعل الآباء وهو القتل إلى الأبناء للملابسة بين الآباء والأبناء.
قال أبو الليث في "تفسيره" : وفي الآية دليل على أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها لأن اليهود كانوا راضين بقتل آبائهم فسماهم الله قاتلين حيث قال : قل فلم تقتلون الآية {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} جواب الشرط محذوف لدلالة ما سبق عليه أي : إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم وهو تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهديد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
{وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ} من تمام التبكيت والتوبيخ داخل تحت الأمر واللام للقسم أي : بالله قد جاءكم موسى ملتبساً بالمعجزات الظاهرة من العصا واليد وفلق البحر ونحو ذلك {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي : إلهاً {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد مجيئه بها وثم للتراخي في الرتبة والدلالة على نهاية قبح ما فعلوا {وَأَنتُمْ ظَـالِمُونَ} حال من ضمير اتخذتم أي : عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ} أي : العهد منكم {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي : الجبل قائلين لكم {خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ} أي : بجد واجتهاد {وَاسْمَعُوا} ما في التوراة سماع قبول وطاعة {قَالُوا} كأنه قيل فماذا قالوا؟ فقيل قالوا : {سَمِعْنَا} قولك ولكن لا سماع طاعة {وَعَصَيْنَا} أمرك ولولا مخافة الجبل ما قبلنا في الظاهر فإذا كان حال أسلافهم هكذا فكيف يتصور من أخلافهم الإيمان ، قال الفردوسي :
زبد كوهران بدنبا شد عجب
سياهي نشايد بريدن زشت
زيد اصل شم بهي داشتن
بود خاك درديده انباشتن
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
(1/144)
{وَاشْرَبُوا} أي : والحال أنهم قد أشربوا {فِى قُلُوبِهِمُ} بيان لمكان الإشراب كقوله : إنما يأكلون في بطونهم ناراً {الْعِجْلَ} أي : حب العجل على حذف المضاف وأشرب قلبه كذا أي : حل محل الشراب أو اختلط كما خلط الصبغ بالثوب وحقيقة أشربه كذا جعله شارباً لذلك فالمعنى جعلوا شاربين حب العجل نافذاً فيهم نفوذ الماء فيما يتغلغل فيه.
قال الراغب : من عاداتهم إذا أرادوا محاصرة حب أو بغض في القلب أن يستعيروا لها اسم الشراب إذ هو أبلغ مساغاً في البدن ولذلك قالت الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
{بِكُفْرِهِمْ} أي : بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري وجعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم.
وفي القصص :
182
أن موسى عليه السلام لما خرج إلى قومه أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذرى في النهر فلم يبقَ نهر يجري يومئذٍ إلا وقع فيه منه شيء ثم قال لهم : اشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه {قُلْ} توبيخاً لحاضري اليهود أثر ما بين أحوال رؤسائهم الذين يقتدون في كل ما يأتون ويذرون {بِئْسَمَا} بئس شيئاً {يَأْمُرُكُم بِهِ} أي : بذلك الشيء {إِيمَـانَكُمْ} بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون والمخصوص بالذم محذوف أي : ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم وإضافة الإيمان إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبىء عنه قوله تعالى : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بالتوراة وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعاً فقد علم أن من ادعى أنه مؤمن ينبغي أن يكون فعله مصدقاً لقوله وإلا لم يكن مؤمناً.
قال الجنيد قدس سره التوحيد الذي تفرد به الصوفية هو إفراد القدم عن الحدوث والخروج عن الأوطان وقطع المحارب وترك ما علم وما جهل وأن يكون الحق سبحانه مكان الجميع :
طالب توحيد را بايد قدم برلازدن
بعد ازان درعالم وحدت دم الا زدن
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخل على يعقوب النبي عليه السلام مبشر يوسف عليه السلام وبشره بحياته قال له يعقوب على أي : دين تركته؟ قال على دين الإسلام قال يعقوب عليه السلام : الآن قد تمت النعمة على يعقوب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
واعلم أن التوحيد أصل الأصول ومناط القبول ومكفر الخطايا ومستجلب العطايا ـ حكي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يحب إسلام دحية الكلبي لأنه كان تحت يده سبعمائة من أهل بيته وكانوا يسلمون بإسلامه وكان يقول : "اللهم ارزق دحية الكلبي الإسلام" فلما أراد دحية الإسلام أوحى الله إلى النبي عليه السلام بعد صلاة الفجر أن يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول إن دحية يدخل عليك الآن وكان في قلوب الأصحاب شيء من دحية من وقت الجاهلية فلما سمعوا ذلك كرهوا أن يمكنوا دحية فيما بينهم فلما علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم كره أن يقول لهم مكنوا دحية وكره أن يدخل دحية فيوحشوه فيبرد قلبه عن الإسلام فلما دخل دحية المسجد رفع النبي صلى الله عليه وسلّم رداءه عن ظهره وبسطه على الأرض بين يديه فقال دحية ههنا وأشار إلى ردائه فبكى دحية من كرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع رداء وقبله ووضعه على رأسه وعينيه وقال ما شرائط الإسلام أعرضها علي فقال : "أن تقول أولاً لا إله إلا الله محمد رسول الله" فقال دحية ذلك ثم وقع البكاء على دحية فقال عليه السلام : "ما هذا البكاء وقد رزقت الإسلام" فقال : إني ارتكبت خطيئة وفاحشة كبيرة فقل لربك ما كفارته إن أمرني أن أقتل نفسي قتلتها وإن أمر أن أخرج من جميع ما لي خرجت فقال عليه السلام : "وما ذلك يا دحية" قال : كنت رجلاً من ملوك العرب واستنكفت أن تكون لي بنات لهن أزواج فقتلت سبعين من بناتي كلهن بيدي فتحير النبي عليه السلام في ذلك حتى نزل جبريل فقال : "يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول : قل لدحية وعزتي وجلالي إنك لما قلت لا إله إلا الله غفرت لك كفر ستين سنة وسيئاتك ستين سنة فكيف لا أغفر لك قتل البنات" فبكى عليه السلام وأصحابه
183
فقال عليه السلام : "إلهي غفرت لدحية قتل بناته بشهادة أن لا إله إلا الله مرة واحدة فكيف لا تغفر للمؤمنين بشهادات كثيرة وبقول صادق وبفعل خالص" ، وفي "المثنوي" :
اذكروا الله كارهر اوباش نيست
ارجعي براي هرقلاش نيست
قال السعدي :
كر بمحشر خطاب قهر كند
انبيارا ه جاي معذرتست
رده ازروى لطف كوبردار
كاشقيارا اميد مغفر تست
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
(1/145)
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاخِرَةُ} أي : الجنة {عِندَ اللَّهِ} ظرف للاستقرار في الخبر أعني لكم {خَالِصَةً} على الحالية من الدار أي : سالمة لكم خاصة بكم {مِّن دُونِ النَّاسِ} في محل النصب بخالصة أي : من دون محمد وأصحابه فاللام للعهد وتستعمل هذه اللفظة للاختصاص يقال هذا لي من دون الناس أي : أنا مختص به والمعنى إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أي : أحبوه واسألوه بالقلب واللسان وقولوا : اللهم أمتنا فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من دار البوار وقرارة الأكدار ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في قولكم إن الجنة خاصة لكم فتمنوه وأصل التمني تقدير شيء في النفس وأكثر ما يستعمل فيما لا حقيقة له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ} أي : الموت {أَبَدَا} أي : في جميع الزمان المستقبل لأن ابداً اسم لجميع مستقبل الزمان كقط لماضيه وفيه دليل على أن لن ليس للتأبيد لأنهم يتمنون الموت في الآخرة ولا يتمنونه في الدنيا {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبي عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة وخص الأيدي بالذكر لأن الأعمال غالباً تكون بها وهي من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه ولذا عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} بهم وبما صدر عنهم وهو تهديد لهم ـ روي ـ أن اليهود لو تمنوا الموت لغص كل واحد منهم بريقه أي : لامتلأ فمات من ساعته ولما بقي على الأرض يهودي إلا مات فقوله ولن يتمنوه أبداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله ولن تفعلوا ولو وقع من أحد منهم تمنى موته لنقل واشتهر.
فإن قلت : إن التمني يكون بالقلب فلا يظهر لنا أنهم تمنوه أولاً.
قلت ليس التمني من أعمال القلوب إنما هو قول الإنسان بلسانه ليت لي كذا.
وعن نافع جلس إلينا يهودي يخاصمنا فقال : إن في كتابكم فتمنوا الموت وأنا أتمنى فما لي لا أموت فسمع ابن عمر رضي الله عنهما هذا فدخل بيته وأخذ السيف ثم خرج ففر اليهودي حين رآه فقال ابن عمر : أما والله لو أدركته لضربت عنقه توهم هذا الجاهل أنه لليهود في كل وقت إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندونه ويجحدون نبوته بعد أن عرفوه.
فإن قلت : إن المؤمنين أجمعوا على أن الجنة للمؤمنين دون غيرهم ثم ليس أحد منهم يتمنى الموت فكيف وجه الاحتجاج على اليهود بذلك؟ قلت : إن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والشرف والمرتبة عند الله ما جعلت اليهود ذلك لأنفسهم لأنهم ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الجنة خالصة لهم والإنسان
184
لا يكره القدوم على حبيبه ولا يخاف انتقامه بالمصير إليه بل يرجو وصوله إلى محابه فقيل لهم : تمنوا ذلك فلما لم يتمنوه ظهر كذبهم في دعاويهم ولأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تمني الموت قال : "لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي" قال مقاتل :
لولا بناتي وسيئاتي
لذبت شوقاً إلى الممات فلا يلزمهم ما يلزم اليهود.
قال سهل بن عبد الله التستري قدس سره : لا يتمنى الموت إلا ثلاثة رجل جاهل بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله عليه أو مشتاق يحب لقاء الله.
قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
شد هواي مرك طوق صادقان
كه جهودانرا بد ان دم امتحان
روي عن صاحب "المثنوي" أنه لما ادنت وفاته تمثل له ملك الموت وقام عند الباب ولما رآه المولى قدس سره قال :
يشترآ يشترآ جان من
يك در حضرت سلطان من
قال بعض الملوك لأبي حازم : كيف القدوم على الله عز وجل؟ فقال أبو حازم أما قدوم الطائع على الله فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه ، وأما قدوم العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان.
قال في "المثنوي" :
انبيارا تنك آمد اين جهان
ون شهان رفتند اندر لامكانون مراسوي أجل عشق وهواست
نهى لا تلقوا بأيديكم مراستزانكه نهى ازدانه شيرين بود
تلخ را خود نهى حاجت كى شو
(1/146)
واعلم أن الموت هو المصيبة العظمى والبلية الكبرى وأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وقلة الفكر فيه وترك العمل له وأن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر كما قيل كفى بالموت واعظاً ومن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ومنعه عن تمنيها في المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل ولكن القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزيين الألفاظ وإلا ففي قوله عليه السلام "أكثروا ذكر هادم اللذات" وقوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185) ما يكفي السامع له ويشغل الناظر فيه ، فعلى العاقل أن يسعى للموت بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ويزكي نفسه عن سفساف الأخلاق.
قال السعدي قدس سره :
أي برادر وعاقبت خاكست
خاك شويش ازانكه خاك شوى
اللهم يسر لنا الطريق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ} من الوجدان العقلي وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختص بما يقع بعد التجربة ونحوها واللام لام القسم أي : والله لتجدن اليهود يا محمد أحرص من الناس {عَلَى حَيَواةٍ} لا يتمنون الموت والتنكير للنوع وهي الحياة المخصوصة المتطاولة وهي حياتهم التي هم فيها لأنها نوع من مطلق الحياة {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرص من الناس وأفرد المشركون بالذكر وإن كانوا من الناس لشدة حرصهم على الحياة.
وفيه توبيخ عظيم لأن الذين
185
أشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ.
فإن قلت : لم زاد حرصهم على حرص المشركين.
قلت : لأنهم علموا لعلمهم بحالهم أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف أي : يريد ويتمنى ويحب أحد هؤلاء المشركين {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} حكاية لودادهم ولو فيه معنى التمني كأنه قيل ليتني أعمر وكان القياس لو أعمر إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله تعالى يود أحدهم كقولك حلف بالله ليفعلن ومحله النصب على أنه معمول يود إجراء له مجرى القول لأنه فعل قلبي والمعنى تمنى أحدهم أن يعطى البقاء والعمر ألف سنة وهي للمجوس ، وخص هذا العدد لأنهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العطاس والتحية عش ألف سنة ، وألف نوروز ، وألف مهرجان وهي بالعجمية "زي هزار سال" وصح إطلاق المشركين على المجوس لأنهم يقولون بالنور والظلمة {وَمَا} حجازية {هُوَ} أي : أحدهم اسم ما {بِمُزَحْزِحِهِ} خبر ما والباء زائدة والزحزحة التبعيد والإنجاء {مِنَ الْعَذَابِ} من النار {أَن يُعَمَّرَ} فاعل مزحزحه أي : تعميره {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ} البصير في كلام العرب العالم بكنه الشيء الخبير به أي : عليم بخفيات أعمالهم من الكفر والمعاصي لا يخفى عليه فهو مجازيهم بها لا محالة بالخزي والذل في الدنيا والعقوبة في العقبى وهذه الحياة العاجلة تنقضي سريعة وإن عاش المرء ألف سنة أو أزيد عليها فمن أحب طول العمل للصلاح فقد فاز قال عليه السلام : "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" ومن أحبه للفساد فقد ضل ولا ينجو مما يخاف فإن الموت يجيء البتة واجتمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ولا أجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك وكان مستعداً لذلك بعض الصالحين ينادي بالليل على سور المدينة الرحيل الرحيل فلما توفى فقد صوته أمير تلك المدينة فسأل عنه فقيل إنه مات فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
ما زال يلهج بالرحيل وذكره
حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظاً متشمراً
ذا أهبة لم تلهه الآمالبأنك طبلت نمي كند بيدار
تومكر مرده نه درخوابي
توراغي نهاده درره باد
خانه در ممر سيلابي
فإصابة الموت حق وإن كان العيش طويلاً والعمر مديداً وهو ينزل بكل نفس راضية كانت أو كارهة.
روى شارح "الخطب" عن وهب بن منبه أنه قال : مر دانيال عليه السلام ببرية فسمع يا دانيال قفْ ترَ عجباً فلم ير شيئاً ثم نودي الثانية قال : فوقفت فإذا بيت يدعوني إلى نفسه فدخلت فإذا سرير مرصع بالدر والياقوت فإذا النداء من السرير اصعد يا دانيال ترَ عجباً فارتقيت السرير فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك والعنبر فإذا عليه شاب ميت كأنه نائم وإذا عليه من الحلي والحلل ما لا يوصف وفي يده اليسرى خاتم من ذهب وفوق رأسه تاج من ذهب وعلى منطقته سيف أشد خضرة من البقل فإذا النداء من السرير أن احمل هذا السيف واقرأ ما عليه قال : فإذا مكتوب عليه هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن إرم وإني عشت ألف عام وسبعمائة
186
(1/147)
سنة وافتضضت اثني عشر ألف جارية وبنيت أربعين ألف مدينة وخرجت بالجور والعنف والحمق عن حد الإنصاف وكان يحمل مفاتح الخزائن أربعمائة بغل وكان يحمل إلى خراج الدنيا فلم ينازعني أحد من أهل الدنيا فادعيت الربوبية فأصابني الجوع حتى طلبت كفاً من ذرة بألف قفيز من در فلم أقدر عليه فمت جوعاً يا أهل الدنيا اذكروا أمواتكم ذكراً كثيراً واعتبروا بي ولا تغرنكم الدنيا كما غرتني فإن أهلي لم يحملوا من وزري شيئاً انتهى ، قال السعدي :
ون همه نيك وبد ببايد مرد
خنك آنكس كه كوى نيكى برد
برك عيشي بكور خويش فرست
كس نيارد زس زيش فرست
عمر برفست آفتاب تموز
اندكى ماند وخواجه غره هنوز
فعلى أهل القلوب القاسية أن يعالجوا قلوبهم بأمور :
أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم والوعظ والتذكير والتخفيف والترغيب وأخبار الصالحين فإن ذلك مما يلين القلوب وينجح فيها.
والثاني : ذكر الموت فيكثر من ذكرها ذم اللذات ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات.
والثالث : مشاهدة المحتضرين فإن في النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الأجفان من النوم والراحة من الأبدان ويبعث على العمل فيزيد في الاجتهاد والتعب ويستعد للموت قبل النزول فإنه أشد الشدائد.
قيل لكعب الأحبار : يا كعب حدثنا عن الموت قال : هو كشجرة الشوك ادخلت في جوف ابن آدم فأخذت كل شوكة بعرق ثم اجتذبها رجل شديد الجذب فقطع ما قطع وأبقى ما أبقى.
وفي الحديث "لو أن شعرة من وجع الميت وضعت على أهل السماوات والأرضين لماتوا أجمعين وإن في يوم القيامة لسبعين هولاً وإن أدنى هول ليضعف على الموت سبعين ضعفاً".
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من اليهود بسكن فدك فقال : يا محمد كيف نومك؟ فإنا أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "تنام عيناي وقلبي يقظان" قال : صدقت فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أو من المرأة؟ قال : "أما العظم والعصب والعروق فمن الرجل وأما الدم واللحم والظفر والشعر فمن المرأة" قال : صدقت يا محمد قال : فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شيء أو يشبه أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ قال : "أيهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له" قال : صدقت يا محمد وسأله عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه قال : "إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر إن شفاه الله حرم على نفسه أحب الطعام إليه وهو لحم الإبل وأحب الشراب إليه وهو ألبانها" قال : صدقت يا محمد وسأله عن أول نزل الجنة قال : "الحوت" قال : صدقت يا محمد ثم قال : بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك واتبعتك أي : ملك يأتيك بما تقول من الله تعالى؟ فقال : "جبريل" قال ذاك عدونا لأنه ملك العذاب ينزل بالقتال والعذاب وكسر السفن والشدائد ورسولنا ميكائيل لأنه ملك الرحمة ينزل بالغيث والبشر والرخاء فقال له عمر : ما بدء عداوتكم له فقال : عادانا مراراً كثيرة وكان من أشد عداوته لنا أن الله تعالى أنزل على نبينا موسى عليه السلام أن البيت المقدس سيخرب
187
في زمان رجل يقال له بخت نصر وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه فلما كان الحين الذي يخرب فيه بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلبه فانطلق حتى لقيه غلاماً مسكيناً ببابل ليست له قوة فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال لصاحبنا إن هو أمره بهلاككم لا يسلطكم عليه وإن لم يكن هذا فعلى أي : حق تقتلونه فصدقه صاحبنا فتركه وكبر بخت نصر وقوي فملك ثم غزانا فخرب بيت المقدس وقتلنا وأمر جبريل بوضع النبوة فينا فوضعها في غيرنا فلهذا اتخذناه عدواً وميكائيل عدو جبريل فقال عمر رضي الله عنه لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ومن كان عدواً لهما كان عدواًتعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
(1/148)
وجواب من محذوف أي : من عادى جبريل من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته بل يجب عليه محبته {فَإِنَّهُ} يعني جبريل {نَزَّلَهُ} أي : القرآن أضمره لكمال شهرته {عَلَى قَلْبِكَ} زيادة تقرير للتنزيل ببيان محل الوحي فإنه القابل الأول له ومدار الفهم والحفظ أي : حفظه إياك ففهمكه وحق الكلام أن يقال على قلبي لكنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به لما في النقل بالعبارة من زيادة تقرير لمضمون المقالة يعني قل كما تكلمت به من قولي أنه نزله على قلبك {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وتيسيره {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي : موافقاً لما قبله من الكتب الإلهية في التوحيد وبعض الشرائع حال من مفعول نزله {وَهُدًى} أي : هادياً إلى دين الحق {وَبُشْرَى} أي : مبشراً بالجنة {لِلْمُؤْمِنِينَ} فلا وجه لمعاداته فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصح المنزل عليهم ثم عمم الشرط والجزاء رداً عليهم بقوله :
{مَن كَانَ عَدُوًّا} أي : مخالفاً لأمره عناداً وخارجاً عن طاعته مكابرة {وَمَلـاـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} أفردهما بالذكر لإظهار فضلهما كأنهما من جنس آخر أشرف مما ذكر تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الجنس.
قال عكرمة جبروميك وإسراف هي العبد بالسريانية وإيل وآئيل هو الله ومعناها عبد الله أو عبد الرحمن {فَإِنَّ اللَّهَ} جواب الشرط ولم يقل فإنه لاحتمال أن يعود إلى جبريل وميكائيل {عَدُوٌّ لِّلْكَـافِرِينَ} أي : لهم جاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب فقال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها فأنزل الله.
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على معانيها وعلى كونها من عند الله {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ} أي : بالآيات التي توضح الحلال والحرام وتفصل الحدود والأحكام {إِلا الْفَـاسِقُونَ} المتمردون في الكفر الخارجون عن حدوده فإن من ليس على تلك الصفة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات والأحسن أن يكون اللام إشارة إلى أهل الكتاب.
قال الحسن إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على عظم ذلك النوع من كفر أو غيره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
واعلم أن القرآن هو النور الإلهي الذي كشف الله به الظلمات واليهود أرادوا أن يطفئوا نور الله والله متم نوره وليس لهم في ذلك إلا الفضاحة والخزي كما إذا دخل الحمام ناس في ليل مظلم وفيهم الأصحاء وأهل العيوب فجاء واحد بسراج مضيء لا يسارع إلى إطفائه إلا أهل العيوب مخافة أن يظهر عيوبهم للأصحاء ويلحق بهم مذمة.
188
شمع رخشنده دران جمع نخوا هند كه تا
عيب شان درشب تاريك بماند مستور
وأي آن وقت روشن شوداين راز وروز
رده برخيزد واين حال بيايد بظهور
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
{أَوْ} الهمزة للإنكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أكفروا بآيات البينات وهي في غاية الوضوح {أَوَكُلَّمَا عَـاهَدُوا عَهْدًا} مصدر مؤكد لعاهدوا من غير لفظه {نَّبَذَه فَرِيقٌ مِّنْهُم} أي : رموا بالذمام أي : العهد ورفضوه والفريق الطائفة ويكون للقليل والكثير وإسناد النبذ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبذه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بالتوراة وليسوا من الدين في شيء فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً ولا يبالون به وهذا رد لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون.
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ} هو النبي صلى الله عليه وسلّم {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} متعلق بجاء {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} أي : التوراة {كِتَـابَ اللَّهِ} مفعول نبذ أي : الذي أوتوه وهو التوراة لأنهم لما كفروا بالرسول المصدق لما معهم فقد نبذوا التوراة التي فيها أن محمداً رسول الله وقد علموا أنها من الله {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} يعني رموا بالعناد كتاب الله وراء ظهورهم ولم يعملوا به مثل لتركهم وإعراضهم عنه بالكلية بما يرمي به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} جملة حالية أي : نبذوه وراء ظهورهم متشبهين بمن لا يعلمه أنه كتاب الله.
قيل : أصل اليهود أربع فرق ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم بقوله عز وجل : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وفرقة جاهروا بنبذ العهود تمرداً وفسوقاً وهم المعنيون بقوله سبحانه {نَّبَذَه فَرِيقٌ مِّنْهُم} وفرقة لم يجاهدوا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها خفية وهم المتجاهليون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 189
(1/149)
وفيه إشارة إلى أن من فعل فعل الجاهل وتعمد الخلاف مع علمه يلتحق بالجهال وهو والجاهل سواء فكما أن الجاهل لا يجيء منه خير فكذا العالم الذي لا يعمل ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : "واعظ اللسان ضائع كلامه وواعظ القلب نافذ سهامه" فالأول هو العالم الغير العامل والثاني هو العالم العامل الذي يؤثر كلامه في القلوب وتنتج كلمته ثمرات الحكمة والعبرة والفكرة.
فعلى العاقل أن يسارع إلى الامتثال خوفاً من بطش يد ذي الجلال.
ويقال : الندامة أربع : ندامة يوم وهي أن يخرج الرجل من منزله قبل أن يتغدى ، وندامة سنة وهي ترك الزراعة في وقتها ، وندامة عمر وهو أن يتزوج امرأة غير موافقة ، وندامة الأبد وهو أن يترك أمر الله ومجرد قراءة الكتاب بترياق الظاهر لا يدفع سم الباطن فلا بد من العمل كما أن من كان ينظر إلى كتب الطب وكان مريضاً فما دام لم يباشر العلاج لا يفيد نظره بالأدوية وكان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن يعني يعمل بأوامره وينتهي عن نواهيه.
واعلم أن العمل بالعلوم الظاهرة لا يمكن إلا بعد معرفة المراتب الأربع مثلاً يعرف بالعلم الظاهر أن حكم الزنى الرجم والجلد ولكن في الوجود الإنساني محل يقتضي الوقاع والسفاح فأهل الإرشاد يقمعون المقتضى المذكور عن ذلك المحل وكذا الحال في الأكل والشرب وغيرهما والمرء وإن كان متبحراً في العلوم ومتفنناً في القوانين والرسوم فإن كان لم يصلح حاله بالعمل في تزكية النفس وتصفية القلب فإنه لا يعتبر بل جهله أغلب
189
ونعم ما قيل :
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
ـ حكي ـ أن نصير الدين الطوسي : دخل على ولي من أولياء الله تعالى لأجل الزيارة فقيل له هذا عالم الدنيا نصير الدين الطوسي قال الولي ما كماله قيل ليس له عديل في علم النجوم قال الولي الحمار الأبيض أعلم منه فانحرف الطوسي وقام من مجلسه فاتفق أنه نزل تلك الليلة على باب بيت طاحونة فقال الطحان : ادخل البيت فإنه سيكون الليلة مطر عظيم حتى لو لم يغلق الباب لأخذه السيل فسأل الطحان عن وجهه فقال لي حمار أبيض إذا حرك ذنبه إلى جانب السماء ثلاثاً لم تمطر السماء وإذا حركه إلى جانب الأرض يقع المطر فلما سمعه اعترف بعجزه وصدق الولي وزال غيظه ـ وحكي ـ أن ولياً قال لابن سينا : أفنيت عمرك في العلوم العقلية فإلى أي : مرتبة وصلت قال : وجدت ساعة من ساعات الأيام يكون الحديد فيها كالخمير فقال الولي : أخبرني عن تلك الساعة فلما جاءت الساعة أخبره وأخذ بيده حديداً فنفذ فيه أصبعه فبعد مضي الساعة قال الولي : هل تقدر على تنفيذ أصبعك أيضاً؟ قال : لا فإنه من خصائص تلك الساعة ولا يمكن فأخذه الولي ونفذ أصبعه فيه وقال ينبغي للعاقل أن لا يصرف عمره إلى الزائل الفاني فكما أن ابن سينا ادعى استقلال العقل في طريق الوصول فألقى في جهنم كذلك اليهود خذلهم الله انفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلّم والعمل بما جاء به من عند الله وادعوا الاستقلال فخابوا وخسروا وبقوا في ظلمة الجهل والكفر ، قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 189
اي كه اندر شمة شوراست جات
توجه داني شط وجيحون وفراتوأي آن زنده كه بامرده نشست
مرده كشت وزنده كي أزوي بجست
جزء : 1 رقم الصفحة : 189
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ} أي : نبذ اليهود كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا كتب السحرة التي تقرأها وتعمل بها الشياطين وهم المتمردون من الجن وتتلو حكاية حال ماضية والمراد بالاتباع التوغل والتمحض فيه والإقبال عليه بالكلية {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ} أي : على عهد ملكه وفي زمانه فحذف المضاف وعلى بمعنى في.
قال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره ويأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب وبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال : لا أسمع أحداً يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وقام ناحية فقالوا : ادن قال : لا ولكني ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان : إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذه ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى الله
190
(1/150)
عليه وسلّم تعالى عليه وسلم برأ الله سليمان عليه السلام من ذلك وأنزل في عذر سليمان واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ} بالسحر وعلمه يعني لم يكن ساحراً لأن الساحر كافر والتعرض لكونه كفراً للمبالغة في إظهار نزاهته عليه بالسلام وكذبه باهتيه بذلك {وَلَـاكِنَّ الشَّيَـاطِينَ كَفَرُوا} باستعمال السحر وتعليمه وتدوينه {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} أي : كفروا والحال أنهم يعلمونه إغواء وإضلالاً ، روي أن السحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة إفهامهم {وَمَا} أي : ويعلمون الناس الذي {أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} أي : ما ألهما وعلما وهو علم السحر أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمناً كما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه†
وهذا كما إذا أتى عرافاً فسأله عن شيء ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز.
قال الإمام فخر الدين : كان الحكمة في إنزالهما أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما سمعوا بين الخلق وكان بسبب ذلك يشتبه الوحي النازل على الأنبياء فأنزلهما الله إلى الأرض ليعلما الناس كيفية السحر ليظهر بذلك الفرق بين كلام الله وكلام السحرة {بِبَابِلَ} الباء بمعنى في وهي متعلقة بانزل أو بمحذوف وقع حالاً من الملكين وهي بابل العراق أو بابل أرض الكوفة ومنع الصرف للعجمة والعلمية وأحسن ما قيل في تسميتها ببابل أن نوحاً عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي بنى قرية وسماها ثمانين فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداهما اللسان العربي وكان لا يفهم بعضهم من بعض كذا في "تفسير القرطبي".
{هَـارُوتَ وَمَـارُوتَ} عطف بيان للملكين علمان لهما ومنع صرفها للعجمة والعلمية وما روى في قصتهما من أنهما شربا الخمر وسفكا الدم وزنيا وقتلا وسجدا للصنم فمما لا تعويل عليه لأن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشاد اللبيب الأريب وبالترغيب وذلك لأن المراد بالملكين العقل النظري والعقل العملي والمرأة المسماة بالزهرة هي النفس الناطقة الطاهرة في أصل نشأتها وتعرضهما لها تعليمهما لها ما تستعد به في النشأة الآخرة وحملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى السفليات المدنسة لجوهرهما وصعودها إلى السماء بما تعلمت منها هو عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصافها ونصحها كذا ذكره وجوه القوم من المفسرين.
يقول الفقير جامع هذه المجالس الشريفة قد تصفحت كتب أرباب الخبر والبيان وأصحاب الشهود والعيان فوجدت عامتها مشحونة بذكر ما جرى من قصتهما وكيف يجوز الاتفاق من الجم الغفير على ما مداره رواية اليهود خصوصاً في مثل هذا الأمر الهائل فأقول وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويفعلون ما يؤمرون دليل تصور العصيان منهم ولولا ذلك لما مدحوا به إذ لا يمدح أحد على الممتنع لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف على عكس حال البشر كما في "التيسير" فهذا يقتضي جواز الوقوع مع أن فيما روى في سبب نزولهما
191
ما يزيل الأشكال قطعاً وهو أنهم لما عيروا بني آدم بقلة الأعمال وكثرة الذنوب في زمن إدريس عليه السلام قال الله تعالى لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا فقالوا : سبحانك ربنا ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال الله تعالى فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم فأهبطا بالتركيب البشري ففعلا ما فعلا وهذا ليس ببعيد إذ ليس مجرد هبوط الملك مما يقتضي العصيان وذلك ظاهر وإلا لظهر من جبريل وغيره ألا ترى أن إبليس له الشهوة والذرية مع أنه كان من الملائكة على أحد القولين لأنها مما حدثت بعد أن محى من ديوانهم فيجوز أن تحدث الشهوة في هاروت وماروت بعد أن أهبطا الأرض لاستلزام التركيب البشرى ذلك.
وقد قال في "آكام المرجان" : إن الله تعالى باين بين الملائكة والجن والإنس في الصورة والأشكال فإن قلب الله الملك إلى صورة الإنسان ظاهراً وباطناً خرج عن كونه ملكاً وكذلك لو قلب الشيطان إلى بنية الإنسان خرج بذلك عن كونه شيطاناً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
(1/151)
ـ روي ـ أنه لما استشفع لهما إدريس عليه السلام خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا لكونه أيسر من عذاب الآخرة فهما في بئر بابل معلقان فيه بشعورهما إلى يوم القيامة.
قال مجاهد ملىء الجب ناراً فجعلا فيه وقيل معلقان بأرجلهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع فهما يعذبان بالعطش.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره رائحة الشمع الذي يعمل من الشحم كريهة تتألم منها الملائكة حتى يقال إن هاروت وماروت يعذبان برائحته وأما الشمع العسلي فرائحته طيبة كذا في "واقعات الهدائي" قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت" قال العلماء إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها والجمع لها والمنع حتى تفرق بينك وبين طاعة الله وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "حبك الشيء يعمي ويصم" أراد النبي عليه الصلاة والسلام إن من الحب ما يعمي عن طريق الحق والرشد ويصمك عن استماع الحق وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العذل وأعماه عن الرشد أو يعمي العين عن النظر إلى مساويه ويصم الأذن عن استماع العذل فيه أو يعمي ويصم عن الآخرة وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه ، قال خسرو الدهلوي :
بهراين مردار ندت كاه زارى كاه زور†
ون غليواجي كه شش مه ماده وشش مه نراست†
ثم في هذه القصة إشارة إلى أنه لا يجوز الاعتماد إلا على فضل الله ورحمته فإن العصمة من آثار حفظ الله تعالى كمال قال في "المثنوي" :
همو هاروت وو ماروت شهير
ازبطر خوردند زهر آلوده تير
إعتمادي بودشان رقدس خويش
يست بر شير اعتماد كاوميش
كره أو باشاخ صد اره كند
شاخ شاخش شير نراره كند
192
كرشود ر شاخ همون خارشت
شير خواهد كاورا نا ر كشت
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} من مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق الذي يفيده أحد والمعنى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس ما أنزل على الملكين ويحملونهم على العمل به إغواء وإضلالاً والحال أن الملكين ما يعلمان ما أنزل عليهما من السحر أحداً من طالبيه {حَتَّى} ينصحاه أولاً وينهياه عن العمل به والكفر بسببه و{يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} وابتلاء من الله تعالى فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر ومن توقى عن العمل به أو اتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان والفتنة الاختبار والامتحان يقال : فتنت الذهب بالنار إذا جربته بها لتعلم أنه خالص أو مشوب وهي من الأفعال التي تكون من الله ومن العبد كالبلية والمعصية والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة وقد تكون الفتنة في الدين مثل الارتداد والمعاصي وإكراه الغير على المعاصي وأفردت الفتنة مع تعدد الملكين لكونها مصدراً وحملها عليهما مواطأة للمبالغة كأنهما نفس الفتنة والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه {فَلا تَكْفُرْ} باعتقاد حقيته بمعنى أنه ليس بباطل شرعاً وجواز العمل به ويقولان ذلك سبع مرات فإن أبى إلا التعليم علماه {فَيَتَعَلَّمُونَ} عطف على الجملة المنفية فإنها في قوة المثبتة كأنه قيل : يعلمانهم بعد قولهما إنما نحن الخ والضمير لأحد حملا على المعنى أي : فالناس يتعلمون {مِنْهُمَا} أي : من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} أي : بسببه واستعماله {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} بأن يحدث الله تعالى بينهما التباغض والفرك والنشوز عندما فعلوا من السحر على حسب جري العادة الإلهية من خلق المسببات عقيب حصول الأسباب العادية ابتلاء لا أن السحر هو المؤثر في ذلك.
قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما إنما نحن فتنة فلا تكفر فإن أبى أن يرجع قالا له ائت هذا الرماد فبل فيه فإذا بال فيه خرج نور يسطع إلى السماء وهو الإيمان والمعرفة وينزل شيء أسود شبه الدخان فيدخل في أذنيه ومسامعه وهو الكفر وغضب الله فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرق به بين المرء وزوجه ويقدر الساحر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفريق لأن ذلك خرج على الأغلب قيل يؤخذ الرجل على المرأة بالسحر حتى لا يقدر على الجماع.
قال في "نصاب الاحتساب" إن الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها فإن المبتلي بذلك يأخذ حزمة قصبات ويطلب فأساً ذا فقارين ويضعه في وسط تلك الحزمة ثم يؤجج ناراً في تلك الحزمة حتى إذا أحمى الفأس استخرجه من النار وبال على حده يبرأ بإذن الله تعالى
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
(1/152)
{وَمَا هُم} أي : ليس الساحرون {بِضَآرِّينَ بِهِ} أي : بما تعلموه واستعملوه من السحر {مِنْ أَحَدٍ} أي : أحداً {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} الاستثناء مفرغ والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ضمير ضارين أو من مفعوله وإن كان نكرة لاعتمادها على النفي أو الضمير المجرور في به أي : ما يضرون به أحداً إلا مقروناً بعلم الله وإرادته وقضائه لا بأمره لأنه لا يأمر بالكفر والاضرار والفحشاء ويقضي على الخلق بها فالساحر يسحر والله يكوّن فقد يحدث عند استعمالهم السحر فعلاً من أفعاله ابتلاء وقد لا يحدثه وكل ذلك بإرادته ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يحول بين المرء وقلبه
193
وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام وكل ذلك مدرك بالحس والمشاهدة وإنكاره معاندة وإن أردت التفصيل وحقيقة الحال فاستمع لما نتلو عليك من المقال وهو أن السحر إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيه التعلم والتعليم وبهذين الاعتبارين يفارق المعجزة والكرامة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
واختلف العلماء في حقيقة السحر بمعنى ثبوته في الخارج فذهب الجمهور إلى ثبوته فيه.
وقالت المعتزلة لا ثبوت له ولا وجود له في الخارج بل هو تمويه وتخييل ومجرد إراءة ما لا حقيقة له يرى الحبال حيات بمنزلة الشعوذة التي سببها خفة حركات اليد أو إخفاء وجه الحيلة وتمسكوا بقوله تعالى : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه : 66) ولنا وجهان : الأول يدل على الجواز والثاني : يدل على الوقوع أما الأول فهو إمكان الأمر في نفسه وشمول قدرة الله فإنه الخالق وإنما الساحر فاعل وكاسب وأما الثاني فهو قوله تعالى : {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِه بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} وفيه إشعار بأنه ثابت حقيقة ليس مجرد إراءة وتمويه وبأن المؤثر والخالق هو الله تعالى وحده وأما الشعوذة وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب آلات الهندسة وخفة اليد والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار فإطلاق السحر عليها مجاز أو لما فيها من الدقة لأنه في الأصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ولذا يقال : سحر حلال وأكثر من يتعاطى السحر من الأنس النساء وخاصة في حال حيضهم والأرواح الخبيثة ترى غالباً للطبائع المغلوبة والنفوس الرذيلة وإن لم يكن لهم رياضة كالنساء والصبيان والمخنثين والإنسان إذا فسد نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويتلذذ به بل يعشق ذلك عشقاً يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان خبيث فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض أغراضهم كمن يعطي رجلاً مالاً ليقتل من يريد قتله أو يعينه على فاحشة أو ينال منه فاحشة ولذلك يكتب السحرة والمعزمون في كثير من الأمور كلام الله تعالى بالنجاسة والدماء ويتقربون بالقرابين من حيوان ناطق وغير ناطق والبخور وترك الصلاة والصوم وإباحات الدماء ونكاح ذوات المحارم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك مما ليسفيه رضى فإذا قالوا كفراً أو كتبوه أو فعلوه إعانتهم الشياطين لأغراضهم أو بعضها إما بتغوير ماء وإما بأن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة وإما أن يأتيه بمال من أموال الناس كما يسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر اسم الله عليه ويأتي به وإما غير ذلك من قتل أعدائهم أو أمراضهم أو جلب من يهوونه وكثيراً ما يتصور الشيطان بصورة الساحر ويقف بعرفات ليظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات وقد زين لهم الشيطان أن هذا كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فإن الله تعالى لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب وما فعلوه ليس بواجب ولا مستحب شرعاً بل هو منهي حرام ونعوذ بالله من اعتقاد ما هو حرام عبادة ولأهل الضلال الذين لهم عبادة على غير الوجه الشرعي مكاشفات أحياناً وتأثيرات يأوون كثيراً إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها كالحمام والمزبلة وأعطان الإبل وغير ذلك مما هو من مواضع النجاسات لأن الشياطين تنزل عليهم فيها وتخاطبهم ببعض
194
الأمور كما يخاطبون الكفار وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
(1/153)
قال العلماء : إن كان في السحر ما يخل شرطاً من شرائط الإيمان من قول وفعل كان كفراً وإلا لم يكن كفراً وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفهم بالعربية فيها ما هو شرك وتعظيم للجن ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفهم بالعربية معناها لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك.
وفي الصحيح عن النبي عليه السلام أنه رخص في الرقي ما لم تكن شركاً وقال : "من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" ولذا نقول إنه يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقي أو يعلق عليه وفي أسماء الله تعالى وذكره خاصية قمع الشياطين وإذلالهم ولأنفاس أهل الحق تأثيرات عجيبة لأنهم تركوا الشهوات ولزموا العبادات على الوجه الشرعي وظهر لكم حكم قوله تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} (الجاثية : 13) ولذا يطيعهم الجن والشياطين ويستعبدونهم كما استعبدها سليمان عليه السلام بتسخير الله تعالى وأقداره ـ حكى حضرة الهدائي قدس سره في "واقعاته" عن شيخه حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي أنه أرسل ورقة إلى سلطان الجن لأجل مصروع فامتثل أمره وعظمه وضرب عنق الصارع فخلص المصروع ، قال في "المثنوي" :
هر يمبر فرد آمد درجهان
فرد بود وصد جهانش درنهان
عالم كبرى بقدرت سحره كرد
كرد خودرا دركهين نقشي نورد
ابلهانش فرد ديدند وضعيف
كي ضعيفست آنكه باشد شد حريف
واعلم أن حكم الساحر القتل ذكراً كان أو أنثى إذا كان سعيه بالإفساد والإهلاك في الأرض وإذا كان سعيه بالكفر فيقتل الذكر دون الأنثى فتضرب وتحبس لأن الساحرة كافرة والكافرة ليست من أهل الحرب فإذا كان الكفر الأصلي يدفع عنها القتل فكيف الكفر العارضي والساحر إن تاب قبل أن يؤخذ تقبل توبته وإن أخذ ثم تاب لا تقبل كما قال في "الأشباه" كل كافر تاب فتوبته مقبولة في الدنيا والآخرة إلا الكافر بسب نبي وبسب الشيخين أو أحدهما وبالسحر ولو امرأة وبالزندقة إذا أخذ قبل توبته والزنديق هو الذي قال بقدم الدهر وإسناد الحوادث إليه مع اعتراف النبوءة وإظهار الشرع هذا وأكثر المنقول إلى هنا من كتاب "آكام المرجان" وهو الذي ينبغي أن يكتب على الأحداق لا على القراطيس والأوراق {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} لأنهم يقصدون به العمل ولأن العلم يجر إلى العمل غالباً {وَلا يَنفَعُهُمْ} صرح بذلك إيذاناً بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شر بحت وضرر محض لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب من يدعي النبوة مثلاً من السحرة أو تخليص الناس منه حتى يكون فيه نفع في الجملة وفيه أن الاجتناب عما لا يؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية وإن قال من قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه†
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.
وذكر في "التجنيس" أن تعلم النجوم حرام إلا ما يحتاج إليه للقبلة وفي الزوال ومن أحاديث "المصابيح" "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر" وإذا لم يكن في تعلم مثل هذه العلوم خير فكذا إمساك الكتب التي اشتملت عليها من كتب الفلاسفة
195
وغيرها بل لا يجوز النظر إليها كما في "نصاب الاحتساب" {وَلَقَدْ عَلِمُوا} أي : هؤلاء اليهود في التوراة {لَمَنِ اشْتَرَاـاهُ} أي : من اختار السحر واستبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله واللام الأولى جواب قسم محذوف والثانية لام ابتداء {مَا لَه فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ} أي : نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أَنفُسَهُمْ} أي : باعوها لأن الشراء من الأضداد واللام جواب قسم محذوف والمخصوص بالذم محذوف أي : والله لبئس ما باعوا به أنفسهم السحر أو الكفر وعبر عن إيمانهم بأنفسهم لأن النفس خلقت للعلم والعمل والإيمان {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جواب لو محذوف أي : لما فعلوا ما فعلوا من تعلم السحر وعمله أثبت لهم العلم أولاً بقوله ولقد علموا ثم نفى عنهم لأنهم لما لم يعملوا بعلمهم فكأنهم لم يعلموا فهذا في الحقيقة نفي الانتفاع بالعلم لا نفي العلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190(1/154)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ} أي : اليهود {ءَامَنُوا} بالقرآن والنبي {وَاتَّقُوا} السحر والشرك {لَمَثُوبَةٌ} مفعلة من الثواب وثاب يثوب أي : رجع وسمي الجزاء ثواباً لأنه عوض عمل المحس يرجع إليه وهو مبتدأ جواب لو والتنكير للتقليل أي : شيء قليل من الثواب كائن {مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ} خبر المبتدأ وأصله لأثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم دلالة على إثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه جلالاً للمفضل من أن ينسب إليه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن ثواب الله خير ومجرد العلم باللسان لا ينفع بدون أن يصل التأثير إلى القلب ويظهر ذلك التأثير بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة والاتباع للكتاب والسنة فمن أمر السنة على نفسه أخذاً وتركاً حباً وبغضاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة.
قال الشيخ أبو الحسن : كل علم يسبق لك فيه الخواطر وتتبعها الصور وتميل إليه النفوس وتلذ به الطبيعة فارم به وإن كان حقاً وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله واقتدِ به وبالخفاء والصحابة والتابعين من بعده والأئمة المبرئين من الهوى ومتابعته تسلم من الظنون والشكوك والأوهام والدعاوى الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه وماذا عليك أن تكون عبداًولا علم ولا عمل بلا اقتداء وحسبك من العلم العلم بالوحدانية ومن العمل محبة الله ومحبة رسوله ومحبة الصحابة واعتقاد الحق للجماعة.
قال بعض العلماء زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول الحنظل كلما ازداد رياً ازداد مرارة ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا وتحصيل الرفعة فيها كمثل من رفع العذرة بملعقة من الياقوت فما أشرف الوسيلة وما أخس المتوسل إليه والذي يحمل العبد على تعليم ما لا يليق به وذكر ما يجب صونه إنما هو إيثار الدنيا على الآخرة لكن الله تعالى يقول : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىا} (القصص : 60) فإن أردت أن تعرف قدرك عند الله فانظر فيماذا يقيمك وذلك لأن الأعمال علامات والأحوال كرامات والكرامات دليل والعلوم وسائل وقد جاء "من سره أن يعرف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله في قلبه فإن الله ينزل العبد عنده حيث أنزله العبد من نفسه" والإنسان نسخة إلهية قابلة للواردات الإلهية فالنصف الأسفل منه بمنزلة الملك والنصف الأعلى بمنزلة الملكوت وبعبارة أخرى الطبيعة والنفس بمنزلة الملك والروح والسر بمنزلة الملكوت فإذا قطع العلائق بالعبادة الحقانية يتصرف في عالم الملك والملكوت اللذين في ملك وجوده وهو باب الملك والملكوت اللذين في الخارج.
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
واعلم
196
أن وصلة العلماء على قدر علمهم واستدلالهم ووصلة الكمل على قدر مشاهدتهم وعيانهم لكن لا على وجه مشاهدة سائر الأشياء فإنه تعالى منزه عن الكيف والأين بل هي عبارة عن ظهور الوجود الحقيقي عند اضمحلال وجود الرائي وفنائه وأول ما يتجلى للسالك الأفعال ثم الصفات وأما تجلي الذات فلا يتيسر إلا للآحاد فهو لا يكون إلا بمحو الوجود وإفنائه لكن ذلك الفناء عين البقاء.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره كنت أعلم الإخلاص لبعض الفقراء وهو يعلمنا الفناء.
قال السعدي :
تراكي بود ون راغ التهاب
كه ازخود رى همو قنديل ازآب
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
(1/155)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا} لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو إرشاد للمؤمنين إلى الخير {رَاعِنَا} المراعاة المبالغة في الرعي وهو حفظ الغير وتدبير أموره وتدارك مصالحه كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله أي : راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابون بها بينهم وهي راعنا فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها قطعاً لألسنة اليهود عن التلبيس وأمروا بما هو في معناها ولا يقبل التلبيس فقيل {وَقُولُوا انظُرْنَا} أي : انتظرنا من نظره إذا انتظره {وَاسْمَعُوا} وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة {وَلِلْكَـاـفِرِينَ} أي : ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وسبوه {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع لما اجترؤوا عليه من المسبة العظيمة.
وفي هذه الآية دليلان أحدهما على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض وأما قولهم لا بأس بالمعاريض وهو أن يتكلم لرجل بكلمة يظهر من نفسه شيئاً ومراده شيء آخر فإنما أرادوا ذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم يكن حاجة ولا ضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعاً قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" بأن لا يتعرض لهم بما حرم من دمائهم وأعراضهم وقدم اللسان في الذكر لأن التعرض به أسرع وقوعاً وأكثر وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال يكون بها.
قال في "المثنوي" :
أين زبان ون سنك وهم آهن وشيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 197
وانه بجهد از زبان ون آنشيست
سنك وآهن رامزن برهم كزاف
كه زروى نقل وكه ازروى لاف
زانكه تاريكست وهر سونبه زار
درميان نبه ون باشد شرار
عالمي رايك سخن ويران كند
روبهان مرده را شيران كند
والثاني : التمسك بسد الذرائع وحمايتها والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع.
ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم فلما علم الله تعالى ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ لأنه ذريعة للسبّ قال تعالى : {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام : 108) فمنع من سبع آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل
197
(1/156)
ذلك وقال تعالى : {وَسْـاَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (الأعراف : 163) الآية فحرم الله عليهم الصيد في يوم السبت فكان الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً أي : ظاهرة فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد وكان السد ذريعة للاصطياد فمسخهم الله قردة وخنازير.
وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال رسول الله عليه السلام : "أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" قال العلماء : ففعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا الله عند قبورهم فمضت لهم بذلك أزمان ثم إنهم خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم ووسوس لهم الشيطان إن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها فحذر النبي عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال عليه السلام : "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" وقال : "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وقال صلى الله عليه وسلّم "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس" وقال عليه السلام : "إن من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال : "نعم يسبّ أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" فجعل التعرض لسب الآباء والأمهات كسب الآباء والأمهات وقال صلى الله عليه وسلّم "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه" فمنع عليه السلام من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وفي الحديث "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم" والعينة : هو أن يبيع رجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة وذلك أن العينة هو الحال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره وفي هذا الحديث ذم للزراع إذا كان زراعتهم ذريعة لترك الجهاد قال عليه الصلاة والسلام حين رأى آلة الحراثة في دار قوم : "ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا" وذلك لأن الزراعة عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد فيستحق به الذل وعمارة الدنيا أصل في حق الكفار عارض في حق المسلمين فإن المسلمين يجعلونها وسيلة إلى الآخرة وأما الكفار فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن آخرتهم غافلون وقد قال عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن" أي : بالنسبة إلى ما أعد له من ثواب النعيم "وجنة الكافر" أي : بالإضافة إلى ما هيىء له من عذاب الآخرة والقطعية والهجران.
جزء : 1 رقم الصفحة : 197
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} كان فريق من اليهود يظهرون للمؤمنين محبة ويزعمون أنهم يودون لهم الخير فنزل تكذيباً لهم.
والودّ حبّ الشيء مع تمنيه ونفي الود كناية عن الكراهة أي : ما يحب الذين كفروا {مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} من للتبيين لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون فكأنه قيل ما يود الذين كفروا
198
(1/157)
وهم أهل الكتاب والمشركون فبين أن الذين كفروا باق على عمومه وأن المراد كلا نوعيه جميعاً والمعنى أن الكفار جميعاً لم يحبوا {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} أي : على نبيكم لأن المنزل عليه منزل على أمته {مِّنْ خَيْرٍ} هو قائم مقام فاعله ومن مزيدة لاستغراق الخير والخير الوحي والقرآن والنصرة {مِّن رَّبِّكُمْ} من لابتداء الغاية والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم ويكرهون أن ينزل عليكم شيء من الوحي أما اليهود فبناء على أنهم أهل الكتاب وأبناء الأنبياء الناشئون في مهابط الوحي وأنتم أميون وأما المشركون فإدلالاً بما كان لهم من الجاه والماء زعماً منهم أن رياسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيوية منوطة بالأسباب الظاهرة ولذا قالوا : {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) وهم كانوا يتمنون أن تكون النبوة في أحد الرجلين نعيم بن مسعود الثقفي بالطائف والوليد بن المغيرة بمكة ثم أجاب عن قول من يقول : لم لم ينزل عليهم بقوله : {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَن يَشَآءُ} يقال خصه بالشيء واختصه به إذا أفرده به دون غيره ومفعول من يشاء محذوف.
والرحمة النبوة والوحي والحكمة والنصرة والمعنى يفرد برحمته من يشاء إفراده بها ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتي الفائض عليه بحسب إرادته عز وجل لا تتعداه إلى غيره لا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق وما وقع في عبارة مشايخنا في حق بعض الأشياء أنه واجب في الحكمة يعنون به أنه ثابت متحقق لا محالة في الوجود لا يتصور أن لا يكون لا أنه يجب ذلك بإيجاب موجب {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي : على من يختاره بالنبوة والوحي لابتدائه بالإحسان بلا علة وهو حجة لنا على المعتزلة فإن المفضل عند الخلق هو الذي يعطي ويبذل ما ليس عليه لأن الذي يعطي ما عليه يكون قاضياً لا مفضلاً ولو كان يجب عليه فعل الأصلح لكان المناسب أن يكون ذو العدل بدل قوله ذو الفضل ثم فيه إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته فمن تعرض لردّ ما منّ الله به على عباده المؤمنين فقد جهل بحقيقة الأمر.
وعباد الله المخلصون قسمان : قوم أقامهم الحق لخدمته وهم العباد والزهاد وأهل الأعمال والأوراد وقوم اختصهم بمحبته وهم أهل المحبة والوداد وكل من خدمته وتحت طاعته إذ كلهم قاصد وجهه ومتوجه إليه والعبودية صفة العبد لا تفارقه ما دام حياً ومن حقائق العبودية إخراج الحسد من القلب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 197
قال بعض الحكماء : بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه :
أولها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
والثاني : أنه يتسخط قسمته تعالى ويقول لربه : لو قسمت هكذا.
والثالث : أن فضل الله يؤتيه من يشاء وهو يبخل بفضله.
والرابع : أنه خذل ولي الله لأنه يريد خذلانه وزوال النعمة عنه.
والخامس : أنه أعان عدوه يعني إبليس.
واعلم أن حسدك لا ينفذ على عدوك بل على نفسك بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي حجراً إلى عدوه ليصيب به مقلته فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها فيزيد غضبه ثانياً فيعود ويرميه أشد من الأولى فيرجع على عينه اليسرى فيعميها فيزداد غضبه ثالثاً فيعود ويرميه فيرجع الحجر على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع كرة بعد أخرى وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون وهذا حال الحسود وسخرية الشياطين وقال
199
(1/158)
بكر بن عبد الله : كان رجل يأتي بعض الملوك فيقوم بحذائه ويقول : أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيه إساءته فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك وقال : إنه هذا الرجل يزعم أن الملك أبخر فقال الملك : وكيف يصح ذلك عندي؟ قال : ندعو به إليك فانظر فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه أن لا يشم ريح البخر فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثؤم فخرج الرجل من عنده فقام بحذاء الملك فقال على عادته مثل ما قال فقال له الملك : ادن مني فدنا منه واضعاً يده على فمه مخافة أن يشم الملك منه ريح الثوم فصدق الملك في نفسه قول الساعي قال : وكان الملك لا يكتب بخطه إلا لجائزة فكتب كتاباً بخطه إلى عامل له إذا أتاك الرجل فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إليّ فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فاستوهب منه ذلك الكتاب فأخذه منه بأنواع التضرع والامتناع ومضى إلى العامل فقال له العامل إن في كتابك أن أذبحك وأسلخك قال إنّ الكتاب ليس هو لي الله الله في أمري حتى أراجع الملك قال : ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل كعادته فتعجب منه الملك فقال : ما فعلت بالكتاب؟ قال : لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته قال الملك : إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر فقال : كلا قال : فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال : كان أطعمني طعاماً فيه ثؤم فكرهت أن تشمه قال : ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيىء إساءته ونعم ما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 197
هركه او نيك ميكند يا بد
نيك وبد هره ميكند يا بد
اللهم احفظنا من مساوىء الأخلاق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 197
{مَّآ} شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية أي : أي شيء {نَنسَخْ} ومحل قوله {مِنْ ءَايَةٍ} نصب تمييز لما.
والنسخ في اللغة : الإزالة والنقل يقال : نسخت الريح الأثر أي : أزالته ونسخت الكتاب أي ثقلته من نسخة إلى نسخة ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعاً.
أما الأول : فكآية الرجم كما روي أن مما يتلى عليكم في كتاب الله (الشيخ والشيخة إذ زنيا فارجموهما البتة) فهو منسوخ التلاوة دون الحكم ومعنى النسخ في مثلها انتهاء التكليف بقراءتها عند نسخ تلاوتها.
وأما الثاني : فكآية عدة الوفاة بالحول قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم مَّتَـاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (البقرة : 240) نسخت بأربعة أشهر وعشراً لقوله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (البقرة : 234) وكمصابرة الواحد لعشرة في القتال نسخت بمصابرة الواحد للاثنين فهو منسوخ الحكم دون التلاوة وهو المعروف من النسخ في القرآن فتكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين في التلاوة إلا أن المنسوخ لا يعمل بها ومعنى النسخ في مثلها بيان انتهاء التكليف بالحكم المستفاد منها عند نزول الآية المتأخرة عنها وحسن بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ورفعه ليبقى حصول الثواب بقراءتها فإن القرآن كما يتلى لحفظ حكمه لتيسير العمل به يتلى أيضاً لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه.
وأما الثالث : فكما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان مما يتلى في كتاب الله (عشر رضعات يحرمن ثم نسخ (بخمس رضعات يحرمن) فهو منسوخ الحكم والتلاوة جميعاً ومعنى النسخ في مثلها بيان انتهاء التكليف بقراءتها وبالحكم
200
المستفاد منها عند نسخها
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
(1/159)
قال القرطبي : الجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى {أَوْ نُنسِهَا} إنساء الآية إذهابها من القلوب كما روي أن قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا البسملة فغدوا إلى النبي عليه السلام وأخبروه فقال صلى الله عليه وسلّم "تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها" روي أن المشركين أو اليهود قالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقول إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً كما أمر في حد الزنى بإيذائهما باللسان حيث قال : {فَـاَاذُوهُمَا} (النساء : 16) ثم جعله منسوخاً وأمر بإمساكهن في البيوت حتى يتوفاهما الموت ثم جعله منسوخاً بقوله : {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ} (النور : 2) يريدون بذلك الطعن في الإسلام ليضعفوا عزيمة من أراد الدخول فيه فبين الله الحكمة في النسخ بهذه الآية والمعنى أن كل آية تذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معاً إلى بدل أو إلى غير بدل {نَأْتِ بِخَيْرٍ} أي : بآية هي خير {مِّنْهَآ} للعباد بحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة وليس المقصود أن آية خير من آية لأن كلام الله واحد وكله خير فلايتفاضل بعض الآيات على بعض في أنفسها من حيث أنه كلام الله ووحيه وكتابه بل التفاضل فيها إنما هو بحسب ما يحصل منها للعباد {أَوْ مِثْلِهَآ} في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر أما الأول فكنسخ الاعتداد بحول ونقله إلى الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً وأما الثاني فكنسخ ترك القتال بإيجابه وقد يكون النسخ بمثل الأول لا أخف ولا أشق كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضاً وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب.
واعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً في الإسناد بناء على أن النسخ يقع به والمنسوخ هو الحكم المزال والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة وهو المكلف والحكمة في النسخ أن الطبيب المباشر لإصلاح البدن يغير الأغذية والأدوية بحسب اختلاف الأمزجة والأزمنة كذلك الأنبياء المباشرون لإصلاح النفوس يغيرون الأعمال الشرعية والأحكام الخلقية التي هي للنفوس بمنزلة العقاقير والأغذية للأبدان فإن أغذية النفوس وأدويتها هي الأعمال الشرعية والأخلاق المرضية فيغيرها الشارع على حسب تغير مصالحها فكما أن الشيء يكون دواء للبدن في وقت ثم قد يكون داء في وقت آخر كذلك الأعمال قد تكون مصلحة في وقت ومفسدة في وقت وقس عليه حال المرشد والمسترشد فإن التربية على القاعدة التسليكية بحسب أحوال المشارب ولا يلقاها من المرشدين إلا ذو حظ عظيم قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
رمز ننسخ آية أو ننسها
نأت خيراً درعقب خي دان مهاهر شريعت راكه حق منسوخ كرد
أو كيا برد وعوض آورده ورد
اندرين شهر حوادث مير اوست
در ممالك مالك تدبير أو ست
آنكه داند دوخت أو داند دريد
هره رايفروخت نيكوثر خريد
201
{أَلَمْ تَعْلَمْ} الخطاب للنبي عليه السلام ومعنى الاستفهام تقرير أي : أنك تعلم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير.
(1/160)
{أَلَمْ تَعْلَمْ} وخصه عليه السلام بالخطاب مع أن غيره داخل في الخطاب أيضاً حقيقة بناء على أن المقصود من الخطاب تقرير علم المخاطب بما ذكر ولا أحد من البشر أعلم بذلك منه عليه السلام إذ قد وقف من أسرار ملكوت السموات والأرض على ما لا يطلع عليه غيره وعلم غيره بالنسبة إلى علمه عليه السلام ملحق بالعدم لأن علم الأولياء من علم الأنبياء بمنزلة قطرة من سبعة أبحر وعلم الأنبياء من علم نبينا محمد عليه السلام بهذه المنزلة وعلم نبينا من علم الحق سبحانه بهذه المنزلة {أَنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو كالدليل على قوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} والملك تمام القدرة واستحكامها وتخصيص السموات والأرض بالذكر وإن كان الله تعالى له ملك الدنيا والآخرة جميعاً لكونهما أعظم المصنوعة وأعجبها شأناً {وَمَا لَكُم} أيها المؤمنون {مِّن دُونِ اللَّهِ} أي سوى الله وهو في حيز النصب على الحالية من الولي لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالاً {مِّنْ} زائدة للاستغراق {وَلِيُّ} قريب وصديق وقيل وال وهو القيم بالأمور {وَلا نَصِيرٍ} أي : معين ومانع والفرق بين الولي والنصير أنّ الولي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور والمقصود التسكين لقلوب المؤمنين بأن الله وليهم وناصرهم دون غيره فلا يجوز الاعتماد إلا عليه ولا يصح الالتجاء إلا إليه والمعنى أن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة وهو العلم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} والعلم {أَنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} والعلم {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ} هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم والعمل بموجبه شيء من الثقة والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه من غير إصغاء إلى أقاويل الكفرة وتشكيكاتهم التي هي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{أَمْ تُرِيدُونَ} أم معادلة للهمزة في ألم تعلم أي : ألم تعلموا أنه مالك الأمور وقادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام والمراد توصية المسلمين بالثقة به وترك الاقتراح عليه وهو المفاجأة بالسؤال من غير روية فكر {أَن تَسْـاَلُوا} وأنتم مؤمنون {رَسُولَكُمْ} وهو في تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ما تشتهون غير واثقين بأموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشؤونه تعالى قيل : لعلهم كانوا يطلبون منه عليه السلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ {كَمَا سُـاـاِلَ مُوسَى} مصدر تشبيهي أي : نعت لمصدر مؤكد محذوف وما مصدرية أي : سؤالاً إلا مشبهاً بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له : اجعل لنا إلهاً وأرنا الله جهرة وغير ذلك.
{مِن قَبْلِ} أي : من قبل محمد صلى الله عليه وسلّم متعلق بسئل جيىء به للتأكيد.
{وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ} أي : يختره ويأخذه لنفسه {بِالايمَـانِ} بمقابلته بدلاً منه وحاصله ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض وحق بحت واقترح غيرها {فَقَدْ ضَلَّ} أي : عدل وحار من حيث لا يدري {سَوَآءَ السَّبِيلِ} عن الطريق المستقيم الموصل
202
إلى معالم الحق والهدى وتاه في تيه الهوى وتردى في مهاوي الردى.
وسواء السبيل وسط الطريق السويّ الذي هو بين الغلو والتقصير وهو الحق وأكثر المفسرين على أن سبب نزول الآية أن اليهود قالوا : يا محمد ائتنا بكتاب الله جملة كما جاء موسى بالتوراة جملة فنزلت كما قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 202
(1/161)
{يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـابًا مِّنَ السَّمَآءِ} (النساء : 153) إلى قوله : {جَهْرَةً} (النساء : 153) فالمخاطبون بقوله أم تريدون هم اليهود وإضافة الرسول إليهم في قوله رسولكم باعتبار أنهم من أمة الدعوة ومعنى تبدل الكفر بالإيمان ترك صرف قدرتهم إليه مع تمكنهم من ذلك وإيثارهم للكفر عليه.
قال الإمام : وهذا أصح لأن الآية مدنية ولأن هذه السورة من أول قوله : يا بَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ} (البقرة : 47) حكاية عنهم ومحاجة معهم.
وفي الآية إشارة إلى حفظ الآداب فمن لم يتأدب بين يدي مولاه ورسوله وخلفائه فقد تعرض للكفر وحقيقة الأدب اجتماع خصال الخير وعن النبي عليه السلام قال : "حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن مرضعه ويحسن أدبه فإنه مسؤول عنه يوم القيامة ومؤاخذ بالتقصير فيه".
قال في "بستان العارفين" : مثل الإيمان مثل بلدة لها خمسة من الحصون : الأول من ذهب ، والثاني : من فضة ، والثالث : من حديد ، والرابع : من حبو كل والخامس من لبن فما دام أهل الحصن يتعاهدون الحصن الذي من اللبن فالعدو لا يبلغ فيهم فإذا تركوا التعاهد حتى خرب الحصن الأول طمع في الثاني ثم في الثالث حتى خرب الحصون كلها فكذلك الإيمان في خمسة من الحصون : أولها اليقين ثم الإخلاص ثم أداء الفرائض ثم إتمام السنن ثم حفظ الأدب فما دام يحفظ الأدب ويتعاهده فإن الشيطان لا يطمع فيه فإذا ترك الأدب طمع في السنن ثم في الفرائض ثم في الإخلاص ثم في اليقين وينبغي أن يحفظ الأدب في جميع أموره من أمر الوضوء والصلاة والبيع والشراء والصحبة وغير ذلك.
واعلم أن الشريعة هي الأحكام والطريقة هي الأدب وإنما رد من رد لعدم رعاية الأدب كإبليس وغيره من المردودين كما قيل :
بي أدب مرد كي شود مهتر
كره اورا جلالت نسبست
با ادب باش تابزرك شوي
كه بزر كي نتيجة أدبست
وسئل ابن سيرين أي : الأدب أقرب إلى الله فقال معرفة ربوبيته والعمل بطاعته والحمد على السراء والصبر على الضراء انتهى كلامه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 202
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} هم رهط من أحبار اليهود وروي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضي الله عنهما بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت فقالت اليهود : أما عمار فقد صبا أي : خرج عن ديننا بحيث لا يرجى منه الرجوع إليه أبداً فكيف أنت يا حذيفة ألا تبايعنا قال حذيفة رضيت بالله ربّاً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً فقالوا : وإله موسى لقد أشرب في قلوبكما حب محمد ثم أتيا رسول الله عليه السلام وأخبراه فقال : "أصبتما خيراً وأفلحتما" والمعنى أحبّ وأراد كثير من اليهود {لَوْ يَرُدُّونَكُم} أي : أن يردوكم فإن لو من الحروف المصدرية إذا جاءت بعد فعل يفهم منه معنى التمني نحو قوله تعالى : {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (النساء : 89)
203
أي : أن يصرفوكم عن التوحيد {مِّنا بَعْدِ إِيمَـانِكُمْ} يا معشر المؤمنين {كُفَّارًا} أي : مرتدين حال من ضمير المخاطبين في يردونكم ويحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً ليردونكم على تضمينه معنى يصيرونكم {حَسَدًا} علة لقوله ودّ كأنه قيل ودّ كثير ذلك من أجل الحسد {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم} يجوز أن يتعلق بود على معنى أنهم تمنوا ارتدادكم من عند أنفسهم وقبل شهوتهم وأهوائهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم لأنهم ودوا ذلك فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق ويجوز أن يتعلق بحسداً أي : حسداً منبعثاً من أصل نفوسهم بالغاً أقصى مراتبه {مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} أي : من بعد ما ظهر لهم أن محمداً رسول الله وقوله حق ودينه حق بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة {فَاعْفُوا} العفو ترك عقوبة المذنب يقال عفت الريح المنزل درسته وعفا المنزل يعفو درس يتعدى ولا يتعدى ومن ترك المذنب فكأنه درس ذنبه من حيث أنه ترك المكافاة والمجازاة وذلك لا يستلزم الصفح ولذا قال تعالى : {وَاصْفَحُوا} فإنه قد يعفو الإنسان ولا يصفح.
والصفح ترك التقريع باللسان والاستقصاء في اللوم يقال : صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه بالكلية وقد ضربت عنه صفحاً إذا أعرضت عنه وتركته وليس المراد بالعفو والصفح المأمور بهما الرضى بما فعلوا لأن ذلك كفر والله تعالى لا يأمر به بل المراد بهما ترك المقاتلة والإعراض عن الجواب عن مساوىء كلامهم {حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي : يحكم الله بحكمه الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير.
جزء : 1 رقم الصفحة : 202
(1/162)
ـ روي ـ أن الصحابة رضي الله عنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أن يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بأنفسهم ودعوا المسلمين إلى الكفر فنزلت الآية بترك القتال والإعراض عن المكافأة إلى أن يجيء الإذن من الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على الانتقام منهم وينتقم إذا جاء أوانه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 202
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ} عطف على فاعفوا كأنه أمرهم بالصبر والمخالفة واللجأ إلى الله تعالى بالعبادة والبر فالمراد الأمر بملازمة طاعة الله تعالى من الفرائض والواجبات والتطوعات بقرينة قوله : {وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} فإن الخير يتناول أعمال البر كلها إلا أنه تعالى خص من بينها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر تنبيهاً على عظم شأنهما وعلو قدرهما عند الله فإن الصلاة قربة بدنية ليكون عمل كل عضو شكراً لما أنعم الله عليه في ذلك والزكاة قربة مالية ليكون شكراً للأغنياء الذين فضلهم الله في الدنيا بالاستمتاع بلذيذ العيش بسبب سمعتهم في صنوف الأعمال وما تقدموا شرطية أي : أي : شيء من الخيرات صلاة أو صدقة أو غيرهما تقدموه وتسلفوه لمصلحة أنفسكم {تَجِدُوهُ} أي : ثوابه وجزاءه لا عينه لأن عين تلك الأعمال لا تبقى ولأن وجدان عينها لا يرغب فيه {عِندَ اللَّهِ} أي : محفوظاً عنده في الآخرة فتجدوا الثمرة واللقمة فيها مثل أحد ولفظ التقديم إشارة إلى أن المقصود الأصلي والحكمة الكلية في جميع ما أنعم الله تعالى به على المكلفين في الدنيا أن يقدموه إلى معادهم ويدخروه ليومهم الآجل كما جاء في الحديث "إن العبد إذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم" {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أن عالم لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال والعمل غير مقيد بالخير أو الشر فهو عام شامل للترغيب والترهيب فالترغيب من حيث أنه يدل
204
على أنه تعالى يجازي على القليل من الخير كما يجازي على الكثير والترهيب من حيث أنه يجاري على القليل والكثير من الشر أيضاً فلا يضيع عنده عمل عامل.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال : السلام عليكم أهل القبور أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن دوركم قد سكنت وأموالكم قد قسمت فأجابه هاتف يا بن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه وما أنفقناه فقد ربحناه وما خلفناه فقد خسرناه" ولقد أحسن القائل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 204
قدم لنفسك قبل موتك صالحاً
واعمل فليس إلى الخلود سبيل قال السعدي :
توغافل درانديشه سود ومال
كه سرماية عمر شد ايمال
غبار هوا شم عقلت بدوخت
سموم هوا كشت عمرت بسوخت
بكن سرمه غفلت از شم اك
كه فرداشوي سرمه درشم خاك
اعلم أن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا أن يبقى بعده واحد من الأولاد الأربعة التي لا ينقطع أجرها :
الأول : ما يتولد من مال الإنسان كبناء المساجد والجسور والرباط والأوقاف وغير ذلك من الخيرات ، كما قال السعدي في البستان :
ازان كس كه خيرى بماندروان
دمادم رسد رحمتش برروان
نمرد آنكه ماند س ازوى بجاي
ل ومسجد وخان ومهمان سراي
هران كونماند از سش ياد كار
درخت وجودش نياورد بار
وكر رفت وآثار خيرش نماند
نشايد س مرك الحمد حواند
وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : "من صدقة جارية" في حديث "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث".
والثاني : ما يتولد من العقل الراجح كالعلم المنتفع به وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "أو علم ينتفع به" قيل : هو الأحكام المستنبطة من النصوص والظاهر أنه عام متناول ما خلفه من تصنيف أو تعليم في العلوم الشرعية وما يحتاج إليه في تعلمها قيد العلم بالمنتفع به لأن ما لا ينتفع به لا يثمر أجراً كما أن كتم ما ينتفع به لا يثمر أجراً بل إثماً وعذاباً كما ورد في الحديث "من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من النار".
قال الإمام السخاوي يشمل هذا الوعيد حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها.
(1/163)
والثالث : ما يتولد من النفس كالبنين والبنات وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "أو ولد صالح يدعو له" قيد عليه الصلاة والسلام بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره.
وأما الوزر فلا يلحق بالأب من سيئة ولده إذا كانت نيته في تحصيله الخير وإنما ذكر الدعاء له تحريضاً للولد على الدعاء لأبيه لا لأنه قيد لأن الأجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملاً صالحاً سواء دعا لأبيه أم لا كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب سواء دعا له من أكلها أم لم يدع وكذلك الأم.
فإن قلت : ما التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام : "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" وقوله عليه السلام : "من مات يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة".
قلنا السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به ومعنى حديث المرابط أن ثواب عمله الذي قدمه في حياته
205
ينمو له إلى يوم القيامة.
أما الثلاث المذكورة في الحديث فإنها أعمال تحدث بعد وفاته لا تنقطع عنه لأنه سبب لها فيلحقه منها ثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 204
والرابع : ما يتولد من الروح وهي الأولاد المعنوية التي تولدت من التربية كأولاد المشايخ الكاملين من الصوفية المتشرعين المحققين وهذا القسم يمكن أن يندرج فيما قبله فافهم.
{وَقَالُوا} نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول الله عليه السلام مع اليهود فكذب بعضهم بعضاً فقالت اليهود لبني نجران لن يدخل الجنة إلا اليهود وقال بنو نجران لليهود لن يدخلها إلا النصارى فقال الله : قال أهل الكتاب من اليهود والنصارى {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى} لم يقل كانوا حملاً للاسم على لفظ من وجمع الخبر حملاً على معناه.
والهود جمع هائد أي : تائب نحو إنا هدنا إليك وكأنه كان في الأصل اسم مدح لمن تاب منهم من عبادة العجل ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لجماعتهم كالعلم لهم.
والنصارى جمع نصران كسكران {تِلْكَ} أي : ما قالوا بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى {أَمَانِيُّهُمْ} أي : شهواتهم الفاسدة التي تمنوها على الله بغير الحق لا حقيقة لها جمع أمنية وهي ما يتمنى أفعولة كالأعجوبة.
والتمني التشهي والعرب تسمى الكلام العاري عن الحجة تمنياً وغروراً وضلالاً وأحلاماً مجازاً وجمع الأماني باعتبار صدورها عن الجميع من اليهود والنصارى ثم أومأ الله إلى بطلان أقوالهم بقوله لنبيه عليه السلام {قُلْ هَاتُوا} أصله أتوا قلبت الهمزة هاء وهو أمر تعجبي أي : احضروا {بُرْهَـانَكُمْ} حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة ولم يقل براهينكم لأن الدعوى كانت واحدة وهي نفي دخول غيرهم الجنة والحجة على تلك الدعوى واحدة {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في دعواكم فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت.
{بَلَى} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 204
اعلم أن قولهم لن يدخل الجنة إلخ مشتمل على إيجاب ونفي أما الإيجاب فهو أن يدخل الجنة اليهود والنصارى وأما النفي فهو أن لا يدخل الجنة غيرهم فقوله بلى إثبات لما نفوه في كلامهم فكأنهم قالوا لا يدخل الجنة غيرنا فأجيبوا بقوله بلى يدخل الجنة غيركم وليس الأمر كما تزعمون {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي : أخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئاً فإن إسلام شيء لشيء جعله سالماً له بأن لا يكون لأحد حق فيه لا من حيث التخليق والمالكية ولا من حيث استحقاق العبادة والتعظيم عبر عنها بالوجه لكونه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل فهو مجاز من باب ذكر الجزء وإرادة الكل ومنه قولهم كرم الله وجهه ويحتمل أن يكون إخلاص الوجه كناية عن إخلاص الذات لأن من جاد بوجهه لا يبخل بشيء من جوارحه ويكون بمعنى العضو المخصوص {وَهُوَ مُحْسِنٌ} حال من ضمير أسلم أي : وهو مع إخلاصه وتسليم النفس إلى الله بالكلية بالخضوع والانقياد محسن في جميع أعمالهم بأن يعملها على وجهة يستصوبها فإن إخلاصهالا يستلزم كونها مستحسنة بحسب الشرع وحقيقة الإحسان والإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحسنه الذاتي وقد فسره صلى الله عليه وسلّم بقوله : "أن تعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا المعنى حقيقة الإيمان وظاهره الإحسان وأما باطنه فمرتبة كنت سمعه وبصره التي هي نتيجة قرب النوافل وهو كون ذات الحق ووجوده مرآة لصفات
206
(1/164)
العبد ومظهراً لأحواله وأما قرب الفرائض فهو المصرح في قوله قال الله تعالى على لسان عبده (سمع الله لمن حمده) وهو كون صفات العبد وأحواله مرآة لذات الحق ومظهراً لوجوده وباعتبار قرب النوافل كان الظاهر والمرئي والمشهود هو العبد باعتبار قرب الفرائض هو الحق {فَلَه أَجْرُهُ} ثوابه الذي وعد له على عمله وهو عبارة عن دخول الجنة وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل واستحالة نيله بدونه {عِندَ رَبِّهِ} أي : حال كون ذلك الأجر ثابتاً عند مالكه ومدبر أموره ومبلغه إلى كماله لا يضيع ولا ينقص والعندية للتشريف والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء لتضمنها معنى الشرط {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة عند دخول الجنة كما قال تعالى خبراً عن أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (فاطر : 34) وأما في الدنيا فإنهم يخافون من أن يصيبوا الشدائد والأهوال العظام قدامهم ويحزنون على ما فاتهم من الأعمال الصالحة والطاعات المؤدية إلى الفوز بأنواع السعادات فإن المؤمن كما لا يقنط من رحمة الله لا يأمن من غضبه وعقابه كما قيل : لا يجتمع خوفان ولا أمنان فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب فإن الخوف إنما يكون مما يتوقع في المستقبل كما أن الحزن إنما يكون على ما وقع سابقاً ومن أمن في الدنيا خاف في الآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 204
قال في "المثنوي" :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست در خور از براي خائف آن
هركه ترسد مروراً أيمن كنند
مردل ترسنده را ساكن كنند
آنكه خوفش نيست ون كويى مترس
درس ه دهى نيست أو محتاج درس
جزء : 1 رقم الصفحة : 204
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} بيان لتضليل كل فريق من اليهود والنصارى صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم {لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ} أي : على أمر يصح أو يعتد به {وَقَالَتِ النَّصَـارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ} أي : قالوا ما قالوا والحال أن كل فريق منهم {يَتْلُونَ الْكِتَـابَ} اللام للجنس أي إنهم من أهل العلم والكتاب والتلاوة للكتب وحق من تلا كتاباً من كتب الله تعالى وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من كتب الله يصدق ما عداه {كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك القول الذي سمعت به من هؤلاء العلماء الضالة على أن الكاف في موضع النصب على أنه مفعول قال : {قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} من عبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلة أي : قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء.
{مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} بدل من محل الكاف وفيه توبيخ عظيم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم أصلاً.
{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بين الفريقين {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ} متعلق بيختلفون قدم للمحافظة على رؤوس الآي {يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين.
فإن قلت : بمَ يحكم؟ قلت : بما يقسم لكل فريق مما يليق به من العقاب وفعل الحكم يتعدى بجارين الباء وفي كما يقال حكم الحاكم في هذه القضية بكذا وفي الآية قد ذكر المحكوم فيه دون المحكوم به.
واعلم أن كل حزب بما لديهم فرحون وليس ذلك في الفرق الضالة خاصة بل ذلك يجري بين صوفي وصوفي وشيخ
207
وشيخ وعالم وعالم فتخطئة كل فريق صاحبه مستمرة والأولى أن يتبع الهدى.
قال بعض المشايخ من ادعى أنه صاحب قلب وإرشاد بدون تزكية النفس ومعرفة المبدأ والمعاد لأجل الدنيا الدنيئة كان عذابه أضعاف عذاب النساء اللاتي رآهن النبي عليه السلام ليلة المعراج يقطعن صدورهن بمقاريض فسأل جبريل فقال : "إنهن الزواني من النساء اللاتي جئن بأولاد من الزنى" فالدعوى باطلة بدون الدليل وصاحبها ضال مضلّ والمدعي كالزانية والتابع له على هواه كولد الزنى فإن ولد الزنى هالك حكماً لعدم المربي والاتباع لمبتدع لا ينتج إلا البدعة والإلحاد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 207
ـ وحكي ـ عن الشيخ صدر الدين التبريزي أنه قال : كان رجل مشهور في تبريز يقال له عارف قدم يوماً إلى مجلس بعض العارفين فقال له : ما اسمك؟ قال : محمود لكن يقال لي عارف قال له : هل عرفت ذاتك حتى قيل لك عارف؟ فقال : قرأت كتباً كثيرة من مقالات المشايخ والصوفية ، قال له : ذلك كلامهم فما لك؟
بر خويش بايد كرد رواز
ببال ديكران نتوان ريدن
(1/165)
فمجرد النسخة لا يفيد بدون العمل بما فيها والتحقق بحقائقها وهذا كما أن تاجراً إذا وصل له كتاب من عبده المأذون في التجارة إني اشتريت كذا وكذا وأخبر سيده بما وقع تفصيلاً فبمجرد هذا الكتاب لا يقدر السيد أن يتجر بدون أن يصل إليه ما اشتراه العبد من السلعة فلو أدخل جماعة من المشترين في داره ليبيع متاعه لا يجد إلا خجالة لأن المحل الذي يعرض السلعة فيه على المشترين لا يفيده مجرد النسخة وقراءتها.
قال في "المثنوي" :
مرغ بر بالا ران وسايه اش
مي دود بر خاك ران مرغ وش
ابلهي صياد آن سايه شود
مي دود ندانكه بي مايه شود
بي خبر كان عكس آن مرغ هواست
بي خبر كه أصل آن سايه كجاست
تير اندازد بسوى سايه او
تركشش خالي شود ازجست وجو
تركش عمرش تهي شد عمر رفت
از دويدن درشكار سايه تفت
سايه يزدان وباشد دايه اش
وارهاند ازخيال وسايه اش
جزء : 1 رقم الصفحة : 207
{وَمَنْ أَظْلَمُ} سبب النزول أن ططيوس الرومي ملك النصارى وأصحابه غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وأحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير ولم يزل خراباً حتى بناه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك لما استولى عمر رضي الله عنه على ولاية كسرى وغنم أموالهم عمّر بها بيت المقدس ثم صار في أيدي النصارى من الإفرنج أكثر من مائة سنة حتى فتحه واستخلصه الملك الناصر صلاح الدين من آل أيوب سنة خمسمائة وخمس وثمانين بعد الهجرة ومن في الأصل كلمة استفهام وهي ههنا بمعنى النفي أي لا أحد أظلم {مِمَّن مَّنَعَ مَسَـاجِدَ اللَّهِ} المراد بيت المقدس وصيغة الجمع لكون حكم الآية عاماً لكل من فعل ذلك في أي : مسجد كان كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً ومن أظلم ممن آذى الصالحين لأنه لا عبرة لخصوص السبب {أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ثاني مفعولي منع فإنه يقتضي ممنوعاً وممنوعاً عنه فتارة يتعدى إليهما بنفسه كما في قولك منعته الأمر وتارة يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر وهو كلمة عن أو من مذكورة كانت كما في قولك منعته من الأمر أو محذوفة كما في الآية أي :
208
من أن يسبح ويقدس ويصلي له فيها {وَسَعَى} أي : عمل {فِى خَرَابِهَآ} بالهدم والخراب اسم للتخريب كالسلام اسم للتسليم وأصله الثلم والتفريق {أُوالَـائِكَ} المانعون {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ} أي : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلاً عن الاجتراء على تخريبها {لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ} أي : خزي فظيع لا يوصف كالقتل والسبي في حق أهل الحرب والإذلال بضرب الجزية في حق أهل الذمة أو هو فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار الذي لا ينقطع لما أن سببه أيضاً وهو ما حكي من ظلمهم كذلك في العظم وقيل : نزلت الآية في مشركي العرب الذي منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الدعاء إلى الله تعالى بمكة وألجؤوه إلى الهجرة فصاروا بذلك مانعين له عليه السلام ولأصحابه أن يذكروا الله إلى المسجد الحرام وأيضاً أنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية وهي السنة السادسة من الهجرة ، والحديبية : موضع على طريق مكة فعلى هذا يكون المسجد الذي نزلت الآية فيه المسجد الحرام فالمراد بالخراب في قوله وسعى في خرابها تعطيلهم المسجد الحرام عن الذكر والعبادة دون تخريبه وهدمه حقيقة وجعل تعطيل المسجد عنهما تخريباً له لأن المقصود من بنائه إنما هو الذكر والعبادة فيه فما دام لم يترتب عليه هذا المقصود من بنائه صار كأنه هدم وخرب أو لم يبن من أصله فإن عمارة المسجد كما تكون ببنائه وإصلاحه تكون أيضاً بحضوره ولزومه يقال فلان يعمر مسجد فلان إذا كان يحضره ويلزمه ويقال لسكان السموات من الملائكة عمارها قال النبي صلى الله عليه وسلّم "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" وذلك لقوله تعالى : {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} (التوبة : 18) فجعل حضور المساجد عمارة لها.
قال علي رضي الله عنه ست من المروءة : ثلاث في الحضر وثلاث في السفر.
فأما اللاتي في الحضر : فتلاوة كتاب الله تعالى وعمارة مسجد الله واتخاذ الإخوان في الله.
وأما اللاتي في السفر فبذل الزاد وحسن الخلق والمزاح في غير معاصي الله.
(1/166)
وعد من علامات الساعة تطويل المنارات وتنقيش المساجد وتزيينها وتخريبها عن ذكر الله تعالى فتعطيل المساجد عن الصلاة والتلاوة وإظهار شعائر الإسلام أقبح سيئة لا سيما إذ اقترن بفتح أبواب بيوت الخمر وإغلاق أبواب المكاتب وغير ذلك ولقد شوهد هذا في أكثر البلاد الرومية في هذا الزمان فلنبك على غربة الدين أيها الإخوان.
قال القشيري رحمه الله ومن أظلم ممن خرب بالشهوات أوطان العبادات وهي نفوس العابدين وخرب بالمنى والعلامات أوطان المعرفة وهي قلوب العارفين وخرب بالحظوظ والمساكنات أوطان المحبة وهي أرواح الواجدين وخرب بالتفات إلى القربات أوطان المشاهدات وهي أوطان الموحدين.
ثم في الآية إشارة إلى شرف بيت المقدس والمسجد الحرام وفي الحديث "من زار بيت المقدس محتسباً أعطاه الله ثواب ألف شهيد وحرم الله جسده على النار ومن زار عالماً فكأنما زار بيت المقدس" كذا في "مشكاة الأنوا"ر.
وذكر في "القنية" : أن أعظم المساجد حرمة المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم مسجد بيت المقدس ثم الجوامع ثم مساجد المحال ثم مساجد الشوارع فإنها أخف مرتبة حتى لا يعتكف فيها
209
إذا لم يكن لها إمام معلوم ومؤذن ثم مساجد البيوت فإنه لا يجوز الاعتكاف فيها إلا للنساء انتهى.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتادة أفندي : لا مقام أشرف من الجامع الكبير ببروسة بعد الكعبة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف وقال : كان هو موضع بيت عجوز آمنت بنوح النبي عليه السلام فحفظها الله من الطوفان في ذلك البيت حين لم تدرك السفينة هكذا ظهر لبعض أهل الله بطريق الكشف ومن اشتغل فيه صانه الله من طوفان الغفلة.
وقال أيضاً : الاشتغال في مكة يوماً يقوم مقام الاشتغال في سائر البلاد سنة بشرط رعاية آدابها قال وفي بلادنا للشغل موضعان أحدهما جامع السيد البخاري ببلدة بروسة والآخر مقام أبي أيوب الأنصاري بقسطنطينية :
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
عابدان اندر نماز وعارفان اندر نياز
عاشقان ازشوق وصل يار در سوز وكداز
اللهم اجعلنا من المشغولين بك.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} يريد بهما ناحيتي الأرض إذ لا وجه لإرادة موضعي الشروق والغروب بخصوصهما أي : له الأرض كلها لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجداً {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أي : ففي أي : مكان فعلتم تولية وجوهكم القبلة.
قال الإمام ولي إذا أقبل وولي إذا أدبر وهو من الأضداد والمراد ههنا الإقبال {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي : هناك جهته التي أمر بها ورضيها قبلة فإن إمكان التولية غير مختص بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر أو فثمة ذاته بمعنى الحضور العلمي فيكون الوجه مجازاً من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل والمعنى ففي أي : مكان فعلتم التولية فهو موجود فيه يمكنكم الوصول إليه إذ ليس هو جوهراً أو عرضاً حتى يكون بكونه في جانب مفرغاً جانباً ولما امتنع عليه أن يكون في مكان أريد أن علمه محيط بما يكون في جميع الأماكن والنواحي أي : فهو عالم بما يفعل فيه ومثيب لكم على ذلك وفي الحديث "لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله" معناه إن علم الله شمل جميع الأقطار فالتقدير لهبط على علم الله والله تعالى منزه عن الحلول في الأماكن لأنه كان قبل أن يحدث الأماكن كذا في "المقاصد الحسنة".
واعلم أن أين شرط في الأمكنة وهو ههنا منصوب بتولوا وما مزيدة للتأكيد وثم ظرف مكان بمنزلة هناك تقول لما قرب من المكان هنا ولما بعد ثم وهناك وهو خبر مقدم ووجه الله مبتدأ والجملة في محل الجزم على أنها جواب الشرط {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ} بإحاطته بالأشياء ملكاً وخلقاً فيكون تذييلاً لقوله ولله المشرق والمغرب وكذا إن فسرت السعة بسعة الرحمة فإن قوله ولله المشرق والمغرب لما اشتمل على معنى قولنا لا تختص العبادة والصلاة ببعض المساجد بل الأرض كلها مسجد لكم فصلوا في أي : بقعة شئتم من بقاعها فهم منه أنه واسع الشريعة بالترخيص والتوسعة على عباده في دينهم لا يضطرهم إلى ما يعجزون عن أدائه والمقصود التوسعة على عباده والتيسير عليهم في كل ما يحتاجون إليه فيدخل فيه التوسعة في أمر القبلة دخولاً أولوياً وهذا التعميم مستفاد من إطلاق واسع حيث لم يقيد بشيء دون شيء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
قال الغزالي في شرح الأسماء الحسنى : الواسع مشتق من السعة والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة وتضاف أخرى إلى الإحسان وبسط
210
(1/167)
النعم وكيفما قدر وعلى أي : شيء نزل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته بل تنفد البحار لو كانت مداداً لكلماته وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته وكل سعة وإن عظمت فتنتهي إلى طرف والذي لا يتناهى إلى طرف فهو أحق باسم السعة والله تعالى هو الواسع المطلق لأن كل واسع بالإضافة إلى ما هو أوسع منه ضيق وكل سعة تنتهي إلى طرف فالزيادة عليها متصورة وما لا نهاية له ولا طرف فلا يتصور عليه زيادة وسعة العبد في معارفه وأخلاقه فإن كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه وإن اتسعت أخلاقه حتى لم يضيقها خوف الفقر وغيظ الحسود وغلبة الحرص وسائر الصفات المذمومة فهو واسع وكل ذلك فهو إلى نهاية وإنما الواسع المطلق هو الله تعالى.
قال في "المثنوي" :
أي سك كركين زشت از حرص وجوش
وستين شير را بر خود موش
غره شيرت بخواهد امتحان
نقش شير و انكه أخلاق سكان
{عَلِيمٌ} بمصالحهم وأعمالهم كلها وهذا لا يخلو عن إفادة التهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط والتساهل كما أنه يتضمن الوعد بتوفية ثواب المصلين في جميع الأماكن فقد ظهر أن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـاجِدَ اللَّهِ} الآية وأن المعنى أن بلاد الله أيها المؤمنون تسعكم فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله إن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه.
وقال مجاهد والحسن لما نزل {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر : 60) قالوا : أين ندعوه فأنزل الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} بلا جهة وتحيز.
إن قيل ما معنى رفع الأيدي إلى السماء عند الدعاء مع أنه تعالى منزه عن الجهة والمكان ، قلنا : إن الأنبياء والأولياء قاطبة فعلوا كذلك لا بمعنى أن الله في مكان بل بمعنى أن خزائنه تعالى في السماء كما قال تعالى : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات : 22) وقال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر : 21) فالعرش مظهر لاستواء الصفة الرحمانية فرفع الأيدي إذاً إلى السماء والنظر إليها وقت الدعاء بمنزلة أن يشير سائل إلى الخزينة السلطانية ثم يطلب من السلطان أن يعطي له عطاء من تلك الخزينة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
ـ يروى ـ أن إمام الحرمين رفع الله درجته في الدارين : نزل ببعض الأكابر ضيفاً فاجتمع عنده العلماء والأكابر فقام واحد من أهل المجلس فقال : ما الدليل على تنزهه تعالى عن المكان وهو قال : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه : 5) فقال الدليل عليه : قول يونس عليه السلام في بطن الحوت {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الإمام ههنا فقير مديون بألف درهم ادِّ عنه دينه حتى أبينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما ذهب في المعراج إلى ما شاء الله من العلى قال : "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ولما ابتلى يونس عليه السلام بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال : {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) فكل منهما خاطبه بقوله : أنت هو خطاب الحضور فلو كان هو في مكان لما صح ذلك فدل ذلك على أنه ليس في مكان وفي الحديث "لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه رأى في بطن الحوت ما رأيته في أعلى العرش" يشير عليه السلام بذلك إلى ما وقع له وليونس عليه السلام من تجلي الذات وقيل : نزلت
211
الآية لما طعن اليهود في نسخ القبلة.
(1/168)
ـ روي ـ أنه عليه السلام كان يصلي بمكة مع أصحابه إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يصلي نحو بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود فصلى نحوه ستة عشر شهراً وكان يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأقدم القبلتين وادعى للقرب إلى الإيمان كما قال الله تعالى : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا} (البقرة : 144) وذلك في مسجد بني سلمة فصلى الظهر ولما صلى الركعتين نزل قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة : 144) فتحول في الصلاة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين فلما تحولت القبلة أنكر من أنكر فكان هذا ابتلاء من الله تعالى كما قال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (البقرة : 143) اللهم اهدنا وسددنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فللمؤمن حقاً أن يعتصم بالله ويدور مع الأمر الإلهي حيث يدور ويتبع الرسل ولا يتبع عقله العاجز وفمه القاصر ويتعلم الأدب من معدن الرسالة حيث لم يسأل تحويل القبلة بل انتظر إلى أمر الله فأكرمه الله بإعطاء مرامه وفضله على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
اعلم أن الذين شقت عليهم التحويلة طائفتان محجوبتان بالخلق عن الحق :
أما الطائفة الأولى : فقد عرفت أن التحويلة من الكعبة إلى بيت المقدس كانت صورة العروج من مقام المكاشفة أعني مقام القلب إلى مقام المشاهدة أعني مقام الروح فحسبوا التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد أبعد القرب ونزولاً بعد العروج وظنوا ضياع السعي إلى المقام الأشرف والسقوط عن الرتبة فشق عليهم ولم يعلموا أنه صورة الرجوع إلى مقام القلب حالة التمكين للدعوة ومشاهدة الجمع في عين التفصيل والتفصيل في عين الجمع حتى لا يحتجب العبد بالوحدة عن الكثرة ولا بالكثرة عن الوحدة.
وأما الطائفة الثانية : فتقيدوا بصورة عملهم ولم يعرفوا حكمة التحويلة فحسبوا صحة العبادة الثانية دون الأولى فشق عليهم ضياعها على ما توهموا.
وأما الذين سبقت لهم من الله الحسنى فلم يحتجبوا بحجاب واهتدوا إلى ما هو الصواب فوصلوا إلى التوحيد الذاتي المحمدي اللهم اجعلنا من المهتدين واحشرنا مع الأنبياء والمرسلين.
وقال أهل التأويل : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي : عالم النور والظهور الذي هو جهة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه وعالم الظلمة والاختفاء الذي هو جهة اليهود وقبلتهم بالحقيقة ظاهره {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أي أي جهة توجهوا من الظاهر والباطن {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي : ذاته المتجلية بجميع صفاته الجمالية والجلالية إذ بعد الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم فيه والقروب فيها بتستره وإحجابه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأي جهة توجهوا حينئذٍ فثم وجهه ليس إلا هو وحده.
قال الحافظ :
ميان كعبه وبتخانه هي فرقي نيست
بهر طرف كه نظر ميكني برابر اوست
واعلم أن شهود الحق بالخلق وشهود الخلق بالحق من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر هو مقام جمع الجمع والبقاء وذلك لا يحصل إلا بالتجلي العيني بعد العلمي.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتادة أفندي قدس سره : وإذا أمر بالإرشاد يعود لخدمة الحق ألا يرى أن موسى عليه السلام
212
لما وصل إلى الطور لاقتباس النار لأهله {نُودِىَ يا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} (طه : 11 ـ 12) فتجلى الربوبية أولاً ثم قيل : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} (طه : 12) وهما الطبيعة والنفس أمر بتركهما ثم قيل : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى} (طه : 13 ـ 14) فتجلي الألوهية ثم بعدهما تجلي الذات وأمر بإرشاد فرعون فترك أهله هناك ولم يلتفت وجاء إلى فرعون وكان دخوله بمصر في نصف الليل فدق باب فرعون بعصاه امتثالاً لأمر الله تعالى قيل : إنه شابت لحية فرعون في ذلك الوقت بمهابة دقه فقال : أكنت وليداً مر بي عندنا قال موسى : نعم ولذلك دعوتك قبل الكل لسبق حقك على رعاية له فأرادوا قتله فألقى عصاه فصارت ثعباناً مبيناً فبينا عزم على ابتلاعهم فاستأمنوا فأعطاهم الأمان وكان يريد أن يؤمن ولكنه منعه هامان فبعد دعوة فرعون جاء إلى أهله فوجدها قد وضعت الحمل فأحاطتها ذئاب من أطرافها لمحافظتها فلم يقدر أن يمر من هنا مار فانظر إلى قدرة الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
(1/169)
ـ روي ـ أن الإمام الأعظم والهمام الأقدم رحمه الله : لم يشتغل بالدعوة إلى مذهبه إلا بالإشارة النبوية في المنام بعدما قصد الانزواء فهذا أعدل دليل إلى وصوله إلى الحقيقة وكان يقوم كل الليل وسمع رحمه الله هاتفاً في الكعبة أن يا أبا حنيفة أخلصت خدمتي وأحسنت معرفتي فقد غفرت لك ولمن تبعك إلى قيام الساعة كذا في "عين العلم" للشيخ محمد البلخي رحمه الله.
وعن بعض العارفين قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السماء البيت المعمور وقبلة الكروبيين الكرسي وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه الله سبحانه وتعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{وَقَالُوا} نزلت لما قالت اليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله ومشركو العرب الملائكة بنات الله فضمير قالوا : راجع إلى الفرق الثلاث المذكورة سابقاً أما اليهود والنصارى فقد ذكروا صريحاً وأما المشركون فقد ذكروا بقوله تعالى : {كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (البقرة : 113) أي : قال اليهود والنصارى وما شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} الاتخاذ إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد وإما بمعنى التصيير والمفعول الأول محذوف أي : صير بعض مخلوقاته ولداً وادعى أنه ولده لا أنه ولده حقيقة وكما يستحيل عليه تعالى أن يلد حقيقة كذا يستحيل عليه التبني واتخاذ الولد فنزه الله تعالى نفسه عما قالوا في حقه فقال : {سُبْحَـانَهُ} تنزيهه والأصل سبحه سبحاناً على أنه مصدر بمعنى التسبيح وهو التنزيه أي : منزه عن السبب المقتضي للولد وهو الاحتياج إلى من يعينه في حياته ويقوم مقامه بعد مماته وعما يقتضيه الولد وهو التشبيه فإن الولد لا يكون إلا من جنس والده فكيف يكون للحق سبحانه ولد وهو لا يشبهه شيء.
قال في "المثنوي" :
لم يلد لم يولد است او از قدم
نى در دارد نه فرزندو نه عم
{بَل لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ردّ لما قالوه واستدلال على فساده فإن الإضراب عن قول المبطلين معناه الرد والإنكار.
وفي "الوسيط" بل أي : ليس الأمر كما زعموا والمعنى أنه خالق ما في السموات والأرض جميعاً الذي يدخل فيه الملائكة وعزير والمسيح دخولاً أولياء فكان المستفاد من الدليل أن يكون شيء ما مما في السموات والأرض ولداً سواء كان ذلك ما زعموا أنه ولد له أم لا {كُلٌّ} أي : كل ما فيهما كائناً ما كان من أولي العلم وغيرهم {لَهُ}
213
أي : سبحانه وتعالى : {قَـانِتُونَ} منقادون لا يمتنع شيء منهم على مشيئته وتكوينه وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته فلا يكون له ولد لأنه من حق الولد أن يجانس والده وإنما عبر عن جميع الموجودات أولاً بما يعبر به عن غير ذوي العلم وعبر عنه آخر بما يختص بالعقلاء وهو لفظ قانتون تحقيقاً لشأن العقلاء الذين جعلوه ولداًسبحانه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 213
{بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : هو مبدعهما على أن البديع بمعنى المبدع وهو الذي يبدع الأشياء أي : يحدثها أو ينشئها على غير مثال سبق والإبداع اختراع الشيء لا عن شيء دفعة أي : من غير مادة ومدة وسمي صاحب الهوى مبتدعاً لما لم يسبقه أحد من أرباب الشرع في إنشاء مثل ما فعله أو المعنى بديع سمواته وأرضه فعلى الأول من أبدع والإضافة معنوية وعلى الثاني من بدع إذا كان على شكل فائق وحسن رائق والإضافة لفظية وهو حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنعاء تقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه والله تعالى مبدع الأشياء كلها على الإطلاق منزه عن الانفعال فلا يكون والداً ومن قدر على خلق السموات والأرض من غير شيء كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أي : أراد شيئاً وأصل القضاء الأحكام أطلق على إرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه ألبتة.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} أي : يحصل في الوجود سريعاً من غير توقف ولا إباء كلاهما من كان التامة أي : أحدث فيحدث.
واعلم أن أهل السنة لا يرون تعلق وجود الأشياء بهذا الأمر وهو كن بل وجودها متعلق بخلقه وإيجاده وتكوينه وهو صفة أزلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده وكمال قدرته على ذلك لكن لا يتعلق علم أحد بكيفية تعلق القدرة بالمعدومات فيجب الإمساك عن بحثها وكذا عن بحث كيفية وجود الباري وكيفية العذاب بعد الموت وأمثالها فإنها من الغوامض.
جزء : 1 رقم الصفحة : 213
(1/170)
ثم اعلم أن السبب في هذه الضلالة وهي نسبة الولد إلى الله والقول بأنه اتخذ ولداً أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على الباري تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر وأن الله تعالى هو الأب الأكبر وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده فإن الأب هو معبود الابن من وجه أي : مخدومه ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة الطبيعية فاعتقدوا ذلك تقليداً ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقاً أي : سواء قصد به معنى السببية أو معنى الولادة الطبيعية حسماً لمادة الفساد واتخاذ الحبيب أو الخليل جائز من الله تعالى لأن المحبة تقع على غير جوهر المحب.
قالوا : أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ولدتك وأنت نبي فخفف النصارى التشديد الذي في ولدتك لأنه من التوليد وصحفوا بعض إعجام النبي بتقديم الباء على النون فقالوا : ولدتك وأنت بني تعالى الله عما يقول الظالمون وقال تعالى : يا أحبائي ويا أبناء رسلي فغيره اليهود وقالوا : يا أحبائي ويا أبنائي فكذبهم الله بقوله : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَـارَى نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة : 18) فالله سبحانه منزه عن الحدود والجهات ومتعال عن الأزواج والبنين والبنات ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السموات قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى : "كذبني ابن آدم" أي : نسبني إلى الكذب
214
"ولم يكن له ذلك" أي : لم يكن التكذيب لائقاً به بل كان خطأ "وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أن لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً" وإنما كان هذا شتماً لأن التولد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو وهذا إنما يكون في المركب وكل مركب محتاج.
فإن قلت قولهم اتخذ الله تكذيب أيضاً لأنه تعالى أخبر أنه لا ولد له وقولهم لن يعيدنا شتم أيضاً لأنه نسبة له إلى العجز فلم خص أحدهما بالشتم والآخر بالتكذيب.
قلت : نفي الإعادة نفي صفة كمال واتخاذ الولد إثبات صفة نقصان له والشتم فحش من التكذيب والكذب على الله فوق الكذب على النبي عليه السلام وفي الحديث "إن كذباً علي ليس ككذب على أحد" يعني الكذب على النبي أعظم أنواع الكذب سوى الكذب على الله لأن الكذب على النبي يؤدي إلى هدم قواعد الإسلام وإفساد الشريعة والأحكام "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" فعلى المؤمن أن يجتنب عن الزيغ والضلال وأشنع الفعال وأسوأ المقال وأن يداوم على التوحيد في الأسحار والآصال إلى أن لا يبقى للشرك الخفي أيضاً مجال وفي الحديث "لو يعلم الأمير ماله في ذكر الله لترك إمارته ولو يعلم التاجر ما له في ذكر الله لترك تجارته ولو أن ثواب تسبيحة قسم على أهل الأرض لأصاب كل واحد منهم عشرة أضعاف الدنيا" وفي الحديث "للمؤمن حصون ثلاثة : ذكر الله وقراءة القرآن والمسجد" والمراد بالمسجد مصلاه سواء كان في بيته أو في الخارج ولا بد من الصدق والإخلاص حتى يظهر أثر التوحيد في الملك والملكوت.
قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 213
هست تسبيحت بخار آب وكل
مرغ جنت شد زنفخ صدق دل
اللهم أوصلنا إلى اليقين وهيىء لنا مقاماً من مقامات التمكين آمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 213(1/171)
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي مشركو العرب الجاهلون حقيقة أو أهل الكتاب المتجاهلون ونفى عنهم العلم لعدم انتفاعهم بعلمهم لأن المقصود هو العمل.
{لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} لولا هنا للتحضيض وحروف التحضيض إذا دخلت على المضي كان معناها التوبيخ واللوم على ترك الفعل بمعنى لم لم يفعله ومعناها في المضارع تحضيض الفاعل على الفعل والطلب له في المضارع بمعنى الأمر والمعنى هلا يكلمنا الله عياناً بأنك رسوله كما يكلم الملائكة بلا واسطة أو يرسل إلينا ملكاً ويكلمنا بواسطة ذلك الملك أنك رسوله كما كلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على هذا الوجه وهذا القول من الجهلة استكبار يعنون به نحن عظماء كالملائكة والنبيين فلم اختصوا به دوننا.
{أَوْ} للتخيير {تَأْتِينَآ ءَايَةٌ} حجة تدل على صدقك وهذا جحود منهم لأن يكون ما أتاهم من القرآن وسائر المعجزات آيات والجحود هو الإنكار مع العلم والعجب أنهم عظموا أنفسهم وهي أحقر الأشياء واستهانوا بآيات الله وهي أعظمها.
{كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} من الأمم الماضية {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} فقال اليهود لموسى عليه السلام : أرِنا الله جهرة ولن نصبر على طعام واحد ونحوه وقال النصارى لعيسى عليه السلام : هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ ونحوه وقوله كذلك قال مع قوله مثل قولهم على تشبيهين تشبيه المقول بالمقول في المؤدى والمحصول وتشبيه القول بالقول في الصدور بلا رؤية بل بمجرد التشهي واتباع الهوى
215
والاقتراح على سبيل التعنت والعناد لا على سبيل الإرشاد وقصد الجدوى وكاف في كذلك منصوب المحل على أنه مفعول قال وقوله مثل قولهم مفعول مطلق أي : قال كفار الأمم الماضية مثل ذلك القول الذي قالوه قولاً مثل قولهم فيما ذكر فظهر أن أحد التشبيهين لا يغني عن الآخر.
{تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي : تماثلت قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والقسوة والعناد وهو استئناف على وجه تعليل تشابه مقالتهم بمقالة من قبلهم فإن الألسنة ترجمان القلوب والقلب إن استحكم فيه الكفر والقسوة والعمى والسفه والعناد لا يجري على اللسان إلا ما ينبىء عن التعلل والتباعد عن الإيمان كما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
مرد نهان بود بزير زبان
ون بكويد سخن بدانندش
خوب كويد لبيب كويندش
زشت كويد سيفه خوانندش
{قَدْ بَيَّنَّا الايَـاتِ} أي : أنزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي : يطلبون اليقين واليقين أبلغ العلم وأوكده بأن يكون جازماً أي : غير محتمل للنقيض وثابتاً أي : غير زائل بالتشكيك وإرادة السبب ولا بعد في نصب الدلائل لطلاب اليقين ليحصلوه بها وإنما حمل على المجاز لأن الموقن بالمعنى المذكور لا يحتاج إلى نصب الدلائل وبيان الآيات فبيان الآيات له طلب لتحصيل الحاصل.
{إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ} حال كونك ملتبساً {بِالْحَقِّ} مؤيداً به والمراد الحجج والآيات وسميت به لتأديتها إلى الحق {بَشِيرًا} حال كونك مبشراً لمن اتبعك بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد {وَنَذِيرًا} أي : منذراً ومخوفاً لمن كفر بك وعصاك والمعنى أن شأنك بعد إظهار صدقك في دعوى الرسالة بالدلائل والمعجزات ليس إلا الدعوة والإبلاغ بالتبشير والإنذار لا أن تجبرهم على القبول والإيمان فلا عليك إن أصروا على الكفر والعناد فإن الأحوال أوصاف لذي الحال والأوصاف مقيدة للموصوف {وَلا تُسْـاَلُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ} ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت والجحيم المكان الشديد الحر وقرىء ولا تسأل بفتح التاء وجزم اللام على أنه نهي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه على ما روي أنه عليه السلام قال : "ليت شعري ما فعل أبواي" أي : ما فعل بهما وإلى أي : حال انتهى أمرهما فنزلت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
واعلم أن السلف اختلفوا في أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلّم هل ماتا على الكفر أو لا؟ ذهب إلى الثاني جماعة متمسكين بالأدلة على طهارة نسبه عليه الصلاة والسلام من دنس الشرك وشين الكفر وعبادة قريش صنماً وإن كانت مشهورة بين الناس لكن الصواب خلافه لقول إبراهيم عليه السلام {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) وقوله تعالى في حق إبراهيم {وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} وذهب إلى الأول جمع منهم صاحب "التيسير" حيث قال ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كان يذكر عقوبات الكفار فقام رجل فقال : يا رسول الله أين والدي فقال في النار فحزن الرجل فقال عليه السلام : "إن والديك ووالدي ووالدي إبراهيم في النار" فنزل قوله تعالى : {وَلا تُسْـاَلُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ}
216
(1/172)
فلم يسألوه شيئاً بعد ذلك وهو كقوله {لا تَسْـاـاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة : 101) وذهب نفر من هذا الجمع بنجاتهما من النار منهم الإمام القرطبي حيث قال في "التذكرة" إن عائشة رضي الله عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون وهو باككٍ حزين مغتم فبكيت لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم إنه ظفر فنزل فقال : "يا حميراء استمسكي" أي زمام الناقة فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلاً ثم إنه عاد إلي وهو فرح متبسم فقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باككٍ حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله؟ ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم فعما ذا يا رسول الله فقال : "ذهبت لقبر آمنة أمي فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت" وروى أن الله أحيا له أباه وأمه وعمه أبا طالب وجده عبد المطلب قال الحافظ شمس الدين الدمشقي :
حبا الله النبي مزيد فضل
على فضل وكان به رؤوفاً
فأحيا أمه وكذا أباه
لإيمان به فضلاً لطيفاً
فسلم فالقديم به قدير
وإن كان الحديث به ضعيفاً
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
وفي "الأشباه والنظائر" : من مات على الكفر أبيح لعنه إلا والدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم لثبوت أن الله تعالى أحياهما له حتى آمنا كذا في "مناقب الكردي".
وذكر أن النبي عليه السلام بكى يوماً بكاء شديداً عند قبر أبويه وغرس شجرة يابسة وقال : "إن اخضرت فهو علامة إمكان إيمانهما" فاخضرت ثم خرجا من قبرهما ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم وأسلما ثم ارتحلا.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره ومما يدل على ذلك أن اسم أبيه كان عبد الله والله من الأعلام المختصة بذاته تعالى لم يسم به صنم في الجاهلية فإن اسم بعض أصنامهم اللات وبعضها العزى انتهى كلامه وليس إحياهما وإيمانهما به ممتنعاً عقلاً ولا شرعاً وقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى وكذلك نبينا عليه السلام أحيا الله على يديه جماعة من الموتى وإذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته وما روى من أنه عليه السلام زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : "استأذنت في أن استغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت" فهو متقدم على إحيائهما لأنه كان في حجة الوداع ولم يزل عليه السلام راقباً في المقامات السنية صاعداً في الدركات العلية صاعداً في الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له عليه السلام بعد أن لم تكن.
فإن قلت الإيمان لا يقبل عند المعاينة فكيف بعد الإعادة.
قلت : الإيمان عند المعاينة إيمان يأس فلا يقبل بخلاف الإيمان بعد الإعادة وقد دل على هذا {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) وورد أن أصحاب الكهف يبعثون في آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفاً لهم بذلك وورد مرفوعاً "أصحاب الكهف أعوان المهدي فقد اعتد بما يفعله أصحاب الكهف بعد إحيائهم من الموت" ولا بدع أن يكون الله تعالى كتب لأبوي النبي عمراً ثم قبضهما قبل استيفائه ثم أعادهما لاستيفائه تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به وتكون تلك البقية بالمدة الفاصلة بينهما لاستدراك الإيمان من جملة ما أكرم الله تعالى به نبيه صلى الله
217
عليه وسلّم كما أن تأخير أصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما أكرموا به ليجوزوا شرف الدخول في هذه الأمة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
وذهب خاتمة الحفاظ والمحدثين الإمام السخاوي في هذه المسألة إلى التوقف حيث قال في "المقاصد الحسنة" بعدما أورد الشعر المذكور للحافظ الدمشقي وقد كتبت فيه جزءاً والذي أراه الكف عن التعرض لهذا إثباتاً ونفياً انتهى.
(1/173)
وسئل القاضي أبو بكر ابن العربي أحد الأئمة المالكية عن رجل قال إن آباء النبي عليه السلام في النار فأجاب بأنه ملعون لأن الله تعالى يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} (الأحزاب : 57) وفي الحديث "لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات" وسئل الإمام الرستغفي عن قول بعض الناس عن آدم عليه السلام لما بدت منه تلك الزلة أسود منه جميع جسده فلما أهبط إلى الأرض أمر بالصيام والصلاة فصام وصلى فابيض جسده أيصح هذا القول قال لا يجوز في الجملة القول في الأنبياء عليهم السلام بشيء يؤدي إلى العيب والنقصان فيهم وقد أمرنا بحفظ اللسان عنهم لأن مرتبتهم أرفع وهم على الله أكرم وقد قال عليه السلام : "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا" فلما أمرنا أن لا نذكر الصحابة رضي الله عنهم بشيء يرجع إلى العيب والنقص فلأن نمسك ونكف عن الأنبياء أولى وأحق فحق المسلم أن يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا عليه السلام ليست من الاعتقاديات فلاحظ للقلب منها وأما اللسان فحقه أن يصان عما يتبادر منه النقصان خصوصاً إلى وهم العامة لأنهم لا يقدرون على دفعه وتداركه فهذا هو البيان الشافي في هذا الباب بطرقه المختلفة التقطته من الكتب النفيسة وقرنت كل نظير إلى مثله والحمدتعالى وحده.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} اقناط له عليه السلام من طمعه في إسلامهم حيث علق رضاهم عنه بما لا سبيل إليه ولا يستحيل وجوده وإذا لم يرضوا عنه فكيف يتبعون ملته أي : دينه أي : لن ترضى عنك اليهود إلا بالتهود إلى قبلتهم وهي المغرب ولا النصارى إلا بالتنصر والصلاة إلى قبلتهم وهي المشرق ووحد الملة لأن الكفر ملة واحدة وهذه حكاية لمقالتهم بأن قالوا لن نرضى عنك حتى تتبع ملتنا وادعوا بتلك المقالة أن ملتهم هي الهدى لا ما سواها فأمره الله تعالى بقوله : {قُلْ} أن يرد عليهم بطريق قصر القلب ويقول : {إِنَّ هُدَى اللَّهِ} الذي هو الإسلام {هُوَ الْهُدَى} إلى الحق لا ما تدعون إليه من الملة الزائغة فإنها هوى كما يعرب عنه قوله تعالى : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} أي : آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل بملتهم إذ هي التي ينتمون إليها.
وأما ما شرعه الله من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم السلام وهو المعنى الحقيقي للملة فقد غيروها تغييراً.
والأهواء جمع هوى وهو رأي عن شهوة داع إلى الضلال وسمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية وإنما قال أهواءهم بلفظ الجمع ولم يقل أهواءهم تنبيهاً على أن لكل واحد هوى غير هوى الآخر ثم هوى كل واحد منهم لا يتناهى فلذلك أخبر أنه لا يرضى الكل إلا باتباع أهواء الكل.
واعلم أن الطريقة المشروعة تسمى ملة باعتبار أن الأنبياء الذين أظهروها قد أملوها وكتبوها لأمتهم كما أنها تسمى ديناً باعتبار طاعة العباد لمن سنها وانقيادهم لحكمه وتسمى أيضاً شريعة باعتبار كونها مورداً للمتعطشين إلى زلال ثوابه ورحمته والخطاب في قوله ولئن اتبعت متوجه إلى النبي
218
عليه السلام في الحقيقة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 218
وما قيل من أنه تعالى حكم بعصمة الأنبياء وعلم منهم أنهم لا يعصون له ولا يخالفون أمره ولا يرتكبون ما نهى عنه فكانت عصمتهم واجبة فلا وجه لتحذيرهم عن اتباع هوى الكفرة فوجب أن يكون التحذير متوجهاً إلى الأمة لا إلى أنفسهم.
فالجواب عنه أن التكليف والتحذير إنما يعتمد على كون المكلف به محتملاً ومتصوراً في ذاته من حيث تحقق ما يتوقف عليه وجوده من الآلات والقوى والامتناع الحاصل من حكمه تعالى بعصمتهم وعلمه بها امتناع بالغير وهو لا ينافي الإمكان الذاتي هو شرط التكليف والتحذير {بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي : القرآن الموحى إليك وهو حال من ضمير جاءك {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ} أي : من جهته العزيزة وهو جواب لئن {مِن وَلِيٍّ} أي : قريب ينفعك من الولي وهو القرب {وَلا نَصِيرٍ} يدفع عنك عقابه والفرق بين الولي والنصير العموم والخصوص من وجه لأن الولي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور كما يكون من أقرباء المنصور وهو مادة اجتماعهما وقوله من ولي مرفوع على الابتداء ولك خبره ومن صلة وقوله من الله منصوب المحل على أنه حال لأنه لما كان متقدماً على قوله من ولي امتنع أن يكون صفة له ونظيره قوله :
لعزة موحشاً طلل قديم†
ولما ذكر قبائح المتعنتين الطالبين للرياسة من اليهود والنصارى اتبع ذلك بمدح من ترك طريق التعنت وخب الرياسة منهم وطلب مرضاة الله وحسن ثواب الآخرة وآثره على الحظوظ العاجلة الفانية فقال تعالى :
(1/174)
{الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} يريد مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه من الذين أسلموا من اليهود وإنما خصهم بذكر الإيتاء لأنهم هم الذين عملوا به فخصوا به والكتاب التوراة {يَتْلُونَه حَقَّ تِلاوَتِهِ} بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر في معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في آتيناهم أو من الكتاب لأنهم لم يكونوا تالين له وقت الإتيان.
وقوله حق تلاوته نعت لمصدر محذوف دل عليه الفعل المذكور أي : يتلونه تلاوة حق تلاوته واختار الكواشي كونه منصوباً على المصدرية على تقدير تلاوة حقاً فإن نعت المصدر إذا قدم عليه وأضيف إليه نصب المصادر نحو ضربت أشد الضرب بنصب أشد على المصدرية {أُوالَـائِكَ} الموصوفون بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه وهو مبتدأ ثان خبره قوله تعالى : {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي : بكتابه دون المحرفين فإن بناء الفعل على المبتدأ وإن كان اسماً ظاهراً يفيد الحصر مثل الله يستهزىء بهم {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي : بالكتاب سواء كان كفره بنفس التحريف أو بغيره كالكفر بالكتاب الذي يصدقه {فأولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي : الهالكون المغبونون حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 218
يا بَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ومن جملتها التوراة وذكر النعمة إنما يكون بشكرها وشكرها الإيمان بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن ضرورة الإيمان بها الإيمان به صلى الله عليه وسلّم اذكروا {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} أي : عالمي زمانكم.
{وَاتَّقُوا} إن لم تؤمنوا ث{يَوْمًا} أي : عذاب يوم وهو يوم القيامة {لا تَجْزِى} تقول جزى عني هذا الأمر يجزي كما تقول قضى عني يقضي وزناً ومعنى أي : لا تقضي في ذلك اليوم {نَفْسٌ} من
219
النفوس {عَن نَّفْسٍ} أخرى {شَيْئًا} من الحقوق التي لزمتها أي : لا تقضي نفس ليس عليها شيء من الحقوق التي وجبت على نفس أخرى أي : لا تؤخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئاً وأما إذا كان عليها شيء فإنها تجزي وتقضي بغير اختيارها بما لها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "من كانت له مظلمة لأخيه من عرض أو غيره فليستحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا} أي : من النفس الأولى {عَدْلٌ} أي : فداء وهو بفتح العين الفدية وهي ما يماثل الشيء قيمة وإن لم يكن من جنسه والعدل بالكسر ما يساوي الشيء في الوزن والجرم من جنسه والمعنى لا يؤخذ منها فدية تنجو بها من النار ولا تجد ذلك لتفتدى به وسميت الفدية عدلاً لأنها تعادل ما يقصد إنقاذه وتخليصه يقال فداه إذا أعطى فداءه فأنقذ {وَلا تَنفَعُهَا شَفَـاعَةٌ} إن شفعت للنفس الثانية {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي : يمنعون من عذاب الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 219
واعلم أن المستوجب للعذاب يخلص منه في الدنيا بأحد أربعة أمور : إما بأن ينصره ناصر قوي فيخلصه ويدفع العذاب عنه قهراً أو بأن يفديه أي : بأن يعطي أحد أشياء غير ما عليه من الحق وذلك الشيء هو الفدية وهو الفداء فأنقذه به فالله تعالى بين هول يوم القيامة بأن نفى أن يدفع العذاب أحد عن أحد بشيء من هذه الوجوه المحتملة في الدنيا.
قال السعدي قدس سره :
قيامت كه نيكان بأعلى رسند
ز قعر ثرى بر ثريا رسند
ترا خود بماند سر ازننك يش
كه كردت بر آيد عملهاي خويش
برادر ز كار بدان شرم دار
كه در روى نيكان شوى شرمسار
دران روز كزفعل رسند وقول
اولوا العزم راتن بارزد زهولبجايي كه دهشت
بجايى كه دهشت خورد أنبيا
تو عذر كنه را ه داري بيا
(1/175)
ثم اعلم أن الله تعالى بدأ قصة بني إسرائيل بهاتين الآيتين ففي الآية الأولى تذكير النعمة وفي الأخرى تخويف العقوبة وبهما ختم القصة مبالغة في النصح وإيذاناً بأن المقصود من القصة ذلك ودل قوله تعالى : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} على قبح الصحبة بأهل الهوى والبدع والاتباع لهم في أقوالهم وأفعالهم وفي الحديث "من اتبع قوماً على أعمالهم حشر في زمرتهم" أي : في جماعتهم "وحوسب يوم القيامة بحسابهم وإن لم يعمل بأعمالهم" وربما يكون للإنسان شركة أي : في إثم القتل والزنى وغيرهما إذا رضي به من عامل واشتد حرصه على فعله وفي الحديث "من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها" وحضور مجلس المعصية إذا كان لحاجة أو لاتفاق جريانها بين يديه ولا يمكن دفعها فغير ممنوع وأما الحضور قصداً فممنوع.
ومن سنة السلف الصالحين الانقطاع عن مجالس أهل اللغو واللهو والمجانبة عن اتباع أهل الهوى والبدع.
وروي أن ابن المبارك رؤي في المنام فقيل له ما فعل ربك بك فقال : عاتبني وأوقفني ثلاثين سنة بسبب أني نظرت باللطف يوماً إلى مبتدع
220
فقال : إنك لم تعاد عدوى في الدين فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين والمتمسك بسنة سيد المرسلين عند فساد الخلق واختلاف المذاهب والملل كان له أجر مائة شهيد وفي الحديث "سيأتي على الناس زمان تخلق فيه سنتي وتتجدد فيه البدعة فمن اتبع سنتي يومئذٍ صار غريباً وبقي وحيداً ومن اتبع بدع الناس وجد خمسين صاحباً أو أكثر" وللصحبة تأثير عظيم كما قيل :
عدوى البليد إلى البليد سريعة
جزء : 1 رقم الصفحة : 219
والجمر يوضع في الرماد فيخمد
قال الحافظ :
نخست موعظة ير مجلس اين حرفست
كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد
جزء : 1 رقم الصفحة : 219
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِامَ} قال القرطبي في "تفسيره" : تفسيره بالسريانية فيما ذكره الماوردي وبالعربية فيما حكي ابن عطية أب رحيم.
قال السهيلي : وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو تقاربه في اللفظ ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم لمرحمته بالأطفال ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة.
وقال في "تذكرة الموتى" : كان اسمه أبرم فزيد في اسمه هاء والهاء في السريانية التفخيم والتعظيم {رَبُّهُ} الضمير لإبراهيم وقدم المفعول لفظاً وإن كان مؤخراً رتبة ووجه التقديم الاهتمام فإن الذهن يتشوق ويطلب معرفة المبتلى أي : واذكر وقت اختباري إبراهيم والمقصود من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث لأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عياناً.
والابتلاء في الأصل الاختبار أي : تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الأمور.
وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مجازاً عن تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه بما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك كما علم الكفر من إبليس ولم يلعنه بعلمه ما لم يختبره بما يستوجب اللعنة به {بِكَلِمَـاتٍ} جمع كلمه وهي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد فيكون الكلمات عبارة عن الألفاظ المنظومة لكنها قد تطلق على المعاني التي تحتها لما بين الدال والمدلول من التضايف والمتضايفان متكافئان في الوجود التعقلي كما في قوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} (الأنعام : 115) أي : قضية وحكمة وقوله : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى} (الكهف : 109) أي : للمعاني التي تبرز بالكلمات {فَأَتَمَّهُنَّ} أي : قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان ولذا قيل لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم فكتب الله له البراءة فقال : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى} (النجم : 37).
وفسرت الكلمات بوجوه ذكرت في التفاسير.
ومنها العشر التي هي من السنة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هي عشر خصال كانت فرضاً في شرعه وهي سنة في شرعنا : خمس منها في الرأس وهي المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك.
وخمس في البدن وهي الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء أي : غسل مكان الغائط والبول بالماء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 221
ولنذكر منها بعض ما يحتاج إلى البيان فنقول فرق شعر الرأس تفريقه وتقسيمه
221
إلى نصفين وكان المشركون يفرقون أشعار رؤوسهم وأهل الكتاب يسدلون أي : يرسلون شعورهم على الجبين ويتخذونها كالقصة وهي شعر الناصية وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل فيه حكم لاحتمال أن يعملوا بما ذكر في كتابهم ثم نزل جبريل فأمره بالفرق.
(1/176)
واعلم أن أكثر حال النبي عليه الصلاة والسلام كان الإرسال وحلق الرأس منه معدود ولكن الإمام الغزالي كره الإرسال في زماننا لأنه صار شعار العلوية فإذا لم يكن علوياً كان تلبيساً.
وذكر في جنايات "الذخيرة" إمساك الجعد في الغلام حرام لأنهم إنما يمسكون الجعد في الغلام للأطماع الفاسدة.
وذكر أن شخصاً أحضر ولده بمجلس أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقد حلق بعض الشعر من رأسه وأبقى البعض فأمر أبو بكر رضي الله تعالى عنه بقتله فتاب واستغفر فعفا عنه.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره ليس هذا أمراً بقتله في الحقيقة بل بيان أن من فعله يستحق القتل ومثله أنه ذكر في مجلس أبي يوسف أن النبي عليه السلام كان يحب القرع فقال رجل : أنا لا أحبه فأفتى أبو يوسف بقتله فتاب ورجع فعفا عنه.
وأما قص الشارب فهو قطعه بالمقص أي : بالمقراض وكان عليه السلام يقص شاربه كل جمعة قبل أن يخرج إلى صلاة الجمعة.
قال النووي المختار فيه أن يقص حتى يبدو طرف الشفة ويكون مثل الحاجب.
وفي "الإحياء" : ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه وغيره لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام.
وتوفير الشارب كتوفير الأظافير مندوب للمجاهد في دار الحرب وإن كان قطعهما من الفطرة وذلك ليكون أهيب في عين العدو والسنة تقصير الشارب فحلقه بدعة كحلق اللحية.
وفي الحديث "جزوا الشوارب واعفوا اللحى" الجز القص والإعفاء التوفير والترك على حالها وحلق اللحية قبيح بل مثلة وحرام وكما أن حلق شعر الرأس في حق المرأة مثلة منهي عنها وتشبه بالرجال وتفويت للزينة كذلك حلق اللحية مثلة في حق الرجال وتشبه بالنساء منهي عنه وتفويت للزينة.
قال الفقهاء اللحية في وقتها جمال وفي حلقها تفويته على الكمال ومن تسبيح الملائكة سبحان من زين الرجال باللحى وزين النساء بالذوائب.
وفي "الكشاف" : في مقام مدح الرجال عند قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} (النساء : 34) وهم أصحاب اللحى والعمائم.
قال في نصاب "الاحتساب" : ومن الأكساب التي يحتسب على أربابها حلق لحى الرجال ورأس النساء تشبهاً بالرجال ولا بأس بأخذ الزائد على القبضة من اللحية لأنه عليه السلام كان يأخذ من لحيته طولاً وعرضاً إذا زاد على قدر القبضة فإن الطول المفرط يشوه الحلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنسبة إليه فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية ويكره نتف الشيب كما يفعله البعض في زماننا كرهاً للشيب وإراءة للشباب ، قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 221
سواد نامة موي سياه ون طي شد
بياض كم نشود كر صد انتخاب رود
يسود أعلاها وبيض أصلها
ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وأما الختان فهو قطع الجلدة الزائدة من الذكر وجمهور العلماء على أن ذلك من
222
مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال إلا أن يولد الصبي مختوناً وقد ولد الأنبياء كلهم مختونين مسرورين أي : مقطوعي السرة كرامة لهم إلا إبراهيم خليل الله فإنه ختن نفسه ببلدة قدوم بالتخفيف والتشديد وهو ابن مائة وعشرين أو ثمانين ليستن بسنته بعده واختلفوا في الختان قيل لا يختن حتى يبلغ لأنه للطهارة ولا طهارة عليه حتى يبلغ وقيل إذا بلغ عشراً وقيل تسعاً وقيل فيما بين سبع سنين إلى عشر.
قال الحدادي المستحب في وقت الختان من اليوم السابع من ولادته إلى عشر سنين ويكره الترك إلى وقت البلوغ وتوقف أبو حنيفة في وقته.
واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختتن وإن بلغ ثمانين.
وعن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم أن لا يختتن ولا يرى به بأساً ولا يرد شهادته وذيجته وحجه وصلاته.
قال ابن عبد البر وعامة أهل العلم على هذا.
وأما تقليم الأظفار فهو قصها والقلامة بالضم ما يزال منها وندب قص الأظفار لأنه ربما يجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ ولا يزال جنباً ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله وفي الحديث "من قلم أظفاره يوم الجمعة أعاذه الله تعالى من البلايا إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام" وفي الحديث الآخر "من أراد أن يأمن من الفقر وشكاية العين فليقلم أظفاره يوم الخميس بعد العصر" قال في "المقاصد الحسنة" قص الأظفار لم يثبت في كيفيته ولا في تعيين يوم له عن النبي عليه السلام شيء وما يعزى من النظم في ذلك لعلي رضي الله تعالى عنه وهو :
تقليمك الأظفار فيه سنة وأدب
يمينها خوابس يسارها أو خسب
جزء : 1 رقم الصفحة : 221
(1/177)
فباطل عنه وقال في محل آخر حديث "من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً" هو في كلام غير واحد من الأئمة ولم أجده لكن كان الحافظ الشريف الدمياطي يأثر ذلك عن بعض مشايخه ونص الإمام أحمد على استحبابه انتهى كلامه.
وذكر الإمام النووي أن المستحب منه أن يبدأ باليدين قبل الرجلين فيبتدىء بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها إلى آخرها ثم يعود إلى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر الرجل اليسرى وهكذا قرره الإمام في "الاحياء" وفي الحديث "نقوا براجمكم" وهي مفاصل الأصابع والعقد التي على ظهرها يجتمع فيها الوسخ واحدها برجمة بضم الباء والجيم وسكون الراء بينهما وهو ظهر عقدة كل مفصل فظهر العقدة يسمى برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة وجمعها رواجب وذلك مما يلي طهرها وهو قصبة الأصابع فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن له برجمة وراجبتين فأمر بالتنقية لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة كذا في "تفسير القرطبي".
وعن مجاهد قال : أبطأ جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له النبي عليه السلام : "ما حبسك يا جبريل" قال : وكيف آتيكم وأنتم لا تقصرون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (مريم : 64) قال كأنه قيل فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات فقيل {قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ} أي : لأجل الناس {إِمَامًا} يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدى بك الصالحون فهو نبي في عصره ومقتدى لكافة الناس إلى قيام الساعة وقد
223
أنجز الله وعده فقال لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (البقرة : 129) ونحو ذلك فلذلك اجتمعت أهل الأديان كلهم على تعظيمه وجميع أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون في آخر صلاتهم : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد قيل في سببه إنا لما قلنا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد قيل لنا إن إبراهيم هو الذي طلب من الله تعالى أن يرسل إليكم مثل هذا الرسول الذي هو رحمة للعالمين حيث قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 221
(1/178)
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} فما هديتكم فحينئذٍ نقول كما صليت على إبراهيم إلخ ثم نلاحظ أن هذه الخيرات كلها من الله تعالى فنقول شكراً لإحسانه ربنا إنك حميد مجيد.
وفي الخبر أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام جنة عريضة مكتوب على أشجارها لا إله إلا الله محمد رسول الله فسأل جبريل عنها فأخبره بالقصة فقال : يا رب اجر على لسان أمة محمد ذكري فاستجاب الله دعاءه وضمه في الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلّم قال كأنه قيل فماذا قال إبراهيم عليه السلام عنده فقيل : {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى} عطف على الكاف في جاعلك ومن تبعيضية متعلقة بجاعل أي : وجاعل بعض ذريتي إماماً يقتدى به أي : اجعل لكنه راعى الأدب بالاحتراز عن صورة الأمر وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل وإن كانوا على الحق والذرية نسل الرجل وقد تطلق على الآباء والأبناء من الذكور والإناث والصغار والكبار ومنه قوله تعالى : {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} (يس : 41) أراد آباءهم الذين حملوا في السفينة وتقع الذرية على الواحد كما في قوله تعالى : {رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ((آل عمران : 38)) يعني : ولداً صالحاً {قَالَ} الله استئناف أيضاً {لا يَنَالُ} لا يصيب {عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} يعني أن أولادك منهم مسلمون وكافرون فلا تصل الإمامة والاستخلاف بالنبوة الذي عهدت إليك من كان ظالماً من أولادك وغيرهم وإنما ينال عهدي من كان بريئاً من الظلم لأن الإمام إنما هو لمنع الظلم فكيف يجوز أن يكون ظالماً وإن جاز فقد جاء المثل السائر "من استرعى الذئب الغنم ظلم".
قال المعتزلة وفيه دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ولا يقدم للصلاة قلنا الظالم أريد به الكافر والصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وإطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض.
وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الكبائر قبل البعثة وبعدها.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" فيه بحث لأن مدلول الآية أن الظالم ما دام ظالماً لا تناله الإمامة لا أن من كان ظالماً في وقت ما من الأوقات ثم تاب منه لا ينال الإمامة والفرق بينهما أن الظلم الحالي يخل بالمقصود من نصب الإمام وهو إخلاء وجه الأرض من الظلم والفساد وحماية أموال الناس وأعراضهم من تعرض الظلمة المفسدين بخلاف الظلم القديم الذي تاب عنه الظالم فإنه ليس بمخل للمقصود فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
قال حضر الشيخ أفتادة أفندي قدس سره لا تعطى الولاية لولد الزنى قال : واشكر الله تعالى على أن جعلني أول ولد ولدته أمي فإنه أبعد من أن يصدر ألفاظ الكفر من أحد أبوي.
قال المولى الهدائي قدس سره : قلت والفقير أيضاً كذلك.
وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" : حديث "لا يدخل الجنة ولد زنية" إن صح فمعناه إذا حمل بمثل عمل أبويه واتفقوا على أنه لا يحمل
224
على ظاهره وقيل في تأويله أيضاً أن المراد به من يواظب الزنى كما يقال للشهود بنوا الصحف وللشجعان بنوا الحرب ولأولاد المسلمين بنوا الإسلام انتهى كلامه.
ثم في الآية إشارة إلى أن من أراد أن يبلغ درجة الأخيار ليقتدى به فليلازم التعب وجهد النفس في طاعة الله تعالى.
قال السعدي :
و يوسف كسى در صلاح وتميز
بسى ساله بايد كه كردد عزيز
جزء : 1 رقم الصفحة : 221
(1/179)
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} أي : واذكر يا محمد وقت تصييرنا الكعبة المعظمة {مَثَابَةً} كائنة {لِلنَّاسِ} أي : مباءة ومرجعاً للحجاج والمعتمرين يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أي : يرجع إليه أعيان الذين يزورونه بأن يحجوه مرة بعد أخرى أو يرجع أمثالهم وأشباههم في كونهم وفد الله وزوار بيته فإنهم لما كانوا أشباهاً للزائرين أولاً كان ما وقع منهم من الزيادة ابتداء بمنزلة عود الأولين فتعريف الناس للعهد الذهني {وَأَمْنًا} موضع أمن فإن المشركين كانوا لا يتعرضون لسكان الحرم ويقولون البيت بيت الله وسكانه أهل الله بمعنى أهل بيته وكان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له ويتعرضون لمن حوله وهذا شيء توارثوه من دين إسماعيل عليه السلام فبقوا عليه إلى أيام النبي عليه السلام أو يأمن حاجة من عذاب الآخرة من حيث أن الحج يجبّ ما قبله أي : يقطع ويمحو ما وجب قبله من حقوق الله تعالى الغير المالية مثل كفارة اليمين وأما حقوق العباد فلا يجبّها الحج كذا في "حواشي ابن الشيخ" ولكن روي أن الله تعالى استجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة المزدلفة في الدماء والمظالم كذا في "الكافي" و"تفسير الفاتحة للفناري" وغيرهما {وَاتَّخِذُوا} أي : وقلنا اتخذوا على إرادة القول لئلا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار {مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِامَ مُصَلًّى} أي : موضع الصلاة ومن للتبعيض ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أو الموضع الذي كان فيه حيث قام عليه ودعا الناس إلى الحج أو حين رفع بناء البيت والذي يسمى اليوم مقام إبراهيم هو موضع ذلك الحجر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 225
ـ روي ـ أنه لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة وأتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر استأذن إبراهيم سارة في أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته : أين صاحبك؟ قالت : ذهب يتصيد وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها إبراهيم : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليست عندي وسألها عن عيشهم فقالت : نحن في ضيق وشدة فشكت إليه فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه والمراد ليطلقك فإنك لا تصلحين له امرأة وذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه وقال : فما قال لك؟ قالت : قال أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه قال : ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة في أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت : ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله فانزل رحمك الله قال : هل عندك
225
ضيافة؟ قالت : نعم فجاءت باللبن واللحم وسألها عن عيشهم قالت : نحن في خير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذٍ بخبز برّ أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برّاً أو شعيراً أو تمراً وقالت له : انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه وهو راكب فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه وقال لها إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟ قالت : نعم جاء شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً فقال لي كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال : ذاك إبراهيم وأنت عتبة بابي أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دوحة قريبة من زمزم فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر أتعينني عليه؟ قال : أعينك عليه قال : أمرني أن أبني ههنا بيتاً فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجر وهما يقولان :
جزء : 1 رقم الصفحة : 225
(1/180)
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة : 127) ثم لما فرغ من بناء الكعبة قيل له : أذن في الناس بالحج فقال : كيف أنادي وأنا بين الجبال ولم يحضرني أحد؟ فقال الله : عليك النداء وعليّ البلاغ فصعد أبا قبيس وصعد هذا الحجر وكان قد خبىء في أبي قبيس أيام الطوفان فارتفع هذا الحجر حتى علا كل حجر في الدنيا وجمع الله له الأرض كالسفرة فنادى يا معشر المسلمين إن ربكم بنى لكم بيتاً وأمركم أن تحجوه فأجابه الناس من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات فمن أجابه مرة حج مرة ومن أجابه عشراً حج عشراً وفي الحديث "إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا مماسة أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب" والمراد منهما الحجر الأسود والحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت {وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِامَ وَإِسْمَـاعِيلَ} أي : أمرناهما أمراً مؤكداً ووصينا إليهما فإن العهد قد يكون بمعنى الأمر والوصية يقال عهد إليه أي : أمره ووصاه ومنه قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} (يس : 60) وإنما سمى إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو إلى الله أن يرزقه ولداً ويقول : اسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه به {أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ} أي : بأن طهراه من الأوثان والأنجاس وما يليق به والمراد احفظاه من أن ينصب حوله شيء منها وأقراه على طهارته كما في قوله تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة : 25) فإنهن لم يطهرن من نجس بل خلقهن طاهرات كقولك للخياط وسع كم القميص فإنك لا تريد أن تقول أزل ما فيه من الضيق بل المراد اصنعه ابتداء واسع الكم {لِلطَّآئِفِينَ} الزائرين حوله {وَالْعَـاكِفِينَ} المجارين الذين عكفوا عنده أي : أقاموا لا يرجعون وهذا في أهل الحرم والأول في الغرباء القادمين إلى مكة للزيارة والطواف وإن كان لا يختص بهم إلا أن له مزيد اختصاص بهم من حيث أن مجاوزة الميقات لا تصح لهم إلا بالإحرام {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي : المصلين جمع راكع وساجد لأن القيام والركوع والسجود من هيئات المصلي ولتقارب الركوع والسجود ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما والجلوس في المسجد الحرام ناظراً إلى الكعبة من جملة العبادات
226
الشريفة المرضية كما قال عليه السلام "إنتعالى في كل يوم عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت ستون للطائفين وأربعين للمصلين وعشرون لللناظرين".
جزء : 1 رقم الصفحة : 225
واعلم أنه تعالى لماقال : {أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ} دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال : ما هذا أما تدري أين أنت وفي الحديث "إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين انذر قومك أن لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيدي نقية وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائماً بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" انتهى.
ثم اعلم أن البيت الذي شرفه الله بإضافته إلى نفسه وهو بيت القلب في الحقيقة يأمر الله تعالى بتطهيره من دنس الالتفات إلى ما سواه فإنه منظركما قيل :
دل بدست آوركه حج اكبرست
از هزاران كعبه يك دل بهترست
كعبه بنياد خليل آزرست
دل نظر كاه جليل اكبرست
فلا بد من تصفيته حتى تعكف عنده الأنوار الإلهية والأسرار الرحمانية وتنزل السكينة والوقار فعند وصول العبد إلى هذه الرتبة فقد سجد لربه حقيقة وركع وناجى مع الله بسره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 225
(1/181)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِامُ} أي : واذكر يا محمد إذ دعا إبراهيم فقال : {رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا} المكان وهو الحرم {بَلَدًا ءَامِنًا} ذا أمن يأمن فيه أهله من القحط والجدب والخسف والمسخ والزلازل والجنون والجذام والبرص ونحو ذلك من المثلات التي تحل بالبلاد فهو من باب النسب أي : بلداً منسوباً إلى الأمن كلابن وتامر فإنهما لنسبة موصوفهما إلى مأخوذهما كأنه قيل لبنيّ وتمريّ فالإسناد حقيقي أو المعنى بلداً آمناً أهله فيكون من قبيل الإسناد المجازي لأن الأمن الذي هو صفة لأهل البلد حقيقة قد أسند إلى مكانهم للملابسة بينهما وكان هذا الدعاء في أول ما قدم إبراهيم عليه السلام مكة لأنه لما أسكن إسماعيل وهاجر هناك وعاد متوجهاً إلى الشام تبعته هاجر فجعلت تقول إلى من تكلنا في هذا البلقع أي : المكان الخالي من الماء والنبات وهو لا يرد عليها جواباً حتى قالت آ أمرك بهذا؟ فقال : نعم قالت : إذاً لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء أقبل على الوادي فقال : {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} (إبراهيم : 37) إلى آخر الآية {وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ} جمع ثمرة وهي المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر فهو سؤال الطعام والفواكه وقيل : هي الفواكه وإنما خص هذا بالسؤال لأن الطعام المعهود مما يكون في كل موضع وأما الفواكه فقد تندر فسأل لأهله الأمن والسعة مما يطيب العيش ويدوم فاستجاب له في ذلك لما روي أنه لما دعا هذا الدعاء أمر الله جبريل بنقل قرية من قرى فلسطين كثيرة الثمار إليها فأتى فقلعها وجاء بها وطاف بها حول البيت سبعاً ثم وضعها على ثلاث مراحل من مكة وهي الطائف ولذلك سميت به ومنها أكثر ممرات مكة ويجيء إليه
227
أيضاً من الأقطار الشاسعة حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد {مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ}
جزء : 1 رقم الصفحة : 227
بدل من أهله والمعنى وارزق المؤمنين خاصة {قَالَ} الله تعالى {وَمَن كَفَرَ} معطوف على محذوف أي : ارزق من آمن ومن كفر قاس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الإمامة حيث سأل الرزق لأجل المؤمنين خاصة كما خص الله تعالى الإمامة بهم في قوله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} فلما رد سؤاله الإمامة في حق ذريته على الإطلاق حسب أن يرد سؤاله الرزق في حق أهل مكة على الإطلاق فلذلك قيد بالإيمان تأدباً بالسؤال الأول فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم {فَأُمَتِّعُهُ} أي : أمد له ليتناول من الدنيا إثباتاً للحجة عليه {قَلِيلا} أي : تمتيعاً قليلاً فإن الدنيا بكليتها قليلة وما يتمتع الكافر به منها قليل من القليل فإن نعمته تعالى في الدنيا وإن كانت كثيرة بإضافة بعضها إلى بعض فإنها قليلة بإضافتها إلى نعمة الآخرة وكيف لا يقل ما يتناهى بالإضافة إلى ما لا يتناهى فقليلاً صفة مصدر محذوف ويجوز أن يكون صفة ظرف محذوف أي : أمتعه زماناً قليلاً وهو مدة حياته {ثُمَّ أَضْطَرُّه إِلَى عَذَابِ النَّارِ} الاضطرار في اللغة حمل الإنسان على ما يضره وهو في المتعارف حمل الإنسان بكفره على أن يفعل ما أكره عليه باختياره ترجيحاً لكونه أهون الضررين فلا شيء أشد من عذاب النار حتى يكره الكفار به ليختاروا عذاب النار لكونه أهون منه فلا يكون اضطرارهم إلى عذاب النار مستعملاً في معناه العرفي فهو مستعار للزهم وإلصاقهم به بحيث يتعذر عليهم التخلص منه كما قال تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} (القمر : 48) فإنه صريح في أن لا مدخل لهم في لحوق عذاب الآخرة بهم ولا اختيار إلا أنهم سموا مضطرين إليه مختارين إياه على كره تشبيهاً لهم بالمضطر الذي لا يملك الامتناع عما اضطر إليه فالمعنى ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعته به من النعم بحيث لا يمكنه الامتناع منه {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المخصوص بالذم محذوف أي : بئس المرجع الذي يرجع إليه للإقامة فيه النار أو عذابها فللعبد في هذه الدنيا الفانية الإمهال أياماً دون الإهمال إذ كل نفس تجزى بما كسبت ولا تغرنك الزخارف الدنيوية فإن للمطيع والعاصي نصيباً منها وليس ذلك من موجبات الرفعة في الآخرة.
قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 227
بمهلتي كه سهرت دهد زراه مرو
تراكه كفت كه آن زال ترك دستان كفت
(1/182)
قال تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف : 182) قال سهل في معنى هذه الآية نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخذوا.
وقال أبو العباس بن عطاء : يعني كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة فعلى العاقل أن لا يغتر بالزخارف الدنيوية بل لا يفرح بشيء سوى الله تعالى فإن ما خلا الله باطل وزائل والاغترار بالزائل الفاني من قضية كمال العقل والفهم والعرفان.
فإن قلت : ما الحكمة في إمهال الله العصاة في الدنيا؟ قيل : إن الله تعالى أمهل عباده ولم يأخذهم بغتة في الدنيا ليري العباد سبحانه وتعالى أن العفو والإحسان أحبّ إليه من الأخذ والانتقام وليعلموا شفقته وبرّه وكرمه ولهذا خلق النار كرجل يضيف الناس ويقول : من جاء إلى ضيافتي أكرمته
228
ومن لم يجىء فليس عليه شيء ويقول مضيف آخر من جاء إليّ أكرمته ومن لم يجىء ضربته وحبسته ليتبين غاية كرمه وهو أكمل وأتم من الكرم الأول والله تعالى دعا الخلق إلى دعوته بقوله : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ} (يونس : 25) ثم دفع السيف إلى رسوله فقال : من لم يجب ضيافتي فاقتله فعلى العاقل أنْ يجيب دعوة الله ويرجع إلى الله بحسن اختياره فإنه هو المقصود والكعبة الحقيقية وكل القوافل سائرة إليه.
واعلم أن البلد هو الصورة الجسمانية والكعبة القلب والطواف الحقيقي هو طواف القلب بحضرة الربوبية وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر وهو في عالم الملكوت كما أن الهيكل الإنساني مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر وهو في عالم الغيب والذي يقدر من العارفين على الطواف الحقيقي القلبي هو الذي يقال في حقه إن الكعبة تزوره.
وفي الخبر "إنعباداً تطوف بهم الكعبة" وفرق بين من يقصد صورة البيت وبين من يقصد رب البيت.
ـ وروي ـ أن عارفاً من أولياء الله تعالى قصد الحج وكان له ابن فقال ابنه : إلى أين تقصد؟ فقال : إلى بيت الله فظن الغلام أن من يرى البيت يرى رب البيت قال : يا أبي لِمَ لا تحملني معك؟ فقال : أنت لا تصلح لذلك فبكى الغلام فحمله معه فلما بلغا الميقات أحرما ولبيا ودخلا الحرم فلما شوهد البيت تحرم الغلام عند رؤيته فخر ميتاً فدهش والده وقال : أين ولدي وقطعة كبدي فنودي من زاوية البيت : أنت طلبت البيت فوجدته وهو طلب رب البيت فوجد رب البيت فرفع الغلام من بينهم فهتف هاتف أنه ليس في حيز ولا في الأرض ولا في الجنة بل هو في مقعد صدق عند مليك مقتدر فمن أعرض سره عن الجهة في توجهه إلى الله صار الحق قبلة له فيكون هو قبلة الجميع كآدم عليه السلام كان قبلة الملائكة لأنه وسيلة الحق بينه وبين ملائكته لما عليه من كسوة جماله وجلاله قال الشيخ العطار قدس سره في "منطق الطير" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 227
حق تعالى كفت آدم غير نيست
كور شمي وترا اين سير نيست
شد نفخت فيه من روح آشكار
سر جانان كشت بر خاك استوار
وقال في محل آخر :
از دم حق آمدي آدم تويى
أصل كرمنا بني آدم تويى
قبله كل آفر ينش آمدي
اي تاسر عين بينش آمدي
اللهم أوصلنا إلى العين وخلصنا من البين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 227
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِامُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} حكاية حال ماضية حيث عبر بلفظ المضارع عن الرفع الواقع في الزمان المتقدم على زمان نزول الوحي بأن يقدر ذلك الرفع السابق واقعاً في الحال كأنك تصوره للمخاطب وتريه على وجه المشاهدة والعيان.
والقواعد جمع قاعدة وهي في الأصل صفة بمعنى الثابتة ثم صارت بالغلبة من قبيل الأسماء بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر ولعل لفظ القعود حقيقة في الهيئة المقابلة للقيام ومستعار للثبات والاستقرار تشبيهاً له بها في أن كلاً منهما حالة مباينة للانتقال والنزول.
وقوله {مِنَ الْبَيْتِ} حال من القواعد وكلمة من ابتدائية لا بيانية لعدم صحة أن يقال التي هي البيت.
فإن قلت رفع الشيء أن يفصل عن الأرض ويجعل عالياً مرتفعاً والأساس أبداً ثابت على
229
الأرض فما معنى رفعه؟ قلت : المراد برفع الأساس البناء عليه وعبر عن البناء على الأساس برفعه لأن البناء ينقله من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع فيوجد الرفع حقيقة إلا أن أساس البيت واحد وعبر عنه بلفظ القواعد باعتبار أجزائه كأن كل جزء من الأساس أساس لما فوقه والمعنى واذكر يا محمد وقت رفع إبراهيم أساس البيت أي : الكعبة.
{وَإِسْمَـاعِيلَ} ولده وكان له أربعة بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين وهو عطف على إبراهيم وتأخيره عن المفعول مع أن حق ما عطف على الفاعل أن يقدم على المفعول للإيذان بأن الأصل في الرفع هو إبراهيم وإسماعيل تبع له قيل : إنه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها.
(1/183)
واعلم أن رفع الأساس الذي هو البناء عليه يدل على أن البيت كان مؤسساً قبل إبراهيم وأنه إنما بني على الأساس.
واختلف الناس فيمن بنى البيت أولاً وأسسه.
فقيل : هو الملائكة وذلك أن الله تعالى لما قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30) قالت الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة : 30) فغضب عليهم فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم حتى رضي عنهم وقال لهم : ابنوا لي بيتاً في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي فأرضى عنهم فبنوا هذا البيت.
وقيل : إن الله بنى في السماء بيتاً وهو البيت المعمور ويسمى ضراحاً وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله.
وقيل : أول من بنى الكعبة آدم واندرست زمن الطوفان ثم أظهرها الله لإبراهيم عليه السلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة إلى الأرض قال له : يا آدم اذهب فابن لي بيتاً وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض وقبضت له المفاوز فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عامراً حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام وإن جبرائيل ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن الأس الثابت على الأرض السابعة السفلى وقدمت إليه الملائكة بالصخر فما يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلاً وأنه بناه من خمسة أجبل : طور سيناء ، وطور زيتاء ، ولبنان وهو جبل بالشام ، والجودي وهو جبل بالجزيرة ، وحرام وهو جبل بمكة وكان ربضه من حراء أي : الأساس المستدير بالبيت من الصخر فهذا بناء آدم.
وروي أن الله خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتاً فطف به كما يطاف حول عرشي وصلِّ عنده كما يصلى عند عرشي وأنزل الحجر وكان أبيض فاسودّ من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله له ملكاً يدله على البيت.
قيل لمجاهد : لم لم يركب؟ قال : وأي شيء كان يحمله إن خطوته مسيرة ثلاثة أيام فأتى مكة وحج البيت وأقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة فقالوا : برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام ، قال : ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فبقي البيت يطوف به هو والمؤمنون من ولده إلى أيام الطوفان فرفعه الله في تلك الأيام إلى السماء الرابعة
230
يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه وبعث الله جبرائيل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق وكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه السلام ثم إن الله أمر إبراهيم ببناء بيت يذكر فيه فسأل الله تعالى أن يبين له موضعه فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح حجوج لها رأسان شبه الحية وأمر إبراهيم أن يبني حيث استقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت أي : تحوت وتجمعت واستدارت كتطوي الحجفة ودورانها فقالت لإبراهيم ابن على موضعي الأساس فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود فقال لابنه : يا بني ائتني بحجر أبيض حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة كما وجد في بعض الروايات أو أنزله الله تعالى حين أنزل البيت المعمور كما مر فأخذ إبراهيم ذلك الحجر فوضعه مكانه فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت أن ارفعا على تربيعي فهذا بناء إبراهيم عليه السلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
(1/184)
وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله تعالى الخيل جزاء معجلاً على رفع قواعد البيت وكانت الخيل وحشية كسائر الوحوش فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله : إني معطيكما كنزاً ادخرته لكما ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز فألهمه الله فدعا فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنه من ناصيتها وذللها له فاركبوها وأعلفوها فإنها ميامين وهي ميراث أبيكم إسماعيل وإنما سمي الفرس عربياً لأن إسماعيل هو الذي أمر بدعائه وهو أتى إليه والعربي نسبة إلى عربة بفتحتين وهي باحة العرب لأن أباهم إسماعيل نشأ بها قيل : كان إبراهيم يتكلم بالسريانية وإسماعيل بالعربية وكل واحد منهم يفهم ما يقوله صاحبه ولا يمكنه التفوه به.
وأما بنيان قريش إياه فمشهور وخبر الحية في ذلك مذكور وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش فعجوا إلى الله تعالى أي : رفعوا أصواتهم وقالوا : لم نراع وقد أردنا تشريف بيتك وتزيينه فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل فأسمعوا خواتاً في السماء والخوات دوي جناح الطير الضخم أي : صوته فإذا هم بطائر أعظم من النسر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين فغمز مخالبه في قفا الحية ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها إلى أجياد فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً.
وذكر عن الزهري أنهم بنوها حتى إذا بلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي : القبائل تلي رفعه حتى شجر بينهم فقالوا حتى نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فأطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو على البناء فرفعوا إليه الركن فأخذه من الثوب فوضعه في مكانه قيل : إن قريشاً وجدوا في الركن كتاباً بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فإذا فيه أنا الله ذو مكة
231
خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك احتفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها في الماء واللبن.
وعن أبي جعفر كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم بالأرض حتى بنته قريش.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو قال : "نعم" قلت : فلم لم يدخلوه؟ قال : "إن قومك قصرت بهم النفقة" قلت : فما شأن بابه مرتفعاً قال : "فعل ذلك قومك ولولا حدثانهم بالجاهلية لهدمت الكعبة فألزق بابها بالأرض وجعلت لها بابين : باباً شرقياً وباباً غربياً وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة فهذا بناء قريش" ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة فجعل لها بابين : باباً يدخلون منه وباباً يخرجون منه وزاد فيه مما يلي الحجر ست أذرع وكان طولها قبل ذلك ثماني عشرة ذراعاً ولما زاد في البناء مما يلي الحجر استقصر ما كان من طولها تسع أذرع فلما قتل ابن الزبير أمر الحجاج أن يقرر ما زاده ابن الزبير في طولها وأن ينقص ما زاده من الحجر ويردها إلى ما بناها قريش وأن يسد الباب الذي فتحه إلى جانب الغرب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
(1/185)
وروي أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يردها إلى بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي وامتثله ابن الزبير فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناءه فتذهب الهيبة من صدور الناس.
قالوا : بنيت الكعبة عشر مرات : بناء الملائكة وكان قبل خلق آدم عليه السلام ، وبناء آدم ، وبناء بني آدم ، وبناء الخليل ، وبناء العمالقة وبناء جرهم وبناء قصي بن كلاب ، وبناء قريش ، وبناء عبد الله بن الزبير ، وبناء الحجاج بن يوسف ، وما كان ذلك بناء لكلها بل لجدار من جدرانها.
وقال الحافظ السهيلي : إن بناءها لم يكن في الدهر إلا خمس مرات : الأولى حين بناها شيث عليه الصلاة والسلام وروي في الخبر النبوي هذا البيت خامس خمسة عشر سبعة منها في السماء إلى العرش وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى وأعلى الذي يلي العرش البيت المعمور لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت لو سقط منها بيت سقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السابعة ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت ذكره المحدث الكازروني في "مناسكه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما كان العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض بعث الله ريحاً فصفقت الماء فأبرزت خشبة في موضع البيت كأنها قبة على قدر البيت اليوم فدحا الله سبحانه من تحتها الأرض فمادت ثم مادت فأوتدها بالجبال فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس ولذلك سميت مكة بأم القرى.
قال كعب بنى سليمان عليه السلام بيت المقدس على أساس قديم كما بنى إبراهيم الكعبة على أساس قديم وهو أساس الملائكة في وجه الماء إلى أن علا {رَبَّنَآ} أي : يرفعانها قائلين ربنا {تَقَبَّلْ مِنَّآ} الدعاء وغيره من القرب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء وفرق بين القبول والتقبل بأن التقبل لكونه على بناء التكلف إنما يطلق حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل إلا على طريق التفضل والكرم ولفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى فاختيار لفظ التقبل اعتراف منهما بالعجز والإنكار والقصور في العمل {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ} لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤنا
232
وتضرعنا {الْعَلِيمُ} بكل المعلومات التي من زمرتها نياتنا في جميع أعمالنا ودل هذا القول على أنه لم يقع منهما تقصير بوجه ما في إتيان المأمور به بل بذلا في ذلك غاية ما في وسعهما فإن المقصر المتساهل كيف يتجاسر على أن يقول بأطلق لسان وأرق جنان إنك أنت السميع العليم.
ودلت الآية أيضاً على أن الواجب على كل مأمور بعبادة وقربة إذا فرغ منها وأداها كما أمر بها وبذل في ذلك ما في وسعه أن يتضرع إلى الله ويبتهل ليتقبل منه وأن لا يرد عليه فيضيع سعيه وأن لا يقطع القول بأن من أدى عبادة وطاعة تقبل منه لا محالة إذ لو كان هكذا لما كان لدعائهما بطريق التضرع ليقبل منهما معنى فالقبول والرد إليه تعالى ولا يجب عليه شيء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
(1/186)
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي : مخلصين لك فالمراد بالمسلم من يجعل نفسه وذاته خالصاً تعالى بأن يجعل التذلل والتعظيم الواتع منه للسان والأركان والجنان خالصاً له تعالى ولا يعظم معه تعالى غيره ويعتقد بأن ذاته وصفاته وأفعاله خالصة له تعالى خلقاً وملكاً لا مدخل في شيء منها لأحد سواه أو المعنى واجعلنا مستسلمين لك منقادين بالرضى بكل ما قدرت وبترك المنازعة في أحكامك فإن الإسلام إذا وصل باللام الجارة يكون بمعنى الاستسلام والانقياد والرضى بالقضاء.
فإن قلت : لا شك أنهما كانا مخلصين ومستسلمين في زمان صدور هذا الدعاء منهما.
قلت : المراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان أو الثبات عليه فهذا تعليم منهما الناس الدعاء للتثبيت على الإيمان فإنهما لما سألا ذلك مع أمنهما من زواله عنهما فكيف غيرهما مع خوفه وسألا أيضاً الثبات على الانقياد فأجيبا إلى ذلك حتى أسلم إبراهيم للإلقاء في النار وإسماعيل للأمر بالذبح.
{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أي : واجعل بعض ذريتنا جماعة مخلصة لك بالعبادة والطاعة.
وإنما خص الذرية بالدعاء مع أن الأنسب بحال أصحاب الهمم لا سيما الأنبياء أن لا يخصوا ذريتهم بالدعاء لكنهما خصاهم لوجهين الأول كونهما أحق بالشفقة كما في قوله تعالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) فدعوا لأولادهما ليكثر ثوابهما بهم وفي الحديث "ما من رجل من المسلمين يخلف من بعده ذرية يعبدون الله تعالى إلا جعل الله له مثل أجورهم ما عبد الله منهم عابد حتى تقوم الساعة" والثاني : أنه وإن كان تخصيصاً صورة إلا أنه تعميم معنى لأن صلاح أولاد الأنبياء سبب وطريق لصلاح العامة فكأنهما قالا وأصلح عامة عبادك بإصلاح بعض ذريتنا وخصا البعض من ذريتهما لما علما أن من ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين وطريق علمها بذلك أمر أن تنصيص الله تعالى بذلك بقوله : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 124) والاستدلال بأن حكمة الله تعالى تقتضي أن لا يخلو العالم عن أفاضل وأوساط وأرذال فالأفاضل هم أهل الله الذين هم أخلصوا أنفسهمبالإقبال الكلي عليه والأوساط هم أهل الآخرة الذين يجتنبون المنكرات ويواظبون على الطاعات رغبة في نيل المثوبات والأرذال هم أهل الدنيا الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون جلّ همتهم عمارة الدنيا وتهيئة أسبابها.
وقد قيل عمارة الدنيا بثلاثة أشياء : أحدها الزراعة والغرس ، والثاني : الحماية والحرب ، والثالث : جلب الأشياء من مصر إلى مصر ، ومن أكب على هذه الأشياء ونسي الموت والبعث والحساب وسعى لعمارة الدنيا سعياً بليغاً ودقق في أعمال فكره تدقيقاً عجيباً فهو متوغل في الجهل والحماقة ولهذا قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا.
وفي "المثنوي" :
233
أين جهان ويران شدى اندرزمان
جزء : 1 رقم الصفحة : 233
حرصها بيرون شدى ازمردمان
استن اين عالم اي جان غفلتست
هو شيارى اين جهان را آفتست
هو شيارى زان جهانست ووآن
غالب آيدست كردد اين جهان
هو شيارى آفتاب وحرص يخ
هو شيارى آب واين عالم وسخ
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} جمع منسك بفتح السين وكسرها أي : بصرنا مواضع نسكنا أو عرفنا مقتدراتنا أي : المواضع التي يتعلق بها النسك أي : أفعال الحج نحو المواقيت التي يحرم منها والموضع الذي يوقف فيه بعرفة وموضع الطواف والصفا والمروة وما بينهما من المسعى وموضع رمي الجمار ويحتمل أن يراد بالمناسك ههنا أفعال الحج نفسها لا مواضعها على أن يكون المنسك مصدراً لا اسم مكان ويكون جمعه لاختلاف أنواعه ويكون أرنا بمعنى عرفنا لأن نفس الأفعال لا تدرك بالبصر بل ترى بعين القلب والنسك كل ما يتعبد به إلى الله وشاع في أعمال الحج لكونها أشق الأعمال بحيث لا تتأتى إلا بمزيد سعي واجتهاد {وَتُبْ عَلَيْنَآ} عما فرط منا سهواً من الصغائر ومن ترك الأولى وتجاوز عن ذنوب ذريتنا من الكبائر ولعلهما قالاه هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما فإنهما لما بنيا البيت أرادا أن يسنا للناس ويعرفاهم أن ذلك البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة التفصي من الذنوب وطلب التوبة من علام الغيوب.
{إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} لمن تاب أصل التوبة الرجوع وتوبة الله على العبد قبوله توبته وأن يخلق الانابة والرجوع في قلب المسيء ويزين جوارحه الظاهرة بالطاعات بعدما لوثها بالمعاصي والخطيئات وتواب من صيغ المبالغة أطلق عليه تعالى للمبالغة في صدور الفعل منه وكثرة قبوله توبة المذنبين لكثرة من يتوب إليه.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي : في جماعة الأمة المسلمة من أولادنا {رَسُولا مِّنْهُمْ} أي : من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم ولم يبعث من ذريتهما غير النبي صلى الله عليه وسلّم فهو الذي أجيب به دعوتهما.
جزء : 1 رقم الصفحة : 233
(1/187)
ـ روي ـ أنه قيل له قد استجيب لك وهو في آخر الزمان وفي الحديث "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري إني دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأيت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام" وأراد بدعوة إبراهيم هذا فإنه دعا الله أن يبعث في بني إسرائيل رسولاً منهم {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ} يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوة {وَيُعَلِّمُهُمُ} بحسب قوتهم النظرية {الْكِتَـابُ} أي : القرآن {وَالْحِكْمَةَ} وما يكمل به نفوسهم من المعارف الحقة والأحكام الشرعية.
قال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة {وَيُزَكِّيهِمْ} بحسب قوتهم العملية أي : يطهرهم من دنس الشرك وفنون المعاصي سواء كانت بترك الواجبات أو بفعل المنكرات ثم إن إبراهيم عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات الثلاث ختمها بالثناء على الله تعالى فقال : {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} الذي يقهر ويغلب على ما يريد {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة فهو عزيز حكيم بذاته وكل ما سواه ذليل جاهل في نفسه.
قال الإمام الغزالي قدس سره في "شرح الأسماء الحسنى" العزيز : هو الخطير الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه فما لم تجتمع هذه المعاني
234
الثلاثة لم يطلق العزيز فكم من شيء يقل وجوده ولكن إذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزاً وكم من شيء يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزاً كالشمس مثلاً فإنها لا نظير لها والأرض كذلك والنفع عظيم في كل واحدة منهما والحاجة شديدة إليهما ولكن لا توصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما فلا بد من اجتماع المعاني الثلاثة.
ثم في كل من المعاني الثلاثة كمال ونقصان فالكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد إذ لا أقل من الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله وليس هذا إلا الله تعالى فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان فيمكن وجود مثلها والكمال في النفاسة وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء حتى في وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك الكمال إلاتعالى فهو العزيز المطلق الحق الذي لا يوازيه فيه غيره والعزيز من العباد من يحتاج إليه عباد الله في أهم أمورهم وهي الحياة الأخروية والسعادة الأبدية وذلك مما يقل لا محالة وجوده ويصعب إدراكه وهذه رتبة الأنبياء عليهم السلام ويشاركهم في العزّ من يتفرد بالقرب من درجتهم في عصره كالخلفاء وورثتهم من العلماء وعزة كل واحد بقدر علو رتبته عن سواه في الميل والمشاركة وبقدر عنائه في إرشاد الخلق والحق ذو الحكمة والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأجل العلوم وأجل الأشياء هو الله تعالى ولا يعرف كنه معرفته غيره فهو الحكيم المطلق لأنه يعلم أجلّ الأشياء بأجلّ العلوم إذ أجلّ العلوم هو العلم الأزلي الدائم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء وشبهة ولا يتصف بذلك إلا علم الله تعالى وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيماً وكمال ذلك أيضاً ليس إلا تعالى فهو الحكيم المطلق ومن عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله تعالى لم يستحق أن يسمى حكيماً لأنه لم يعرف أجلّ الأشياء وأفضلها والحكمة أجل العلوم وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم ولا أجلّ من الله ومن عرف الله فهو حكيم وإن كان ضعيف المنّة في سائر العلوم الرسمية كليل اللسان قاصر البيان فيها إلا أن نسبة حكمة العبد إلى حكمة الله تعالى كنسبة معرفته إلى معرفته بذاته وشتان بين المعرفتين فشتان بين الحكمتين ولكنه مع بعده عنه فهو أنفس المعارف وأكثرها خيراً ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يتذكر إلا أولو الألباب نعم من عرف الله كان كلامه مخالفاً لكلام غيره فإنه قلما يتعرض للجزئيات بل يكون كلامه جملياً ولا يتعرض لمصالح العاجلة بل يتعرض لما ينفع في العاقبة ولما كانت الكلمات الكلية أظهر عند الناس من أحوال الحكيم من معرفته بالله ربما أطلق الناس اسم الحكمة على مثل تلك الكلمات الكلية ويقال للناطق بها حكيم وذلك مثل قول سيد الأنبياء عليه السلام "رأس الحكمة مخافة الله" "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله" "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" "السعيد من وعظ بغيره" "القناعة ماللا ينفد" "الصبر نصف الإيمان" "اليقين الإيمان كله" فهذه الكلمات وأمثالها تسمى حكمة وصاحبها يسمى حكيماً انتهى كلام الغزالي.
ثم إن في الآية إشارة إلى أن في إرسال الرسل حكمة أي : مصلحة وعاقبة حميدة لأن عمارة الظاهر وإنارة الباطن ونظام العالم بهم لا بغيرهم ولورثتهم من الأولياء الكاملين حظ أوفى
235
جزء : 1 رقم الصفحة : 233
(1/188)
في باب التزكية فلا بد للعبد من دليل ومرشد يهتدي به إلى مقصوده ومن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان ، قال الحافظ :
بكوى عشق منه بي دليل رآه قدم
كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد
والمرشد الكامل يزكي نفس السالك بإذن الله ويطهرها من دنس الالتفات إلى ما سوى الله ويتلو عليه الآيات الأنفسية والآفاقية ليكون من الموقنين ويغتنم النعيم الروحاني ويدخل في زمرة الصديقين فقوله تعالى : {وَيُزَكِّيهِمْ} يشير إلى السلوك والتسليك فاحفظ هذا وليكن على ذكر منك اللهم احفظنا من الموانع في طريق الوصول إليك فإن كل رجاء في حيز القبول لديك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 233
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِامَ} من استفهامية قصد بها الإنكار والتقريع رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا تركه أي : لا يترك دين إبراهيم أحد ولا يعرض عن شريعته وطريقته.
{إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} أي : أذلها وجعلها مهيناً حقيراً فانتصاب نفسه على أنه مفعول به.
ـ روي ـ أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبى مهاجر فأنزل الله هذه الآية {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِي الدُّنْيَا} أي : وبالله لقد اخترنا إبراهيم في الدنيا من بين سائر الخلق بالنبوة والحكمة {وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ} متعلق بقوله : {لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} أي : من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح فمن كان صفوة العباد في الدنيا مشهوداً له في الآخرة بالصلاح كان حقيقاً بالاتباع لا يرغب عن ملته إلا سفيه أي : في أصل خلقته أو متسفه يتكلف السفاهة بمباشرة أفعال السفهاء باختياره فيذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل فقوله : {وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} بشارة له في الدنيا بصلاح الخاتمة ووعد له بذلك وكم من صالح في أول حاله ذهب صلاحه في مآله وكان في الآخرة لعذابه ونكاله كبلعم وبرصيصا وقارون وثعلبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
{إِذْ قَالَ لَهُ} ظرف لاصطفيناه وتعليل له أي : اخترناه في وقت قال له : {رَبُّه أَسْلِمْ} أي : أخلص دينك لربك واستقم على الإسلام واثبت عليه وذلك حين خرج من الغار ونظر إلى الكوكب والقمر والشمس فألهمه الله الإخلاص {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} أي : أخلصت ديني له كقوله : {إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 79) الآية وقد امتثل ما أمر به من الإخلاص والاستسلام وأقام على ما قال فسلم القلب والنفس والولد والمال ولما قال له جبريل حين ألقي في النار هل لك من حاجة فقال : أما إليك فلا فقال : ألا تسأل ربك؟ فقال : حسبي بسؤالي علمه بحالي.
قال أهل التفسير : إن إبراهيم ولد في زمن النمرود بن كنعان وكان النمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له إنه يولد في بلدك في هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فولدته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء وهو نبت في الماء يقال له بالتركي "حصير قمشى" ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع
236
(1/189)
كذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً أي : بيتاً في الأرض كالمغارة فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت أمه تختلف إليه فترضعه وكان اليوم على إبراهيم في الشباب والقوة كالشهر في حق سائر الصبيان والشهور كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً أو سبع سنين أو أكثر من ذلك فلما شبّ إبراهيم في السرب قال لأمه : من ربي؟ قالت : أنا قال : فمن ربك؟ قالت أبوك قال : فمن رب أبي؟ قالت : اسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ثم أخبرته بما قال فأتى أبوه آزر وقال له إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا قال : فمن ربك؟ قال : النمرود قال : فمن رب النمرود فلطمه لطمة وقال له : اسكت فلما جنّ عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فرأى السماء وما فيها من الكواكب فتفكر في خلق السموات والأرض فقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي الذي مالي إله غيره ثم نظر في السماء فرأى كوكباً قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين ثم رأى القمر ثم الشمس فقال فيهما كما قال في حق الكواكب ، ثم إنهم اختلفوا في قوله ذلك فأجراه بعضهم على الظاهر وقالوا : كان إبراهيم في ذلك الوقت مسترشداً طالباً للتوحيد حتى وفقه الله إليه وأرشده فلم يضره ذلك في الاستدلال وأيضاً كان ذلك في حال طفوليته قبل أن يجري عليه القلم فلم يكن كفراً وأنكر الآخرون هذا القول وقالوا : كيف يتصور من مثله أن يرى كوكباً ويقول هذا ربي معتقداً فهذا لا يكون أبداً ثم أولو قوله ذلك بوجوه مذكورة في سورة الأنعام للإمام محيي السنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
والحاصل إن إبراهيم مستسلم للرب الكريم وإنه على الصراط المستقيم لا يرغب على طريقته إلا من سفه نفسه أي : لم يتفكر فيها كما تفكر إبراهيم في الأنفس والآفاق وقال تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات : 21) والسفاهة الجهل وضعف الرأي وكل سفيه جاهل وذلك أن من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعرف الله خالقها وقد جاء في الحديث "من عرف نفسه فقد عرف ربه" وفي الأخبار "إن الله تعالى أوحى إلى داود اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء".
وفي "المثنوي" :
جيست تعظيم خدا افراشتن
خويشتن را خاك وخواري داشتنيست توحيد خدا آموختن
خويشتن رايش واحد سوختن
هستيت درهست آن هستى نواز
همو مس در كيميا اندر كداز
جمله معشر قست وعاشق رده
زنده معشوقست وعاشق مرده
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
{وَوَصَّى} لما كمل إبراهيم عليه السلام في نفسه كمل غيره بالتوصية وهو تقديم ما فيه خير وصلاح من قول أو فعل إلى الغير على وجه التفضل والإحسان سواء كان أمراً دينياً أو دنيوياً {بِهَآ} أي : بالملة المذكورة في قوله تعالى : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِامَ} (البقرة : 130) {إِبْرَاهِامُ بَنِيهِ} أي : أولاده الذكور الثمانية عند البعض إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة وستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة وهم : مدين ومداين وزمران ويقشان ويشبق ونوح.
{وَيَعْقُوبَ} رفع عطف على إبراهيم أي : وصى يعقوب
237
أيضاً وهو ابن إسحاق بن إبراهيم بنيه الاثني عشر : روميل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهودا ، ويستسوخور ، وزبولون ، وزوانا ، ونفتونا ، وكوزا ، وإوشير ، وبنيامين ، ويوسف ، وسمي يعقوب لأنه مع أخيه عيصو كانا توءمين فتقدم عيصو في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذاً بعقبه وذلك أن أم يعقوب حملت في بطن واحد لولدين توءمين فلما تكامل عدة أشهر الحمل وجاء وقت الوضع تكلما في بطنها وهي تسمع فقال أحدهما للآخر : طرق لي حتى أخرج قبلك وقال الآخر : لئن خرجت قبلي لأشقن بطنها حتى أخرج من خصرها فقال الآخر اخرج قبلي ولا تقتل أمي قال : فخرج الأول فسمته عيصو لأنه عصاها في بطنها وخرج الثاني وقد أمسك بعقبه فسمته يعقوب فنشأ عيصو بالغلظة والفظاظة صاحب صيد وقنص ويعقوب بالرحمة واللين صاحب زرع وماشية ، وروي أنهما ماتا في يوم واحد ودفنا في قبر واحد قيل : عاش يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة ومات بمصر وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند أبيه إسحاق فحمله يوسف فدفنه عنده يا بَنِىَّ} على إضمار القول عند البصريين تقديره وصى وقال : يا بني وذلك لأن يا بني جملة والجملة لا تقع مفعولاً إلا لأفعال القلوب أو فعل القول عندهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
(1/190)
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي : دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان ولا دين عنده غيره {فَلا تَمُوتُنَّ} أي : لا يصادفكم الموت {إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي : مخلصون بالتوحيد محسنون بربكم الظن وهذا نهي عن الموت في الظاهر وفي الحقيقة عن ترك الإسلام لأن الموت ليس في أيديهم وذلك حين دخل يعقوب مصر فرأى أهلها يعبدون الأصنام فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام فإن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه وإنه ليس بموت السعداء وإن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم وتخصيص الأبناء بهذه الوصية مع أنه معلوم من حال إبراهيم أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين وللدلالة على أن أمر الإسلام أولى الأمور بالاهتمام حيث وصى به أقرب الناس إليه وأحراهم بالشفقة والمحبة وإرادة الخير مع أن صلاح أبنائه سبب لصلاح العامة لأن المتبوع إذا صلح في جميع أحواله صلح التابع.
روي أنه لما نزل قوله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} (الشعراء : 214) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقاربه وأنذرهم فقال : "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً" يعني لا أقدر على دفع مكروه عنكم في الآخرة إن أراد الله أن يعذبكم وإنما أشفع لمن أذن الله لي فيه وإنما يأذن لي إذا لم يرد تعذيبه إنما قال عليه السلام في حقهم هكذا لترغيبهم في الإيمان والعمل لئلا يعتمدوا على قرابته ويتهاونوا ولا بد من الوصية والتحذير في باب الدين لأن الإنسان إذا أنس بأهل الشر يخاف أن يتخلق بأخلاقهم ويعمل عملهم فيجره ذلك الهوى إلى الهاوية كما قيل :
نفس از همنفس بكيرد خوى
بر حذر باش از لقاي خبيث
باد ون برفضاي بد كذرد
بوى يد كيرد از هواي خبيث
238
وكتب أبو عبيد الصوري إلى بعض إخوانه : أما بعد ، فإنك قد أصبحت تأمل الدنيا بطول عمرك وتتمنى على الله الأماني بسوء فعلك وإنما تضرب حديداً بارداً والسلام وحسن الظن بالله تعالى إنما يعتبر بعد إصلاح الحال بالأخلاق والأعمال.
قال الحسن : إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة.
يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل وتلا قوله تعالى : {وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ} (فصلت : 23) الآية اللهم وفقنا للعلم والعمل قبل الأجل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيم عليه السلام وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة.
قال في "التيسير" : أم إذا لم يتقدمها ألف الاستفهام كانت بمنزلة مجرد الاستفهام ومعنى الهمزة فيها الإنكار يعني أكنتم شهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر يريد ما كنتم حاضرين {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي : إماراته وأسبابه وقرب خروجه من الدنيا نزلت حين قالت اليهود للنبي عليه السلام : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فقال تعالى : ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب وقال لبنيه ما قال وإلا لما ادعيتم عليه اليهودية ولكان حرضكم على ملة الإسلام {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} بدل من إذ حضر والعامل فيها شهداء {مَا تَعْبُدُونَ مِنا بَعْدِى} أي : أيُّ شيء تعبدونه بعد موتي أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما.
قال الراغب لم يعن بقوله : ما تعبدون من بعدي العبادة المشروعة فقط وإنما عني أن يكون مقصودهم في جميع الأعمال وجه الله تعالى ومرضاته وأن يتباعدوا عما لا يتوسل به إليها وكأنه دعاهم إلى أن لا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله تعالى ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام وإنما خاف أن تشغلهم دنياهم ولهذا قيل ما قطعك عن الله فهو طاغوت ولهذا قال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام أي : أن نخدم ما دون الله.
قال في "المثنوي" :
يست دنيا از خدا غافل شدن
نى قماش ونقره وفر زند و وزن
(1/191)
قال النحرير التفتازاني : وما عامّ أي : يصح إطلاقه على ذي العقل وغيره عند الإبهام سواء كان للاستفهام أم غيره وإذا علم أن الشيء من ذي العقل والعلم فرق بمن وما فيخص من بذي العلم وما بغيره وبهذا الاعتبار يقال إن ما لغير العقلاء انتهى كلامه وتم الإنكار عليهم عند قوله ما تعبدون من بعدي ثم استأنف وبين أن الأمر قد جرى على خلاف ما زعموا فقال : {قَالُوا} كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل : قالوا {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِامَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} أي : نعبد الإله المتفق على وجوده وإلهيته ووجوب عبادته وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة الآباء تغليباً للأب والجد لأن العم أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد وهو الإخوة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه السلام : "عم الرجل صنو أبيه" أي : لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة.
{إِلَـاهًا وَاحِدًا} بدل من إله آبائك وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشىء من تكرار المضاف أو نصب على الاختصاص كأنه قيل نريد ونعني بإله آبائك إلهاً واحداً {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} حال من فاعل نعبد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{تِلْكَ} إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون {أُمَّةٌ} هي في الأصل المقصود كالعهدة بمعنى
239
المعهود وسمي بها الجماعة لأن فرق الناس تؤمها أي : يقصدونها ويقتدون بها وهي خبر تلك {قَدْ خَلَتْ} أي : مضت بالموت وانفردت عمن عداها وأصله صارت إلى الخلاء وهي الأرض التي لا أنيس بها والجملة نعت لأمة {لَهَا مَا كَسَبَتْ} تقديم المسند لقصره على المسند إليه أي : لها كسبها لا كسب غيرها {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} لا كسب غيركم {وَلا تُسْـاَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : لا تؤاخذون بسيئات الأمة الماضية كما في قوله : ولا تسألون عما أجرمنا كما لا تثابون بحسناتهم فلكل أجر عمله وذلك لما ادعى اليهود أن يعقوب عليه السلام مات على اليهودية وأنه عليه السلام وصى بها بنيه يوم مات وردوا بقوله تعالى : {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} الآية قالوا : هب أن الأمر كذلك أليسوا آباءنا وإليهم ينتمي نسبنا فلا جرم ننتفع بصلاحهم ومنزلتهم عند الله تعالى قالوا ذلك مفتخرين بأوائلهم فردوا بأنهم لا ينفعهم انتسابهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعهم في الأعمال فإن أحداً لا ينفعه كسب غيره كما قال عليه السلام : "يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" وقال عليه السلام : "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" يعني : من أخره في الآخرة عمله السيىء أو تفريطه في العمل الصالح لم ينفعه شرف نسبه ولم تنجبر نقيصته به قال الشاعر :
أتفخر باتصالك من علي
وأصل البؤسة الماء القراح
وليس بنافع نسب زكي
جزء : 1 رقم الصفحة : 239
يدنسه صنائعك القباح والأبناء وإن كانوا يتشرفون في الدنيا بشرف آبائهم إلا أنه إذا نفخ في الصور فلا أنساب والافتخار بمثل هذا كالافتخار بمتاع غيره وإنه من الجنون فلا بد من كسب العمل والإخلاص فيه فإنه المنجي بفضل الله تعالى وجاء في حديث طويل وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره لوالديه فرده عنه ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً كلما دنا الحلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده إلى جنبي ورأيت رجلاً من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فيها فجاءته حجته وعمرته فاستخرجتاه من الظلمة وأدخلتاه في النور ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت : يا معشر المؤمنين كلموه كلموه ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظلاً على رأسه ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها
240
(1/192)
في يمينه ورأيت رجلاً من أمتي قد خفّ ميزانه فجاءته إفراطه فنقلوا ميزانه ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلاً من أمتي أهوي في النار فجاءته دموعه التي بكى بها من خشية الله فاستخرجته من النار ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً ويتعلق أحياناً فجاءته صلاته علي فأخذت بيده وأقامته ومضى على الصراط ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" قيل : يا رسول الله وما إخلاصها قال : "أن تحجزه عن محارم الله" فعلم من هذا التفصيل أن الخلاص وإن كان بفضل الله تعالى لكنه منوط بالأعمال الصالحة فالقرابة لا تغني شيئاً إذا فسد العمل وأما قول من قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 239
إذا طاب أصل المرء طابت فروعه
فباعتبار الغالب فإن من عادته تعالى أن يخرج الحي من الميت والميت من الحي ونعم ما قيل :
أصل را اعتبار ندان نيست
روى تر كل زخار خندان نيست
مي زغوره شود شكر ازنى
عسل ازنحل حاصلت بقي
والعود الذي تفوح رائحته وإن كان في الأصل شجرة كسائر الأشجار إلا أنه لما كان له استعداد لتلك المرتبة وحصل ذلك بالتربية فاق على الأقران وخرج من جنس الأصل وكذا المسك فإن أصله دم وكم من نسيب يعود على أصله بالعكس فيظهر فيه أثر الصلاح الباطن في أبيه إن كان أي : أبوه فاسقاً أو الفساد الباطن فيه إن كان صالحاً وكم من فرع يميل إلى أصله على وجه فانظر حال آدم عليه السلام وولديه هابيل وقابيل ومن بعدهم إلى قيام الساعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 239
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى} نزلت في رؤوس يهود المدينة وفي نصارى نجران أي : قالت اليهود كونوا هوداً فإن نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب ودينننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن وقالت النصارى كونوا نصارى فإن نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن.
{تَهْتَدُوا} جواب للأمر أي إن تكونوا كذلك تجدوا الهداية من الضلالة {قُلْ} يا محمد لهم على سبيل الرد وبيان ما هو الحق لا نكون ما تقولون {بَلْ} نكون {مِّلَّةِ إِبْرَاهِامَ} أي : أهل ملته ودينه على حذف المضاف أي : بل نتبع ملته لأن كونوا معناه اتبعوا اليهودية والنصرانية {حَنِيفًا} أي : مائلاً عن كل دين باطل إلى دين الحق ومنحرفاً عن اليهودية والنصرانية وهو حال من المضاف إليه وهو إبراهيم كما في رأيت وجه هند قائمة لأن رؤية وجه هند يستلزم رؤيتها فالحال هنا تبين هيئة المفعول أو من المضاف وهو الملة وتذكير حنيفاً حينئذٍ بتأويل الملة بالدين لأنهما متحدان ذاتاً والتغاير بالاعتبار {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بهم وإيذان ببطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، وفي الآية إرشاد إلى اتباع دين إبراهيم وهو الدين الذي عليه نبينا عليه السلام وأصحابه وأتباعه.
241
جزء : 1 رقم الصفحة : 241
(1/193)
{قُولُوا} أيها المؤمنون {بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ} وحده {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} أي : بالقرآن الذي أنزل على نبينا والإنزال إليه إنزال إلى أمته لأن حكم المنزل يلزم الكل {وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِامَ} من صحفه العشر ما أنزل إلى {وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ} {و} إلى {وَمَآ} جمع سبط وهو في أصل شجرة واحدة لها أغصان كثيرة والمراد هنا أولاد يعقوب وهم اثنا عشر سموا بذلك لأنه ولد لكل منهم جماعة وسبط الرجل حافده أي : ولد ولده والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم وهم جماعة من أب وأم وكان في الأسباط أنبياء والصحف وإن كانت نازلة إلى إبراهيم لكن من بعده حيث كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها جعلت منزلة إليهم كما جعل القرآن منزلاً إلينا {وَمَآ أُوتِىَا مُوسَى وَعِيسَى} من التوراة والإنجيل وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى {وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} جملة المذكورين منهم وغير المذكورين.
{مِن رَّبِّهِمْ} في موضع الحال من العائد المحذوف والتقدير وبما أوتيه النبيون منزلاً عليهم من ربهم.
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} كاليهود فنؤمن ببعض ونكفر ببعض وكيف نفعل ذلك والدليل الذي أوجب علينا أن نؤمن ببعض الأنبياء وهو تصديق الله إياه بخلق المعجزات على يديه يوجب الإيمان بالباقين فلو آمنا ببعض وكفرنا بالبعض لناقضنا أنفسنا والجملة حال من الضمير في آمنا وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم مع أن الكلام فيما أوتوه لا يستلزم عدم التفريق بينهم بالتصدق والتكذيب لعدم التفريق بين ما أوتوه واحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} أي : والحال إنا مخلصونتعالى ومذعنون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 241
{فَإِنْ ءَامَنُوا} أي : اليهود والنصارى {بِمِثْلِ مَآ} أي : بمثل الدين الذي {بِه فَقَدِ} هذا من باب التعجيز والتبكيت أي : إلزام الخصم وإلجائه إلى الاعتراف بالحق بإرخاء عنانه وسد طرق المجادلة عليه والمثل مقحم والمعنى فإن آمنوا بما آمنتم به وهو الله تعالى فإنه ليستعالى مثل وكذا لدين الإسلام.
{فَقَدِ اهْتَدَوا} إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق {وَّإِن تَوَلَّوْا} أي إن أغضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلوا بشيء من ذلك كأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما هو ديدنهم ودينهم {فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ} أي : مستقرون في خلاف عظيم بعيد من الحق وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون فقوله في شقاق خبر لقوله هم وجعل الشقاق ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالغة في الإخبار باستيلائه عليهم فإنه بلغ من قولك هم مشاقون والشقاق مأخوذ من الشقّ وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال والقتال لا محالة عقب ذلك بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفريح المؤمنين بوعد النصرة والغلبة وضمان التأييد والاعزاز بالسين للتأكيد الدالة على تحقق الوقوع البتة فقيل : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الضميران منصوباً المحل على أنهما مفعولان ليكفي يقال كفاه مؤنته كفاية وإن كثر استعماله معدى إلى واحد نحو كفاك الشيء والظاهر أن المفعول الثاني حقيقة في الآية هو المضاف المقدر أي : فسيكفي الله إياك أمر اليهود والنصارى
242
ويدفع شرهم عنك وينصرك عليهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وقد أنجز الله وعده الكريم بالقتل والسبي في بني قريظة والجلاء والنفي إلى الشام وغيره في بني النضير والجزية والذلة في نصارى نجران {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعو به ويعلم ما في نيتك من إظهار الدين فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 241
(1/194)
{صِبْغَةَ اللَّهِ} الصبغ ما يلون به الثياب والصبغ المصدر والصبغة الفعلة التي تبنى للنوع والحالة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع الصبغ عليها وهي أي : الصبغة في الآية مستعارة لفطرة الله التي فطر الناس عليها شبهت الخلقة السليمة التي يستعد بها العبد للإيمان وسائر أنواع الطاعات بصبغ الثوب من حيث أن كل واحدة منهما حلية لما قامت هي به وزينة له والتقدير صبغنا الله صبغة أي : فطرنا وخلقنا على استعداد قبول الحق والإيمان فطرته فهذا المصدر مفعول مطلق مؤكد لنفسه لأنه مع عامله المقدر بعينه وقع مؤكداً لمضمون الجملة المقدمة وهو قوله : آمنا بالله لا محتمل لها من المصادر إلا ذلك المصدر لأن إيمانهم بالله يحصل بخلق الله إياهم على استعداد اتباع الحق والتحلي بحلية الإيمان ويحتمل أن يكون التقدير طهرنا الله تطهيره لأن الإيمان يطهر النفوس من أوضار الكفر وسماه صبغة للمشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوع ذلك الشيء في صحبة الغير إما بحسب المقال المحقق أو المقدر بأن لا يكون ذلك الغير مذكوراً حقيقة ويكون في حكم المذكور لكونه مدلولاً عليه بقرينة الحال فهي كما تجري بين فعلين كما هنا تجري بين قولين كما في (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فإنه عبر عن ذات الله تعالى بلفظ النفس لوقوعه في صحبة لفظ النفس وعبر عن لفظ الفطرة بلفظ الصبغة لوقوعه في صحبة صبغة النصارى إذ كانوا يشتغلون بصبغ أولادهم في سابع الولادة مكان الختان للمسلمين بغمسهم في الماء الأصفر الذي يسمونه المعمودية على زعم أن ذلك الغمس وإن لم يكن مذكوراً حقيقة لكنه واقع فعلاً من حيث أنهم يشتغلون به فكان في حكم المذكور بدلالة قرينة الحال عليه من حيث اشتغالهم به ومن حيث أن الآية نزلت رداً لزعمهم ببيان أن التطهير المعتبر هو تطهير الله عباده لا تطهير أولادكم بغمسهم في المعمودية وهي اسم ماء غسل به عيسى عليه السلام فمزجوه بماء آخر وكلما استعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبر والاستفهام في معنى الجحد {مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغته تعالى فالتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما والمعنى أي : شخص تكون صبغته أحسن من صبغة الله فإنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوضار الكفر وأنجاس الشرك فلا صبغة أحسن من صبغته {وَنَحْنُ لَهُ} أي : الذي أولانا تلك النعمة الجليلة {عَـابِدُونَ} شكراً له ولسائر نعمه وتقدم الظرف للاهتمام ورعاية الفواصل وهو عطف على آمنا داخل تحت الأمر وهو قولوا فإذا كان حرفة العبد العبادة فقد زين نفسه بصبغ حسن يزينه ولا يشينه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 241
وفي "المثنوي" :
كاورا رنك ازبرون مردرا
ازدرون دان رنك سرخ وزردرا
رنكهاي نيك ازخم صفاست
رنك زشنان ازسياه آب جفاست
243
صبغة الله نام آن رنك لطيف
لعنة الله بوى اين رنك كثيف
وفي قوله تعالى : {وَنَحْنُ لَه عَـابِدُونَ} إشارة إلى أن العارفين يعبدون ربهم لا لشوق الجنة ولا لخوف النار.
قال الله تعالى في الزبور : "ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار فلو لم أخلق جنة ولا ناراً لم أكن مستحقاً لأن أعبد".
واعلم أن العابد هو العامل بحق العبودية في مرضاة الله تعالى والعبادة دون العبودية وهي دون العبودة لأن من لم يبخل بروحه فهو صاحب عبودة فالعبادة ببذل الروح فوق العبادة ببذل النفس.
قال سهل بن عبد الله لا يصح التعبد لأحد حتى لا يجزع من أربعة أشياء : من الجوع والعري الفقر والذل.
قال الشيخ أبو العباس رحمه الله : أوقات العبد أربعة لا خامس لها الطاعة والمعصية والنعمة والبلية ولكل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية فمن كان وقته النعمة فسبيله الشكر وهو فرح القلب بالله تعالى ومن كان وقته البلية فسبيله الرضى والصبر فعليك أن تراقب الأوقات إلى أن تصل أعلى الدرجات وغاية الغايات.
وفي "المثنوي" :
كافرم من كر زيان كردست كس
درره ايمان وطاعت يكنفسسرشكسته نيست اين سررا مبند
يك دوروزه جهد كن باقي بخند من تازه كن إيمان نه از كفت زبان
أي هوارا تازه كرده درنهانتاهواتازه است إيمان تازه نيست
كين هواجز قفل آن دروازه نيست
(1/195)
ـ روي ـ أن السرى قدس سره قال : مكثت عشرين سنة أخرس خلق الله تعالى فلم يقع في شبكتي إلا واحد كنت أتكلم في المسجد الجامع ببغداد يوم الجمعة وقلت عجبت من ضعيف عصى قوياً فلما كان يوم السبت وصليت الغداة إذا أنا بشاب قد وافى وخلفه ركبان على دواب بين يديه غلمان وهو راكب على دابته فنزل وقال : أيكم السري السقطي فأومأ جلسائي إلي فسلم علي وجلس وقال : سمعتك تقول عجبت من ضعيف عصى قوياً فما أردت به فقلت ما ضعيف أضعف من ابن آدم ولا قوي أقوى من الله تعالى وقد تعرض ابن آدم مع ضعفه إلى معصية الله تعالى قال : فبكى ثم قال : يا سرى هل يقبل ربك غريقاً مثلي؟ قلت : ومن ينقذ الغرقى إلا الله تعالى قال : يا سري إن عليّ مظالم كثيرة كيف أصنع قال : إذا صححت الانقطاع إلى الله تعالى أرضى عنك الخصوم بلغنا عن النبي عليه السلام أنه قال : "إذا كان يوم القيامة واجتمع الخصوم على ولي الله وكّل لكل منهم ملكاً يقول لا تروّعوا ولي الله فإن حقكم اليوم على الله تعالى" فبكى ثم قال : صف لي الطريق إلى الله فقلت : إن كنت تريد المقتصدين فعليك بالصيام والقيام وترك الآثام وإن كنت تريد طريق الأولياء فاقطع العلائق واتصل بخدمة الخالق فبكى حتى بلّ منديلاً له ثم انصرف وكان من أمره كيت وكيت من ترك الأهل والعيال والسكون عند المقابر وتغيير الحال حتى توفي ذلك الشاب على الإحالة التي أقبل عليها قال السري فحلمت يوماً عيناي فإذا به يرفل في السندس والاستبرق ويقول لي جزاك الله خيراً فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : أدخلني الجنة ولم يسألني عن ذنب انتهى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 241
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا} المحاجة المجادلة ودعوى الحق وإقامة الحجة على ذلك من كل واحد والهمزة للإنكار والتوبيخ ، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود والنصارى قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا وديننا أقدم فقال الله تعالى : قل يا محمد لليهود والنصارى أتجادلوننا وتخاصموننا
244
{فِى اللَّهِ} أي : في دينه وتدعون أن دينه الحق هو اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتارة كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي : والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلاً لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم.
{وَلَنَآ أَعْمَـالُنَا} الحسنة الموافقة لأمره {وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ} السيئة المخالفة لحكمه فكيف تدعون أنكم أولى بالله {وَنَحْنُ لَهُ} أي : تعالى {مُخْلِصُونَ} في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنّى لكم المحاجة وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمع في دخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه وأنتم به مشركون ، والإخلاص تصفية العمل عن الشرك والرياء وحقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
{أَمْ تَقُولُونَ} أم معادلة للهمزة في قوله تعالى : أتحاجوننا داخلة في حيز الأمر على معنى أي : الأمرين تأتون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء وتقولون {إِنَّ إِبْرَاهِامَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ} وهي حفدة يعقوب وهم أولاد أولاده الاثني عشر وعن الزجاج أنه قال : الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل فولد كل واحد من ولد إسحاق سبط ومن ولد إسماعيل قبيلة {كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى} فنحن مقتدون بهم والمراد إنكار كلا الأمرين والتوبيخ عليهما أي : كيف تحاجون وكيف تقولون في حق الأنبياء الذين بعثوا قبل نزول التوراة والإنجيل أنهم كانوا هوداً أو نصارى ومن المحال أن يقتدي المتقدم بالمتأخر ويستن بسنته {قُلْ} يا محمد {ءَأَنتُمْ} الاستفهام للتقرير والتوبيخ {أَعْلَمُ} بدينهم {أَمِ اللَّهُ} أعلم {وَمَنْ أَظْلَمُ} إنكار لأن يكون أحد أظلم فالاستفهام بمعنى النفي {مِمَّن كَتَمَ} أي : ستر وأخفى عن الناس {شَهَـادَةً} ثابتة {عِندَهُ} أي : عند من كائنة {مِّنَ اللَّهِ} قوله عنده ومن الله صفتان لشهادة أي : شهادة حاصلة عنده صادرة من الله تعالى يعني يا أهل الكتاب قد علمتم بشهادة حصلت عندكم صادرة من الله تعالى بأن إبراهيم وبنيه كانوا حنفاء مسلمين بأن أخبركم الله بذلك في كتابكم ثم إنكم تكتمونها وتدعون خلاف ما شهد الله به في حقهم فلا أحد أظلم منكم حيث أجزأتم على تكذيب الله تعالى فيما أخبر به وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيمان إلى أن مرتبة من يدريها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان وعن ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة قال تعالى : {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة : 283) والمراد مسخ القلب ونعوذ بالله من ذلك {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
(1/196)
ما موصولة عامة لجميع ما يكتسب بالجوارح الظاهرة والقوى الباطنة ويدخل فيه كتمان شهادة الله دخولاً أولياً أي : هو محيط بجميع ما تأتون وما تدرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب {تِلْكَ أُمَّةٌ} أي : الأنبياء جماعة {قَدْ خَلَتْ} أي : مضت بالموت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الأعمال {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} منها {وَلا تُسْـاَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : لا يسأل أحد عن عمل غيره بل يسأل عن عمله ويجزى به وهذا تكرير للآية السابقة بعينها للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على أعمالهم قال الله تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلا أَنسَابَ} (المؤمنون : 101) ـ قيل ـ لما انصرف هارون الرشيد من الحج أقام بالكوفة أياماً فلما خرج وقف بهلول المجنون على طريقه
245
وناداه بأعلى صوته يا هارون ثلاثاً فقال هارون : من الذي يناديني تعجباً؟ فقيل له : بهلول المجنون فوقف هارون وأمر برفع الستر وكان يكلم الناس وراء الستر فقال له : ألم تعرفني؟ قال : بلى أعرفك فقال : من أنا؟ قال : أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سألك الله عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون وقال : كيف ترى حالي؟ قال : اعرضه على كتاب الله وهي الجزء الثاني إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وقال : أين أعمالنا؟ قال : إنما يتقبل الله من المتقين قال : وأين قرابتنا من رسول الله تعالى عليه وسلم؟ قال : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم قال : وأين شفاعة رسول الله لنا؟ قال : يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً فلا بد من الأعمال الصالحة والإخلاص فيها فإن الله يتقبلها لا غيرها.
قال الجنيد : الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله.
قال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك عنهما.
وفي "التتارخانية" لو افتتح للصلاة خالصاًتعالى ثم دخل في قلبه الرياء فهو على ما افتتح والرياء على أنه لو خلا عن الناس لا يصلي ولو كان مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب أصل الصلاة دون الإحسان.
قال بعض الحكماء : مثل من يعمل الطاعة للرياء والسمعة كمثل رجل يخرج إلى السوق وقد ملأ كيسه حصى فيقول الناس : ما أملأ كيس فلان ولا منفعة له سوى مقالة الناس وفي الحديث "أخلصوا أعمالكمتعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذاوللرحم وليستعالى منه شيء" ومن أحاديث المشارق "لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله" قال النووي المراد الذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو لموسى أو غيرهما.
ذكر الشيخ إبراهيم المراودي : إن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله.
وقال الرافعي : هذا غير محرم لأنهم إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم انتهى كلامه وعليه تحمل أفعال المسلمين صيانة لهم عن الكفر وضياع الأعمال فإن الموحد مطمح نظره رضى مولاه والتعبد إليه بما تيسر له من القربات اللهم اعصمنا من الزلات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 244(1/197)
{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ} أي : الذين ضعفت عقولهم حال كونهم {مِنَ النَّاسِ} أي : الكفرة يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين وإنما كانوا سفهاء لأنهم راغبون عن ملة إبراهيم وقد قال تعالى : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِامَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة : 130) أي : أذلها بالجهل والإعراض عن النظر وفائدة تقديم الإخبار به قبل وقوعه ليوطئوا عليه أنفسهم فلا يضطربوا عند وقوعه لأن مفاجأة المكروه أشد على النفوس وأشق وليعلمهم الجواب
246
فإن العتيد قبل الحاجة إليه أرد لشغب لخصم الألد و"قبل الرمي يراش السهم" وهو مثل يضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة إليها {مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا} ما استفهامية إنكارية مرفوعة المحل على الابتداء ووليهم خبره والجملة في موضع النصب بالقول يقال تولّى عن ذلك أي : انصرف وولى غيره أي : صرفه والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال فنقلت في عرف الشرع في الجهة التي يستقبلها الإنسان للصلاة وهي من المقابلة وسميت قبلة : لأن المصلي يقابلها ، والمعنى : أي شيء صرفهم وحولهم عن قبلتهم التي كانوا على التوجه إليها وهي بيت المقدس ولم انصرفوا منها إلى الكعبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
ـ روي ـ أن النبي عليه السلام صلى إلى نحو بيت المقدس بعد مقدمه المدينة نحواً من سبعة عشر شهراً تأليفاً لقلوب اليهود ثم صارت الكعبة قبلة المسلمين إلى نفخ الصور {قُلْ} كأنه قيل فماذا أقول عند ذلك فقيل قل : {الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي : الأمكنة كلها والنواحي بأسرهاتعالى ملكاً وتصرفاً فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة حتى يمتنع إقامة غيره مقامه والشيء من الجهات إنما يصير قبلة بمجرد أن الله تعالى أمر بالتوجه إليها فله أن يأمر في كل وقت بالتوجه إلى جهة من تلك الجهات على حسب ألوهيته واستيلائه ونفاذ قدرته ومشيئته فإنه لا يسأل عما يفعل بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فاللائق بالمخلوق أن يطيع خالقه ويأتمر بأمره من غير أن يتحرى خصوصية في المأمور به زائدة على مجرد كونه مأموراً به فإن الطاعة له ليس إلا بارتسام أمره أي : امتثاله لا تجري العلل والأغراض الداعية له تعالى إلى الأمر لأن أحكام الله تعالى وأفعاله ليست معللة بالدواهي والأغراض واليهود إنما استقبلوا جهة المغرب واتخذوها قبلة اتباعاً لهوى أنفسهم حيث زعموا أن موسى عليه السلام كان في جانب المغرب فأكرمه الله تعالى بوحيه وكلامه كما قال الله تعالى : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ} (القصص : 44) والنصارى أيضاً اتخذوا جهة المشرق قبلة اتباعاً لهواهم حيث زعموا أن مريم عليها السلام حين خرجت من بلدها مالت إلى جانب المشرق كما قال الله تعالى : {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (مريم : 16) والمؤمنون استقبلوا الكعبة طاعةتعالى وامتثالاً لأمره لا ترجيحاً لبعض الجهات المتساوية بمجرد رأيهم واجتهادهم مع أنها قبلة خليل الله تعالى ومولد حبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم {يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو التوجه إلى بيت المقدس تارة والكعبة أخرى ووجه استقامته كونه مشتملاً على الحكمة والمصلحة موافقاً لهما.
قال بعض أرباب الحقيقة : سمى الطاغين من اليهود والمشركين والمنافقين سفهاء لاحتجاب عقولهم عن حقية دين الإسلام ولو أدركوا الحق مطلقاً لأخلصوه كما أخلص المؤمنون فلم تبقَ محاجتهم معهم ولو كانت عقولهم رزينة لاستدلت بالآيات وأنكروا التحويل لأنهم كانوا معتدين بالجهة فلم يعرفوا التوحيد الوافي بالجهات كلها.
قال المولى الجامي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
{وَكَذَالِكَ} إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة أي : كما جعلناكم مهتدين إلى الصراط المستقيم {جَعَلْنَـاكُمْ} توحيد الخطاب في كذلك مع القصد إلى المؤمنين لما أن المراد مجرد الفرق بين
247
(1/198)
الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين {أُمَّةً وَسَطًا} أي : خياراً لأن الأوساط محمية محوطة والأطراف يتسارع إليها الخلل {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} أي : محمد صلى الله عليه وسلّم {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .
إن قلت : إن الشاهد إذا أضر بشهادته عديت الشهادة بكلمة على وإذا نفع بها تعدى باللام فيقال شهد له والرسول عليه السلام لما زكى أمته وعدلهم بشهادته انتفعوا بها فالظاهر أن يقال ويكون الرسول لكم شهيداً بخلاف شهادة الأمة على الناس فإنها شهادة عليهم حيث استضروا بها فكلمة على فيها واقعة في موضعها.
قلت : هذا مبني على تضمين الشهيد معنى الرقيب والمطلع فعدى تعديته والوجه في اعتبار تضمين الشهيد الإشارة إلى أن التعديل والتزكية إنما يكون عن خبرة ومراقبة بحال الشاهد فإذا شاهد منه الرشد والصلاح عدله وزكاه وأثنى عليه وإلا يسكت عنه وقدمت صلة الشهادة أي : عليكم لاختصاصهم بشهادته صلى الله عليه وسلّم على سبيل التزكية والتعديل وهو لا ينافي شهادته صلى الله عليه وسلّم للأنبياء بالتبليغ وعلى منكري التبليغ بالتكذيب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
ـ روي ـ أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم ألم يأتكم نذير؟ فينكرون فيقولون : ما جاءنا من بشير ولا نذير؟ فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية : من أين علموا وإنهم أتوا بعدنا فيسأل هذه الأمة فيقولون : أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت علينا كتاباً أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم فيؤمر بالكفار إلى النار.
قال بعض أرباب الحقيقة : معنى شهادتهم على الناس اطلاعهم بنور التوحيد على حقوق الأديان ومعرفتهم لحق كل دين وحق كل ذي دين من دينه وباطلهم الذي ليس حقهم الذي هو مخترعات نفوسهم وطريق الحق واحد فمن تحقق بحق دين تحقق بحق سائر الأديان وخاصة دين الإسلام الذي هو الحق الأعظم ومعنى شهادة الرسول عليهم اطلاعه على رتبة كل متدين بدينه وحقيقته التي هو عليها من دينه وحجابه الذي هو به محجوب عن كمال دينه فهو يعرف ذنوبهم وحقيقة إيمانهم وأعمالهم وحسناتهم وسيئاتهم وإخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق وأمته يعرفون ذلك من سائر الأمم بنوره عليه الصلاة والسلام.
قال بعضهم : جعلنا سبحانه وتعالى آخر الأمم تشريفاً لحبيبه وأمته لأنه لو قدمنا لاحتجنا أن ننتظر في قبورنا قدوم الأمم الماضية فجعلهم سبحانه وتعالى في انتظارنا تشريفاً لنا وأيضاً جعلنا آخر الأمم لنكون يوم القيامة شهداء على جميع الأمم الماضية ويكفي شرفاً لهذه الأمة المرحومة ما قال صلى الله عليه وسلّم في حق علمائهم "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وذكر الراغب الأصفهاني في "المحاضرات" : أنه قال الإمام الشاذلي صاحب حزب البحر : اضطجعت في المسجد الأقصى فرأيت في المنام قد نصب تخت خارج الأقصى في وسط الحرم فدخل خلق كثير أفواجاً أفواجاً فقلت : ما هذا الجمع؟ فقالوا : جمع الأنبياء والرسل قد حضروا ليشفعوا في حسين الحلاج عند محمد عليه أفضل الصلاة والسلام لإساءة أدب وقعت منه فنظرت إلى التخت فإذا
248
نبينا محمد عليه السلام جالس عليه بانفراده وجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الأرض جالسون مثل إبراهيم وموسى وعيسى ونوح فوقفت أنظر وأسمع كلامهم فخاطب موسى نبينا عليه الصلاة والسلام وقال له : إنك قلت علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فأرنا منهم واحداً فقال : هذا وأشار إلى الإمام الغزالي فسأله موسى سؤالاً فأجابه بعشرة أجوبة فاعترض عليه موسى بأن السؤال ينبغي أن يطابق الجواب والسؤال واحد والجواب عشرة فقال الإمام هذا الاعتراض وارد عليك أيضاً حين سئلت وما تلك بيمينك يا موسى وكان الجواب عصاي فعددت صفات كثيرة قال : فبينما أنا متفكر في جلالة قدر محمد عليه السلام وكونه جالساً على التخت بانفراده والخليل والكليم والروح جالسون على الأرض إذ رفسني شخص برجله رفسة مزعجة فانتبهت فإذا بقيم ثم غاب عني فلم أجده إلى يومي هذا ومن هذا قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
(1/199)
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم اللهم يسر لنا شفاعته.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} مفعول أول لجعلنا {الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ} مفعول ثان له بتقدير موصوف أي : لجهة التي كنت عليها وهي الكعبة لأنه عليه السلام كان مأموراً بأن يصلي إلى الكعبة وهو بمكة ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة ببيت المقدس التي منها يصعد الملائكة إلى السماء ثم أعيد إلى ما كان عليه أولاً والمعنى ما رددناك إلى ما كنت عليه أي : على استقباله والتوجه إليه وما جعلنا ذلك لشيء من الأشياء {إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في التوجه إلى ما أمر به {مِمَّن يَنقَلِبُ} أي : ينصرف ويرجع {عَلَى عَقِبَيْهِ} العقب مؤخر القدم والانقلاب على العقبين مستعار للارتداد والرجوع عن الدين الحق إلى الباطل ومعنى لنعلم ليظهر علمنا على مظاهر الرسول والمؤمنين ويتميز عندهم الثابت على الإسلام الصادق فيه من المتردد الذي يرتد بأدنى سبب لقلته وضعف إيمانه لا أنه لم يعلم حالهم فعلم لأنه تعالى كان عالماً في الأزل بهم وبكل حال من أحوالهم التي تقع في كل زمان من أزمنة وجودهم مقارنة للزمان الذي تقع فيه تلك الحال وكل من يعلم شيئاً فإنما يعلم بأن يظهر ذلك العلم فيه ويقرب من هذا ما قيل المعنى ليعلم رسول الله والمؤمنون وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده هذا هو المعنى الذي اختاره القاشاني في تأويلاته وزيف ما عداه والعلم في قوله لنعلم بمعنى المعرفة أي : لنعرف الذي يتبع الرسول فلا يحتاج إلى مفعول ثان.
فإن قيل إن الله لا يوصف بالمعرفة فلا يقال الله عارف فكيف يكون العلم بمعنى المعرفة هنا.
قلت : إنما لا يوصف بها إذا كانت بمعناها المشهور وهو الإدراك المسبوق بالعدم وأما إذا كانت بمعنى الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين فيجوز أن يوصف الله بها وقوله ممن ينقلب حال من فاعل يتبع أي : متميزاً منه {وَإِن كَانَتْ} أي : القبلة المحولة {لَكَبِيرَةٌ} أي : شاقة ثقيلة على من يألف التوجه إلى القبلة المنسوخة فإن الإنسان ألوف لما يتعوده يثقل عليه الانتقال منه وإن هي المخففة من المثقلة واسمها محذوف وهو القبلة واللام هي الفارقة بينها وبين الناقة كما في قوله تعالى : {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} (الإسراء : 108) {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي : هداهم إلى حكمة الإحكام وأرشدهم وعرفهم أن ما كلفه عباده متضمن لحكمة لا محالة وإن لم يهتدوا إلى خصوصية تلك الحكمة بعينها فتيقنوا بذلك أن السعيد الفائز من أطاع ربه
249
الحكيم وأن الشقي الخاسر من عصى ربه العليم ثم بين أنهم مثابون على ذلك الثبات والاتباع وأن ذلك غير ضائع منهم فقال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ} مريداً {لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ} أي : ثباتكم على التصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام من غير أن ترتابوا في شيء من ذلك {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ} متعلق برؤوف {لَرَءُوفٌ} أي : ذو مرحمة عظيمة لهم حيث نقلهم برحمته من ذلك إلى هذا وهو أصح لهم {رَّحِيمٌ} يغفر ذنوبهم بالإيمان وإيصال الرزق ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
فروماند كانرا برحمت قريب
تضرع كنانرا بدعوت مجيب
ـ روي ـ أنه أخذ بعض أمراء الكفار وكان جائراً قاتلاً في زمن داود عليه السلام فصلب فوق الجبل عشاء ورجع الناس إلى منازلهم وبقي هذا على الخشبة وحده وتضرع إلى آلهته فلم يغنوا عنه شيئاً ثم رجع إلى الله وقال : أنت الله الحق أتيت إليك لتغيثني برحمتك قال تعالى : يا جبريل إن هذا عبد آلهته طويلاً فلم ينتفع ففزع إلي ودعاني فاستجبت له فأهبط إلى الأرض وضعه على الأرض في سلامة وعافية ففعل فلما أصبحوا رأوه وهو حي يصليتعالى فأخبروا داود بذلك فدعا الله فيه مستكشفاً سره فأوحى الله إليه يا داود إني أرحم من آمن بي ودعاني فإن لم أفعل فأي فرق بيني وبين آلهته.
واعلم أن جماعة قد ارتدوا عن الإسلام عند تحويل القبلة لتعلقهم بما سوى الله تعالى وعدم فنائهم في الله ورضاهم بما يجيء عليهم من القضاء فأخذتهم الكدرة كالسيل وأما الذين سعدوا سعادة أزلية فلم يتعلقوا في الحقيقة بيت المقدس ولا بالكعبة بل الرب الخالق لهما ولغيرهما وفنوا عن إرادتهم فجاءت إرادة الله لهم كالشهد المصفى فأخذهم السرور والصفا ، قال الصائب :
مهياي فنارا ازعلايق نيست روايى
نيند يشد زخار آنكس كه دامان بركمر دارد
(1/200)
ذكر أن أبا القاسم الجنيد البغدادي لما رأوه في وادي الوله : ظنوا أنه مرض أو جنّ فجعلوه في دار الشفاء فزاره بعض من يدعي حبه فقال لهم : من أنتم؟ فقالوا : نحن أحباؤك فرماهم بالأحجار ففروا من عنده وقالوا : قد غلب عليه الجنون فقال : تدعون الحب بأقوالكم وقد يكذبها أفعالكم فالمحب من أسره ما أصابه من الحبيب فلذلك قد عد أشد البلاء عند الأنبياء والأولياء ألذ من الحلوى فاكتسبوا حلل التسليم والاصطبار وغاصوا في لجج المكاشفات والمشاهدات واشتغلوا مع الجنان واللسان بالتوحيد وذكر الملك المنان حتى عدوا الالتفات إلى غيره ولو بأكل لقمة من الموانع فلذلك ارتقوا في الفناء والبقاء إلى غاية المبتغى ولما قال موسى عليه السلام : رب أرني أنظر إليك قال : يا موسى تراني في البساط الفاني اصبر حتى أجعله باقياً حتى تراني يا موسى رعيت غنم شعيب عشر سنين أتريد أن تراني بعبادة أربعين يوماً ثم اصطفاه وأعطاه ما أعطاه فلما رجع إلى قومه رأى في الطريق الجبل الأعلى فسأل عنه متعجباً فقال الجبل : يا موسى كنت ترعى الغنم فيّ وعلى رأسك قلنسوة وفي يدك عصا فالله الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه لقد جعلني الأعلى بفضله وإنعامه اللهم اجعلنا على صراطك المستقيم واتباع رسولك الكريم واهدنا التوجه إلى كعبة ذاتك والانجذاب إليك والوصول إلى مشاهدتك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
{قَدْ} لفظ قد في المضارع للتقليل وقد استعمل ههنا للتكثير بطريق الاستعارة للمجانسة بين الضدين في الضدية {نَرَى} مستقبل لفظاً ماض معنى ومتأخر تلاوة متقدم معنى لأنها رأس القصة والمعنى
250
شاهدنا وعلمنا {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} أي : تردد وجهك في تصرف نظرك {فِي السَّمَآءِ} أي : في جهتها تطلعاً للوحي وكان عليه السلام يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان من حيث أنها كانت مفخرة لهم وأمناً ومزاراً ومطافاً ولمخالفة اليهود فإنهم كانوا يقولون : إنه يخالفنا في ديننا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم حتى روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال لجبريل "وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" فقال له جبريل : أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فادعُ ربك وسله ثم ارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه فأنزل الله هذه الآية وأول ما نسخ من المنسوخات هو خمسون صلاة نسخت إلى خمس للتخفف ثم تحويل القبلة إلى بيت المقدس بمكة امتحاناً للمشركين بعد أن كان للمصلي أن يتوجه حيث شاء لقوله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ثم تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة بالمدينة امتحاناً لليهود كذا في "تفسير الفاتحة" للمولى الفناري {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً}
جزء : 1 رقم الصفحة : 250
(1/201)
أي : فوالله لنعطينكها ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا أي : صيرته والياً له وولي الرجل ولاية أي : تمكن منه أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس من وليه ولياً أي : قربه ودنا منه وأوليته إياه ووليته أي : أدنيته منه {تَرْضَـاهَا} مجاز عن المحبة والاشتياق لأنه عليه السلام لم يكن ساخطاً للتوجه إلى بيت المقدس كارهاً له غير راض أي : تحبها وتتشوق إليها لا لهوى النفس والشهوة الطبيعية بل لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي : اصرف وجهك أي : اجعل وجهك بحيث يلي شطره ونحوه والمراد بالوجه ههنا جملة البدن لأن الواجب على المكلف أن يستقبل القبلة بجملة بدنه لا بوجهه فقط ولعل تخصيص الوجه بالذكر التنبيه على أنه الأصل المتبوع في التوجه والاستقبال والمتبادر من لفظ المسجد الحرام هو المسجد الأكبر الذي فيه الكعبة والحرام المحرم أي : المحرم فيه القتال أو الممنوع من الظلمة أن يتعرضوا له وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة باتفاق بين الحنفية والشافعية لأن استقبال عينها للبعيد متعذر وفيه حرج عظيم بخلاف القريب {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} أي : في أي : موضع كنتم من الأرض من بحر أو بر شرق أو غرب وأردتم الصلاة {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فإنه القبلة إلى نفخ الصور أمر لجميع المؤمنين بذلك بعدما أمر به النبي عليه السلام تصريحاً بعمومه لكافة العباد من كل حاضر وباد حثاً للأمة على المتابعة {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} من فريقي اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي : التحويل إلى الكعبة {الْحَقِّ} أي : الثابت كائناً {مِّنْ رَّبِّهِ} لما أن المسطور في كتبهم أنه عليه السلام يصلي إلى القبلتين بتحويل القبلة إلى الكعبة بعدما كان يصلي إلى بيت المقدس ومعنى من ربهم أي : من قبله تعالى لا شيء ابتدعه الرسول صلى الله عليه وسلّم من قبل نفسه فإنهم كانوا يزعمون أنه من تلقاء نفسه {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} خطاب للمسلمين واليهود جميعاً على التغليب فيكون وعداً للمسلمين بالإثابة وجزيل الجزاء ووعيداً وتهديداً لليهود على عنادهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 250
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ} برهان
251
قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق {مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} عناداً ومكابرة وهذا في حق قوم معينين علم الله أنهم لا يؤمنون فإن منهم من آمن وتبع القبلة {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسم لأطماعهم إذ كانوا تناجوا في ذلك وقالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل فريق فيما هو فيه فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} جمع هوى وهو الإرادة والمحبة أي : ولئن وافقتهم في مراداتهم بأن صليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصاً على إيمانهم {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي : من بعد ما علمت بالوحي القاطع أن قبلة الله هي الكعبة {إِنَّكَ إِذًا} حرف جواب وجزاء توسطت بين اسم إن وخبرها لتقرير ما بينهما من النسبة {لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ} أي : المرتكبين الظلم الفاحش وهذه الجملة الشرطية الفرضية واردة على منهاج التهييج والإلهاب للثبات على الحق.
وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن متابعة الهوى فإن من ليس من شأنه ذلك إذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام في سلك الراسخين في الظلم فما ظن من ليس كذلك ، قال في "المثنوي" :
تازه كن إيمان نه از كفت زبان
أي : هوارا تازه كرده در نهان
تاهوا تازه است إيمان تازه نيست
كين هوا جز قفل آن دروازه نيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 250
(1/202)
{الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} إيتاء فهم ودراسة وهم الأحبار {يَعْرِفُونَهُ} أي : الرسول صلى الله عليه وسلّم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} أي : يعرفونه صلى الله عليه وسلّم بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم وتخصيصهم بالذكر دون ما يعم البنات لكون الذكور أشهر وأعرف عندهم منهن وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.
فإن قيل : لِمَ لم يقل كما يعرفون أنفسهم؟ مع أن معرفة الشخص نفسه أقرب إليه من معرفة سائر الأشياء : فالجواب ما قال الراغب : لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره ويعرف ولده من حين وجوده {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ} هم الذين كابروا وعاندوا الحق {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأن الكعبة قبلة الله والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يظهرون الحق ولا يكتمونه وأما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما في تضاعيفه فما هم بصدد الإظهار ولا بصدد الكتم وإنما كفرهم على وجه التقليد.
{الْحَقِّ} الذي أنت عليه يا محمد {مِن رَّبِّكَ} خبر لقوله الحق {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي : الشاكين في كون الحق من ربك هذا خطاب له صلى الله عليه وسلّم والمقصود خطاب أمته ونهيهم عن الامتراء ومعنى نهي الأمة عن الامتراء أمرهم بضده الذي هو اليقين وطمأنينة القلب.
قال القشيري حملهم مستكنات الحسد وسوء الاختيار على مكابرة ما علموا بالاضطرار وكذلك المغمور في ظلمات نفسه يلقي جلباب الحياء فلا ينجع فيه ملام ولا يرده عن انهماكه كلام.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتادة أفندي : عندنا ثلاث مراتب :
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
إحداها : مرتبة التقليد
252
وهي لعامة الناس.
والثانية : مرتبة التحقيق والإيقان وهي للمجتهدين كالأئمة الأربعة ومن يحذو حذوهم.
والثالثة : مرتبة المشاهدة والعيان فهي للكمل من أهل السلوك قال : وإذا لم تتطهر النفس من الأخلاق الرديئة لا تحصل المعارف الإلهية وإن كان كاملاً في العقل والعلوم ألا يرى أن الشيطان مع عقله وعلمه كيف استكبر وعصى أمر الله تعالى لما في نفسه من الكبر والحسد وكذلك حال أهل الكتاب في أمر القبلة وشأن النبي صلى الله عليه وسلّم حيث لم ينفع العلم والمعرفة لخبث باطنهم فلا بد من تزكية النفوس وتصفية القلوب والاستقامة في باب الحق إلى أن يأتي اليقين.
ـ حكي ـ أن يونس خدم شيخه طبق أمره ثلاثين سنة بالصدق حتى تورم ظهره من نقل الحطب فلم يظهر وكان شيخه نظر له فثقل ذلك على سائر الطالبين وقالوا : إنه يخدم الشيخ على محبة بنته حتى تكلموا في ذلك الشيخ فلما أتى بالحطب قال شيخه : نعم الحطب المستقيم يا يونس فقال : إن غير المستقيم لا يليق بهذا الباب وما تكلموا في حقه ليس على وجه النفاق بل لما رأوا أنهم لا يتحملون ما يتحمل يونس أشكل عليهم الأمر فحملوه على حب البنت وسؤال الشيخ أيضاً وجواب يونس بهذا الوجه إنما كان لإرشادهم وإزالة شبههم وإلا فالشيخ كان يعرف أحوال يونس ولم يحصل له سوء ظنّ من كلامهم لأن من كان مرشداً لا يعرف حال المريد بكلام الغير في المدح والذم ثم زوج الشيخ بنته له وقال حتى لا يكون الإخوان كاذبين ولا يحصل لهم الخجالة وكانت البنت متى قرأت القرآن يقف الماء فلم يمسها يونس إلى آخر عمره وقال : أنا لا أليق بها فللسالك في مرتبة الطبيعة أن يترك مقتضاها ويقتصر على قدر الكفاية من الأكل والشرب ولا يتقيد بتدارك ما تشتهيه طبيعته فإن الخير في مخالفتها ومن تربية النفس أن يجتنب عن حب الأموال والأولاد فإنهما فتنة ومعينان لها على كبرها بكثرتهما وأكثر الأنفس لا تحب صرفها بل تدخرها ليزداد استكبارها وقد قال تعالى : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 89) فما دام لم تصلح الطبيعة والنفس لا يصل الطالب إلى مطلوبه ففي الحج إشارة إلى ذلك فإن قاصد البيت المكرم يترك استراحة بدنه ويبذل ماله إلى أن يصل إلى مشاهدته فكذلك قاصد رب البيت يفنى عن جميع ما سواه ويكون في توجهه وحدانياً هيولانياً حتى يشاهد ببصيرته ما يشاهد فالصلاة مستقبلاً إلى شطر المسجد الحرام عين التوجه إلى الذات الأحدية لأن الكعبة مثال صوري لحضرته تعالى وإن المراد من الاستقبال إليها الإقبال إليه تعالى مع أنه لا يتقيد التوجه حقيقة لكن الاستقبال صورة رعاية للأدب ودور مع الأمر الإلهي فإنتعالى في كل شيء حكمة ومصلحة ومن تخلص من القيود وانجذب إلى الرب المعبود فقد تجلى له قوله : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة : 115) وظهر له سر الظاهر والمظهر :
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
عاشقي ديد از دل ر تاب
حضرت حق تعالى اندر خواب
دامنش را كرفت آن غمخور
كه ندارم من از تو دست دكر
ون بر آمدز خواب خوش درويش
(1/203)
ديد محكم كرفته دامن خويش
فطوبى لمن دار مع الأمر الإلهي وسلم من الاعتراض وتخلص من الانقباض وفني عن إضافة
253
الوجود إلى نفسه وبقي بربه وبكمالاته اللهم اجعلنا من المهديين إلى هذه الرتبة العظمى والكعبة العليا واصرفنا في مسالكنا عن الانحراف إلى شيء من الآخرة والدنيا.
{وَلِكُلٍّ} أي : لكل أمة من الأمم أعني المسلمين واليهود والنصارى {وِجْهَةٌ} أي : قبلة وجهة {هُوَ} راجع إلى كل {مُوَلِّيهَا} أي : محول وموجه إلى تلك الجهة وجهه فقبلة كل أمة من أهل الأديان المختلفة مغايرة لقبلة الأمة الأخرى {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي : إلى الخيرات بنزع الجار والمراد جميع أنواع الخيرات من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين والمعنى لكل أمة قبلة يتصلبون في التوجه إليها بحيث لا ينصرفون عنها إلى القبلة الحق وإن أتيتهم بكل آية دالة على أن القبلة هي الكعبة وإذا كان الأمر كذلك فاستبقوا أنتم وبادروا إلى الفعلات الخيرات وهي ما ثبت أنه من الله تعالى ولا تقتفوا أثر المكابرين المستكبرين الذين يتبعون أهواءهم ويلقون الحق وراء ظهورهم فإنهم إنما يستبقون إلى الشر والفساد إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
قال بعض أهل الحقيقة : معناه كل قوم اشتغلوا بغيرنا عنا وأقبلوا على غيرنا فكونوا معاشر العارفين لنا واشتغلوا بنا عن غيرنا فإن مرجعكم إلينا كما قال تعالى : {أَيْنَمَا} أي : في أي موضع {تَكُونُوا} أنتم وأعداؤكم {يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يحشركم الله إلى المحضر للجزاء ويفصل بين المحق والمبطل فهو وعد لأهل الطاعة ووعيد لأهل المعصية {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} أي : من أي مكان وبلد خرجت إليه للسفر {فَوَلِّ وَجْهَكَ} عند صلاتك {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} تلقاءه فإن وجوب التوجه إلى الكعبة لا يتغير بالسفر والحضر حالة الاختيار بل الحكم بالأسفار مثله حالة الإقامة بالمدينة {وَإِنَّهُ} أي هذا المأمور به وهو تحويل القبلة إلى الكعبة {لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أي الثابت الموافق للحكمة {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو وعد للمؤمنين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 254
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} إليه في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} أيها المؤمنون من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} من محالكم {شَطْرَهُ} كرر هذا الحكم وهو التحويل وتولية الوجه شطر المسجد لما أن القبلة لها شأن خطير والنسخ من مظان الشبهة والفتنة وتسويل الشيطان فبالحري أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى مع أنه قد ذكر في كل مرة حكمة مستقلة {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} متعلق بقوله فولوا والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة واحتجاج العرب بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وقوله عليكم في الأصل صفة حجة فلما تقدم عليها امتنع الوصفية لامتناع تقدم الصفة على الموصوف فانتصب على الحالية {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} استثناء من الناس أي : لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ولا لأحد من العرب من أهل مكة إلا للمعاندين منهم الذين قالوا : بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع أنها أفحش الأباطيل لأنهم كانوا يسوقونها مساقها ويوردونها موقعها
254
(1/204)
فسميت حجة مجازاً تهكماً بهم {فَلا تَخْشَوْهُمْ} فلا تخافوهم في توجهكم إلى الكعبة ومظاهرهم عليكم لسببه فإن مطاعنهم لا تضركم شيئاً {وَاخْشَوْنِى} بامتثال أمري فلا تخالفوا أمري وما رأيته مصلحة لكم فإني ناصركم {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} علة لمحذوف أي : أمرتكم بتولية الوجوه شطره لاتمامي النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة وما وقع من أوامر الله تعالى وتكاليفه وائتمار المكلف بالتوجه إلى حيث وجهه الله تعالى وإن كان نعمة يتوصل به إلى الثواب الجزيل إلا أن أمره تعالى بالتوجه إلى قبلة إبراهيم تمام النعمة في أمر القبلة فإن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلونه فلما وجهوا إلى قبلته بعد ما صرفوا عنها لمصلحة حادثة فقد أصابوا تمام النعمة في أمر القبلة فإن نعمة الله تعالى على عباده ضربان موهوب ومكتسب فالموهوب نحو صحة البدن وسلامة الأعضاء وغيرهما والمكتسب نحو الإيمان والعمل الصالح بامتثال الأوامر والاجتناب عن المناهي فإن ذلك كله يؤدي إلى سعادة الدارين {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي : ولإرادتي اهتداءكم إلى شعائر الملة الحنيفية وشرائع الدين القويم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 254
{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ} متصل بما قبله أي : ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة إتماماً كائناً كإتمامي لها بإرسال رسول كائن منكم وهو محمد صلى الله عليه وسلّم فإن إرسال الرسول لا سيما المجانس لهم نعمة لم تكافئها نعمة قط {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِنَا} وهو القرآن العظيم {وَيُزَكِّيكُمْ} أي : يحملكم على ما تصيرون به أزكياء طاهرين من دنس الذنوب المكدرة لجوهر النفس لأن شأن الرسل الدعوة والحث على أعمال يحصل بها طهارة نفوس الأمة من الشرك والمعاصي لا تطهيرهم إياهم بمباشرتهم من أول الأمر {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـابَ} أي : ما في القرآن من المعاني والأسرار والشرائع والأحكام التي باعتبارها وصف القرآن بكونه هدى ونوراً فإنه عليه السلام كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه فيبقى على ألسنة أهل التواتر مصوناً من التحريف والتصحيف ويكون معجزة باقية إلى يوم القيامة وتكون تلاوته في الصلاة وخارجها نوعاً من العبادة والقربة ومع ذلك كان يعلم ما فيه من الحقائق والأسرار ليهتدوا بهداه وأنواره {وَالْحِكْمَةَ} هي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى حكيماً إلا من اجتمع له الأمران كذا قال الإمام : من أحكمت الشيء أي : رددته عما لا يعنيه وكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ.
واعلم أن العمل بالقرآن متفرع على معرفة معناه وهو متفرع على معرفة ألفاظه والتزكية غاية أخيرة لأنها متفرعة على العمل لكنها قدمت في الذكر نظراً إلى تقدمها في التصور {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} قال الراغب : إن قيل ما معنى ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون وهل ذلك إلا الكتاب والحكمة قيل عني بذلك العلوم التي لا طريق إلى تحصيلها إلا من جهة الوحي على ألسنة الأنبياء ولا سبيل إلى إدراك جزئياتها وكلياتها إلا به وعنى بالحكمة والكتاب ما كان للعقل فيه مجال في معرفة شيء منه وأعاد ذكر ويعلمكم مع قوله ما لم تكونوا تعلمون تنبيهاً على أنه مفرد عن العلم المتقدم ذكره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 255
{فَاذْكُرُونِى} بالطاعة لقوله عليه السلام : "من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وقراءته القرآن ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وقراءته القرآن" {أَذْكُرْكُمْ} بالثواب واللطف والإحسان وإفاضة الخير
255
وفتح أبواب السعادات وأطلق على هذا المعنى الذكر الذي هو إدراك مسبوق بالنسيان والله تعالى منزله عن النسيان بطريق المجاز والمشاكلة لوقوعه في صحبة ذكر العبد {وَاشْكُرُوا لِي} على ما أنعمت عليكم من النعم والذكر والطاعة هو الشكر فقوله واشكروا لي أمر تخصيص شكرهم به تعالى لأجل أفضاله وإنعامه عليهم وأن لا يشكروا غيره.
(1/205)
وجعل صاحب "التيسير" قوله تعالى : فاذكروني أمراً بالقول وقوله : واشكروا لي أمراً بالعمل.
قال الراغب : إن قيل ما الفرق بين شكرت لزيد وشكرت زيداً قيل : شكرت له هو أن تعتبر إحسانه الصادر عنه فتثني عليه بذلك وشكرته إذا لم تلتفت إلى فعله بل تجاوزت إلى ذكر ذاته دون اعتبار أحواله وأفعاله فهو أبلغ من شكرت له وإنما قال : واشكروا لي ولم يقل واشكروني علماً بقصورهم عن إدراكه بل عن إدراك آلائه كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} (إبراهيم : 34) فأمرهم أن يعتبروا بعض أفعاله في الشكر{وَلا تَكْفُرُونِ} بجحد النعم وعصيان الأمر.
فإن قيل : لم قال بعد واشكروا لي ولا تكفرون ولم يقتصر على قوله واشكروا لي.
قلنا لو اقتصر على قوله واشكروا لي لكان يجوز أن يتوهم أن من شكره مرة أو على نعمة ما فقد امتثل ولو اقتصر على قوله ولا تكفرون لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهي عن تعاطي فعل قبيح دون حث على الفعل الجميل فجمع بينهما لإزالة هذا التوهم ولأن في قوله ولا تكفرون تنبيهاً على أن ترك الشكر كفران.
فإن قيل : لم قال ولا تكفرون ولم يقل ولا تكفروا لي؟ قيل : خص الكفر به تعالى بالنهي عنه للتنبيه على أنه أعظم قباحة بالنسبة إلى كفر نعمه فإن كفران النعم قد يعفى عنه بخلاف الكفر به تعالى كذا في "تفسير الراغب" "الأصفهاني".
قال بعض العلماء لما خص الله هذه الأمة بفضل قوة وكمال بصيرة وبالنسبة إلى بني إسرائيل قال لهم : يا بَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} (البقرة : 40) فأمرهم بذكر نعمه المنسية المغفول عنها لينظروا منها إلى المنعم وقال لهذه الأمة {فَاذْكُرُونِى} فأمرهم أن يذكروه بلا واسطة لقوة بصيرتهم ، قال الصائب :
جزء : 1 رقم الصفحة : 255
درسر هرخام طينت نشئة منصور نيست
هرسفالي را صداي كاسه فغفور نيست
قال الإمام الغزالي : الذكر قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤوا كتابه.
وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع : أحدها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ويتفكروا في الجواب عن الشبه العارضة في ملك الله.
وثانيها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل عليهم الفعل.
وثالثها : أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى يصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له.
وأما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة : 9) فصار الأمر بقوله : متضمناً لجميع الطاعات ولهذا ذكر عن سعيد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل
256
فيه جميع أنواع الذكر وأقسامه انتهى كلام الإمام.
قال لقمان لابنه يا بني إذا رأيت قوماً يذكرون الله تعالى فاجلس معهم فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك وإن تك جاهلاً علموك ولعل الله يطلع عليهم برحمته فيصيبك معهم وإذا رأيت قوماً لا يذكرون فلا تجلس معهم فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك وإن تك جاهلاً يزيدوك جهلاً أو غياً ولعل الله يطلع عليهم بسخطه فيصيبك معهم اللهم اجعلنا من الذاكرين.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا} في كل ما تأتون وما تذرون {بِالصَّبْرِ} على الأمور الشاقة على النفس كالصبر عن المعاصي وحظوظ النفس {وَالصَّلَواةِ} التي هي أم العبادات ومعراج المؤمنين ومثاب رب العالمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 255(1/206)
ـ روي ـ أنه صلى الله تعالى عليه وسلم "كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة" وتلا هذه الآية.
وإنما خص الصبر والصلاة بالذكر لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليها لأنها مجمع أنواع الطاعات من الأركان والسنن والآداب والحضور والخضوع والتوجه والسكون وغير ذلك مما لا يتيسر حفظه إلا بتوفيق الله تعالى.
قال عصام الدين قدم الترك على الفعل لأن التخلية قبل التحلية ولهذا قدم النفي في كلمة التوحيد واكتفى بذكر الصلاة لأن الخطاب لكل من المؤمنين والمشترك بين الجميع بعد الإيمان الصبر عن المعاصي والصلاة وأما الزكاة فمختصة بأصحاب النصاب وأما الحج فبأصحاب الاستطاعة والصوم صبر عن معصية الأكل والشرب وغيرهما {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} بالنصرة وإجابة الدعوة فمعنى المعية الولاية الدائمة المستتبعة لهما ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشرون للصبر حقيقة فهم متبوعون من تلك الحيثية.
قال عصام الدين في "التفسير الأجل" إن الله مع الصابرين لأن الصابرين لا يذهلون عن ذكره بخلاف المجتنبين عن الصبر فإن قلوبهم لاهية عن ذكر الله والقلب اللاهي عنه ممتلىء من هموم الدنيا وإن كانت الدنيا بأسرها له انتهى كلامه.
إن قيل : لم قال {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} ولم يقل مع المصلين وقال في الآية الأخرى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِا وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} (البقرة : 45) فاعتبر الصلاة دون الصبر.
قيل لما كان فعل الصلاة أشرف وأعلى من الصبر إذ قد ينفك الصبر عن الصلاة ولا تنفك الصلاة عن الصبر ذكر ههنا الصابرين فمعلوم أنه تعالى إذا كان مع الصابرين فهو لا محالة يكون مع المصلين بطريق الأولى وقال هناك لكبيرة فذكر الصلاة دون الصبر تنبيهاً على أنها أشرف منزلة من الصبر.
واعلم أن الصبر الذي هو تحمل المشاق من غير جزع واضطراب ذريعة إلى فعل كل خير ومبدأ كل فضل فإن أول التوبة الصبر عن المعاصي وأول الزهد الصبر عن المباحات وأول الإرادة الصبر وطلب ترك ما سوى الله تعالى ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد" وقال : "الصبر خير كله" فمن تحلى بحلية الصبر سهل عليه ملابسة الطاعات والاجتناب عن المنكرات وكذا الصلاة قال تعالى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} (العنكبوت : 45) :
جزء : 1 رقم الصفحة : 255
صبر كن حافظ بسختي روز وشب
عاقبت روزي بيابي كام را
وفي الحديث "إذا جمع الله الخلائق نادى منادٍ أين أهل الفضل؟ قال : فيقوم ناس وهم يسيرون سراعاً إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فمن أنتم قالوا نحن أهل الفضل فيقولون ما كان فضلكم؟ قالوا : كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء
257
إلينا عفونا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ، ثم ينادي مناد أين أهل الصبر فيقوم ناس يسيرون سراعاً إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فمن أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الصبر فيقولون : ما كان صبركم قالوا : كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله فيقال لهم : ادخلوا الجنة ثم ينادي مناد أين المتحابّون في الله فيقوم ناس يسيرون سراعاً إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون من أنتم؟ فيقولون : نحن المتحابون في الله فيقولون وما كان تحابكم في الله؟ قالوا : كنا نتحاب في الله والجنة" كذا في "نزهة القلوب".
{وَلا تَقُولُوا} نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً : ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان الناس يقولون : {لِمَن يُقْتَلُ} في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها فأنزل الله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل القتل نقض البنية الحيوانية {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو الجهاد لأنه طريق إلى ثواب الله ورحمته {أَمْوَاتُ} أي : هم أموات {بَلْ أَحْيَآءٌ} أي : كالأحياء في الحكم لا ينقطع ثواب أعمالهم لأنهم قتلوا لنصرة دين الله فما دام الدين ظاهراً في الدنيا وأحد يقاتل في سبيل الله فلهم ثواب ذلك لأنهم سنوا هذه السنة {وَلَـاكِن لا تَشْعُرُونَ} كيف حالهم في حياتهم وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وإنما هي أمر روحاني لا يدرك بالعقل بل بالوحي.
وفي الآية دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه الجمهور.
فإن قلت الحياة الروحانية المستتبعة لإدراك اللذة والألم مشتركة في الجميع فما وجه تخصيص الشهداء بها؟ قلت : لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيد البهجة والكرامة ومن لم يبلغ منزلتهم لا تكون حياته معتداً بها فكأنه ليس بحي قال تعالى في حق أهل النار {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} (طه : 74).
جزء : 1 رقم الصفحة : 255
(1/207)
واعلم أن نفس الإنسان وذاته الذي هو مخاطب مكلف مأمور منهي بأوامر الله ونواهيه جسماني لطيف سار في هذا البدن المحسوس سريان النار في الفحم وماء الورد في الورد وهو الذي يشير إليه كل أحد بقوله : أنا وهو الإنسان حقيقة وهو الولي والنبي والمثاب والمعاقب على أعماله وهو كان في صلب آدم حين سجد له الملائكة وهو الذي سأله الله بقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف : 172) وهو الذي يتوفى في المنام ويخرج ويسرح ويرى الرؤيا فيسر بما يرى أو يحزن فإن أمسكه الله ولم يرجع إلى جسده تبعه الروح والجسد الكثيف المعبر عنه بالبدن والروح السلطاني محل تعينه هو القلب الصنوبري والروح الحيواني محل تعينه هو الدماغ ويقال له القلب والعقل والنفس أيضاً سرى في جميع أعضاء البدن إلا أن سلطانه قوي في الدماغ فهو أقوى مظاهره وهو أي : الروح الحيواني إنما حدث بعد تعلق الروح السلطاني بهذا الهيكل فهو من انعكاس أنوار الروح السلطاني ليكون مبدأ الأفعال لأن الحياة أمر مغيب مستور في الحي لا يعلم إلا بآثارها كالحس والحركة والعلم والإرادة وغيرها وهذا يدور على الروح الحيواني فما دام هذا البخار باقياً على الوجه الذي يصلح أن يكون علاقة بينهما فالحياة قائمة وعند انتفائه وخروجه عن الصلاحية له نزول الحياة ويخرج الروح من البدن خروجاً اضطرارياً وهو الموت الحقيقي وكما يخرج الروح من البدن خروجاً اضطرارياً كذلك قد يخرج منه خروجاً اختيارياً ويعود إليه متى شاء وهو الذي سماه الصوفية بالانسلاخ فقد عرفت من هذا أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الروح جسم لطيف مغاير لهذا الهيكل المحسوس وانكشف لك حال
258
الروح ووقف على أسرار البرزخ وأحوال القبر وما فيه من الألم واللذة الجسمانيين وانحل عندك وجه كونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران فالشهداء أحياء بالحياة البرزخية متنعمون لأنهم أجسام لطيفة كالملائكة فإنهم موجودون أحياء قال المولى الفناري في "تفسير الفاتحة" كل نعيم يتنعم به الصديقون والشهداء والصالحون في البرزخ خيالي وكذا كل عذاب يتألم به الجهنميون ومصداق ذلك أنه إذا نفخ في الصور وبعث الخلق ينسى كل واحد منهم حاله في البرزخ ويتخيل أن ذلك الذي كان فيه منام كما تخيله المستيقظ وقد كان حين مات وانتقل إلى البرزخ كالمستيقظ هناك وأن الحياة الدنيا كانت له كالمنام في الآخرة يعتقد في أمر الدنيا والبرزخ أنه منام في منام وأن اليقظة الصحيحة هي التي هو عليها في الدار الآخرة حيث لا نوم فيها ولا نوم بعدها انتهى كلامه.
قال في "أسئلة الحكم" إن أمور البرزخ والآخرة على النمط الغير المألوف في الدنيا والأرواح بعد الموت ليس لها نعيم ولا عذاب حسي جسماني لكن ذلك نعيم أو عذاب معنوي حتى تبعث أجسادها فترد إليها فتتنعم عند ذلك حساً ومعنى ألا ترى إلى بشر الحافي قدس سره لما رؤي في المنام قيل له ما فعل الله بك قال : غفر لي وأباح لي نصف الجنة يعني روحه متنعمة بالجنة بما يليق بها في مقامه والنصف الآخر هو الجنة التي يدخلها ببدنه إذا حشر فيكمل النعيم بالنصف الآخر والأكل الذي رآه الميت بعد موته في البرزخ هو كالأكل الذي يراه النائم في النوم والنعيم به مثل النعيم به سواء كما قال عليه السلام : "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وكذلك كل شخص غير أن الفرق بين الرسول وغيره في هذه الصورة أن جسم النبي يبيت جائعاً ويستيقظ وهو شبعان وغير النبي يأكل في منامه وهو جيعان ويستيقظ وهو كذلك وإذا رأى الولي الوارث ذلك وقد وجد أثر الشبع أو الري فذلك من أجزاء النبوة التي وردت في الميراث إذ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وقد رأى ذلك كثير من الأولياء وأصبحوا وعليهم رائحة الطعام الذي أكلوه وشبعوا فهذه وراثة نبوية فقوله عليه السلام : "إني لست كهيئتكم" باعتبار الغالب لا باعتبار الكل فتنعم الشهداء في البرزخ بمرتبة تنعم الولي الوارث في المنام فافهم هذا المقام فإن الجسم المبحوث عنه ههنا هو الجسم اللطيف وتنعم بما يليق بمرتبته في البرزخ سواء عبرت عنه بالخيالي أو بالمعنوي أو بالجسماني أي : المنسوب إلى الجسم اللطيف لا الكثيف فإن اللذة الجسمانية المتعلقة بالجسد الكثيف حال الدنيا لا غير.
قيل : يا رسول الله هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال : "نعم من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة".
جزء : 1 رقم الصفحة : 255
(1/208)
وفي "التأويلات النجمية" : الإشارة لا تحسبوا من قتل من أهل الجهاد الأكبر بسيف جلال الله في سبيل الله بالفناء في الله أمواتاً وإن فنيت أوصاف وجودهم فإنهم أحياء بشهود موجدهم ومن كان فناؤه في الله كان بقاؤه بالله فتارة يفنيهم بسطوات تجلى صفات الجلال وتارة يحييهم بنفحات ألطاف الجمال فإنهم يسرحون في رياض الجمال ولكن لا تشعرون بأحوالهم ولا تطلعون عليها.
قال القشيري : لئن فنيت في الله أشباحهم لقد بقيت بالله أرواحهم ، وقال الجنيد : من كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فإنه ينتقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهو الحياة الحقيقية.
وفي "المثنوي" :
مي كند دندان بدرا آن طبيب
تارهد ازدرد وبيمارى حبيب
259
س زيادتها درون نقصها ست
مر شهيدا نرا حيات اندرفناست
كريكي سرراً ببرد از بدن
خلق ازلارسته مرده دربلى
حلق ببريده خورد شربت ولي
خلق ازلار سته مرده دربلي
جزء : 1 رقم الصفحة : 255
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} اللام جواب قسم محذوف أي : والله لنعاملنكم معاملة المبتلي هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أو لا إذ البلاء معيار كالمحك يظهر به جوهر النفس وذلك لنظهر لكم منكم المطيع من المعاصي لا لنعلم شيئاً لم نكن عالمين به {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ} أي : بقليل من خوف الأعداء وإنما قلله لأن ما وقاهم منه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة شيء من {الْجُوعِ} أي : القحط والسنة وإنما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطئوا عليه نفوسهم ويسهل لهم الصبر عليه فإن مفاجأة المكره أشد على النفس من إصابته مع ترقبه {وَنَقْصٍ مِّنَ الامْوَالِ} عطف على شيء أي : وبنقص شيء قليل من ذلك بالسرقة والإغارة وأخذ السلطان والهلاك والخسران {وَالانفُسِ} أي بالقتل والموت أو بالمرض والشيب {وَالثَّمَرَاتِ} أي : وذهاب ثمرات الكروم والأشجار بالبرد والسموم والريح والجراد وغيرها من الآفات وقد يكون نقص الثمرات بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 260
وعن الشافعي رحمه الله : الخوف خوف الله والجوع صوم رمضان والنقص من الأموال الزكاة والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وفي الحديث "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون نعم فيقول الله ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".
قال بعض أهل المعرفة : مطالبات الغيب إما أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب أو بالقلب أو بالروح فمن أجاب بالمال فله النجاة ومن أجاب بالنفس فله الدرجات ومن صبر على فقد الأقارب فله الخلف والقربات ومن لم يؤخر عنه الروح فله دوام المواصلات {وَبَشِّرِ} الخطاب للرسول أو لمن يتأتى منه البشارة لتعظيم الصبر وتفخيمه لأنه فضيلة عظيمة الثواب وخصلة من خصال الأنبياء والأولياء فيستحق صاحبه أن يبشره كل أحد {الصَّـابِرِينَ} على البلايا {الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم} الإصابة ضد الخطأ {مُّصِيبَةٌ} هي ما يصيب الإنسان من مكروه لقوله عليه السلام "كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة" وأصلها الوصول من صاب السهم المرمي وأصابه وصل إليه {قَالُوا إِنَّا} أي : نحن عبيد الله والعبد وما في يده لمولاه فإن شاء أبقاه في أيدينا وإن شاء استرده منا فلا نجزع بما هو ملكه بل نصبر فإن عشنا فعليه رزقنا وإن متنا فإنا إليه راجعون وإليه مردنا وعنده ثوابنا ونحن راضون بحكمه فما أعطانا ربنا كان فضلاً منه ولا يليق بكرمه الارتجاع في عطاياه وإنما أخذه ليكون ذخيرة لنا عنده فقولنا إناإقرار منّا له تعالى بالملك {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار على أنفسنا بالهلك وقيل الرجوع إليه تعالى ليس عبارة عن الانتقال إلى مكان وجهة فإن ذلك على الله محال بل المراد منه أن يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه وذلك هو الدار الآخرة إذ لا حاكم فيها حقيقة وبحسب الظاهر إلا الله تعالى بخلاف دار الدنيا فإن غير الله قد يملك الحكم فيها بحسب الظاهر.
وقول المصاب عند مصيبته إناوإنا إليه راجعون له فوائد.
منها الاشتغال بهذه الكلمة
260
(1/209)
عن كلام لا يليق.
ومنها أنها تسلي قلب المصاب وتقلل حزنه.
ومنها أنها تقطع طمع الشيطان في أن يوافقه في كلام لا يليق.
ومنها أنه إذا سمعه غيره اقتدى به.
ومنها أنه إذا قال ذلك بلسانه يتذكر بقلبه الاعتقاد الحسن والتسليم لقضاء الله وقدره فإن المصاب يدهش عند المصيبة فيحتاج إلى ما يذكر له التسليم المذكور وفي الحديث "ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول : إناوإنا إليه راجعون اللهم أجرني من مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها".
قال سعيد بن جبير : ما أعطى أحد في المصيبة ما أعطى هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيه أحد لأعطى يعقوب ألا تسمع إلى قوله في قصة فقد يوسف يا اأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} (يوسف : 84) وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بأن يتصور ما خلق لأجله وهو الانقيادتعالى في جميع ما كلفه به من التكاليف والتسليم لقضاء الله وقدره في جميع ما أخذه وأعطاه فإن من اختصتعالى ملكاً وملكاً كيف ينازعه في ملكه ولا يرضى بقضائه وملاحظة أن ما في عالم الملك كلهتعالى يذكر نعم الله وتذكرها يستلزم العلم بأن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه والمبشر به محذوف دل عليه قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 260
{أُوالَـائِكَ} أي : الصابرون الموصوفون بما ذكر {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} كائنة {مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} أي : رحمة ووجه الجمع في الصلوات الدلالة على الكثرة والتكرير واستغنى بتنكير التعظيم في رحمة عن إيرادها بلفظ الجمع ويندرج في رحمته تعالى إيصال المسار ودفع المضار في الدنيا والآخرة وجمع بين الصلاة والرحمة للإيذان بأن رحمته غير منقطعة فالمعنى عليهم فنون الرحمة المتوالية الفائضة من مالك أمورهم ومبلغهم إلى كمالاتهم اللائقة بهم.
قال بعضهم : الصلاة من الله المدح والثناء والتعظيم والرحمة اللطف والإحسان فلا تكرار {وَأُوالَـائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه لأن أخرّ من السماء أحب إلى من أن أقول في شيء قضاه الله ليته لم يكن.
وقال علي رضي الله عنه : من ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقد حبط أجره أي : بطل ثوابه.
قيل المكاره التي تصيب الإنسان إذا أصابته من قبل الله تعالى يجب الصبر عليها لأن ما جاء من جهة العدل الحكيم ليس إلا مقتضى عدله وحكمته فيجب عليه أن يرضى لعلمه بأنه تعالى لا يقضي إلا بالحق وإن أصابته من جهة الظلمة فلا يجب عليه أن يصبر عليها بل جاز له أن يمانعه بل يحاربه وإن قتل بمحاربته يكون شهيداً.
واعلم أن البلاء سبب للتصفية كما قال عليه السلام : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" أي : ما صفي نبي مثل ما صفيت والوفاء والجفاء سيان عند العشاق كما قال :
صائب شكايت از ستم يار ون كند
هرجاكه عشوه هست وفا وجفا يكيست
قال الحسن رضي الله عنه : سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "يا بني عليك بالقنوع تكن من أغنى الناس وأداء الفرائض تكن من أعبد الناس يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان يصب عليهم الأجر صبا ثم قرأ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" ولو لم يكن في الصبر إلا حكاية الطير الذي في عهد سليمان عليه السلام لكفى.
وذلك أن طيراً في عهد سليمان عليه السلام
261
كان له صوت حسن وصورة حسنة اشتراه رجل بألف درهم وجاءه طير آخر فصاح صيحة فوق قفصه وطار فسكت الطير وشكا الرجل إلى سليمان عليه السلام فقال : أحضروه فلما أحضروه قال سليمان عليه السلام لصاحبك عليك حق حتى اشتراك بثمن غال فلِمَ سكت؟ فقال : يا نبي الله قل له حتى يرفع قلبه عني إني لا أصيح أبداً ما دمت في القفص قال : لِمَ؟ قال : لأن صياحي كان من الجزع إلى الوطن والأولاد وقال لي ذلك الطير إنما حبسك لأجل صوتك فاسكت حتى تنجو فقال سليمان عليه السلام للرجل ما قال الطير؟ فقال الرجل : أرسله يا نبي الله فإني كنت أحبسه لصوته فأعطاه سليمان عليه السلام ألف درهم ثم أرسل الطير ثم طار وصاح سبحان من صورني وفي الهواء طيرني ثم في القفص صبرني ثم قال سليمان عليه السلام : إن الطير ما دام في الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه ومثل هذا في الحقيقة إشارة إلى الفناء عن أوصاف النفس فإن المرء ما لم يمت باختياره قبل اضطراره لا يصل إلى الحياة الحقيقية.
قال في "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 261
دانه باشي مرغكانت برنند
غنجه باشي كود كانت بركنندهركه كرد أو حسن خودرا درمزاد
صد قضاي بد سوى أورونهاد
تن قفس شكلست وتن شد خارجان
در فريب داخلان وخارجان قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : لا بدَّ من نفي الأنية واضمحلال الوجود في بحر الوجود الحقيقي حتى يتم المقصود ويحصل.
قال الصائب :
ترك هستي كن كه اسودست از تاراج سيل
(1/210)
هركه يش ازسيل رخت خود برون ازخانه ريخت
قال حضرة الشيخ افتاده أفندي قدس سره : العبور عن المراتب محله مرتبة يقال لها وادي الحيرة يعرف السالك فيها مطلوبه ولكن لا يقدر على الوصول فيدور في ذلك الوادي بالحيرة والحرارة ويحرق الأنية بتلك الحرارة ويقال له وادي الحيرة لأن السالك يتحير ولا يقدر على الذهاب والرجوع وقوله عليه السلام : "اللهم زدني حيرة" إشارة إلى ذلك وتلك المرتبة لا تتيسر لكثير والعبور عنها لا يمكن إلا بإرشاد مرشد كامل اللهم هيئنا لتجليات أسمائك وصفاتك وأفض علينا من كاسات مشاهدات كمال ذاتك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 261
{إِنَّ الصَّفَا} علم لجبل بمكة وسمي الصفا لأنه جلس عليه آدم صفى الله {وَالْمَرْوَةَ} علم لجبل في مكة أيضاً وسمي المروة لأنها جلست عليها امرأة آدم حواء عليهما السلام {مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} جمع شعيرة بمعنى العلامة أي : من أعلام طاعة فإن كل واحد من المواقف والمساعي والمنحر جعله الله تعالى علامة لنا نعرف به العبادة المختصة به.
ـ روي ـ أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف وصنم على المروة على صورة امرأة يقال لها نائلة يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا بين الصفا والمروة مسحوهما تعظيماً لهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأنه فعل الجاهلية فأذن الله تعالى في الطواف بينهما وأخبر أنهما من شعائر الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 262
والحكمة في شرعية السعي بين الصفا والمروة ما حكي أن هاجر لما ضاق عليها الأمر في عطشها وعطش إسماعيل سعت في هذا المكان إلى أن صعدت الجبل ودعت فأنبع الله لها زمزم
262
(1/211)
وأجاب دعاءها فجعلها طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.
وفي الخبر "الصفا والمروة بابان من الجنة وموضعان من مواضع الإجابة ما بينهما قبر سبعين ألف نبي وسعيهما يعدل سبعين رقبة" {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} الحج في اللغة القصد والعمرة الزيارة وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أي : لا إثم عليه وأصله من جنح أي : مال عن القصد والخير من الشر {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي : في أن يطوف بهما ويدور فأزال عنهم الجناح لأنهم توهموا أن يكون في ذلك جناح عليهم لأجل فعل الجاهلية وهو لا ينافي كون هذا الطواف واجباً كما عند الحنفية لأن قولنا لا إثم في فعل أمر كذا يصح إطلاقه على الواجب وأصل يطوف يتطوف وفي إيراد التفعل إيذان بأن من حق الطائف أن يتكلف في الطواف ويبذل فيه جهده {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} أصل التطوع الفعل طوعاً لا كرهاً كأنه قيل : من فعل أو أتى ما يتقرب به طائعاً فنصب خيراً بتضمين تطوع فعلاً يتعدى بنفسه أو التطوع بمعنى التبرع من قولهم طاع يطوع أي : تبرع فكأنه قيل من تبرع بما لم يفرض عليه من القربات مطلقاً فانتصاب خيراً حينئذٍ على إسقاط حرف الجر أي : من تطوع تطوعاً بخير {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} له أي : مجاز بعمله فإن الشاكر في وصف الله تعالى بمعنى المجازي على الطاعة بالإثابة عليها.
قال ابن التمجيد في "حواشيه" : الشكر من الله بمعنى الرضى عن العبد والإثابة لازم الرضى والرضى ملزوم الشكر فالشكر مجاز في معنى الرضى ثم التجوز منه إلى معنى الإثابة مجاز في المرتبة الثانية {عَلِيمٌ} بطاعة المتطوع ونيته فيها.
وفي الآية حث على نوافل الطاعات كما على فرائضها فمن أتى بنافلة واحدة فإن الله شاكر عليم فكيف بأكثر منها فبالصوم تحصيل قهر النفس وبالزكاة تزكيها وبالصلاة المعراج الروحاني وبالحج الوصول.
وعن سفيان الثوري قال : حججت سنة ومن رأيي أن انصرف من عرفات ولا أحج بعد هذا فنظرت في القوم فإذا أنا بشيخ متكىء على عصا وهو ينظر إلي ملياً فقلت السلام عليك يا شيخ قال : وعليك يا سفيان ارجع عما نويت فقلت : سبحان الله من أين تعلم نيتي قال : ألهمني ربي فوالله لقد حججت خمساً وثلاثين حجة وكنت واقفاً بعرفات ههنا في الحجة الخامسة والثلاثين انظر إلى هذه الرحمة وأتفكر في أمري وأمرهم أن الله هل يقبل حجهم وحجي فبقيت متفكراً حتى غربت الشمس وأفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة ولم يبق معي أحد وجنّ الليل ونمت تلك الليلة فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت وحشر الناس وتطايرت الكتب ونصبت الموازين والصراط وفتحت أبواب الجنان والنيران فسمعت النار تنادي وتقول : اللهم وق الحجاج حريّ وبردي فنوديت يا نار سلي غيرهم فإنهم ذاقوا عطش البادية وحرّ عرفات ووقوا عطش القيامة ورزقوا الشفاعة فإنهم طلبوا رضاي بأنفسهم وأموالهم قال الشيخ : فانتبهت وصليت ركعتين ثم نمت ورأيت كذلك فقلت في نومي هذا من الرحمن أو من الشيطان فقيل لي بل من الله مدّ يمينك فمددت فإذا على كفي مكتوب من وقف بعرفة وزار البيت شفعته في سبعين من أهل بيته قال سفيان وأراني المكتوب حتى قرأته ثم قال الشيخ : فلم تمر علي منذ حينئذٍ سنة إلا وأنا حججت حتى تمّ لي ثلاث وسبعون حجة كذا في "زهرة الرياض".
قال في "الأشباه والنظائر" بناء الرباط بحيث
263
جزء : 1 رقم الصفحة : 262
ينتفع به المسلمون أفضل من الحجة الثانية والحج تطوعاً أفضل من الصدقة النافلة وحج الفرض أولى من طاعة الوالدين بخلاف النفل وحج الغني أفضل من حج الفقير لأن الفقير يؤدي الفرض من مكة وهو متطوع في ذهابه وفضيلة الفرض أفضل من فضيلة التطوع ، فعلى العاقل أن يقصد بيت الله ويزوره فإن لم يساعده المال فلتساعده الهمة والحال فإن المعتبر هو توجه القلب إلى جانب الغيب لا مجرد توجه القالب.
قال في "المثنوي" :
ميل تو سوى مغيلانست وريك
تا ه كل يني زخار مرده ويك
(1/212)
وفي "التأويلات القاشانية" : {إِنَّ الصَّفَا} وجود القلب {وَالْمَرْوَةَ} وجود النفس {مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} من أعلام دين الله ومناسكه القلبية كاليقين والتوكل والرضى والإخلاص والنفسية كالصبر والشكر والذكر والفكر {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} أي : بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الإلهية بالفناء الكلي الذاتي {أَوِ اعْتَمَرَ} زار الحضرة بالبلوغ إلى مقام المشاهدة بتوحيد الصفات والفناء في أنوار تجليات الجمال والجلال {فَلا جُنَاحَ} فلا حرج {عَلَيْهِ} حينئذٍ في {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي : يرجع إلى مقامهما ويتردد بينهما لا بوجودهما التلويني فإنه جناح وذنب بل بالوجود الموهوب الحقاني بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفى الجناح فإن في هذا الوجود سعة بخلاف الأول {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي : ومن تبرع خيراً من باب التكميل والتعليم والإرشاد وشفقة الخلق في مقام القلب ومن باب الأخلاق وطرف البر والتقوى ومعاونة الضعفاء والمساكين وتحصيل الهمم في مقام النفس بعد كمال السلوك حال البقاء بعد الفناء {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} شكر عمله بثواب المزيد {عَلِيمٌ} بأنه من باب التصرف في الأشياء بالله لا من باب التلوين والابتلاء والفترة انتهى كلام القاشاني :
يا خفي الذات محسوس العطاء
أنت كالماء ونحن كالرّحاء
أنت كالريح ونحن كالغبار
يختفي الريح وغبراه جهار
جزء : 1 رقم الصفحة : 262
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} الآية نزلت في رؤساء اليهود وأحبارهم أو في كل من كتم شيئاً من أحكام الدين وهو الأقرب لأن اللفظ عام وعموم الحكم لا يأبى خصوص السبب والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصداً مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر في موضعه وهو الذي فعله هؤلاء في نعوت النبي صلى الله عليه وسلّم وغيرها {مَآ أَنزَلْنَا} حال كونه {مِنَ الْبَيِّنَـاتِ} أي : من الآيات الواضحة الدالة على أمر محمد عليه السلام وعلى الرجم وتحويل القبلة الحرام والحلال {وَالْهُدَى} أي : والآيات الهادية إلى كنه أمره ووجوب اتباعه عليه السلام والإيمان به {مِّنْ} متعلق بيكتمون {بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ} أي : أوضحناه ولخصناه {لِلنَّاسِ} جميعاً لا الكاتمين فقط {فِي الْكِتَابِ} أي : التوراة وتبيينه لهم إيضاحه بحيث يتلقاه كل أحد من غير أن يكون فيه شبهة.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" : فالمراد بالبينات ما أنزل على الأنبياء من الكتب والوحي دون أدلة العقل وأن قوله والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية وقوله تعالى في حق الهدي من بعد ما بيناه وما لخصناه في الكتاب لا يقتضي اتحادهما وأن يكون العطف لتغاير اللفظين لأن كون ما بيناه في الكتاب كما يجوز أن يكون بطريق كونه من جملة التنزيل يجوز
264
أن يكون بطريق كونه فائدة ملخصة أي : مستفادة منه {أُوالَـائِكَ} أي : أهل هذه الصفة {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي : يطردهم ويبعدهم من رحمته بسبب كتمهم الحق
جزء : 1 رقم الصفحة : 264
{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ} أي : الذين يتأتى منهم اللعن أي : الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما تلاعن اثنان إلا ارتفعت اللعنة بينهما فإن استحقها أحدهما وإلا رجعت على اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام أو اللاعنون البهائم والهوام تلعن العصاة تقول اللهم العن عصاة بني آدم فبشؤمهم منع عنا الفطر {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} من الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب منه الاستثناء متصل والمستثنى منه هو الضمير في يلعنهم {وَأَصْلَحُوا} ما أفسدوا بالتدارك فإنه لا بد بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلاً لو أفسد على غير دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة وبعد ذلك لا بد له من أن يفعل ضد الكتمان وهو البيان وهو المراد بقوله تعالى : {وَبَيَّنُوا} أي : ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم فدلت الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي {فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي : بالقبول وإفاضة الرحمة والمغفرة فإن التوبة إذا أسندت إليه تعالى بأن قيل : تاب الله أو يتوب مكون بمعنى المقبول وقبول التوبة يتضمن المغفرة أي : إزالة عقاب من تاب {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي : المبالغ في قبول التوبة ونشر الرحمة ولما ذكر لعنتهم أحياء ذكر لعنتهم أمواتاً فقال :
(1/213)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : استمروا على الكفر المستتبع للكتمان وعدم التوبة {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} مصرون على كفرهم لا يرتدعون عن حالتهم الأولى {أُوالَـائِكَ} مستقر {لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَـالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي : هم المخصوصون باللعنة الأبدية أحياء وأمواتاً فمن يعتد بلعنتهم وهم المؤمنون لأنهم هم الناس في الحقيقة لانتفاعهم بالإنسانية وأما الكفار فهم كالأنعام وأضل سبيلاً فلا اعتداد بهم عند الله أو الناس عام لأن الكفار يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً والله تعالى يلعنهم يوم القيامة ثم يلعنهم الملائكة ثم تلعنهم الناس والظالم يلعن الظالمين ومن لعن الظالمين وهو ظالم فقد لعن نفسه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 264
{خَـالِدِينَ فِيهَا} حال من المضمر في عليهم أي : دائمين في اللعنة لأنهم خلدوا في النار خلدوا في الإبعاد عن رحمة الله تعالى {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} استئناف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم أي : لا يرفع عنهم ولا يهون عليهم {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} من الإنظار بمعنى الإمهال والتأجيل أي : لا يمهلون للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة أو يعذبون على الدوام والاستمرار وأن كل وجه من وجوه عذابهم يتصل بوجه آخر مثله أو أشد منه وأنهم لا يمهلون ولا يؤجلون ساعة ليستريحوا فيها أو من النظر بمعنى الانتظار أي : لا ينتظرون ليعتذروا أو بمعنى الرؤية أي : لا ينظر إليهم نظر رحمة وإنما خلدوا في النار لأن نيتهم كانت عبادة الأصنام أبداً إن عاشوا فجوزوا بتأبيد العذاب وأما الدركات في النيران فلتفاوت سوء الأحوال والتفاوت في شدة الكفر فيرجع إلى شدة العذاب في الدركات لأن النيات متفاوتة كالأعمال والتأديب في الحكمة واجب ولما أساء الكفار بسوء الاعتقاد في حقه تعالى أدبوا بالحرمان من الجنة والخلود في النار ونعم ما قيل :
سفيها نرا بود تأديب نافع
جنونانرا و شربت كشت دافع
265
وإنما حمل هؤلاء اليهود على ما فعلوا من الكتمان وغيره حب الرياسة والدنيا لأنهم خافوا أن يذهب مأكلتهم من السفلة وما يغني عنهم ذلك شيئاً إذا كان مصيرهم إلى النار.
وفي الخبر أن مؤمناً وكافراً في الزمان الأول انطلقا يصيدان السمك فجعل الكافر يذكر آلهته ويأخذ السمك حتى أخذ سمكاً كثيراً وجعل المؤمن يذكر الله كثيراً فلا يجيء شيء ثم أصاب سمكة عند الغروب فاضطربت فوقعت في الماء فرجع المؤمن وليس معه شيء ورجع الكافر وقد امتلأت شبكته فأسف ملك المؤمن الموكل عليه فلما صعد إلى السماء أراه الله مسكن المؤمن في الجنة فقال : والله ما يضره ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا وأراه مسكن الكافر في جهنم فقال : والله ما يغني عنه ما أصابه في الدنيا بعد أن يصير إلى هذا كذا في "شرح الخطب" :
نركس اندر خواب غفلت يافت بلبل صد وصال
خفته نابينا بود دولت به بيداران حسد
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
ومرتكب المعاصي لو عرف عذاب الجحيم حق المعرفة لما ارتكبها حتى أن من قوي ظنه أنّ في هذه الثقبة حية لا يدخل يده فيها فما ظنك في ارتكاب المعاصي بملاحظة عذاب النار.
واعلم أن أحبار اليهود لما لم ينتفعوا بعلمهم ضلوا فأضلوا فخذلهم الله ولعنهم.
وذكر في الخالصة لن يهلك قوم بظلمهم وإنما أهلكهم ظلم ولاتهم.
قال الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : وكذا الحال في الإرشاد فإن الضلال والفساد في الطالبين من فساد مرشدهم فما دام المرشد على الصراط المستقيم يحفظ الله تعالى الطالب من الضلال فإن نزول البلاء على قوم من فساد رئيسهم.
ـ وحكي ـ أن أمنا حواء أكلت أولاً من الشجرة فلم يقع شيء فلما أكل منها أبونا آدم عليه السلام وقع الخروج من الجنة انتهى فويل لأرباب الرياسة الذين ظلموا أنفسهم وتجاوز ظلمهم إلى من عداهم فإنهم هم الواقعون في عذاب النار نار القطيعة والهجران وجهنم البعد عن الله ورحمته اللهم حفظنا.
{وَإِلَـاهُكُمْ} خطاب عام لكافة الناس أي : المستحق منكم للعبادة {إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} فرد في الإلهية لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمي غيره إلهاً فلا معبود إلا هو وهو خبر مبتدأ وواحد صفة وهو الخبر في الحقيقة لأنه محط الفائدة ألا يرى أنه لو اقتصر على ما قبله لم يفد {لا إله إِلا هُوَ} تقرير للوحدانية وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلهاً ولكن لا يستحق منهم العبادة يعني بهذا فاعرفوه ودائماً فاعبدوه ولا ترجوا غيره ولا تخافوا سواه ولا تعبدوا إلا إياه والاستثناء بدل من اسم لا على المحل إذ محله الرفع على الابتداء والخبر محذوف أي : لا إله كائن لنا أو موجود في الوجود إلا الله.(1/214)
واعلم أن الأسماء على ضربين : اسم ظاهر واسم ضمير وكلمة هو اسم ضمير فكونها ضميراً لا ينافي كونها اسماً وقد حقق الإمام في "التفسير الكبير" : اسمية هذه الكلمة فليراجع وعند أهل الحقيقة كلمة هو اسم بحت لأن كل ما يدل على الذات الأحدية فهو اسم محض عندهم سواء كان مظهراً أو مضمراً ولذا يقال عالم الهوية باللام فاعرف هذا فإنه ينفعك ، وفي "المثنوي" :
از هواها كي رهى بي جام هو
أي ز هو قانع شده با نام هو
هي نامي بي حقيقت ديده
يا ز كاف ولام كل كل يده
اسم خواندي رو مسماراً بجو
مه ببالا دان نه اندر آب جو
266
كرز نام وحرف خواهي بكذري
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
اك كن خودرا زخودهان يكسرى
همو آهن زاهني بي رنك شو
در رياضت آينه بي نك شو
خويش را صافي كن از اوصاف خويش
تا بيبني ذات اك صاف خويش
بيني اندر دل علوم أنبياء
بي كتاب وبي معيد واوستا
علم كان نبود ز هو بي واسطه
آن نايد همو رنك ماشطه
{الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ} أي : المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه مستحق هذه الصفة فإن كل شيء سواه إما نعمة وإما منعم عليه فثبت أن غيره لا يستحق العبادة فلا يكون إلهاً فقوله : الرحمن الرحيم كالحجة على الوحدانية.
وعن أسماء بنت يزيد أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم : والله لا إله إلا هو الحي القيوم" قيل : كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا كيف يسع الناس إله واحد فإن كان محمد صادقاً في توحيد الإله فليئتنا بآية نعرف بها صدقه فنزل قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : في إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من تعاجيب العبر وبدائع الصنايع التي يعجز عن فهمها عقول البشر وإنما جمع السموات وأفرد الأرض لأن كل سماء ليست من جنس الأخرى بين كل سماءين من البعد مسيرة خمسمائة عام أو لأن فلك كل واحدة غير فلك الأخرى والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب.
قال ابن التمجيد في "حواشيه" : وعند الحكماء محدب كل سماء مماس لمقعر ما فوقه غير الفلك التاسع المسمى بالعرش فإن محدبه غير مماس لشيء من الأفلاك لأن ما فوقه خلاء وبعد غير متناه عندنا وعند الحكماء لا خلاء فيه ولا ملاء والعلم عند الله {وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي : في تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا جاء أحدهما جاء الآخر خلفه أي : بعده وفي الزيادة والنقصان والظلمة والنور {وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ} لا ترسب تحت الماء وهي ثقيلة كثيفة والماء خفيف لطيف وتقبل وتدبر بريح واحدة والفلك في الآية جمع وتأنيثه بتأويل الجماعة {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} ما اسم موصول والمصاحبة والجملة في موضع النصب على الحالية من فاعل تجري أي : تجري مصحوبة بالأعيان والمعاني التي تنفع الناس فإنهم ينتفعون بركوبها والحمل فيها للتجارة فهي تنفع الحامل لأنه يربح والمحمول إليه لأنه ينتفع بما حمل إليه {وَمَا} أي : إن فيما {أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ} من لابتداء الغاية أي : من جهة السماء {مِن مَّآءٍ} بيان للجنس فإن المنزل من السماء يعم الماء وغيره والسماء يحتمل الفلك على ما قيل من أن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض ويحتمل جهة العلو سماء كانت أو سحاباً فإن كل ما علا الإنسان يسمى سماء ومنه قيل للسقف سماء البيت
جزء : 1 رقم الصفحة : 267
{فَأَحْيَا بِهِ} عطف على ما أنزل أي : تضر بالماء النازل {الارْضِ} بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي : بعد ذهاب زرعها وتناثر أوراقها باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعها.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" لما حصل للأرض بسبب ما نبت فيها من أنواع النبات حسن وكمال شبه ذلك بحياة الحيوان من حيث أن الجسم إذا صار حياً حصل فيه أنواع من الحسن
267
والنضارة والبهاء والنماء فكذلك الأرض إذا تزينت بالقوة المنبتة وما يترتب عليها من أنواع النبات {وَبَثَّ فِيهَا} أي : فرق ونشر في الأرض {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} من كل حيوان يدب على وجهها من العقلاء وغيرهم وهو معطوف على فأحيا والمناسبة أن بث الدواب يكون بعد حياة الأرض بالمطر لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر {وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ} عطف على ما أنزل أي : في تقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وشمالاً وجنوباً وفي كيفيتها حارة وباردة وفي أحوالها عاصفة ولينة وفي آثارها عقماً ولواقح وقيل في إتيانها تارة بالرحمة وتارة بالعذاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 267
(1/215)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحاً لأنها تريح النفوس.
قال وكيع الجراح : لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا.
قال شريح القاضي : ما هبت الريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح وقال بكر بن عباس : لا تخرج من السحاب قطرة حتى تعمل في السحاب هذه الرياح الأربع فالصبا تهيجه والجنوب تقدره والدبور تلقحه والشمال تفرقه.
وأصول الرياح هذه الأربع فالشمال من ناحية الشام والجنوب تقابلها والصبا هي القبول من المشرق والدبور تقابلها وكل ريح جاءت بين مهب ريحين فهي نكباء لأنها نكبت أي : عدلت ورجعت عن مهاب هذه الأربع.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : الرياح ثمان : أربع رحمة وأربع عذاب فالرحمة الناشرات وهي الرياح الطيبة والمبشرات وهي الرياح التي تبشر بالغيث واللواقح : وهي التي تلقح الأشجار والذاريات : وهي التي تذر والتراب وغيره والعذاب الصرصر والعقيم : وهما في البر والعاصف والقاصف : وهما في البحر والعقيم : هي التي لم تلقح سحاباً ولا شجراً والعاصف : الشديد الهجوم التي تقلع الخيام {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} عطف على تصريف أي : الغيم المذلل المنقاد الجاري على ما أجراه الله تعالى عليه وهو اسم جنس واحده سحابة وسمي سحاباً لأنه ينسحب في الجو أي : يسير في سرعة كأنه يسحب أي : يجر {بَيْنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله تعالى : {سَحَابًا ثِقَالا} (الأعراف : 57) أي : لا ينزل الأرض ولا ينكشف مع أن طبع السحاب يقتضي أحد هذين النزول والانكشاف.
قيل : لأنه لو كان خفيفاً لطيفاً ينبغي أن يصعد ولو كثيفاً يقتضي أن ينزل {لايَـاتٍ} اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها ولو كان في موضعه لما جاز دخول اللام عليه والتنكير للتفخيم كماً وكيفاً أي : آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه {لِّقَوْمٍ} في محل النصب لأنه صفة لآيات فيتعلق بمحذوف {يَعْقِلُونَ} في محل الجر على أنه صفة لقوم أي : يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول والقلوب ويعتبرون بها لأنها دلائل على عظم قدرة الله فيها وباهر حكمته فيستدلون بهذه الأشياء على موجدها فيوحدونه وفيه تعريض لجهل المشركين الذين اقترحوا على الرسول آية تصدقه في قوله تعالى : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} وتسجيل عليهم بسخافة العقول إذ لو عقلوه لكفاهم بهذه التصاريف آية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها" المج حقيقة قذف الريق ونحوه من الفم عدي بالباء لما فيه من معنى الرمي واستعير ههنا لعدم الاعتبار والاعتداد فإن من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 267
واعلم أن قوله تعالى : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌا لا إله إِلا هُوَ} أول آية
268
نزلت في التوحيد بحسب الرتبة أي : أقدم توحيد من جهة الحق لا من جهتنا فإن أول رتبة التوحيد من طرفنا توحيد الأفعال وهذا هو توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ أفهام الناس نزل إلى مقام توحيد الصفات بقوله الرحمن الرحيم ثم إلى توحيد الأفعال ليستدل به عليه فقال : إن في خلق الآية كذا في "التأويلات القاشانية".
(1/216)
ومن نتائج صفة الرحمن الرحيم في حق الإنسان ما أشار إليه في قوله إن في خلق إلخ يعني أن الحكمة في خلق هذه الأشياء أن يكون كل شيء مظهر آية من آيات الله ولا فائدة لهذه الأشياء من الآيات المودعة فيها فإن فائدتها عائدة إلى الإنسان لأنهم قوم يعقلون الآيات كما قال : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) فالعالم بما فيه خلق بتبعية الإنسان لأن العالم مظهر آيات الحق والآيات المرئيات الإنسان والإنسان مظهر معرفة الحق ولهذا قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) أي : ليعرفون فلو لم يكن لأجل معرفة الله ما خلق الإنسان ولو لم يكن لأجل الإنسان ما خلق العالم بما فيه كما قال للنبي عليه الصلاة والسلام : "لولاك لما خلقت الكون" وكان العالم مرآة يظهر فيه آيات كمال الحق وجلاله والإنسان هو المشاهد لآيات الجمال والجلال في مرآة العالم وهو مرآة يظهر فيه مرآة العالم وما يظهر فيه كما قال تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات : 21) وهذا تحقيق قوله : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" لأن نفسه مرآة جمال ربه وليس أحد غير الإنسان يشاهد حال ربه في مرآة العالم ومرآة نفسه بإراءة الحق كما قال : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا} (فصلت : 53) إلخ فاعرف قدرك لتعرف قدر ربك يا مسكين ومما يدل على أن خلق السموات والأرض وما بينهما تبع لخلق الإنسان قوله عليه الصلاة والسلام : "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" يعني إذا مات الإنسان الذي هو يقول الله الله قامت القيامة فلم تبق السموات والأرض لأن وجودهما كان تبعاً لوجود الإنسان فإذا لم يبق المتبوع ما بقي التابع كذا في "التأويلات النجمية".
فعلى السالك أن يصل بالذكر الحقيقي إلى المقصود الأصلي فإن التوحيد ينفي الباطل وينفي الأغيار.
روى عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي حصين "كم تعبد اليوم من إله" فقال : أعبد سبعاً ستاً في الأرض وواحداً في السماء قال : "وأيهم تعبده لرغبتك ورهبتك" فقال الذي في السماء فقال عليه الصلاة والسلام : "فيكفيك إله السماء" ثم قال : يا حصين لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك فأسلم حصين ثم قال : يا رسول الله علمني هاتين الكلمتين فقال عليه الصلاة والسلام : "قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي".
جزء : 1 رقم الصفحة : 267
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ} من لابتداء الغاية متعلق بيتخذ ودون في الأصل ظرف مكان استعمل هنا بمعنى غير مجازاً والاتخاذ بمعنى الصنع والعمل متعد إلى مفعول واحد وهو هنا قوله : {أَندَادًا} هي الأصنام التي بعضها أنداد لبعض أي : أمثال أو إنها أندادتعالى بحسب ظنونهم الفاسدة من حيث أنهم كانوا يرجون من عندها النفع والضرر وقصدوها بالمسائل وقربوا لها القرابين فإرجاع ضمير العقلاء إليها في قوله تعالى : {يُحِبُّونَهُمْ} مبني على آرائهم الباطلة في شأنها من وصفهم بما لا يوصف به إلا العقلاء أو هي الرؤساء الذين يطيعونهم.
قال القاضي : ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله تعالى فإنه قال الصوفية والعارفون كل شيء شغلت به قلبك سوى الله تعالى فقد جعلته في قلبك نداً له تعالى ويدل عليه قوله
269
تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الفرقان : 43) {يُحِبُّونَهُمْ} الجملة صفة لأنداداً أي : يعظمونهم ويخضعون لهم ويطيعونهم تعظيم المحبوب وإطاعته {كَحُبِّ اللَّهِ} أي : حباً كائناً مثل حبهم الله تعالى أي : يسوون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم والمقصود من التشبيه ما في الوصف من القوة والضعف والمراد ههنا التسوية وهذه التسوية في التعظيم لا تنافي إقرارهم بربوبيته تعالى كما يدل عليه قوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان : 25) ولفظ المحبة مأخوذ من الحب بالفتح كحبة الحنطة والشعير شبه حبة القلب أي : سويداءه بالحب المعروف في كون كل منهما منشأ ومبدأ للآثار العجيبة فاستعير اسم الحب لها ثم اشتق من الحب المستعار للقلب الحب بمعنى ميل القلب لأنه أصابها ورسخ فيها ومحبة العبدتعالى إرادة طاعته في أوامره ونواهيه والاعتناء لتحصيل مراضيه ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه من المعاصي ثم فصل محبة المؤمنين بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
(1/217)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} من حب الكفرة لأندادهم لأنه لا ينقطع محبتهمبخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ويعبدون الصنم زماناً فإذا رأوا صنماً يعجبهم أخذوه وطرحوا الأول.
وروي أن باهلة عملت لها إلهاً من خس فأكلوه عام المجاعة {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : لو يعلم هؤلاء الذين أشركوا باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} المعد لهم يوم القيامة أي : عاينوه فهي من الرؤية بالعين {أَنَّ الْقُوَّةَ} أي : الغلبة والقدرة الإلهية {جَمِيعًا} نصب حالاً والجملة سادة مسد مفعولي يرى {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} عطف على أن القوةوفائدته المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه وجواب لو محذوف أي : لو علم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم بشركهم أن القدرة كلهاعلى كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لوقعوا من الحسرة والندامة على عبادة الأنداد فيما لا يكاد يوصف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} من حب الكفرة لأندادهم لأنه لا ينقطع محبتهمبخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ويعبدون الصنم زماناً فإذا رأوا صنماً يعجبهم أخذوه وطرحوا الأول.
وروي أن باهلة عملت لها إلهاً من خس فأكلوه عام المجاعة {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : لو يعلم هؤلاء الذين أشركوا باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} المعد لهم يوم القيامة أي : عاينوه فهي من الرؤية بالعين {أَنَّ الْقُوَّةَ} أي : الغلبة والقدرة الإلهية {جَمِيعًا} نصب حالاً والجملة سادة مسد مفعولي يرى {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} عطف على أن القوةوفائدته المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه وجواب لو محذوف أي : لو علم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم بشركهم أن القدرة كلهاعلى كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لوقعوا من الحسرة والندامة على عبادة الأنداد فيما لا يكاد يوصف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} بدل من إذ يرون وأصل التبري التخلص ويستعمل للتفصي والتنصل مما تكره مجاورته والمعنى إذ تبرأ الرؤساء المتبوعون {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} أي : من الأتباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا ويدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الواو حالية وقد مضمرة أي : تبرأوا حال رؤيتهم العذاب {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ} عطف على تبرأ وتوسط الحال بينهما للتنبيه على علة التبري أي : انقرضت عنهم الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد والأنساب والمحاب والأتباع والاستتباع فالباء في بهم بمعنى عن كما في قوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} (الفرقان : 59) أو للسببية أي : تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون بها النجاة أو للتعدية أي : قطعتهم الأسباب كما تقول فرقت بهم الطريق أي : فرقتهم {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} حين عاينوا تبري الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي : ليت لنا رجعة إلى الدنيا وعودة {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} هناك {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} اليوم أي : تبرأ مثل تبرئهم فالكاف منصوب المحل على أنها صفة مصدر
270
(1/218)
محذوف {كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك الإيراء الفطيع وهو نزول العذاب عليهم وتبري بعضهم من بعضهم من بعض {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أي : ندمات شديدة فإن الحسرة شدة الندم والكمد وهي تألم القلب وانحساره عما يؤلمه بحيث يبقى النادم كالحسير من الدواب وهو الذي انقطعت قوته فصار بحيث لا ينتفع به وأصل الحسر الكشف ومن فات عنه ما يهواه وانكشف قلبه عنه يلزمه الندم والتأسف على فواته فلذلك عبر عن الحسرة التي هي انكشاف القلب عما يهواه بلازمه الذي هو الندم والرؤية إن كانت بصرية تكون حسرات حالاً من أعمالهم والمعنى أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون أعمالهم إلا حال كونها حسرات وإن كانت قلبية فهي ثالث مفاعيل يرى وعليهم يتعلق إما بخسران والمضاف محذوف أي : على تفريطهم أو بمحذوف منصوب على أنه صفة لحسرات أي : حسرات مستولية عليهم فإن ما عملوه من الخيرات محبوطة بالكفر فيتحسرون لم ضيعوها ويتحسرون على ما فعلوه من المعاصي لم عملوها.
قال السدي ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنهم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين وذلك حين يندمون ويتحسرون {وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ} لأنهم خلقوا لأجلها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 270
ـ روي ـ أنه يساق أهل النار إلى النار لم يبق منهم عضو إلا لزمه عذاب إما حية تنهشه أو ملك يضربه فإذا ضربه الملك هوى في النار مقدار أربعين يوماً لا يبلغ قرارها ثم يرفعه اللهب ويضربه الملك فيهوي فإذا بدا رأسه ضربه كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب فإذا عطش أحدهم طلب الشراب فيؤتى بالحميم فإذا دنا من وجهه سقط وجهه ثم يدخل في فيه فتسقط أضراسه ثم يدخل بطنه فيقطع أمعاءه وينضج جلده وهكذا يعذبون في النار لا يموتون فيها ولا يحيون ولا يخرجون.
قال سعيد بن جبير إن الله تعالى يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على ربوبية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام ثم يقول للمؤمنين بين أيدي الكفار إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادي مناد من تحت العرش والذين آمنوا أشد حباًلأن الله أحبهم أولاً ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم.
قال تعالى : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) ومن لم يكن أهلاً لمحبة الله أزلاً طردته العزة إلى محبة الأنداد وهي كل ما يحب سوى الله فمن وكل إلى المحبة النفسانية تعلقت محبته بملائم هوى النفس من الأصنام فكما أن الكفار بعضهم يحبون اللات ويعبدونها وبعضهم يحبون الأولاد ويعبدونها فمحبة الأولاد والأزواج والأموال تمنع عن محبة الله ومن أحب الله يرى ما سواه بنظر العداوة كما قال الخليل عليه السلام فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ومن كان في الأزل أهلاً لمحبة الله جذبته العناية فتجلى له الحق فانعكست تلك المحبة لمرآة قلبه فلا تتعلق بغير الله لأنها من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة والأعداء أحبوا الأنداد بمحبة فانية نفسانية والأحباء أحبوا الله بمحبة باقية ربانية بل أحبوه بجميع أجزائهم الفانية والباقية اللهم أوصلنا إلى حقيقة المحبة واليقين والتمكين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 270
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس {كُلُوا مِمَّا فِى الأرْضِ} أي : من بعض ما فيها من أصناف المأكولات لأن كل ما فيها لا يؤكل {حَلَـالا} حال من الموصول أي : حال كونه
271
(1/219)
حلالاً وهو ما انحل عنه عقد الحظر {طَيِّبًا} طاهراً من جميع الشبه صفة حلالاً أو الحلال ما يستطيبه الشرع والطيب ما يستطيبه الشهوة المستقيمة أي : يستلذه الطبع {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ} الخطوة بالفتح المرة من نقل القدم وبالضم بعد ما بين قدمي الماشي يقال : اتبع خطواته ووطىء على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته أي : لا تقتدوا بآثاره وطرقه ومذاهبه في اتباع الهوى وهي وساوسه فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليل للنهي أي : ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وأما عند متبعي الهوى الذين لا بصيرة لهم فهو كولي حميم حيث يدلهم على مشتهات نفوسهم ولذائذ مراداتها المستحسنة فقوله مبين من أبان بمعنى بان وظهر وجعله الواحدي من أبان المتعدي حيث قال إنه عدو مبين قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لأبيكم آدم وهو الذي أخرجه من الجنة {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم} أي : يوسوس لكم شبه تسلطه عليهم بآمر مطاع وشبهوا في قبولهم للوسوسة وطاعتهم له بالطبع بمأمور مطيع وفيه رمز إلى أنهم بمنزلة المأمورين المنقادين له تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم {بِالسُّواءِ} وهو كل ما ساءك في عاقبتك يطلق على جميع المعاصي سواء كانت من أعمال الجوارح أو أعمال القلوب لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها وتحزنه {وَالْفَحْشَآءِ} من عطف الخاص على العام أي : أقبح أنواع المعاصي وأعظمها مساءة فالزنى فاحشة والبخل فاحشة وكل فعلة قبيحة فاحشة وأصل الفحش مجاوزة القدر في كل شيء وجعل البيضاوي المغايرة بين السوء والفحشاء بحسب المفهوم دون الذات فإنه سميت المعصية سوءاً لاغتمام العاقل بها وفحشاء باستقباحه إياها فإطلاق السوء والفحشاء على المعصية من قبيل التوصيف بالمصدر للمبالغة مثل رجل عدل
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
{وَأَن تَقُولُوا} أي : يأمركم بأن تفتروا {عَلَى اللَّهِ} بأنه حرم هذا أو ذاك {مَا لا تَعْلَمُونَ} أن الله تعالى أمر به وهو أقبح ما أمر به الشيطان من القبائح لأن وصفه تعالى بما لا ينبغي أن يوصف به من أعظم أنواع الكبائر كما أن الفحشاء أقبح أنواع السوء.
فإن قيل كيف يأمرنا الشيطان بذلك ونحن لا نراه ولا نسمع كلامه فكيف وسوسته وكيف وصوله إلى القلب.
قلنا وهو كلام خفي على ما قيل تميل إليه النفوس والطبع وقد قيل : يدخل في جسد ابن آدم لأنه جسم لطيف يوسوس وهو أنه يحدث النفس بالأفكار الرديئة قال تعالى : {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} (الناس : 5) ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم "اللهم اعمر قلبي من وساوس ذكرك واطرد عني وساوس الشيطان".
قال في "أكام المرجان" : وينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم ويوسوس له في ست مراتب :
المرتبة الأولى : مرتبة الكفر والشرك ومعاداة رسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه لأنه حصل منتهى أمنيته وهذا أول ما يريده من العبد.
المرتبة الثانية : البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لأن صاحبها يظنها حقيقة صحيحة فلا يتوب ، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة : وهي الكبائر على اختلاف أنواعها ، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة : وهي الصغائر التي إذا اجتمعت صارت كبيرة والكبائر ربما أهلكت صاحبها كما قال عليه السلام : "إياكم ومحقرات الذنوب" فإن مثل ذلك قوم نزلوا بفلاة من الأرض فجاء كل واحد بعود حطب حتى أوقدوا ناراً عظيمة وطبخوا وشبعوا ، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة
272
الخامسة وهي اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عقابها فوات الثواب الذي فات عليه باشتغاله بها.
فإن عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيجره من الفاضل إلى المفضول ومن الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يجره من الفاضل إلى الشرور بما يجره من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشق كمائة ركعة بالنسبة إلى ركعتين ليصير ازدياد المشقة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية.
وإنما خلق الله إبليس ليتميز به الخبيث من الطيب فخلق الله الأنبياء لتقتدي بهم السعداء وخلق إبليس لتقتدي به الأشقياء ويظهر الفرق بينهما فإبليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها؟ قال : ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون وأعرضوا عنها والراغبون فيها لم يجدوا في قلوبهم ترك الدين ولا الدنيا فقالوا له : أعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هي؟ فقال : إبليس أعطوني رهناً فأعطوه سمعهم وأبصارهم ولذا يحب أرباب الدنيا استماع أخبارها ومشاهدة زينتها لأن سمعهم وبصرهم رهن عند إبليس فأعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فلم يسمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل : حبك الشيء يعمي ويصم.
(1/220)
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
فعلى العاقل أن يزهد ويرغب عن الدنيا ولا يقبل منها إلا الحلال الطيب.
قال الحسن البصري : الحلال الطيب ما لا سؤال فيه يوم القيامة وهو ما لا بد منه قال النبي عليه السلام : "إن الله يهب لابن آدم ما لا بد منه ثوب يواري به عورته وخبز يرد جوعته وبيت كعش الطير" فقيل : يا رسول الله فكيف الملح فقال : "الملح مما يحاسب به".
وفي "التأويلات النجمية" : الحلال ما أباح الله أكله والطيب ما لم يكن مشوباً بشبهة حقوق الخلق ولا بسرف حظوظ النفس وكل طيب حلال وليس كل حلال طيباً ولهذا قال النبي عليه السلام : "إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب" يعني غير مشوب بعيب أو شبهة قيل : ولا يقال إن الله حلال.
واعلم أن أكل الحلال الطيب يورث القيام بطاعة الله والاجتناب عن خطوات الشيطان فالعمل الصالح نتيجة اللقمة الطيبة.
وفي "المثنوي" :
علم وحكمت زايد ازلقمه حلال
عشق ورقت زايد ازلقمه حلال
ون زلقمه توحسد ببني ودام
جهل وغفلت زايد آنرادان حرام
هي كندم كارى وجو بردهد
ديده اسبى كه كره خرد دهد
لقمه تخمست وبرش انديشها
لقمه بحر وكوهرش انديشها
زايد ازلقمه حلال اندردهان
ميل خدمت عزم سوى آن جهان
وطلب الحلال بالكسب المشروع سنة الأنبياء عليهم السلام.
وفي الكسب فوائد كثيرة منها الزيادة على رأس المال إن عمل للتجارة والزراعة وغرس الأشجار وفيها صدقة لما أكلته الطيور وغيرها.
ومنها اشتغال المكتسب بالكسب عن البطالة واللهو.
ومنها كسر النفس وصيرورتها قليلة الطغيان.
ومنها أن الكسب واسطة الأمان من الفقر الذي هو اسوداد الوجه في الدارين ولا يتحرك في الكسب لأجل عياله إلا قال له حافظاه بارك الله لك في حركاتك وجعل نفقاتك ذخراً لك في الجنة ويؤمن عليهما ملائكة السموات والأرض وأفضل الكسب الجهاد ثم التجارة ثم
273
الحراثة ثم الصناعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} نزلت في مشركي العرب وكفار قريش أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل تعالى من البينات الباهرة فجنحوا للتقليد أي : وإذا قيل للمشركين من الناس على وجه النصيحة والإرشاد {اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} كتاب الله الذي أنزله فاعملوا بتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله في القرآن ولا تتبعوا خطوات الشيطان {قَالُوا بَلْ} عاطفة للجملة التي تليها على الجملة المحذوفة قبلها {نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا} أي : وجدنا {عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ} من اتخاذ الأنداد وتحريم الطيبات ونحو ذلك لأنهم كانوا خيراً منا فقلدوا آباءهم فانظروا أيها العقلاء إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون؟ فقال الله تعالى رداً عليهم بهمزة الإنكار والتعجب مع واو الحال بعدها {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ} لما اقتضت الهمزة صدر الكلام والواو وسطه قدر بين الهمزة والواو جملة لتقع الهمزة في صدرها والمعنى أيتبعونهم ولو كان آباؤهم أي : في حال كون آبائهم {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} من الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا {وَلا يَهْتَدُونَ} للصواب والحق يعني هذا منكر مستبعد جداً لأن اتباع من لا عقل له ولا اهتداء إلى طريق الحق لا وجه له أصلاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 274
(1/221)
{وَمَثَلُ} واعظ {الَّذِينَ كَفَرُوا} وداعيهم إلى الحق {كَمَثَلِ} الراعي {الَّذِى يَنْعِقُ} نعق الراعي والمؤذن بعين مهملة صوت وبالمعجمة نغق للغراب والمعنى يصوت {بِمَا لا يَسْمَعُ} وهو البهائم أي : لا يدرك بالاستماع {إِلا دُعَآءً} صوتاً من الناعق {وَنِدَآءً} زجراً مجرداً من غير فهم شيء آخر وحفظه كما يفهم العاقل ويجيب.
قيل : الفرق بين الدعاء والنداء أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد ويحتمل أن يكون الدعاء أعم من النداء والتشبيه المذكور في الآية من قبيل التشبيه المفرق شبه داعي الكافر بالناعق ونفس الكفرة بالبهائم المنعوق بها ودعاء داعي الكفرة بنعيق الناعق بالبهائم والمعنى مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله وعدم اهتدائهم كمثل الراعي الذي يصيح بالغنم ويكلمها ويقول : كلي واشربي وارعي وهي لا تفهم شيئاً مما يقول لها كذلك هؤلاء الكفار كالبهائم لا يعقلون عنك ولا عن الله شيئاً {صُمُّ} أي : هم صم يعني كأنهم يتصاممون عن سماع الحق {بِكُمُ} بمنزلة الخرس في أن لم يستجيبوا لما دعوا إليه {عُمْىٌ} بمنزل العمى من حيث إعراضهم عن الدلائل كأنهم لم يشاهدوها ثم إنه تعالى لما شبههم بفاقدي هذه القوى الثلاث التي يتوسل بها إلى تمييز الحق من الباطل واختيار الحق فرع على هذا التشبيه قوله : {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي : لا يكتسبون الحق بما جبلوا عليه من العقل الغريزي لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال ومن كان كالأصم والأعمى في عدم استماع الدلائل ومشاهدتها كيف يستدل على الحق ويعقله ولهذا قيل : من فقد حساً فقد فقد علماً وليس المراد نفي أصل العقل لأن نفيه رأساً لا يصلح طريقاً للذم وهكذا لا ينفع الوعظ في آخر الزمان لأن آذان الناس مسدودة عن استماع الحق وأذهانهم مصدودة عن قبوله ، ونعم ما قال السعدي :
فهم سخن ون نكند مستمع
قوت طبع از متكلم مجوى
فسحت ميدان أرادت بيار
تابزند مرد سخن كوى كوى
وفي قوله تعالى : {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ} الآية إشارة إلى قطع النظر عن الأسلاف السوء واتباع أهل الأهواء المختلفة والبدع الذين لا يعقلون شيئاً من طريق الحق وضلوا في تيه محبة الدنيا ويدعون
274
أنهم أهل العلم وليسوا من أهله اتخذوا العلم مكسباً للمال والجاه وقطعوا الطريق على أهل الطلب.
قال تعالى في بعض الكتب المنزلة : (لا تسألن عن عالم قد أسكره حب الدنيا فأولئك قطاع الطريق على عبادي) فمن كان على جادة الحق وصراط الشريعة وعنده معرفة سلوك مقامات الطريقة يجوز الاقتداء به إذ هو من أهل الاهتداء إلى عالم الحقيقة دون مدعي الشيوخة بطريق الإرث من الآباء ولا حظ لهم من طريق الاهتداء فإنهم لا يصلحون للاقتداء.
قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 274
و كنعانرا طبيعت بي هنربود
يمبر زادكى قدرش فيفرزود
هنر بنمادى اكردارى به كوهر
كل ازخارست وإبراهيم از آزر
(1/222)
وفي "التأويلات النجمة" : إن {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} كان في عالم الأرواح عند الميثاق إذ خاطبهم الحق بقوله : ألست بربكم {كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَآءً وَنِدَآءً} لأنهم كانوا في الصف الأخير إذ الأرواح كانوا جنوداً مجندة في أربعة صفوف فكان في الصف الأول أرواح الأنبياء عليهم السلام وفي الثاني أرواح الأولياء وفي الثالث أرواح المؤمنين وفي الرابع أرواح الكافرين فأحضرت الذرات التي استخرجت من ظهر آدم من ذرياته وأقيمت كل ذرة بإزاء روحها فخاطبهم الحق ألست بربكم فالأنبياء سمعوا كلام الحق كفاحاً بلا واسطة وشاهدوا أنوار جماله بلا حجاب ولهذا استحقوا ههنا النبوة والرسالة والمكالمة والوحي الله أعلم حيث يجعل رسالته والأولياء سمعوا كلام الحق وشاهدوا أنوار جماله من أنوار حجاب أرواح الأنبياء ولهذا ههنا احتاجوا لمتابعة الأنبياء فصاروا عند القيام بأداء حق متابعتهم مستحقي الإلهام والكلام من وراء الحجاب والمؤمنون سمعوا خطاب الحق من وراء حجاب الأنبياء وحجاب أرواح الأولياء ولهذا آمنوا بالغيب وقبلوا دعوة الأنبياء وإن بلغتهم من وراء حجاب رسالة جبريل وحجاب رسالة الأنبياء فقالوا سمعنا وأطعنا ومما يدل على هذه التقريرات قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآىاِ حِجَابٍ} (الشورى : 51) يعني الأولياء {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} يعني المؤمنين والكفار لما سمعوا من الخطاب نداء من وراء الحجب الثلاثة كانوا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء فما شاهدوا من أنوار كمال الحق لا قليلاً ولا كثيراً إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون وما فهموا شيئاً من كلام الحق لا أنهم سمعوا من ذرات المؤمنين من وراء الحجاب لما قالوا بلى فقالوا بالتقليد ولهذا ههنا قلدوا ما ألفوا عليه آباءهم لقوله تعالى {وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} (الزخرف : 23) فلما تعلقت أرواحهم بالأجساد وتكدرت بكدورات الحواس والقوى النفسانية وأظلمت بظلمات الصفات الحيوانية وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من التمتعات البهيمية والأخلاق الشيطانية واللذات الجسمانية أصمهم الله وأعمى أبصارهم فهم الآن {صُمُّ} عن استماع دعوة الأنبياء بسمع القبول {بِكُمُ} عن قول الحق والإقرار بالتوحيد {عُمْىٌ} عن رؤية آيات المعجزات {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أبداً لأنهم أبطلوا بالرين صفاء عقولهم الروحانية وحرموا من فيض الأنوار الربانية.
قال الصائب :
جزء : 1 رقم الصفحة : 274
را زغير شكايت كنم كه همو حباب
هميشه خانه خراب هواي خويشتنم
وفي "المثنوي" :
كره ناصح را بود صد داعيه
ندرا اذني ببايد واعيه
275
توبصد تلطيف نداش ميدهى
اوزندت ميكند بهلوتهى
يك كس نامستمع زاستيزورد
صدكس كوينده را عاجز كند
زانبيا ناصح تر وخوش لهجة تر
كى بودكه رفت دمشان درحجر
زانه كوه وسنك دركار آمدند
مي نشد بد بخت را بكشاده بند
آننان دلها كه بدشان ماومن
تعتشان شد بل أشد قسوة
فعلى العاقل أن يتدارك حاله بسلوك طريق الرضى والندم على ما مضى ويزكي نفسه عن سفساف الأخلاق ويصفي قلبه إلى أن تنعكس إليه أنوار الملك الخلاق وذلك لا يحصل غالباً إلا بتربية كامل من أهل التحقيق لأن المرء محجوب عن ربه وحجابه الغفلة وهي وإن كانت لا ترفع ولا تزول إلا بفضل الله تعالى لكنه بأسباب كثيرة ولا اهتداء إلى علاج المرض إلا بإشارة حكيم حاذق وذلك هو المرشد الكامل فإذا يزول الرين عن القلب وتنفتح روزنة البال إلى الغيب فيكون إقرار السالك تحقيقاً لا تقليداً وتوحيده تجريداً وتفريداً فحينئذٍ يعكس الأمر فيكون أصم عن سماع أخبار ما سوى المحبوب الحقيقي أبكم عن إفشاء سر الحقيقة أعمى عن رؤية الأغيار في هذه الدار الفانية اللهم خلصنا من التقليد وأوصلنا إلى حقيقة التوحيد إنك حميد مجيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 274
(1/223)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا} رزقكم {مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} أي : من حلالاته لأن ما رزقناكم أعم من الحلال والحرام عند أهل السنة أو من لذيذاته لأنه أعم أيضاً من المستلذ والمستكره.
قال ابن الشيخ وهذا المعنى هو المناسب لهذا المقام وأولى من حمله على الحلال الطاهر من الشبهة لأن المقام مقام الامتنان بما رزقه من لذائذ الإحسان وطلب شكر المنعم المنان والطيب له ثلاثة معان المستلذ طبعاً والمباح شرعاً والطاهر وضعاً وفي الآية إشارة إلى أنه لا بأس بالتفكه بأنواع الفواكه لأنها من الطيبات وتركه أفضل لئلا ينقص من درجته ويدخل تحت قوله تعالى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف : 20) والأمر بأكل الطيبات لفائدتين : إحداهما أن يكون أكلهم بالأمر لا بالطبع فيمتازون عن الحيوانات ويخرجون من حجاب الظلمة الطبع بنور الشرع ، والثاني ليثيبهم بائتمار أمر الأكل.
{وَاشْكُرُوا} الذي رزقكموها وأحلها لكم والشكر صرف العبد جميع أعضائه الظاهرة والباطنة إلى ما خلقت لأجله وهذا الأمر ليس أمر إباحة بل هو للإيجاب إذ لا شك في أنه يجب على العاقل أن يعتقد بقلبه أن من أوجده وأنعم عليه بما لا يحصى من النعم الجليلة مستحق لغاية التعظيم وأن يظهر ذلك بلسانه وبسائر جوارحه {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي : إن كنتم مؤمنين بالله ومخصصين الله بالعبادة فاشكروا له فإن الإيمان يوجب ذلك وهو من شرائطه وهو مشهور في كلامهم يقول الرجل لصاحبه الذي عرف أنه يحبه إن كنت لي محباً فافعل كذا فيدخل حرف الشرط في كلامه تحريكاً له على ما يؤمر به وإعلاماً أنه من شرائط المحبة وليس المراد أن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فإن من لا يفعل هذه العبادة يجب الشكر عليه أيضاً وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "يقول الله تعالى إني والإنس والجن لفي نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري".
قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 276
مكن كردن ازشكر منعم ميس
كه روز سين سرير ارى بهيج
276
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} أي : ما مات بغير ذكاة مما يذبح والسمك والجراد مستثنيات بالعرف لأنه إذا قيل فلان أكل ميتة لم يسبقا إلى الفهم ولا اعتبار للعادة قالوا : من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث وإن أكل لحماً في الحقيقة قال الله تعالى {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (النحل : 14) والمراد بتحريم الميتة تحريم أكلها وشرب لبنها أو الانتفاع بها لأن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان {وَالدَّمَ} الجاري والكبد والطحال مستثنيان أيضاً بالعرف فهما حلالان {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} قد انعقد الإجماع على أن الخنزير حرام لعينه فيكون جميع أجزائه محرماً وإنما خص الله لحمه بالذكر لأنه معظم ما ينتفع به من الحيوان فهو الأصل وما عداه تبع له {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّهِ} أي : وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه للصنم وأصل الاهلال رفع الصوت وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها ويقولون باسم اللات والعزى فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 276
(1/224)
قال العلماء لو ذبح مسلم ذبيحة وقصد بها التقرب إلى غير الله صار مرتداً وذبيحته ميتة وذبائح أهل الكتاب تحل لنا لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة : 5) إلا إن سموا غير الله فإنها حينئذٍ لا تحل لهذه الآية فإن قوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ} (المائدة : 5) إلخ عام وقوله {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّهِ} خاص مقدم على العام {فَمَنِ} يحتمل أن تكون شرطية وموصولة {اضْطُرَّ} أي : أحوج وألجىء إلى أكل شيء مما حرم الله بأن لا يجد غيرها وجد أن الاضطرار أن يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف {غَيْرَ} نصب على الحال فإنه إذا صلح في موضع لا فهو حال وإن صلح في موضع إلا فهو استثناء وإلا فهو صفة وذو الحال ههنا فاعل فعل محذوف بعد قوله اضطر تقديره فمن اضطره أحد أمرين إلى تناول شيء من هذه المحرمات أحدهما : الجوع الشديد مع عدم وجدان مأكول حلال بسد رمقه ، وثانيهما : الإكراه على تناوله فتناول وأكل حال كونه غير {بَاغٍ} على مضطر آخر بأن حصل ذلك المضطر الآخر من الميتة مثلاً قدر ما يسد به جوعته فأخذه منه وتفرد بأكله وهلك الآخر جوعاً وهذا حرام لأن موت الآخر جوعاً ليس أولى من موته جوعاً {وَلا عَادٍ} من العدو وهو التعدي والتجاوز في الأمر لما حد له فيه أي : غير متجاوز حد الشبع عند الأكل بالضرورة بأن يأكل قدر ما يحصل به سد الرمق والجوعة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تناوله عند الضرورة {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما أكل في حال الاضطرار {رَّحِيمٌ} بترخيصه ذلك ولم يدكر في هذه الآية سائر المحرمات لأنها ليست لحصر المحرمات بل هذه الآيات سيقت لنهيهم عن استحلال ما حرم الله وهم كانوا يستحلون هذه الأشياء فكانوا يأكلون الميتة ويقولون تأكلون ما أمتم ولا تأكلون ما أماته الله وكذا يأكلون الدم ولحم الخنزير وذبائح الأصنام فبين أنه حرمها فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقاً.
وقيل : ذكر الميتة يتناول المتردية وهي الساقطة في بئر أو ماء أو من علو والمنخنقة وهي ما اختنق بالشبكة أو بحبل أو خنق خانق والموقوذة وهي المضروبة بالخشب والنطيحة وهي المنطوحة وما أكل السبع ومتروك التسمية عمداً ونحوها ويكره عشرة من الحيوان الدم والعدة والقبل والدبر والذكر والخصيتان والمرارة والمثانة ونخاع الصلب.
أما الدم فلقول تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} (المائدة : 3) وأما ما سواه فلأنها من الخبائث.
جزء : 1 رقم الصفحة : 276
قال الشيخ الشهير بأفتاده أفندي : ذكر
277
أن النبي عليه السلام لم يأكل الطحال ولا الكلية ولا الثوم وإن لم يمنع عن أكلها فالأولى أن لا تؤكل اقتفاء لأثره ثم قيل في وجهه أن المني إذا نزل لم ينزل إلا بعد اتصاله بالكلية.
وأما الطحال فلأنه من أطعمة أهل النار كذا في "واقعات الهدائي" قدس سره ومن امتنع من الميتة حال المخمصة أو صام ولم يأكل حتى مات أثم بخلاف من امتنع من التداوي حتى مات فإنه لا يأثم لأنه لا يقين بأن هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج.
وذكر في "الأشباه والنظائر" : أنه يرخص للمريض التداوي بالنجاسات وبالخمر على أحد القولين واختار قاضي خان عدمه وإساغة اللقمة بها إذا غص اتفاقاً وإباحة النظر للطبيب حتى للعورة والسوءتين انتهى ويحل للعطشان شرب الخمر حالة الاضطرار على ما نص عليه في "الخانية" وما قال الصدر الشهيد من أن الاستشفاء بالحرام حرام فهو غير مجرى على إطلاقه لأن الاستشفاء بالمحرم إنما لا يجوز إذا لم نعلم أن فيه شفاء وأما إذا علم ذلك وليس له دواء آخر غيره يجوز له الاستشفاء به ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يحتمل أن عبد الله قال ذلك في داء عرف له دواء غير محرم لأنه حينئذٍ يستغني بالحلال عن الحرام ، وفي "التهذيب" : يجوز للعليل شرب البول والدم للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه كذا في شرح "الأربعين حديثاً" لعلامة الروم ابن الكمال.
والإشارة في قوله تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} أنه كما حرم على الظواهر هذه المعهودات حرم على البواطن شهود غير الله فالميتة هي جيفة الدنيا {وَالدَّمَ} هي الشهوات النفسانية قال عليه السلام "إن الشيطان ليجري في ابن آدم مجرى الدم" ولولا أن الشهوات في الدم مستكنة لما كان للشيطان إليه سبيل ولهذا قال عليه السلام : "سددوا مجاري الشيطان بالجوع" لأن الجوع يقطع مادة الشهوات {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} إشارة إلى هوى النفس وتشبيه النفس بالخنزير لغاية حرصها وشرهها وخستها وخباثة ظاهرها وباطنها {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّهِ} هو كل ما يتقرب به إلى الله من الطاعات البدنية والخيرات المالية من غير إخلاصوفي الله بل للرياء والسمعة في سبيل الهوى
جزء : 1 رقم الصفحة : 276
(1/225)
{فَمَنِ اضْطُرَّ} إما لضرورة الحاجة النفسانية وإما لضرورة أمر الشرع بإقامة أحكام الواجبات عليه فليشرع في شيء مما اضطر إليه {غَيْرَ بَاغٍ} أي : غير حريص على الدنيا وجمعها من الحرام والحلال وغير مولع عن الشهوات بالحرام والحلال وغير مقبل إلى استيفاء حظوظ النفس في الحرام والحلال وغير مواظب على الرياء في الطاعات والخيرات من السنن والبدع {وَلا عَادٍ} أي : غير متجاوز من الدنيا حد القناعة وهي ما يسد الجوعة ويستر العورة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} على من قام بهذه الشرائط {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر للعاملين له بآثار الرحمة والقائمين به بأنوار الرحمة والماحين فيه بأوصاف الرحمة التقطته من "التأويلات النجمية".
والغفور والغفار هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التي سترها بأسباب الستر عليها في الدنيا والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة وحظ العبد من هذا الاسم أن يستر من غيره ما يحب أن يستر منه وقد قال عليه السلام : "من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة" والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف وإنما المتصف به من لا يفشى من خلق الله إلا أحسن ما فيه كما روي عن عيسى عليه السلام أنه مر مع الحواريين بكلب قد غلب نتنه فقالوا ما أنتن هذه الجيفة
278
فقال عليه السلام : ما أحسن بياض أسنانها تنبيهاً على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن كذا في "شرح الأسماء الحسنى" للإمام الغزالي قدس سره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 276
{إِنَّ الَّذِينَ} نزلت في أحبار اليهود فإنهم كانوا يرجون أن يكون النبي المنعوت في التوراة منهم فلما بعث الله نبينا محمداً عليه السلام من غيرهم غيروا نعمته حتى إذا نظر إليه السفلة يجدونه مخالفاً لصفة محمد عليه السلام فلا يتبعونه فلا تزول رياستهم {يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَـابِ} حال من العائد المحذوف أي : أنزل الله حال كونه من الكتاب وهو التوراة المشتمل على نعت محمد عليه السلام {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي : بدل المنزل المكتوم {ثَمَنًا قَلِيلا} أي : يأخذون عوضاً حقيراً من الدنيا يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} أما في الآخرة فظاهر لأنهم لا يأكلون يوم القيامة إلا عين النار عقوبة لهم على أكلهم الرشوة في الدنيا وأما في الدنيا فبأكل سببها فإن أكلهم ما أخذوه من اتباعهم سبب مؤد إلى أن يعاقبوا بالنار فإطلاق النار عليه من قبيل إطلاق اسم المسبب على السبب ومعنى في بطونهم ملء بطونهم يقال : أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه يعني أن المقصود من ذكر بطونهم متعلقاً بقوله يأكلون إنما هو بيان محل الأكل ومقر المأكول فلما لم يقل يأكلون في بعض بطونهم علم أن محل الأكل هو تمام بطونهم فلزم امتلاءها ففيه مبالغة كأنهم ما كانوا متكئين على البطون عند الأكل فملؤوا بطونهم {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} أي : لا يكلمهم الله بطريق الرحمة غضباً عليهم فليس المراد به نفي الكلام حقيقة لئلا يتعارض بقوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92) ونحوه بل هو كناية عن الغضب لأن نفي الكلام لازم للغضب عرفاً وعادة الملوك عند الغضب أنهم يعرضون عن المغضوب عليهم ولا يكلمونهم كما أنهم عند الرضى يتوجهون إليهم بالملاطفة {وَلا يُزَكِّيهِمْ} لا يثني عليهم ولا يطهرهم من دنس الذنوب يوم يطهر المؤمنين من ذنوبهم بالمغفرة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجه دائم مؤلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
(1/226)
{أُوالَـائِكَ} المشترون بكتاب الله ثمناً قليلاً ليسوا بمشترين للثمن وإن قل بل {الَّذِينَ اشْتَرَوُا} بالنسبة إلى الدنيا {الضَّلَـالَةَ} التي ليست مما يمكن أن يشتري قطعاً {الْهَدْىِ} الذي ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شيء وإن جل {وَالْعَذَابَ} أي : اشتروا بالنظر إلى الآخرة العذاب الذي لا يتوهم كونه من المشترى {بِالْمَغْفِرَةِ} التي يتنافس فيها المتنافسون {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي : ما أصبرهم على أعمال أهل النار حين تركوا الهدى وسلكوا مسالك الضلال فالمراد بالنار سببها أطلق عليه اسم النار للملابسة بينهما ومعنى التعجب راجع إلى العباد فهو تعجب أي : إيقاع للمخاطب في العجب لامتناع التعجب في شأنه تعالى لأن التعجب منشأه الجهل بالسبب فإنهم قالوا : التعجب انفعال النفس مما خفي سببه وخرج عن نظائره فلا يجوز على الله تعالى {ذَالِكَ} العذاب بالنار {بِأَنَّ اللَّهَ} أي : بسبب أنه {نَزَّلَ الْكِتَـابَ} أي : جنس الكتاب {بِالْحَقِّ} أي : حال كونه ملتبساً بالحق فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متن الجهل والغواية مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِى الْكِتَـابِ} أي : في جنس الكتاب الإلهي بأن آمنوا ببعض كتب الله وكفروا ببعضها أو في التوراة بأن آمنوا ببعض
279
آياتها وكفروا ببعض كالآيات المغيرة المشتملة على أمر بعثة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونعوته الكريمة أو في القرآن بأن قال بعضهم أنه شعر وبعض سحر وبعض كهانة {لَفِى شِقَاقا بَعِيدٍ} أي : خلاف بعيد عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب.
اعلم أن في هذه الآيات وعيداً عظيماً لكل من يكتم الحق لغرض فاسد دنيوي فليحذروا أي : العلماء أن يكتموا الحق وهم يعلمون وإنما يكتمونه عن الملوك والأمراء والوزراء وأرباب الدنيا إما خوفاً من اتضاع مرتبتهم ونقصان قدرهم عندهم وإما طموحاً إلى إحسانهم أو لأنهم شركاؤهم في بعض أحوالهم من حب الدنيا وجمعها والحرص في طلبها أو طلب مناصبها وحب رياستها أو بالتنعم في المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمسكن والأواني وآلات البيت والأمتعة والزينة في كل شيء والخدم والخيول وغير ذلك فعند ذلك يداهنون ويأكلون ثمناً قليلاً ولا يأكلون إلا نار الحرص والشهوة والحسد التي تطلع على الأفئدة وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
واعلم أن في كل عمل وفعل وقول يصدر من العبد على خلاف الشرع شرراً يجتنى من نار السعير فتحصل في قلب العبد تلك النار في الحال وفي التي تصدر من العبد على وفق الشرع شرراً يجتنى من نار المحبة لتظهر في القلب فتحرق كل محبوب غير الله في قلب كما أن نار السعير تحرق في القلب الحسنات والأخلاق الحميدة فيأكلون ناراً في الحال وإنما قال ما يأكلون في بطونهم إلا النار لأن فسادهم كان في باطل فكان عذابهم في البطون وإنما لا يكلمهم الله يوم القيامة لأنهم كتموا كلام الله في الدنيا ولا تكلموه بالصدق فكان جزاء سيئة سيئة مثلها وإنما لا يزكيهم لأن تزكية النفس للإنسان مقدرة من الإيمان والأعمال الصالحة بصدق النية من تهذيب الأخلاق بآداب الشرع فأولئك المداهنون من العلماء هم الذين اشتروا حب الدنيا بهدى إظهار الحق وآثروا الخلق على الحق والمداهنة على أفضل الجهاد قال عليه السلام : "إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وإنما كانت أفضل لأن الجهاد بالحجة والبرهان جهاد أكبر بخلاف الجهاد بالسيف والسنان فإنه جهاد أصغر ومدار كتمان الحق حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة.
قال الحسن : إن الزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون : ربنا ما بالنا يتقدمون إلينا فيقول الله ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع في خسران مبين وكان دائماً في منازعة الشيطان.
ـ كما حكي ـ أن رجلاً قال للشيخ أبي مدين ما يريد منا الشيطان؟ شكاية منه فقال الشيخ : إنه جاء قبلكم وشكا منك وقال : اعلم أنه سيشكوني ولكن الله ملكني الدنيا فمن نازعني في ملكي لا أتسلى بدون إيمانه فمن كف يده عن الدنيا وزينتها فقد استراح من تعبها ومحنتها.
ـ وحكي ـ أن ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا وجعلوا قبور موتاهم على أبوابهم يقتاتون بنبات الأرض ويشتغلون بالطاعة فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال : ما لي حاجة إلى صحبة ذي القرنين فجاء ذو القرنين فقال : ما سبب قلة الذهب والفضة عندكم؟ قال : ليس للدنيا طالب عندنا لأنها لا تشبع أحداً فجعلنا القبور عندنا حتى لا ننسى الموت ثم اخرج رأس إنسان وقال : هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعية ويجمع حطام الدنيا فقبضه الله تعالى وبقي عليه السيئات ثم أخرج رأساً آخر وقال أيضاً : هذا
280
(1/227)
رأس ملك عادل مشفق فقبضه وأسكنه جنته ورفع درجته ثم وضع يده على رأس ذي القرنين وقال : من أي الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين وقال : إن ترغب في صحبتي شاطرتك مملكتي وسلمت إليك وزارتي فقال : هيهات وقال ذو القرنين : ولم قال لأن الناس أعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم أحبابي بسبب القناعة ، قال السعدي قدس سره :
در كوشه قناعة نان اره وينه
دريش أهل معنى بهتر زصد خزينه
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
{لَّيْسَ الْبِرَّ} هو كل فعل مرضي يفضي بصاحبه إلى الجنة {أَن تُوَلُّوا} أي أن تصرفوا يا أهل الكتابين {وُجُوهَكُمْ} في الصلاة {قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي : مقابلهما ظرف مكان لقوله تولوا والبر منصوب على أنه خبر مقدم وأن تولوا اسمها لكونه في تأويل المصدر والمصدر المؤول أعرف من المحلى باللام وهو يشبه الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به فالأولى أن يجعل الأعرف اسماً وغير الأعرف خبراً وذلك أن اليهود والنصارى أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكعبة وزعم كل واحد من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته فرد عليهم وقيل : ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البر {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ} المعهود الذي ينبغي أن يهتم بشأنه ويجدّ في تحصيله {مِّنْ} أي برّ من على حذف المضاف لأن اسم لكن من أسماء المعاني وخبرها من أسماء الأعيان فامتنع الحمل لدلك {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ} وحده إيماناً بريئاً من شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى المشركين بقولهم عزيز ابن الله وقولهم المسيح ابن الله وقدم الإيمان بالله في الذكر لأنه أصل لجميع الكمالات العلمية والعملية {وَالْيَوْمِ الاخِرِ} أي : بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه كائن لا محالة وعلى ما هو عليه لا كما يزعمون من أنهم لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة وأن آباءهم الأنبياء ويشفعون لهم فالبر هو التوجه إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة ولما كان الإيمان باليوم الآخر متفرعاً على الإيمان بالله لأنها ما لم نعلم باستحقاقه الألوهية وقدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر وكان الإيمان به محركاً وداعياً إلى الانقياد بالله في جميع ما أمر به ونهى عنه خوفاً وطمعاً ذكر الإيمان به عقيب الإيمان بالله {وَالْمَلَائكَةِ} كلهم بأنهم عباد الله ليسوا بذكور ولا إناث ولا بشر ولا أولاد الله مكرمون عنده متوسطون بينه وبين أنبيائه بإلقاء الوحي وإنزال الكتب واليهود أخلوا بذلك حيث أظهروا عداوة جبريل {وَالْكِتَـابِ} أي : بجنس الكتاب الإلهي الذي من أفراده الفرقان واليهود أخلوا بذلك لأنه مع قيام الدليل على أن القرآن كتاب الله تعالى ردوه ولم يقبلوه.
{وَالنَّبِيِّانَ} جميعاً بأنهم المبعوثون إلى خلقه والقائمون بحقه والصادقون عنه في أمره ونهيه ووعده وأخباره من غير تفرقة بين أحد منهم واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء وطعنوا في نبوة محمد عليه السلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 281
واعلم أن الإيمان بالملائكة والكتاب مؤخر عن الإيمان بالنبيين إلا أنه قدم الإيمان بهما في الذكر رعاية للترتيب بحسب الوجود الخارجي ولم ينظر إلى الترتيب في العلم فإن الملك يوجر أولاً ثم يحصل بواسطته نزول الكتاب إلى الرسل فتدعو الرسل إلى ما فيها من الأحكام وهذا أي : الإيمان بالأمور الخمسة المذكورة أصول الدين
281
وقواعد العقائد {وَءَاتَى الْمَالَ} أي : الصدقة من ماله {عَلَى حُبِّهِ} حال من الضمير في آتى والضمير المجرور للمال أي : آتاه كائناً على حب المال كما قال عليه السلام لما سئل أي : الصدقة أفضل قال : "أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان".
قال السعدي قدس سره :
ريشان كن امروز كنجينه جست
كه فردا كليدش نه دردست تست
كنون بر كف دست نه هره هست
كه فردا بدندان كزى بشت دست(1/228)
{ذَوِى الْقُرْبَى} مفعول أول لآتى بدلالة الحال وقدمهم لأنهم أحق بالصدقة لقوله عليه السلام : "صدقتك على المسلمين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان" لأنها صدقة وصلة وقال أيضاً "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" {وَالْيَتَـامَى} الفقراء منهم لا الأغنياء وقدم اليتامى على سائر المصارف لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب أشد احتياجاً من المساكين ومن ذكر بعدهم {وَالْمَسَـاكِينَ} جمع مسكين ضربان من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ومن ينبسط ويسأل وهذا القسم داخل في قوله والسائلين وهو مبالغة الساكن فإن المحتاج يزداد سكونه إلى الناس على حسب ازدياد حاجته {وَابْنَ السَّبِيلِ} أي : المسافر البعيد عن ماله وسمي به لملازمته له كما تقول للص القاطع ابن الطريق وللمعمر ابن الليالي ولطير الماء ابن الماء والضيف لأنه جاء من السبيل فكأنه ولد منه قال صلى الله عليه وسلّم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" وأيضاً "أكرموا الضيف ولو كان كافراً" {وَالسَّآئِلِينَ} الذين ألجأتهم الحاجة والضرورة إلى السؤال وفي الحديث "للسائل حق ولو جاء على ظهر فرسه".
قال السعدي قدس سره :
نه خوا هنده بردر ديكران
بكشرانه خواهنده ازدرمران
جزء : 1 رقم الصفحة : 281
{وَفِي} تخليص {الرِّقَابِ} بمعاونة المكاتبين جمع رقبة وهي مؤخر العنق واشتقاقها من المراقبة لأنها مكان مراقبة الرقيب المشرف على القوم وإذا قيل أعتق الله رقبته يراد أن الله تعالى خلصه من مراقبة العذاب إياه.
وقيل : المراد بهم أرقاء يشتريهم الأغنياء لإعتاقهم.
وقيل المراد بهم الأسارى فإن الأغنياء يؤتون المال في تخليصهم فهذا هو البر ببذل الأموال على وفق مراد الله تعالى إلى المصارف المذكورة واليهود أخلوا بذلك لأنهم أكلوا أموال الناس بالباطل حيث كتموا دلائل حقيقة الإسلام على أتباعهم واشتروا به ثمناً قليلاً وعوضاً يسيراً وهو ما يعود إليهم من هدايا السفلة {وَأَقَامَ الصَّلَواةَ} المفروضة عطف على صلة من أي : من آمن وآتى وأقام واليهود كانوا يمنعون الناس من الصلاة والزكاة {وَءَاتَى الزَّكَواةَ} المفروضة على أن المراد بما مر من إيتاء المال التنفل بالصدقة قدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه أو الأول لبيان المصارف والثاني لبيان وجوب الأداء {وَالْمُوفُونَ} عطف على من آمن فإنه في قوة أن يقال ومن أوفوا {بِعَهْدِهِمْ} من الأوامر والنواهي والنذور {إِذَا عَـاهَدُوا} فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا وفي الحديث "من أعطى عهد الله ثم نقضه فالله لا ينظر إليه" أي : انقطع نظره عنه "ومن أعطى ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم غدر فالنبي خصمه يوم القيامة" واليهود نقضوا العهد
282
قال الله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} .
وفي "المثنوي" :
ون درختست آدمي وبيخ عهد
بيخ را نيمار مي بايد بجهد
عهد فاسد بيخ بوسيده بود
وزثمار لطف ببريده بود
شاخ وبرك نخل اكره سبزبود
بإفساد بيخ سبزى نيست سود
ورندارد برك سبز وبيخ هست
عاقبت بيرون كند صدبرك دست
تومشوغره بعلمش عهد جو
علم ون قشر است وعهدش مغزاو
جزء : 1 رقم الصفحة : 281
(1/229)
{وَالصَّـابِرِينَ} منصوب على المدح أي بتقدير أعني وهو في الحقيقة والمعنى عطف على من آمن لكن غير سبكه تنبيهاً على فضيلة الصبر ومزيته أي وأعني الذين صبروا {فِى الْبَأْسَآءِ} أي : في الفقر والشدة {وَالضَّرَّآءِ} أي : المرض والزمانة {وَحِينَ الْبَأْسِ} منصوب بالصابرين أي : وقت الشدة والبأس شدة القتال خاصة وهو في الأصل مطلق الشدة وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحياناً وسرعة انقضائه وأهل الكتاب أخلوا بذلك حيث كانوا في غاية الخوف والجبن والحاصل أنه لما حولت القبلة وكثر خَوض أهل الكتاب في نسخها صار كأنهم قالوا مدار البر والطاعة هو الاستقبال فأنزل الله هذه الآية كأنه تعالى قال : ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين فصفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل إلا بمجموع الأمور المذكورة {أُوالَـائِكَ} أي : أهل هذه الصفة {الَّذِينَ صَدَقُوا} في الدين واتباع الحق وتحري البر حيث لم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأحوال {وَأُولَئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآية جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحاً أو ضمناً فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس وقد أشير إلى الأول بقوله : من آمن إلي والنبيين وإلى الثاني بقوله وآتى المال إلي وفي الرقاب وإلى الثالث بقوله وأقام الصلوة إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظراً إلى إيمانه واعتقاده وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق وإليه يشير قوله عليه السلام "من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان" قال شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة قيل لي في قلبي أحسن أخلاق المرء في معاملته مع الحق التسليم والرضى وأحسن أخلاقه في معاملته مع الخلق العفو والسخاء انتهى كلامه.
وحب المال من أغلب أخلاق النفس وكذلك العجلة من الأخلاق الرديئة ولذلك قيل إن الصبر أفضل من الشكر وفي الخبر "يؤتى بأشكر أهل الأرض ليجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بالصابر فيقول الله هذا أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين" والتحقيق أن تهذيب النفس إنما يكون بالتوحيد بطريقه المخصوص كما أن أصل الإيمان إنما يحصل بالتوحيد والشهادة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 281
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الخطاب لأئمة المؤمنين أوجب الله تعالى على الإمام وعلى من يجري مجراه ويقوم مقامه إقامة القصاص والتقدير يا أيها الأئمة فرض عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه ويحتمل أن يكون الخطاب متوجهاً على القاتل والمعنى يا أيها
283(1/230)
القاتلون عمداً كتب عليكم تسليم أنفسكم عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع عن القصاص لكونه حق العبد بخلاف الزاني والشارب فإن لهما الهرب من الحدود لكون ما عليهما من الحق حق الله تعالى.
والقصاص أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل فهو عبارة عن التسوية والمماثلة في الأنفس والأطراف والجراحات.
والقتلى جمع قتيل وفي للسبب أي : بسبب قتل القتلى كما في قوله عليه السلام : "إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها" أي : بسبب ربطها إياها وحَسُن الوقف في قوله القتلى.
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} مبتدأ وخبر أي : الحر مأخوذ ومقتول بمثله {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالانثَى بِالانثَى} سبب النزول أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر أي : قوة وفضل فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزلت وأمرهم الله أن يتباروا أي : يتساووا ويتعادلوا.
وقوله : الحر بالحر لا يفيد الحصر البتة بأن لا يجرى القصاص إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين بل يفيد شرع القصاص في القتلى المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام فإن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} جملة مستقبلة بنفسها.
وقوله : الحر بالحر تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وتخصيص بعض جزئيات الجملة المستقلة بالذكر لا يمنع ثبوت الحكم لسائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفائدة سوى نفي الحكم عن سائر الصور وهي إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة وليس فيه نفي جريان القصاص بين الحر والعبد والذكر والأنثى بل فيه منع عن التعدي إلى غير القاتل انتهى كلامه.
والثوري وأبو حنيفة يقتلان الحر بالعبد والمؤمن بالكافر ويستدلان بعموم قوله تعالى : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (المائدة : 45) فإن شريعة من قبلنا إذا قصت علينا في القرآن من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا.
وبما روي "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وبأن التفاضل في النفس غير معتبر بدليل قتل الجماعة بالواحد وبأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما.
ومالك والشافعي لا يقتلان الحر بالعبد ولا المؤمن بالكافر كما قال الشافعي رحمه الله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
خذوا بدمي هذا الغزال فإنه
رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده
وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد
{فَمَنِ} عبارة عن القاتل شرطية كانت أو موصولة {عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ} الضميران راجعان إلى من {شَىْءٍ} أي : شيء من العفو قليل فارتفاع شيء على أنه قائم مقام فاعل عفى بناء على أنه في حكم المصدر أي : في حكم قولك عفى عفو فإن عفا وإن كان لازماً لا يتعدى إلى المفعول به إلا أنه يتعدى إلى المفعول المطلق فيصلح أن يقام مصدره مقام الفاعل كما في قوله تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ} (الحاقة : 13) وقولهم سير بزيد بعض السير وشيء من السير وفائدة قوله شيء الإشعار بأنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية وعفا يتعدى إلى الجاني وإلى
284
(1/231)
الذنب بعن فإذا تعدى إلى الذنب بعن كما في قوله تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} (التوبة : 43) عدي إلى الجاني باللام يقال : عفوت لفلان إذ جني وعليه ما في الآية وعفو الجاني عبارة عن إسقاط موجب الجناية عنه وموجبها ههنا القصاص فكأنه قيل القاتل الذي عفى له عن جناية من جهة أخيه الذي هو ولي المقتول سواء كان العفو الواقع تاماً بأن اصطلح القاتل مع جميع أولياء القتيل على مال أو بعض العفو بأن وقع الصلح بينه وبين بعض الأولياء فإنه على التقديرين يجب المال ويسقط القصاص فإنه قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الصلح عن القصاص على مال وسمى الله تعالى ولي الجناية أخاً للقاتل استعطافاً له عليه وتنبيهاً على أن أخوة الإسلام قائمة بينهما وأن القاتل لم يخرج من الإيمان بقتله {فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ} خبر مبتدأ محذوف أي : وإذا حصل شيء من العفو وبطل الدم بعفو البعض فالأمر اتباع بالمعروف أي : على ولي المقتول أن يطالب القاتل ببدل الصلح بالمعروف بترك التشديد والتضييق في طلبه وإذا أخذ الدية لا يطلب الأكثر مما وجب عليه {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ} حث المعفو عنه وهو القاتل على تأدية المال بالإحسان أي : وعلى القاتل أن يؤدي المال إلى العافي بإحسان في الأداء بترك المطل والبخس والأذى {ذَالِكَ} أي : الحكم المذكور من العفو والدية {تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي : تيسير وتوسعة لكم {وَرَحْمَةٌ} منه حيث لم يجزم بالعفو وأخذ الدية بل خيركم بين الثلاث القصاص والدية والعفو وذلك لأن في شرع موسى عليه السلام القصاص وهو العدل فقط وفي دين عيسى عليه السلام العفو وهو الفضل فحسب وفي ملتنا للتشفي القصاص وللترفه الدية وللتكرم العفو {فَمَنِ اعْتَدَى} أي : تجاوز ما شرع له {بَعْدَ ذَالِكَ} التخفيف بأن قتل غير القاتل أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبول الدية ثم يظفر فيقتله وينبذ ماله إلى أوليائه {فَلَهُ} باعتدائه {عَذَابٌ أَلِيمٌ} نوع من العذاب شديد الألم إما بالدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق وإما في الآخرة فبالنار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
{وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} أي : في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لأنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة كما قتل مهلهل بن ربيعة بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع فيما بينهم التشاجر والهرج والمرج وارتفاع الأمن فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه أي : حياة لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل إذا قتل لا يقدم على القتل وإذا قتل فقتل ارتدع غيره فكان القصاص سبب حياة نفسين أو أكثر وهو كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده فإن ضدية شيء لآخر تستلزم أن يكون تحقق أحدهما رافعاً للآخر والقصاص لاستلزامه ارتفاع الحياة ضد لها وقد جعل ظرفاً لها تشبيهاً له بالظرف الحقيقي من حيث أن المظروف إذا حواه الظرف لا يصيبه ما يخل به ويفسده ولا هو يتفرق ويتلاشى بنفسه كذلك القصاص يحمي الحياة من الآفات فكان من هذا الوجه بمنزلة الظرف لها ولا شك فيه إذ جعل الضد حامياً لضده اعتبار لطيف في غاية الحسن والغرابة التي هي من نكات البلاغة وطرقها يا اأُولِي الالْبَـابِ} أي : ذي العقول الخالصة من شوب الأوهام ناداهم للتأمل في
285
حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان أو تتقون عن القتل مخافة القود ، وفيه تحذير عن القتل فإن من أعظم حقوق العباد الدماء وهي أول ما يحاسب به العبد بالنسبة إلى حقوق العباد كما أن الصلاة أول ما يحاسب به بالنسبة إلى حقوق الله تعالى وفي الحديث "يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه ملبباً قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يوقفا فيقول المقتولسبحانه : هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل : تعست ويذهب به إلى النار".
واعلم أن الذنوب على ثلاثة أوجه :
الأول فيما بين العبد وبين الله تعالى : كالزنى واللواطة والغيبة والبهتان ما لم يبلغ إلى من بهته واغتابه فإذا بلغه وجعله في حلّ وتاب المذنب فنرجو أن الله يغفر له وكذلك إذا زنى بامرأة ولها زوج فلم يجعله ذلك الرجل في حلّ لا يغفر له ؛ لأن خصمه الآدمي فإذا تاب وجعله في حل فإنه يغفر له ويكتفى بحل منه ولا يذكر الزنى بأن قال : كل حق لي عليك فقد جعلتك في حل منه ومن كل خصومة بيني وبينك وهذا صلح بالمعلوم على المجهول وذلك جائز كرامة لهذه الأمة لأن الأمم السالفة ما لم يذكر الذنب لا يغفر لهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
(1/232)
والثاني ذنب فيما بينه وبين أعمال الله : وهو أن يترك الصلاة والصوم والزكاة والحج فإن التوبة لا تكفيه ما لم يقض الصلاة وغيرها لأن شرط التوبة أن يؤدي ما ترك فإذا لم يؤد فكأنه لم يتب.
والثالث فيما بينه وبين عباد الله وهو أن يغصب أموالهم أو يضربهم أو يشتمهم أو يقتلهم فإن التوبة لا تكفيه إلا أن يرضى عنه خصمه أو يجتهد في الأعمال الصالحة حتى يوفق الله بينهما يوم القيامة فإنه إذ تاب العبد وكان عليه حقوق العباد فعليه أن يردها إلى أربابها وإن عجز عن إيصالها وأراد الله مغفرته يقول لخصمه يوم القيامة : ارفع رأسك فيرفع فيرى قصوراً عالية فيقول : يا رب لمن هذه؟ فيقول الله تعالى : أنت قادر عليها فإن ثمنها عفوك عن أخيك فيقول : قد عفوت فيقول الله تعالى خذ يد أخيك واذهبا إلى الجنة.
والإشارة في الآية أن الله تعالى كتب عليكم القصاص في قتلاكم كما كتب على نفسه الرحمة في قتلاه كما قال : "من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته" ، وفي "المثنوي" :
كريكي سررا ببرد ازبدن
صد هزاران سربر آرد در زمناقتلوني يا ثقاتي لائماً
إن في قتلي حياتي دائماًإن في موتي حياتي يا فتى
كم أفارق موطني حتى متى
شير دنيا جويد أشكاري وبرك
شير مولى جويد آزادىء ومرك
ونكه اندر مرك بيند صد وجود
همو روانه بسوزاند وجود فعلى العاقل أن يقتل نفسه بالرياضات الشديدة ويحيي قلبه بالحياة الطيبة الباقية اللهم وفقنا لمداواة هذه القلوب المرضى آمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي : حضر أسبابه وظهر أمارته وآثاره من العلل والأمراض ؛ إذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت والعامل في إذا مدلول كتب لأن الكتب بمعنى الإيجاب لا يحدث وقت حضور الموت بل الحادث تعلقه بالمكلف وقت حضور موته فكأنه قيل توجه عليكم إيجاب الله تعالى ومقتضى كتابه إذا حضر فعبر عن توجه الإيجاب وتعلقه بكتب للدلالة على أن هذا المعنى مكتوب في الأزل.
286
{إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي : مالاً قليلاً أو كثيراً يقال : فلان ذو مال ولا يطلق ذلك لمن له مال قليل.
وعن عائشة رضي الله عنها "أن رجلاً أراد أن يوصي قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة قالت : إنما قال الله إن ترك خيراً أو إن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك" وأصل الخير أن يكون لكل ما يرغب فيه مما هو نافع لأنه ضد الشر.
قال في "إخوان الصفا" الخير فعل ما ينبغي في الوقت الذي بنيغي من أجل ما ينبغي {الْوَصِيَّةُ} نائب فاعل كتب أي : فرض الإيصاء {لِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ} ممن يرث ومن لا يرث {بِالْمَعْرُوفِ} نصب حالاً أي : بالعدل لا يزيد على الثلث ولا يوصي لغني ويدع الفقير وكان السبب في نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا يوصون بمالهم للبعدى رياء وسمعة طلباً للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة فصرف الله تعالى بهذه الآية في بدء الإسلام ما كان يصرف إلى الأبعدين إلى الوالدين والأقربين فعمل بها ما كان العمل بها صلاحاً وحكمة ثم نسختها آية المواريث في سورة النساء فالآن لا يجب على أحد أن يوصي لأحد قريب ولا بعيد وإذا أوصى فله أن يوصي لكل من الأقارب والأباعد إلا للوارث {حَقًّا}
جزء : 1 رقم الصفحة : 286
أي : أحق هذه الوصية حقاً {عَلَى الْمُتَّقِينَ} المجتنبين عن ضياع المال وحرمان القريب يعني إن كنتم متقين بالله لا تتركوا العمل بهذا.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" : فإن قيل قوله : على المتقين يقتضي أن يكون هذا التكليف مختصاً بالمتقين وقد دل الإجماع على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين وغيرهم أجيب بأن المراد بقوله حقاً على المتقين أنه لازم لكل من آثر التقوى وتحراها وجعلها طريقاً له ومذهباً فيدخل فيه الكل.
{فَمَنا بَدَّلَهُ} الضمير راجع إلى الوصية لكونها في تأويل الإيصاء أي : غير الإيصاء عن وجهه الشرعي والمشهور أن من غير إيصاء المحتضر هو الوصي أو الشاهد فالوصي يغير الوصية إما في الكتابة أو في قسمة الحقوق والشاهد يغيرها إما بتغيير وجه الشهادة أو بكتمها ويمكن أن يكون التبديل من سائر الناس بأن منعوا من وصول المال الموصى به إلى مستحقه فهؤلاء كلهم داخلون تحت قوله فمن بدله {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي : بعد ما وصل إليه وتحقق لديه {فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ} أي : ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَه} لأنهم خانوا وخالفوا الشرع لا على الموصي وهو الميت فإنه بريء من الإثم {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} بالإيصاء وتغييره {عَلِيمٌ} بثوابه وجزاء من غيره وهو يجازي كل واحد منهما بما يستحقه.
(1/233)
{فَمَنِ} شرطية أو موصولة {خَافَ} أي : توقع وعلم فإنه إذا علم خاف فهو من إطلاق اسم اللازم على الملزوم {مِن مُّوصٍ} أي : من الذي أوصى وهو يجوز أن يتعلق بخاف على أنها لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنها حال من جنفاً قدمت عليه لأنها في الأصل صفة له فلما تقدمت نصبت حالاً {جَنَفًا} أي : ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية {أَوْ إِثْمًا} أي : تعمداً للجنف يعني إذا جهل الموصي موضع الوصية أو زاد على مقدار الوصية أو أوصى بما لا يجوز إيصاؤه {فَأَصْلَحَ} الظاهر أن المراد بالمصلح هو الوصي لأنه أشد تعلقاً بأمر الوصية إلا أنه لا وجه لتخصيصه بالوصي بل ينبغي أن يدخل تحته كل من يتأتى منه رفع الفساد في وصية الميت من الوالي والولي والوصي ومن يأمر بالمعروف والمفتي والقاضي والوارث {بَيْنَهُم} أي : بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون فغير وصيته
287
بإجرائها على طريق الشرع {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي : لا وزر على المغير في هذا التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعد للمصلح بالإثابة وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم لأن بعض التبديل وهو التبديل إلى الباطل إثم وهذا من المشاكلة الصورية لا المعنوية لأن التبديل إلى خير ليس من جنس الإثم لكن صورته صورة ما يؤثم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 286
واعلم أن الوصية مستحبة لحاجة الناس إليها فإن الإنسان مغرور بأمله أي : يرجو الحياة مدة طويلة مقصر في عمله فإذا عرض له المرض وخاف الهلاك يحتاج إلى تدارك تقصيره بماله على وجه لو مات فيه يتحقق مقصده المآلي ولو أنهضه البرء يصرفه إلى مطلبه الحالي.
وفي الحديث "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم تضعونها حيث شئتم" ويوصي بفدية صلاته وصيامه لكل مكتوبة نصف صاع من الحنطة وكذا الوتر ولكل يوم من صوم رمضان أيضاً نصف صاع من الحنطة وفي صوم النذر كذلك.
قال في "تفسير الشيخ" : ومن كان عليه حج أو كفارة أي : شيء من الواجبات فالوصية واجبة وإلا فهو بالخيار وعليه الفتوى ويوصي بإرضاء خصمائه وديونه.
ـ حكي ـ أن الإمام الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته قال : مروا فلاناً يغسلني فلما مات بلغ خبر موته إليه فحضر وقال : ائتوني بتذكرته فأتى بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم ديناً فكتبها على نفسه وقضاها وقال : هذا غسلي إياه وإياه أراد.
وفي الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "من لم يوصصِ لم يؤذن له في الكلام مع الموتى" قيل : يا رسول الله وهل تتكلم الموتى؟ قال : "نعم ويتزاورون".
قال الإمام نقلاً عن بعض الأئمة الأعلام : والأرواح قسمان منعمة ومعذبة ، فأما المعذبة : فهي محبوسة مشغولة عن التزاور والتلاقي ، وأما المنعمة : المرسلة غير المحبوسة فتتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فيكون كل روح مع رفيقه الذي هو على مثله عمله وهذه المعية ثابتة في دار البرزخ وفي دار الجزاء والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاث في كل موطن وموقف ، فعلى العاقل أن يختار صحبة الأخيار ويتأهب آناء الليل وأطراف النهار ولا يغتر بالمال والمنال ولا ينقطع عن الله بطول الآمال فإن الدنيا فانية وكل من عليها فاننٍ فاتقوا الله كل حين وآن ، قال الصائب :
درسر اين غافلان طول أمل داني كه يست
آشيان كردست مارى در كبوترخانة
جزء : 1 رقم الصفحة : 286
والإشارة في الآية أنه {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} على الأغنياء الوصية بالمال وكتب على الأولياء الوصية بالحال فالأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادىء أحوالهم عن الكل {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} أي : يحضر قلب أحدهم مع الله ويموت بنفسه بالإرادة عن الصفات الطبيعية الحيوانية كما قال صلى الله عليه وسلّم "موتوا قبل أن تموتوا" ويترك كل خير وشر كان مشربها من الدنيا والعقبى فعليه أن يوصي {لِلْوَالِدَيْنِ} وهما الروح العلوى والبدن السفلى فإن النفس توالدت وحصلت بازدواجهما {وَالاقْرَبِينَ} وهم القلب والسر وباقي المتولدات البشرية بتركه وترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية الباقية والمشارب الجسمانية الفانية {بِالْمَعْرُوفِ} أي : بالاعتدال من غير إسراف يقضي إلى إتلاف محترزاً في الأحوال من الركون إلى
288
(1/234)
شهوة من الشهوات وفي الأعمال مجتنباً عن الرسوم والعادات كما قال النبي عليه السلام "بعثت لرفع العادات وترك الشهوات" وقال : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" بأن يجعل المشارب مشرباً واحداً والمحابيب محبوباً واحداً والمذاهب مذهباً واحداً {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني ما ذكرنا من الوصية بجملتها حق واجب على متقي الشرك الخفي ولهذا قال على المتقين وما قال على المسلمين والمؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال عليه السلام : "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره.
واعلم أن القرآن أنزل لأهل البواطن كما أنزل لأهل الظواهر لقوله عليه السلام : "إن للقرآن ظهراً وبطناً" فظاهره الأحكام لأهل الظواهر والأحكام تحتمل النسخ كما نسخت هذه الآية في الوصية الظاهرة وباطنه الحكم والحقائق فهي لا تحتمل النسخ أبداً ولهذا قال أهل المعاني : ليس شيء من القرآن منسوخاً يعني وإن كان دخل النسخ في أحكام ظاهره فلا يدخل في أحكام باطنه فيكون أبداً معمولاً بالمواعظ والأسرار والحقائق حقاً على المتقين لأنه مخصوص بهداية المتقين كقوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) فحكم الوصية في حقهم غير منسوخ ابدا كذا في "التأويلات النجمية" قدس الله نفسه الزكية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 286
والإشارة في الآية أنه {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} على الأغنياء الوصية بالمال وكتب على الأولياء الوصية بالحال فالأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادىء أحوالهم عن الكل {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} أي : يحضر قلب أحدهم مع الله ويموت بنفسه بالإرادة عن الصفات الطبيعية الحيوانية كما قال صلى الله عليه وسلّم "موتوا قبل أن تموتوا" ويترك كل خير وشر كان مشربها من الدنيا والعقبى فعليه أن يوصي {لِلْوَالِدَيْنِ} وهما الروح العلوى والبدن السفلى فإن النفس توالدت وحصلت بازدواجهما {وَالاقْرَبِينَ} وهم القلب والسر وباقي المتولدات البشرية بتركه وترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية الباقية والمشارب الجسمانية الفانية {بِالْمَعْرُوفِ} أي : بالاعتدال من غير إسراف يقضي إلى إتلاف محترزاً في الأحوال من الركون إلى
288
شهوة من الشهوات وفي الأعمال مجتنباً عن الرسوم والعادات كما قال النبي عليه السلام "بعثت لرفع العادات وترك الشهوات" وقال : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" بأن يجعل المشارب مشرباً واحداً والمحابيب محبوباً واحداً والمذاهب مذهباً واحداً {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني ما ذكرنا من الوصية بجملتها حق واجب على متقي الشرك الخفي ولهذا قال على المتقين وما قال على المسلمين والمؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال عليه السلام : "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره.
واعلم أن القرآن أنزل لأهل البواطن كما أنزل لأهل الظواهر لقوله عليه السلام : "إن للقرآن ظهراً وبطناً" فظاهره الأحكام لأهل الظواهر والأحكام تحتمل النسخ كما نسخت هذه الآية في الوصية الظاهرة وباطنه الحكم والحقائق فهي لا تحتمل النسخ أبداً ولهذا قال أهل المعاني : ليس شيء من القرآن منسوخاً يعني وإن كان دخل النسخ في أحكام ظاهره فلا يدخل في أحكام باطنه فيكون أبداً معمولاً بالمواعظ والأسرار والحقائق حقاً على المتقين لأنه مخصوص بهداية المتقين كقوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) فحكم الوصية في حقهم غير منسوخ ابدا كذا في "التأويلات النجمية" قدس الله نفسه الزكية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 286
(1/235)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} قال أصحاب اللسان يا حرف نداء وهو نداء من الحبيب للحبيب وأيها تنبيه من الحبيب للحبيب وآمنوا شهادة من الحبيب للحبيب.
وقال الحسن : إذا سمعت الله يقول : يا أيها الذين آمنوا فارفع لها سمعك فإنه لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه.
وقال جعفر الصادق لذة في النداء أزال بها تعب العبادة والعناء يشير إلى أن المحب يبادر إلى امتثال أمر محبوبه حتى لو أمره بإلقاء نفسه في النار {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي : فرض عليكم صيام شهر رمضان فإنه تعالى قال بعده {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} (البقرة : 184) وقال تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة : 185) بعد قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ} (البقرة : 185) والصيام في الشريعة هو الإمساك نهاراً مع النية من أهله عن المفطرات المعهودة التي هي معظم ما تشتهيه الأنفس وهذا صوم عوام المؤمنين وأما صوم الخواص فالإمساك عن المنهيات وأما صوم أخص الخواص فالامساك عما سوى الله تعالى {كَمَا كُتِبَ} محل كما النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي : كتب كتاباً كائناً مثل ما كتب وما مصدرية أو على أنه حال من الصيام وما موصولة أي : كتب عليكم الصيام مشبهاً بالذي كتب {عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء عليهم السلام والأمم من لدن آدم عليه السلام وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فإن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله ويرغب كل أحد في إتيانه والظاهر أن التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم لا إلى كمية الصوم المكتوب وبيان وقته فكان الصوم على آدم أيام البيض وصوم عاشوراء كان على قوم موسى والتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجهه كما يقال في الدعاء اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وكما قال عليه السلام : "إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر" فإن هذا تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه السلام : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء" قوله : الشباب جمع شاب وهو عند أصحابنا من بلغ ولم يجاوز ثلاثين كذا قاله النووي والباءة :
289
النكاح والتزوج وهو المباءة في المنزل لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً والوجاء نوع من الإخصاء وهو أن يرض عروق الأنثيين ويترك الخصيتين كما هما والمعنى على التشبيه أي : الصوم يقطع شهوة الجماع ويدفع شر المني كالخصاء والأمر في الحديث للوجوب لأنه محمول على حالة التوقان بإشارة قوله : يا معشر الشباب فإنهم ذوو التوقان على الجبلة السليمة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 289
قال العلماء : تسكين الشهوة يحصل بالصيام بالنهار والقيام بالليل وحذف الشهوات والتغافل عنها وترك محادثة النفس بذكرها ، فإن قلت : إن الرجل يصوم ويقوم ولا يأكل ويجد من نفسه حركة واضطراباً ، قلت : ذلك من فرط فضل شهوة مقيمة فيه من الأول فليقطع ذلك على نفسه بالهموم والأحزان الدائمة وذكر الموت وتقريب الأجل وقصر الأمل والمداومة على المراقبة والمحافظة على الطاعة.
(1/236)
{أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} أي : موقتات ومقدرات بعدد معلوم أو قلائل فإن القليل من المال يعد عداً والكثير يهال هيلاً أي : يصب صباً على غير كيل وعدّ فالله تعالى لم يفرض علينا صيام الدهر ولا صيام أكثره تخفيفاً ورحمة وتسهيلاً لأمر التكليف على جميع الأمم وانتصاب أياماً بمضمر دل هو أي : الصيام عليه أعنى صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعاً {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} أي : مرضاً يضره الصوم أو يضر معه {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أو راكب سفر وفيه إيماء بأن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر لعدم استعلائه السفر استعلاء الراكب المركوب بل هو ملابس شيئاً من السفر والرخصة إنما أثبتت لمن كان على سفر وكلمة على فيها استعارة تبعية شبه تلبسه بالسفر باستعلاء الراكب واستيلائه على المركوب يتصرف فيه كيف يشاء وللدلالة على هذا المعنى عدل عن اسم الفاعل فلم يقل أو مسافراً إذ ليس فيه إشارة بالاستيلاء على السفر {فَعِدَّةٌ} أي : فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر فعدة من العد بمعنى المعدود ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} غير أيام مرضه وسفره إن أفطر متتابعاً أو غير متتابع والمقصود من الآية بيان أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المعتبرين وأما من كان مريضاً أو مسافراً فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بالذين يطيقونه الأصحاء المقيمون خيّرهم في ابتداء الإسلام بين أمرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فالمعنى أي : وعلى المطيقين للصيام القادرين عليه إن أفطروا {فِدْيَةٌ} أي : إعطاء فدية وهي {طَعَامُ مِسْكِينٍ} وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء.
وفي "تفسير الشيخ" : يطيق من أطاق فلان إذا زالت طاقته والهمزة للسلب أي : لا يقدرون على الصوم وهم الذين قدروا عليه في حال الشباب ثم عجزوا عنه في حال الكبر {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي : من تبرع بخير فزاد في الفدية أو تطوع تطوعاً خيراً {فَهُوَ} أي : التطوع {خَيْرٌ لَّهُ} وذكر في الخير المتطوع ثلاثة أوجه :
جزء : 1 رقم الصفحة : 289
أحدها : أن يزيد على مسكين واحد فيطعم مكان كل يوم مسكينين أو أكثر.
وثانيها : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
وثالثها : أن يصوم مع الفدية فهو خير كله {وَأَن تَصُومُوا} في تأويل المصدر مرفوع بالابتداء أي : صومكم أيها المرضى والمسافرون
290
والذين يطيقونه {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الفدية {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة والجواب محذوف ثقة بظهوره أي : اخترتموه ، وفي "الأشباه" : الصوم في السفر أفضل إلا إذا خاف على نفسه أو كان له رفقة اشتركوا في الزاد واختاروا الفطر انتهى وإنما فضل الصوم للمسافر لأن الصوم عزيمة له والتأخير رخصة والأخذ بالعزيمة أفضل وأما ما روي أن النبي عليه السلام قال : "ليس من البر الصيام في السفر" فمحمول على ما إذا كان الصوم يضعفه حتى يخاف عليه الهلاك كذا في "شرح المجمع" لابن الملك ، والسفر المبيح للفطر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها عند أبي حنيفة رحمه الله.
واعلم أن الله تعالى أمرنا بصيام شهر كامل ليوافق عدد السنة في الأجر الموعود بقوله : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) فالشهر الكامل ثلاثمائة وستة أيام شوال ستون يوماً فإن نقص يوم من عدد الشهر لم ينقص من الثواب روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صام ثمانية رمضانات : خمسة منها كانت تسعة وعشرين يوماً والباقي ثلاثين يوماً وافترض الصيام بعد خمس عشرة سنة من النبوة بعد الهجرة بثلاث سنين.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعث الله نبيه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم أكمل لهم الدين وأول ما فرض الصوم على الأغنياء لأجل الفقراء في زمن الملك طهمورث ثالث ملوك بني آدم وقع القحط في زمانه فأمر الأغنياء بطعام واحد بعد غروب الشمس وبإمساكهم بالنهار شفقة على الفقراء وإيثاراً عليهم بطعام النهار وتعبداً وتواضعاًتعالى.
والصوم سبب للولوج في ملكوت السموات وواسطة الخروج عن رحم مضايق الجسمانيات المعبر عنه بالنشأة الثانية كما أشير إليه بقوله عيسى عليه السلام : (لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين) بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء وإليه يشير الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي" يعني : أنا جزاؤه لا حوري ولا قصوري ولهذا علق سبحانه نيل سعادة الرؤية بالجوع حيث قال في مخاطبة عيسى عليه السلام (تجوع تراني).
قال السعدي :
(1/237)
جزء : 1 رقم الصفحة : 289
ندارند تن روران آكهى
كه ر معده باشد ز حكمت تهى
وإنما أضيف الصوم إلى الله في "الصوم لي" لأنه لا رياء فيه بل سر لا يعلمه إلا الله وإنما يكون الله سبحانه جزاء صومه إذا أمسك قلبه وسره وروحه عما سواه تعالى وهو الصوم الحقيقي عند الخواص.
قال في "المثنوي" :
هركرا دارد هوسها جان اك
زود بيند حضرت وايوان اك
والإشارة في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إن الصوم كما يكون للظاهر يكون للباطن وباطن الخطاب يشير إلى صوم القلب والروح والسر الذين آمنوا شهود أنوار الحضور مع الله فصوم القلب صومه عن مشارب المعقولات وصوم الروح عن ملاحظة الروحانيات وصوم السر صونه عن شهود غير الله فمن أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق وفي قوله عليه السلام : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" عند التحقيق أنها عائدة إلى الحق فينبغي أن يكون صوم العبد ظاهراً أو باطناً
291
لرؤية الحق وإفطاره بالرؤية قوله تعالى : كتب عليكم الصيام أي : على كل عضو في الظاهر وعلى كل صفة في الباطن.
فصوم اللسان عن الكذب والفحش والغيبة.
وصوم العين عن النظر في الغفلة والريبة.
وصوم السمع عن استماع المناهي والملاهي وعلى هذا فقس الباقي.
وصوم النفس عن التمني والحرص والشهوات.
وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها.
وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها.
وصوم السر عن رؤية وجود غير الله وإثباته {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} هي إشارة إلى أن أجزاء وجود الإنسان من الجسمانية والروحانية قبل التركيب كانت صائمة عن المشارب كلها فلما تعلق الروح بالقالب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية بقوة إمداد الروح وصار الروح بقوة حواس القالب متمتعاً من المشارب الروحانية والحيوانية فالآن كتب عليهم الصيام وهم مركبون كما كتب على الذين من قبلكم من المفردات {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من مشارب المركبات وتصومون فيها مع حصول استعداد الشراب ليفطروا عن مشارب يشرب بها عباد الله إذا سقاهم ربهم شراباً طهوراً فيطهركم طهورية هذا الشراب من دنس استدعاء الحظوظ الحيوانية والروحانية كما قال ولكن يريد ليطهركم فلما أفل كوكب استدعاء الحظوظ طلعت شمس استدعاء اللقاء من مطلع الالتقاء فحينئذٍ يتحقق إنجاز ما وعد سيد الأنبياء بقوله : "للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" ثم أخبر عن كمال لطفه مع العباد بتقليل الأعداد في قوله : {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} والإشارة فيها هو أن صومكم في أيام قلائل معدودة متناهية وثمرات صومكم في أيام غير معدودة ولا متناهية فلا يهولنكم سماع ذكره كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 289
{شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأ خبره ما بعده فيكون المقصود من ذكر هذه الجملة المنبهة على فضله ومنزلته الإشارة إلى وجه تخصيصه من بين الشهور بأن فرض صومه ثم أوجب صومه بقوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} (البقرة : 185)المعهود {فَلْيَصُمْهُ} (البقرة : 185) وسمي الشهر شهراً لشهرته ، ورمضان مصدر رمض إذا احترق فأضيف إليه الشهر وجعل المجموع علماً ومنع من الصرف للتعريف والألف والنون.
وإنما سمي بذلك إما لارتماض الأكباد واحتراقها من الجوع والعطش وإما لارتماض الذنوب بالصيام فيه أو لوقوعه أيام رمض الحر أي : شدة وقوعه على الرمل وغيره.
قيل : إنهم نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة فسموها بالأزمنة التي وقعت هي فيها وقت التسمية فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي به كما يسمى بربيع لموافقته الربيع وجمادى لموافقته جمود الماء.
أو رمضان اسم من أسماء الله تعالى والشهر مضاف إليه ولذلك روي "لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى" {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ} جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوماً في ثلاث وعشرين سنة حسبما تقتضيه المشيئة الربانية وعن النبي عليه السلام : "نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين" والقرآن من القرء وهو الجمع لأنه مجمع علم الأولين والآخرين {هُدًى لِّلنَّاسِ} أي : أنزل حال كونه هداية للناس إلى سواء الصراط بما فيه من الإعجاز وغيره {وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي : وحال كونه آيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام فالهدى على قسمين :
292
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
(1/238)
ما يكون بيناً جلياً وما لا يكون كذلك والأول أفضل القسمين فذكر الجنس أولاً ثم أردفه بإشراف نوعيه بل بالغ فيه فكأنه قيل : إنه هدى بل هو بين من الهدى ولا شك أنه في غاية المبالغة لأنه في المرتبة الثالثة فالعطف في وبينات من باب عطف التشريف {فَمَنِ} الفاء للتفريع والترتيب {شَهِدَ} أي : حضر موضع الإقامة من المصر أو القرية كائناً ذلك الحاضر {مِنكُمُ الشَّهْرَ} منصوب على الظرف أي : في الشهر دون المفعول به لأن المقيم والمسافر يشهدان الشهر {فَلْيَصُمْهُ} أي : فليصم فيه بحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور اتساعاً ، والمراد بالشاهد العاقل البالغ الصحيح لأن كل واحد من الصبي والمجنون يشهد موضع الإقامة في الشهر مع أنه لا يجب عليهما الصوم وهذا أي : الحتم ينسخ التخيير بين الصوم والإفطار والفداء {وَمَن كَانَ مَرِيضًا} وإن كان مقيماً حاضراً فيه {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وإن كان صحيحاً وعلى بمعنى في وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي : فعليه صيام أيام أخر وأعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما في الإفطار لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المقيم المطيق والمسافر والمريض ونسخ في الثانية تخيير المقيم بقوله : {فَلْيَصُمْهُ} فلو اقتصر على هذا احتمل أن يعود النسخ إلى تخيير الجميع فأعاد بعض النسخ بترخيص المسافر والمريض ليعلم أنه باق على ما كان {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} حيث أباح الفطر بالسفر والمرض واليسر ما تسهل {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي : مشقة بالصوم في المرض والسفر لغاية رأفته وسعة رحمته.
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : اليسر اسم الجنة لأن جميع اليسر فيها والعسر اسم جهنم لأن جميع العسر فيها معناه يريد الله بصومكم إدخال الجنة ولا يريد بكم إدخال النار ، قال شيخنا العلامة الفضلي قدس سره في الآية أن مراده تعالى بأن يأمركم بالصوم يسر الدارين لا عسرهما أما اليسر في الدنيا فالترقي إلى الملكية والروحانية والوصول إلى اليقظة والمعرفة وأما العسر فيها فالبقاء مع البشرية والحيوانية والاتصاف بالأوصاف الطبيعية والنفسانية وأما اليسر في الآخرة فهو الجنة والنعمة والقربة والوصلة والرؤية وأما العسر فيها فهو الجحيم وعذابها ودركاتها انتهى كلامه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
وقال نجم الدين في "تأويلاته" : يعني يريد الله بكم اليسر الذي هو مع العسر فلا تنظر في امتثال الأمر إلى العسر ولكن انظر إلى اليسر الذي هو مع العسر فإن العاقل إذا سقاه الطبيب شراباً مراً أمر من بلاء المرض موجباً للصحة فلا ينظر العاقل إلى مرارة الشراب ولكن ينظر إلى حلاوة الصحة ولا يبالي بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة انتهى ، قال السعدي قدس سره :
وبالست دادن برنجور قند
كه داروي تلخش بود سودمند
زعلت مدار أي خردمند بيم
جوداروي تلخت فرستد حكيم
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي : وإنما أمرناكم بمراعاة العدة بعد إيجاب صوم رمضان كما قال تعالى : {فَعِدَّةٌ} أي : فعليكم عدة ما أفطرتم لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم بسبب مرضكم
293
(1/239)
أو سفركم {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أي : إنما علمناكم كيفية القضاء وهو المدلول عليه بقوله تعالى : {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مطلقاً فإنه يجوز أن يقضي على سبيل التوالي أو التفريق لتعظموا الله حامدين {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ما مصدرية أي : على هدايته إياكم إلى طريق الخروج عن عهدة التكليف {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي : إنما رخصنا لكم بالإفطار لكي تشكروا الله على هذه النعمة باللسان والقلب والبدن وفي الحديث "من حافظ على ثلاث فهو ولي الله حقاً ومن ضيعهن فهو عدو الله حقاً الصلاة والصوم والغسل من الجنابة" وفي بعض الخبر "إن الجنان يشتقن إلى أربعة نفر صائمي رمضان ، وتالي القرآن ، وحافظي اللسان ، ومطعمي الجيران وإن الله يغفر للعبد المسلم عند إفطاره ما مشت إليه رجلاه وما قبضت عليه يداه وما نظرت إليه عيناه وما سمعته أذناه وما نطق به لسانه وما حدث به قلبه" وفي الحديث "إذا كان يوم القيامة وبعث من في القبور أوحى الله إلى رضوان أني أخرجت الصائمين من قبورهم جائعين عاطشين فاستقبلهم بشهواتهم من الجنان فيصيح ويقول : أيها الغلمان والولدان عليكم بأطباق من نور فيجتمع أكثر من عدد الرمل وقطرات الأمطار وكواكب السماء وأوراق الأشجار بالفاكهة الكثيرة والأشربة اللذيذة والأطعمة الشهية فيطعم من لقي منهم ويقول : كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" وعن النبي عليه السلام أنه قال : "رأيت ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ملكاً لم أرَ مثله طولاً وعرضاً طوله مسيرة ألف ألف سنة وله سبعون ألف رأس من كل رأس سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان وعلى كل رأس ألف ذؤابة من نور وعلى كل ذؤبة ألف ألف لؤلؤة متعلقة بقدرة الله تعالى وفي جوف كل لؤلؤة بحر من نور وفي ذلك البحر حيتان طول كل حوت مقدار مائتي عام مكتوب على ظهرهن لا إله إلا الله محمد رسول الله وذلك الملك واضع إحدى يديه على رأسه والأخرى على ظهره وهو في حظيرة القدس فإذا سبح اهتز العرش بحسن صوته فسألت عنه جبريل فقال : هذا ملك خلقه الله تعالى قبل آدم بألف عام فقلت : أين كان هذا إلى هذه الغاية؟ فقال : إن الله مرجاً في الجنة عن يمين العرش فكان هو فيه فأمره الله في ذلك المكان أن يسبح لك ولأمتك بسبب صوم شهر رمضان فرأيت صندوقين بين يديه على كل صندوق ألف قفل من نور وسألت جبريل عن الصندوقين فقال : سل منه فسألته فقال : إن فيهما براءة الصائمين من أمتك من عذاب النار طوبى لك ولأمتك".
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
اعلم أنه لا بد من النية في الأعمال خصوصاً في الصوم وهي أن يعلم بقلبه أنه يصوم ولا يخلو مثلاً عن هذا في ليالي شهر رمضان والإمساك قد يكون للعادة أو لعدم الاشتهاء أو للمرض أو للرياضة أو يكون للعبادة فلا يتعين له إلا بالنية وهي شرط لكل يوم لأن صوم كل يوم عبادة على حدة ألا يرى أنه لو أفسد صوم يوم لا يمنع صحة الباقي بخلاف التراويح فإنه لا يلزم النية في كل شفع لأن الكل بمنزلة صلاة واحدة وهو الأصح وتجوز النية إلى نصف النهار دفعاً للحرج وما يروى من الأحاديث في نفي الصوم إلا بالتبييت فحمولة على نفي الفضيلة بخلاف القضاء والكفارات والنذر المطلق لأن الزمان غير متعين لها فوجب التبييت نفياً للمزاحمة ويعتبر نصف النهار من طلوع الفجر الثاني فيكون إلى الضحوة الكبرى فينوي قبلها ليكون الأكثر منوياً فيكون له حكم الكل حتى لو نوى بعد
294
ذلك لا يجوز لخلو الأكثر عن النية تغليباً للأكثر.
والاحتياط في النية في التراويح أن ينوي التراويح أو ينوي قيام الليل أو ينوي سنة الوقت أو قيام رمضان.
والتراويح سنة مؤكدة واظب عليها الخلفاء الراشدون قال عليه السلام : "إن الله فرض عليكم الصيام وسننت قيامه" وأما قول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه يعني قيام رمضان فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان قد صلاّها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس إليها فمحافظة عمر عليها وجمع الناس إليها وندبهم بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة كذا في "تفسير القرطبي" عند قوله تعالى {بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (البقرة : 117) في الجزء الأول وكان النبي صلى الله عليه وسلّم بشر أصحابه بقدوم رمضان ويقول : "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم".
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
(1/240)
قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان ، قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" التهنئة بالشهور والأعياد مما اعتاده الناس وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه "من لقي أخاه عند الانصراف من الجمعة فليقل تقبل الله منا ومنك" ويروى في جملة حقوق الجار من المرفوع "إن أصابه خير هنأه أو مصيبة عزاه أو مرض عاده".
ومن آداب الصيام حفظ الجوارح الظاهرة وحراسة الخواطر الباطنة ولن يتم التقرب إلى الله تعالى إلا بترك ما حرم الله.
قال أبو سليمان الداراني قدس سره لأن أصوم النهار وأفطر الليل عن لقمة حلال أحب إلي من قيام الليل والنهار وحرام على شمس التوحيد أن تحل قلب عبد في جوفه لقمة حرام ولا سيما في وقت الصيام فليجتنب الصائم أكل الحرام فإنه سم مهلك للدين.
والسنة تعجيل الفطور وتأخير السحور فإن صوم الليل بدعة فإذا أخر الإفطار فكأنه وجد صائماً في الليل فصار مرتكباً للبدعة كذا في "شرح عيون المذاهب".
ولنا ثلاثة أعياد : عيد الإفطار وهو عيد الطبيعة ، والثاني : عيد الموت حين القبض بالإيمان الكامل وهو عيد كبير ، والثالث : عيد التجلي في الآخرة وهو أكبر الأعياد وروى الترمذي وصححه عن زيد بن خالد "من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" وكان حماد بن سلمة الإمام الحافظ يفطر في كل ليلة من شهر رمضان خمسين إنساناً وإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوباً ثوباً وكان يعد من الأبدال.
وأخرج السيوطي في "الجامع الصغير" والسخاوي في "المقاصد" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال عليه السلام : "خيار أمتي في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً آخر" قالوا : يا رسول الله دلنا على أعمالهم قال عليه السلام : "يعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساءهم ويتواسون فيما آتاهم الله" وفي الحديث "من أشبع جائعاً أو كسا عارياً أو آوى مسافراً أعاذه الله من أهوال يوم القيامة" وكان عبد الله بن المبارك ينفق على الفقراء وطلبة العلم في كل سنة مائة ألف درهم ويقول للفضيل بن عياض : لولاك وأصحابك ما اتجرت وكان يقول للفضيل وأصحابه : لا تشتغلوا بطلب الدنيا اشتغلوا بالعلم وأنا أكفيكم المؤونة.
وكان يحيى البرمكي يجري على سفيان الثوري كل شهر ألف درهم وكان سفيان يدعو له في سجوده ويقول : اللهم إن يحيى كفاني أمر الدنيا
295
فاكفه أمر آخرته فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في النوم فقال : ما صنع الله بك قال : غفر لي بدعاء سفيان ، قال الصائب :
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
تيره روزان جهانرا براغي درياب
تاس ازمرك ترا شمع مزاري باشد
جعلنا الله وإياكم من العاملين بمقتضى كتابه ومدلول خطابه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم مطلع على ذكرهم وشكرهم سميع بأقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه.
وسبب النزول ما روي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فقال تعالى إيماء إلى سرعة إجابة الدعاء منهم إذا سألك عبادي عني {فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي : فقل لهم إني قريب بالعلم والإحاطة فهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم فيكون لفظ قريب استعارة تبعية تمثيلية وإنما لم يحمل على القرب الحقيقي وهو القرب المكاني لأنه ممتنع في حقه تعالى لأنه لو كان في مكان لما كان قريباً من الكل فإن من كان قريباً من حملة العرش يكون بعيداً من أهل الأرض ومن كان قريباً من أهل المشرق يكون بعيداً من أهل المغرب وبالعكس ، قال أبو موسى الأشعري لما توجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى خيبر أشرف الناس على وادٍ فرفعوا أصواتهم بالتكبير لا إله إلا الله والله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم" وهذا باعتبار المشارب والمقامات واللائق بحال أهل الغفلات الجهر لقلع الخواطر كما أن المناسب لأهل الحضور الحفاء ، قال السعدي :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين عجبتركه من ازوى دورم
جزء : 1 رقم الصفحة : 296
(1/241)
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} تقرير للقرب المجازي المراد في هذا المقام وهو الحالة الشبيهة بالقرب المكاني وقد تقرر أن إثبات ما يلائم المستعار منه للمستعار له يرشح الاستعارة ويقررها وأيضاً وعد للداعي بالإجابة ، فإن قلت : إنا نرى الداعي يبالغ في الدعوات والتضرع فلا يجاب ، قلت : إن هذه الآية مطلقة والمطلق محمول على المقيد وهو قوله تعالى : {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ} (الأنعام : 41) فالمعنى أجيب دعوة الداع إذا دعاني إن شئت أو إذا وافق القضاء أو إذا لم يسأل محالاً أو كانت الإجابة خيراً له والإجابة إعطاء ما سئل والله تعالى يقابل مسألة السائل بالإسعاف ودعاء الداعي بالإجابة وضرورة المضطرين بالكفاية {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى} أي : فليجيبوا إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم واستجابه واستجاب له وأجابه واحد قطع مسألته بتبليغة مراده وأصله من الجوب والقطع {وَلْيُؤْمِنُوا بِى} أمر بالثبات على ما هم عليه.
قال ابن الشيخ الاستجابة عبارة عن الانقياد والاستسلام والإيمان عبارة عن صفة القلب وتقديمها على الإيمان يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقديم الطاعات والعبادات.
ومعنى الفاء فيه أنه تعالى قال : أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقاً فكن أنت أيضاً مجيباً لدعائي مع أنك محتاج إليّ من كل الوجوه فما أعظم
296
هذا الكرم {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} راجين إصابة الرشد وهو الاهتداء لمصالح الدين والدنيا ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا وآمنوا اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم لأن الرشيد من كان كذلك.
اعلم أن عدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند أهل الشريعة والطريقة لأنه كالمقاومة مع الله ودعوى التحمل لمشاقه ، وفي "المثنوي" :
تافرود آيد بلا بي دافعي
ون نباشد از تضرع شافعي
فالتسبب واجب للعوام والمبتدعين في السلوك والتوكل أفضل للمتوسطين.
وأما الكاملون فليس يمكن حصر أحوالهم فالتوكل والتسبب عندهم سيان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 296
ـ روي ـ أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما ألقي في النار لقيه جبريل في الهواء فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا فقال : فاسأل الله الخلاص فقال عليه السلام : حسبي من سؤالي علمه بحالي وهذا مقام أهل الحقيقة من المكملين الفانين عن الوجود وما يتعلق به والباقين بالرب في كل حال فأين أنت من هذا فاسأل الله عفوه ومغفرته وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكلم الناس بقدر مراتبهم ولذا قال لأعرابي أرسل إبلاً له توكلاً عليه تعالى : "اعقلها وتوكل على الله" أمر بعقل الدابة لأنه أراد بالتوكل التحرز عن الفوات وحث بعضهم على التوكل كتوكل الطير وذلك إذا لم يسكن إلى سابق القضاء ، ثم إجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه ومن دعا بحاجة فلم نقض للحال فذلك لوجوه : منها أن الإجابة حاصلة لا محالة فإن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة وقضاء الحاجة غير إجابة الدعوة فإن إجابة الدعوة هو أن يقول العبد : يا رب فيقول الله تعالى له : لبيك عبدي وهذا موعود موجود لكل متوجه راشد وقضاء الحاجة إعطاء المراد وإيصال المرتاد وذلك قد يكون للحال وقد يكون بعد مدة وقد يكون في الآخرة وقد يكون الخيرة له في غيره ومنها أن الإجابة ليست بجهة واحدة بل لها جهات وفي الحديث "دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاث : إما أن يدعو بإثم أو قطعية رحم وإما أن يدخر له في الآخر وإما أن يصرف السوء عنه بقدر ما دعا" ، ومنها أن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما سبق ، ومنها أنه شرط لهذه الإجابة إجابة العبد إياه فيما دعاه إليه لقوله تعالى : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى} ، ومنها أن للدعاء شرائط وآداباً وهي أسباب الإجابة فمن استكملها كان من أهل الإجابة ومن أخل بها كان من أهل الاعتداء فلا يستحق الجواب والأسباب منها ما يتعلق بأهل العموم ويطول ذكرها إن استوفيت ههنا ، ومنها ما يتعلق بالخصوص وهي التزكية فالإجابة موقوفة على تزكية الداعي فعليه أن يزكي البدن أو لا فيصلحه بلقمة الحلال وقد قيل : الدعاء مفتاح باب السماء وأسنانه لقمة الحلال وقال عليه السلام : "الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول : يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك".
ـ حكي ـ أنه كان بالكوفة أناس يستجاب دعاؤهم كلما دخل عليهم واللٍ كانوا يدعون عليه فيهلك فدبر الحجاج الحيلة عليهم حين ولي عمل الكوفة من ابن مروان فدعاهم إلى مأدبته فلما أكلوا قال : أمنت من دعائهم أن يستجاب حيث دخل في بطونهم طعام حرام ويزكي الداعي نفسه ويطهرها من الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة لأنها قاطعات لطريق الدعاء ويزكي قلبه عن رين التعلقات الإنسانية من النفساني والروحاني ويصفيه بالأذكار وينوره بنور الأخلاق فإن هذه أسباب
297
(1/242)
القربة بها يرفع الدعاء إلى الله كما قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر : 10) ويزكي الروح عن دنس الالتفات لغير الله ليتعرض لنفخات الطاقة ويزكي السر عن وصمة الشرك بأن يوجهه إلى الحق في الدعاء لطلب الحق لا لطلب غير الحق من الحق ليستجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه كما قال : "ألا من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني" وإن الله وعد الإجابة على طلبه بالدعاء فقال : (أجيب دعوة الداععِ إذا دعان) أي : إذا طلبني ، قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 296
خلاف طريقت بود كاوليا
نكمت كنند ازخدا جز خدا
فمن أخل ببعض هذه الشرائط لم يلزمه الإجابة كمن أخل بركن من أركان الصلاة لم يلزمه القبول إلا أن الجبار يجبر كل خلل وكسر يكون في أعمال العباد بفضله وكرمه وفي الحقيقة إن أفضاله مع العباد مقدم على أعمالهم وإنه يعطي قبل السؤال ويحقق مراد العبد بعد سؤاله بجميع النوال والدعاء على قسمين : داع بالدعاء وقارىء للدعاء فللداعي يفتح أبواب السموات حتى يبلغ دعاؤه العرش وقارىء الدعاء لا يبلغ إلا الإذن.
قال الفناري في "تفسير الفاتحة" : ثم لصحة التصور وجودة الاستحضار أثر عظيم في الإجابة اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام وحرض عليه علياً رضي الله تعالى عنه لما علمه الدعاء وفيه اللهم اهدني وسددني فقال له اذكر بهدايتك هداية الطريق وبالسداد سداد السهم فأمره باستحضار هذين الأمرين وقت الدعاء فهذا هو سر إجابة دعاء الرسل والكمل والأمثل فالأمثل واستقامة التوجه حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوي في الإجابة فمن تصوره تصوراً صحيحاً من رؤية وعلم سابقين أو حاضرين حال الدعاء ثم دعاه سيما بعد أمره له بالدعاء والتزامه الإجابة فإنه يجيبه لا محالة أما من زعم أنه يقصد مناداة زيد وهو يستحضر غيره ثم لم يجد الإجابة فلا يلومن إلا نفسه إذ لم يناد القادر على الإجابة وإنما توجه إلى ما أنشأه من صفات تصوراته بالحالة الغالبة عليه إذ ذاك لكن سؤاله قد يثمر بشفاعة حسن ظنه بربه وشفاعة المعية الإلهية وحيطته فالمتوجه بالخطأ مصيب من وجه كالمجتهد المخطىء مأجور غير محروم بالكلية انتهى كلام الفناري.
وفي "رسالة القشيري" : في الخبر المروي "إن العبد يدعو الله سبحانه وهو يحبه فيقول : يا جبريل أخّر حاجة عبدي فإني أحب أن أسمع صوته وإن العبد ليدعوه وهو يبغضه فيقول : يا جبريل اقض حاجة عبدي فإني أكره أن أسمع صوته".
ـ حكي ـ أنه وقع ببغداد قحط فأمر الخليفة المسلمين بالخروج للاستسقاء فخرجوا واستسقوا فلم يسقوا فأمر اليهود فخرجوا وسقوا فتحير الخليفة ودعا علماء المسلمين وسألهم فلم يفرجوا عنه فجاء سهل بن عبد الله وقال : يا أمير المؤمنين إنا معاشر المسلمين أحبنا الله لدين الإسلام وهدانا ويحب دعاءنا وتضرعنا فلهذا لم يعجل إجابتنا وهؤلاء أبغضهم ولعنهم فلهذا عجل إجابتهم وصرفهم عن بابه قال عليه السلام : "قوام الدنيا بأربعة أشياء : بعلم العلماء ، وعدل الأمراء ، وسخاوة الأغنياء ، ودعوة الفقراء" وينبغي أن يسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى العظام والأدعية المأثورة عن السلف الكرام وينبغي أن يتوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والأولياء الصالحين.
وللدعاء أماكن يظن فيها الإجابة مثلاً عند رؤية الكعبة والمساجد الثلاثة وبين الجلالتين من سورة الأنعام وفي الطواف وعند الملتزم وفي البيت وعند زمزم وعند شرب مائه وعلى الصفا والمروة
298
وفي السعي وخلف المقام وفي عرفات والمزدلفة ومنى وعند الجمرات الثلاث وعند قبور الأنبياء عليهم السلام.
وقيل : لا يصح قبر نبي بعينه سوى قبر نبينا عليه الصلاة والسلام وقبر إبراهيم عليه السلام داخل السور من غير تعيين وجرب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين بشروط معروفة عند أهلها اللهم أفض علينا من بركات الصالحين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 296
(1/243)
{أُحِلَّ لَكُمْ} تقديم الظرف على القائم مقام الفاعل للتشويق فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن أي : أبيح لكم {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أي : في ليلة يوم الصوم وهي الليلة التي يصبح الرجل في غداتها صائماً {الرَّفَثُ} أصل الرفث قول الفحش والتكلم بالقبح ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء ثم جعل كناية عن الجماع لأن الجماع لا يخلو عن شيء من التصريح بما يجب أن يكنى عنه من الألفاظ الفاحشة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة كالغمز والتقبيل.
{إِلَى نِسَآئِكُمْ} عدي الرفث بإلى وإن كان المشهور تعديته بالباء تقول : رفثت بالمرأة لتضمنه معنى الإفضاء قال تعالى : {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (النساء : 21) أراد به الجماع وكان الرجل في ابتداء الإسلام إذا أمسى في رمضان حلّ له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد فإذا صلاّها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الأخيرة فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : يارسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة إني رجعت إلى أهلي بعد العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال عليه السلام : "ما كنت جديراً بذلك يا عمر" فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزلت الآية وصارت زلته سبباً للرحمة في جميع الأمة
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} استئناف مبين لسبب الإحلال وهو صعوبة الصبر عنهن مع شدة المخالطة وكثرة الملابسة بهن وجعل كل من الرجل والمرأة لباساً للآخر لتجردهما عند النوم واعتناقهما واشتمال كل منهما على الآخر أو لأن كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور وعما لا يحل كما جاء في الحديث "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه" أو المعنى هن سكن لكم وأنتم سكن لهن كما قال تعالى : {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف : 189) ولا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر {عَلِمَ اللَّهُ} في الأزل {أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} تخونونها وتظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب بمباشرة النساء في ليالي الصوم والخيانة ضد الأمانة وقد ائتمن الله العباد على ما أمرهم به ونهاهم عنه فإذا عصوه في السر فقد خانوه وقد قال الله تعالى : {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} (الأنفال : 27) قال الصائب :
ترابكوهر دل كرده اند امانت دار
زدزد امانت حق را نكاه دار مخسب
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عطف على علم أي : قبل توبتكم وتجاوز عنكم لما تبتم مما اقترفتموه {وَعَفَا عَنكُمْ} أي : محا أثره عنكم {فَالْـاَـانَ} أي : لما نسخ التحريم ظرف لقوله : {بَـاشِرُوهُنَّ} أصله فعل بمعنى حان ثم جعل اسماً للزمان الحاضر وعرف بالألف واللام وبقي على الفتحة.
والمباشرة : إلزاق البشرة بالبشرة كنى بها عن الجماع الذي يستلزمها وجميع
299
(1/244)
ما يتبعه يدخل فيه وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب إن كانت حرمة الأكل والشرب والجماع ثابتة بالسنة وأما إذا كان ثبوت حرمتها بشريعة من قبلنا فلا على ما ذهب إليه بعضهم {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي : واطلبوا ما قدره الله تعالى وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد وفيه أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد والتناسل فإنه الحكمة في خلق الشهوة وشرع النكاح لاقضاء الشهوة وحدها وفي الحديث "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} ليالي الصوم عطف على قوله : باشروهن {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} يظهر {لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ} هو أول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود دقيقاً ثم ينتشر {مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ} هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار فإن الصبح الصادق إذا بدا يبدو كأنه خيط ممدود في عرض الأفق ولا شك أنه يبقى معه بقية من ظلمة الليل بحيث يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض لأن نور الصبح إنما ينشق في خلال ظلمة الليل فشبها بخيطين أبيض وأسود {مِنَ الْفَجْرِ} أي : انشقاق عمود الصبح بيان للخيط الأبيض واكتفى ببيانه عن بيان الأسود لدلالته عليه والتقدير حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل.
قوله (حتى يتبين) غاية للأمور الثلاثة أي : المباشرة والأكل والشرب ففي تجويز المباشرة إلى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم من أصبح جنباً لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الصبح بالضرورة وإلا لكانت المباشرة قبل آخر الليل بقدر ما يسع الاغتسال حراماً وهو مخالف لكلمة حتى
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} أي : أديموا الإمساك عن المباشرة والأكل والشرب في جميع أجزاء النهار {إِلَى} غاية {الَّيْلِ} وهو دخول الليل وذاك بغروب الشمس والاتمام أداؤه على التمام وفي الحديث "إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم" أي : دخل وقت الإفطار وإنما ذكر الإقبال والإدبار وإن لم يكونا إلا بغروب الشمس لبيان كمال الغروب كيلا يظن أحد أنه إذا غاب بعض الشمس جاز الإفطار أو لأنه قد يكون في واد بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيحتاج إلى أن يعمل بهما قالوا فيه دلالة على جواز النية بالنهار في صوم رمضان وعلى نفي صوم الوصال أما الأول فلأن الله تعالى لما أباح المباشرة والأكل والشرب إلى الفجر تبين أن ابتداء الصوم يكون بعد الفجر فيكون قوله أتموا ثم ابتدئوا بالصوم وأتموه إلى الليل فيكون هو أمراً بالصوم بعد الفجر والصوم ليس مجرد الإمساك بل هو الإمساك مع النية فيكون قوله ثم أتموا الصيام أمراً بنية الصوم بعد الفجر وأما الثاني فلأن الله تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء مقطعه فيكون بعدها الإفطار وينتفي الوصال قال بعضهم : الليل غاية وجوب الصوم فإذا دخل الليل لا يجب الصوم وأما أن الصوم لا يجوز بعد دخول الليل فلا دلالة للآية عليه ولأن مثل هذه الأوامر أي : باشروهن وكلوا واشربوا إنما يكون للإباحة والرخصة لا للوجوب فلا تدل الآية على نفي صوم الوصال ولما ظن أن حال الاعتكاف كحال الصوم في أن المباشرة تحرم فيه نهاراً لا ليلاً بيّن أن المباشرة تحرم على المعتكف نهاراً وليلاً معاً فقال : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ} أي : لا تجامعوهن
300
{وَأَنتُمْ} أي : والحال أنتم {عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ} مقيمون فيها بنية الاعتكاف وهو في الشرع لزوم المسجد والمكث لطاعة الله فيه والتقرب إليه وهو من الشرائع القديمة قال تعالى : {أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَـاكِفِينَ} (البقرة : 125) نزلت فيمن كان يعتكف في المسجد فإذا عرضت له حاجة إلى امرأته خرج فجامعها ثم اغتسل فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك فالجماع يحرم على المعتكف ويفسد الاعتكاف ولفظ المساجد يدل على جواز الاعتكاف في كل مسجد إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، والاعتكاف من أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص لأن فيه تفريغ القلب عما سوى الله تعالى.
قال عطاء مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه ويقول : لا أبرح حتى يقضي حاجتي فكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول : لا أبرح حتى يغفر لي وفي الحديث "من مشى في حاجة أخيه فكأنما اعتكف عشرين سنة ومن اعتكف يوماً جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خندق كل خنادق أبعد مما بين الخافقين".
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
(1/245)
وفي الخلوة والانقطاع عن الناس فوائد جمة : يسلم منه الناس وسلم هو منهم وفيها خمول النفس والإعراض عن الدنيا وهو أول طريق الصدق والإخلاص وفيه الإنس بالله والتوكل والرضى بالكفاف فإن المعاشر للناس والمخالط يتكلف في معيشته البتة فإذا لا يفرق غالباً بين الحلال والحرام فيقع في الهلاك ويسلم المتخلي أيضاً من مداهنة الناس وغير ذلك من المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالباً بالمخالطة.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : التصوف عبارة عن الاجتناب عن كل ما فيه شائبة الحرمة وصون لسانه عن الكلام اللغو والخلوة والأربعون ليست إلا هذا فإنه وحده في الكثرة والمقصود من الخلوة أيضاً ذلك ولكن ما يكون في الكثرة على الوجه الذي ذكرنا أثبت وأحكم لأن ما يكون بالخلوة يزول إذا اختلط بين الناس وليس كذلك ما ذكر فطريقنا طريق النبي عليه السلام وطريق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم والنبي عليه السلام لم يعين الأربعين بل الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان نعم فعل ذلك موسى عليه السلام قال تعالى : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَـاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَـاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف : 142) والخلوتية أخذوا من ذلك كذا في "واقعات الهدائي" قدس سره {تِلْكَ} أي : الأحكام التي ذكرت من أول آية الصيام إلى هنا {حُدُودَ اللَّهِ} جمع حد وهو الحاجز بين الشيئين وجعل ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام حدوداً لهم لكونها أموراً حاجزة بين الحق والباطل ولكونها مانعة من مخالفاتها والتخطي عنها {فَلا تَقْرَبُوهَا} أي : إن تنتهوا فلا تقربوها فضلاً عن تجاوزها نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل فضلاً أن يتخطى كما قال عليه السلام : "إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" وهو أبلغ من قوله فلا تعتدوها ولما بين تعالى أحكام الصوم على وجه الاستقصاء في هذه الألفاظ القليلة بياناً شافياً قال بعده {كَذَالِكَ} أي : بياناً مثل هذا البيان الوافي الواضح فالكاف في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف {يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِهِ لِلنَّاسِ} والآيات دلائل الدين ونصوص الأحكام والمقصود من تعظيم البيان هدايته ورحمته على عباده في هذا البيان {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مخالفة أوامره ونواهيه.
والتقوى اتقاء الشرك.
ثم بعده اتقاء المعاصي والسيئات.
ثم بعده اتقاء الشهوات.
ثم يدع بعده الفضلات وفي الحديث
301
"لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس" ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
ترا آنكه شم ودهان داد وكوش
اكر عاقلى در خلا فش مكوش
و اك آفريدت بهش باش واك
كه ننكست نا اك رفتن بخاك
مرو زير بار كنه اي سر
كه حمال عاجز بود در سفر
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
جعلنا الله وإياكم من أهل اليقظة واليقين.
(1/246)
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} أي : لا يأكل بعضهم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه كالغصب والنهب والسرقة واليمين الكاذبة وكالأكساب الخبيثة كالقمار والرشى وحلوان الكاهن والمغني والنائحة وكالحيلة ووجوه الخيانة ، قوله : {بَيْنَكُمْ} نصب على الظرفية فيتعلق بقوله : {تَأْكُلُوا} ومعنى كون الأكل بينهم وقوع التداول و التناول لأجل الأكل بينهم وليس المراد بالأكل المنهي عنه نفس الأكل خاصة لأن جميع التصرفات المتفرعة على الأسباب الباطلة حرام إلا أنه شاع في العرف أن يعبر عن إنفاق المال بأي وجه كان بالأكل لأن الأكل معظم المقصود من المال وقوله : {بِالْبَـاطِلِ} متعلق بالفعل المذكور أي : لا تأكلوها بالسبب الباطل.
نزلت في رجلين تخاصما في أرض بينهما فأراد أحدهما أن يحلف على أرض أخيه بالكذب فقال النبي عليه السلام : "إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له شيئاً من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار" فبكيا وقال كل واحد منهما أنا حلّ لصاحبي فقال : "اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه".
قوله ألحن بحجته أي : أقوم بها وأقدر عليها من صاحبه والتوخي قصد الحق والاستهام الاقتراع وفيه دلالة ظاهرة على أن حكم القاضي لا ينفذ باطناً كما عند الشافعي وحمله أبو حنيفة على الأموال والاملاك دون عقود النكاح وفسخها وموضع بيانه مشبعاً "كتاب القضاء في الفقه" {وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ} عطف على المنهى عنه فيكون مجزوماً بلا الناهية المذكورة بواسطة العاطف والإدلاء والإلقاء وضمير بها للأموال بتقدير المضاف والباء فيه مثلها في قوله تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة : 195) والمعنى ولا تلقوا أمر الأموال والحكومة فيها إلى الحكام {لِتَأْكُلُوا} بالتحاكم إليهم {فَرِيقًا} أي طائفة وبعضاً {مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالاثْمِ} الباء سببية متعلقة بقوله لتأكلوا أي بما يوجب إثماً كشهادة الزور واليمين الكاذبة والصلح مع العلم بأن المقضي له ظالم والمقضي به حق المقضي عليه وقيل ولا تلقوا بعضها إلى أمراء الظلم وقضاة السوء على وجه الرشوة {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبها أحق بالتوبيخ ويقال : الدنيا ثلاثة أشياء حلال وحرام وشبهة فالحرام يوجب العقاب والشبهة توجب العتاب والحلال يوجب الحساب ، قال الحكيم السنايي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
اين جهان برمثال مردارست
كر كسان اندرون هزار هزار
اين مرانرا همى زند مخلب
وان مرين را همي زند منقار
آخر الأمر بكذرند همه
وز همه باز ماند اين مردار
فعلى العاقل أن يجتنب عن حقوق العباد والمظالم.
ـ حكي ـ أنه لما مات أنوشروان كان يطاف
302
بتابوته في جميع مملكته وينادي مناد من له علينا حق فليأت فلم يوجد أحد في ولايته له عليه حق من درهم.
ـ روي ـ أن أبا حنيفة كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به فلما وصل إلى باب داره وقع نعله على نجاسة فنفض نعله فانقلعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة رحمه الله وقال : إن تركتها كان ذلك شيئاً يقبح جدار ذلك المجوسي وإن حككتها أحفر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها : قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال وأخذ يعتذر فقال أبو حنيفة رحمه الله : ههنا ما هو أولى بالاعتذار وذكر قصة الحدار وأنه كيف السبيل إلى التطهير؟ فقال المجوسي فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال والنكتة أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم ذلك المجوسي في ذلك القدر القليل فلأجل بركة ذلك أسلم المجوسي ونجا من شقاوة الأبد فمن احترز عن الظلم نال سعادة الدارين وإلا فقد وقع في الخذلان.
ـ حكي ـ أن نصرانياً كان يحمل امرأته على حمار فأتى بعض قرى المسلمين فقطع واحد من الرنود ذنب حماره فوثب الحمار وسقطت المرأة وانكسرت يداها وألقت حملها أيضاً فذهب النصراني إلى قاضي تلك القرية شاكياً فقال القاضي لذلك الرند : خذ هذا الحمار وأمسكه حتى ينبت ذنبه والمرأة حتى تحمل حملاً وتصح عندك يداها فقال النصراني : أهكذا حكم شريعتكم ثم رفع رأسه إلى السماء وقال إلهي أنت حليم ولا صبر لي على هذا فاحكم يا ناظر الملهوفين ويا ناصر المظلومين فمسخ الله ذلك القاضي فصار حجراً من ساعته ففي هذه الحكاية شيئان :
الأول : أن هذا القاضي بظلمه وقع فيما وقع من البلاء العظيم.
والثاني : أنه يجب الاحتراز عن الظلم وإن كان المظلوم كافراً فإن دعاء الكافر يسمع.
(1/247)
والإشارة في الآية أن الأموال خلقت لمصالح قوام النفس وأن النفس خلقت للقيام بمراسم العبودية لقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) ليعلموا أن الأموال والأنفسفلا يتصرفون فيهما إلا بأمر الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 299
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} بهوى النفس والحرص والشهوة والإسراف على الغفلة وكلوا بالحق والقناعة والتقوية على الطاعة والقيام بالعبودية لا {بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا} وهي النفس الأمارة بالسوء {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية {بِالاثْمِ} أي : بالقطيعة والغفلة مستعينين بها على المعصية كالحيوانات والبهائم فيكون حاصلكم ومرجعكم ومثواكم النار ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حاصل الأمر ولا تعملون به كذا في "التأويلات النجمية" {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ} روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا أولاً ولا يكون على حالة واحدة فأنزل الله تعالى {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ} وهي جمع هلال والهلال أول ما يظهر لك من نور القمر إلى ثلاث ليال وسمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم استهل الصبي إذا صرخ حين يولد وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية {قُلْ} يا محمد {هِىَ} الأهلة {مَوَاقِيتُ} جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان مدة مقسومة إلى
303
الماضي والحال والمستقبل والوقت الزمان المفروض لأمر {لِلنَّاسِ} أي : لما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم {وَالْحَجِّ} وأموره المتعلقة بأوقات مخصوصة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 303
فإن قلت لما كانت الأهلة مواقيت يوقت بها الناس عامة مصالحهم علم منه كونها ميقاتاً للحج لأنه من جملة المصالح المتوقفة على الوقت فلم خصه بالذكر.
قلت الخاص قد يذكر بعد العام للتنبيه على مزيته فالحج من حيث أنه يراعى في أدائه وقضائه الوقت المعلوم بخلاف سائر العبادات التي لا يعتبر في قضائها وقت معين وحال الخطاب أن الهلال يبدو دائماً ويظهر لكم على حسب مصلحتكم لقربه وبعده من الشمس كما بين في فن الهيئة.
قال في "التيسير" : ثم الشمس على حالة واحدة لأنها ضياء للعام وقوام لمصالح الناس والقمر يتغير لأن الله علق به ما قلنا من المواقيت وذلك يعرف بهذه الاختلافات ودبر عز وجل هذا التدبير لحاجة الناس إلى ذلك انتهى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} كان الأنصار إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه ويخرج أو يتخذ سلماً فيصعد منه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وسببه أنهم ظنوا أنه لا بد في الإحرام من تغيير جميع العادات فغيروا عادتهم في الدخول كما غيروا في اللباس والتطيب وقالوا لا ندخل بيوتاً من الأبواب حتى ندخل بيت الله تعالى وكان منهم من لا يستظل بسقف بعد إحرامه ولا يأقط الإقط ولا يجز الوبر وهذه أشياء وضعوها من عند نفوسهم من غير شرع فعرفهم الله تعالى أن هذا التشديد ليس ببر ولا قربة {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ} بر {مَنِ اتَّقَى} المحارم والشهوات دون دخول البيت من ظهر.
وفي "الكشاف" : فإن قلت ما وجه اتصاله بما قبله قلت كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها معلوم إن كان ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برّاً {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} حال الإحرام إذ ليس في العدول برّ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي : لكي تظفروا بالبر والهدى.
وللآية تأويل آخر قاله الحسن قال : كان في الجاهلية من همّ بسفر أو أمرٍ يصنعه فمنع عن ذلك لم يدخل داره من الباب حتى يحصل له ذلك وكان قريش وقبائل العرب من خرج لسفر أو حاجة ثم رجع ولم يظفر بذلك كان ذلك طيرة فنهاهم الله عن ذلك وأخبر أن الطيرة ليس ببرّ والبرّ برّ من لم يخف غيره وتوكل عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 303
(1/248)
ـ حكى الجاحظ ـ قال : تحاورت أنا وإبراهيم بن سيار المعروف بالنظام حيث الطيرة فقال : أخبرك أني جعت حتى أكلت الطين وما صبرت على ذلك حتى قلبت قلبي أتذكر هل ثمة رجل أصيب عنده غداء أو عشاء فقصدت الأهواز وهي من بلدان فارس وما أعرف بها واحداً وما كان ذلك إلا شيئاً أمر به الضجر فوافيت الفرضة فلم أجد بها سفينة فتطيرت من ذلك ثم أني رأيت سفينة في صدرها خرق وهشم فتطيرت أيضاً فقلت للملاح : ما اسمك؟ قال : "ديوزاده" بالفارسي وهو اسم الشيطان فتطيرت وركبت معه فلما قربنا من الفرضة صحت يا حمال ومعي لحاف سمل وبعض ما لا بد لي منه فكان أول حمال أجابني
304
أعور فازددت طيرة وقلت في نفسي الرجوع أسلم ثم ذكرت حاجتي إلى أكل الطين وقلت : من لي بالموت فلما صرت إلى الخان وأنا حائر ما أصنع سمعت قرع باب البيت الذي أنا فيه فقلت : من هذا؟ قال : رجل يريدك فقلت : من أنا؟ قال : إبراهيم بن سيار النظام فقلت في نفسي : هذا عدو أو رسول سلطان ثم إني تحاملت وفتحت الباب فقال : أرسلني إليه إبراهيم بن عبد العزيز ويقول لك وإن كان اختلفنا في المقالة فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية وقد رأيتك حيث مررت على حال كرهتها وينبغي أن يكون برحت بك حاجة فإن شئت فأقم مكانك مدة شهر أو شهرين فعسى نبعث لك ببعض ما يكفيك زميناً من دهرك وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون ديناراً فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر قال فورد علي أمور أذهلتني أما واحدها فإني لم أكن ملكت قط ثلاثة دنانير والثاني أنه لم يطل مقامي وغيبتي عن أهلي والثالث ما تبين لي من الطيرة أنها باطلة كذا في "شرح رسالة الوزير ابن زيدون" فظهر أنه قد يكون ما تكرهه النفس خيراً كما حكي أنه وقع قحط في زمن شيخ فعين لكل من طلبته على طريق التفاؤل مكسباً فجاء في فال واحد منهم قطع الطريق فانتقل ذلك الرجل فلقي بعض الحرامية واجتمع بهم فنهبوا جماعة من التجار فبعد أخذ أموالهم ربطوا أيديهم وأمروا هذا الرجل أن يذبحهم بعيداً عنهم فتفكر الرجل فخطر بباله أن يطلقهم ويعطيهم السلاح ويطهروا الطريق من القطاع ففعلوا وهم غافلون ثم سألوا عن هذا الرجل فحكي حاله فجاؤوا إلى شيخه وسلموا الأموال وصاروا من جملة أحبائه فعليك بالتسليم والقبول لكي تنال المأمول ، قال الصائب :
ون سرودر مقام رضا استاده أم
آسوده خاطرم زبهار وخزال خويش
جزء : 1 رقم الصفحة : 303
ثم في قوله : {وَلَيْسَ الْبِرُّ} الآية إشارة إلى أن لكل شيء سبباً ومدخلاً لا يمكن الوصول إليه ولا الدخول إلا باتباع ذلك السبب والمدخل كقوله تعالى : {وَءَاتَيْنَـاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (الكهف : 84 ـ 85) فسبب الوصول إلى حضرة الربوبية والمدخل فيها هو التقوى وهي اسم جامع لكل بر من أعمال الظاهر وأحوال الباطن والقيام باتباع الموافقات واجتناب المخالفات وتصفية الضمائر ومراقبة السرائر فبقدر السلوك في مراتب التقوى يكون الوصول إلى حضرة المولى كقوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ} (الحجرات : 13) وقال عليه السلام : "عليكم بتقوى الله فإنه جماع كل خير" فقوله : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} أي : غير مدخلها بمحافظة ظواهر الأعمال من غير رعاية حقوق بواطنها بتقوى الأحوال {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي : حق التقوى كقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران : 102) قيل في معناه أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أي : ادخلوا الأمور من مداخلها ثم ذكر مدخل الوصول وقال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي : اتقوا بالله عما سواه يقال فلان اتقى بترسه يعني اجعلوا الله محرزكم ومتقاكم ومفركم ومفزعكم ومرجعكم منه إليه كما كان حال النبي عليه السلام يقول : "أعوذ بك منك" {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تنجوا وتتخلصوا من مهالك النفوس بإعانة الملك القدوس كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 303
{وَقَـاتِلُوا} جاهدوا {فِى} نصرة {سَبِيلِ اللَّهِ} واعزازه والمراد بسبيل الله دينه لأنه طريق إلى الله ومرضاته {الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} يعني قريشاً وكان ذلك قبل أن
305
(1/249)
أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين لأن هذه الآية أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه أي : يقاتل من واجهه للقتال وناجزه ويكف عن قتال من لم يناجز وإن كان بينه وبينهم محاجزة وممانعة ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن النبي عليه السلام خرج مع أصحابه للعمرة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة فنزل في الحديبية وهو موضع في قرب مكة كثير المياه والأشجار وصدهم المشركون عن البيت الحرام فأقام شهراً وصالحه المشركون على أن يرجع ذلك العام ويأتي مكة في العام المقبل ويعتمر فرضي بما قالوا وأن يصدوهم عن البيت وكره الأصحاب قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله تعالى {وَقَـاتِلُوا} الآية {وَلا تَعْتَدُوا} بابتداء القتال في الحرم محرمين {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي : لا يريد بهم الخير.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أين وجدتموهم في الحرم والحل وفي الأشهر الحرم وهم الذين هتكوا حرمة الشهر والحرم بالبداية فجازوهم بمثله وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملاً فهو يتضمن معنى الغلبة {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي : من مكة لأنهم أخرجوا المسلمين منها أولاً وأخرج عليه الصلاة والسلام منها ثانياً من لم يؤمن به منهم يوم الفتح {وَالْفِتْنَةُ} في الأصل عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم صار اسماً لكل ما كان سبباً للامتحان تشبيهاً بهذا الأصل أي : المحنة التي يفتتن بها الإنسان ويمتحن كالإخراج من الوطن {أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} أصعب منه لدوام تعبها وتألم النفس بها فتكون هذه الجملة متعلقة بقوله : {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} تذييلاً له وحثاً على الإخراج والمعنى أن إخراجكم إياهم ليس أهون عليهم من القتل بل هو أشد من قتلكم إياهم فيصلح جزاء لإصرارهم على الكفر ومناجزتهم لحربكم وقتالكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 305
قيل لبعض الحكماء ما أشد من الموت قال الذي يتمنى فيه الموت جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} فيكون المقصود حث المؤمنين على قتلهم إياهم في الحرم أي : لا تبالوا بقتلهم أينما وجدتموهم فإن فتنتهم أي : تركهم في الحرم وصدهم إياكم عن الحرم أشد من قتلكم إياهم فيه {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي : لا تفاتحوهم بالقتل هناك وهتك حرمة المسجد الحرام {حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيهِ} حتى يبدؤوكم بالقتال في الحرم وهذا بيان لشرط كيفية قتالهم في هذه البقعة خاصة فيكون تخصيصاً لقوله : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} {فَإِن قَـاتَلُوكُمْ} ثمة {فَاقْتُلُوهُمْ} فيه ولا تبالوا بقتالهم ثمة لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب {كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك الجزاء على أن الكاف في محل الرفع بالابتداء {جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ} يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم.
{فَإِنِ انتَهَوْا} عن القتال وكذا عن الكفر فإن الانتهاء عن مجرد القتال لا يوجب استحقاق المغفرة فضلاً عن استحقاق الرحمة {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم ما قد سلف {وَقَـاتِلُوهُمْ} أي : المشركين {حَتَّى لا تَكُونَ} إلى أن لا توجد ولا تبقى {فِتْنَةٌ} أي : شرك يعني قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل
306
من الوثني إلا الإسلام فإن أبى قتل {وَيَكُونَ الدِّينُ} خالصاً له ليس للشيطان نصيب فيه {فَإِنِ انتَهَوْا} بعد مقاتلتكم عن الشرك {فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّـالِمِينَ} أي : فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم فحذف نفس الجزاء وأقيمت علته مقامه والعلة لما كانت مستلزمة للحكمة كني بها عنه كأنه قيل فإن انتهوا فلا تعدوا عليهم لأن العدوان مختص بالظالمين والمنتهون عن الشرك ليسوا بظالمين فلا عدوان عليهم وسمي ما يفعل بالكفار عدواناً وظلماً وهو في نفسه حق وعدل لكونه جزاء السلم للمشاركة كقوله تعالى : {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} (الشورى : 40).
جزء : 1 رقم الصفحة : 305(1/250)
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ} يقابل {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} في هتك الحرمة حيث صدهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة وكان بين القوم ترامي بسهام وحجارة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه سنة سبع من الهجرة وكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته فنزلت هذه الآية وقيل لهم هذا الشهر الحرام بذلك الشهر وهتكه بهتكه فلا تبالوا به {وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ} يعني من هتك حرمة أي حرمة كانت من حرمة الشهر وحرمة الإحرام وحرمة الحرم اقتص منه فإن مراعاة هذه الحرمات إنما تجب في حق من يراعيها وأما من هتكها فإنه يقتص منه ويعامل معه بمثل فعله والأوضح أن المراد بالحرمات كل حرمة وهي ما يجب المحافظة عليه نفساً كان أو عرضاً يجري فيها القاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد وهو عين التعرض للقتال فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة أي : قهراً وغلبة فإن منعوكم في هذه السنة عن قضاء العمرة بالمقاتلة ونحوها فاقتلوهم كما قال تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي : تجاوز بقتالكم في الشهر الحرام {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي : بعقوبة مماثلة لجناية اعتدائه وهذا اعتداء على سبيل القصاص وهو اعتداء مأذون فيه لا على سبيل الابتداء فإنه ظلم حرام وهو المراد بقوله تعالى فلا تعتدوا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} إذا انتصرتم ممن ظلمكم فلا تظلموهم بأخذ أكثر من حقكم ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} والمعية وهي القرب المعنوي تدل على أنه تعالى يحرسهم ويصلح شؤونهم بالنصر والتمكين.
ـ روي ـ أنه عليه السلام وأصحابه دخلوا ذلك العام مكة وطافوا بالبيت ونحروا الهدى وكان المشركون شرطوا له بعد قضاء العمرة الإقامة بمكة ثلاثاً وكان النبي عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث فأحب المقام بمكة ليولم عليها فطالبوه بالخروج منها والوفاء بما عاهد ففعل وأولم على ميمونة وبنى بها بسرف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 307
واعلم أن الله تعالى أمرنا بالغزو في سبيله ليظهر من يدعي بذل الوجود في سبيل الله وأمرنا بالزكاة ببذل المال ليتبين من يدعي محبة الله فالغزو معيار المحبة الإلهية لأن كل إنسان جبل على حب الحياة والمال فامتحن بالغزو والزكاة في سبيل الله قطعاً لدعوى المدعين لأن الكل يدعي محبة الله وهذا هو السر في الجهاد ولهذا قال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه خير الخصال في الفتى الشجاعة والسخاوة وهما توءمان فكل شجيع سخي وعن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما الإسلام قال : "طيب الكلام وإطعام الطعام وإفشاء السلام" قيل : فأي المسلمون أفضل قال : "من سلم الناس من لسانه ويده" قيل : فأي الصلاة أفضل؟ قال : "طول القيام" قيل : فأي الصدقة أفضل قال : "جهد من مقل" قيل : فأي الإيمان أفضل؟ قال : "الصبر والسماحة"
307
قيل : فأي الجهاد أفضل؟ قال : "من عقر جواده وأهريق دمه" قيل : فأي الرقاب أفضل؟ قال : "أغلاها ثمناً" والجهاد جهادان ظاهر وباطن فالظاهر مع الكفار والباطن مع النفس والشيطان وهذا أصعب لأن الكافر ربما يرجع إما بالمحاربة أو بالصلح أو ببذل النفس والمال بوجه من الوجوه والشيطان لا يرجع عنك دون أن يسلب الدين ، وفي "المثنوي" :
أي شهان كشتيم ما خصم برون
ماند خصمي زوبتر دراندرون
كشتن اين كار عقل وهوش نيست
شير باطن سخره خركوش نيست
سهل شيري دان كه صفها بشكند
شير آنست آنكه خودرا بشكند
جزء : 1 رقم الصفحة : 307
(1/251)
قال في "التأويلات القاشانية" : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} من الشيطان وقوى النفس الأمارة {وَلا تَعْتَدُوا} في قتالها بأن تميتوها عن قيامها بحقوقها والوقوف على حدودها حتى تقع في التفريط والقصور والفتور {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} لكونهم خارجين عن ظل المحبة والوحدة التي هي العدالة {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي : أزيلوا حياتهم وامنعوهم عن أفعالهم بهواها الذي هو روحها حيث كانوا {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ} مكة الصدر عند استيلائهم عليها كما {أَخْرَجُوكُمْ} منها باستنزالكم إلى بقعة النفس وإخراجكم من مقر القلب {وَالْفِتْنَةُ} التي هي عبادة هواها وأصنام لذاتها وشهواتها {أَشَدِّ} من قمع هواها وإماتتها بالكلية أو محنتكم وبلاؤكم بها عند استيلائكم أشد عليكم {مِنَ الْقَتْلِ} الذي هو إماتتها ومحوها بالكلية لزيادة الضرر والألم هناك {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الذي هو مقام القلب أي : عند الحضور القلبي إذا وافقوكم في توجهكم فإنهم أعوانكم على السلوك حينئذٍ {حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ} فيه وينازعوكم في مطالبه ويجروكم عن حية القلب ودين الحق إلى مقام النفس ودينهم الذي هو عبادة العجل {وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} من تنازعهم وتجاذب دواعيهم وتعبدهم الهوى {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} بتوجه جميعها إلى جناب القدس ومشايعها للسر في التوجه إلى الحق الذي ليس للشيطان والهوى فيه نصيب {فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ} عليهم {إِلا عَلَى الظَّـالِمِينَ} على العادين المجاوزين عن حدودهم انتهى ما في "التأويلات".
وقال الشيخ نجم الدين قدس سره في قوله تعالى : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} الآية الإشارة أن ما يفوتكم من الأقات والأوراد بتواني النفس وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم والساعة بالساعة والوقت بالوقت والأوراد بالأوراد واقضوا الفائت والحقوق فكل صفة من صفات النفس إذا استولت عليكم فعالجوها بضدها البخل بالسخاوة والغضب بالحلم والحرص بالترك والشهوة بالرياضة وعلى هذا القياس واتقوا الله في إفراط الاعتداء احتراز عن هلاك النفس بكثرة المجاهدات واعلموا أن الله مع المتقين بالنصرة على جهاد النفس.
جزء : 1 رقم الصفحة : 307
{وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} الإنفاق صرف المال إلى وجوه المصالح والمراد بالسبيل الدين المؤدي إلى ثواب الله ورحمته فكل ما أمر الله به من الإنفاق في إعزاز الدين وإقامته فهو داخل في هذه الآية سواء كان في إقامة الحج أو العمرة أو جهاد الكفار أو صلة الأرحام أو تقوية الضعفاء من الفقراء والمساكين أو رعاية حقوق الأهل والأولاد أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى أمر تعالى بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالنفس أي : واصرفوا أموالكم في سبيل الله ولا تمسكوا كل الإمساك.
{وَلا تُلْقُوا} الإلقاء الشيء حيث تراه ثم صار
308
اسماً لكل طرح عرفاً وتعديته بإلى لتضمنه معنى الانتهاء {بِأَيْدِيكُمْ} الباء زائدة في المفعول به لأن ألقى يتعدى بنفسه قال تعالى : {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} ولا يقال ألقي بيده إلا في الشر والمراد بالأيدي الأنفس فإن اليد لازم للنفس وتخصيص اليد من بين سائر الجوارح اللازمة لها لأن أكثر الأعمال يظهر بالمباشرة باليد والمعنى لا تطرحوا أنفسكم {إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي : الهلاك بالإسراف وتضييع وجه المعاش لتكون الآية نظير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67) أو بالكف عن الغزو والإنفاق في مهماته فإن ذلك مما يقوي العدو ويسلطه عليكم ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن الله تعالى لما أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلنا وأموالنا فأقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منا فأنزل الله تعالى {وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي : إلى ما يكون سبباً لهلاككم من الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية فتوفي هناك ودفن في أصل سور قسطنطينية وهم يستشفون به وفي الحديث "من مات ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" {وَأَحْسِنُوا} أي : تفضلوا على الفقراء {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي : يريد بهم الخير.
جزء : 1 رقم الصفحة : 308(1/252)
ـ روي ـ أن الحجاج لما ولي العراق كان يطعم في كل يوم على ألف مائدة يجمع على كل مائدة عشر أنفس وكان يرسل الرسل إلى الناس لحضور الطعام فكثر عليه ذلك فقال : أيها الناس رسولي إليكم الشمس إذا طلعت فأحضروا للغداء وإذا غربت فأحضروا للعشاء فكانوا يفعلون ذلك واستقلّ الناس يوماً فقال : ما بال الناس قد قلّوا؟ فقال رجل : أيها الأمير إنك أغنيت الناس في بيوتهم عن الحضور إلى مائدتك فأعجبه ذلك وقال : اجلس بارك الله عليك هذا كرم الحجاج وإحسانه إلى الخلق مع كونه أظلم أهل زمانه ، قال السعدي قدس سره :
كرم كن كه فردا كه ديوان نهند
منازل بمقدار إحسان نهند
وحكى الهدائي قال : أقبل ركب من بني أسد ومن قيس يريدون النعمان فلقوا حاتماً وهو المشهور بالجود فقالوا : تركنا قوماً يثنون عليك خيراً وقد أرسلوا إليك رسالة فقال : ما هي؟ فأنشد الأسديون شعراً للنابغة فيه فلما أنشده قالوا : إنا نستحيي أن نسألك شيئاً وإن لنا لحاجة قال : ما هي؟ قالوا : صاحب لنا قد أرجل يعني فقدت راحلته فقال حاتم : فرسي هذه فاحملوه عليها فأخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فأفلت يتبع أمه وتبعته الجارية لترده فصاح حاتم ما يتبعكم فهو لكم فذهبوا بالفرس والفلو والجارية كذا في "شرح رسالة ابن زيدون الوزير" قيل لما عرج النبي عليه السلام اطلع على النار فرأى حظيرة فيه رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام : ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسه النار؟ فقال جبريل عليه السلام : هذا حاتم طي صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده كذا في "أنيس الوحدة وجليس الخلوة" وفي الأحاديث القدسية "يا عيسى أتريد أن تطير على السماء مع الملائكة المقربين كن في الشفقة كالشمس وفي الستر كالليل وفي التواضع كالأرض وفي الحلم كالميت وفي السخاوة كالنهر الجاري".
قال بعض أهل الحقيقة وهو حسن جداً {وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أرواحكم
309
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بمنعكم أنفسكم عن الشهادة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} التي هي الحياة الأبدية فتهلكوا يعني بفوت هذه الحياة وأحسنوا تسليم أنفسكم إلى الله فقد اشتراها منكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
وفي "المثنوي" :
مرك بي مركى بود مارا حلال
برك بي بركى بود مارا نوال
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
ظاهرش مرك وبباطن زندكى
ظاهرش ابتر نهان ايندكى
ون مرا سوى أجل عشق وهواست
نهى لا تلقوا بأيديكم مراست
زانكه نهى ازدانة شرين بود
تلخ را خود نهى حاجت كي شود
دانه كشه تلخ باشد مغز ووست
تلخي ومكروهيش خودنهى اوست
دانه مردن مرا شرين شده است
بل هم أحياء ي من آمده است
قال في "التأويلات النجمية" : {وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بالامتناع عن تسليم المبيع فتهلكوا بمنع الثمن وهو الجنة وبإفراط الاعتداء وتفريطه في جهاد النفس بالإفراط بأن يبرز واحد على رهط وبالتفريط بأن يفر واحد من اثنين في جهاد الكفار {وَأَحْسِنُوا} مع نفوسكم بوقايتها من نار الشهوات ومع قلوبكم برعايتها وحفظها من رين الغفلات ومع أرواحكم بحمايتها عن حجب التعلقات ومع أسراركم بكلاءتها عن ملاحظة المكونات ومع الخلق بدفع الأذيات واتصال الخيرات ومع الله بالعبودية في المأمورات والمنهيات والصبر على المضرات والبليات والشكر على النعم والمسرات والتوكل عليه في جميع الحالات وتفويض الأمور إليه في الجزئيات والكليات والتسليم للأحكام الأزليات والرضى بالأقضية الأوليات والفناء عن الإرادات المحدثات في إرادته القديمة بالذات {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الذين هم في العبادة بوصف المشاهدة انتهى ما في "التأويلات" بانتخاب {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً بالاتفاق والعمرة سنة عند أبي حنيفة رحمه الله لا تلزم إلا بالشروع كنفل الصلاة والمعنى أن من شرع في أي واحد منهما فليتمه قالوا ومن الجائز أن لا يكون الدخول في شيء واجباً ابتداء إلا أنه بعد الشروع فيه يكون إتمامه واجباً متعلق بأتموا واللام لام المفعول من أجله وفائدة التخصيص به هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر وحضور الأسواق وكل ذلك ليسفيه طاعة ولا قربة فأمر الله بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه والمعنى أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشيء منها وأخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية واجعلوا النفقة من الحلال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 308(1/253)
وأركان الحج خمسة : الإحرام ، والوقوف بعرفة ، والطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، وحلق الرأس والتقصير فركن الحج ما لا يحصل التحلل إلا بالإتيان به وواجباته : هو الذي إذا ترك يجبر بالدم وسنته ما لا يجب بتركه شيء وكذا أفعال العمرة تشتمل على هذه الأمور الثلاثة فأركانها أربعة : الإحرام ، والطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق.
وللحج تحللان وأسباب التحلل ثلاثة : رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وطواف الزيارة ، والحلق إذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة : حصل التحلل وبالثالث حصل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول يستبيح جميع المحظورات أي : محظورات الإحرام إلا النساء وبالثاني
310
يستبيح الكل واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه : الإفراد ، والتمتع ، والقران فصورة الإفراد أن يحرم بالحج مفرداً ثم بعد الفراغ منه يعتمر من الحل أي : الذي بين المواقيت وبين الحرم وصورة التمتع أن يبتدىء بإحرام العمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام وصورة القران أن يحرم بالحج والعمرة معاً بأن ينويهما بقلبه ويأتي بمناسك الحج وحينئذٍ يكون قد أتى بالعمرة أيضاً لأن مناسك العمرة هي مناسك الحج من غير عكس أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة والأفضل عندنا من هذه الوجوه هو القران وفي الحديث "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة" {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي : منعتم وصددتم عن الحج والوصول إلى البيت بمرض أو عدو أو عجز أو ذهاب نفقة أو راحلة أو سائر العوائق بعد الإحرام بأحد النسكين وهذا التعميم عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الخطاب وإن كان للنبي وأصحابه وكانوا ممنوعين بالعدو لكن الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب {فَمَا اسْتَيْسَرَ} أي : فعليكم ما تيسر {مِنَ الْهَدْىِ} من إما تبعيضية أو بيانية أي : حال كونه بعض الهدى أو الكائن من الهدي جمع هدية كتمر وتمرة وهو ما يهدى إلى البيت تقرباً إلى الله من النعم أيسره شاة وأوسطه بقرة وأعلاه بدنة ويسمى هدياً لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه بأن بعثها إلى بيته والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر في أي : موضع كان عند الشافعي وأما عندنا فيبعث به إلى الحرم ويجعل للمبعوث على يده يوم ذبحه أمارة أي : علامة فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أي : لا تحللوا بحلق رؤوسكم {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي وجب أن ينحر فيه ، والمحلّ بالكسر من الحلول وهو النزول يطلق على الزمان والمكان فمحل الدين وقت وجوب قضائه ومحل الهدي المكان الذي يحل فيه ذبحه وهو الحرم عندنا لقوله تعالى : {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج : 33) والمراد الحرم كله لأن كله يتبع البيت وهذا الحكم عام لجميع الحاج من المفرد والقارن والمتمتع والمعتمر يعني لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا أن يذبح هديه وإن لم يحصر يعني في منى والحلق أفضل من التقصير ولو حلق ربع الرأس يكتفى به لكن حلق كله أولى اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم هذا في الحج وأما في غيره فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يحلق رأسه إلا قليلاً بل هو معدود ويتركه في أكثر الأزمان وكان علي رضي الله عنه يحلق رأسه منذ ما سمع قوله عليه السلام : "تحت كل شعرة جنابة" {فَمَنِ} يجوز أن تكون شرطية وموصولة {كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} مرضاً محوجاً إلى الحق حال الإحرام ومريضاً خبر كان ومنكم حال منه لأنه في الأصل صفة له فلما تقدم عليه انتصب حالاً {أَوْ بِه أَذًى} أي : ألم كائن {مِّن رَّأْسِهِ} كجراحة أو قمل أو صداع أو شقيقة والمعنى يثبت على إحرامه من غير حلق حتى يذبح هديه إلا أن يضطر إلى الحلق فإن حلق ضرورة {فَفِدْيَةٌ} أي : فعليه فدية {مِّن صِيَامٍ} أي : صيام ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} على ستة مساكين لكل
311
مسكين نصف صاع من برّ {أَوْ نُسُكٍ} بضمتين جمع نسيكة وهي الذبيحة أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة وأو للتخيير {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} من خوفكم وبرئتم من مرضكم وكنتم في حال أمن وسعة لا في حال إحصار {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أي : فمن انتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
(1/254)
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} أي : فعليه دم تيسر عليه بسبب التمتع وهو هدي المتعة وهو نسك عند أبي حنيفة رحمه الله لا يذبحه إلا يوم النحر ويأكل منه كالأضحية {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي : الهدي {فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ} صيام مصدر أضيف إلى ظرفه معنى وهو في اللفظ مفعول به على الاتساع أي : فعليه صيام ثلاثة أيام {فِي الْحَجِّ} أي : في وقته وأشهره بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج إن شاء متفرقة وإن شاء متتابعة والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه فلا يصح يوم النحر وأيام التشريق {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي نفرتم وفرغتم من أعمال الحج أطلق عليه الرجوع على طريق إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ فإنه سبب للرجوع {تِلْكَ} أي : صيام ثلاثة وسبعة {عَشْرَةَ} فذلكة الحساب وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كما في قوله تعالى : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ} (النساء : 3) وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً وعلمان خير من علم فإن أكثر العرب لا يحسنون الحساب فكان الرجل إذا خاطب صاحبه بأعداد متفرقة جمعها له ليسرع فهمه إليها وإن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما {كَامِلَةٌ} صفة مؤكدة لعشرة فإن الوصف قد يكون للتأكيد إذا أفاد الموصوف معنى ذلك الوصف نحو إلهين اثنين والتأكيد إنما يصار إليه إذا كان الحكم المؤكد مما يهتم بشأنه والمحافظة عليه والمؤكد ههنا هو رعاية هذا العدد في هذا الصوم آكده لبيان أن رعايته من المهمات التي لا يجوز إهمالها البتة {ذَالِكَ} إشارة إلى نفس التمتع عندنا وإلى حكم التمتع عند الشافعي وهو لزوم الهدي لمن يجده من المتمتع ولزوم بدله لمن لا يجده {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُه حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي : لازم للذي لا يسكن مكة وأهل الرجل أخص الناس إليه وإنما ذكر الأهل لأن الغالب أن الإنسان يسكن حيث يسكن أهله فعبر بسكون الأهل عن سكون نفسه وحاضرو المسجد الحرام عندنا هم أهل مكة ومن كان منزله داخل المواقيت فلا متعة ولا قران لهم فمن تمتع أو قرن منهم فعليه دم جناية لا يأكل منه وحاضرو المسجد الحرام ينبغي لهم أن يعتمروا في غير أشهر الحج ويفرد وأشهر الحج للحج والقارن والمتمتع الآفاقيان دمهما دم نسك يأكلان منه وعند الشافعي حاضرو المسجد الحرام أهل الحرم ومن هو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحج {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن لم يتقه كي يصدكم العلم به عن العصيان.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
مرو زير باركنه أي سر
كه حمال عاجز بود در سفر
توبيش ازعقوبت درعفو كوب
كه سودى ندارد فغان زير جوب
اعلم أن تمام الحج كما يكون عن طريق الظاهر كذلك يكون عن طريق الباطن.
وعن بعض الصالحين أنه حج فلما قضي نسكه قال لصاحبه : هلم نتم حجنا ألم تسمع قول ذي الرمة.
312
تمام الحج أن تقف المطايا
على خرفاء واضعة اللثام
وخرقاء اسم حبيبة الشاعر واضعة اللثام أي : مكشوفة الوجه مسفرة جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به وحقيقة ما قال هو أنه كما قطع البوادي حتى وصل إلى بيته وحرمه ينبغي أن يقطع أهواء النفس ويخرق حجب القلب حتى يصل إلى مقام المشاهدة ويبصر آثار كرمه بعد الرجوع عن حرمه.
(1/255)
قال في "التأويلات النجمية" : حج العوام قصد البيت وزيارته وحج الخواص قصد رب البيت وشهوده كما قال الخليل عليه السلام : إني ذاهب إلى ربي سيهدين وكما أن من قصد الله وطلبه وتوجه إليه بالكلية وفدى بنفسه وماله وولده في الله واتخذ ما سواه عدواً كما قال : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) كان الخليل عليه الصلاة والسلام وهذا كله من مناسك الحج الحقيقي فلذلك جعله الله أول من بنى بيت الله وطاف وحج وأذن في الناس بالحج وسن المناسك وكان الحج صورة ومعنى مقامه عليه السلام وكما كان له مقام كان لنبينا عليه السلام حال والحال أتم من المقام لأن المقامات من المنازل والأحوال من المواهب فيمكن سلوك المقامات بغير المواهب ولا يمكن المواهب بغير سلوك المقامات فلما كان الخليل من أهل المقامات قال : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) ولما كان النبي عليه الصلاة والسلام من أهل المذاهب قيل : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء : 1) فلما كان ذهابه بنفسه في الحج الحقيقي بقي في السماء السابعة واحصر فقيل له : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} فأهدي بإسمعيل ولما أسري بالنبي عليه السلام وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء فقيل له : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فأتم حجه بأن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ثم أتى عمرته بأن تجلى له أقمار المقصود عن كشف التعزز بالشهود وانجلت عنانة المحبة عن شموس الوصلة وجرى بين المحبين ما جرى فأوحى إلى عبده ما أوحى ثم نودي من سرادقات الجلال في إتمام الحج والإكمال يوم الحج الأكبر عند وقوفه بعرفات في حجة الوداع وهو آخر الحجات اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً انتهى ما في "التأويلات".
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
ثم اعلم أن كل قلب لا يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب ولا كل نفيس مال يصلح لخزانة الرب فتعجل أيها العبد في تدارك حالك وكن سخياً بمالك فإن لم يكن فبنفسك وإن كان لك قدرة على بذلهما فبهما ألا يرى أن إبراهيم عليه السلام كيف أعطى ماله للضيفان وبدنه للنيران وولده للقربان وقلبه للرحمان حتى تعجب الملائكة من سخاوته فأكرمه الله بالخلة قال الله تعالى : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} .
قال مالك بن دينار : خرجت إلى مكة فرأيت في الطريق شاباً إذا جن عليه الليل رفع وجهه نحو السماء وقال : يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصي هب لي ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك فلما أحرم الناس ولبوا قلت له لم لا تلبي فقال : يا شيخ وما تغني التلبية عن الذنوب المتقدمة والجرائم المكتوبة والمعاصي السالفة أخشى أن أقول لبيك فيقال لي لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك ولا أنظر إليك ثم مضى فما رأيته إلا بمنى وهو يقول : اللهم اغفر لي اللهم إن الناس قد ذبحوا وتقربوا إليك وليس لي شيء أتقرب به إليك سوى نفسي فتقبلها مني ثم شهق شهقة وخر ميتاً اللهم عاملنا بكمال كرمك وأوصلنا إلى حضرتك العليا وحرمك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
{الْحَجُّ} بحذف المضاف أي : وقته لأن الحج فعل
313
(1/256)
والفعل لا يكون أشهراً {أَشْهُرٍ} هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة عندنا وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهراً مع أن جمع القلة لا يطلق على ما هو أقل من الثلاثة إقامة للبعض مقام الكل أو إطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد {مَّعْلُومَـاتٌ} معروفات بين الناس لأنهم توارثوا علمها والشرع جاء مقرراً لما عرفوه ولم يغير وقته عما كان قبله وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر ليعلم أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها والإحرام وإن كان ينعقد في غيرها أيضاً عند أبي حنيفة إلا أنه مكروه يعني أن الإحرام عنده من شرائط الحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كما يجوز تقديم الطهارة على أداء الصلاة.
وقولهم وقت الحج أشهر ليس المراد به أنها وقت إحرامه بل المراد أنها وقت أدائه بمباشرة أعماله ومناسكه والأشهر كلها وقت لصحة إحرامه لقوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة : 189) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ومعلوم أن الأهلة كلها ليست مواقيت لصحة أداء الحج فتعين أن المراد أنها مواقيت لصحة الإحرام حتى من أحرم يوم النحر لأن يحج في السنة القابلة يصح إحرامه من غير كراهة عند أبي حنيفة كذا في "حواشي ابن الشيخ" {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي : أوجبه على نفسه بالتلبية أو تقليد الهدي وذلك لأن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع بمجرد النية كالصلاة فلا بد من فعل يشرع به فيه وهو ما ذكرنا من التلبية أو تقليد الهدي وهو جعل القلادة في عنقه وسوقه {فَلا رَفَثَ} أي : فلا جماع وما دونه مما يفضي إلى ذلك كالقبلة والغمز وهو محظور الإحرام فقبل الوقوف بعرفة مفسد وبعده موجب للبدنة وحرمت دواعيه لئلا يقع فيه والرفث وما يليه من الفسوق والجدال وإن كانت على صورة النفي بمعنى أن شيئاً منها لا يقع في خلال الحج إلا أن المراد بها النهي لأن إبقاءها خبراً على ظاهرها يستلزم الخلف في خبر الله للعلم بأن هذه الأشياء كثيراً ما تقع في خلال الحج وإنما أخرجت على صورة الأخبار للمبالغة في وجوب الانتهاء عنها كأن المكلف أذعن كونها منهياً عنهاً فاجتنب عنها فالله تعالى يخبر بأنها لا توجد في خلال الحج ولا يأتي بها أحد منكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
{وَلا فُسُوقَ} ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات والفسق هو المعاصي بأنواعها فيدخل فيه السباب والتنابز بالألقاب وغير ذلك {وَلا جِدَالَ} أي : لا مراء مع الخدم والرفقة والمكارين لأنه يفضي إلى التضاغن وزوال التأليف فأما الجدال على وجه النظر في أمر من أمور الدين فلا بأس به {فِي الْحَجِّ} أي في أيامه وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أقبح وأشنع كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن والمنهي عنه التطريب الذي تخرج الحروف به عن هيئاتها كما يفعله بعض القراء من الألحان العجيبة والأنغام الموسيقية وأما تحسين القراءة ومدها فهو مندوب إليه قال عليه السلام : "حسنوا القرآن بأصواتكم" فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً والتطريب المقبول سبب للرقة وإقبال النفس وبه قال أبو حنيفة رحمه الله وجماعة من السلف {وَمَا} شرطية {تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} علم الله تعالى بما يفعله العبد من الخير كناية عن إثباته عليه.
نهى عن ثلاثة أشياء من المعاصي ورغب في كل الطاعات فهو حث على فعل الخير عقيب النهي عن الشر فيدخل فيها استعمال الكلام الحسن مكان القبيح والبر والتقوى
314
(1/257)
مكان الفسوق والوفاق والأخلاق الجميلة مكان الجدال {وَتَزَوَّدُوا} أي : اجعلوا زادكم لمعادكم وآخرتكم اتقاء القبائح {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} لا ما يتخذ من الطعام وتحقيق الكلام أن الإنسان له سفران : سفر في الدنيا ، وسفر من الدنيا ، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال والسفر من الدنيا لا بد له أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه بالاشتغال في طاعته والاجتناب عن مخالفته ومناهيه وهذا الزاد خير من زاد المسافر في الدنيا لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وزاد الدنيا فاننٍ وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة.
وقيل : كان أهل اليمن لا يتزودون ويخرجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون ونحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا فيكون كلاً على الناس وإذا قدموا مكة سألوا الناس وربما يفضي بهم الحال إلى النهب والغصب فقال الله تعالى : أي : ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم من الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} من السؤال والنهب {وَاتَّقُونِ يا اأُوْلِي الالْبَـابِ} فإن قضية اللب خشية الله وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله فيتبرؤوا عن كل شيء سواه وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بالخطاب فإن من لم يتقه فكأنه لا لب له.
فعلى العاقل تخليص العقل من الشوائب وتهذيب النفس وتكميلها بالوصول إلى أعلى المراتب ، قال الشاعر :
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
ولم أر في عيوب الناس شيئاً
كنقص القادرين على التمام قال الإمام : اعلم أن الإنسان فيه قوى ثلاث : قوة شهوانية بهيمية ، وقوة غضبية سبعية شيطانية ، وقوة وهمية عقلية ملكية والمقصود من جميع العبارات قهر القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية فقوله : {فَلا رَفَثَ} إشارة إلى قهر القوة الشهوانية وقوله : {وَلا فُسُوقَ} إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب المعصية والتمدد وقوله : {وَلا جِدَالَ} إشارة إلى قهر القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم والمخاصمة معهم في كل شيء فلما كان الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي : فيمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله والانخراط في سلك الخواص من عباده انتهى ما قال الإمام.
قالوا : من سهل عليه المشي في طريق الحج فهو الأفضل فإن كان يضعف ويؤدي ذلك إلى سوء الخلق وقصور عن عمل فالركوب أفضل كما أن الصوم أفضل للمسافر والمريض ما لم يفض إلى ضعف وسوء خلق.
قال أبو جعفر محمد الباقر ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاث : ورع يحجزه عن محارم الله ، وحلم يكف به غضبه ، وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاث يحتاج إليها المسافر خصوصاً إلى الحج فمن كملها فقد كمل حجه وإلا فلا ، فنعم ما قال السعدي قدس سره :
ازمن بكوى حاجىء مردم كزايرا
كويوستين خلق بآزار ميدرد
حاجي تونيستي شترست ازبراي آنك
بيار خار ميخورد وبار ميبرد
315
فينبغي أن يجتهد الحاج قبل مفارقة رفيقه والجمال في أن يتحالوا من الظالم إن كانت جرت بينهم مثل غيبة ونميمة أو أخذ عرض أو تعرض لمال فما سلم من ذلك إلا القليل وإذا ذكر رفيقه فليثن عليه خيراً وليغض عما سوى ذلك فقد كان السلف بعد قفولهم أي : رجوعهم من السفر لا يذكر أحدهم صاحبه إلا بخير وليحذر من نظفت صحيفة علمه من الذنوب بالغفران أن يرجع إلى وسخ المعاصي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
(1/258)
ثم الإشارة أن قصد القاصدين إلى الله تعالى إنما يكون في أشهر معلومات من حياتهم الفانية في الدنيا فأما بعد انقضاء الآجال فلا يفيد لأحد السعي كما لا ينفع للحاج القصد بعد مضي أشهر الحج قال تعالى : {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَـاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} (الأنعام : 158) الآية وكما أن للحاج مواقيت معينة يحرمون منها فكذلك للقاصدين إلى الله ميقات وهي أيام الشباب من بلاغية الصورة إلى بلوغ الأربعين وهو حد بلاغية المعنى قال تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف : 15) ولهذا قال المشايخ الصوفي بعد الأربعين نادر يعني إن كان ظهور إرادته وطلبه يكون بعد الأربعين فوصوله إلى المقصد الحقيقي يكون نادراً مع أركانه ولكن من يكون طلبه وصدقه في الإرادة قبل الأربعين وما أمكنته الوصلة يقرب في الاحتمال أن يكون بعد الأربعين حصول مقصوده بأن يبذل غاية مجهوده بشرائطه وحقوقه وحدوده ومن فاته أوان الطلب في عنفوان شبابه مستبعدة له الوصلة في حال مشيبه فجرى منه عليه الحيف بأن ضيع اللبن في الصيف ولكن يصلح للعبادة التي آخرها الجنة ووقف بعض المشايخ على باب الجامع والخلق يخرجون منه في ازدحام وغلبة وكان ينظر إليهم ويقول هؤلاء حشو الجنة وللمجالسة أقوام آخرون كذا في "التأويلات النجمية".
وقال القاشاني : وقت الحج أزمنة وهو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين ثلاثة أعصر كل عصر بمثابة شهر ، عصر من سن النمو ، وعصر من سر الوقوف ، وبعض من سن الكهولة كما قال تعالى في وصف البقرة {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ} (البقرة : 68) بين ذلك انتهى ، قال الحافظ :
عشق وشباب ورندى مجموعه مرادست
ون جمع شد معاني كوى بيان توان زد
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي : إثم من الجنوح وهو الميل عن القصد {أَن تَبْتَغُوا} أي : في أن تقصدوا وتطلبوا {فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ} أي : عطاء ورزقاً منه يريد الربح بالتجارة في أيام الحج فإن الآية نزلت رداً على من يقول لا حج للتاجر والجمال لكن الحق أن التجارة وإن كانت مباحة في الحج إلا أن الأولى تركها فيه لقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه طاعة وعبادة {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} الهمزة في أفضتم للتعدية والمفعول محذوف أي : رفعتم أنفسكم منها بكثرة بعد غروب الشمس ورجعتم بعد الوقوف بها.
وفي "التيسير" : وحقيقة الإفاضة هنا هو اجتماع الكثير في الذهاب والمسير ، وعرفات علم للموقف وليس بجمع حقيقة بل هو من قبيل ما زيدت حروفه لزيادة معناه فإنه للمبالغة في الإنباء عن المعرفة روي أنه نعته جبريل لإبراهيم عليهما السلام فلما أبصره عرفه فسمي ذلك الموضع عرفات أو لأن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يدور به في المشاعر أي : مواضع المناسك ويقول : عرفت فيقول : عرفت فلما رآه قال : عرفت أو لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه
316
فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا أو لغير ذلك كما ذكر في التفاسير.
وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفات لأن الإضافة مأمور بها وهي موقوفة على الحضور فيها والوقوف بها وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الوقوف واجباً {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتلبية والتهليل والتسبيح والتحميد والثناء والدعوات {عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعلى الميقدة.
وفي المغرب "الميقدة" : هو موضع بالمشعر الحرام على قزح كان أهل الجاهلية يوقدون عليها النار وتقييد محل الذكر والوقوف بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 316
(1/259)
{عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} للتنبيه على أن الوقوف فيما يقرب من جبل قزح أفضل من الوقوف في سائر مواضع أرض مزدلفة وذلك لا ينافي صحة الوقوف في جميع مواضعها كما أن عرفات كلها موضع الوقوف لكن الوقوف بقرب جبل الرحمة أفضل وأولى والمشعر العلم أي : للعبادة.
والشعائر العلامات من الشعار وهو العلامة ووصفه بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي : كما علمكم كيف تذكرونه مثل كون الذكر ذكراً كثيراً وعلى وجه التضرع والخيفة والطمع ناشئاً عن الرغبة والرهبة ومشاهدة جلال المذكور وجماله كما قال عليه السلام : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" فالمقصود من الكاف مجرد التقييد لا التشبيه أي : اذكروه على الوجه الذي هداكم إليه لا تعدلوا عما هديتم إليه كما تقول افعل كما علمتك وليس هذا تكراراً لقوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} لأن الأول لبيان محل الذكر والوقوف وتعليم النسك المناسك لذلك المحل وأوجب بالثاني أن يكون ذكرنا أباه كهدايته إيانا أي : موازياً لها في الكم والكيف {وَإِنْ} هي المخففة واللام هي الفارقة {كُنتُم مِّن قَبْلِهِ} أي : من قبل ما ذكر من هدايته إياكم {لَمِنَ الضَّآلِّينَ} غير العالمين بالإيمان والطاعة.
قال القاشاني : إن الله تعالى هدى أولاً إلى الذكر باللسان في مقام النفس.
ثم إلى الذكر بالقلب وهو ذكر الأفعال أي : تصور آلاء الله ونعمائه ثم إلى ذكر السر وهو معاينة الأفعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات.
ثم إلى ذكر الروح وهو مشاهدة أنوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات ، ثم إلى ذكر الخفي وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الاثنينية ، ثم إلى ذكر الذات وهو الشهود الذاتي بارتفاع البعد وإن كنتم من قبل الهدي إلى هذه المقامات لمن الضالين عن طريق هذه الأذكار انتهى.
ولما أمر بذكر الله تعالى إذا فعلت الإفاضة أمر بأن تكون الإفاضة من حيث أفاض الناس مرتباً الأمر الثاني على الأول بكلمة ثم ، فقال :
{ثُمَّ أَفِيضُوا} أي : ارجعوا {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي : من عرفة لا من المزدلفة كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون : نحن أهل الله وسكان حرمه فلا نخرج من الحرم ويستعظمون أن يقفوا مع الناس بعرفات لكونها من الحل وسائر العرب كانوا يقفون بعرفات اتباعاً لملة إبراهيم عليه السلام فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فأنزل الله هذه الآية فأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر الناس والمراد بالناس العرب كلهم غير الحمس.
والحمس في الأصل جمع أحمس وهو الرجل الشجاع والأحمس أيضاً الشديد الصلب في الدين والقتال وسميت قريش وكنانة وجديلة وقيس حمساً لتشددهم في دينهم وكانوا لا يستظلون أيام منى ولا يدخلون البيوت من أبوابها وكذلك كان من حالفهم أو تزوج منهم {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} من جاهليتكم في تغيير المناسك ومخالفتكم
317
في الموقف {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فأمر النبي عليه السلام أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يخرج بالناس جميعاً إلى عرفات فيقف بها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 316
(1/260)
ـ روي ـ أن الله تعالى يباهي ملائكته بأهل عرفات ويقول : "انظروا إلى عبادي جاؤوا من كل فج عميق شعثاً غبراً اشهدوا أني غفرت لهم" ويروى أن الشيطان ما رؤي في يوم هو أصغر وأحقر وأذل منه يوم عرفة وما ذلك إلا بما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إذ يقال إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة وفي الحديث "أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفة فظن أن الله تعالى لا يغفر له" والحجة الواحدة أفضل من عشرين غزوة في سبيل الله.
وقيل : إن البعير إذا حج عليه مرة بورك في أربعين من أمهاته وإذا حج عليه سبع مرات كان حقاً على الله أن يرعاه في رياض الجنة ومصداق ذلك ما قال النهراني رحمه الله : بلغني أن وقاد تنور حمام أتى بسلسلة عظام حمل ليوقدها قال : فألقيتها في المستوقد فخرجت منه فألقيتها فعادت فخرجت فعدت فألقيتها الثالثة فعادت فخرجت بشدة حتى وقعت في صدري وإذا بصوت هاتف يقول : ويحك هذه عظام جمل قد سعى إلى مكة عشر مرات كيف تحرقها بالنار وإذا كانت هذه الرأفة والرحمة بمطية الحاج فكيف به؟ ثم إن الفضل على ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أحوال العبد فإن التنوع راجع إلى تغيير أحوال العباد لا إلى تغيير صفة من صفات الحق تعالى.
فالأول منها ما يتعلق بالمعاش الإنساني من المال والجاه ونوع يتعلق بالغذاء واللباس الضروري وهذا الفضل مفسر بالرزق قال الله تعالى : {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة : 10) ، والثاني : منها ما يتعلق بالمصالح الأخروية للعبد وهو نوعان ما يتعلق بأعمال البدن على وفق الشرع ومتابعة الشارع ومجانبة طريق الشيطان المنازع قال تعالى : {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (الحشر : 8) وما يتعلق بأعمال القلب وتزكية النفس قال تعالى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النور : 21) ، والقسم الثالث منها ما يتعلق بالله تعالى وهو نوعان ما يتعلق بمواهب القربة قال تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} (الأحزاب : 47) أي : قرباً كبيراً فإنه أكبر من الدنيا والآخرة وما يتعلق بمواهب الوصلة قال تعالى : {ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُا وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (
جزء : 1 رقم الصفحة : 316
الجمعة : 4) يعني فضل مواهب الوصلة أعظم من الكل ولكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة مقام في الابتغاء ، أما الذي يتعلق بالمصالح الأخروية وهو فضل الرحمة فمقام ابتغائه بترك الموجود وبذل المجهود وهو في السير إلى عرفات ، وأما الذي يتعلق بالله وهو فضل المواهب فمقام ابتغائه عند الوقوف بعرفات وعرفات إشارة إلى المعرفة وهي معظم أركان الوصلة ، وأما الذي يتعلق بالمصالح الدنيوية وهو فضل الرزق فمقام ابتغائه بعد استكمال الوقوف بعرفات المعرفة عند الإفاضة ، ففي الآية تقديم وتأخير أي : إذا أفضتم من عرفات فليس عليكم إلخ وذلك لأن حال أهل السلوك في البداية ترك الدنيا والتجريد عنها ، وفي الوسط التوكل والتفريد ، وفي النهاية المعرفة والتوحيد فلا يسلم الشروع في المصالح الدنيوية إلا لأهل النهاية لقوتهم في المعرفة وعلو همتهم بأن يطهر الله قلوبهم من رجز حب الدنيا الدنيوية ويملأها نوراً بالألطاف الخفية فلا اعتبار للدنيا وشهواتها أو نعيم الآخرة ودرجاتها عند الهمم العالية فلا يتصرفون في شيء منها وتصرفهم بالله وفي الله ولله لا لحظوظ النفس بل لصالح الدين وإصابة الخير إلى الغير كذا في "التأويلات النجمية" ، قال في "المثنوي" :
318
كاراكاثرا قياس ازخودمكير
كره ماند در نوشتن شير شير
اللهم اجعل هممنا مقصورة على جنابك آمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 316
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ} أي : أتممتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج وفرغتم منها {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} يعني فاتركوا عادة الجاهلية واتبعوا سنن الإسلام واشتغلوا بذكر رب الأنام وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل ويذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم يريد كل واحد منهم بذلك حصول الشهرة والترفع له بمآثر سلفه فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بأن يجعلوا بدل ذكرهم آباءهم ذكر الله تعالى وتمجيده والثناء عليه إذ الخير كله من عنده وآباؤهم عبيده ونالوا ما نالوا بأفضاله ، قال السعدي قدس سره :
كراز حق نه توفيق خيري رسد
كي ازبنده خيري بغيري رسد
(1/261)
{أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} مجرور معطوف على الذكر بجعله ذاكراً على المجاز أي : اذكروه ذكراً كان مثل ذكركم المتعلق بآبائكم أو كذكر هو أشد منه وأبلغ ذكراً أو تحقيقه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك وجهك أحسن وجه أي : أحسن الوجوه فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقولك زيد أفره عبداً فالفراهة للعبد لا لزيد والمذكور قبل أشد هنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال أشد ذكراً إنما قياسه أن يقال للذكر أشد ذكر جراً إضافة فوجه النصب أنه يجعل الذكر ذاكراً مجازاً ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه {فَمِنَ النَّاسِ} أي : من الذين يشهدون الحج {مَن يَقُولُ} في ذكره مقتصراً على طلب الدنيا {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ} أي : إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء وما هو من الحظوظ العاجلة وهم المشركون لأنهم لا يسألون في حجهم إلا الدنيا {وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ} أي : نصيب وحظ لأن همه مقصور على الدنيا حيث سأل في أعز المواقف أحقر المطالب وأعرض عن سؤال النعيم الدائم والملك العظيم {وَمِنْهُمْ} أي : من الذين يشهدون الحج {مَن يَقُولُ} في ذكره طالباً خير الدارين {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا} هي الصحة والكفاف والتوفيق للخير.
وفي "التيسير" : الحسنة جامعة لكل الخيرات في الدارين.
{وَفِي الاخِرَةِ حَسَنَةً} هي الثواب والرحمة.
قال الشيخ أبو القاسم الحكيم : حسنة الدنيا عيش على سعادة وموت على شهادة وحسنة الآخرة : بعث من القبر على بشارة وجواز على الصراط على سلامة.
{وَقِنَا} أي : احفظنا {عَذَابَ النَّارِ} بالعفو والمغفرة ، وعن علي كرم الله وجهه إن الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء.
قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 319
و مستور بأشد زن خوب روي
ديدار اودر بهشتست شوي
وتلخيصه : أكثروا ذكر الله وسلوه سعادتكم في داريه وترك ذكر من قصر دعاءه على طلب الآخرة فقط لأن طالب الآخرة فقط بحيث لا يحتاج إلى طلب حسنة من الدنيا لا يوجد في الدنيا {أُوالَـائِكَ} إشارة إلى الفريق الثاني وهم الداعون بالحسنتين لأنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول بقوله : {وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ} {لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا} من للتبعيض أي : لهم
319
نصيب عظيم كائن من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة أو من أجل ما كسبوا لأنهم استحقوا ذلك الثواب الحسن بسبب آمالهم الحسنة ومن أجلها فتكون من ابتدائية لأن العلة مبدأ الحكم ثم أومأ إلى قدرته محذراً من الموت وحاثاً على أعمال الخير بقوله : {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} والحساب يراد به نفس الجزاء على الأعمال فإن الحساب سبب للأخذ والعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز شائع أي : يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة لعدم احتياجه إلى عقد يد أو وعي صدر أو نظر وفكر فاحذروا من الإخلال بطاعة من هذا شأن قدرته أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس.
وفي خطبة بعض المتقدمين ولت الدنيا حذاء ولم يبق إلا صابة كصبابة الإناء فليبادر المؤمن إلى الطاعات واكتساب الحسنات والذكر في كل الحالات.
قال الحسن البصري : اذكروني بما يذكر الصغير أباه فإنه أول ما يتكلم يقول يا أب يا أب ، فعلى كل مسلم أن يقول يا رب يا رب وعن النبي عليه السلام : "أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافاً فصبر على ذلك" ثم نقر بيده فقال : "هكذا عجلت منيته قلت بواكيه قل ثراؤه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
جزء : 1 رقم الصفحة : 319
(1/262)
والإشارة فإذا قضيتم مناسك : وصلتكم وبلغتم مبلغ الرجال البالغين من أهل الكمال فلا تأمنوا مكر الله ولا تهملوا وظائف ذكر الله فاذكروا الله كما تذكرون في حال طفوليتكم آباءكم للحاجة والافتقار بالعجز والانكسار وفي حال رجوليتكم للحجة والافتخار بالمحبة والاستظهار فاذكروا الله افتقاراً وافتخاراً أو أشد ذكراً وآكد في الافتخار لأنه يمكن للطفل الاستغناء عن الله بولي وكذلك البالغ يحتمل أن يفتخر بغير الله ولكن العباد ليس لهم من دون الله من ولي ولا واققٍ فمن الناس من أهل الطلب والسلوك من يقول بتسويل النفس وغرورها بحسبان الوصول والكمال عند النسيان وتغير الأحوال ربنا آتنا في الدنيا حسنة يعني : تميل نفسه إلى الدنيا وتنسى المقصد الأصلي ويظن الطالب الممكور أنه قد استغنى عن الاجتهاد فأهمل وظائف الذكر ورياضة النفس ومخاطرة القلب ومراقبة السر فاستولت عليه النفس وغلب عليه الهوى واستهوته الشياطين في الأرض حيران حتى أوقعته في أودية الهجران والفراق وماله في الآخرة من خلاق ومنهم أي : من أهل الوصول وأرباب الفتوة من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة نعمة من النعم الظاهرة كالعافية والصحة والسعة والفراغة والطاعة واستطاعة البدن والوجاهة والإرشاد والأخلاق وفي الآخرة حسنة نعمة من النعم الباطنة هي الكشوف والمشاهدات وأنواع القربات والمواصلات وقنا عذاب النار أي : نار القطيعة وحرقة الفراق أولئك لهم نصيب أي : لهؤلاء البالغين الواصلين نصيب وافر مما كسبوا من المقامات والكرامات ومما سألوا من إيتاء الحسنات والله سريع الحساب لكلا الفريقين فيما سألوه أي : يعطيهم بحسب نياتهم على قدر هممهم وطوياتهم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 319
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي : كبِّروه أعقاب الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها {فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} في أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها : يوم القر وهو الحادي عشر
320
من ذي الحجة يستقر الناس فيه بمنى ، والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى ، والثالث يوم النفر الثاني وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر أيام رمي الجمار وأيام التكبير أدبار الصلوات وفي الحديث "كبر دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق" وسميت معدودات لقلتهن كقوله تعالى : {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف : 20) أي : قليلة ، والأيام المعلومات في قوله تعالى : {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ} (الحج : 28) في سورة الحج عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر.
وفي "الكواشي" : معدودات جمع معدودة وأيام جمع يوم ولا ينعت المذكر بمؤنث فلا يقال يوم معدودة وقياسه في أيام معدودة لأن الجمع قد ينعت بالمؤنث كقوله تعالى : {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} (البقرة : 80) قالوا ووجهه أنه أجرى معدودات على لفظ أيام وقابل الجمع بالجمع مجازاً انتهى {فَمَن تَعَجَّلَ} أي : استعجل وطلب الخروج من منى {فِى يَوْمَيْنِ} في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} بهذا التعجيل وهو مرخص له فعند أبي حنيفة رحمه الله ينفر قبل طلوع الفجر من اليوم الثالث ومحصله أن على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع حصيات ورخص في ترك البيتوتة لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاج ثم كل من رمى اليوم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر بعد البيتوتة في الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ورمى يوميهما فذلك له واسع لقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
(1/263)
{فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث ثم ينفر {وَمَن تَأَخَّرَ} عن الخروج حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده ثم يخرج إذا فرغ من رمي الجمار كما يفعل الناس الآن وهو مذهب الشافعي والإمامين {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} بترك الترخص والمعنى أنهم مخيرون بين التعجيل والتأخير ، فإن قلت أليس التأخير بأفضل؟ قلت : بلى ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل وإنما أورد بنفي الإثم تصريحاً بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي الإثم عنهما جميعاً {لِمَنِ اتَّقَى} خبر مبتدأ محذوف أي : الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لمن اتقى أي : مختص بمن اتقى المناهي لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به لأنه تعالى قال : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ومن كان ملوثاً بالمعاصي قبل حجه وحين اشتغاله به لا ينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرائض ظاهراً {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي : حال الاشتغال بأعمال الحج وبعده ليعتد بأعمالكم فإن المعاصي تأكل الحسنات عند الموازنة {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي : تبعثون وتجمعون للجزاء على أعمالكم وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به فإن علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي إلى ملازمة التقوى وكانوا إذا رجعوا من حجهم يجترئون على الله بالمعاصي فشدد في تحذيرهم.
قال أبو العالية : يجيء الحاج يوم القيامة ولا إثم عليه إذا اتقى فيما بقي من عمره فلم يرتكب ذنباً بعدما غفر له في الحج والمذنب المصر إذا حج فلا يقبل منه لعوده إلى ما كان عليه فعلامة الحج المبرور أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإذا
321
رجع من الحج المبرور رجع وذنبه مغفور ودعاؤه مستجاب فلذلك يستحب تلقيه بالسلام وطلب الاستغفار منه.
والحج المبرور مثل حج إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الصالح الذي صحبه من بلخ فرجع من حجه زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة وخرج عن ملكه وماله وأهله وعشيرته وبلاده واختار بلاد الغربة وقنع بالأكل من عمل يده إما من الحصاد أو من نظارة البساتين ، قال بعضهم : الحرّ الكريم لا ينقض العهد القديم وإذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها معاذ الله إن ربي أحسن مثواي ، وفي "المثنوى" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
نقض ميثاق وشكست توبها
موجب لعنت شود در انتهاون ترازوى توك بودودغا
راست ون جويى ترازوي جزا
وعن بعضهم قدمت من الحج مع قوم فدعتني نفسي إلى أمر سوء فسمعت هاتفاً ناحية البيت يقول : ويلك ألم تحج؟ ويلك ألم تحج فعصمني الله إلى الساعة ولا شك أن بعض الأعمال يكون حجاباً للمرء إذا استند إليه واعتمد عليه.
ـ حكي ـ أن بعض الأتراك كان يلازم مجلس شيخ الإسلام أحمد النامقي الجامي قدس سره ويرى فوق قفاه نوراً كالترس فاتفق له أن يحج فلما رجع زالت عنه تلك الحال فسأل الشيخ عن سببه فقال : إنك كنت قبل الحج صاحب تضرع ومسكنة والآن غرك حجك وأعطيت نفسك قدراً ومنزلة فلذا نزلت عن رتبتك ولم ترَ النور ، ومما يجب على الحاج اتقاؤه المحارم وأن لا يجعل نفقته من كسب حرام فإن الله لا يقبل إلا الطيب.
ـ وحكي ـ عن بعض من حج أنه توفي في الطريق في رجوعه فدفنه أصحابه ونسوا الفأس في قبره فنبشوه ليأخذوا الفأس فإذا عنقه ويداه قد جمعتا في حلقة الفأس فردوا عليه التراب ثم رجعوا إلى أهله فسألوهم عن حاله فقالوا : صحب رجلاً فأخذ ماله فكان يحج منه وفي الحديث "من حج بيت الله من كسب الحلال لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها سبعين حسنة وحط عنه سبعين خطيئة ورفع له سبعين درجة" ذكره في "الخالصة" وإذا أراد أن يحج بمال حلال ليس فيه شبهة فإنه يستدين للحج ويقضي دينه من ماله.
وعن أبي القاسم الحكيم : أنه كان يأخذ جائزة السلطان فكان يستقرض لجميع حوائجه وما يأخذه من السلطان كان يقضي به ديونه ، وعن أبي يوسف قال هذا جواب أبيح في مثل هذا كذا في "خزانة الفتاوي".
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
(1/264)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} أي : تستحسن ظاهر قوله وتعده حسناً مقبولاً فإن الإعجاب استحسان الشيء والميل إليه والتعظيم له ، قال الراغب التعجب حيرة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء وحقيقة أعجبني كذا ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه {فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} متعلق بالقول أي : يسرك ما يقوله في معنى الدنيا وحقها لأن دعواه محبتك إنما هو لطلب حظ من الدنيا فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة أو يعجبك قوله في الدنيا بحلاوته وفصاحته لا في الآخرة لما أنه يظهر هناك كذبه وقبحه {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ} أي : يقول الله شاهد أن ما في قلبي من المحبة والإسلام موافق لما في لساني {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي : أشد في العداوة والخصومة للمسلمين على أن الخصام مصدر كالقتال والجدال وإضافة الألد إليه بمعنى في.
واللّدد شدة الخصومة ، نزلت في الأخنس بن شريف الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويدعي الإسلام ودعوى
322
المحبة والخلوص بدون المواطأة من فعل الملاحدة والزنادقة والمحب لا يفعل إلا ما يحب محبوبه قال الشاعر :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن أحب مطيع
قال الحافظ :
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه ازدروغ سيه روى كشت صبح نخست
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
{وَإِذَا تَوَلَّى} أي : أدبر وانصرف عن مجلسك أو إذا غلب وصار والياً {سَعَى فِى الأرْضِ} السعي سير سريع بالأقدام وقد يستعار للجد في العمل والكسب وإنما جيء بقوله في الأرض مع أن السعي على كلا المعنيين لا يكون إلا في الأرض للدلالة على كثرة فساده فإن لفظ الأرض عام يتناول جميع أجزائها وعموم الظرف يستلزم عموم المظروف فكأنه قيل أي : مكان حل فيه من الأرض أفسد فيه فيلزم كثرة فساده {لِيُفْسِدَ فِيهَا} علة لسعي {وَيُهْلِكَ} الإهلاك الإضاعة {الْحَرْثَ} أي : الزرع {وَالنَّسْلَ} ما خرج من كل أنثى من أجناس الحيوان يقال نسل ينسل إذا خرج منفصلاً والحرث والنسل وإن كانا في الأصل مصدرين فالمراد بهما ههنا معنى المفعول فإن الولد نسل أبويه أي : مخرج منفصل منهما وذلك كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم أي : أتاهم ليلاً وأهلك مواشيهم وزرعهم لأنه كان بينه وبينهم عداوة أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل وفي الحديث "لما خلق الله تعالى أسباب المعيشة جعل البركة في الحرث والنسل" فإهلاكهما غاية الإفساد وفي الحديث "يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه فإن كان مطيعاًفي عمله مضى وإن كان عاصياً انخرق به الجسر فيهوي به في جهنم مقدار خمسين عاماً" {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي : لا يرتضيه ويبغضه ويغضب على من يتعاطاه ، فإن قيل : كيف حكم الله تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو بنفسه مفسد للأشياء؟ قيل : الإفساد في الحقيقة إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ولا هو آمر به ولا محب له وما نراه من فعله ونظنه بظاهره فساداً فهو بالإضافة إلينا واعتبارنا له كذلك فأما النظر الإلهي فكله صلاح.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ} أي : لهذا المنافق والمفسد على نهج العظة والنصيحة {اتَّقِ اللَّهَ} خف من الله في صنعك السوء واترك ما تباشره من الفساد والنفاق {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ} أي : حملته الأنفة التي فيها وحميته الجاهلية على الإثم والذنب الذي نهى عنه أو على رد قول الواعظ لجاجاً وعناداً من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه فالباء للتعدية وصلة الفعل الذي قبلها {فَحَسْبُه جَهَنَّمُ} مبتدأ وخبر أي : كافيه دخول النار والخلود فيها على ما عمله وهو وعيد شديد {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي : والله لبئس الفراش جهنم.
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد اتققِ الله فيقول عليك نفسك ، وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اتققِ الله فوضع خده على الأرض تواضعاًتعالى ، ثم إنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر
323
في هذه الآية من يبذل دنياه ونفسه لطلب الدين وما عند الله يوم الدين فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
(1/265)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ} أي : يبيعها ويبذلها فإن المكلف لما بذل نفسه في طاعة الله من الصوم والصلاة والحج والجهاد والزكاة وتوصل بذلك إلى وجدان ثواب الله صار المكلف كأنه باع نفسه من الله تعالى بما نال من ثوابه وصار تعالى كأنه اشترى منه نفسه بمقابلة ما أعطاه من ثوابه وفضله {ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي : طلباً لرضاه {وَمِنَ النَّاسِ مَن} ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده أن ما اشتراه منهم من أنفسهم وأموالهم إنما هو خالص ملكه وحقه ثم إنه يشتري منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة وإحساناً وفضلاً وإكراماً.
وقيل : نزلت في صهيب بن سنان الرومي خرج من مكة يريد الهجرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة وهو ابن مائة سنة اتبعه نفر من مشركي قريش وقتلوا نفراً كانوا معه وكان معه كنانة فيها سهامه وكان رامياً مصيباً فقال : يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً والله لا أضع سهمي إلا في قلب رجل وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ثم افعلوا ما شئتم ولن ينفعكم كوني فيكم فإني شيخ كبير ولي مال في داري بمكة فارجعوا وخذوه وخلوني وما أنا عليه من الإسلام ففعلوا وسار هو إلى المدينة فلما دخلها لقيه أبو بكر فقال له : ربح البيع يا صهيب فقال : وما ذاك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب ، فيشري حينئذٍ بمعنى يشتري لجريان الحال على صورة الشراء لأنه اشترى نفسه من المشركين ببذل ماله لهم.
واعلم أن المؤمنين باعوا باختيارهم أنفسهم فكان ثمن نفس المؤمن الجنة أما الأولياء فإنهم باعوا باختيارهم أنفسهم فكان ثمن نفس الأولياء مرضاة الله تعالى وبينهما فروق كثيرة فعلى السالك أن يخرج من أوطان البشرية ويغترب عن ديار الأقران حتى يكون مجاهداً حقيقياً وشهيداً معنوياً قال عليه الصلاة والسلام : "وطوبى للغرباء" وقال أيضاً : "من مات غريباً فقد مات شهيداً" يشير بذلك إلى الانقطاع من الخلق إلى الخالق وذلك لا يكون إلا بمخالفة الجمهور في العادات والشهوات ، وفي الحديث : "يا أنس إن استطعت أن تكون أبداً على وضوء فافعل فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة" وذلك لأن الوضوء وإشارة إلى الانفصال عما سوى الله تعالى كما أن الصلاة إشارة إلى الاتصال بالله تعالى وفي الحديث أيضاً "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فالطهارة الصورية سبب لتوسيع الرزق الصوري وكذا طهارة الباطن سبب لتوسيع الرزق المعنوي من المعارف والإلهامات والواردات وعند ذلك يحيي القلب بالحياة الطيبة وتموت النفس عن صفاتها وليس ذلك إلا أثر الجهاد الحقيقي فمن تخلص من قيد النفس ومات بالاختيار فهو حي أبداً.
وفي "المثنوي" :
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
أي يا نفس شهيد معتمد
مرده در دنيا وزنده مي رود
ولا بد للعبد من العروج من الخلق إلى الخالق ومن الحاجة التامة لنفسه إلى الغنى التام بالحق في تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات فإذا فرّ إلى الله ووصل إلى جماله وغرق في مشاهدة جلاله شاهد سر قوله تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) وأول الأمر ترك الأموال ثم ترك الأولاد ثم ترك النفس ، فعند الأول يتجلى توحيد الأفعال ، وعند الثاني يتجلى توحيد الصفات ، وعند الثالث
324
يتجلى توحيد الذات وهو أعلى الدرجات ، فعلى العاقل إكثار ذكر الله فإنه سبب لتصفية الباطن وصقالة القلب قال تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال : 45) ولا فلاح أعظم من أن يصل الطالب إلى المطلوب اللهم اجعلنا مفلحين.
(1/266)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بألسنتهم على أن الخطاب للمنافقين {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} أي : استسلموا الله تعالى وأطيعوه جملة ظاهراً وباطناً ، فالسلم بمعنى الاستسلام والطاعة وكافة حال من ضمير الفاعل في ادخلوا وهذه حال تؤكد معنى العموم في ضمير الجمع فإن قولك قام القوم كافة بمنزلة قاموا كلهم وتاء كافة وقاطبة وعامة ليست للتأنيث وإن كان أصلها أن تدل عليه بل إنما دخلت لمجرد كون الكلمة منقولة إلى معنى كل وجميع أو المعنى ادخلوا في الإسلام لكليته ولا تخلطوا به غيره فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعض أحكام دينهم القديم كما روي أن عبد الله بن سلام وأصحابه كانوا يتمسكون ببعض شرائع التوراة من تعظيم السبت وتحريم لحم الإبل وألبانها وأشياء كانوا يرون الكف عن ذلك مباحاً في الإسلام وإن كان واجباً في شريعتهم فثبتوا على ذلك مع اعتقادهم حلها استيحاشاً من مفارقة العادة وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقرأ منها في صلاتنا بالليل فقال عليه السلام : "لا تتمسكوا بشيء مما نسخ ودعوا ما ألفتموه ولا تستوحشوا من النزوع عنه" فإنه لا وحشة مع الحق وإنما هو من تزيين الشيطان.
{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ} جمع خطوة بالضم والسكون وهو ما بين القدمين أي : لا تسلكوا مسالكه ولا تطيعوه فيما دعاكم إليه من السبل الزائغة والوساوس الباطلة {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة يريد أن يفسد عليكم بهذه الوساوس إسلامكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
{فَإِن زَلَلْتُم} الزلل في الأصل عثرة القدم ثم يستعمل في العدول عن الاعتقاد الحق والعمل الصائب فالمعنى أخطأتم الحق وتعديتموه علماً كان أو عملاً.
{مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي : الحجج والشواهد على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق.
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب على أمره لا يعجزه الانتقام منكم.
{حَكِيمٌ} لا ينتقم إلا بالحق ، وفي الآية تهديد بليغ لأهل الزلل عن الدخول في السلم فإن الوالد إذا قال لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدة سطوتي لأهل المخالفة يكون قوله هذا أبلغ في الزجر من ذكر الضرب وغيره وكما أنها مشتملة على الوعيد منبئة عن الوعد أيضاً من حيث أنه تعالى اتبعه بقوله حكيم فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن أن ينتظر من الحكيم تعذيب المسيء فكذلك ينتظر منه إكرام المحسن وإثابته بل هذا أليق بالحكمة وأقرب إلى الرحمة {هَلْ يَنظُرُونَ} استفهام في معنى النفي ونظر بمعنى انتظر أي : ينتظر من يترك الدخول في السلم ويتبع خطوات الشيطان {إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي : إلا إتيان الله أي : عذابه على حذف المضاف لأن الله تعالى منزه عن المجيء والذهاب المستلزمين للحركة والسكون لأن كل ذلك محدث فيكون كل ما يصح عليه المجيء والذهاب محدثاً مخلوقاً له والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك ، وسئل علي رضي الله عنه : أين كان تعالى قبل خلق السموات والأرض؟ قال : أين سؤال عن المكان وكان الله تعالى ولا مكان وهو اليوم على ما كان ومذهب المتقدمين في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله لأنه لا يأمن في تعيين مراد
325
الله تعالى من الخطأ فالأولى السكوت ومذهب جمهور المتكلمين أن لا بدّ من التأويل على سبيل التفصيل {فِي ظُلَلٍ} كائنة
جزء : 1 رقم الصفحة : 325
{مِّنَ الْغَمَامِ} والظلل : جمع ظلة وهي ما أظلك والغمام السحاب الأبيض الرقيق سمي غماماً لأنه يغم أي : يستر ولا يكون السحاب ظلة إلا إذا كان مجتمعاً متراكماً فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة تكون في غاية الكثافة والعظم وكل قطعة ظلة {وَالْمَلَائكَةِ} أي : ويأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة.
وتلخيصه قد قامت الحجج فلم يبقَ إلا نزول العذاب ، فإن قلت : لم لم يأتهم العذاب في الغمام كما فعل بقوم يونس وقوم عاد وقوم شعيب؟ قلت : لأن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الخير أي : الغيث ومن ثمه اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) فإن تفسيره على ما قالوا عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات وذلك لتجويزهم أن يكون عملهم كذلك فيجيئهم الشر من حيث يتوقعون الخير فخافوا من ذلك.(1/267)
ـ روي ـ أن محمد بن واسع تلا هذه الآية فقال : آه آه إلى أن فارق الدنيا {وَقُضِىَ الامْرُ} أي : أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على الحقيقة فكأنه قد كان {وَإِلَى اللَّهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُ الامُورُ} أي : أمور الخلق وأعمالهم هو القاضي بينهم يوم القيامة والمثيب والمعاقب فينبغي للمؤمن أن يكون في جانب الانقياد ويحترز عن الهوى وخطوات الشيطان وعن النبي عليه السلام أنه قال : "إن الله تعالى أظهر الشكاية من أمتي" وقال : "إني طردت الشيطان لأجلهم فهم يعصونني ، ويطيعون الشيطان".
قال السعدي قدس سره :
كجا سر بر آريم ازين عاروننك
كه با او بصلحيم وباحق بجنبك
نظر دوست نادر كند سوى تو
و در روى دشمن بود روى تو
تداني كه كمتر نهد دوست اي
و بيند كه دشمن بود در سراي
فمن أعظم الطاعات طرد الشيطان وأن يتهم النفس دائماً ، كما روي أن رجلاً صام أربعين سنة ثم دعا الحاجة ومع ذلك لم تجب دعوته وذم نفسه وقال : يا مأوى الشر ذلك من شرك فأوحى إلى نبي ذلك الزمان قل له إن قتلكَ لنفسك أحب إليّ من صيام أربعين سنة.
قال السعدي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 325
خورنده كه خيري بر آيد زدست
به از صائم الدهر دنيا برست
واعلم أن في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} معنى عاماً ومعنى خاصاً فالعام خطاب عام مع جميع من آمن أي : ادخلوا في شرائط الإسلام في الباطن كما في الظاهر ومن شرائطه ما قال النبي عليه السلام : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس".
وأما المعنى الخاص فخطاب خاص مع شخص الإنسان وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة فينبغي أن يدخل أركانه في الإسلام بالفعل ، فالعين بالنظر ، والأذن بالسمع ، والفم بالأكل ، والفرج
326
بالشهوة ، واليد بالبطش ، والرجل بالمشي ودخول واحد منها في الإسلام بأن يستسلم لأوامر الحق ويجتنب نواهيه بل يترك ما لا يعنيه أصلاً ويقع على ما لا بد له منه ، ودخول جميع أجزائه الظاهرة في شرائع الإسلام ميسر للمنافق ، فأما إدخال أجزائه الباطنة فمعركة أبطال الدِّين ومنزلة الرجال البالغين فدخول النفس في الإسلام بخروجها عن كفر صفاتها الذميمة وترك مألوفاتها واطمئنانها بالعبودية ليستحق بها دخول مقام العباد المخصوصين به بخطابه تعالى إياها كقوله تعالى : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ} (الفجر : 27) الآية ، ودخول القلب في الإسلام بتصفيته عن رذائل أخلاق النفس وتحليته بشمائل أخلاق الروح ، ودخول الروح في الإسلام بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الأحكام الأزلية وقطع النظر والتعلق عما سوى الله بتصرف جذبات الألوهية ، ودخول السر في الإسلام بفنائه في الله وبقائه بالله {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ} أي : لا تكونوا على سيرته وصفته وهي الإباء والاستكبار فإنه ضد الإسلام {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} لعداوته الغريزية لكم لاختلاف جبلته وجبلتكم وقصوره عن نور فطرتكم لكونه ناري الخلقة لا يطلب منكم إلا أن تكونوا ناريين مثله لا نوريين فهو عدو في الحقيقة في صورة المحب {فَإِن زَلَلْتُم} أي : زلت أقدامكم عن صراط الإسلام الحقيقي {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} دلائل تجليات أفعال الصفات {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} فلعزته لا يهدي إليه كل ذليل دني الهمة قصير النظر {حَكِيمٌ} يهدي من يشاء إلى سرادقات عزته {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} إلا أن يتجلى الله في ظل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات الساترة لشمس الذات وهو ملائكة القوى السماوية {وَقُضِىَ} في اللوح {الامْرُ} أمر إهلاكهم {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} بالفناء كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 325
(1/268)
{سَلْ} أمر للرسول عليه السلام بالسؤال أو لكل أحد يصلح أن يخاطب {بَنِى إِسْرَاءِيلَ} يعني هؤلاء الموجودين في عصرك من رؤساء بني إسرائيل {كَمْ ءَاتَيْنَـاهُم} أي : آتينا آبائهم وأسلافهم {مِّنْ ءَايَةا بَيِّنَةٍ} أي : معجزة ظاهرة على أيدي أنبيائهم لا يخفى على المتفكر أنها من عند الله كالعصا واليد البيضاء وإنزال المنّ والسلوى وغيرها أو المراد آيات كتبهم الشاهدة على صحة دين الإسلام ، قوله : كم آتيناهم محل هذه الجملة النصب أو الخفض على أنها مفعول ثان للسؤال فإنه يتعدى إلى مفعولين إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر إما عن وإما الباء نحو سألته عن كذا وبكذا.
قال الله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} (الفرقان : 59) وقد يحذف حرف الجر فمن ثمة جاز في محل كم النصب والخفض بحسب التقديرين وتمييزكم من آية بينة والأحسن إذا فصل بين كم ومميزها أن يؤتى بمن وهذا السؤال سؤال تقريع وتبكيت كما يسأل الكفرة يوم القيامة وتقرير لمجيء البينات فكم استفهامية خبرية وليس المراد حقيقة الاستفهام {وَمَن يُبَدِّلْ} التبديل تصيير الشيء على غير ما كان عليه أي : يغير {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} التي هي آياته الباهرة فإنها سبب للهدى الذي هو أجل النعم وتبديلهم إياها أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم فكفروا بها وتركوا الشكر عليها {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} أي : من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها والتصريح بذلك مع أن التبديل لا يتصور قيل المجيء للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها
327
{فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تعليل للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة فإنه شديد العقوبة لمن بدل النعمة في الدنيا والآخرة وقد عاقبهم في الدنيا بالقتل وذلك في بني قريظة وبالإجلاء وذلك في بني النضير ويوم القيامة يعذبون في السعير ، قال ابن التمجيد : وتبديل النعمة جرم بغير علم ومع العلم أشد جرماً ولذلك كان وعيد العلماء المقصرين أشد من الجاهلين بالأحكام لأن الجهل قد يعذر به وإن كان الاعتذار به غير مقبول في باب التكاليف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 327
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} أي : حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها والتزيين من حيث الخلق والإيجاد مستند إلى الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو خالقه ، وكل من الشيطان والقوى الحيوانية وما في الدنيا من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : يستهزئون بالفقراء من المؤمنين كعبد الله بن مسعود وعمار وصهيب وحبيب وبلال وغيرهم رضي الله تعالى عنهم ويسترذلونهم ويقولون : تركوا لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات وفوتوا الراحات وكراماتها وهو عطف على زين ومن للابتداء فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} يعني أطاعوا الله واختاروا الفقر من المؤمنين وإنما ذكروا بعنوان التقوى للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مخلة بتبتلهم إلى جناب القدس شاغلة لهم وللإشارة إلى أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} يعني فوق المشركين لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل سافلين فتكون الفوقية حقيقة أو لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة فتكون الفوقية مجازاً.
ويوم منصوب بالاستقرار الذي تعلق به فوقهم {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أي : في الدارين {بِغَيْرِ حِسَابٍ} كثير "بي اندازه" لأنه تعالى لا يخاف نفاد ما عنده لأنه غني لا نهاية لمقدوراته فالله تعالى يوسع بحسب الحكمة والمشيئة على عباده فمنهم من تكون التوسعة عليه استدراجاً كهؤلاء الكفرة وقارون وأضرابهم ومنهم من تكون كرامة كأغنياء المؤمنين وسليمان وأمثالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء" وإذا أهل الجسد محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار ، قال الحافظ :
ازين رباط دودر ون ضرورتست رحيل
رواق وطاق معيشت ه سربلند وه ست
بهست ونست مرنجان ضمير وخوش دل باش
كه نيستست سرانجام هر كمال كه هست
ببال و ر مرو ازره كه تير رتابي
هوا كرفت زماني ولي بخاك نشست
جزء : 1 رقم الصفحة : 327
(1/269)
ـ يحكى ـ أن عيسى عليه السلام سافر ومعه يهودي فكان مع عيسى ثلاثة أقراص فأعطاها اليهودي وقال : احفظها ثم بعد ساعة أكل اليهودي واحداً منها فقال عيسى : أعطِ الأقراص الثلاثة فقدم قرصين فقال : أين ثالثها؟ فقال اليهودي : لم تكن أكثر من هذا فمشيا حتى شاهد من عيسى عجائب فأقسم عليه عيسى لذلك حتى يقر بالقرص الثالث فلم يقرَ فلحقا بثلاث لبنات من الذهب فقال اليهودي : اقسم ذلك فقال عيسى واحدة لي وواحدة لك وواحدة لمن أكل القرص الثالث فقال اليهودي : أنا أكلت القرص الثالث فقال عيسى : ابعد عني فقد شاهدت قدرة الله ولم تقرَّ به ، والآن قد أقررت بالدنيا فترك اللبنات عند اليهودي ومشى وجاء ثلاثة من اللصوص وقتلوا اليهودي
328
وأخذوا اللبنات ثم بعثوا من جملتهم واحداً ليأتي لهم بطعام فلما غاب عنهم تشاورا في قتله وقالا إذا رجع قتلناه وأخذنا نصيبه فذهب واشترى سماً فطرحه في الطعام الذي اشتراه حتى يأكل ذلك الطعام صاحباه فيموتا ويأخذ اللبنات فلما قدم عليهما قاما وقتلاه ثم أكلا الطعام فماتا فعبر عليهم عيسى فوجد اليهودي وهؤلاء الثلاثة مقتولين فتعجب من ذلك فنزل جبريل وأخبره بالقصة ، فينبغي للعاقل أن لا يغتر بكثرة الدنيا وأن لا يهتم في جمعها بل يزرع فيها بذر العمل كي يحصد في الآخرة لأن الدنيا مزرعة الآخرة ولا ينبغي للأغنياء أن يحقروا الفقراء بالغرور بكثرة دنياهم ولا يسخروا منهم لأن هذه الصفة من صفات الكفرة.
قال السعدي :
و منعم كند سفله را روزكار
نهد بردل تنك درويش بار
وبام بلندش بودخود رست
كندبول وحاشاك بربام ست
والإشارة في الآية أن الله إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريه آياته في الملك والملكوت فإن تغير بأحواله أو تعجب بكماله فيقبل على شيء من مرادات النفس ويبدل نعمته بموافقة النفس ورضاها {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} بأن يغير عليه أحواله ويسلب عنه كماله ويشهده قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد : 11) ومن شدة عقابه أنه إذا أذنب عبد ذنباً صغيراً ولم يتب منه وأصر عليه أن يعاقبه بالابتداء بكبيرة مثل تبدل النعمة ليعاقبه بزوال النعمة في الدنيا ودوام النقمة في العقبى ، وأيضاً من شدة عقابه أن {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} ويمكر بهم حتى يغلب عليهم حب الدنيا {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} من فقرائهم وكبرائهم حملهم شدة العقوبة على الوقيعة في أوليائه واستحقار أحبابه وسيعلم الذين ظلموا أي : منقلب ينقلبون {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} من درجات أعلى عليين ودركات أسفل سافلين {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير نهاية إلى أبد الآباد فإنّ ما لا نهاية له لا مدخل له تحت الحساب وفيه معنى آخر بغير حساب يعني ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير حساب كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 327
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي : جماعة واحدة متفقين في الإيمان واتباع الحق من وقت آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام وكان بينهما عشرة قرون كل قرن ثمانون سنة كما عند الأكثر {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ} أي : فاختلفوا فبعث إلخ بدلالة قوله تعالى : {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} {مُبَشِّرِينَ} بالثواب لمن آمن وأطاع {وَمُنذِرِينَ} محذرين بالعقاب لمن كفر وعصى {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ} أي : كتاب أو مع كل واحد منهم ممن له كتاب كتابه الخاص لا مع كل واحد منهم على الإطلاق إذ لم يكن لبعضهم كتاب وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعموم النبيين لا ينافي خصوص الضمير العائد إليه بمعونة المقام {بِالْحَقِّ} أي : حال كون ذلك الكتاب ملتبساً بالحق والعدل والصدق شاهداً به {لِيَحْكُمَ} أي : الله تعالى {بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي : في الحق الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي : في الحق {إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي : الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف والتعبير عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما في تضاعيفه من الحق فإن الإنزال لا يفيد تلك الفائدة أي : عكسوا الأمر
329
جزء : 1 رقم الصفحة : 329
(1/270)
حيث جعلوا ما أنزل لإزالة الاختلاف سبباً لاستحكامه ورسوخه {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي : رسخت في عقولهم ومن متعلق بما اختلف ولم تمنع إلا من ذلك كقولك : ما قام إلا زيد يوم الجمعة {بَغْيَا بَيْنَهُمْ} مفعول له لقوله : {وَمَا اخْتَلَفَ} فالاستثناء متعلق بثلاثة أشياء والتقدير وما اختلف فيه إلا الذين الخ وما اختلفوا فيه إلا من بعد إلخ ، وما كان الاختلاف إلا للبغي والتهالك على الدنيا وللحسد والظلم كما فعل قابيل بهابيل وما قتله لإشكال الحق عليه بل حسداً منه على أخيه وهكذا في كل عصر وهذا فعل الرؤساء ثم العامة اتباعاً لهم وفعلهم مضاف إليهم فتبين أن الاختلاف في الحق أمر متقادم في الإسلام {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالكتاب {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} متعلق بهدى وما موصولة ومعناه هدى إلى ما اختلفوا فيه {مِنَ الْحَقِّ} بيان لما {بِإِذْنِهِ} أي : بأمره وتيسيره ولطفه وإرادته ورحمته حتى أبصروا الحق بنور التوفيق من الباطل {وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل سالكه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 329
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} خاطب به النبي عليه السلام والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات تشجيعاً لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفرة فإن عاقبة الأمر النصر.
وأم منقطعة الإخبار المتقدم إلى الإنكار المدلول عليه بهمزة الاستفهام أي : ما كان ينبغي أن تحسبوا ذلك فتقدر ببل والهمزة قبل إضراب عن وتظنوا أَوَلِمَ حسبتموه {وَلَمَّا يَأْتِكُم} أي : والحال لم يجئكم {مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا} أي : صفة الذين مضوا {مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين ولم تبتلوا بعد بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة وهو متوقع ومنتظر {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ} بيان له على الاستئناف كأنه قيل : كيف كان مثلهم وحالهم العجيبة؟ فقيل : مستهم البأساء أي : الشدة من الخوف والفاقة {وَالضَّرَّآءِ} أي : الآلام والأمراض {وَزُلْزِلُوا} أي : أزعجوا إزعاجاً شديداً بما أصابهم من الشدائد {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} أي : انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بشؤون الناس وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره {مَتَى} أي : يأتي {نَصْرُ اللَّهِ} الذي وعدناه طلباً وتمنياً له واستطالة لمدة الشدة والعناء فإن الشدة وإن قصر فهو طويل في عين المبتلي بها فلا محالة يستبطىء النصر فأجابهم الله بقوله : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} إسعافاً لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر أي : أنا ناصر أوليائي لا محالة ونصري قريب منهم فإن كل آتتٍ قريب ولما كان الجواب بذكر القرب دل ذلك على أن السؤال كان واقعاً عن زمان النصر أقريب هو أم بعيد ولو كان السؤال عن وقوع أصل النصر بمعنى أنه هل يوجد أو لا لما كان الجواب مطابقاً للسؤال ، وفي الآية إشارة إلى أن الوصول إلى الله والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه السلام : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" كذا في "تفسير القاضي".
ونعم ما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 329
فلك مشام كسى خوش كند ببوى مراد
كه خاك معركه باشد عبير وعنبر او
وعن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه قال لما شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نلقى من المشركين قال : "إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء
330
فلا يصرفهم ذلك عن دينهم حتى أن الرجل كان يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد بما دون العظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه وايم الله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون" قالوا : كل نبي بعث إلى أمته أجهد حتى قال متى نصر الله ووقع ذلك للرسول عليه السلام حين وقع له ضجر شديد قبل فتح مكة فقال في يوم الأحزاب حيث لم يبقَ لأصحابه صبر حتى ضجوا وطلبوا النصرة فأرسل الله ريحاً وجنوداً وهزم الكفار بهما ، ومن شدائده عليه السلام غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى كما قال تعالى : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب : 10) ولو اطلعت على ما أصابهم من عداوة اليهود وأسرار النفاق وأذى القوم يميناً وشمالاً ببذل المجهود حين هاجروا إلى المدينة لكفى ذلك عبرة في هذا الباب فنحن أولى بمقاساة أمثال هذه الشدائد خصوصاً في هذا الزمان الذي لا تجد بدّاً من طعن الناس وأذاهم إذ البلاء على الأنبياء ثم على الأولياء ثم الأمثل فالأمثل :
غبار لازمه آسيا بود صائب
امان ز حادثة آسمان ه ميخواهي
(1/271)
قال في "التأويلات النجمية" : عند قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية الخصال الذميمة التي عليها أكثر الناس كلها عارضة لهم فإنهم كانوا حين أشهدهم الله على أنفسهم أمة واحدة وولدوا على الفطرة لقوله عليه السلام : "كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" وما قال عليه السلام أو يسلمانه لمعنيين : أحدهما : أن الكفر يحصل بالتقليد ولكن الإيمان الحقيقي لا يحصل به ، والثاني : أن الأبوين الأصلين هما الأنجم والعناصر فعلى التقديرين الولد بتربية الآباء والأمهات يضل عن سبيل الحق ويزل قدمه عن الصراط المستقيم التوحيد والمعرفة ولو كان نبياً يحتاج إلى هادٍ يهدي إلى الحق كما قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلّم {وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى} (الضحى : 7) ولكل من السعادة والشقاوة كتاب كما قال عليه السلام : "ما من نفس إلا وقد كتب في كتابها من أهل الجنة أو النار وكتب شقية أو سعيدة" فقالوا : أفلا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل قال : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة" فلا بد من مقاساة بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار حتى يحصل دخول جنة الجمال ودار القرار فلم يضجروا من طول مدة الحجاب وكثرة الجهاد في الفراق وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وذوق الوصال وطلبوا نصر الله بالتجلي على قمع صفات النفوس مع قوة مصابرتهم وحسن تحملهم لما يقول المحبوب ويريد بهم حتى جاء نصر الله فرفع الحجاب وظهر أنوار الجمال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 329
{يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي : أيُّ شيء يتصدقون به من أصناف أموالهم ، نزلت حين حث النبي عليه السلام على التصدق في سبيل الله وسأل عمرو بن الجموح وهو شيخ همّ أي فاننٍ وله مال عظيم فقال : ماذا ننفق يا رسول الله من أموالنا وأين نضعها؟ {قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} أي : أيُّ شيء أنفقتم من أي : خير كان وهو بيان للمنفق والمال يسمى خيراً لأن حقه أن يصرف إلى جهة الخير فصار بذلك كأنه نفس الخير {فَلِلْوَالِدَيْنِ} ، فإن قلت كيف طابق الجواب السؤال وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت : قد تضمن قوله {مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} بيان ما ينفقونه
331
وهو كل خير وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها {وَالاقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى} أي : المحتاجين {وَالْمَسَـاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ولم يتعرض للسائلين والرقاب إما اكتفاء بما ذكر في المواقع الأخر وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى {وَمَا} أي أي شيء {تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} فإنه شامل لكل خير واقع في أي : مصرف كان {فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} أي إن تفعلوا خيراً فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه ، والمراد بهذه الآية الحث على بر الوالدين وصلة الأرحام وقضاء حاجة ذي الحاجة على سبيل التطوع ولا ينافيه إيجاب الزكاة وحصر مصارفها في الأصناف الثمانية كما ذكر في قوله تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَـارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (التوبة : 60).
جزء : 1 رقم الصفحة : 331
{كَتَبَ} أي : فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي : قتال الكفرة والجمهور على أن الجهاد فرض على الكفاية مثل صلاة الجنازة ورد السلام {وَهُوَ} أي : والحال أن القتال {كُرْهٌ لَّكُمْ} شاق عليكم مكروه فالكره مصدر بمعنى الكراهة نعت به للمبالغة كأن القتال في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له وهذه الكراهة من حيث نفور الطبع منه لما فيه من مؤونة المال ومشقة النفس وخطر الروح لا أنهم كرهوا أمر الله تعالى وكراهة الطبع لا توجب الذم بل تحقق معنى العبودية إذا فعل ذلك اتباعاً للشرع مع نفرة الطبع فأما كراهة الاعتقاد فهي من صفات المنافقين.
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو جميع ما كلفوه من الأمور الشاقة التي من جملتها القتال.
{وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن في الغزو إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة ، وعسى كلمة تجري مجرى لعل وهي من العباد للترجي ومن الله للترجية.
{وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو جميع ما نهوا عنه من الأمور المستلذة التي من جملتها القعود عن الغزو {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} لما فيه من فوات الغنيمة والأجر وغلبة الأعداءوتخريب الدار.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما هو خير لكم ديناً ودنيا فلذا يأمركم به.
{وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك ولذلك تكرهونه.
قال في "المثنوي" :
ما التصوف قال وجدان الفرح
في الفؤاد عند إتيان الترحجمله در زنجير بيم و ابتلا
(1/272)
ميروند اين ره بغير اوليا يعني : أن المقلد يجري إلى الحضرة بالاضطرار بخلاف الولي ، قال ذو النون المصري رحمه الله : إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء : الأول ضعف النية بعمل الآخرة ، والثاني : صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم ، والثالث : غلب عليهم حلول الأمل مع قرب الأجل ، والرابع : آثروا رضى المخلوقين على رضى الخالق ، والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم وراء ظهورهم ، والسادس : جعلوا قليل زلات السلف حجة أنفسهم ودفنوا كثير مناقبهم.
فعلى العاقل أن يجاهد مع النفس والطبيعة ليرتفع الهوى والشهوات والبدعة ويتمكن في القلوب حب العمل بالكتاب والسنة.
قال إبراهيم الخواص رحمه الله : كنت في جبل لكام فرأيت رماناً فاشتهيته فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها فرأيت رجلاً مطروحاً قد اجتمع عليه الزنابير فقلت السلام عليك فقال : وعليك السلام يا إبراهيم فقلت كيف عرفتني؟ فقال : من عرف الله لا يخفى عليه شيء فقلت له : أرى لك حالاً مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك الأذى من هذه الزنابير فقال :
332
وأرى لك حالاً مع الله فلو سألته أن يقيك شهوة الرمان فلدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا فتركته ومشيت.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 332
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هر ساعتش قبله دبكرست
كند مردرا نفس أمارة خوار
اكرهو شمندي عزيزش مدار
وفي "التأويلات القاشانية" {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} قتال النفس والشيطان {وَهُوَ كُرْهٌ} مكروه {لَكُمْ} مر أمرّ من طعم العلقم وأشد من ضغم الضِيغم ، وحقيقة الجهاد رفع الوجود المجازي فإنه الحجاب بين العبد والرب كما قيل وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر وكما قال ابن منصور :
بيني وبينك أني قد يزاحمني
فارفع بجودك لي أني من البين {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لاحتجابكم بهوى النفس وحب اللذة العاجلة عما في ضمنه من الخير الكثير واللذة العظيمة الروحانية التي تستحقر تلك الشدة السريعة الانقضاء بالقياس إلى ذلك الخير الباقي واللذات السرمدية.
{وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا} من اللذات الجسمانية وتمتعات النفس وهو شر لكم للنفس بحرمانها من اللذات الروحانية {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أن في كراهة النفوس ما أودع من راحة القلوب {وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أن حياة القلوب في موت النفوس وفي حياة النفوس موت القلوب كما قال قدس سره :
اقتلوني اقتلوني يا ثقات
إن في قتلي حياتاً في حياتخنجر وشمشير شدريحان من
مرك من شد بزم ونر كسدان من
جزء : 1 رقم الصفحة : 332
{يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته صلى الله عليه وسلّم أخت أبيه في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وكتب لأميرهم عبد الله بن ججش كتاباً وقال : "سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب وأقرأه على أصحابك ثم امضضِ لِمَا أمرتك ولا تُكْرِهنّ أحداً من أصحابك على السير معك" فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منها بخير" فلما نظر في الكتاب قال : سمعاً وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك ، وقال : إنه نهاني أن أكره أحداً منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كاد يقعد فوق القزع بموضع من الحجاز يقال له : بحران فأضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى بقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك مرت عير قريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول الله هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس
333
(1/273)
عكاشة ثم أشرف عليهم فقال قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوا وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرونه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا : إن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وكان أول قتيل من المشركين وهو أول قتيل في الهجرة واستأسروا الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله وكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل على فرس له فأعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم أي : يتفرقون في البلاد فسفك فيه الدماء وأخذ الجرائب وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه وبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه السلام لابن جحش وأصحابه "ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام" ووقف العير والأسيرين أي : جعلها موقوفة وما قسمها بين الغانمين وأبى أن يأخذ شيئاً من ذلك ينتظر الإذن من الله فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فأكثر الناس في ذلك فأنزل الله هذه الآية فأخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس وكان أول خمس في الإسلام وقسم الباقي بين أصحاب السرية وكانت أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما فلما قدما فأداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً وقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال صلى الله تعالى عليه وسلم "خذوه فإنه خبيث خبيث الجيفة والدية" ، والمعنى يسألك المسلمون استعلاماً أو الكفار تعنتاً عن الشهر الحرام أي : رجب سمي به لتحريم القتال فيه
جزء : 1 رقم الصفحة : 333
{قِتَالٍ فِيهِ} بدل اشتمال من الشهر لأن الشهر مشتمل على القتال {قُلْ} يا محمد في جوابهم {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إثم عظيم عند الله وقتال مبتدأ خبره كبير وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصف بفيه ، والأكثر أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة : 5) {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} مبتدأ قد تخصص بالعمل فيما بعد أي : ومنع عن الإسلام الموصل للعبد إلى الله تعالى {وَكُفْرُا بِهِ} أي : بالله تعالى {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على سبيل الله وحيث كان الصد عن سبيل الله فرداً من أفراد الكفر به تعالى لم يقدح العطف المذكور في حسن هذا العطف لأنه ليس بأجنبي محض أي : منع المسلمين عن دخول مكة وزيارة بيت الله {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي : أهل المسجد وهو النبي عليه السلام والمؤمنون {مِنْهُ} أي : من المسجد الحرام وهو عطف على وكفر به وجعل المسلمين أهل المسجد وإن كانوا خارجين عن مكة لأنهم قائمون بما يجب عليهم من حقه لأنهم يصيرون أهلاً له في العاقبة فسماهم باسم العاقبة ولم يسم الكفار أهل المسجد وإن كانوا بمكة لأن مقامهم
334
(1/274)
بمكة عارض {أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} خبر للأشياء المعدودة أي : هذه الأشياء الأربعة أكبر إثماً وعقوبة من قتل المسلمين ابن الحضرمي في الشهر الحرام لأن القتال يحل بحال والكفر لا يحل بحال ولأنهم كانوا متأولين في القتال لأنهم شكوا في اليوم ولا تأويل للكفار في الكفر {وَالْفِتْنَةُ} أي : ما ارتكبوه من الإخراج والشرك وصد الناس عن الإسلام ابتداء وبقاء {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي : أفظع من قتل الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت {وَلا يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} بيان لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين أي : لا يزال الكفار عن قتالكم أيها المؤمنون {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} أي : كي يصرفوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل {إِنِ اسْتَطَـاعُوا} إشارة إلى تصلبهم في الدين وثبات قدمهم فيه كأنه قيل وأنّى لهم ذلك وهو كقول الرجل لعدوه إن ظفرت بي فلا تبق علي ولا ترحمني وهو واثق بأنه لا يظفر به وهو تطييب لقلوب المؤمنين {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} إظهار التضعيف لسكون الدال الثانية وبالفتح والإدغام على التحريك لالتقاء الساكنين بأخف الحركات والارتداد النكوص وهو تحذير من الارتداد أي : من يفعل ذلك بإضلالهم وإغوائهم {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} بأن لم يرجع إلى الإسلام ، وفيه ترغيب في الرجوع إلى الإسلام بعد الارتداد إلى حين الموت فأولئك المصرون على الارتداد إلى حين الموت {حَبِطَتْ} بطلت وتلاشت {أَعْمَـالَهُمْ} التي كا
جزء : 1 رقم الصفحة : 333
نوا عملوها في حالة الإسلام حبوطاً لا تلافي له قطعاً {فِى الدُّنْيَا} وهو قطع حياته وقتله عند الظفر به لارتداده وفوات موالاة المسلمين ونصرهم والثناء الحسن وزوال النكاح وحرمانه من مواريث المسلمين ونحو ذلك مما يجري على نفس المرتد وأهله وماله {وَالاخِرَةِ} وهو الثواب وحسن المآب لأن عبادتهم لم تصح في الدنيا فلم يجازوا عليها في الآخرة وليس المراد من إحباط العمل إبطال نفس العمل لأن الأعمال أعراض كما توجد تفنى وتزول وإعدام المعدوم محال بل المراد به ما ذكر من أن الردة الحادثة تزيل ثواب الإيمان السابق وثواب ما سبق من ثمراته ، وظاهر الآية يقتضي أن تكون الوفاة على الردة شرطاً لثبوت الأحكام المذكورة وهي حبوط الأعمال في الدنيا والآخرة وكون صاحبها من أصحاب النار خالداً فيها وأن لا يثبت شيء من هذه الأحكام إن أسلم المرتد بعد ردته ولهذا احتج الشافعي بهذه الآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت صاحبها عليها وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الردة تحبط الأعمال مطلقاً أي : وإن رجع مسلماً تمسكاً بعموم قوله تعالى : {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 88) وقوله : {وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة : 5) ويتفرع عليك مسألتان :
الأولى : أن جماعة من المتكلمين قالوا شرط صحة الإيمان والكفر حصول الوفاة عليهما فلا يكون الإيمان إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه وأيضاً لا يكون الكفر كفراً إلا إذا مات الكافر عليه.
والمسألة الثانية أن المسلم إذا صلى ثم ارتد والعياذ بالله ثم أسلم في الوقت قال الشافعي لا إعادة عليه ، وقال أبو حنيفة يلزمه قضاء ما أدى وكذا الكلام في الحج
335
{وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ} ملازموها {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} كدأب سائر الكفرة فلا بد للمؤمن من العمل الصالح ومن الصون عما يبطله وسبب الارتداد عدم اليقين وإلا فكيف يحوم حول الموحد الحقيقي شيطان وشرك وهو قد تخلص من البرازخ والقيود ووصل إلى الرب المعبود والعمل الصالح هو ما أريد به وجه الله فإن غيره فاسد لا ينفع لصاحبه أصلاً ، قال الحافظ :
فرداكه يشكاه حقيقت شود بديد
شرمنده رهروي كه عمل برمجاز كرد
جزء : 1 رقم الصفحة : 333
وأحسن الحسنات التوحيد لأنه أس الكل ولذلك لا يوزن قال عليه السلام : "إن كل حسنة تعملها توزن يوم القيامة إلا شهادة أن لا إله إلا الله فإنها لا توضع في ميزان لأنها لو وضعت في ميزان من قالها صادقاً ووضعت السموات والأرضون السبع ما فيهن كان لا إله إلا الله أرجح من ذلك" وجميع الأعمال الصالحة يزيد في نور الإيمان ، فعليك بالطاعة والحسنات والوصول إلى المعارف الإلهية فإن العلم بالله أفضل الأعمال ولذلك لما قيل : يا رسول الله أي : الأعمال أفضل؟ قال : "العلم بالله" فقيل : نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال : "إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل" وذلك إنما يحصل بتصفية الباطن مع صيقل التوحيد وأنواع الأذكار ولا يعقلها إلا العالمون.
قال في "المثنوي" :
ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز
(1/275)
شم نركس را ازين كركس بدوز
قال الشيخ الحسن محمد بن السراج : سمعت الجنيد قدس سره يقول : رأيت إبليس في المنام كأنه عريان فقلت : ألا تستحيي من الناس؟ فقال : لو كان هؤلاء من الناس لما أتلاعب بهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة فقلت : ومن الناس؟ فقال : قوم في المسجد الشونيزي قد أنحلوا جسمي وأحرقوا قلبي كلما هممت بهم أشاروا إلى الله تعالى فأكاد أحرق بنور ذكرهم قال : فانتبهت وجئت إلى المسجد الشونيزي بليل فلما دخلت المسجد إذا أنا بثلاث أنفس : جلوس ورؤوسهم مغطاة بمرقعاتهم فلما أحسوا بي أخرج واحد رأسه فقال : يا أبا القاسم أنت كلما قيل بشيء صرت تقبله وتسمعه انظر إلى اجتهادهم في طاعة الله وصفاء أسرارهم عما سواه تعالى فهم من أهل الإسلام الحقيقي ، يقول الفقير ناظم هذه الدرر قال لي شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة في قوله عليه السلام : "بدا الإسلام غريباً وسيعود غريباً" المراد بالإسلام هو الإسلام الحقيقي وصاحبه لا يرتد أبداً وكونه غريباً أن لا يوجد له أنيس.
قال في "المثنوي" :
بود كبرى درزمان بايزيد
كفت أورا يك مسلمان سعيد
كه ه باشد كرتو إسلام آورى
تا بيابي صد نجات سروري
كفت اين إسلام اكرهست أي : مريد
آنكه دارد شيخ عالم بايزيد
مؤمن إيمان اويم در نهان
كره مهرم هست محكم بر دهان
باز ايمان كرخود ايمان شماست
نى بدان ميلستم و نى مشتهاست
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود
ون شمارا ديد زآن فاترشود
زانكه نامى بيندو معنيش نى
ون بيابانرا مفازه كفتني
جزء : 1 رقم الصفحة : 333
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} نزلت في السرية فإن الله تعالى لما فرج عنهم بالآية السابقة ما كانوا فيه من الغم الشديد بقتالهم في الشهر الحرام طمعوا فيما عند الله من ثوابه فقالوا : يا رسول الله
336
لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نعطى أجراً وثواباً ونطمع أن يكون سفرنا هذا سفر غزو وطاعة فأنزل الله تعالى هذه الآية لأنهم كانوا مؤمنين مهاجرين وكانوا بسبب هذه المقاتلة مجاهدين والمعنى : ثبتوا على إيمانهم فلم يرتدوا.
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} أي : فارقوا منازلهم وأهلهم {وَجَـاهَدُوا} المجاهدة استفراغ ما في الوسع أي : حاربوا المشركين.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعته لإعلاء دينه {أُوالَـائِكَ يَرْجُونَ} بما لهم من مبادىء الفوز {رَحْمَتَ اللَّهِ} أي : ثوابه ولا يحبط أعمالهم كأعمال المرتدين أثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر وإنما هو بطريق التفضل منه تعالى لا لأن في فوزهم اشتباهاً {وَاللَّهُ غَفُورٌ} مبالغ في مغفرة ما فرط من عباده خطأ.
{رَّحِيمٌ} يجزل لهم الأجر والثواب ، قال قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب.
ـ روي ـ أنه مر أبو عمر البيكندي يوماً بسكة فرأى أقواماً أرادوا إخراج شاب من المحلة لفساده وامرأة تبكي قيل إنها أمه فرحمها أبو عمر فشفع له إليهم وقال : هبوه مني في هذه المرة فإن عاد إلى فساده فشأنكم فوهبوه منه فمضى أبو عمر فلما كان بعد أيام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من وراء ذلك الباب فقال في نفسه لعل الشاب عاد إلى فساده فنفي من المحلة فدق عليها الباب وسألها عن حال الشاب فقالت إنه مات فسألها عن حاله فقالت لما قرب أجله قال : لا تخبري الجيران بموتي فلقد آذيتهم فإنهم سيشتمونني ولا يحضرون جنازتي فإذا دفنتني فهذا خاتم لي مكتوب عليه بسم الله الرحمن الرحيم فادفنيه معي فإذا فرغت من دفني فتشفعي لي إلى ربي ففعلت وصيته فلما انصرفت عن رأس القبر سمعت صوته يقول انصرفي يا أماه فقد قدمت على رب كريم ونعم ما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 336
ببهانه ميدهد ببها نميدهد†
(1/276)
ـ قيل : ـ إن الحجاج لما أحضرته الوفاة كان يقول : اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل ومات بواسط سنة خمس وتسعين وهي مدينته التي أنشأها وكان يوم موته يسمى عرس العراق ولم يعلم بموته حتى أشرفت جارية من القصر وهي تبكي وتقول ألا إن مطعم الطعام ومفلق الهام قد مات ثم دفن ووقف رجل من أهل الشام على قبره فقال : اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج وحلف رجل من أهل العراق بالطلاق أن الحجاج في النار فاستفتى طاووس فقال : يغفر الله لمن يشاء وما أظنها إلا طلقت فيقال إنه استفتى الحسن البصري فقال : اذهب إلى زوجتك وكن معها فإن لم يكن الحجاج في النار فما يضركما أنكما في الحرام فقد وقفت من هذا المذكور على أن الله تعالى غفور رحيم يغفر لعبده وإن جاء بمثل زبد البحر ذنباً فاللازم للعباد الرجاء من الله تعالى ، قال الراغب : وهذه المنازل الثلاثة التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله : {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَـاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ} ولا سبيل إلى المهاجرة إلا بعد الإيمان ولا إلى جهاد الهوى إلا بعد هجران الشهوات ومن وصل إلى ذلك فحق له أن يرجو رحمته.
واعلم أن الهجرة على قسمين ، صورية وقد انقطع حكمها بفتح مكة كما قال عليه السلام : "لا هجرة بعد الفتح" ، ومعنوية : وهي السير عن موطن النفس إلى الله لفتح كعبة القلب وتخليصها من أصنام الشرك والهوى فيجري حكمها إلى يومالقيامة ، وكذا الجهاد في سبيل الله على قسمين ، أصغر وهو الجهاد مع الكفار ، وأكبر وهو الجهاد مع النفس وإنما كان هذا الجهاد أكبر لأن غاية
337
الأول إصلاح الظاهر وغاية الثاني إصلاح الباطن وهو أصعب وأقوى ، وأيضاً غاية الأول الوصول إلى الجنة والرحمة ، وغاية الثاني الوصول إلى مشاهدة الحق والجمال المطلق ، وأيضاً غاية الأول الشهادة ، وغاية الثاني الصديقية والصديقون أعلى منزلة من الشهداء كما قال تعالى {فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ} (النساء : 69) فقدم ذكر الصديقين على ذكر الشهداء فإذا وصل المرء إلى صلاح النفس بالجهاد الأكبر الذي هو أعز من الكبريت الأحمر يرحم العباد ولا يقصد لهم الضرر.
ـ حكي ـ أن بعضهم جاء إلى بعض المشايخ وخدمه وقال له : أريد أن تعلمني الاسم الأعظم فقال له وفيك أهلية له قال : نعم قال : اذهب إلى باب البلد ثم أخبرني بما جرى فيه فذهب وجلس على باب البلد فإذا بشيخ حطاب معه حطب على حمار فضربه جندي وأخذ حطبه ظلماً فلما رجع الرجل إلى الشيخ وأخبره بالقصة قال له الشيخ : لو كنت تعلم الاسم الأعظم ما تصنع بالجندي قال : كنت أدعو عليه بالهلاك فقال له الشيخ : اعلم أن الحطاب هو الذي علمني الاسم الأعظم واعلم أن الاسم الأعظم لا يصلح إلا لمن يكون على هذه الصفة من الصبر والرحمة على الخلق والشفقة عليهم.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 336
مكن تاتواني دل خلق ريش
وكرميكني ميكني بيخ خويش
ثم إن قلة الكلام من أنفع الأشياء في إصلاح النفس كما أن اللقمة الطيبة أنفع في إصلاح الطبيعة وصفاء القلب.
قال في "المثنوي" :
طفل جان ازشير شيطان بازكن
بعد ازانش باملك انباز كن
تاتوا تاريك وملول وتيره
دانكه با ديو لعين همشيره
لقمة كونور افزود وكمال
آن بود آورده از كسب حلال
روغني كايد راغ ما كشد
آب خوانش ون راغي راكشد
{يَسْـاَلُونَكَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلها في القرآن ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم وينفع المسلمين {عَنِ الْخَمْرِ} أي : عن حكم تعاطيها بقرينة الجواب لأن الحل والحرمة والإثم والطاعة إنما هي من عوارض أفعال المكلفين ولا إثم في ذوات الأشياء وأعيانها ويدخل في تعاطي الخمر البيع والشراء وغيرهما مما يدخل تحت التصرف على خلاف الشرع ، والخمر مصدر خمره أي : ستره سمي به من عصير العنب ما غلى واشند وقذف بالزبد لتغطيتها العقل والتمييز كأنها نفس الستر كما سميت سكراً لأنها تسكرهما أي : تحجزهما عن تعاطي مصدر ميمي من يسر كالموعد والمرجع يقال : يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من اليسر لأنه أخذ المال بيسر من غير كد وتعب وإما من اليسار لأنه سلب له ويدخل فيه جميع أنواع القمار والشطرنج وغيرهما حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب {قُلْ فِيهِمَآ} أي : في تعاطي الخمر والميسر واستعمالها {إِثْمٌ كَبِيرٌ} لما أن الأول مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا مع كون كل منهما متلفة للأموال {وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ} من كسب الطرب والمغالاة بثمن الخمر إذا جلبوها من الأطراف وفيها تقوية الضعيف وهضم الطعام والإعانة على الباءة أي : الجماع
338
(1/277)
وتسلية المخزون وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وتصفية اللون وإنطاق الفتى العي وتهييج الهمة ، ومنافع الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وانتفاع الفقراء بلحم الجزور فإنهم كانوا يفرقونها على المحتاجين ، قال الواقدي : وربما قمر الواحد منهم في مجلس مائة بعير فيصيب مالاً عظيماً بلا نصب ولا ثمن ثم يعطيه المحتاجين فيكتسب المدح والثناء
جزء : 1 رقم الصفحة : 336
{وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} وفي الخمر إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي تسفه الحليم ويصير شاربها بحيث يلعب ببوله وعذرته وقيئه كما ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ويقول الحمدالذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً ، وفي الميسر أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه وقصده بالسوء ، قال المفسرون تواردت في الخمر أربع آيات نزلت يمكة {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (النحل : 67) فطفق المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذٍ ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : افتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل فنزلت {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية فشربها قوم وقالوا نأخذ منفعتها ونترك إثمها وتركها آخرون وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه دعا ناساً منهم فشربوا وسكروا قام أحدهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون إلى آخر السورة بدون لا في لا أعبد فنزلت {لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى} (النساء : 43) الآية فقل من يشربها وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة وشربها قوم في غير حين الصلاة حتى كان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ويشرب بعد الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر ثم اتخذ عتبان بن مالك ضيافة ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى سكروا منها ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله وشكا إليه الأنصاري فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (المائدة : 90) في المائدة إلى قوله : {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة : 91) فقال عمر : انتهينا يا رب ، وحرمت الخمر في السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الأحزاب بأيام ، قال القفال والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم به كثيراً وعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق ثم لما نزل التحريم أريقت الخمر ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : خرجنا بالحباب إلى الطريق فمنا من كسر حبه ومنا من غسله بالماء والطين ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً كلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها وحرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها وما حرم الله عليهم شيئاً أشد من الخمر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 336
ـ روي ـ أن جبريل عليه السلام قال للنبي عليه السلام : إن الله تعالى شكر لجعفر الطيار رضي الله عنه أربع خصال كان عليها في الجاهلية وهو عليها في الإسلام فسأل النبي عليه الصلاة والسلام جعفراً عن ذلك فقال : يا رسول الله لولا أن الله أطلعك عليها لما أخبرتك بها ما شربت الخمر قط لأني رأيتها تزيل العقل
339
وأنا إلى أن أزيد فيه أحوج مني إلى أن أزيله ، وما عبدت صنماً قط لأني رأيته لا يضر ولا ينفع وما زنيت قط لغيرتي على أهلي ، وما كذبت قط لأني رأيته دناءة.
قال عمرو بن الأدهم من أكابر سادة بني تميم ذاماً للخمر لو كان العقل يشترى ما كان شيء أنفس منه فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله في رأسه فيقيء في جيبه ويسلح في ذيله ، وعن علي رضي الله عنه لو وقعت قطرة في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أوذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم تتبعني وهذا هو الإيمان والتقى حقاً فينبغي للمسلم أن لا يخطر بباله شرب الخمر فضلاً عن شربها وينقطع عن شاربها فإنه إذا خالط شارب الخمر يخاف عليه أن يصيبه من عثاره ، قال الحسين الواعظ الكاشي :
ترار حمان همى كويدكه أي : مؤمن مخورباده
ترا ترسا همى كويدكه در صفرا مخور حلوا
نمى ماني زنا اكي براي كفته رحمان
بماني شهد وشكررا براي كفته تراس
(1/278)
وعن بعض الصحابة أنه قال : من زوج ابنته لشارب الخمر فكأنما ساقها إلى الزنى معناه أن شارب الخمر يقع منه الطلاق وهو لا يشعر ، فالذي يجب على الولي أن لا يزوج ابنته ولا أخته من فاسق ولا ممن يتعاطى المنكرات.
واعلم أن خل الخمر حلال ولو بعلاج كإلقاء الماء الحار أو الملح أو الخبز ولا يكره تخليلها وفي الحديث "خير خلكم خل خمركم" هذا هو البيان في الخمر ، وأما الميسر فهو القمار والياسر القامر وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً ويضمنون ثمنه ولا يؤدونه ليظهر بالقمار أنه على من يجب فينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء وقيل ثمانية وعشرين ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام سبعة منها لها انصباء الفذ وله نصيب واحد والتوءم وله نصيبان والرقيب وله ثلاثة والحلس وله أربعة والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة والمعلى وله سبعة وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي عدل عندهم يسمى المجيل والمفيض ثم يجيلها ويجلجلها أي : يحركها باليد ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً قدحاً فمن خرج له قدح من ذات الأنصباء أخذ النصيب المعين له ومن خرج له قدح مما لا نصيب له وهو الثلاثة لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم وهو اللئيم العديم المروءة والكرم فهذا أصل القمار الذي كانت العرب تفعله فنهى المسلمون عنه ، واختلف في الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين أو هو اسم لجميع أنواع القمار ، فقال بعض العلماء : المراد من الآية جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما ، وروي أن رجلاً خاطر رجلاً على أن يأكل كذا كذا بيضة على كذا كذا من المال فقال علي رضي الله عنه : هذا قمار ، وعن ابن سيرين كل شيء فيه خطر فهو من الميسر وعن النبي عليه السلام "إياكم وهاتين الكعبتين المشؤومتين فإنهما من مياسر العجم" يريد أن النرد والشطرنج ميسر يشير به إلى أنهما حرام ، وأما السبق في الخف والحافر والنشاب فخص بدليل ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 336
كهل كشتى و همنان طفلى
شيخ بودى و همنان شابى
340
توببازى نشسته درجب وراست
ميرسد تير وخ رتابي
جاي كريه است برمصيبت ير
كه توكودك هنوز لعابي
والإشارة في الآية أن خمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة من العنب والتمر والزبيب والحبوب كالحنطة والشعير والذرة فكذلك خمر الباطل من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها وهذه خمور تسكر منها النفوس والعقول الإنسانية وفيها إثم كبير ولهذا كل مسكر حرام وما يسكر كثيره فقليله حرام ، ومنها ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار فهو شراب الواردات في أقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات فإذا دارت على النفوس وانخمدت شهواتها وسكرت القلوب بالمواجيد عن المواحيد والأرواح بالشهود عن الوجود والأسرار بلحظ الجمال عن ملاحظة الكمال فهذا شراب نافع للناس حلال فالعجب كل العجب أن قوماً أسكرهم وجود الشراب وقوماً أسكرهم شهود الساقي كقولهم :
فأسكر القوم دور كأس
وكان سكرى من المدير وفي "المثنوي" :
ما اكر قلاش اكر ديوانه ايم
مست آن ساقي وآن بيمانه ايممست مي هشيار كردد ازدبور
مست حق نايدبخود از نفخ صورجرعه ون ريخت ساقي الست
برسراين شوره خاك زير دستجوش كردآن خاك وما زان وششيم
جرعه ديكركه بس بي كوششيم
(1/279)
وأتم الإعراض عن كؤوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية وكما أن سكران الخمر ممنوع من الصلاة فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات وأما إثم الميسر فهو أن آثار القمار هي شعار أكثر الديار في سلوك طريق الحيل والخداع بالفعل والكذب والفحش في المقال وأنه كبير عند الأخيار بعيد عن خصال الأبرار وأما نفعه فعدم الالتفات إلى الكونين وبزل نقوش العالمين في فردانية نقش الكعبتين وإثمهما أكبر من نفعهما لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص والعوام أكثر من الخواص وقليل ما هم كذا في "التأويلات النجمية" قدست نفسه الزكية {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} هو كما يصلح سؤالاً عن جنس المنفق يصلح سؤالاً عن كميته وقدره فإنه لما نزل قوله تعالى : {قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} (البقرة : 215) قال عمر بن الجموح ما أنفق فنزل قوله {قُلِ الْعَفْوَ} أي : أنفقوا العفو وهو نقيض الجهد وهو المشقة ونقيضه اليسر والسهولة فكأنه قيل قل أنفق ما سهل وتيسر ولم يشق عليك إنفاقه فالعفو من المال ما يسهل إنفاقه والجهد من المال ما يعسر إنفاقه والقدر المنفق إنما يكون إنفاقه سهلاً إذا كان فاضلاً عن حاجة نفسه وعياله ومن عليه مؤونته {كَذَالِكَ} أي : مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد والكاف في محل النصب صفة لمصدر محذوف أي : تبييناً مثل هذا التبيين وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القبيل أو الفريق أو القوم مما هو مفرد اللفظ ومجموع المعنى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} الدالة على الأحكام الشرعية لا بياناً أدنى منه وتبيين الآيات تنزيلها مبينة الفحوى واضحة المدلول لا أنه تبيينها بعد أن كانت مشتبهة وملتبسة
341
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 336
{فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} أي : لكي تتفكروا في أمور الدارين فتأخذوا بما هو أصلح لكم وأسهل في الدنيا وأنفع في العقبى وتتجنبوا عما يضركم في العقبى ، قال البغوي : يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها وهذه الآية ترغب في التصدق لكن بشرط أن يكون ذلك من فضل المال وعفوه وعن النبي عليه السلام أن رجلاً أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال : يا رسول الله خذها مني صدقة فوالله لقد أصبحت ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله فأتاه من الجانب الأيمن فقاله مثله فأعرض عنه ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه فقال : "هاتها" مغضباً فأخذها منه فحذفها حذفاً لو أصابه لشجه أو عقره ثم قال : "يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها" وفي لفظ العفو إشارة إلى أن ما يعطيه المرء ينبغي أن يعفو أثره عن قلبه عند الإنفاق يعني بطيب القلب لأن أصل العفو المحو والطمس ثم الإخراج عن فاضل الأموال على قدر الكفاية طريقة الخواص.
فأما خاص الخاص فطريقهم الإيثار وهو أن يؤثر غيره على نفسه وبه فاقه إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثر به غنياً قال الله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر : 9) وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه فجئت بنصف مالي فتصدقت به فقال لي رسول الله : "ما أبقيت لأهلك يا عمر" قلت نصف مالي يا رسول الله ثم قال لأبي بكر : "ما أبقيت لأهلك" قال : أبقيت لهم الله ورسوله فقلت : لا أسابقك بشيء بعدها روي أن النبي عليه السلام قال عند ذلك : "ما بينكما ما بين كلاميكما" ومنه يعرف فضل أبي بكر على عمر لكن الفاضلة من وجه لا تنافي المفضولية من وجه آخر فإن الكامل ليس يلزمه أن يكون كاملاً في جميع الأمور وإنما التقدم والتأخر بالنظر إلى العلم بالله.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : كان أبو بكر غالب المعرفة وعمر غالب الشريعة وعثمان غالب الطريقة وعلي غالب الحقيقة وإن كانوا كاملين في المراتب الأربع انتهى كلامه ، قال الحسين الواعظ الكاشي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
مايه توفيق كرم كردن است
كنج يقين ترك درم كردن است
زادره مرك زنان دادن است
زندكي عشق زجان دادن است
فسخاوة العوام أعطاء المال وسخاوة الخواص بذل الروح وهو قليل.
هست جو انمرد درم صدهزار
كار و باجان فتد آنست كار
(1/280)
وحث النبي عليه السلام أصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان أبو أمامة الباهلي جالساً بين يديه عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال له النبي عليه السلام : "ماذا تقول حيث تحرك شفتيك" قال : إني أرى الناس يتصدقون وليس معي شيء أتصدى به فأقول في نفسي : سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : "هؤلاء الكلمات خير لك من مدِّ ذهباً تتصدق به على المساكين".
تازنده ايم ذكر لبش در زبان ماست
يا دش انيس ومونس جان وروان ماست
342
ـ يروى ـ أن أول من قال سبحان الله جبريل عليه السلام وذلك أنه لما خلقه الله وقع نظره على العرش وعظمته ، فقال : سبحان الله فمن قالها نال ثواب جبريل ، وأول من قال الحمدآدم الصفي عليه الصلاة والسلام حين نفخ فيه الروح فمن قالها نال نصيباً من فضل آدم ، وأول من قال لا إله إلا الله نوح النجي عليه السلام حين مشاهدة الطوفان وشدة البلاء فمن قالها أخذ حظاً وافراً من ثواب نوح ، وأول من قال الله أكبر الخليل عليه السلام حين شاهد فداء إسماعيل وهو الكبش فمن قالها نال فيضاً من فيض إبراهيم اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين آمين يا رب العالمين {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} أي : عن مخالطتهم لأن السؤال عن الشيء ينصرف إلى ما هو معظم المقصود منه وهو ههنا المخالطة والكفالة وذلك بعد نزول قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) فتركوا مخالطتهم ومؤاكلتهم حتى لو كان عند رجل يتيم يجعل له بيتاً على حدة وطعاماً على حدة وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم وكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم فقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله ما لكنا منازل يسكنها اليتامى ولا كلنا نجد طعاماً وشراباً نفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية {قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ} أي : مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم {خَيْرٍ} من مجانبتهم وترك الخلطة والنظر عليهم ، وإصلاح مصدر وحذف فاعله تقديره وإصلاحكم لهم خير للجانبين أي : جانبي المصلح والمصلح له أما الأول فلما فيه من الثواب وأما الثاني فلما فيه من توفر أموال اليتامى والتزايد
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
{وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} وتعاشروهم على وجه ينفعهم {فَإِخْوَانُكُمْ} أي : فهم إخوانكم في الدين الذي هو أقوى من العلاقة النسبية ومن حق الأخ أن يخالط الأخ بالإصلاح والنفع ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المخالطة أن تأكل من تمره ولبنه وقصعته وهو يأكل من تمرك ولبنك وقصعتك وهذا إذا أصاب من مال اليتيم بقدر عمله له أو دونه فلا يزيد على أجر مثله وقد قال تعالى : {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء : 6) وقد تكون المخالطة بخلط المال وتناول الكل منه وهو منهي شرعاً ، قال أبو عبيد : هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل عن رفيقه فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعاً كان في غيرهم أوسع ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس وقد حملت المخالطة على المصاهرة وهو أن يكون ابناً فيزوجه ابنته أو تكون بنتاً فيزوجها ابنه فتتأكد الألفة ويخلطه بنفسه وبعشيرته إيناساً لوحشته وإزالة لوحدته وهو مروي عن الحسن {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد {الْمُفْسِدَ} لمال اليتيم {مِنَ الْمُصْلِحِ} لماله أي : لا يخفى على الله من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح وفي تقديم المفسد مزيد تهديد ومن لتضمين العلم معنى التمييز أي : يعلم من يفسد في أمورهم عند المخالطة مميزاً له ممن يصلح فيها {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} إعناتكم وهو الحمل على مكروه ولا يطيقه {لاعْنَتَكُمْ} لحملكم على العنت وهو المشقة فلم يطلق لكم مداخلتهم يقال : عنت فلان إذا وقع في أمر يخاف منه التلف {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب يقدر على الإعنات
343
{حَكِيمٌ} يحكم ما يقتضيه الحكمة وتسع له الطاقة وهو دليل على ما يفيده كلمة لو من انتفاء مقدمها.
(1/281)
واعلم أن مخالطة الأيتام من أخلاق الكرام وفي الترحم عليهم فوائد جمة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "من وضع يده على رأس يتيم ترحماً عليه كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة" وفي الحديث "ثلاثة في ظل عرش الله يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغاراً فخطبت فلم تتزوج وقالت : أقيم على اليتامى حتى يغنيهم الله أو يموت" يعني اليتيم "أو هي ورجل له مال صنع طعاماً فأطاب صنيعه وأحسن نفقته فدعا إليه اليتيم والمسكين وواصل الرحم يوسع له في رزقه ويمد له في أجله ويكون تحت ظل عرشه" قال الله تعالى : "يا موسى كن لليتيم كالأب الرحيم وكن للأرامل كالزوج الشفيق وكن للغريب كالأخ الرفيق أكن لك كذلك" ، قال الحافظ :
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
تيمار غريبان سبب ذكر جميلست
جانا مكر اين قاعدة در شهر شمانيست
وفي الحديث "أنا وكافل اليتيم" أي : القائم بمصالحه سواء كان من مال نفسه أم من مال اليتيم وسواء كان اليتيم قريباً أم لا "كهاتين في الجنة" وأشار بالسبابة والوسطى يعني أن كافل اليتيم يكون في الجنة مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام لا أن درجته تبلغ درجته ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
و بيني يتيمي سرافكنده يش
مده بوسه بر روى فرزند خويش
ألا تانكريد كه عرش عظيم
بلرزد همي ون بكريد يتيم
ويجتنب كل الاجتناب عن إخلال حق من حقوقه وأكل حبة من ماله وعن ظلمه وقهره.
ـ يحكى ـ أن رستم بن زال بارز مع اسفنديار فلم يقدر عليه مع زيادة قوته وكان اسفنديار يجرحه في كل حمل دون رستم وكان بدن اسفنديار كجلد السمك لا يعمل فيه شيء ثم إن رستم تشاور مع أبيه زال في ذلك فقال له أبوه : إنك لا تقدر عليه إلا أن تعمل سهماً ذا فقارين وتصيب به عيني اسفنديار ففعل ذلك فرمى فأصاب فغلب عليه بذلك فيحكى في سبب ذلك أن اسفنديار كان قد ضرب في شبيبته يتيماً بغصن ففقأ به عينه وأبكاه ثم إن اليتيم أخذ ذلك الغصن وغرسه فلما صار شجراً أخذ رستم غصناً من أغصانه ونحت منه سهمه الذي أصاب به عيني اسفنديار ، ويؤدب اليتيم الذي في حجره كتأديبه ولده فإنه مسؤول عنه يوم القيامة ويصلح حاله ، والتأديب على أنواع : منها الوعيد ، ومنها الضرب ، ومنها حبس المنافع والعطية والبرّ فإن بين النفوس تفاوتاً فنفس تخضع بالغلظة والشدة ولو استعملت معها الرفق والبر لأفسدها ونفس بالعكس وقد جعل الله الحدود والتعزير لتأديب العباد على قدر ما يأتون من المنكر فأدب الأحرار إلى السلطان وأدب المماليك والأولاد إلى السادات والآباء وهو مأجور على التأديب ومسؤول عنه قال الله تعالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) وفي الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وفي قوله تعالى : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} إشارة إلى أن المرء ينبغي أن يتعود الأكل مع الناس فإن شر الناس من أكل وحده وفي الحديث "إن من أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي" ذكره في "العوارف" وذكر في "المصابيح" أن أصحاب النبي عليه السلام قالوا : يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال : "لعلكم تفترقون" قالوا : نعم قال : "فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله
344
تعالى" ، ومن اللطائف ما يحكى أنه قيل لجمين صاحب النوادر أتغديت عند فلان؟ قال : لا ولكن مررت ببابه وهو يتغدى فقيل : كيف علمت؟ قال : رأيت غلمانه بأيديهم قسي البنادق يرمون الطير في الهواء قيل لبخيل من أشجع الناس فقال : من يسمع وقع أضراس الناس فلا تنشق مرارته وفي الحديث "من أضاف مؤمناً فكأنما أضاف آدم ومن أضاف اثنين فكأنما أضاف آدم وحواء" كذا في "الرسالة العلية" لحسين الواعظ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
{وَلا تَنكِحُوا} بفتح التاء أي : لا تتزوجوا {الْمُشْرِكَـاتِ} أي : الحربيات فإن الكتابيات وإن كانت من المشركات إلا أنه يجوز تزوجها عند الجمهور استدلالاً بقوله تعالى في سورة المائدة {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة : 5) وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً {حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي : يصدقن بالله وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
(1/282)
ـ روي ـ أنه عليه السلام بعث مرثداً الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناساً من المسلمين سراً فأتته عتاق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال : نعم ولكن استأمر رسول الله عليه السلام فاستأمره فنزلت {وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ} مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر {خَيْرٍ} بحسب الدين والدنيا {مِّن مُّشْرِكَةٍ} أي : امرأة مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} تلك المشركة بجمالها ومالها ونسبها وبغير ذلك من مبادىء الإعجاب وموجبات الرغبة والواو للحال ومعنى كونها للحال كونها عاطفة لمدخولها على حال محذوفة قبلها والتقدير خير من مشركة على كل حال ولو في هذه الحالة والمقصود من مثل هذا التركيب استقصاء الأحوال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 345
وفي "تفسير الكواشي" : لو هنا بمعنى إن وكذا كل موضع وليها الفعل الماضي وكان جوابها مقدماً عليها والمعنى وإن كانت المشركة تعجبكم وتحبونها فإن المؤمنة خير لكم {وَلا تَنكِحُوا} بضم التاء من الإنكاح {الْمُشْرِكِينَ} أي : الكفار أعم من الوثني وغيره أي : لا تزوجوا منهم المؤمنات سواء كن حرائر أم إماء {حَتَّى يُؤْمِنُوا} ويتركوا ما هم عليه من الكفر ، قال ابن الشيخ في "حواشيه" : أي : لا تزوجوهم الصغيرات من بناتكم ومن في حكمهن ممن هو تحت ولايتكم ولا تزوج البالغات من المؤمنات منهم أنفسهم فقوله : ولا تنكحوا من قبيل تغليب الذكور على الإناث ولا خلاف في هذا الحكم فإن المشرك هنا باق على همومه ولا يحل تزويج المؤمنة من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفر {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} مع ما به من ذل المملوكية {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} مع ما به من عز المالكية {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} بماله وجماله وخصاله {أُوالَـائِكَ} المذكورون من المشركين والمشركات {يَدْعُونَ} من يقارنهم ويعاشرهم {إِلَى النَّارِ} أي : إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتهم {وَاللَّهُ} أي : وأولياؤه يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيماً لشأنهم {يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} أي : إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليها فهم الأحقاء بالمواصلة {بِإِذْنِهِ} متعلق بيدعو أي : يدعو ملتبساً بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقارنيهم إلى الخير ونصيحتهم إياهم {وَيُبَيِّنُ ءَايَاتِهِ} المشتملة على الأحكام الفائقة والحكم الرائقة {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي : لكي يتذكروا ويعملوا بما فيها فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران
345
وإيراد التذكر ههنا للإشعار بأنه واضع لا يحتاج إلى التفكر كما في الأحكام السابقة ، ففي الآية نهى عن مواصلة الكفار وترغيب في مواصلة المؤمنين ولا ينبغي للمؤمن أن تعجبه المشركة بمالها وجمالها فإن من المسلمات من تدفع التعجب ، وفي "المحيط" : مسلم رأى نصرانية سمينة وتمنى أن يكون هو نصرانياً حتى يتزوجها يكفر وهذا من حماقته فإن السمان الحسنة كثيرة في الملة الحنيفية ولكن علة الضم هي الجنسية كما قال تعالى : {الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} (النور : 3) وميل الطباع القذرة إلى الدنيا العذرة قال تعالى : {الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـاتِا وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (النور : 26) ونعم ما قيل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 345
همه مرغان كندبا جنس رواز
كبوتر با كبوتر بازباباز
ومن بلاغات الزمخشري لا ترض لمجالستك إلا أهل مجانستك أي : لا ترض أن يكون لك جليس من غير جنسك فإن العذاب الشديد ليس إلا هو ، قال في "أسئلة الحكم" وأما اختلاف الأخلاق فمن تعارف الأرواح بعضها ببعض في عالم الأرواح قبل تلاقي الأشباح في عالم الشهادة فمن تعارف روحه بروح صالح صلح بتعارفه الأزلي فمن هنا اختلاف الأخلاق صلاحها وفسادها فلا بد من مناسبة إما من الجهة الجسمانية أو من الجهة الروحانية فالجهة الجسمانية راجعة إلى قابلية الطين والطبيعة الروحانية راجعة إلى المناسبة الروحانية السابقة انتهى.
قال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" عند قوله عليه السلام : "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" سبب ورود هذا الحديث ما روته عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهن فلما هاجرن ووسع الله تعالى دخلت المدينة قالت عائشة : فدخلت علي فقلت لها فلانة إلى من قدمت قالت إليكن قلت : فأين نزلت؟ قالت على فلانة امرأة كانت تضحك بالمدينة قالت عائشة ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "فلانة المضحكة عندكم" قالت عائشة نعم قال : "فعلى من نزلت" قالت على فلانة المضحكة قال : "الحمد إن الأرواح" الخ ، قال بعضهم :
بيني وبينك في المحبة نسبة
مستورة عن سر هذا العالم
(1/283)
نحن اللذان تحاببت أرواحنا
من قبل خلق الله طينة آدم انتهى كلام السخاوي ، قال الحشين الكاشفي :
جاذب هر جنس راهم جنس دان
جنس برجنس است عاشق جاودان
وفي "المثنوي" :
تلخ باتلخان يقين ملحق شود
كي دم باطل قرين حق شود
طيبات آمد بسوى طيبين
مر خبيثين را خبيثا تست هين
واعلم أنه ركر في العقول الميل إلى الخير ومخالفة الشر فللعاقل أن يتذكر فإن من كان بصيراً بنفسه ومتأملاً في حاله ينقطع عن إخوانه الداعين إلى خلاف الحق ويصيخ إلى داعي الهوى وقد قال بعض كبار العجم : الله بسى باقي هوس قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} (الكهف : 7) والمقربون قد فروا إلى الله تعالى من جميع ما في أرض الوجود ولم يلتفتوا إلى شيء سوى وجهه الكريم ولم يريدوا من المولى غير المولى فكانوا أحسن نية وعملاً وهذا صراط مستقيم اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شر نفسنا إنك أنت المجيب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 345
{وَيَسْـاَلُونَكَ} لعل حكاية الأسئلة
346
الثلاثة بالواو وحكاية ما عداها بغير عطف إنهم سؤلوا عن هذه الحوادث في وقت واحد فكأنه قيل : يجمعون لك بين الشؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الإنفاق والسؤال عن كذا وعن كذا بخلاف ما عداها فإنهم سألوها في أوقات متفرقة.
{عَنِ الْمَحِيضِ} مصدر كالمجيء والمبيت والحيض هو اللوث الخارج من الرحم في وقت معتاد والسؤال فيه نوع إبهام إلا أنه تبين بالجواب أن سؤالهم كان عن مخالطة النساء في حالة الحيض {قُلْ هُوَ أَذًى} أي : الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه وكراهة له.
ـ روي ـ أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحِيَّض ، ولا يؤاكلوهن كدأب المجوس واليهود واستمر الناس على ذلك إلى أن سأل عن ذلك أبو الدحداح في نفر من الصحابة فقال : يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن أنقربهن أم لا فنزلت {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ} المحيض هنا اسم لمكان ظهور الحيض وهو الفرج أي : فاجتنبوا مجامعتهن لما روي أن المسلمين أخذوا بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناس من الأعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فإن آثرناهن هلك سائر أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فقال صلى الله عليه وسلّم "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم" وهو الاقتصار بين إفراط اليهود وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} بالجماع {حَتَّى يَطْهُرْنَ} من الحيض أو ينقطع دمهن فذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن له أن يقربها إذا كانت أيامها عشرة بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي : اغتسلن فإن التطهر هو الاغتسال {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي : من المأتى الذي حلله لكم وهو القبل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الذنوب {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان في غير المأتى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} أي : مواضع حرث لكم شبهن بها لما بين ما يلقي في أرحامهن من النطف وبين البذور من المشابهة من حيث أن كلاً منهما مادة لما يحصل منه ، والفرق بين الحرث والزرع أن الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض والزرع مراعاته وإنباته ولهذا قال تعالى : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَه أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ} (الواقعة : 63 ـ 64) فأثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} لما عبر عنه بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان {أَنَّى شِئْتُمْ} أنى هنا بمعنى كيف أي : كيف شئتم ومن أي : شق وجهة أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً وهو موضع الحرث لأن الدبر ليس موضع الحرث فلم يمكن حمل قوله أنى شئتم على التخيير في الأمكنة حتى يجوز إتيان النساء في أدبارهن فيكون محمولاً على التخيير في الكيفيات ويدل على هذا ما روى في سبب نزول الآية من أن اليهود كانوا يزعمون أن من أتى امرأته في قبلها من دبرها يأتي ولده أحول فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه فنزلت الآية رداً عليهم ببيان أن المقصود من عقد النكاح هو إتيان موضع الحراثة على أي : كيفية كانت وفي الحديث "ملعون من أتى امرأته من دبرها" وهو اللواطة الصغرى والإتيان في دبر الذكر أكبر لواطة منه ، قال الإمام من قبّل غلاماً بشهوة فكأنما زنى بأمه سبعين مرة ومن زنى مع أمه مرة فكأنما زنى سبعين بكراً ومن زنى مع البكر مرة فكأنما زنى بسبعين ألف
347
امرأة وحكم اللواطة التعزير والحبس في السجن حتى يتوب وعندهما يحد حد الزنى فيجلد إن لم يكن محصناً ويرجم إن كان محصناً.
(1/284)
{وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ} من الأعمال الصالحة ما يكون الثواب الموعود له ذخيرة محفوظة لكم عند الله ليوم احتياجكم إليه ولا تكونوا في قربانهن على قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة ، مع ملاحظة الحكم المقصود من شرع النكاح وهو الولد {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بالاجتناب عن معاصيه التي من جملتها ما عد من الأمور {وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ} الهاء راجع إلى الله تعالى فلا بد من حذف مضاف ، أي ملاقو جزائه فتزودوا ما لا تفضحون به {وَبَشِّرِ} يا محمد {الْمُؤْمِنِينَ} الذين تلقوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهي بحسن القبول والامتثال بما يقصر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
درامان خانه ايمان بنشين ايمن باش
كرامان بايدت البتة مروزين مأمن
فالعلامة في ذلك أن الذي يكون إيمانه عطاء يمنعه إيمانه من الذنوب ويرغبه في الطاعات والذي هو عارية لا يمنعه من الذنوب ولا يرغبه في الطاعات أي : لا يحثه على الطاعات لأنه لا تدبير له في مكان هو فيه عارية أي : لا يستقر الإيمان في مكان هو فيه عارية وفي قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ} إشارة إلى أن على المرء أن يتذكر مرجعه ومصيره ويتدارك ما ينتفع به في معاده من الأعمال الصالحة وأقل المرتبة العمل للآخرة ، وأما أعلى المراتب وأفضل المقاصد والمطالب فالله تعالى كما قال تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91) وذلك لأن العملتعالى لا لطلب الجنة ولا لخوف النار.
وفي "التأويلات النجمية" : كما أن للنساء محيضاً في الظاهر وهو سبب نقصان إيمانهن لمنعهن عن الصلاة والصوم فكذلك للرجال محيض في الباطن هو سبب نقصان إيمانهم لمنعهم عن حقيقة الصلاة وهي المناجاة وعن حقيقة الصوم وهي الإمساك عن مشتهيات النفس وكما أن المحيض هو سيلان الدم من الفرج فكذلك الهوى هو غلبات دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الأذى وقد قيل قطرة من الهوى تكدر بحراً من الصفا فحينئذٍ منعت النفس عن الصلاة والصوم في الحقيقة وإن كانت مشغولة بهما ، وطبقات المؤمنين ثلاث : العوام ، والخواص ، وخاص الخاص.
أما العوام فلما كانوا أهل الغيبة عن الحقيقة أبيح لهم السكون إلى أشكالهم إذا كان على وصف الأذى وقيل لهم : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أنى شئتم.
وأما الخواص فلما كانوا بوصف الحضور يلزم عليهم المساكنة إلى أمثالهم وقيل لهم : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) فهم سلكوا مسالك التفريد حتى وصلوا إلى كعبة التوحيد.
وأما خاص الخاص فهم الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بخلافة الحق فهم رجال الله وما دون الله نساؤهم فقيل لهم : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فهم الأنبياء وخواص
348
الأولياء فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاؤوا وكيف شاؤوا وما يشاؤون إلا أن يشاء الله فقد فنيت مشيئتهم في مشيئة الله وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته فيقدمون لأنفسهم لا بأنفسهم بل هو المقدم لما يقدمون وهو المؤخر لما يؤخرون ثم قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ} يعني : يا خواص الأولياء المتصرفين في حرث الدنيا والآخرة اتقوا الله بالله فإنكم ملاقو الله لا يحجبكم عنه شيء.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بأنهم ملاقو الله أيضاً إن اتقوا الله بالله يعني مرتبة خواص الأولياء ميسرة للمؤمنين إذا سعوا في طلبها حق سعيها ، قال الحافظ :
جمال يارندارد نقاب ورده ولي
غبار ره بنشان تانظر تواني كرد
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
درامان خانه ايمان بنشين ايمن باش
كرامان بايدت البتة مروزين مأمن
فالعلامة في ذلك أن الذي يكون إيمانه عطاء يمنعه إيمانه من الذنوب ويرغبه في الطاعات والذي هو عارية لا يمنعه من الذنوب ولا يرغبه في الطاعات أي : لا يحثه على الطاعات لأنه لا تدبير له في مكان هو فيه عارية أي : لا يستقر الإيمان في مكان هو فيه عارية وفي قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ} إشارة إلى أن على المرء أن يتذكر مرجعه ومصيره ويتدارك ما ينتفع به في معاده من الأعمال الصالحة وأقل المرتبة العمل للآخرة ، وأما أعلى المراتب وأفضل المقاصد والمطالب فالله تعالى كما قال تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91) وذلك لأن العملتعالى لا لطلب الجنة ولا لخوف النار.
(1/285)
وفي "التأويلات النجمية" : كما أن للنساء محيضاً في الظاهر وهو سبب نقصان إيمانهن لمنعهن عن الصلاة والصوم فكذلك للرجال محيض في الباطن هو سبب نقصان إيمانهم لمنعهم عن حقيقة الصلاة وهي المناجاة وعن حقيقة الصوم وهي الإمساك عن مشتهيات النفس وكما أن المحيض هو سيلان الدم من الفرج فكذلك الهوى هو غلبات دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الأذى وقد قيل قطرة من الهوى تكدر بحراً من الصفا فحينئذٍ منعت النفس عن الصلاة والصوم في الحقيقة وإن كانت مشغولة بهما ، وطبقات المؤمنين ثلاث : العوام ، والخواص ، وخاص الخاص.
أما العوام فلما كانوا أهل الغيبة عن الحقيقة أبيح لهم السكون إلى أشكالهم إذا كان على وصف الأذى وقيل لهم : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أنى شئتم.
وأما الخواص فلما كانوا بوصف الحضور يلزم عليهم المساكنة إلى أمثالهم وقيل لهم : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) فهم سلكوا مسالك التفريد حتى وصلوا إلى كعبة التوحيد.
وأما خاص الخاص فهم الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بخلافة الحق فهم رجال الله وما دون الله نساؤهم فقيل لهم : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فهم الأنبياء وخواص
348
الأولياء فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاؤوا وكيف شاؤوا وما يشاؤون إلا أن يشاء الله فقد فنيت مشيئتهم في مشيئة الله وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته فيقدمون لأنفسهم لا بأنفسهم بل هو المقدم لما يقدمون وهو المؤخر لما يؤخرون ثم قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ} يعني : يا خواص الأولياء المتصرفين في حرث الدنيا والآخرة اتقوا الله بالله فإنكم ملاقو الله لا يحجبكم عنه شيء.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بأنهم ملاقو الله أيضاً إن اتقوا الله بالله يعني مرتبة خواص الأولياء ميسرة للمؤمنين إذا سعوا في طلبها حق سعيها ، قال الحافظ :
جمال يارندارد نقاب ورده ولي
غبار ره بنشان تانظر تواني كرد
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} روى أن بشير بن نعمان الأنصاري كان قد طلق زوجته التي هي أخت عبد الله بن رواحة وأراد أن يتزوجها بعد ذلك وكان عبد الله قد حلف على أن لا يدخل على بشير ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين أخته فإذا قيل له في ذلك قال : قد حلفت بالله أن لا أفعل ولا يحل لي إلا أن لا أحفظ يميني وأبر فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والعرضة : فعلة بمعنى المعروض جعل اسماً لما يعرض دون الشيء أي : يجعل قدامه بحيث يصير حاجزاً ومانعاً منه من عرض العود على الإناء أي : جعل العود على الإناء وستره به بحيث يكون حاجزاً وحائلاً بين الإناء وما يتوجه إليه والمعنى لا تجعلوا ذكر الله والحلف به مانعاً لما حلفتم عليه من أنواع الخير كالبر والاتقاء والإصلاح فإن الحلف بالله لا يمنع ذلك فيكون لفظ الإيمان مجازاً مرسلاً عن الخيرات المحلوف عليها سمي المحلوف عليه يميناً لتعلق اليمين به واللام في لأيمانكم متعلق بقوله عرضة تعلق المفعولية لا تعلق العلية لأن العرضة ما عرضته دون الشيء فاعترضه أي : ما تجعله أنت قدام شيء آخر فيقع قدامه فيكون المعنى لا تجعلوا الحلف بالله شيئاً عرض أو وقع قدام المحلوف عليه الذي هو البر والخير ويصير مانعاً من الإتيان به وأن تبروا عطف بيان لأيمانكم أي : للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لإيمانكم {عَلِيمٌ} بنياتكم حتى إن تركتم الحلف تعظيماًوإجلالاً له من أن تستشهدوا باسمه الكريم في الأغراض العاجلة يعلم ما في قلوبكم ونيتكم فحافظوا على ما كلفتموه.
وفي "المثنوي" :
ازي آن كفت حق خودرا سميع
تاببندى لب ز كفتار شنيع
ازي آن كفت حق خودرا بصير
كه بود ديدويت هردم نذير
ازي آن كفت حق خودرا عليم
تانينديشي فسادي توزبيم
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
(1/286)
والآية عامة في كل من كان يحلف بالله أن لا يحسن لأحد ولا يتقي من العصيان فيعمل ما اشتهت نفسه وأن لا يصلح بين الناس إذا وقع فيهم العداوة والبغضاء فكأنه قال تعالى كل ذلك خير وطاعة لا يمنعها حلفكم فإن حلفتم عليها فلتكفروا عن حلفكم ولتفعلوا تلك الخيرات من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ولا تقولوا : نحن حلفنا بالله فنخاف من اليمين به أن نفعله فنحنث في يميننا فالحنث أولى من البر فيما يتعلق بالبر والتقوى والإصلاح قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير" والكفارة قبل اليمين غير جائزة وبعد الحنث واجبة اتفاقاً.
ولا تجوز قبل الحنث بعين اليمين عند إسحاق رحمه الله.
وفي "الشرعة" ولا يروج سلعته أي : متاعه بالحلف لا صادقاً ولا كاذباً لأنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تزر الديار بلاقع وإن كان صادقاً قد جعل الله عرضة لإيمانه وأساء فيه إذ الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر الله من غير ضرورة ومن حلف بالله في كل قليل وكثير انطلق لسانه بذلك ولا يبقى اليمين في قلبه فلا يؤمن أقدامه على الأيمان
349
الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي من اليمين وفي الخبر "ويل للتاجر من بلى والله ولا والله" ، وفي "بستان العارفين" : ويكره أن يصلى على النبي عليه السلام في عرص السلعة فيقول صلى الله على محمد ما أجود هذا وقال عليه السلام : "التجار هم الفجار" قيل : ولِمَ يا رسول الله وقد أحل الله البيع؟ فقال : "لأنهم يحلفون ويأثمون ويتحدثون فيكذبون" ولا يحلف على الله بشيء نحو أن يقول والله ليفعلن الله كذا ولو أقسم ولي الله مثل القسم المذكور لأبره الله وصدقه في يمينه كرامة له ، وكان أبو حفص رحمه الله يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي مدهوش فقال له أبو حفص : ما أصابك؟ قال : ضل حماري ولا أملك غيره فوقف أبو حفص وقال : وعزتك لا أخطوا خطوة ما لم ترد حماره فظهر الحمار في الوقت كذا في "شرح المشارق".
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار يقال لغا لغواً إذا قال باطلاً {فِى أَيْمَـانِكُمْ} جمع يمين وهو الحلف وسميت بها لمعنيين : أحدهما أنها من اليمين التي هي اليد اليمنى وكانوا إذا تحالفوا في العهود تصافحوا بالأيمان فسميت بذلك.
والثاني أن اليمين هي القوة قال تعالى : {لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (الحاقة : 45) وسميت به لأن الحالف يتقوى بيمينه على حفظ ما حلف عليه من فعل أو ترك والمراد باللغو في الأيمان ما لا عقد معه ولا قصد وهو أن يحلف الرجل بالله على شيء يظن أنه صادق فيه وليس كذلك سواء كان الذي يحلف عليه ماضياً أو غيره فليس له إثم ولا كفارة هذا عند أبي حنيفة وأما عند الشافعي فلغو اليمين ما سبق إليه اللسان بلا قصد الحلف نحو لا والله وبلى والله مما يوكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال ولو قيل لواحد منهم سمعتك تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك ولعله قال لا والله ألف مرة.
وفي الآية معنيان أحدهما لا يعاقبكم الله باللغو في أيمانكم ظناً أنكم صادقون فيه {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم} المؤاخذة مفاعلة من الأخذ وهي المعاقبة ههنا {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} انطوت عليه واقترفت قلوبكم من قصد الإثم بالكذب في اليمين وهو أن يحلف الرجل على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس وسميت بالغموس لانغماس صاحبها في الإثم بها.
وثانيهما لا تلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ولكن تلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من اليمين لا بكسب اللسان وحده ، وفي "التيسير" إن هذه الآية في مؤاخذة الآخرة فأما المؤاخذة المذكورة في قوله تعالى : {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَ} فهي المؤاخذة الكفارة لكنها في اليمين المعقودة فالآيتان في مؤاخذتين مختلفتين {وَاللَّهُ غَفُورٌ} حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئاً عن قلة المبالاة {حَلِيمٌ} حيث لم يعجل بالمؤاخذة وفيه إيذان بأن المؤاخذة المعاقبة لا إيحاب الكفارة إذ هي التي تتعلق بها المغفرة والحلم دونه.
والفرق بين الحليم والصبور أنه الذي لا يشمئز من الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال الله تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (النحل : 61) وحظ العبد من وصف الحليم ظاهر فالحلم من محاسن خصال العباد وفي الحديث "إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم مرتبة الصائم القائم" ، قال الحسين الواعظ الكاشفي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
علم باحلم حال روى بود
علم بي حلم خاك كوى بود
350
بردبارى وزينت خردست
هركرا حلم نيست زيور نيست
(1/287)
ثم إنه قال : قال العلماء إذا حلف بشيء فحنث إن كان مستقبلاً فعليه كفارة وهو اليمين المنعقدة وإن كان ماضياً فإن كان الحالف عالماً بالواقع وحلف على خلافه فاليمين كبيرة ولا كفارة عند أبي حنيفة في الكبائر وعند الشافعي تجب الكفارة فيه وهو اليمين الغموس وإن كان الحالف جاهلاً بالواقع ويرى أنه صادق فيه وليس كذلك لا كفارة فيه وهو يمين اللغو عند أبي حنيفة واليمين الغموس عند الشافعي ويحكم فيه بالكفارة واليمين بالله أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته فاليمين بالله أن يقول والذي أصلي له والذي نفسي بيده واليمين بأسمائه كقوله : والله والرحمن ونحوه واليمين بصفته كقوله وعزة الله وعظمته وجلال الله وقدرته ونحوها ومن حلف بغير الله مثل أن قال والكعبة وبيت الله ونبي الله أو حلف بأبيه ونحوه فلا يكون يميناً ولا تجب به الكفارة إذا خالف وهي يمين مكروهة قال الشافعي : وأخشى أن تكون معصية وفي الحديث "من حلف بغير الله فقد أشرك بالله" معناه من حلف بغير الله تعالى معتقداً تعظيم ذلك الغير فقد أشرك المحلوف به مع الله في التعظيم المختص به ولو لم يكن على قصد التعظيم والاعتقاد به فلا بأس به كقوله لا وأبي ونحو ذلك كما جرت به العادة ، قال علي الرازي : أخاف الكفر على من قال بحياتي وبحياتك وما أشبهه ولولا أن العامة يقولونه ولا يعلمونه لقلت إنه الشرك لأنه لا يمين إلا بالله ولا يحلف بالبراءة من الإسلام فمن فعل ذلك صادقاً لن يرجع إلى الإسلام سالماً وإن كان كاذباً خيف عليه الكفر وفي الحديث "من حلف بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال" وظاهر الحديث يدل على أن المسلم إن قال إن أفعل كذا فأنا يهودي ففعل يكفر وبه عمل الشافعي وقال الحنفية لا يكفر فحملوا الحديث على التهديد وأما إن علقه بالماضي كقوله : إن فعلت كذا فأنا يهودي وقد فعل فقد اختلفت الحنفية والصحيح أنه لا يكفر إن كان يعلم أنه يمين وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر لأنه رضي بالكفر وهو محمل الحديث عند الأكثر ، وفي "الفتاوي البزازية" والفتوى على أنه يمين يلزم عليه الكفارة.
والإشارة في الآية أن ما يجري على الظواهر من غير قصد ونية في البواطن ليس له كثير خطر في الخير والشر ولا زيادة أثر ولو كان له أثر في الخير لما عاب على قوم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} (الفتح : 11) وكذا ما يجري على اللسان بنية القلب بلا فعل الجوارح لو كان مؤثراً في القبول لما عاب قوماً بقوله : {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف : 3) ولو كان له أثر في البر لما وسع على قوم بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وما عفا عن قوم بقوله : {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} (النحل : 106) وذلك لأن القلب كالأرض للزراعة والجوارح كالآلات للحراثة والأعمال والأقوال كالبذر فالبذر ما لم يقع في الأرض المربية للزراعة لا ينبت وإن كان في آلة من آلات الحراثة فافهم جداً ، وأما إن كان لما يجري على الظواهر من الخير أدنى آثار في القلب ولو كان مثقال ذرة فإن الله من كمال فضله وكرمه لا يضيعه حتى يكون القليل كثيراً والصغير عظيماً وإن كان لما يجري على الظواهر من الشر أدنى أثر في القلب فإن الله تعالى من غاية لطفه وإحسانه لا يؤاخذ العبد به بل يحلم عنه ويتوب عليه
351
ويغفر له كما قال : {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
(1/288)
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} الإيلاء الحلف وحقه أن يستعمل بعلى لكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدى بمن أي : للذين يبعدون من نسائهم مؤلين {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي : انتظار هذه المدة وإضافته إلى الظرف على الاتساع في الظرف بجريه مجرى المفعول به كما يقال بينهما مسيرة يوم أي : مسيرة في يوم أي : لهم أن ينتظروا في هذه المدة من غير مطالبة بفيء أو طلاق.
والإيلاء من الزوجة أن يقول الرجل والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعداً على التقييد بالأشهر أو لا أقربك على الإطلاق ولو حلف على أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون مؤلياً بل هو حالف إذا وطئها قبل مضي تلك المدة يجب عليه كفارة يمين على الأثح.
وللإيلاء حكمان : حكم الحنث ، وحكم البر.
فحكم الحنث وجوب الكفارة بالوطء في مدة الإيلاء إن كان اليمين بالله ولزوم الجزاء من نحو الطلاق أو العتاق أو النذر المسمى إن كان القسم بذلك وحكم البر وقوع طلقة بائنة عند مضي مدة الإيلاء وهي أربعة أشهر إن كانت المنكوحة حرة وإن كانت المنكوحة أمة الغير تبين بمضي شهرين.
قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية.
وقال سعيد بن المسيب كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبداً فيتركها لا أيماً ولا ذات بعل وكانوا في ابتداء الإسلام يفعلون ذلك أيضاً فأزال الله ذلك الضرر عنهن وضرب للزوج مدة يتروى فيها ويتأمل فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعله وإن رأى المصلحة في المفارقة فارقها.
{فَإِن فَآءُو} أي : إن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك الجماع {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر للمولى بفيئته التي هي كتوبته إثم حنثه عند تكفيره أو ما قصد بالإيلاء من ضرار المرأة.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ} أصل العزم أو العزيمة عقد القلب على إمضاء شيء تريد فعله أي : حققوه وأكدوه بأن ثبتوا في المدة على ترك القربان حتى مضت المدّة {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لطلاقهم {عَلِيمٌ} بغرضهم فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
والإشارة في تحقيق الآيتين أن يعلم العبد أن الله لا يضيع حق أحد من عباده لا على نفسه ولا على غيره فلما تقاصر لسان الزوجة لكونها أسيرة في يد الزوج فالله تعالى تولى الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها فإذا كان حق صحبة الاشكال محفوظاً عليك حتى لو أخللت به أخذك بحكمه فحق الحق أحق بأن يجب مراعاته.
وفي تعيين تربص أربعة أشهر في الفيىء إشارة عجيبة وهي أنها مدة تعلق الروح بالجنين كما قال عليه السلام : "إن أحدكم يجمع خلقه" أي يحرز ويقر مادة خلقه "في بطن أمه" أي : في رحمها من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء "أربعين يوماً" وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها تنشر في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعرة فتمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم فذاك جمعها "ثم تكون علقة" وهي قطعة دم غليظ جامد "مثل ذلك" أربعين يوماً "ثم تكون مضغة" وهي قطعة لحم قدر ما تمضغ "مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح" وهذا يدل على أن التصوير يكون في الأربعين الثالثة "ويؤمر بأربع كلمات" يعني يؤمر الملك بكتابة أربع قضاها وهو معطوف على قوله تكون علقة لأن الكتابة في الأربعين الثانية "يكتب رزقه" روي على صيغة المجهول والمعلوم "وأجله" وهو يطلق على مدة الحياة كلها
352
وهو المراد هنا وعلى منتهاها ومنه قوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} (الأعراف : 34) وعمله وشقي وهو من وجبت له النار أو سعيد وهو من وجبت له الجنة قدم ذكر الشقي لأنه أكثر الناس كذا قال القاضي المراد بكتبه هذه الأشياء إظهارها للملك وإلا فقضاؤه تعالى سابق على ذلك ، فإذا تمهد هذا فمن وقع له من أهل القصد وقفة أو فترة في أثناء السلوك من ملالة النفس أو نفرة الطبع فعلى الشيخ وعلى الأصحاب أن لا يفارقوه في الحقيقة وأن يتعاونوا بالهمم العلية لاستجلابه ويتربصوا أربعة أشهر الرجوع فإن فاء إلى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة واستغفر مما جرى منه ونفخ فيه روح الإرادة مرة أخرى أقبلوا عليه وعفوا عما لديه فإن هذا ربيع لا يرعاه إلا المهزولون وربع لا يسكنه إلا المعزولون ومنهل لا يرده إلا اللاهون وباب لا يقرعه إلا الماكثون بل هذا شراب لا يذوقه إلا العارفون وغناء لا يطرب عليه إلا العاشقون وإن عزموا بعد مضي أربعة أشهر طلاق منكوحة المواصلة وأصروا على ذنب المفارقة فلهم التمسك بعروة هذا فراق بيني وبينك فإن الله سميع بمقالتهم عليم بحالتهم ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
نه مارا درميان عهد ووفابود
جفا كردي وبد عهدي نمودي
هنوزت كرسر صلحست بازآي
كزان محبوبتر باشى كه بودي
(1/289)
قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول : من عرف طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين كذا في "لواقح الأنوار القدسية في مناقب العلماء والصوفية" {وَالْمُطَلَّقَـاتُ} المراد بها ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن لأنه لا عدة على غير المدخول بها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل وأن عدة الأمة قرءان أو شهران وأصل التطليق رفع القيد أي : المخليات من حبال أزواجهن {يَتَرَبَّصْنَ} خبر في معنى الأمر أي : ليتربصن وينتظرن {بِأَنفُسِهِنَّ} الباء للتعدية أي : يحملن أنفسهن على التربص ويجعلنها متربصة {ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ} نصب على الظرفية أي : مدة ثلاثة قروء فلا تتزوجن إلى انقضائها.
والقروء جمع قرء وهو من الأضداد في كلام العرب يقع على الطهر والحيض ، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعاً.
ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن القروء وهي الحيض لأن الله تعالى جعل الاعتداد بالأشهر بدلاً من الاعتداد بالقرء كما قال : {وَالَّـاـاِى يا ـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآاـاِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ} (الطلاق : 4) فلما شرع ذلك عند ارتفاع الحيض دل على أن الأصل كان هو الحيض وتمسك الشافعي بقوله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1) على أن المراد بالقروء الإطهار لأن اللام في لعدتهن للوقت ووقت العدة لا يجوز أن يكون وقت الحيض لأنه تعالى أمر بالطلاق والطلاق في وقت الحيض منهي عنه.
وجوابه أن معناه فطلقوهن مستقبلات لعدتهن وهي الحيض الثلاث فالطلاق يقع ثم تأخذ المرأة وتشرع في العدة وليس معنى الآية أن الطلاق واقع في العدة وفائدة الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة أن مدة العدة عند الشافعي أقصر وعند أبي حنيفة أطول حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر
353
أو من الحيضة الرابعة إن كان الطلاق في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ} أي : يخفين {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} من الحبل والحيض بأن تقول المرأة لست بحامل أو لست بحائض وهي حائض لتبطيل حق الزوج من الولد والرجعة وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع وربما أسقطت الحمل خوفاً أن يعود ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها أو كتمت حيضها استعجالاً للطلاق لأن الطلاق السني إنما يكون في الطهر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
(1/290)
وفيه دليل على قبول قولهن في ذلك نفياً وإثباتاً {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} أي : فلا يجترئن على ذلك فإن قضية الإيمان بالله واليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء والعقوبة منافية له قطعاً.
وفيه تهديد شديد على النساء وليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة لأن المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء {وَبُعُولَتُهُنَّ} جمع بعل والبعلة المرأة وأصل البعل السيد والمالك سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته كأنه مالك لها ورب والتاء في البعولة لتأنيث الجمع فإن الجمع لكونه بمعنى الجماعة في حكم المؤنث والتاء زائدة لتأكيد التأنيث ودلت تسمية الزوج بعلاً بعد طلاقها الصريح على أن النكاح قائم والحل ثابت والضمير لبعض أفراد المطلقات لأن هن عام شامل للمطلقة بالطلاق الرجعي والبائن ولا حق لأزواج المطلقات البوائن في النكاح والرجعة.
{أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} إلى النكاح والرجعة إليهن {فِي ذَالِكَ} أي : في زمان التربص فإن حق الرجعة إنما يثبت للزوج ما دامت في العدة وإذا انقضى وقت العدة بطل حق الرد والرجعة.
وأفعل هنا بمعنى الفاعل والمعنى أن أزواجهن حقيقون بردهن إذ لا معنى للتفضيل هنا فإن غير الأزواج لا حق لهم فيهن البتة ولا حق أيضاً للنساء في ذلك حتى لو أبت من الرجعة لم يعتد بذلك {إِنْ أَرَادُوا} أي : الأزواج بالرجعة {إِصْلَـاحًا} لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها وليس المراد به شرطية قصد الإصلاح بصحة فإن الرجعة صحيحة وإن راجعها مضاراً بها بل هو الحث عليه والزجر عن قصد الضرار ثم أنه تعالى لما بين أن المقصود من الرجعة إصلاح حالها لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقاً على الآخر فقال : {وَلَهُنَّ} عليهم من الحقوق {مِثْلُ الَّذِى} لهم {عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قوله بالمعروف متعلق بما تعلق به لهن من الاستقرار أي : استقر لهن بالمعروف أي : بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفهن ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه ووجه المماثلة بين الحقين هو الوجوب واستحقاق المطالبة لا الاتحاد في جنس الحقوق مثلاً إذا استحقت المرأة على الزوج المهر والنفقة والمسكن لا يستحق هو عليها أيضاً جنس هذه الحقوق
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي : زيادة في الحق وفضل فيه وفضل الرجل على المرأة في العقل والدين وما يتفرع عليهما مما لا شك فيه وفضله المناسب بهذا المقام أمران : الأول كون ما يستحق هو عليها أفضل وأزيد مما تستحق هي عليه فإنه مالك لها مستحق لنفسها لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه وقادر على الطلاق فإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها شاءت المرأة أو أبت.
وأما المرأة
354
فلا تملك شيئاً من هذه الأمور وإنما حقها فيه المهر والكفاف وترك الضرار.
والثاني : ما أشار إليه الزجاج بقوله معناه أن المرأة تنال من الرجل من اللذات المتفرعة على النكاح مثل ما ينال الرجل منها وله الفضيلة عليها بنفقته والقيام عليها فالفضيلة على هذا فضيلة ما التزمه في حقها مما يتعلق بالرحمة والإحسان كالتزام المهر والنفقة والمسكن والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها عن مواقع الآفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لو كنت آمراً لأحد أن يسجد لأحد غير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لما عظم الله من حقه عليها قال تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء : 34) فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزائدة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه {حَكِيمٌ} تنطوي شرائعه على الحكم والمصالح.
(1/291)
واعلم أن مقاصد الزوجية لا تتم إلا إذا كان كل واحد من الزوجين مراعياً حق الآخر مصلحاً لأحواله مثل طلب النسل وتربية الولد ومعاشرة كل واحد منهما الآخر بالمعروف وحفظ المنزل وتدبير ما فيه وسياسة ما تحت أيديهما إلى غير ذلك مما يستحسن شرعاً ويليق عادة وفي الحديث "جهاد المرأة حسن التبعل" يقال امرأة حسنة التبعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها والقيام بما عليها في بيت الزوج وفي الحديث "أيما امرأة ماتت وزوجها راضضٍ عنها دخلت الجنة" كما في "رياض الصالحين".
ومن الحقوق التزين قال ابن عباس رضي الله عنهما أني لأتزين لامرأتي كما تتزين لقوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة : 228) ويقال : أن المرأة مثل الحمامة إذا نبت لها جناح طارت كذا الرجل إذا زين امرأته بالثياب فلا تجلس بالبيت.
وقال رجل ما دخل داري شر قط فقال حكيم ومن أين دخلت امرأتك ، قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
دلارام باشد زن نيك خواه
ولي اززن بد خدايا ناه
وقال بعضهم :
عصمت زن را بمقام جمال
جلوه حرامست مكريا حلال
ـ حكي ـ أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح وكان له امرأة يحبها حباً شديداً فبعث الله إليه أن يسأله ثلاث حوائج فقال لامرأته حوائجي كثيرة لا أدري ما أعمل فقالت امرأته : اسأل حاجة لي وحاجتين لك قال : ما تريدين؟ قالت : اسأل ربك أن يصيرني في صورة ما كانت صورة أحسن منها وأجمل فسأل ربه فأضاء البيت من حسنها وجمالها فقامت لتخرج من بيتها فقال زوجها : إلى أين تذهبين؟ قالت : إلى بعض السلاطين أنا لا أضيع حسني وجمالي بمثلك ومنع الزوج خروجها ثم بلغ الخبر إلى بعض السلاطين فجاء أعوانه وأخذوها من زوجها جبراً فقال الرجل : اللهم بقي لي عندك حاجتان اجعلها قردة فمسخها الله تعالى قردة فردها الملك من عنده فجاءت إلى زوجها ثم قال الرجل : اللهم كما كانت أولاً فذهبت الحوائج كلها عبثاً لا هي أفلحت ولا هو.
والإشارة أن المطلقات لما أمرن بالعدة وفاء لحق الصحبة وإن كان الانقطاع من الزوج لا من الزوجة أمرن أن لا يقين غير مقامه بالسرعة ويصبرون حتى يمضي مقدار من المدة إلى آخر العدة وكلها دلالات على وفاء الربوبية في رعاية العبودية فإن الله تعالى من كمال كرمه يرخي زمام الفضل
355
بالاصطناع وإن كان من العبد الفصل والانقطاع ويمهل العبد إلى انقضاء عدة الجفاء ولا يعرض عنه سريعاً لإقامة شرط الوفاء لعل العبد في مدة العدة ينتبه من نوم الغفلة وتتحرك داعيته في ضمير قلبه من نتائج محبة ربه وإن ابتلاه بمحنة الفرقة فيقرع بأصبع الندامة باب التوبة ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة فيقال من كمال الفضل والنوال يا قارع الباب دع نفسك وتعال من طلب منا فلاحاً فليلزم عتبتنا مساء وصباحاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 351
{الطَّلَـاقَ} أي : التطليق الرجعي المتقدم ذكره الذي قال تعالى فيه {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة : 228) {مَرَّتَانِ} أي : دفعتان وذلك لا يكون إلا على سبيل التفريق فإن من أعطى إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال أعطاه مرتين حتى يعطيه إياهما دفعتين فالجمع بين الطلقتين والثلاث في الإيقاع حرام عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أنه سني الوقوع لا سني الإيقاع فالطلاق الذي يثبت فيه للزوج حق المراجعة هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعدالطلقتين بأن طلق ثلاثاً فلا يثبت للزوج حق الرجعة البتة ولا تحل له المرأة إلا بعد زوج آخر ثم قوله : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ} وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر لأن حمله على ظاهره يؤدي إلى وقوع الخلف في خبر الله تعالى لأنه قد يوجد إيقاع الطلاق على وجه الجمع ولا يجوز الحلف في خبر الله فكان المراد منه الأمر كأنه قيل طلقوهن مرتين أي : دفعتين {فَإِمْسَاكُ} أي : فالحكم بعد هاتين الطلقتين إمساك لهن {بِمَعْرُوفٍ} وهو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح وحسن المعاشرة {أَوْ تَسْرِيحُ} أي : تخلية {بِإِحْسَـانٍ} بأن يترك المراجعة حين تبين بانقضاء العدة.
ومعنى الإحسان في التسريح أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها وجملة الحكم في هذا الباب أن الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها يجوز له أن يراجعها من غير رضاها ما دامت في العدة وإن لم يراجعها حتى تنقضي عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها فإن طلقها ثلاثاً فلا تحل له ما لم تنكح زوجاً غيره وأما العبد إذا كانت تحته أمة فطلقها طلقتين فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر والاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق عند أبي حنيفة رحمة الله فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ولا يملك الحر على زوجته الأمة إلا طلقتين {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 356
(1/292)
ـ روي ـ أن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فأتت رسول الله عليه السلام وقالت : لا أنا ولا ثابت ولا يجمع رأسي ورأسه شيء والله ما أعيبه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بعضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً فنزلت فاختلعت منه بحديقة أصدقها أي : سماها ثابت صداقاً لها يعني لما قالت جميلة ما قالت قال ثابت : يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها فقال عليه السلام لها : "ما تقولين" قالت : نعم وأزيده فقال عليه السلام : "لا حديقته فقط" ثم قال لثابت : "خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها" ففعل وكان ذلك أول خلع في الإسلام.
والخطاب في لكم مع الأحكام ليطابق قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ} فإنه خطاب مع الحكام والحكام وإن لم يكونوا آخذين ومؤتين حقيقة إلا أنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الذين يأخذون
356
ويؤتون {أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أي : تأخذوا منهن بمقابلة الطلاق ما أعطيتموهن من المهور {شَيْئًا} أي : نزراً يسيراً فضلاً عن استرداد الكثير {إِلا أَن يَخَافَآ} أي : الزوجان {أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي : أن لا يراعيا مواجب الزوجية ، قوله : {إِلا أَن يَخَافَآ} استثناء مفرغ وأن يخافا محله النصب على أنه مفعول من أجله مستثنى من العام المحذوف تقديره ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب شيئاً إلا بسبب خوف عدم إقامة حدود الله {فَإِنْ خِفْتُمْ} أيها الحكام {أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي : الحقوق التي أثبتها النكاح وذلك بمشاهدة بعض الأمارات والمخايل {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي : فيما أعطته المرأة من بدل الخلع لا على الزوج في أخذ ما فدت به نفسها ولا عليها في إعطائه إياه هذا إذا كان النشوز من قبل المرأة لأنها ممنوعة عن إتلاف المال بغير حق أما إذا كان النشوز من قبل الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئاً مما آتاها لقوله تعالى {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا} (
جزء : 1 رقم الصفحة : 356
النساء : 20) ولا يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء فإن ذلك منهي عنه قال تعالى في سورة النساء : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} (النساء : 19) وعموم قوله تعالى : {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} يشعر بجواز المخالعة على قدر المقبوض من الزوج وعلى الأزيد والأقل وعليه جمهور الفقهاء ثم أن ظاهر الآية أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف وجمهور المجتهدين على جوازه في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف فلا بد حينئذٍ أن يجعل قوله : {إِلا أَن يَخَافَآ} استثناءً منقطعاً كما في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَـاًا} (النساء : 92) أي : لكن إن قتل خطأ فدية مسلمة إلى أهله.
قال البغوي ويجوز الخلع في غير حال النشوز غير أنه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق" {تِلْكَ} أي : الأحكام المذكورة {حُدُودَ اللَّهِ} أوامره ونواهيه {فَلا تَعْتَدُوهَا} أي : لا تتجاوزوا عنها بالمخالفة والرفض {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـائِكَ} المتعدون {هُمُ الظَّـالِمُونَ} أي : لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه.
اعلم أن المرأة إذا برئت من مواقع الخلل واتصفت بالعفة فعلى الزوج أن يعاشرها بالمعروف ويصبر على سائر أوضاعها وسوء خلقها ويتأدب بآداب النبي صلى الله عليه وسلّم وكان عليه السلام يحسن المعاشرة مع أزواجه المطهرة فحسن معاشرتهن والصبر عليهن مما يحسن الأخلاق فلا جرم يعد الصابر من المجاهدين في سبيل الله.
ـ روي ـ أن بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته إلى أن ماتت وعرض عليه التزويج فامتنع وقال الوحدة أروح لقلبي قال : فرأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها كأن أبواب السماء قد فتحت وكأن رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضاً فكلما نظر إلى واحد منهم يقول لمن وراءه : هذا هو المشؤوم فيقول الآخر : نعم ويقول الثالث كذلك فخفت أن أسألهم إلى أن مر بي آخرهم فقلت له : من هذا المشؤوم؟ فقال : أنت قلت : ولِمَ؟ قال : كنا نرفع عملك مع أعمال المجاهدين في سبيل الله تعالى فمنذ جمعة أمرنا أن نضع عملك مع المخالفين فلا ندري ما أحدثت فقال لإخوانه : زوجوني فلم يكن يفارقه زوجتان أو ثلاث.
قال الكاشفي :
جزء : 1 رقم الصفحة : 356
مردي كمان مبركه بزورست وبردلي
بانفس اكر جهاد كنى مرد كاملي
ولا يتيسر هذا إلا لواحد بعد واحد كما قيل وللحروب رجال وإن أنت تريد الطلاق فطلق نفسك ، كما قيل :
357
هركه زن نفس شوم را داد طلاق
جفتش نبود بزير اين نيلي طاق
از مزبله نفس قدم بيرون نه
تاروحت كند نسيم وصل استنشاق
(1/293)
وما دام عجوز نفسك تشوش باطنك وتخرب بيت قلبك فالعروس التي هي تجلي الروح لا تتراءى من وراء نقاب السر ولا تجيء بيت مشاهدتك رحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره.
والإشارة في الآية أن أهل الصحبة لا يفارقون بجريمة واحدة صدرت من الرفيق الشفيق والصديق الصدوق ولا بجريمتين بل يتجاوزون مرة أو مرتين.
وفي الثالثة : {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ} إما صحبة جميلة أو فرقة جميلة كما تجاوز الخضر عن موسى عليهما السلام مرتين وفي الثالثة قال هذا {فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} (الكهف : 78) وأما الصحبة من غير تعظيم وحرمة وذهاب لذة العمر بالأخلاق الذميمة وإضاعة الوقت في تحصيل المقت فغير مرضية في الطريقة ولا محمودة في الشريعة بل قاطعة طريقة الحق وليس لأهل الصحبة إذا اتفقت المفارقة أن يستردوا خواطرهم من الرفقاء بالكلية ويقطعوا رحم الأخوة في الدين ويأخذوا منهم قلوبهم بعدما آتوهم الهمم العلية فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه {إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} في رعاية حقوق الصحبة {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بأن تؤدي إلى مداهنة أو إهمال في حق حقوق الدين {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} من الحظوظ لرعاية الحقوق {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (النساء : 13) من الحظوظ والحقوق {فَلا تَعْتَدُوهَا} (البقرة : 230) بترك الحقوق لنيل الحظوظ كذا في "التأويلات النجمية" قدس الله تعالى نفسه الزاكية القدسية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 356
{فَإِن طَلَّقَهَا} أي : بعد الطلقتين السابقتين {فَلا تَحِلُّ} تلك المرأة {لَهُ} لزوجها {مِّنا بَعْدِ} أي : من بعد الطلقة الثالثة لا بطريق الرجعة ولا بتجديد العقد {حَتَّى تَنكِحَ} تتزوج تلك المرأة {زَوْجًا غَيْرَهُ} أي : غير المطلق ويسمى الأجنبي زوجاً لأنه بالعقد يصير زوجاً فسماه باسم العاقبة والنكاح هنا العقد دون الوطء وبه أخذ سعيد بن المسيب واللفظ يشهد له لا يقال حتى تطأ المرأة الزوج فإن المرأة موطوءة لا واطئة فالآية وإن كانت مطلقة لأنها إنما تدل على أن عدم حلها له يمتد إلى أن تتزوج بزوج آخر وينعقد بينهما عقد النكاح من غير تقييد ذلك العقد بكونه مؤدياً إلى جماع الزوج الثاني لكنها مقيدة بالسنة فالإجماع على اشتراط الإصابة لما روي أن امرأة رفاعة جاءت النبي عليه الصلاة والسلام فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي أي : قطعه حيث طلقني ثلاثاً وأن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وأن ما معه أي : ذكره ليس بأغنى عني من هذه أي : الهدبة وأخذت من جلبابها فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة" قالت : نعم فقال : "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" والمراد بالعسيلة الجماع شبه لذة الجماع بالعسل {فَإِن طَلَّقَهَا} أي : الزوج الثاني بعد الدخول بها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} أي : لا إثم على الزوج الأول والمرأة {أَن يَتَرَاجَعَآ} أي : يرجع كل منهما إلى صاحبه بعقد جديد {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي : إن كان في ظنهما أنهما يقيما حدود الله أي : ما حده الله وشرعه من حقوق الزوجية ولم يقل إن علما لأن العواقب غير معلومة والإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظن ظناً {وَتِلْكَ} إشارة إلى الأحكام المذكورة
358
إلى هنا {حُدُودَ اللَّهِ} أي : أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة {يُبَيِّنُهَا} بهذا البيان {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي : يفهمون ويعملون بمقتضى العلم وتخصيصهم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغ لما أنهم المنتفعون بالبيان والجاهل إذا بين له لا يحفظ ولا يتعاهد :
جزء : 1 رقم الصفحة : 358
نكته كفتن يش كزفهمان زحكمت بيكمان
جوهري ند ازجواهر ريختن يش خرست
(1/294)
ثم إن الحكمة في اشتراط إصابة الزوج الثاني في التحليل وعدم كفاية مجرد العقد فيه الردع عن المسارعة إلى الطلاق فإن الغالب أن يستنكر الزوج أن يستفرش زوجته رجل آخر وهذا الردع إنما يحصل بتوقف الحل على الدخول وأما مجرد العقد فليس منه زيادة نفرة وتهييج غيرة فلا يصلح توقف الحل عليه رادعاً وزاجراً عن التسرع إلى الطلاق والنكاح المعقود بشرط التحليل وهو أن يشترط النكاح أن يقتصر على قدر التحليل ولا يستديم زوجيتها فاسد عند الأكثر وجائز عند أبي حنيفة مع الكراهة وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة.
وفي شرح "الزيلعي" : لو خافت المرأة المطلقة ثلاثاً أن لا يطلقها المحلل فقالت زوجتك نفسي على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أردت فقبل جاز النكاح وصار الأمر بيدها.
وفيه أيضاً ومن لطائف الحيل فيه أن تزوج المطلقة من عبد صغير تتحرك آلته ثم تملكه بسبب من الأسباب بعدما وطئها فيفسخ النكاح بينهما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "لعن الله المحلل والمحلل له" المحلل بكسر اللام والمراد به الزوج الثاني والمحلل له بفتح اللام والمراد به الزوج الأول ، فإن قلت ما معنى لعنهما؟ قلت : معنى اللعن على المحلل لأنه نكح على قصد الفراق والنكاح شرع للدوام وصار كالتيس المستعار والتيس هو الذكر من الغنم وقد يستعيره الناس لاستيلاد الغنم واللعن على المحلل له لأنه صار سبباً لمثل هذا النكاح والمتسبب شريك المباشر في الإثم والثواب ، أو المراد من اللعن إظهار خساستهما أما خساسة المحلل فلمباشرته مثل هذا النكاح بدليل قوله عليه السلام : "ألا أنبئكم بالتيس المستعار" وأما خساسة المحلل له فلمباشرة ما ينفر عنه الطبع السليم من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها واستمتاعه بها لا حقيقة اللعن إذ هو لا يليق بمنصب الرسالة في حق الأمة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعاناً.
والإشارة في الآية أن أهل الصحبة لما تجاوزوا عن زلة الاخوان مرة ومرتين ثم في الثالثة إن سلكوا طريق الهجران وخرجوا عن مصاحبة الإخوان فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقاً مثله فإن ندم بعد ذلك على أفعاله وسئم من ذلك الصديق وأمثاله وترك صحبته وخرج عن خصاله ورجع إلى صحبة إخوانه وأشكاله {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا} شرائط العبودية والصحبة في الله وتلك طرق قربات الله والسائرين إلى الله بينهما بالتصريح والتعريض والعبارات والإشارة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} المعاريض ويفهمون الإشارات كذا في "التأويلات النجمية".
قال أحمد بن حضرويه الطريق واضح والدليل لائح والداعي قد أسمع فما التحير بعد هذا إلا من العمى ، قال الحافظ :
وصف وخسارة خورشيد زخفاش مرس
كه درين آينه صاحب نظران حيرانند
جزء : 1 رقم الصفحة : 358
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} أي : نساءكم {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي : آخر عدتهن وشارفن منتهاها
359
ولم يرد حقيقة انقضاء العدة لأن العدة إذا انقضت لم يكن للزوج إمساكها بالمعروف ، نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي : راجعوهن من غير طلب إضرار لهن بالرجعة.
والمعروف ما ألفته العقول واستحسنته النفوس شرعاً وعرفاً وعادة فالمراد به هنا حسن المعاشرة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} أي : ولا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن بتطويل العدة والحبس على أن يكون انتصاب ضراراً على العلة أو مضارين على الحال ، فإن قلت : لا فرق بين قوله : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وبين قوله : {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار.
قلت : إن الأمر لا يفيد التكرار ولا يدل على كون امتثال المأمور به مطلوباً في كل الأوقات فدل لا تمسكوهن على المبالغة في التوصية بالإمساك بالمعروف لدلالته على أن الإمساك المذكور مطلوب منه في جميع الأوقات {لِّتَعْتَدُوا} متعلق بضراراً إذ المراد تقييده أي : لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي : ما ذكر من الإمساك المؤدي إلى الظلم {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} في ضمن ظلمه لهن بتعريضها للعقاب {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} المنطوية على الأحكام المذكورة أو جميع آياته وهي داخلة فيها دخولاً أولياً {هُزُوًا} أي : مهزواً بها بالإعراض عنها والتعاون في العمل بما فيها والنهي كناية عن الأمر بضده لأن المخاطبين مؤمنون ليس من شأنهم الهزؤ بآيات الله أي : جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها ، قال الحكيم السناني قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
دانشت هست وكاربستن كو
خنجرت هست وصف شكستن كو
(1/295)
ولما رغبهم في رعاية التكاليف والعمل بها بالتهديد على التهاون بها أكد ذلك الأمر بذكر نعم الله عليهم بأن يشكروها ويقوموا بحقوقها فقال : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} كائنة {عَلَيْكُمْ} حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية أي : قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها وقيل : واذكروا إنعام الله عليكم بأن خلقكم رجالاً وجعل لكم أزواجاً تسكنون إليها وجعل النكاح والطلاق والرجعة بأيديكم ولم يضيق عليكم كما ضيق على الأولين حين أحل لهم امرأة واحدة ولم يجوز لهم بعد موت المرأة نكاح أخرى {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم} عطف على نعمة الله أي : وما أنزله الله عليكم {مِّنَ الْكِتَـابِ وَالْحِكْمَةِ} أي : القرآن والسنة أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما {يَعِظُكُم بِهِ} أي : بما أنزل عليكم حال من فاعل أنزل وهو ضمير أنزل أي : اذكروا نعمة الله وما أنزله عليكم واعظاً به لكم ومخوفاً {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بأفانين العذاب.
والإشارة في الآية أن الأذية والمضارة ليست من الإسلام ولا من آثار الإيمان ولا من شعار المسلمين عموماً كما قال عليه السلام : "المؤمن من أمنه الناس" وقال : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" ويتضمن حسن المعاشرة مع الخلق جميعاً ، فأما الزوجان ففيهما خصوصية بالأمر بحسن المعاشرة معهن وترك أذيتهن والمغايظة معهن على وجه اللجاج فإما
360
تخلية سبيل من غير جفاء أو قيام بحق الصحبة على شرائط الوفاء بلا اعتداء {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي : من الأذية والمضارة والاعتداء بالجفاء {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} لأن الله تعالى يجازي الظالم والمظلوم يوم القيامة بأن يكافىء المظلوم من حسنات الظالم ويجازي الظالم من سيئات المظلوم والظالم إذا أساء إلى غيره صارت نفسه مسيئة وإذا أحسن صارت تفسه محسنة فترجع إساءة الظالم إلى نفسه لا إلى نفس غيره حقيقة فإنه ظلم نفسه لا غيره ولهذا قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء : 7) قال السعدي قدس سره :
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
مكن تا تواني دل خلق ريش
وكر ميكني ميكني بيخ خويش
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن} أي : بتلاوة ظاهرها من غير تدبر معانيها وتفهم إشاراتها وتحقق أسرارها وتتبع حقائقها والتنور بأنوارها والاتعاظ بمواعظها وحكمها.
يقال إن الوعظ كالشاهين فإنما يقع على الحي لا على الميت فمن مات قلبه وتعوذ بالله من ذلك لم يتأثر بالمواعظ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "أنتم اليوم على بينة من ربكم" يعني على بيان قد بين لكم طريقكم "ما لم تظهر فيكم السكرتان سكرة العيش وسكرة الجهل".
ـ روي ـ أنه ضلت راحلة الحسن البصري في طريق الحج فلقيه صبي فسأله فعرفها فلما وجد الراحلة سأله الصبي يا شيخ ما تأكل وما تلبس؟ قال : آكل خبز الشعير وألبس الصوف لأكسر شهوتي بهما قال الصبي : كل ما شئت والبس كذلك بعد أن يكونا حلالين قال : وأين تبيت؟ قال : في الخص وهو بيت من القصب قال : لا تظلم وبت حيث شئت فقال الحسن : لولا صباك لكسبت منك ما تكلمت به فتبسم الصبي وقال : أراك غافلاً أخبرتك بالدنيا فقبلت وأخبرك بالدين فتأنف من كلامي ارجع إلى منزلك فلا حج لك.
قال السعدي قدس سره :
مرد بايد كه كيرد اندر كوش
ور نوشته است ند بر ديوار
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
(1/296)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي : استوفين عدتهن فالبلوغ هنا عبارة عن حقيقة الانتهاء لأن المذكور بعده النكاح ولا يكون ذلك إلا بعد انقضاء العدة {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} العضل المنع والحبس والتضييق.
والمخاطب بالخطاب الأول هو الأزواج.
وبالثاني هو الأولياء لما روى أن الآية نزلت في معقل بن يسار حين منع أخته جميلة أن ترجع إلى زوجها الأول البداح عبيد الله بن عاصم فإنه جاء يخطبها بعد انقضاء العدة وأرادت المرأة الرجوع فلما سمع معقل الآية قال : أرغم أنفي وأزوج أختي وأطيع ربي فالمعنى إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وهذا وإن كان مما لا يخفى ركاكته إلا أن جملة الخلائق من حيث حضورهم في علمه تعالى لما كانت بمثابة جماعة واحدة صح توجيه أحد الخطابين الواقعين في كلام واحد إلى بعض وتوجيه الخطاب الآخر إلى البعض الآخر ولعل التعريض لبلوغ الأجل مع جواز تزوج الأول قبله أيضاً لدفع العضل المذكور حينئذٍ وليس فيه دلالة على أن ليس للمرأة أن تزوج نفسها وإلا لاحتيج إلى نهي الأولياء عن العضل لما أن النهي لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة ، وقيل : الخطابان للأزواج حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم ولا يدعونهن يتزوجن من شِئْنَ من الأزواج
361
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
ظلماً وقسراً واتباعاً لحمية الجاهلية {أَن يَنكِحْنَ} أي : لا تمنعوهن من أن يتزوجن وفيه دلالة على صحة النكاح بعبارتهن {أَزْوَاجَهُنَّ} إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ما كان وإما باعتبار ما يكون وإلا فبالاعتبار الأخير على معنى أن ينكحن أنفسهن ممن شِئْنَ أن يكونوا أزواجاً لهن {إِذَا تَرَاضَوْا} أي : الخطاب والنساء ظرف لقوله أن ينكحن أي : أن ينكحن وقت التراضي {بَيْنَهُم} ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه {بِالْمَعْرُوفِ} حال من فاعل تراضوا أي : إذا تراضوا ملتبسين بالمعروف من العقد الصحيح والمهر الجائز والتزام حسن المعاشرة وشهود عدول ، والمعروف ما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفؤ وبما دون مهر المثل ليس من باب العضل.
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما مضى ذكره أي : الأمر الذي تلي عليكم من ترك العضل أيها الأولياء أو الأزواج وتوحيد كاف الخطاب مع كون المخاطب جمعاً إما على تأويل القبيل أو كل واحد أو لكون الكاف لمجرد توجيه الكلام إلى الحاضر مع قطع النظر عن كونه واحداً أو جمعاً {يُوعَظُ بِهِ} أي : ينهى ويؤمر به {مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} لأنه المتعظ به والمنتفع {ذالِكُمْ} أي : الاتعاظ به والعمل بمقتضاه {أَزْكَى لَكُمْ} أنمى لكم وأنفع من زكا الزرع إذا نما فيكون إشارة إلى استحقاق الثواب {وَأَطْهَرُ} من أدناس الآثام وأوضار الذنوب والمفضل عليه محذوف للعلم أي : من العضل {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما فيه من النفع والصلاح والتفصيل {وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} لقصور علمكم فإن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على سبيل الإجمال إلا أن التفصيل غير معلوم له وأما الله تعالى فإنه العالم بتفاصيل الحكم في كل ما أمر به ونهى عنه وبينه لعباده :
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه نهان ويدا بنزدش يكيست
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون وذلك كما أن الوالد يحمي ولده عن بعض الأطعمة صوناً له عن انحراف مزاجه فذلك محض إصلاح له لما أنه يعلم ما لا يعلمه فقد وعظنا الله تعالى في الكتاب بكل ما هو خير وصواب ونهانا عن كل ما يؤدي إلى هلاك وتباب ولكن سماع النصيحة لا يتيسر إلا لأولي الألباب كما قال الإمام الغزالي قدس سره العالي : النصيحة سهل والمشكل قبولها لأنها من مذاق متبع الهوى مرُّ ؛ إذ المناهي محبوبة في قلوبهم فالواعظ إنما ينفع المؤمن الحقيقي وهو ما وصفه الله في كتابه فقال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال : 2) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : السعيد من وعظ بغيره ومثالكم في استماعكم ما قيل أن رجلاً اصطاد طيراً فقال له : لا تذبحني فأي فائدة لك بل خلني وأعلمك ثلاث حكم تنفعك كلها : الأولى : لا تترك الفائدة المعلومة بالمظنونة ، والثانية : لا تصدق الشيء المستحيل ، والثالثة : لا تمدن يدك إلى ما لم تبلغه فلما خلاه وطار قال : إن في حوصلتي جوهرة كبيرة لو استخرجتها لفزت فأخذ يدنو منه والطير يتباعد عنه فقال : يا أحمق ما أسرع ما نسيت الحكم تركت الفائدة المعلومة بالمظنونة حيث خليتني والآن تمد يدك إلى ما لم تنل وصدقتني في المستحيل فإن حوصلتي لا تسع إلا حبة أو حبتين فكيف يحتمل فيه الجوهرة الكبيرة فكذلك أنتم
362
في استماعكم.
(1/297)
ـ روي ـ أن شقيق البلخي قدس سره : كان تاجراً في أول أمره يتجر في بلاد النصارى فقال له أمير النصارى في أي : مدة تجيء وتذهب؟ فقال : أجيء في ثلاثة أشهر وأشتري السلع في ثلاثة وأذهب في ثلاثة وأبيع السلع في ثلاثة فقال الملك : فهذه الشهور السنة فما تعبد ربك فتأثر قلبه من هذا الكلام فقام عن التجارة واشتغل بالعبادة فإن كان التوفيق رفيق عبد لا يزال يقطع المسافات وإن مسه الآفات إلى أن يصل إلى المقصود وإذا وكل إلى نفسه لا يفيده ملام ولا يؤثر فيه كلام.
ومن النصائح التي نصح بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمته قوله عليه الصلاة والسلام : "علامة إعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وإن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار" وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم ، قال السعدي قدس سره :
بكوى آنه داني سخن سودمند
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
وكر هي كس رانيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ راحق نكردم بكوش
اللهم اجعلنا من المتعظين بمواعظ كلمك.
{وَالْوَالِدَاتُ} أي : جميع الوالدات مطلقات كنّ أو مزوجات لأن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه.
{يُرْضِعْنَ} خبر في معنى الأمر أي : ليرضعن والرضع مص الثدي للبن {أَوْلَـادَهُنَّ} جمع ولد وهو المولود ذكراً كان أو أنثى ومعنى الأمر الندب ووجه الندب في تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان وإن شفقة الأم أتم من شفقة غيرها ثم إن حكم الندب إنما هو على تقدير أن لا يضطر الولد إلى لبن أمه أما إذا بلغ حالة اضطرار بأن لا يوجد غير الأم أو لا يرضع الطفل إلا منها أو عجز الوالد عن الاستئجار فحينئذٍ يجب عليها الإرضاع عند ذلك كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام.
واعلم أن حق الإرضاع لهن إلى أن يتزوجن بغير آباء الأولاد إن كانت مطلقات لأنهن يشتغلن بخدمة الأزواج فلا يتفرغن لحضانتهم على الوجه الأليق ولأن الربيب يتضرر بالراب فإنه ينظر إليه شزراً وينفق عليه نزراً {حَوْلَيْنِ} سنتين أصله من حال الشيء يحول إذا انقلب والحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني {كَامِلَيْنِ} تامين أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه فيقال أقمت عند فلان حولين بمكان كذا وإنما أقام فيه حولاً وبعض الحول {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} بيان للذي توجه إليه حكم الإرضاع كأنه قيل هذا الحكم لمن؟ فقيل لمن أراد أن يتم الرضاعة ومن يحتمل أن يراد بها الوالدات فقط أو هن والآباء معاً.
واعلم أن مدة الرضاع عند أبي حنيفة : حولان ونصف وعندهما حولان فقط استدلالاً بهذه الآية ولا يباح إرضاع بعد هذا الوقت المخصوص على الخلاف لأن إباحته ضرورية لأنه جزء الآدمي فيتقدر بقدر الضرورة.
وقال أبو حنيفة : هذه الآية محمولة على مدة استحقاق الأجرة فإن الإجماع على أن مدة الرضاع في استحقاق أجر الرضاع على الأب مقدرة بحولين حتى أن الأب لا يجبر على إعطاء أجرة بعد الحولين قال تعالى {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ} (البقرة : 233) الآية ولو حرم الرضاع بعد الحولين لم يكن لقوله : {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} (البقرة : 233).
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
فائدة : فالرضاع الذي ثبت به الحرمة هو ما يكون في ثلاثين شهراً عنده ولا يحرم ما يكون بعدها وعندهما هو ما يكون في الحولين ولا يحرم ما يكون بعد الحولين وهو مذهب الشافعي
363
أيضاً ثم إن إتمام الحولين غير مشروط عند أبي حنيفة للآية أي : لأن في قوله تعالى : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} دلالة على جواز النقص ولو أرادت التكميل لها مطالبة النفقة وإذا نقصت من غير إضرار لا تجبر على الكمال يعني : إذا فطم قبل مضي العدة واستغنى بالطعام لم تكن رضاعاً وإن لم يستغن يثبت به الحرمة وهو رواية عن أبي حنيفة وعليه الفتوى ذكره الزيلعي ثم إنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله والوالدات إلخ وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تتقوى على رعاية مصلحة الطفل فأمره بأن يرزقها ويكسوها بالمعروف سواء كان ذلك المعروف محدوداً بشرط وعقد أم لا وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف لأنه إذا قام بما يكفيها من طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة فقال : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي : وعلى الذي يولد له وهو الوالد وإنما لم يقل على الوالد ليعلم أن الأولاد للآباء لأن الزوجة إنما تلد الولد للزوج ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات.
ـ روي ـ أن المأمون بن الرشيد لما طلب الخلافة عابه بن علي فقال : بلغني أنك تريد الخلافة وكيف تصلح لها وأنت ابن أمة؟ فقال : كان إسماعيل عليه السلام ابن أمة ، وإسحاق ابن حرة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم صلى الله عليه وسلّم وأنشد :
لا تزرين بفتى من أن يكون له
أم من الروم أو سوداء دعجاء
(1/298)