وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
{ واستغفر الله } مما هممت به تعويلا على شهادتهم
قال ابن الشيخ ولما صدر عنه عليه السلام الهم بذلك الحكم الذى لو وقع لكان خطأ فى نفسه امر الله تعالى اياه عليه السلام بان يستغفر لهذا العذر وان كان معذورا فيه عند الله بناء على ان حسنات الابرار سيآت المقربين { ان الله كان غفورا رحيما } مبالغا فى المغفرة والرحمة لمن يستغفر(3/80)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } الاختيان والخيانة معنى اى يخونونها بالمعصية وانما قال يختانون انفسهم وان كانوا ما خانوا انفسهم لان مضرة خيانتهم راجعة اليهم كما يقال فيمن ظلم غيره ما ظلم الا نفسه كذا فى تفسير الحدادى والمراد بالموصول اما طعمة وامثاله واما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فانهم شركاء له فى الاثم والخيانة { ان الله لا يحب } عدم المحبة كناية عن البغض والسخط { من كان خوانا } مفرطا فى الخيانة مصرا عليها { أثيما } منهمكا فيها اطلق على طعمة لفظ المبالغة الدال على تكرر الفعل منه مع ان الصادر منه خيانة واحدة واثم واحد لكون طبعه الخبيث مائلا الى تكثير كل واحد من الفعلين . وقد روى انه هرب الى مكة وارتد ونقب حائطا بها ليسرق متاع اهله فسقط الحائط عليه فقتله قيل اذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم ان لها اخوات
وعن عمر رضى الله عنه انه امر بقطع يد سارق فجاءت امه تبكى وتقول هذه اول سرقة سرقها فاعف عنه فقال كذبت ان الله لا يؤاخذ عبده فى اول مرة(3/81)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{ يستخفون من الناس } يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم { ولا يستخفون من الله } اى لا يستحيون منه سبحانه وهو احق بان يستحيى منه ويخاف من عقابه { وهو معهم } عالم بهم وباحوالهم فلا طريق الى الاستخفاء منه سوى ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه { اذ } ظرف منصوب بالعامل فى الظرف الواقع خبرا وهو معهم { يبيتون } يدبرون ويزورون { ما لا يرضى } الله { من القول } من رمى البريىء والحلف الكاذب وشهادة الزور فان طعمة قال ارمى اليهودى بانه سارق الدرع واحلف انى لم اسرقها فتقبل يمينى لانى على دينهم ولا تقبل يمين اليهودى وقال قوم طعمة من الانصار نشهد زورا لندفع شين السرقة وعقوبتها عمن هو واحد منه { وكان الله بما تعملون } من الاعمال الظاهرة والخافية { محيطا } لا يفوت عنه شىء(3/82)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
{ ها أنتم } مبتدأ { هؤلاء } خبره والهاء فى اول كل منهما للتنبيه والجملة التى بعد هذه الجملة مبينة لوقوع اولاء خبرا كما تقول لبعض الاسخياء انت حاتم تجود بمالك وتؤثر على نفسك والخطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب انهم كانوا فى الظاهر من المسلمين { جادلتم عنهم فى الحيوة الدنيا } المجادلة اشد المخاصمة والمعنى هبوا انكم خاصمتم عن طعمة وعن قومه فى الدنيا { فمن يجادل الله عنهم يوم القيمة } فمن يخاصم عنهم فى الآخرة اذا اخذهم الله بعذابه { أم من يكون عليهم وكيلا } حافظا وحاميا من بأس الله وانتقامه
وفى التأويلات النجمية وكيلا يتكلم بوكالتهم يوم لا تملك نفس لنفس شيأ والامر يومئذ لله قال السعدى قدس سره
دران روز كز فعل برسند وقول ... اولوا العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا ... تو عذر كنه را جه دارى بيا
فعلى العبد ان يتوب قبل الموت من كل معصية توبة نصوحا ويتدارك ما فرط من تقصيره فى فرائض الله ويرد المظالم الى اهلها حبة حبة ويستحل كل من تعرض له بلسانه شتما او قذفا او استهزاء او غيبة ويده ضربا وسوء ظنه بقلبه ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة فما اشد فرحك اليوم بتمضمضك باعراض الناس وتناولك اموالهم وما اشد حسرتك فى ذلك اليوم اذا وقف بك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السيآت وانت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على ان ترد حقا او تظهر عذرا فكيف بك يا مسكين فى يوم ترى فيه صحيفتك خالية عن حسنات طال فيها تعبك فتقول أين حسناتى فيقال نقلت الى صحيفة خصمائك فتوهن نسك يا اخى اذا تطايرت الكتب ونصبت الموازين وقد نوديت باسمك على رؤس الخلائق أين فلان ابن فلان هلم الى العرض على الله وقد وكلت الملائكة باخذك فقربتك الى الله لا يمنعها اشتباه الاسماء باسمك اذا عرفت انك المراد بالدعاء اذا فزع النداء قلبك فعلمت انك المطوب فارتعدت فرائضك واضطربت جوارحك وتغير لونك وطار قلبك تخطى بك الصفوف الى ربك للعرض عليه والوقوف بين يديه وقد رفع الخلائق اليك أبصارهم وانت فى ايديهم وقد طار قلبك واشتد رعبك لعلمك اين يراد بك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة الى الجنة حتى اذا دنوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا الى قصورها والى ما اعد الله تعالى لاهلها ثم نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الاولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو ادخلتنا النار قبل ان ترينا ما أريتنا من ثواب ما اعددت لاوليائك فيقول الله تعالى ذاك اردت بكم كنتم اذا خلوتم بى بارزتمونى بالعظائم فاذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ترون الناس خلاف ما ينطوى عليه قلوبكم هبتم الناس ولم تهابونى اجللتم الناس ولم تجلونى تركتم للناس ولم تتركوا لى »(3/83)
يعنى لاجل الناس « فاليوم اذيقكم اليم عقابى مع ما حرمتكم » يعنى من جزيل ثوابى قال تعالى { يخادعون الله وهو خادعهم } كذا فى تنبيه الغافلين فاذا عرفت هذا فاجتهد فى ان لا تكون من الذين لا يستخفون من الله واجعل خيانتك امانة واثمك طاعة وظلمك عدلا وتزويرك صدقا محضا واستغفر الله فان الاستغفار دواء الاوزار وبه ينفتح باب الملكوت الى الله الملك الغفار(3/84)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
{ ومن يعمل سوأ } عملا قبيحا متعديا يسوء به غيره ويخزيه كما فعل طعمة بقتادة واليهودى { او يظلم نفسه } بما يختص به كالحلف الكاذب وقيل السوء ما دون الشرك والظلم الشرك لان الشرك ظلم عظيم . وقيل هما الصغيرة والكبيرة { ثم يستغفر الله } بالتوبة الصادقة وشرطت التوبة لان الاستغفار لا يكون توبة بالاجماع ما لم يقل معه تبت واسأت ولا اعود اليه ابدا فاغفر لى يا رب كما فى تفسير الحدادى { يجد الله غفورا } لذنوبه كائنة ما كانت { رحيما } متفضلا عليه وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه فى التوبة والاستغفار لما ان مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة
وعن على رضى الله عنه قال حدثنى ابو بكر وصدق ابو بكر رضى الله عنه قال ( ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلى ركعتين ويستغفر الله الا غفر الله له وتلا هذه الآية ومن يعمل سوأ الخ )
اى كه بى حد كناه كردستى ... مى نترسى ازان فعال شنيع
توبه كن تا رضاى حق يابى ... كه به ازتوبه نيست هيج شفيع(3/85)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
{ ومن يكسب اثما } من الآثام { فانما يكسبه على نفسه } بحيث لا يتعدى ضرره ووباله الى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذاب عاجلا وآجلا
وفى التأويلات النجمية { فانما يكسبه على نفسه } فان رين الاثم يظهر فى الحال فى صفاء مرآة قلبه يعميه عن رؤية الحق ويصمه عن سماع الحق كما قال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } { وكان الله عليما حكيما } فهو عالم بفعله حكيم فى مجازاته(3/86)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{ ومن يكسب خطيئة } صغيرة او ما لا عمد فيه من الذنوب { او اثما } كبيرة او ما كان عن عمد { ثم يرم به } اى يقذف باحد المذكورين ويسب به { بريئا } اى مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل طعمة بزيد اليهودى { فقد احتمل } اى بما فعل من تحميل جريرته على البرى { بهتانا } لا يقادر قدره { واثما مبينا } اى بينا فاحشا لانه بكسب الاسم آثم وبرمى البريئ باهت فهو جامع بين الامرين وسمى رمى البريئ بهتانا لكون البريئ متحيرا عند سماعه لعظمه فى الكذب يقال بهت الرجل بالكسر اذا دهش وتحير ويقال بهته بهتانا اذا قال عنه ما لم يقله او نسب اليه ما لم يفعله روى عنه عليه السلام انه قال « الغيبة ذكرك اخاك بما يكره » فقيل أفرأيت ان كان فى اخى ما اقول قال « ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته وان لم يكن فيه فقد بهته »
وفى التأويلات النجمية { فقد احتمل } صاحب النفس { بهتاناؤ ابهت القلوب عن العبودية والطاعة { واثما مبينا } بما اثمت به نفسه من المعاصى واثم بها قلبه فيكون بمنزلة من جعل اللب وهو القلب جلدا وهو النفس وهذا من اكبر الشقاوة فلا ينقطع عنه العذاب اذا صار كل وجوده جلودا فيكون من جملة الذين قال الله تعالى فيهم { سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } لانهم بدلوا الالباب بالجلود ههنا انتهى
واعلم ان الاستغفار فرار العبد من الخلق الى الخالق ومن الانانية الى الهوية الذاتية وذلك عند صدق الطالب ومن طلبه وجده كما قال ( ألا من طلبنى وجدنى ) قال موسى عليه السلام أين اجدك يا ربى قال ( يا موسى اذا قصدت الىّ فقد وصلت الىّ ) فلا بد من الاستغفار مطلقا : ويقال . سلطان بلا عدل كنهر بلا ماء . وعالم بلا عمل كبيت بلا سقف . وغنى بلا سخاوة كسحاب بلا مطر . وشاب بلا توبة كشجر بلا ثمر . وفقير بلا صبر كقنديل بلا ضوء . وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح
وتهذيب الاخلاق قبل الموت من سنن الاخيار والعمل الصالح قرين الرجل كما ان السوء كذلك
ناكهان بانك درسراى افتاد ... كه فلانرا محل وعده رسيد
دوستان آمدند تالب كور ... قدمى جند وبازبس كرديد
وين كز ودسترس نميد آرى ... مال وملك وقباله برده كليد
وين كه بيوسته باتوخواهدبود ... عمل تست ونفس باك وبليد
نيك درياب وبدمكن زنهار ... كه بدونيك باز خواهى ديد
حكى ان الشيخ وفا المدفون بقسطنطنية فى حريم جامعه الشريف اهدى اليه ثمانون الف درهم من قبل السلطان بايزيد الثانى ليعقد عقد النكاح لبعض بناته فقال لا افعل ولو اعطيت الدنيا وما فيها قيل ولم قال لان لى اورادا الى الضحى لا انفك عنها ساعة وانام من الضحى الى الظهر لا اترك منه ساعة واما بعد الظهر فانتم لا ترضونه لان النهار يكون فى الانتقاص وهكذا يكون طالب الحق فى ليله ونهاره فان الدنيا فانية فالحى الباقى هو الله تعالى فلا بد من طلبه(3/87)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{ ولولا فضل الله عليك ورحمته } بالعصمة { لهمت طائفة منهم } اى من بنى ظفر وهم الذابون عن طعمة { ان يضلوك } اى بان يضلوك عن القضاء بالحق بتلبيسهم عليك مع علمهم بان الجانى هو صاحبهم وليس القصد فيه الى نفى همهم بل الى نفى تأثيره { وما يضلون الا انفسهم } لان وباله عليهم { وما يضرونك من شىء } محل الجار والمجرور النصب على المصدرية اى وما يضرونك شيأ من الضرر لان الله عاصمك وما خطر ببالك كان اعتمادا منك على ظاهر الامر لا ميلا فى الحكم { وانزل الله عليك الكتاب } اى القرآن { والحكمة } اى ما فى القرآن من الاحكام وعرفك الحلال والحرام { وعلمك } بالوحى من الغيب وخفيات الامور { ما لم تكن تعلم } ذلك الى وقت التعليم { وكان فضل الله عليك عظيما } اذ لا فضل اعظم من النبوة العامة والرياسة التامة ومن ذلك الفضل العظيم عصمته وتعليمه ما لم يعلم
قال الحدادى فى تفسيره وفى هذه الآيات دلالة على انه لا يجوز لاحد ان يخاصم لغيره فى اثبات حق او نفيه وهو غير عالم بحقيقة امره وانه لا يجوز للحاكم الميل الى احد الخصمين وان كان احدهما مسلما والآخر كافرا وان وجود السرقة فى يدى انسان لا يوجب الحكم بها عليه انتهى
واعلم ان هذه الآية جامعة لفضائل كثيرة . منها بيان ان وبال الشر يعود على صاحبه كما ان منفعة الخير تعود على فاعله : قال الصائب
اول بظالمان اثر ظلم ميرسد ... بيش از هدف هميشه كمان ناله ميكند
حكى ان الله تعالى ايبس يد رجل يذبح عجل بقرة بين يدى امه ثم ردها برد فرخ سقط من وكره الى امه يقال ثلاثة لا يفلحون بائع البشر وقاطع الشجر وذابح البقر وحكى ان امرأة وضعت لقمة فى فم سائل ثم ذهبت الى مزرعة فوضعت ولدها فى موضع فاخذه الذئب فقالت يا رب ولدى فاخذ آت عنق الذئب واستخرج ولدها من غير اذى ثم قال هذه اللقمة لتلك اللقمة التى وضعتها فى فم السائل فكل يرى اثر صنعه فى الدنيا ايضا . ومنها ان العلم والحكمة من اعظم الفضائل والمراد العلم النافع المقرب الى الله تعالى اعاذنا الله مما لم ينفع منه على ما قال عليه الصلاة والسلام فى دعائه « واعوذ بك من علم لا ينفع » فان العلم النافع لا ينقطع مدده فى الآخرة ايضا على ما روى مسلم عن ابى هريرة رضى الله عنه اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له . ومنها ان لا يرى العبد الفضائل والخيرات من نفسه بل من فضل الله ورحمته وليس للعبد ان يزكى نفسه فان الانفس ليست بمحل التزكية فمن استحسن من نفسه شيأ فقط اسقط من باطنه انوار اليقين والكامل لا يرى لنفسه قدرا فكيف لعمله وكل ما يعمله العبد من بدايته الى نهايته لا يقابل لنعمة الوجود حكى عن شاه شعاع الكرمانى انه كان جالسا فى مسجد فقام فقير وسأل الناس فلم يعطوه شيأ فقال الكرمانى من يشترى حج خمسين سنة بمن من الخبر .(3/88)
فيعطى هذا الفقير وكان هناك فقيه فقال ايها الشيخ قد استحففت بالشريعة فقال الكرمانى لا ارى لنفسى قيمة فكيف ارى علملى وليس المراد التعطيل عن العمل بل يعملون جميع الحسنات ولا يرون لها قدرا بل يرون التوفيق لها من فضل الله تعالى : قال السعدى قدس سره
كراز حق توفيق خيرى رسد ... كه از بنده خيرى بغيرى رسد
جورويى بخدمت نهى بر زمين ... خدارا ثنا كوى وخودرا مبين
والاشارة فى الآية ان فضل الله موهبة من مواهب الحق يؤتيه من يشاء وليس لأحد فيه مدخل بالكسب والاستجلاب وبذلك يهدى العبد للايمان ويوفقه للعمل الصالح والعظيم فى قوله { وكان فضل الله عليك عظيما } هو الله تعالى اى ان الله العظيم هو فضل الله عليك ورحمته كما انك فضل الله ورحمته على العالمين ولهذا قال ( لولاك لما خلقت الافلاك ) ومن فضل الله عليه انه لم يضله شىء من الروحانيات والجسمانيات عن طريق الوصول اللهم احفظنا من الموانع فى طريق الوصول اليك آفاقية او انفسية والحقنا بفضلك بالنفوس القدسية(3/89)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{ لا خير فى كثير من نجواهم } اى فى كثير من تناجى الناس وهو فى اللغة سر بين اثنين وذهب الزجاج الى ان النجوى ما تفرد به الجماعة او الاثنان سرا كان او ظاهرا
قال مجاهد هذه الاية عامة فى حق جميع الناس غير مختصة بقوم طعمة وان نزلت فى تناجى قوم السارق لتخليصه { الا من امر } اى الا فى نجوى من امر على انه مجرور بدل من كثير كما تقول لا خير فى قيامهم الا قيام زيد { بصدقة او معروف } المعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل فينتظم اصناف الجميل وفنون اعمال البر وقد فسر هنا بالقرض واغاثة الملهوف وصدقة التطوع على ان المراد بالصدقة الصدقة الواجبة قال صلى الله عليه وسلم « كل معروف صدقة » واول اهل الجنة دخولا اهل المعروف وصنائع المعروف تقى مصارع السوء
تونيكى كن بآب انداز اى شاه ... اكر ما هى نداند داند الله
وفى الحديث « عمل ابن آدم كله عليه لا له الا ما كان من امر بمعروف او نهى عن منكر او ذكر الله » { او اصلاح بين الناس } عند وقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير انه يجاوز فى ذلك حدود الشرع الشريف وفى الحديث « ألا اخبركم بافضل درجة من الصلاة والصدقة » قالوا بلى يا رسول الله قال « اصلاح ذات البين » وفساد ذات البين هى الحالقة فلا اقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين
وعن ابى ايوب الانصارى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له « ألا ادلك على صدقة خير لك من حمر النعم » قال بلى يا رسول الله قال « صلح بين الناس اذا تفاسدوا وتقرب بينهم اذا تباعدوا » قالوا ولعل السر فى افراد هذه الاقسام الثلاثة بالذكر ان عمل الخير المتعدى الى الناس اما لايصال المنفعة او لدفع المضرة والمنفعة . اما جسمانية كاعطاء المال واليه الاشارة بقوله عز وجل { الا من امر بصدقة } . واما روحانية واليه الاشارة بقوله { او معروف } . واما دفع الضرر فقد اشير اليه بقوله { أو اصلاح بين الناس } { ومن يفعل ذلك } اشارة الى الامور المذكورة اعنى الصدقة والمعروف والاصلاح فانه يشار به الى متعدد وانما بنى الكلام على الامر حيث قال اولا الا من امر فهو كلام فى حق الآمر بالفعل ورتب الجزاء على الفعل حيث قال ومن يفعل فهو كلام فى حق الفاعل وكان المناسب للاول ان يبين حكم الآمر ويقول ومن يأمر بذلك ليدل على انه لما دخل الآمر فى زمرة الخيرين كان الفاعل ادخل فيهم وان العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الامر من حيث انه وصلة اليه .(3/90)
ففيه تحريض الآمر بالامور المذكورة على فعلها { ابتغاء مرضاة الله } اى طلب رضى الله تعالى علة للفعل والتقييد به لان الاعمال بالنيات وان من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به غير الحرمان : قال السعدى
كرت بيخ اخلاص در بوم نيست ... ازين دركسى جون تو محروم نيست
زعمرو اى بسر جشم اجرت مدار ... جو در خانه زيد باشى بكار
{ فسوف نؤتيه اجرا عظيما } يقصر عنه الوصف ويستحقر دونه ما فات من اعراض الدنيا { ومن يشاقق الرسول } يخالفه من الشق فان كلا من المتخالفين فى شق غير شق الآخر { من بعد ما تبين له الهدىؤ ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته { ويتبع غير سبيل المؤمنين } اى غير ما هم مستمرون عليه من اعتقاد وعمل وهو الدين القيم { نوله ما تولى } اى نجعله واليا لما تولاه من الضلال ونخذله بان نخلى بينه وبين ما اختار { ونصله جهنم } اى ندخله فيها { وساءت مصيرا } اى جهنم روى ان طعمة عاند حكم الله وخالف رسول الله خوفا من فضاحة قطع اليد فهرب الى مكة واتبع دين اهلها ومات كافرا فعلى العاقل ان لا يخالف الجماعة وهم المؤمنون فان الشاة الخارجة عن القطيع يأكلها الذئب وسبيل المؤمنين هو السبيل الحق الموصل الى الجنة والقربة والوصلة واللقاء
والاشارة انه { لا خير فى كثير من نجواهم } اى الذين يتناجون من النفس والشيطان والهوى لانهم شرار ولا فيما يتناجون به لانهم يأمرون بالسوء والفحشاء والمنكر ثم استثنى وقال { الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس } اى الا فيمن امر بهذه الخيرات فان فيه الخير وهو الله تعالى فانه يأمر بالخيرات بالوحى عموما او يأمر بالخاطر الرحمانى والالهام الربانى خواص عباده فالخاطر يكون بواسطة الملك وبغير الواسطة كما قال عليه السلام « ان للملك لمة وان للشيطان لمة فلمة الملك ايعاد بالخير ولمة الشيطان ايعاد بالشر » والالهام ما يكون من الله تعالى بغير الواسطة وهو على ضربين . ضرب منه ما لا شعور به للعبد انه من الله . وضرب منه ما يكون باشارة صريحة يعلم العبد انه آت من الله تعالى لتعليم نور الالهام وتعريفه لا يحتاج الى معرفة آخر انه من الله تعالى وهذا يكون للولى وغير الولى كما قال بعض المشايخ حدثنى قلبى عن ربى وقال عليه السلام « ان الحق لينطق على لسان عمر » وقال « كادت فراسته ان تسبق الوحى » ثم قال { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله } اى ومن يفعل بما الهمه الله طلبا لمرضاته { فسوف نؤتيه اجرا عظيما } ذكر بفاء التعقيب قوله فسوف يعنى عقيب الفعل نؤتيه اجرا وهو جذبة العناية التى تجذبه عنه وتوصله الى العظيم ثم قال { ومن يشاقق الرسول } اى يخالف الالهام الربانى الذى هو رسول الحق اليه { من بعد ما تبين له الهدى } بتعريف الالهام ونوره { ويتبع غير سبيل المؤمنين } الموقنين بالالهام بان يتبع الهوى وتسويل النفس وسبيل الشيطان { نوله ما تولى } اى نكله بالخذلان الى ما تولى { ونصله } بسلاسل معاملاته التى تولى بها الى { جهنم } سفليات الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية { وساءت مصيرا } اى ما صار اليه من عبادة الهوى واتباع النفس والشيطان واشراكهم بالله فى المطاوعة كذا فى التأويلات النجمية(3/91)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
{ ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } يقال جاء شيخ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال انى شيخ منهمك فى الذنوب الا انى لم اشرك بالله شيأ منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم اوقع المعاصى جراءة وما توقعت طرفة عين انى اعجز الله هربا وانى لنادم تائب فما ترى حالتى عند الله فنزلت هذه الآية . فالشرك غير مغفور الا بالتوبة عنه وما سواه مغفور سواء حصلت التوبة او لم تحصل لكن لا لكل احد بل لمن يشاء الله مغفرته { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } عن الحق فان الشرك اعظم انواع الضلالة وابعدها عن الصواب والاستقامة
قال الحدادى اى فقد ذهب عن الصواب والهدى ذهابا بعيدا وحرم الخير كله . والفائدة فى قوله { بعيدا } ان الذهاب عن الجنة على مراتب ابعدها الشرك بالله تعالى انتهى . فالشرك اقبح الرذائل كما ان التوحيد احسن الحسنات . والسيآت على وجوه كاكل الحرام وشرب الخمر والغيبة ونحوها لكن اسوء الكل الشرك بالله ولذلك لا يغفر وهو جلى وخفى حفظنا الله منهما . وكذا الحسنات على وجوه ويجمعها العمل الصالح وهو ما اريد به وجه الله واحسن الكل التوحيد لانه اساس جميع الحسنات وقامع السيآت ولذلك لا يوزن قال عليه السلام « كل حسنة يعملها ابن آدم توزن يوم القيامة الا شهادة ان لا اله الا الله فانها لا توضع فى ميزانه » لانها لو وضعت فى ميزان من قالها صادقا ووضعت السموات والارضون السبع وما فيهن كان لا اله الا الله ارجح من ذلك ثم ان الله تعالى بين كون ضلالهم ضلالا بعيدا فقال(3/92)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{ ان } بمعنى ما النافية { يدعون } اى المشركون وهو بمعنى يعبدون لان من عبد شيأ فانه يدعوه عند احتياجه اليه { من دونه } الضمير راجع الى الله تعالى { الا اناثا } جمع انثى والمراد الاوثان وسميت اصنامهم اناثا لانهم كانوا يصورونها بصورة الاناث ويلبسونها انواع الحلل التى تتزين بها النساء ويسمونها غالبا باسماء المؤنثات نحو اللات والعزى ومناة والشىء قد يسمى انثى لتأنيث اسمه او لانها كانت جمادات لا ارواح فيها والجماد يدعى انثى تشبيها له بها من حيث انه منفعل غير فاعل ولعله تعالى ذكره بهذا الاسم تنبيها على انهم يعبدون ما يسمونه اناثا لانه ينفعل ولا يفعل ومن حق المعبود ان يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهى جهلهم وفرط حماقتهم وقيل المراد الملائكة فان من المشركين من يعبد الملائكة ويقول الملائكة بنات الله تعالى قال تعالى { ان الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى } مع اعترافهم بان اناث كل شىء اخسه وارذله { وان يدعون } اى وما يعبدون بعبادة الاصنام { الا شيطانا مريدا } لانه الذى امرهم بعبادتها واغراهم عليها وكان طاعته فى ذلك عبادة له . قيل كان فى كل واحد من تلك الاوثان شيطان يتراءى للسدنة والكهنة يكلمهم
وقال الزجاج المراد بالشيطان ههنا ابليس بشهادة قوله تعالى بعد هذه الآية { لاتخذن } وهو قول ابليس ولا يبعد ان الذى يتراءى للسدنة هو ابليس والمريد هو الذى لا يعلق بخير . فقيل من مرد اى تجرد للشر وتعرى من الخير يقال شجرة مرداء اى لا ورق عليها وغلام امرد اذا لم يكن على وجهه شعر(3/93)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
{ لعنه الله } صفة ثانية للشيطان اى ابعده من رحمته الى عقابه بالحكم له بالخلود فى جهنم ويسقط بهذا قول من قال كيف يصح ان يقال لعنه الله وهو فى الدنيا لا يخلو من نعمة تصل اليه ويسقط بهذا قول من قال كيف يصح ان يقال لعنه الله وهو فى الدنيا لا يخلو من نعمة تصل اليه من الله تعالى فى كل حال لانه لا يعتد بتلك النعمة مع الحكم له بالخلود فى النار { وقال } عطف عليه اى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن الدال على فرط عداوته للناس فان الواو الواقعة بين الصفات انما تفيد مجرد الجمعية { لأتخذن } هذه اللام واللامات الآتية كلها للقسم { من عبادك نصيبا مفروضا } اى مقطوعا واجبا قدّر لى وفرض وهو اى النصيب المفروض لابليس كل من اطاعه فيما زين له من المعاصى
قال الحسن من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعون كما فى حديث المشارق « يقول الله تعالى » اى فى يوم الموقف « يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير فى يديك فيقول اخرج بعث النار » يعنى ميز اهلها والبعث بمعنى المبعوث « قال وما بعث النار » ما هنا بمعنى كم العددية ولذا اجيب عنها بالعدد « قال » اى الله تعالى « من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعون » قال النبى عليه السلام « فذلك التقاول حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها » كنايتان عن شدة اهوال يوم القيامة « وترى الناس سكارى » اى من الخوف « وما هم بسكارى » اى من الخمر « ولكن عذاب الله شديد » قال اى الراوى واشتد ذلك عليهم فقالوا يا رسول الله اينا ذلك الرجل الباقى من الالف فقال « ابشروا فان من يأجوج ومأجوج الفا ومنكم رجلا » والخطاب للصحابة وغيرهم من المؤمنين ثم قال « والذى نفسى بيده انى لأرجو ان تكونوا ربع اهل الجنة » قال الراوى فحمدنا الله وكبرنا ثم قال « والذى نفسى بيده انى لأرجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة » فحمدنا الله وكبرنا ثم قال « والذى نفسى بيده انى لارجو ان تكونوا شطر اهل الجنة » وترقى عليه السلام فى حديث آخر من النصف الى الثلثين وقال « ان اهل الجنة مائة وعشرون صنفا وهذه الامة منها ثمانون ان مثلكم فى الامم » اى الكفرة « كمثل الشعرة البيضاء فى جلد الثور الاسود » فلا يستبعد دخول كل المؤمنين الجنة
فان قيل كيف علم ابليس انه يتخذ من عباد الله نصيبا
قيل فيه اجوبة . منها ان الله تعالى لما خاطبه بقوله { لأن جهنم من الجنة والناس اجمعين } علم ابليس انه ينال من ذرية آدم ما يتمناه . ومنها انه لما وسوس لآدم فنال منه طمع فى ذريته . ومنها ان ابليس لما عاين الجنة والنار علم ان لها سكانا من الناس(3/94)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{ ولأضلنهم } عن الحق واضلاله وسواس ودعاء الى الباطل ولو كان اليه شىء من الضلالة سوى الدعاء اليها لأضل جميع الخلق ولكنه لما قال عليه السلام فى حقه « خلق ابليس مزينا وليس اليه من الضلالة شىء » يعنى انه يزين للناس الباطل وركوب الشهوات ولا يخلق لهم الضلالة { ولأمنينهم } الامانى الباطلة بان يخيل للانسان ادراك ما يتمناه من المال وطول العمر . وقيل يمنى الانسان اى يوهمه انه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا عقاب ولا حساب . وقيل بان يوهمه انه ينال فى الآخرة حظا وافرا من فضل الله ورحمته { ولآمرنهم } بالبتك اى القطع والشق { فليبتكن آذان الانعام } اى فليقطعنها بموجب امرى ويشقنها من غير تلعثم فى ذلك ولا تأخير يقال بتكه اى قطعه ونقل الى بناء التفعيل اى التبتيك للتكثير
واجمع المفسرون على ان المراد به ههنا قطع آذان البحائر والسوائب والانعام الابل والبقر والغنم اى لاحملنهم على ان يقطعوا آذان هذه الاشياء ويحرموها على انفسهم بجعلها للاصنام وتسميتها بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا وكان اهل الجاهلية اذا انتجت ناقة احدهم خمسة ابطن وكان آخرها ذكرا بحروا اذنها وامتنعوا من ركوبها وحلبها وذبحها ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى واذا لقيها المعيى لم يركبها وقيل كانوا يفعلون ذلك بها اذا ولدت سبعة ابطن والسائبة المخلاة تذهب حيث شاءت وكان الرجل منهم يقول ان شفيت فناقتى سائبة او يقول ان قدم غائبى من السفر او ان وصلت الى وطنى او ان ولدت امرأتى ذكرا او نحو ذلك فناقتى سائبة كالبحيرة وكذا من كثر ماله يسيب واحدة منها تكرّما وكانت لا ينتفع بشىء منها ولا تمنع عن ماء ومرعى الى ان تموت فيشترك فى اكلها الرجال والنساء . والوصيلة هى من الغنم اذا ولدت سبعة ابطن فان كان الولد السابع ذكرا ذبحوه لآلتهم وكان لحمه للرجال دون النسان وان كان انثى كانوا يستعملونها وكانت بمنزلة سائر الغنم وان كان ذكرا وانثى قالوا ان الاخت وصلت اخاها فلا يذبحون اخاها من اجلها وجرى مجرى السائبة وكانت المنفعة للرجال دون النساء فهى فعيلة بمعنى فاعلة والحامى هو البعير الذى ولد ولد ولده وقيل هو الفحل من الابل اذا ركب ولد ولده قالوا له انه قد حمى ظهره فيهمل ولا يركب ولا يمنع عن الماء والمرعى واذا مات يأكله الرجال والنساء { ولآمرنهم } بالتغيير { فليغيرن خلق الله } عن نهجه صورة وصفة
ويندرج فيه امور منها فقىء عين الحامى وكانت العرب اذا بلغت ابل احدهم الفا عوّروا عين فحلها والحامى الفحل الذى طال مكثه عندهم
ومنها خصاء العبيد وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا لكن الفقهاء رخصوا فى خصاء البهائم لمكان الحاجة ومنعوه فى بنى آدم وعند ابى حنيفة يكره شراء الحصيان واستخدامهم لان الرغبة فيهم تدعو الى خصائهم
قال فى نصاب الاحتساب قرأت فى بعض الكتب ان معاوية دخل على النساء ومعه خصى مجبوب فنفرت منه امرأة فقال معاوية انما هو بمنزلة امرأة فقال أترى ان المثلة فيه قد احلت ما حرم الله من النظر فتعجب من فطنتها وفقهها
ومنها الوشم وهو ان يغرز الجلد بابرة ثم يخشى بكحل او بنيلنج وهو دخان الشحم يعالج به الوشم حتى يخضر
قال بعض اصحاب الشافعى وجبت ازالته ان امكن بالعلاج والا فالبجرح ان لم يخف فوت عضو
ومنها الوشر وهو ان تحدد المرأة اسنانها وترققها تشبها بالشواب
ومنها التنمص وهو نتف شعور الوجه يقال تنمصت المرأة اذا تزينت بنتف شعر وجهها وحاجبها والنامصة المرأة التى تزين النساء بالمنمص والمنمص والمنماص المنقاش وقد لعن النبى عليه السلام النامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة .(3/95)
والواصلة هى التى تصل شعر غيرها بنفسها . والمستوصلة هى التى تأمر غيرها بان توصل ذلك الى شعرها
قال ابن الملك الواصلة هى التى تصل الشعر بشعر آخر زورا . والمستوصلة هى التى تطلبه والرجل والمرأة سواء فى ذلك هذا اذا كان المتصل شعر الآدمى لكرامته فلا يباح الانتفاع بشىء من اجزائه اما غيره فلا بأس بوصله . فيجوز اتخاذ النساء القراميل من الوبر . وقيل فيه تفصيل ان لم يكن لها زوج فهو حرام ايضا وان كان فان فعلته باذن الزوج او السيد يجوز والا فلا ثم انها ان فعلت ذلك بصغيرة تأثم فاعلته ولا تأثم المفعولة لانها غير مكلفة . ويدخل فى التنمص نتف شعر العانة فان السنة خلق العانة ونتف الابط
ومنها السحق وهو لكونه عبارة عن تشبه الانثى بالذكور من قبيل تغيير خلق الله عن وجهه صفة وفى الحديث المرفوع « سحاق النساء زنى بينهن » وكذا التخنث لما فيه من تشبه الذكر بالانثى وهو اظهار اللين فى الاعضاء والتكسر فى اللسان
ومنها اللواطة لما فيها من اقامة ما خلق لدفع الفضلات مقام موضع الحراثة والنظر الى صبيح الوجه بالشهوة حرام ومجالسته حرام لانه عورة من القرن الى القدم وجاء فى بعض الروايات ( ان مع كل امرأة شيطانين ومع كل غلام ثمانية عشر شيطانا )
ومنها عبادة الشمس والقمر والكواكب والحجارة فان عبادتها وان لم تكن تغييرا لصورها لكنها تغيير لصفتها فان شيأ منها لم يخلق لان يعبد من دون الله وانما خلق لينتفع به العباد على الوجه الذى لا خلق لاجله وكذا الكفر بالله وعصيانه فانه ايضا تغيير خلق الله من وجهه صفة فانه تعالى فطر الخلق على استعداد التحلى بحلية الايمان والطاعة ومن كفر بالله وعصاه فقد ابطل ذلك الاستعداد وغير فطرة الله صفة ويؤيده قوله عليه السلام(3/96)
« كل مولود يولد على فطرة الاسلام فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » وكذا استعمال الجوارح فى غير ما خلقت لاجله تغيير لها عن وجهها صفة
والجمل الاربع وهى لأتخذن ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم كل واحدة منها مقول للشيطان فلا يخلو اما ان يقولها بلسان جسمه او بلسان فعله وحاله { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله } بايثار ما يدعو اليه على ما امره الله به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى الى طاعته { فقد خسر خسرانا مبينا } لانه ضيع رأس ماله بالكلية وبدل مكانه من الجنة بمكانه من النار(3/97)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
{ يعدهم } ما لا ينجزه من طول العمر والعافية ونيل لذائذ الدنيا من الجاه والمال وقضاء شهوات النفس { ويمنيهم } ما لا ينالون نحو ان لا بعث ولا حساب ولا جزاء او نيل المثوبات الاخروية من غير عمل { وما يعدهم الشيطان الا غرورا } وهو اظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد اما بالقاء الخواطر الفاسدة او بألسنة اوليائه . وغرورا اما مفعول ثان للوعد او مفعول لاجله اى ما يعدهم لشىء الا لان يغرهم
واعلم ان العمدة فى اغواء الشيطان ان يزين زخارف الدنيا ويلقى الامانى فى قلب الانسان مثل ان يلقى فى قلبه انه سيطول عمره وينال من الدنيا امله ومقصوده ويستولى على اعدائه ويحصل له ما تيسر لارباب المناصب والاموال وكل ذلك غرور لانه ربما لا يطول عمره وان طال فربما لا ينال امله ومطلوبه وان طال عمره ووجد مطلوبه على احسن الوجوه فلا بد ان يفارقه بالموت فيقع فى اعظم انواع الغم والحسرة فان تعلق القلب بالمحبوب كلما كان اشد واقوى كانت مفارقته اعظم تأثيرا فى حصول الغم والحسرة ولذلك قيل
الفت مكير همجو الف هيج باكسى ... تابشنوى الم نشوى وقت انقطاع
فنبه سبحانه وتعالى على ان الشيطان انما يعد ويمنى لاجل ان يغر الانسان ويخدعه ويفوت عنه اعز المطالب وانفع المآرب
فالعاقل من لا يتبع وسواس الشيطان ويبتغى رضى الرحمن بالتمسك بكتابه العظيم وسنن رسوله الكريم والعمل بهما ليفوز فوزا عظيما وكفى بذلك نصيحة(3/98)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{ اولئك } اشارة الى اولياء الشيطان وهو مبتدأ { مأواهم } اى مستقرهم وهو مبتدأ ثان { جهنم } خبر للثانى والجملة خبر للاول { ولا يجدون عنها محيصا } اى معدلا ومهربا من حاص يحيص اذا عدل وعنها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا اى كائنا عنها ولا يجوز ان يتعلق بيجدون لانه لا يتعدى بعن ولا بقوله محيصا لانه اما اسم مكان وهو لا يعمل مطلقا واما مصدر ومعمول المصدر لا يتقدم عليه
والاشارة ان الله خلق الجنة وخلق لها اهلا وهم السعداء وخلق النار وخلق لها اهلا وهم الاشقياء وخلق الشيطان مزينا وداعيا وآمرا بالهوى فمن يرى حقيقة الاضلال ومشيئته من ابليس فهو ابليس وقد قال تعالى { يضل من يشاء ويهدى من يشاء } والنصيب المفروض من العباد هم طائفة خلقهم الله تعالى اهل النار كقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس } وهم اتباع الشيطان ههنا وقد لعن الله الشيطان وابعده عن الحضرة اذ كان سبب ضلالتهم كما قال عليه السلام « الدنيا ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله تعالى وما والاه » وانما لعن الله الدنيا وابغضها لانها كانت سببا للضلالة وكذلك الشيطان ولا يغتر بوعد الشيطان الا الضال البعيد الازلى ولذا تولد منه الشرك المقدر بمشيئة الله الازلية
واما من خلقه الله اهلا للجنة فقد غفر له قبل ان خلقه ومن غفر له فانه لا يشرك بالله شيأ وعن ابن عباس رضى الله عنهما لما نزل قوله تعالى { ورحمتى وسعت كل شىء } تطاول ابليس وقال انا شىء من الاشياء فلما نزل { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة } يئس ابليس وتطاولت اليهود والنصارى ثم لما نزل قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبى الامى } يئس اليهود والنصارى وبقيت الرحمة للمؤمنين خاصة فهم خلقوا للرحمة ودخلوا الجنة بالرحمة ولهم الخلود فى الرحمة وبقى العذاب للشيطان واتباعه من الانس والجن ولهم الخلود فى النار كما قال الله تعالى { ولا يجدون عنها محيصا } لانهم خلقوا لها فلا بد من الدخول فيها : قال الحافظ
بير ما كفت خطا برقلم صنع نرفت ... آفرين بر نظر باك خطا بوشش باد
فافهم تفز ان شاء الله تعالى(3/99)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } صلاح الاعمال فى اخلاصها فالعمل الصالح هو ما اريد به وجه الله تعالى وينتظم جميع انواعه من الصلاة والزكاة وغيرهما { سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار } اى انهار الماء واللبن والخمر والعسل { خالدين فيها ابدا } اى مقيمين فى الجنة الى الابد فنصب ابدا على الظرفية وهو لاستغراق المستقبل
قال الحدادى انما ذكر الطاعة مع الايمان وجمع بينهما فقال آمنوا وعملوا الصالحات لتيتبين بطلان توهم من يتوهم انه لا تضر المعصية والاخلال بالطاعة مع الايمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وليتبين استحقاق الثواب على كل واحد من الامرين { وعد الله حقا } اى وعد الله لهم هذا وعدا وحق ذلك حقا فالاول مؤكد لنفسه لانه مضمون الجملة الاسمية التى قبل وعد لان الوعد عبارة عن الاخبار بايصال المنفعة قبل وقوعها والثانى مؤكد لغيره لان الخبر من حيث انه خبر يحمل الصدق والكذب { ومن اصدق من الله قيلا } استفهام انكارى اى ليس احد اصدق من الله قولا ووعدا وانه تعالى اصدق من كل قائل فوعده اولى بالقبول ووعد الشيطان تخييل محض ممتنع الوصول . وقيلا نصب على التمييز والقيل والقال مصدران كالقول(3/100)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
{ ليس بامانيكم } جمع امنية بالفارسية « آرزوكردن » { ولا امانى اهل الكتاب } اى ليس ما وعد الله من الثواب يحصل بامانيكم ايها المسلمون ولا بامانى اهل الكتاب وانما يحصل بالايمان والعمل الصالح . وامانى المسلمين ان يغفر لهم جميع ذنوبهم من الصغائر والكبائر ولا يؤاخذوا بسوء بعد الايمان . وامانى اهل الكتاب ان لا يعذبهم الله ولا يدخلهم النار الا اياما معدودة لقولهم { نحن ابناء الله واحباؤه } فلا يعذبنا
وعن الحسن ليس الايمان بالتمنى ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل ان قوما الهتهم امانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله وكذبوا لو احسنوا الظن بالله لاحسنوا العمل
قال بعضهم الرجاء ما قارنه عمل والا فهو امنية والامنية منية اى موت اذ هى موجبة لتعطيل فوائد الحياة : قال السعدى
قيامت كه بازار نيهو نهند منازل باعمال نيكونهند
بضاعت بجندانكه آرى برى اكر مفلسى شرمسارى برى
كسى راكه حسن عمل بيشتر بدركاه حق منزلت بيشتر
ثم انه تعالى اكد حكم الجملة الماضية وقال { من يعمل سوأ } عملا قبيحا { يجز به } عاجلا او آجلا لما روى انه لما نزلت قال ابو بكر رضى الله عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال عليه السلام « اما تحزن اما تمرض اما يصيبك اللاواء » قال بلى يا رسول الله قال « هو ذلك » قال ابو هريرة رضى الله عنه لما نزل قوله تعالى { من يعمل سوأ يجز به } بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله ما ابقت هذه الآية من شىء قال « اما والذى نفسى بيده لكما انزلت ولكن يسروا وقاربوا وسددوا » اى اقصدوا السداد اى الصواب « ولا تفرطوا فتجهدوا انفسكم فى العبادة لئلا يفضى ذلك بكم الى الملال فتتركوا العمل » كذا فى المقاصد الحسنة { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } اى ولا يجد لنفسه اذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره فى دفع العذاب عنه { ومن يعمل من الصالحات } من للتبعيض اى بعضها وشيأ منها فان كل احد لا يتمكن من كلها وليس مكلفا بها وانما يعمل منها ما هو تكليفه وفى وسعه وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة وتقسط عنه الصلاة فى بعض الاحوال { من ذكر او انثى } فى موضع الحال من المستكن فى يعمل ومن للبيان { وهو مؤمن } حال شرط اقتران العمل بها فى استدعاء الثواب المذكور لانه لا اعتداد بالعمل بدون الايمان فيه { فاولئك } المؤمنون العاملون { يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } اى لا ينقصون مما استحقوه من جزاء اعمالهم مقدار النقير وهى النقرة اى الحفرة التى فى ظهر النواة ومنها تنبت النخلة وهو علم فى القلة والحقارة واذا لم ينقص ثواب المطيع فالبحرى ان لا يزاد عقاب العاصى لان المجازى ارحم الراحمين وفى الحديث(3/101)
« ان الله وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزى بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده اعشاره » اى سيآته على حسناته
قال النيسابورى حكمة تضعيف الحسنات لئلا يفلس العبد اذا اجتمع الخصماء فى طاعته فيدفع اليهم واحدة ويبقى له تسع فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من اصل حسناته لان التضعيف فضل من الله تعالى واصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة
وقد ذكر الامام البيهقى فى كتاب البعث فقال ان التضعيفات فضل من الله تعالى لا تتعلق بها العباد كما لا تتعلق بالصوم بل يدخرها الحق للعبد فضلا منه سبحانه فاذا دخل الجنة اثابه بها : قال السعدى قدس سره
نكوكارى ازمردم نيك رأى ... يكى رابده مى نويسد خداى
جوانا ره طاعت امروز كير ... كه فردا جوانى نيايد زبير
ره خير بازست وطاعت وليك ... نه هر كس تواناست بر فعل نيك
همه برك بودن همى ساختى ... بتدبير رفتن نبرداختى
واعلم ان جميع الاعمال الصالحة يزيد فى نور الايمان فعليك بالطاعات والحسنات والوصول الى المعارف الآلهية فان العلم بالله افضل الاعمال ولذلك لما قيل يا رسول الله أى الاعمال افضل قال « العلم بالله » فقيل الاعمال نريد قال « العلم بالله » فقيل نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال « ان قليل العمل ينفع مع العلم وان كثير العمل لا ينفع مع الجهل » وذلك انما يحصل بتصفية الباطن مع صيقل التوحيد وانواع الاذكار ولا يعقلها الا العالمون
والاشارة { ليس بامانيكم } يعنى بامى عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون ان يغفر الله لهم والله تعالى يقول { وانى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا } { ولا امانى اهل الكتاب } يعنى العلماء السوء الذين يغرون الخلق بالرجاء المذموم ويقطعون عليهم طريق الطلب والجد والاجتهاد { من يعمل سوأ يجز به } فى الحال باظهار الرين على مرآة قلبه بعد الذنب كما قال عليه السلام « اذا اذنب عبد ذنبا نكت فى قلبه نكتة سوداء فان تاب ورجع منه صقل » { ولا يجد له من دون الله وليا } يخرجه من ظلمات المعصية الى نور الطاعة بالتوبة { ولا نصيرا } سوى الله ينصره بالظفر على النفس الامارة فيزكيها عن صفاتها وعلى الشيطان فيدفع شره وكيده { ومن يعمل من الصالحات } اى الخالصات { من ذكر او انثى } يشير بالذكر الى القلب وبالانثى الى النفس { وهو مؤمن } مخلص فى تلك الاعمال { فاولئك يدخلون الجنة } المعنى ان القلب اذا عمل بما وجب عليه من التوجه الى العالم العلوى والاعراض عن العالم السفلى وغض البصر عن سوى الحق يستوجب دخول جنة القربة والوصلة والنفس اذا عملت بما وجب عليها من الانتهاء عن هواها وترك حظوظها واداء حقوق الله تعالى فى العبودية واطمأنت بها تستحق الرجوع الى ربها والدخول فى جنة عالم الارواح كما قال تعالى(3/102)
{ يا ايتها النفس المطمئنة ارجعى الى ربك راضية مرضية } { ولا يظلمون نقيرا } فيما قدر لهم الله من الاعمال الصالحات ولا من الدرجات والقربات فليس من تمنى نعمته من غير ان يتعنى فى خدمته كمن تعنى فى خدمته من غير ان يتمنى نعمته وان بينهما بونا بعيدا من اعلى مراتب القرب الى اسفل سافلين البعد كذا فى التأويلات النجمية(3/103)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{ ومن } استفهام انكارى { احسن دينا } الدين والملة متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار فان الشريعة من حيث انها يطاع لها دين ومن حيث انها تملى وتكتب ملة والاملال بمعنى الاملاء { ممن اسلم وجهه لله } اى جعل نفسه وذاته سالمة خالصة لله تعالى بان لم يجعل لاحد حقا فيها لا من جهة الخالقية والمالكية ولا من جهة العبودية والتعظيم . وقوله دينا نصب على التمييز من احسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه احسن من دين من اسلم الخ فالتفضيل فى الحقيقة جار بين الدينين لا بين صاحبيهما { وهو محسن } الجملة حال من فاعل اسلم اى والحال انه آت بالحسنات تارك للسيآت وقد فسره النبى عليه السلام بقوله « ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك » والاحسان حقيقة الايمان
واعلم ان دين الاسلام مبنى على امرين الاعتقاد والعمل فالله سبحانه اشار الى الاول بقوله { اسلم وجهه لله } والى الثانى بقوله { وهو محسن } اى فى الانقياد لربه بان يكون آتيا بجميع ما كلفه به على وجه الاجلال والخشوع { واتبع ملة ابراهيم } الموافقة لدين الاسلام المتفق على صحتها وقبولها بين الاديان كلها بخلاف ملة موسى وعيسى وغيرهما من الانبياء عليهم السلام { حنيفا } حال من فاعل اتبع اى مائلا عن الاديان الزائغة ثم ان الله تعالى رغب فى اتباع ملته فقال { واتخذ الله ابراهيم خليلا } اى اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله والخلة من الخلال فانه ودّ تخلل النفس وخالطها(3/104)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
{ ولله ما فى السموات وما فى الارض } كأنه قيل لم خص الله تعالى ابراهيم عليه السلام بالخلة وله عباد مكرمون فاجاب بان جميع ما فى السموات وما فى الارض من الموجودات له تعالى خلقا وملكا يختار منها ما يشاء ومن يشاء { وكان الله بكل شىء محيطا } احاطة علم وقدرة فكل واحد من علمه وقدرته محيط بجميع ما يكون داخلا فيهما وما يكون خارجا عنهما ومغايرا لهما مما لا نهاية له من الصدورات الخارجة عن هذه السموات والارضين روى ان ابراهيم عليه السلام بعث الى خليل له بمصر فى ازمة اصابت الناس يمتار منه فقال خليله لو كان ابراهيم يريد لنفسه لفعلت ولكن يريد للاضياف وقد اصابنا ما اصاب الناس فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملأوا منها الغرائر حياء من الناس فلما اخبروا ابراهيم ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام فقامت سارة الى غرارة منها فاخرجت حوارى واختبزت فاستيقظ ابراهيم فاشتم رائحة الخبز فقال من اين هذا لكم فقالت من خليلك المصرى فقال بل من عند خليلى الله عز وجل فسماه الله خليلا
وفى الخبر تعجب الملائكة من كثرة ماله وخدمه وكان له خمسة آلاف قطيع من الغنم وعليها كلاب المواشى باطواق الذهب فتمثل له ملك فى صورة البشر وهو ينظر اغنامه فى البيداء فقال الملك سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح فقال ابراهيم عليه السلام كرر ذكر ربى ولك نصف ما ترى من اموالى فكرر الملك فنادى ثانيا كرر تسبيح ربى ولك جميع ما ترى من مالى فتعجب الملائكة فقالوا جدير ان يتخذك الله خليلا فعلى هذا انما سمى الخليل خليلا على لسان الملائكة
قال القاضى فى الشفاء الخلة هنا اقوى من النبوة لان النبوة قد يكون فيها العداوة كما قال تعالى { ان من ازواجكم واولادكم عدوا لكم } ولا يصح ان تكون عداوة مع خلة ومن شرط الخلة استسلام العبد فى عموم احواله لله بالله وان لا يدخر شيأ مع الله لا من ماله وجسده ولا من نفسه ولا من روحه وخلده ولا من اهله وولده وهكذا كان حال ابراهيم عليه السلام
جانكه نه قربانىء جانان بود ... جيفه تن بهترازان جان بود
هركه نه شد كشته بشمشير دوست ... لاشه مردار به ازجان اوست
ومن شرط المحبة فناء المحب فى المحبة وبقاؤه فى المحبوب حتى لم تبق المحبة من المحب الا الحبيبْ وهذا حال محمد صلى الله عليه وسلم
قيل لمجنون بنى عامر ما اسمك قال ليلى
قال شيخى وسندى ومن هو بمنزلة روحى فى جسدى فى كتاب اللائحات البرقيات ان الخلة والمحبة الآلهية الاحدية تجلت لنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بحقيقتها ولابراهيم عليه السلام بصورتها ولغيرهما بخصوصياتها الجزئيات بحسب قابلياتهم ونبينا عليهم السلام فى مقام الخلة والمحبة بمنزلة المرتبة الاحدية الذاتية وابراهيم عليه الصلاة والسلام بمنزلة المرتبة الواحدية الصفاتية وغيرهما بمنزلة المرتبة الواحدية الافعالية والى هذه المقامات والمراتب اشارة فى البسملة على هذا الترتيب ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خليل الله وحبيبه بالفعل وابراهيم عليه السلام خليل الرحمن وحبيبه بالفعل وغيرهما من الانبياء اخلاء الرحيم واحباؤه بالفعل انتهى كلام الشيخ العلامة ابقاه الله بالسلامة(3/105)
واعلم انه عليه السلام قال « ان الله اتخذنى خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت ابا بكر خليلا » يعنى لو جاز لى ان اتخذ صديقا من الخلق يقف على سرى لاتخذت ابا بكر خليلا ولكن لا يطلع على سرى الا الله ووجه تخصيصه بذلك ان ابا بكر رضى الله عنه كان اقرب بسر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما روى انه عليه السلام قال « ان ابا بكر لم يفضل عليكم بصوم ولا صلاة ولكن بشىء كتب فى قلبه » وانفهم من عدم اتخاذه عليه السلام احدا خليلا انفصاله عما سوى الله تعالى فكل الكائنات متصل به وهو غير متصل بشىء اصلا سوى الله سبحانه وتعالى اللهم ارزقنا شفاعته : قال الشيخ السعدى فى نعته الشريف
شبى برنسشت ازفلك در كذشت ... بتمكين جاه از ملك در كذشت
جنان كرم درتيه قربت براند ... كه درسدره جبريل ازوبازماند
فهذا انفصاله عن العلويات والسفليات ووصوله الى حضرة الذات(3/106)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{ ويستفتونك } اى يطلبون منك الفتوى واشتقاق الفتوى من الفتى وهو الشاب القوى الحدث لانها جواب فى حادثة واحداث حكم او تقوية لبيان مشكل { فى } حق توريث { النساء } اذ سبب نزولها ان عيينة بن حصين اتى النبى عليه السلام فقال اخبرنا انك تعطى الابنة النصف والاخت النصف وانما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال عليه السلام « كذلك امرت » { قل الله يفتيكم فيهن } يبين لكم حكمه فى حقهن والافتاء تبيين المبهم وتوضيح المشكل { وما يتلى عليكم فى الكتاب } عطف على اسم الله اى يفتيكم الله وكلامه فيكون الافتاء مسندا الى الله والى ما فى القرآن من قوله { يوصيكم الله فى اولادكم } فى اوائل هذه السورة ونحوه والفعل الواحد ينسب الى فاعلين بالاعتبارين كما يقال اغنانى زيد وعطاؤه فان المسند اليه فى الحقيقة شىء واحد وهو المعطوف عليه الا انه عطف عليه شىء من احواله للدلالة على ان الفعل انما قام بذلك الفاعل باعتبار اتصافه بتلك الحال { فى } شأن { يتامى النساء } متعلق بيتلى كما ان فى الكتاب متعلق به ايضا والاضافة بمعنى من لانها اضافة الشىء الى جنسه { اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن } اى فرض لهن من الميراث وغيره { وترغبون } عطف على لا تؤتونهن عطف جملة مثبتة على جملة منفية { ان تنكحوهن } اى فى نكاحهن لجمالهن ومالهن وترغبون عن نكاحهن اى تعرضون لقبحهن وفقرهن فان كانت اليتيمة جميلة موسرة رغب وليها فى تزوجها والا رغب عنها وما يتلى فى حقوقهن قوله تعالى { وآتوا اليتامى اموالهم } وقوله تعالى { ولا تأكلوها } ونحوها من النصوص الدالة على عدم التعرض لاموالهم { و } فى { المستضعفين من الولدان } عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء وانما يورثون الرجال القوامين بالامور { و } فى { ان تقوموا لليتامى } فى اموالهم وحقوقهم { بالقسط } اى العدل وهو ايضا عطف على يتامى النساء وما يتلى فى حقهم قوله تعالى { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب . ولا تأكلوا اموالهم الى اموالكم } ونحو ذلك { وما } شرطية { تفعلوا من خير } على الاطلاق سواء كان فى حقوق المذكورين او غيرهم { فان الله كان به عليما } فيجازيكم بحسبه
فعلى العاقل ان يطيع الله تعالى فيما امر ولا يأكل مال الغير بل يجتهد فى ان ينفق ما قدر عليه على اليتامى والمساكين
قال حاتم الاصم من ادعى ثلاثا بغير ثلاث فهو كذاب . من ادعى حب الجنة من غير انفاق ماله فهو كذاب . ومن ادعى محبة الله من غير ورع عن محارم الله فهو كذاب . ومن ادعى محبة النبى عليه السلام من غير محبة الفقراء فهو كذاب وفى قوله تعالى { وما تفعلوا } حث على فعل الخير وترغيب حكى ان امرأة جاءت الى حانوت ابى حنيفة تريد شراء ثوب فاخرج ابو حنيفة ثوبا جديدا قيمته اربعمائة درهم فقالت المرأة انى امرأة ضعيفة ولى بنت اريد تسليمها الى زوجها فبعنى هذا الثوب بما يقوم عليك فقال ابو حنيفة خذيه باربعة دراهم فقالت المرأة لم تسخر بى فقال ابو حنيفة معاذ الله ان اكون من الساخرين ولكنى كنت اشتريت ثوبين فبعت احدهما برأس المال الذى نقدت فى الثوبين الا اربعة دراهم فبقى هذا على باربعة دراهم فاخذت المرأة الثوب باربعة دراهم ورجعت مستبشرة فرحة : قال السعدى قدس سره(3/107)
بكير اى جوان دست درويش بير ... نه خودرا بيكفن كه دستم بكير
كسى نيك بودى بهر دو سراى ... كه نيكى رساند بخلق خداى
واعلم ان النفس بمثابة المرأة لزوج الروح فكما اوجب الله على الرجال من الحقوق للنساء فكذلك اوجب على العبد الطالب الصادق من الحقوق للنفس كما قال عليه السلام لعبد الله ابن عمر حين جاهد نفسه بالليل بالقيام وبالنهار بالصيام « ان لنفسك عليك حقا فصم وافطر وقم ونم » والرياضة الشديدة تقطع عن السير قال عليه السلام « ان هذا الدين مبين فاوغلوا فيه برفق » يريد لا تحملوا على انفسكم ولا تكلفوها ما لا تطيق فتعجز فتترك الدين والعمل
اسب تزى دوتك همى ماند ... شترآهسته ميرود شب وروزى
وكان النبى عليه الصلاة والصيام يتوسط فى اعطاء نفسه حقها ويعدل فيها غاية العدل فيصوم ويفطر ويقوم وينام وينكح النساء ويأكل فى بعض الاحيان ما يجد كالحلوى والعسل والدجاج وتارة يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع
فيا ايها الغافل تنبه لرحيلك ومسراك واحذر ان تسكن الى موافقة هواك انتقل الى الصلاح قبل ان تنقل وحاسب نفسك على ما تقول وتفعل فان الله سبحانه بكل شىء عليم وبكل شىء محيط فاياك من الافراط والتفريط(3/108)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{ وان امرأة خافت من بعلها } امرأة فاعل فعل يفسره الظاهر اى ان خافت امرأة خافت وتوقعت من زوجها { نشوزا } تجافيا عنها وترفعا من صحبتها كراهة لها ومنعا لحقوقها من النشز وهو ما ارتفع من الارض فنشوز كل واحد من الزوجين كراهته صاحبه وترفعه عليه لعدم رضاه به { او اعراضا } بان يقل مجالستها ومحادثتها وذلك لبعض الاسباب من طعن فى سن او دمامة او شين فى خلق او خلق او ملال او طموح عين الى اخرى او غير ذلك
قال الامام المراد بالنشوز اظهار الخشونة فى القول او الفعل او فيهما والمراد بالاعراض السكوت عن الخير والشر والمراعاة والايذاء روى ان الآية نزلت فى خويلة ابنة محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهى شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت اليه ذلك { فلا جناح عليهما } حينئذ { ان يصلحا بينهما صلحا } اى فى ان يصلحا بينهما اصلاحا بان تحط له المهر او بعضه او القسم كما فعلت سودة رضى الله عنها حين اراد عليه السلام ان يطلقها ان يمسكها وتجعل نوبتها لعائشة رضى الله عنها لما عرفت مكان عائشة من قلبه عليه السلام فاجازه النبى عليه السلام ولم يطلقها وكان عليه السلام بعد هذا الصلح يقسم لعائشة يومها ويوم سودة
قال الحدادى مثل هذا الصلح لا يقع لازما لانها اذا ابت بعد ذلك الا المقاسمة على السواء كان لها ذلك { والصلح } الواقع بين الزوجين { خير } اى من الفرقة او من سوء العشرة او من الخصومة . فاللام للعهد ويجوز ان لا يراد به التفضيل بل بيان انه خير من الخيور كما ان الخصومة شر من الشرور فاللام للجنس
قال السيوطى فى حسن المحاضرة فى احوال مصر والقاهرة ان شئت ان تصير من الابدال فحول خلقك الى بعض خلق الاطفال ففيهم خمس خصال لو كانت فى الكبار لكانوا ابدالا لا يهتمون للرزق ولا يشكون من خالقهم اذا مرضوا ويأكلون الطعام مجتمعين واذا خافوا جرت عيونهم بالدموع واذا تخاصموا لم يتجاوزوا وتسارعوا الى الصلح ونعم ما قيل
ابلهست آنكه فعل اوست لجاج ... ابلهى را كجا علاج بود
تاتوانى لجاج بيشه مكير ... كافت دوستى لجاج بود
{ واحضرت الانفس الشح } اى جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه ابدا فلا المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يجود بحسن المعاشرة مع دمامتها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجالستها واصل الكلام احضر الله الانفس الشح فلما بنى للمفعول اقيم مفعوله الاول مقام الفاعل والشح البخل مع حرص فهو اخص من البخل(3/109)
وعن عبد الله بن وهب عن الليث قال بلغنى ان ابليس لقى نوحا فقال له ابليس يا نوح اتق الحسد والشح فانى حسدت آدم فخرجت من الجنة وشح آدم على شجرة واحدة منعها حتى خرج من الجنة
ولقى يحيى بن زكريا عليهما السلام ابليس فى صورته فقال له اخبرنى باحب الناس اليك وابغض الناس اليك قال احب الناس الىّ المؤمن البخيل وابغضهم الىّ الفاسق السخى قال يحيى وكيف ذلك قال لان البخيل قد كفانى بخله والفاسق السخى اتخوف ان يطلع الله عليه فى سخائه فيقبله ثم ولى وهو يقول لولا انك يحيى لم اخبرك كذا فى آكام المرجانه { وان تحسنوا } ايها الازواج بامساكهن بالمعروف وحسن المعاشرة مع عدم موافقتهن لطباعكم { وتتقوا } ظلمهن بالنشوز والاعراض ولم تضطروهن الى بذل شىء من حقوقهن { فان الله كان بما تعملون } من الاحسان والتقوى { خبيرا } عليما به وبالغرض فيه فيجازيكم ويثيبكم عليه البتة لاستحالة ان يضيع اجر المحسنين روى ان رجلا من بنى آدم كانت له امرأة من اجملهم فنظرت اليه يوما فقالت الحمد الله قال زوجها مالك فقالت حمدت الله على انى وانك من اهل الجنة لانك رزقت مثلى فشكرت ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله بالجنة للصابرين والشاكرين : قال السعدى قدس سره
جومستوره شدزن خوب روى ... بديدار او در بهشتست شوى
اكر بارسا باشد وخوش سخن ... نكه در نكويى وزشتى مكن(3/110)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{ ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء } اى محال ان تقدروا على ان تعدلوا وتسووا بينهن بحيث لا يقع ميل ما الى جانب احداهن فى شأن من الشؤون البتة ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول « اللهم هذا قسمى فيما املك فلا تؤاخذنى فيما تملك ولا املك » واراد به التسوية فى المحبة وكان له فرط محبة لعائشة رضى الله عنها { ولو حرصتم } اى على اقامة العدل وبالغتم فى ذلك { فلا تميلوا كل الميل } اى فلا تجوروا على المرأة المرغوب عنها كل الجور واعدلوا ما استطعتم فان عجزكم عن حقيقة العدل انما يصح عدم تكليفكم به لا بما دونه من المراتب الداخلة تحت استطاعتكم وما لا يدرك كله لا يترك كله وفى الحديث « استقيموا ولن تحصوا » اى لن تستطيعوا ان تستقيموا فى كل شىء حتى لا تميلوا { فتذروها } مجزوم عطف على الفعل قبله اى فلا تتركوا التى ملتم عنها حال كونها { كالمعلقة } وهى المرأة التى لا تكون ايما فتزوج ولا ذات بعل يحسن عشرتها كالشىء المعلق الذى لا يكون فى الارض ولا فى السماء وفى الحديث « من كانت له امرأتان فمال الى احداهما جاء يوم القيامة واحد شقيه مائل » وكان لمعاذ رضى الله عنه امرأتان فاذا كان عند احداهما لم يتوضأ فى بيت الاخرى فماتتا فى الطاعون فدفنهما فى قبر واحد { وان تصلحوا } ما كنتم تفسدون من امروهن { وتتقوا } الميل فيما يستقبل { فان الله كان غفورا } يغفر لكم ما مضى من ميلكم { رحيما } يتفضل عليكم برحمته(3/111)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
{ وان يتفرقا } اى وان يفارق كل واحد منهما صاحبه بان لم يتفق بينهما وفاق بوجه ما من الصلح او غيره { يغن الله كلا } منهما اى يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه مهماته { من سعته } من غناه وقدرته وفيه زجر لهما عن مفارقة احدهما رغما لصاحبه { وكان الله واسعا حكيما } اى مقتدرا متقنا فى افعاله واحكامه وله حكمة بالغة فيما يحكم من الفرقة يجعل لكل واحد منهما من يسكن اليه فيتسلى به عن الاول وتزول حرارة محبته عن قلبه وينكشف عنه هم عشقة فعلى المؤمن ترك حظ النفس والدور مع الامر الالهى فى جملة امروه واحكامة والعمل فى حق النساء بقوله تعالى { فامساك بمعروف او تسريح باحسان } والميل الى جانب العدل والاعراض عن طرف الظلم والاستحلال قبل ان يجيىء يوم لا بيع فيه ولا خلال
قال ابن مسعود رضى الله عنه يؤخذ بيد العبد او الامة فينصب على رؤوس الاولين والآخرين ثم ينادى مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت الى حقه فتفرح المرأة ان يكون لها الحق على ابنها او اخيها او على ابيها او على زوجها ثم قرأ ابن مسعود رضى الله عنه { فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساؤلون } فيقول الرب تعالى للعبد آت هؤلاء حقوقهم فيقول رب لست فى الدنيا فمن اين اوتيهم فيقول للملائكة خذوا من اعماله الصالحة فاعطوا كل انسان منهم بقدر طلبته فان كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خير ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ { ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجرا عظيما } وان كان عبدا شقيا قالت الملائكة رب فنيت حسناته وبقى الطالبون فيقول للملائكة خذوا من اعمالهم السيئة فاضيفوها الى سيآته وصكوا له صكا الى النار فلا بد من التوبة والاستغفار والرجوع الى الملك الغفار والمجاملة فى المعاملة مع الاخيار والاشرار ودفع الاذى عن اهل الانكار والاقرار حكى ان ابا منصور بن ذكير كان رجلا زاهدا صالحا فلما دنت وفاته اكثر البكاء فقيل له لم تبك عند الموت قال اسلك طريقا لم اسلكه قط فلما توفى رآه ابنه فى المنام فى الليلة الرابعة فقال يا ابت ما فعل الله بك فقال يا بنى ان الامر اصعب مما تعد اى تظن لقيت ملكا عادل اعدل العادلين ورأيت خصماء مناقشين فقال لى ربى يا ابا منصور قد عمرتك سبعين سنة فما معك اليوم فقلت يا ربى حججت ثلاثين حجة فقال الله تعالى لم اقبل منك فقلت يا رب تصدقت باربعين الف درهم بيدى فقال لم اقبل منك فقلت ستون سنة صمت نهارها وقمت ليلها فقال لم اقبل منك فقلت الهى غزوت اربعين غزوة فقال لم اقبل منك فقلت اذا قد هلكت فقال الله تعالى ليس من كرمى ان اعذب مثل هذا يا ابا منصور اما تذكر اليوم الفلانى نحيت الذرة عن الطريق كيلا يعثر بها مسلم فانى قد رحتمك بذلك فانى لا اضيع اجر المحسنين فظهر من هذه الحكاية ان دفع الاذى عن الطريق اذا كان سببا للرحمة والمغفرة فلأن يكون دفع الاذى عن الناس نافعا للدافع يوم الحشر خصوصا عدم الاذية للمؤمنين وخصوصا للاهل والعيال والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده اللهم اجعلنا من النافعين لا من الضارين آمين(3/112)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
{ ولله ما فى السموات وما فى الارض } اى من الموجودات كائنا ما كان من الخلائق ارزاقهم وغير ذلك
قال الشيخ نجم الدين قدس سره { لله ما فى السموات } من الدرجات العلى وجنات المأوى والفردوس الاعلى { وما فى الارض } من نعيم الدنيا وزينتها وزخارفها والله مستغن عنها وانما خلقها لعباده الصالحين كما قال تعالى { وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض } وخلق العباد لنفسه كما قال { واصطنعتك لنفسى } { ولقد وصينا الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } اى بالله قد امرناهم فى كتابهم وهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الامم . واللام فى الكتاب للجنس يتناول الكتب السماوية ومن متعلقة بوصينا او بأوتوا { واياكم } عطف على الذين اى وصيناكم يا امة محمد فى كتابكم { ان اتقوا الله } اى بان اتقوا الله فان مصدرية حذف منها حرف الجر اى امرناهم واياكم بالتقوى { و } قلنا لهم ولكم { ان تكفروا فان لله ما فى السموات وما فى الارض } اى فان الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم وانما وصاكم لرحمته لا لحاجته ثم قرر ذلك بقوله { وكان الله غنيا } اى عن الخلق وعبادتهم لا تعلق له بغيره تعالى لا فى ذاته ولا فى صفاته بل هو منزه عن العلاقة مع الاغيار { حميدا } محمودا فى ذاته حمدوه او لم يحمدوه
قال الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى والله تعالى هو الحميد لحمد لنفسه ازلا ولحمد عباده له ابدا ويرجع هذا الى صفات الجلال والعلو والكمال منسوبا الى ذكر الذاكرين له فان الحمد هو ذكر اوصاف الكمال من حيث هو كمال والحميد من العباد من حمدت عقائده واخلاقه واعماله كلها من غير مثنوية وذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم ومن يقرب منه من الانبياء ومن عداهم من الاولياء والعلماء كل واحد منهم حميد بقدر ما يحمد من عقائده واخلاقه واعماله واقواله(3/113)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
{ ولله ما فى السموات وما فى الارض } ذكره ثالثا للدلالة على كونه غنيا فان جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه وبما فاض عليها من الوجود وانواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا فلا تكرار فان كل واحد من هذه الالفاظ مقرون بفائدة جديدة { وكفى بالله وكيلا } فى تدبير امور الكل وكل الامور فلا بد من ان يتوكل عليه لا على احد سواه(3/114)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{ ان يشأ يذهبكم ايها الناس } اى يفنكم ويستأصلكم بالمرة { ويأت بآخرين } اى يوجد دفعة مكانكم قوما آخرين من البشر او خلقا آخرين مكان الانس ومفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء اى ان يشأ افناءكم وايجاد آخرين يذهبكم يعنى ان ابقاءكم على ما انتم عليه من العصيان انما هو لكمال غناه عن طاعتكم لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ففيه تهديد للعصاة { وكان الله على ذلك } اى افنائكم بالمرة وايجاد آخرين دفعة مكانكم { قديرا } بليغ القدر لا يعجزه مراد فاطيعوه فلا تعصوه واتقوا عقابه
والآية تدل على كمال قدرته وصبوريته حيث لا يؤاخذ العصاة على العجلة وفى الحديث « لا احد اصبر على اذى سمعه من الله انه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم » يعنى يقول بعض عباد الله وامائه ان له شريكا فى ملكه وينسب له ولدا ثم الله تعالى يعطيهم من انواع النعم من العافية والرزق وغيرهما فهذا كرمه ومعاملته مع من يؤذيه فما ظنك بمعاملته مع من يتحمل الاذى منه ويثنى عليه ثم ان تأخير العقوبة يتضمن لحكم منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر وفى الحديث « ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها »
قال الشيخ الكلاباذى بسط اليد كناية عن الجود يعنى يجود الله لمسيى الليل ولمسيىء النهار بالامهال ليتوب كما روى انه عليه السلام قال « صاحب اليمين امير على صاحب الشمال واذا عمل العبد حسنة كتب له عشر امثالها واذا عمل سيئة قال صاحب اليمين امسك فيمسك عنه سبع ساعات من النهار فان استغفر لم يكتب عليه وان لم يستغفر كتب سيئة واحدة » انتهى كلامه : قال الصائب
بر غفلت سياه دلان خنده ميزنند ... غافل مشو زخنده دندان نماى صبح
يقال من لم ينزجر بزواجر القرآن ولم يرغب فى الطاعات فهذا اشد قسوة من الحجارة واسوء حالا من الجمادات فان دعوة الله عباده بكتبه على لسان الانبياء لئلا يغتروا بزخارف الدنيا الدنية ويترقوا من حضيض الحظوظ النفسانية الى معارج الدرجات العلى ولقد وصاك الله تعالى بالتقوى فعليك بالاخذ بالوصية فان التقوى كنز عزيز فلئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف وخير كثير فانه جامع الخير كله
قال ابن عطاء للتقوى ظاهر وباطن فظاهرها حفظ حدود الشرع وباطنها الاخلاص فى النية وحقيقة التقوى الاعراض عن الدنيا والعقبى والاقبال والتوجه الى الحضرة العليا فمن وصل اليه فقد صار حرا عن رقية الكونين وعبد الله تعالى : قال الحافظ قدس سره
زير بارند درختان كه تعلق دارند ... اى خوشا سروكه ازبار غم آزاد آمد(3/115)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{ من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يريد بمجاهدته الغنيمة { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } اى فعنده تعالى ثوابهما له ان اراده فماله يطلب اخسهما فليطلبهما كمن يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة او ليطلب الاشرف منهما فان من جاهد خالصا لوجه الله تعالى لم تخطئه الغنيمة وله فى الآخرة ما هى فى جنبه كلا شىء اى فعند الله ثواب الدارين فيعطى كلا ما يريده كقوله تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } { وكان الله سميعا بصيرا } عالما بجميع المسموعات والمبصرات عارفا بالاغراض اى يعرف من كلامهم ما يدل على انهم ما يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ومن افعالهم ما يدل على انهم لا يسعون فى الجهاد الا عند توقع الفوز بالغنيمة
قال الحدادى فى الآية تهديد للمنافقين المرائين وفى الحديث « ان فى النار واديا تتعوذ منه جهنم كل يوم اربعمائة مرة اعد للقراء المرائين » قال السعدى قدس سره
نكو سيرتى بى تكلف برون ... به ازنيك نام خراب اندرون
هرآنكه افكند تخم برروى سنك ... جوى وقت دخلش نيايد بجنك
وعن النبى صلى الله عليه وسلم انه « لما خلق الله تعالى جنة عدن خلق فها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها تكلمى فقالت قد افلح المؤمنون ثلاثا ثم قالت انى حرام على كل بخيل مراء » فينبغى للمؤمن ان يحترز من الرياء ويسعى فى تحصيل الاخلاص فى العمل وهو ان لا يريد بعمله سوى الله تعالى
قال بعضهم دخلت على سهل ابن عبد الله يوم الجمعة قبل الصلاة فرأيت فى البيت حية فجعلت اقدّم رجلا واؤخر اخرى فقال سهل ادخل لا يبلغ احد حقيقة الاخلاص وعلى وجه الارض شىء يخافه ثم قال هل لك حاجة فى صلاة الجمعة فقلت بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة فاخذ بيدى فما كان قليلا حتى رأيت المسجد فدخلنا وصلينا الجمعة ثم خرجنا فوقف ينظر الى الناس وهم يخرجون فقال اهل لا اله الا الله كثير والمخلصون منهم قليل
عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبيمغز بوست
فالمخلص فى عمله لا يقبل عوضا ولو اعطى له الدنيا وما فيها حكاية [ آورده اندكه جوانمردى غلام خويش را كفت سخاوت آن نيست كه صدقه بكسى دهندكه اورابشناسند صد دينار بستان وببازار ببر واول درويشى كه بينى بوى ده غلام ببازار رفت بيرى ديدكه حلاق سراو مى تراشيد زر بوى داد بير كفت كه من نيت كرده ام كه هرجه مرا فتوح شود بوى دهم وحلاق را كفت بستان حلاق كفت من نيت كرده ام سراورا از براى خدا بتراشم اجر خود از حق تعالى بصد دينار نمى فروشم وهيج كس نستادند غلام باز كشت وزرباز آورد ] كذا فى انيس الوحدة وجليس الخلوة(3/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
{ يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مبالغين فى العدل واقامة القسط فى جميع الامور مجتهدين فى ذلك حق الاجتهاد { شهداء لله } بالحق تقيمون شهاداتكم بوجه الله تعالى كما امرتم باقامتها وهو خبر ثان { ولو } كانت الشهادة { على انفسكم } بان تقروا عليها لان الشهادة على النفس اقرار على ان الشهادة عبارة عن الاخبار بحق الغير سواء كان ذلك عليه او على ثالث او بان تكون الشهادة مستتبعة لضرر ينالكم من جهة المشهود عليه بان يكون سلطانا ظالما او غيره { او الوالدين والاقربين } اى ولو كانت على والديكم واقاربكم بان تقروا وتقولوا مثلا اشهد ان لفلان على والدى كذا او على اقاربى او بان تكون الشهادة وبالا عليهم على ما مر آنفا وفى هذا بيان ان شهادة الابن على الوالدين لا تكون عقوقا ولا يحل للابن الامتناع عن الشهادة على ابويه لان فى الشهادة عليهما بالحق منعا لهما من الظلم واما شهادته لهما وبالعكس فلا تقبل لان المنافع بين الاولاد والآباء متصلة ولهذا لا يجوز اداء الزكاة اليهم فتكون شهادة احدهما شهادة لنفسه او لتمكن التهمة { ان يكن } اى المشهود عليه { غنيا } يبتغى فى العادة رضاه ويتقى سخطه { او فقيرا } يترحم عليه غالبا وجواب الشرط محذوف لدلالة قوله تعالى { فالله اولى بهما } عليه اى فلا تمتنعوا عن اقامة الشهادة طلبا لرضى الغنى او ترحما على الفقير فان الله تعالى اولى بجنسى الغنى والفقير بالنظر لهما ولولا ان الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها وفى الحديث « انصر اخاك ظالما او مظلوما » قيل يا رسول الله كيف ينصره ظالما قال « ان يرده عن ظلمه » فان ذلك نصره معنى ومنع الظالم عن ظلمه عون له على مصلحة دينه ولذا سمى نصرا : قال السعدى قدس سره
بكمراه كفتن نكو ميروى ... كناه بزركست وجور قوى
بكوى آنجه دانى سخن سودمند ... وكرهيج كس رانيايد بسند
{ فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا } يحتمل العدل والعدول اى فلا تتبعوا الهوى كراهة ان تعدلوا بين الناس او ارادة ان تعدلوا عن الحق { وان تلووا } السنتكم عن شهادة الحق او حكومة العدل بان تأتوا بها لا على وجهها لىّ الشىء فتله وتحريفه ولى الشهادة تبديلها وعدم ادائها على ما شاهده بان يميل فيها الى احد الخصمين { او تعرضوا } اى عن ادائها واقامتها رأسا فالاعراض عنها كتما { فان الله كان بما تعملون } من لىّ الالسنة والاعراض بالكلية { خبيرا } فيجازيكم لا محالة على ذلك
وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان المراد بالآية القاضى يتقدم عليه الخصمان فيعرض عن احدهما او يدافع فى امضاء الحق او لا يسوى بينهما فى المجلس والنظر والاشارة ولا يمتنع ان يكون المراد بالآية القاضى والشاهد وعامة الناس فان اللفظ محتمل للجميع(3/117)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال عند نزول هذه الآية « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقا هو عليه وليؤده فورا ولا يلجئه الى سلطان وخصومة ليقطع بها حقه وايما رجل خاصم الى فقضيت له على اخيه بحق ليس عليه فلا يأخذنه فانما اقطع له قطعة من نار جهنم » كذا فى تفسير الحدادى
قال فى الاشباه أى شاهد جاز له الكتمان فقل اذا كان الحق يقوم بغيره او كان القاضى فاسقا او كان يعلم انه لا يقبل انتهى
قال الفقهاء وستر الشهادة فى الحدود افضل من ادائها لقوله عليه السلام للذى شهد عنده فى الحد « لو سترته بثوبك لكان خيرا لك » وقوله عليه السلام « من ستر على مسلم عيبا ستر الله عليه فى الدنيا والآخرة » وقال عليه السلام « ما من امرىء ينصر مسلما فى موضع ينتهك فيه عرضه وتستحل حرمته الا نصره الله تعالى فى موطن يحب فيه نصرته وما من امرىء خذل مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته الا خذله الله تعالى فى موضع يحب فيه نصرته » وقال عليه السلام « ادرأوا الحدود ما استعطتم » يحكى ان مسلما قتل ذميا عمدا فحكم ابو يوسف بقتل المسلم فبلغ زبيدة امرأة هارون الرشيد فبعثت الى ابى يوسف وقالت اياك ان تقتل المسلم وكانت فى عناية عظيمة بامر المسلم فلما حضر ابو يوسف وحضر الفقهاء وجيىء باولياء الذمى والمسلم وقال له الرشيد احكم بقتله فقال يا امير المؤمنين هو مذهبى غير انى لست اقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة ان الذمى يوم قتله المسلم كان ممن يؤدى الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه
توروا داريكه من بى حجتى ... بنهم اندر شهر باطل سنتى
وفى قوله تعالى { شهداء الله } اشارة الى عوام المؤمنين ان كونوا شهدءا لله بالتوحيد والوحدانية بالقسط يوما ما ولو كان فى آخر نفس من عمرهم على حسب ما قدر لهم الله تعالى . واشارة الى الخواص ان كونوا شهداء لله اى حاضرين مع الله بالفردانية . واشارة الى خواص الخواص ان كونوا شهداء لله فى الله غائبين عن وجودكم فى شهوده بالوحدة . وفى اشارته الى الخواص شركة للملائكة كما قال تعالى { شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط } فاما اشارته الى الاخص من الانبياء وكبار الاولياء وهم اولوا العلم فمختصة بهم من سائر العالمين ولاولى العلم شركة فى شهود شهد الله انه لا اله الا هو وليس للملائكة فى هذا الشهود مدخل الا انهم قائمون بالقسط كذا فى التأويلات النجمية(3/118)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{ يا ايها الذين آمنوا } خطاب لكافة المسلمين { آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى انزل من قبل } اى اثبتوا على الايمان بذلك ودوموا عليه وازدادوا فيه طمأنينة ويقينا او آمنوا بما ذكر مفصلا بناء على ان ايمان بعضهم اجمالى
فان قلت لم قيل نزل على رسوله وانزل من قبل قلت لان القرآن نزل منجما مفرقا بخلاف الكتب قبله فالمراد بالكتاب الاول القرآن وبالثانى الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى { وكتبه } وبالايمان به الايمان بان كل كتاب من تلك الكتب منزل منه على رسول معين لارشاد امته الى ما شرع لهم من الدين بالاوامر والنواهى لكن لا على ان يراد الايمان بكل واحد من تلك الكتب بل خصوصية ذلك الكتاب ولا على ان احكام تلك الكتب وشرائعها باقية بالكلية ولا على ان الباقى منها معتبر بالاضافة اليها بل على ان الايمان بالكل مندرج تحت الايمان بالكتاب المنزل على رسوله وان احكام كل منها كانت حقة ثابتة الى ورود نسخها وان ما لم ينسخ منها الى الآن من الشرائع والاحكام ثابتة من حيث انها من احكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النسخ والتبديل
وقيل الخطاب للمنافقين كانه قيل يا ايها الذين آمنوا نفاقا وهو ما كان بالالسنة فقط آمنوا اخلاصا وهو ما كان بها وبالقلوب
وقيل الخطاب لمؤمنى اهل الكتاب اذ روى ان ابن سلام واصحابه قالوا يا رسول الله انا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت فالمعنى حينئذ آمنوا ايمانا عاما شاملا يعم الكتب والرسل فان الايمان بالبعض كلا ايمان { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } اى بشىء من ذلك لان الكفر ببعضه كفر بكله ألا ترى كيف قدم الامر بالايمان بهم جميعا وزيادة الملائكة واليوم الآخر فى جانب الكفر لما انه بالكفر باحدها لا يتحقق الايمان اصلا وجمع الكتب والرسل لما ان الكفر بكتاب او برسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لانهم وسائط بين الله وبين الرسل فى انزال الكتب { فقد ضل ضلالا بعيدا } عن المقصد بحيث لا يكاد يعود الى طريقه
قالوا اول ما يجب على المرء معرفة مولاه اى يجب على كل انسان ان يسعى فى تحصيل معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان فان ايمان المقلد وان كان صحيحا عند الامام الاعظم لكن يكون آثما بترك النظر والاستدلال فاول الامر هو الحجة والبرهان ثم المشاهدة والعيان ثم الفناء عن سوى الرحمان . فمرتبة العوام فى الايمان ما قال عليه السلام « ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار والقدر خيره وشره »(3/119)
وهو ايمان غيبى : وفى المثنوى
بندكى درغيب آيد خوب وكش ... حفظ غيب آيددر استبعاد خوش
طاعت وايمان كنون محمود شد ... بعد مرك اندر عيان مردود شد
ومرتبة الخواص فى الايمان هو ايمان عيانى وكان ذلك بان الله اذا تجلى لعبده بصفة من صفاته خضع له جميع اجزاء وجوده وآمن بالكلية عيانا بعدما كان يؤمن قلبه بالغيب ونفسه تكفر بما آمن به قلبه اذا كانت النفس عن ننسم روائح الغيب بمعزل فلما تجلى الحق للجبل جعله دكا وخر موسى النفس صعقا فالنفس فى هذا المقام تكون بمنزلة موسى فلما افاق قال تبت اليك وانا اول المؤمنين . ومرتبة الاخص فى الايمان هو ايمان عيانى وذلك بعد رفع حجب الانانية بسطوات تجلى صفة الجلال فاذا افناه عنه بصفة الجلال يبقيه به بصفة الجمال فلم يبق له الاين وبقى فى العين فيكون ايمانا عيني كما كان حال النبى عليه السلام ليلة المعراج فلما بلغ قاب قوسين كان فى حيز اين فلما جذبته العناية من كينونته الى عينونة او ادنى فاوحى الى عبده ما اوحى آمن الرسول بما انزل اليه اى من صفات ربه فآمنت صفاته بصفاته تعالى وذاته فصار كل وجوده مؤمنا بالله ايمانا عيني ذاته وصفاته فاخبر عنهم وقال والمؤمنون كل آمن بالله يعنى آمنوا بهوية وجودهم كذا فى التأويلات النجمية هذا هو الايمان الحقيقى رزقنا الله واياكم اياه : وفى المثنوى
بود كبرى درزمان بايزيد ... كفت اورايك مسلمان سعيد
كه جه باشد كرتوا اسلام آورى ... تابيابى صد نجات وسرورى
كفت اين ايمان اكرهست اى مريد ... آنكه دارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن ... كان فزون آمد زكوششهاى جان
كرجه درايمان ودين ناموقنم ... ليك درايمان اوبس مومنم
مؤمن ايمان اويم در نهان ... كرجه مهرم هست محكم بردهان
بازايمان خود كر ايمان شماست ... نى بدان ميلستم ونى مشتهاست
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود ... جون شمارا ديد زان فاترشود
زانكه نامى بيند ومعنيش نى ... جون بيابانرا مفازه كفتنى
والى هذا التجريد والتفريد ينال العبد بالذكر والتوحيد قال عليه السلام فى وصيته لعلى رضى الله عنه « يا على احفظ التوحيد فانه رأس مالى والزم العمل فانه حرفتى واقم الصلاة فانها قرة عينى واذكر الحق فانه نصرة فؤادى واستعمل العلم فانه ميراثى » اللهم لا تحرمنا من هذا الميراث(3/120)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
{ ان الذين آمنوا } يعنى اليهود بموسى { ثم كفروا } بعبادتهم العجل { ثم آمنوا } بعد عوده اليهم { ثم كفروا } بعيسى والانجيل { ثم ازدادوا كفرا } بكفرهم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وازداد كذا يجيىء لازما ومتعديا يقال ازددت مالا اى زدته لنفسى ومنه قوله تعالى { وازدادوا تسعا } { لم يكن الله } مريدا { ليغفر لهم } اى ما داموا على كفرهم { ولا ليهديهم سبيلا } اى ولا ليوفقهم طريقا الى الاسلام ولكن يخذلهم مجازاة لهم على كفرهم
فان قيل ان الله لا يغفر كفر مرة فما الفائدة فى قوله { ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } قيل ان الكافر اذا آمن غفر له كفره فاذا كفر بعد ايمانه لم يغفر له الكفر الاول وهو مطالب بجميع كفره(3/121)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
{ بشر المنافقين } وضع بشر موضع انذر واخبر تهكما بهم { بان لهم عذابا اليما } اى وجيعا يخلص المه ووجعه الى قلوبهم وهذا يدل على ان الآية نزلت فى المنافقين وهم قد آمنوا فى الظاهر وكفروا فى السر مرة بعد اخرى ثم ازدادوا بالاصرار على النفاق وافساد الامر على المؤمنين(3/122)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
{ الذين } اى هم الذين { يتخذون الكافرين } اى اليهود { اولياء } احباء فى العون والنصرة { من دون المؤمنين } حال من فاعل يتخذون اى متجاوزين ولاية المؤمنين المخلصين وكانوا يوالونهم ويقول بعضهم لبعض لا يتم امر محمد فتولوا اليهود { أيبتغون عندهم العزة } اى أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة وهم اذلاء فى حكم الله تعالى { فان العزة لله جميعا } تعليل لما يفيده الاستفهام الانكارى من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم فان انحصار جميع افراد العزة فى جنابه تعالى بحيث لا ينالها الا اولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة وقال { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } يقتضى بطلان التعزيز بغيره سبحانه واستحالة الانتفاع به . قوله جميعا حال من المستكن فى قوله تعالى لله لاعتماده على المبتدأ(3/123)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{ وقد نزل عليكم } خطاب للمنافقين بطريق الالتفات والجملة حال من فاعل يتخذون
قال المفسرون ان مشركى مكة كانوا يخوضون فى ذكر القرآن ويستهزئون به فى مجالسهم فانزل الله تعالى فى سورة الانعام وهى مكية { واذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره } ثم ان احبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون ما فعله المشركون بمكة وكان المنافقون يقعدون معهم ويوافقونهم على ذلك الكلام الباطل فقال الله تعالى مخاطبا لهم { وقد نزل عليكم } اى والحال انه تعالى قد نزل عليكم قبل هذا بمكة
وفيه دلالة على ان المنزل على النبى عليه السلام وان خوطب به خاصة منزل على العامة { فى الكتاب } اى القرآن الكريم { ان } مخففة اى ان الشان { اذا سمعتم آيات الله } فيه دلالة على ان مدار الاعراض عنهم هو العلم بخوضهم فى آيات الله ولذلك يخبر عنه تارة بالرؤية واخرى بالسماع { يكفر بها ويستهزأ بها } حالان من آيات الله اى مكفورا ومستهزاء وبها فى محل الرفع لقيامه مقام الفاعل والاصل يكفر بها احد ويستهزئ { فلا تقعدوا } جزاء الشرط { معهم } اى الكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها { حتى يخوضوا } الخوض بالفارسية « درحديث شدن » { فى حديث غيره } اى غير القرآن وحتى غاية للنهى والمعنى انه تجوز مجالستهم عند خوضهم وشروعهم فى غير الكفر والاستهزاء
وفيه دلالة على ان المراد بالاعراض عنهم اظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم لا الاعراض بالقلب او بالوجه فقط { انكم اذن مثلهم } جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهى غير داخلة تحت التنزيل واذن ملغاة عن العمل لاعتماد ما بعدها على ما قبلها اى لوقوعها بين المبتدأ والخبر اى لا تقعدوا معهم فى ذلك الوقت انكم ان فعلتموه كنتم مثلهم اى مثل اليهود فى الكفر واستتباع العذاب فان الرضى بالكفر كفر { ان الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا } يعنى القاعدين والمقعود معهم وهو تعليم لكونهم مثلهم فى الكفر بيانه ما يستلزمه من شركتهم لهم فى العذاب
واعلم ان الائتلاف ههنا نتيجة تعارف الارواح هنالك لقوله عليه السلام « الارواح جنود مجندة » الحديث فمن تعارف ارواح الكافر والمنافق هناك يأتلفون ههنا ومن تناكر ارواحهم وارواح المؤمنين يختلفون ههنا روت عائشة رضى الله عنها ان امرأة كانت بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهنّ فلما هاجرن ووسع الله تعالى دخلت المدينة قالت عائشة فدخلت علىّ فقلت لها فلانة ما اقدمك قالت اليكن قلت فأين نزلت قالت على فلانة امرأة كانت تضحك بالمدينة قالت عائشة ودخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال « فلانة المضحكة عندكم »(3/124)
قالت عائشة قلت نعم فقال « فعلى من نزلت » قالت على فلانة المضحكة قال « الحمد الله ان الارواح جنود » الخ : ونعم ما قيل
همه مرغان كند باجنس برواز ... كبوتر باكبوتر باز باباز
ولما كان الابد مرآة الازل لا يظهر فيه الا ما قدر فى الازل لذا قال الله تعالى { ان الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا } لانهم كانوا فى عالم الارواح فى صف واحد وفى الدنيا بذلك التناسب والتعارف فى فن واحد وقال عليه السلام « كما تعيشون تموتون وكما تموتون تحشرون »
ففى اشارة الآية نهى لاصحاب القلوب عن المجالسة مع ارباب النفوس والموافقة فى شىء من اهوائهم فانهم ان يفعلوا ذلك يكونوا مثلهم يعنى يكون القلب كالنفس وصاحب القلب كصاحب النفس بالصحبة والمخالطة والمتابعة : قال الحافظ قدس سره
نخست موعظه بير مجلس اين حرفست ... كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد
قال الحدادى فى تفسيره اذن لم يجز جلوس المؤمن معهم لاقامة فرض او سنة اما اذا كان جلوسه لاقامة عبادة وهو ساخط لتلك الحال لا يقدر على تغييرها فلا بأس بالجلوس كما روى عن الحسن انه حضر وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال ما كنا متى رأينا باطلا تركنا حقا اشرع ذلك فى ديننا ولم يرجع انتهى كلامه
وذكر ان الله تعالى اوحى الى يوشع بن نون عليه السلام انى مهلك من قومك اربعين الفا من خيارهم وستين الفا من شرارهم قال يا رب هؤلاء الاشرار فما بال الاخيار قال انهم لم يغضبوا لغضبى واكلوهم وشاربوهم واذا كان الرجل مبتلى بصحبة الفجار فى سفره للحج او الغزاء لا يترك الطاعة بصحبتهم لكن يكرهه بقلبه ولا يرضى به فلعل الفاسق يتوب ببركة كراهة قلبه ومن دعى الى ضيافة فوجد ثمة لعبا او غناء يقعد ان كان غير قدوة ويمنع ان قدر وان كان قدوة كالقاضى والمفتى ونحوهما يمنع ويقعد فان عجز خرج وان كان ذلك على المائدة او كانوا يشربون الخمر خرج وان لم يكن قدوة وان علم قبل الحضور لا يحضر فى الوجوه كلها كذا فى تحفة الملوك(3/125)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{ الذين يتربصون بكم } اى المنافقون هم الذين ينتظرون وقوع امر لكم خيرا كان او شرا { فان كان لكم } ايها المؤمنون { فتح من الله } اى ظفر ودولة وغنيمة { قالوا } اى لكم { ألم نكن معكم } على دينك مظاهرين لكم فاسهموا لنا فيما غنمتم { وان كان للكافرين نصيب } اى ظهور على المسلمين { قالوا } اى للكفرة { ألم نستحوذ عليكم } الاستحواذ الاستيلاء اى ألم نغلبكم ونمكن من قتلكم واسركم فابقينا عليكم اى ترحمنا { ونمنعكم من المؤمنين } بان ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ضعفت به قلوبهم او امرجنا فى جنابكم وتوانينا فى مظاهرتهم عليكم والا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا نصيبا مما اصبتم وانما سمى ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا تعظيما لشأن المسلمين وتخسيسا لحظ الكافرين لان ظفر المسلمين امر عظيم تفتح له ابواب السماء حتى ينزل على اوليائه واما ظفر الكافرين فمقصور على امر دنيوى سريع الزوال { فالله يحكم بينكم } اى بين المؤمنين والمنافقين بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين { يوم القيمة } اى يحكم حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب واما فى الدنيا فقد اجرى على من تفوه بكلمة الاسلام حكمه ولم يضع السيف على من تكلم بها نفاقا { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } اى ظهورا يوم القيامة كما قد يجعل ذلك فى الدنيا بطريق الابتلاء والاستدراج وبيانه انه الله تعالى يظهر اثر ايمان المؤمن يوم القيامة ويصدق موعدهم ولا يشاركهم الكفار فى شىء من اللذات كما شاركوهم اليوم حتى يعلموا ان الحق معهم دونهم اذ لو شاركوهم فى شىء منها لقالوا للمؤمنين ما نفعكم ايمانكم وطاعتكم شيأ لانا اشركنا واستوينا معكم فى ثواب الآخرة واما ان كان المعنى سبيلا فى الدنيا فيراد بالسبيل الحجة وحجة المسلمين غالبة على حجة الكل وليس لاحد ان يغلبهم بالحجة وقيل معنى السبيل الدولة الدائمة ولا دولة على الدوام للكافرين والا لكان الظهور والغلبة من قبلهم دائما وليس كذلك فان اكثر الظفر للمسلمين وانما ينال الكفار من المؤمنين فى بعض الاوقات استدراجا ومكرا وهذا يستمر الى انقراض اهل الايمان فى آخر الزمان
وعن كعب قال اذا انصرف عيسى ابن مريم والمؤمنون من يأجوج ومأجوج لبثوا سنوات ثم رأوا كهيئة الرهج والغبار فاذا هى ريح قد بعثها الله لتقبض ارواح المؤمنين فتلك آخر عصابة تقبض من المؤمنين ويبقى الناس بعدهم مائة عام لا يعرفون دينا ولا سنة يتهارجون تهارج الحمر عليهم تقوم الساعة وفى الحديث « الجهاد ماض منذ بعثنى الله الى ان يقاتل آخر امتى الدجال » ثم ان الله تعالى يحكم بينكم يوم القيامة ليعلم من اهل العزة والكرامة ومن اهل الغرة والندامة كما ان الشمع يحكم بين الصحيح والسقيم باظهار حالهما اذا جيىء به فى حمام مظلم قد دخله الاصحاء والمرضى والجرحى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فان وبال كيدهم اليهم مصروف وجزاء مكرهم عليهم موقوف والحق من قبل الحق تعالى منصور اهله والباطل بنصر الحق مخيب اصله .(3/126)
وقد قيل الباطل يفور ثم يغور . فعلى المؤمن صرف علو الهمة فى الدين وفى تحصيل علم اليقين ولا يتربص للفتوحات الدنيوية ذاهلا عن الفتوحات الاخروية بل عن فتوحات الغيب ومشاهدة الحق فان اهم الامور هو الوصول الى الرب الغفور
قال ابو يزيد البسطامى قدس سره ان لله خواص من عباده ولو حجبهم فى الجنة عن رؤيته لاستغاثوا كما يستغيث اهل النار بالخروج من النار ولما كان موسى كليم الله طفلا فى حجر تربية الحق تعالى ما تجاوز حده ولا تعدى قصده بل قال رب انى لما انزلت الى من خير فقير فلما كبر وبلغ مبلغ الرجال ما رضى بطعام الاطفال بل قال رب ارنى أنظر اليك وكان غاية طلبه فى طفوليته هو الطعام والشراب وكان منتهى اربه فى رجوليته هو رفع الحجاب ومشاهدة الاحباب فالباب مفتوح للطلاب لا حاجب عليه ولا بواب وانما المحجوب عن المسبب من وقف مع الاسباب والمشروب حاضر والمحروم من حرم الشراب والمحبوب ناظر والمطرود من قوف وراء الحجاب فمن انس بسواه فهو مستوحش ومن ذكر غيره فهو غافل عنه ومن عول على سواه فهو مشرك فاذا لم يجد اليه سبيلا وفى ظله مقيلا : ونعم ما قيل
تومحرم نيستى محروم ازانى ... ره نامحرمان اندر حرم نيست(3/127)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
{ ان المنافقين يخادعون الله } اى يفعلون ما يفعل المخادع من اظهار الايمان وابطان الكفر { وهو خادعهم } اى الله تعالى فاعل بهم ما يفعل الغالب فى الخداع حيث تركهم فى الدنيا معصومى الدماء والاموال واعد لهم فى الآخرة الدرك الاسفل من النار ولم يخلهم فى العاجل من فضيحة واحلال بأس ونقمة ورعب واثم
وقال ابن عباس رضى الله عنهما انهم يعطون نورا يوم القيامة كما للمؤمنين فيمضى المؤمنون بنورهم على الصراط وينطفىء نور المنافقين فينادون المؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم فتناديهم الملائكة على الصراط ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا وقد علموا انهم لا يستطيعون الرجوع قال فيخاف المؤمنون حينئذ ان يطفأ نورهم فيقولون ربنا اتمم لنا نورنا واغفر لنا انك على كل شىء قدير { واذا قاموا الى الصلوة قاموا كسالى } اى متثاقلين متقاعسين كما ترى من يفعل شيأ عن كره لا عن طيب نفس ورغبة . قوله كسالى كأنه قيل ما كسالى فقيل { يراؤن الناس } اى يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين { ولا يذكرون الله } عطف على يراؤن { الا } ذكرا { قليلا } اذ المرائى لا يفعل الا بحضرة من يرائيه وهو اقل احواله والمراد بالذكر التسبيح والتهليل
قال فى الكشاف وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالاسلام لو صحبته الايام والليالى لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة ولكن حديث الدنيا يستغرق اوقاته لا يفتر عنه { مذبذبين بين ذلك } حال من فاعل يراؤن وذلك اشارة الى الايمان والكفر المدلول عليهما بمعونة المقام اى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى بينهما وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعده اخرى { لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء } حال من ضمير مذبذبين اى لا منسوبين الى المؤمنين فيكونون مؤمنين ولا الى الكافرين فيكونون مشركين { ومن يضلل الله } لعدم استعداده للهداية والتوفيق { فلن تجد له سبيلا } موصلا الى الحق والصواب فضلا عن انه تهديه اليه والخطاب لكل من يصلح له كائنا من كان وكان صلى الله عليه وسلم يضرب مثلا للمؤمنين والمنافقين والكافرين كمثل رهط ثلاثة رفعوا الى نهر فقطعه المؤمن ووقف الكافر ونزل فيه المنافق حتى اذا توسطه عجز فناداه الكافر هلم الى لا تغرق وناداه المؤمن هلم الى لتخلص فما زال المنافق يتردد بينهما اذ اتى عليه ماء فغرقه فكان المنافق لم يزل فى شك حتى يأيته الموت
اى كه دارى نفاق اندر دل ... خار بادت خليده اندر حلق
هركه سازد نفاق بيشه خويش ... خوار كردد بنزد خالق وخلق
والاشارة { ان المنافقين } انما { يخادعون الله } فى الدنيا لان الله تعالى { وهو خادعهم } فى الازل عند رش نوره على الارواح وذلك ان الحق خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره فلما رش نوره اصاب ارواح المؤمنين واخطأ ارواح المنافقين والكافرين ولكن الفرق بين المنافقين والكافرين ان ارواح المنافقين رأوا رشاش النور وظنوا انه يصيبهم فاخطأهم وارواح الكافرين ما شاهدوا ذلك الرشاش ولم يصبهم وكأن المنافقين خدعوا عند مشاهدتهم الرشاش اذما اصابهم فمن نتائج مشاهدتهم الرشاش { واذا قاموا الى الصلوة } من نتائج حرمانهم اصابة النور { قاموا كسالى يراؤن الناس } كيما يرونهم النور { ولا يذكرون الله الا قليلا } لانهم يذكرونه بلسان الظاهر القالبى لا بلسان الباطن القلبى والقالب من الدنيا وهى قليلة قليل ما فيها والقلب من الآخرة وهى كثيرة كثير ما فيها فالذكر الكثير من لسان القلب كثير والفلاح فى الذكر الكثير لا فى القليل لقوله تعالى(3/128)
{ واذكروا الله ذكرا كثيرا } اى بلسان القلب { لعلكم تفلحون } ولما كان ذكر المنافقين بلسان القالب كان قليلا فما افلحوا به وانما كان ذكر المنافق بلسان الظاهر لانه رأى رشاش النور ظاهرا من البعد ولم يصبه فلو كان اصابه ذلك النور لكان صدره منشرحا به كما قال تعالى { أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه } اى على نور مما رش به ربه ومعدن النور هو القلب فكان قلبه ذاكرا لله بذلك النور فانه يصير لسان القلب فقليل الذكر منه يكون كثيرا فافهم جدا فلما كانت ارواح المنافقين مترددة متحيرة بين مشاهدة رشاش النور وبين الظلمة الخلقية لا الى هؤلاء الذين اصابهم النور ولا الى هؤلاء الذين لم يشاهدوا الرشاش لذلك كانوا { مذبذبين بين ذلك } المؤمنين والكافرين { لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل الله } باخطاء ذلك النور كما قال ومن اخطأه فقد ضل { فلن تجد له سبيلا } ههنا الى ذلك النور يدل عليه قوله { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } اى ومن لم يجعل الله له قسمة من ذلك النور المرشش عليهم فماله اليوم نصيب من نور الهداية كذا فى التأويلات النجمية اللهم ارزقنا الذكر الكثير واعصمنا من الذنب الصغير والكبير
يقال حصون المؤمن ثلاثة المسجد وذكر الله وتلاوة القرآن والمؤمن اذا كان فى واحد من ذلك اى من الاشياء الثلاثة فهو فى حصن من الشيطان قال على رضى الله عنه ( يأتى على الناس زمان لا يبقى من الاسلام الا اسمه ومن القرآن الا رسمه يعمرون مساجدهم وهى خراب من ذكر الله تعالى شر اهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة واليهم تعود : قال السعدى قدس سره
كنون بايدت عذر تقصير كفت ... نه جون نفس ناطق زكفتن بخفت
اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين آمين يا معين(3/129)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين اولياء من دون المؤمنين } اى لا تتشبهوا بالمنافقين فى اتخاذهم اليهود وغيرهم من اعداء الاسلام احباء قوله من دون المؤمنين حال من فاعل لا تتخذوا اى متجاوزين ولاية المؤمنين { أتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } اى أتريدون بذلك ان تجعلوا لله عليكم حجة بينة على انكم منافقون فان موالاتهم اوضح ادلة النفاق فالسلطان هو الحجة يقال للامير سلطان يراد بذلك انه حجة ويجوز ان يكون بمعنى الوالى والمعنى حينئذ أتريدون ان تجعلوا سلطانا كائنا عليكم واليا امر عقابكم مختصا لله تعالى مخلوقا له منقادا لامره(3/130)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
{ ان المنافقين فى الدرك الاسفل من النار } هو الطبقة التى فى قعر جهنم وهى الهاوية والنار سبع دركات سميت بذلك لانها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض والدركات فى النار مثل الدرجات فى الجنة كل ما كان من درجات الجنة اعلى فثواب من فيه اعظم وما كان من دركات النار اسفل فعقاب من فيه اشد
وسئل ابن مسعود عن الدرك الاسفل فقال هو توابيت من حديد مبهمة عليهم لا ابواب لها
فان قلت لم كان المنافق اشد عذابا من الكافر قلت لانه مثله فى الكفر وضم الى كفره الاستهزاء بالدين والخداع للمسلمين فالمنافقون اخبث الكفرة
فان قلت من المنافق قلت هو فى الشريعة من اظهر الايمان وابطن الكفر واما تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ والتهديد والتشبيه مبالغة فى الزجر كقوله من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ومنه قوله عليه الصلاة والسلام « ثلاث من كن فيه فهو منافق وان صام وصلى وزعم انه مسلم من اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا ائتمن خان » وقيل لحذيفة رضى الله عنه من المنافق فقال الذى يصف الاسلام ولا يعمل به
وعن الحسن اتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه فاصبح قد عمم وقلد واعطى سيفا يعنى الحجاج
قال عمر بن عبد العزيز لو جاءت كل امة بمنافقيها وجئنا بالحجاج فضلناهم
وعن عبد الله بن عمر ان اشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة المنافقون ومن كفر من اصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى فى اصحاب المائدة { فانى اعذبه عذابا شديدا لا اعذبه احدا من العالمين } وقال فى حق المنافقين { ان المنافقين فى الدرك الاسفل من النار } وقال { ادخلوا آل فرعون اشد العذاب } قيل لا يمتنع ان يجتمع القوم فى موضع واحد ويكون عذاب بعضهم اشد من بعض ألا ترى ان البيت الداخل فى الحمام يجتمع فيه الناس فيكون بعضهم اشد اذى بالنار لكونه ادنى الى موضع الوقود وكذلك يجتمع القوم فى القعود فى الشمس وتأذى الصفراوى اشد واكثر من تأذى السوداوى والمنافق فى اللغة مأخوذ من النفق وهو السر اى يستتر بالاسلام كما يستتر الرجل بالسرب وقيل هو ماخوذ من قولهم نافق اليربوع اذا دخل نافقاءه فاذا طلب من النافقاء خرج من القاصعاء واذا طلب من القاصعاء خرج من النافقاء والنافقاء والقاصعاء حجر اليربوع { ولن تجد لهم نصيرا } اى مانعا يمنع عنهم العذاب ويخرجهم من الدرك الاسفل من النار والخطاب لكل من يصلح له كائنا من كان(3/131)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{ الا الذين تابوا } اى عن النفاق هو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم فى الخبر { واصلحوا } ما افسدوا من احوالهم من حال النفاق باتيان ما حسنه الشرع من افعال القلوب والجوارح { واعتصموا بالله } اى وثقوا به وتمسكوا بدينه وتوحيده { واخلصوا دينهم } اى جعلوه خالصا { لله } لا يبتغون بطاعتهم الا وجهه { فاولئك } الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة { مع المؤمنين } اى المؤمنين المعهودين الذين لا يصدر عنهم نفاق اصلا ولا فهم ايضا مؤمنون اى معهم فى الدرجات العالية من الجنة لا يضرهم النفاق السابق وقد بين ذلك بقوله تعالى { وسوف يؤت الله المؤمنين اجرا عظيما } لا يقادر قدره فيشاركونهم فيه ويساهمونهم وسوف كلمة ترجئة واطماع وهى من الله سبحانه ايجاب لانه اكرم الاكرمين ووعد الكريم انجاز وانما حذفت الياء من يؤتى فى الخط كما حذفت فى اللفظ لسكونها وسكون اللام فى اسم الله وكذلك سندع الزبانية ويدع الداع
واعلم ان الكافر وان افسد برين الكفر صفاء روحه ولكن ما اضيف الى رين كفره رين النفاق فكان لرين كفره منفذ من القلب الى اللسان فيخرج بخاره من لسانه باظهار الكفر وكان للمنافق مع رين كفره رين النفاق زائدا ولم يكن لبخار رينه منفذ الى لسانه فكان بخارات رين الكفر ورين النفاق تنفذ من منفذ قلبه الذى هو الى عالم الغيب فتتراكم حتى انسد منفذ قلبه بها وختم عليه بافساد كلية الاستعداد من صفاء الروحانية فلم يتفق له الخروج عن هذا الاسفل ولا ينصره نصير باخراجه لانه محذول بعيد من الحق فى آخر الصفوف وقال تعالى { ان ينصركم الله } يعنى فى خلق ارواحكم فى صف ارواح المؤمنين { فلا غالب لكم } بان يردكم الى صف ارواح الكافرين { وان يخذلكم } بان يخلق ارواحكم فى صف ارواح الكافرين { فمن ذا الذى ينصركم من بعده } بان يخرجكم الى صف المؤمنين ثم استثنى منهم من كان كفره ونفاقه عارية وروحه فى اصل الخلقة خلقت فى صف المؤمنين ثم بادنى مناسبة فى المحاذاة بين روحه وارواح الكافرين والمنافقين ظهر عليه من نتائجها موالاة معلولة من القوم اياما معدودة فما افسدت صفاء روحانيته بالكلية وما انسد منفذ قلبه الى عالم الغيب فهب له من مهب العناية نفحات الطاف الحق ونبه من نومة الغفلة ونبىء بالرجوع الى الحق بعد التمادى فى الباطل ونودى فى سره بان لا نصير لمن اختار الاسفل ولا يخرج منه { الا الذين تابوا } اى ندموا على ما فعلوا ورجعوا عن تلك المعاملات الرديئة { واصلحوا } ما افسدوا من حسن الاستعداد وصفاء الروحانية بترك الشهوات النفسانية والحظوظ الحيوانية { واعتصموا ب } حبل { الله } استعانة على العبودية { واخلصوا دينهم لله } فى الطلب لا يطلبون منه الا هو ثم قال من قام بهذه الشرائط { فاولئك مع المؤمنين } يعنى فى صف ارواحهم خلق روحه لا فى صف ارواح الكافرين { وسوف يؤتى الله المؤمنين } التائبين ويتقرب اليهم على قضية من تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا ومن اتانى بمشى اتيته اهرول وهذا هو الذى سماه { اجرا عظيما } والله العظيم كذا فى التأويلات النجمية : قال السعدى قدس سره
خلاف طريقت بود كاوليا ... تمننا كنند ازخدا جزخدا(3/132)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{ ما } استفهامية بمعنى النفى فى محل النصب بيفعل اى أى شىء { يفعل الله بعذابكم } الباء سببية متعلقة بيفعل اى بتعذيبكم { ان شكرتم وآمنتم } اى أيتشفى به من الغيظ ام يدرك به الثأر ام يستجلب به نفعا ام يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك اى لا يفعل بعذاب المؤمن الشاكر شيأ من ذلك لان كل ذلك محال فى حقه تعالى لانه تعالى غنى لذاته عن الحاجات منزه عن جلب المنفعة ودفع المضرة واما تعذيب من لم يؤمن او آمن ولم يشكر فليس لمصلحة تعود اليه تعالى بل لاستدعاء حال المكلف ذلك كاستدعاء سوء المزاج المرض والمقصود منه حمل المكلفين على الايمان وفعل الطاعات والاحتراز عن القبيح وترك المنكرات فكأنه قيل اذا اتيتم الحسنات وتركتم المنكرات فكيف يليق بكرمه ان يعذبكم وتعذيبه عباده لا يزيد فى ملكه وتركه عقوبتهم على فعلهم القبيح لا ينقص من سلطانه وجواب ان شكرتم محذوف لدلالة ما قبله عليه اى ان شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم . والشكر ضد الكفر والكفر ستر ولاثبات مع عدم الايمان لما انه طريق موصل اليه فان الناظر يدرك اولا ما عليه من النعم الانفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما ثم يترقى الى معرفة المنعم بعد امعان النظر فى الدلائل الدالة على ثبوته ووحدته فيؤمن به { وكان الله شاكرا } الشكر من العبد هو الاعتراف بالنعمة الواصلة اليه مع ضروب من التعظيم ومن الله تعالى الرضى اى راضيا باليسير من طاعة عباده واضعاف الثواب مقابلة واحدة الى عشرة الى سبعمائة الى ما شاء من الاضعاف { عليما } بحق شكركم وايمانكم فيستحيل ان لا يوفيكم اجوركم فينبغى لطالب الحق ان يخضع له خضوعا تاما ويشكره شكرا كثيرا
قال الجرجانى فى قوله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم } اى لئن شكرتم القرب لأزيدنكم الانس
وعن على رضى الله عنه اذا وصلت اليكم اطراف النعم فلا تنفروا اقصاها بقلة الشكر معناه من لم يشكر النعم الحاصلة لديه الواصلة اليه حرم النعم الفائتة منه القاصية عنه
جون بيابى تونعمتى درجند ... خرد باشد جو نقطه موهوم
شكر آن يافته فرومكذار ... كه زنا يافته شوى محروم
فالبشكر والايمان يتخلص المرء من النيران والا فقد عرض نفسه للعذاب واستحق العذاب والعتاب وجه التعذيب ان التأديب فى الحكمة واجب فخلق الله النار ليعلم الخلق قدر جلال الله وكبريائه وليكونوا على هيبة وخوف من صنع جلاله ويؤدب بها من لم يتأدب بتأديب رسله الى خلقه وليعتبر اهل العقل بالنظر اليها فى الدنيا وبالاستماع لها فى الآخرة ولهذا السر علق النبى عليه السلام السوط حيث يراه اهل البيت لئلا يتركوا الادب روى ان الله تعالى قال لموسى عليه السلام [ ما خلقت النار بخلا منى ولكن اكره ان اجمع اعدائى واوليائى فى دار واحدة ] وادخل الله بعض عصاة المؤمنين النار ليعرفوا قدر الجنة ومقدار ما دفع الله عنهم من عظيم النقمة لان تعظيم النعمة واجب فى الحكمة
والاشارة فى الآية ان الله تعالى يذكر للعباد المؤمنين نعما من نعمه السالفة السابقة .(3/133)
منها اخراجهم من العدم ببديع فطرته . ومنها انه خلق ارواحهم قبل خلق الاشياء . ومنها انه خلق ارواحهم نورانية بالنسبة الى خلق اجسادهم الظلمانية . ومنها ان ارواحهم لما كانت بالنسبة الى نور القدم ظلمانية رش عليهم من نور القدم . ومنها انه لما اخطأ بعض الارواح ذلك النور وهو ارواح الكفار والمنافقين وقد اصاب ارواح المؤمنين قال { ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم } هذه النعم التى انعمت بها عليكم من غير استحقاق منكم فانكم ان شكرتم هذه النعم برؤيتها ورؤية المنعم { وآمنتم } فقد امنتم بى ونجوتم من عذابى وهو ألم الفراق فان حقيقة الشكر رؤية المنعم والشكر على وجود المنعم ابلغ من الشكر على وجود النعم وقال واشكروا لى اى اشكروا لوجودى { وكان الله } فى الازل { شاكرا } لوجوده ومن شكر لوجوده اوجد الخلق بجوده { عليما } بمن يشكره وبمن يكفره فاعطى جزاء شكر الشاكرين قبل شكرهم لان الله شكور واعطى جزاء كفر الكافرين قبل كفرهم لان الكافر كفور كذا فى التأويلات النجمية(3/134)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } عدم محبته تعالى لشىء كناية عن سخطه والباء متعلقة بالجهر ومن بمحذوف وقع حالا من السوء اى لا يحب الجهر من احد فى حق غيره بالسوء كائنا من القول { الا من ظلم } اى الا جهر المظلوم فان المظلوم له ان يجهر برفع صوته بالدعاء على من ظلمه او يذكر ما فيه من السوء تظلما منه مثل ان يذكر انه سرق او غصبه منى وقيل هو ان يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم يعنى لو شتمه احد ابتداء فله ان يرد على شاتمه اى جاز ان يشتمه بمثله ولا يزيد عليه وقيل ان رجلا ضاف قوما اى اتاهم ضيفا فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت { وكان الله سميعا } لكلام المظلوم { عليما } بحال الظالم { ان تبدوا خيرا } أى خير كان من الاقوال والافعال { او تخفوه او تعفوا عن سوء } لكم المؤاخذة عليه وهو المقصود وذكر ابداء الخير واخفائه تمهيد وتوطئة له ولذلك رتب عليه قوله { فان الله كان عفوا قديرا } فان ايراده فى معرض جواب الشرط يدل على ان العمدة هو العفو مع القدرة اى كان مبالغا فى العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة والانتقام فعليكم ان تقتدوا بسنة الله وهو حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له فى الانتصار والانتقام حملا على مكارم الاخلاق
وعن على رضى الله عنه لا تتفرد دفع انتقام
صولت انتقام ازمردم ... دولت مهترى كند باطل
ازره انتقام يكسو شو ... تانمانى بمهترى عاطل
واعلم ان الله تعالى لا يحب اظهار الفضائح الا فى حق ظالم عظم ضرره وكثر كيده ومكره فعند ذلك يجوز اظهار فضائحه ولهذا قال عليه السلام « اذكروا الفاسق بما فيه كى يحذره الناس » وورد فى الاثر « ثلاثة ليست لهم الغيبة الامام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذى يدعو الناس الى بدعته » ثم ان اكثر السوء قولى فان اللسان صغير الجرم كبير الجرم وفى الحديث « البلاء موكل بالمنطق » يحكى ان ابن السكيت جلس مع المتوكل يوما فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل فقال ايما احب اليك ابناى ام الحسن والحسين قال والله ان قنبر خادم على رضى الله عنه خير منك ومن ابنيك فقال سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات ومن العجب انه انشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد وكان يعلمهما فقال
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته فى القول تذهب رأسه ... وعثرته فى الرجل تبرا على مهل
وفى المثنوى
اين زبان جون سنك وهم آهن وشست ... آنجه بجهد از زبان جون آتشست
سنك و آهن را مزن برهم كزاف ... كه زروى نقل وكه ازروى لاف
زانكه تاريكست وهر سو ينبه زار ... درميان ينبه جون باشد شرار
عالمى را يك سخن ويران كند ... روبهان مرده را شيران كند(3/135)
والاشارة فى الآية ان { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } من العوام ولا التحدث مع النفس من الخواص ولا الخطرة التى تخطر بالبال من الاخص { الا من ظلم } بمعاصى دواعى البشرية من غير اختيار او بابتلاء من اضطرار . وايضا لا يحب الجهر بالسوء من القول بافشاء اسرار الربوبية واسرار مواهب الالوهية الا من ظلم بغلبات الاحوال وتعاقب كؤوس عقار الجمال والجلال فاضطر الى المقال فقال باللسان الباقى لا باللسان الفانى انا الحق سبحانى { وكان الله } فى الازل { سميعا } لمقالهم قبل ابداء حالهم { عليما } باحوالهم ثم قال { ان تبدوا خيرا } يعنى مما كوشفتم به من الطاف الحق تنبيها للحق وافادة لهم بالحق { او تخفوه } صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب واخذا بخطامها عن المشارب { او تعفوا عن سوء } مما يدعوكم اليه هوى النفس الامارة بالسوء او تتركوا اعلان ما جعل الله اظهاره سوأ فان الله كان عفوا فيكون عفوا متخلقا باخلاقه متصفا بصفاته وايضا { فان الله كان } فى الازل { عفوا } عنك بان لم يجعلك من المخذولين حتى صرت عفوا عما سواه وكان هو { قديرا } على خذلانك حتى يقدر على ان لا يعفو عن مثقال ذرة لكفرانك ان الانسان لظلوم كفار كذا فى التأويلات النجمية(3/136)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
{ ان الذين يكفرون بالله ورسله } اى يؤدى اليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لا انهم يصرحون بذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى { ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله } اى بان يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم لكن لا بان يصرحوا بالايمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } اى نؤمن ببعض الانبياء ونكفر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن بموسى والتوراة وعزير ونكفر بما وراء ذلك وما ذلك الا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله ورسله فى الايمان لانه تعالى قد امرهم بالايمان بجميع الانبياء وما من نبى من الانبياء الا وقد اخبر قومه بحقية دين نبينا صلى الله عليه وسلم فمن كفر بواحد منهم كفر بالكل وبالله تعالى ايضا من حيث لا يحتسب { ويريدون } بقولهم ذلك { ان يتخذوا بين ذلك سبيلا } اى طريقا وسطا بين الايمان والكفر ولا واسطة بينهما قطعا اذا الحق لا يختلف فان الايمان بالله انما يتم بالايمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلا واجمالا فالكافر ببعض كالكافر بالكل فى الضلال كما قال { فماذا بعد الحق الا الضلال }(3/137)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
{ اولئك } الموصوف بالصفات القبيحة { هم الكافرون } اى الكاملون فى الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه ايمانا اصلا { حقا } مصدر مؤكد لمضمون الجملة اى حق ذلك اى كونهم كاملين فى الكفر حقا او صفة لمصدر الكافرون اى هم الذين كفروا كفرا حقا اى يقينا محققا لا شك فيه { واعتدنا للكافرين عذابا مهينا } سيذوقونه عند حلوله ويهانون فيه ثم انه تعالى لما ذكر وعيد الكفار اتبعه بذكر وعد المؤمنين فقال(3/138)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين احد منهم } بان يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين كما فعله الكفرة وانما دخل بين على احد وهو يقتضى متعددا لعمومه من حيث انه وقع فى سياق النفى فهو بمنزلة ولم يفرقوا بين اثنين او بين جماعة { اولئك } المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة { سوف يؤتيهم } اى الله تعالى { اجورهم } الموعودة لهم وسمى الثواب اجرا لان المستحق كالاجرة وسوف لتأكيد الوعد اى الموعود الذى هو الايتاء والدلالة على انه كائن لا محالة وان تأخر { وكان الله غفورا } لما فرط منهم { رحيما } مبالغا فى الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم
والآية الاولى تدل على ان الايمان لا يحصل بزعم المرء وحسبانه انه مؤمن وانما يحصل بحصول شرائطه ونتائجه منه فمن نتائجه ما ذكر فى الآية الثانية من عدم التفريق بين الرسل ومن نتائجه القبول من الله والجزاء عليه فمن اخطأه النور عند الرش على الارواحفقد كفر كفرا حقيقيا ولذلك سماهم الله فى الكفر حقا ومن اصابه النور عند ذلك فقد آمن ايمانا حقيقيا ولذلك لا ينفع الاول توسط الايمان كما لا يضر الثانى توسط العصيان : قال السعدى قدس سره
قضا كشتى انجا كه خواهد برد ... وكر ناخدا جامه بر تن درد
يحكى انه كان شاب حسن الوجه وله احباب وكانوا فى الاكل والشرب والتنعم والتلذذ فنفدت دراهم فاجتمعوا يوما واجمعوا على ان يقطعوا الطريق فخرجوا الى طريق وترقبوا القافلة فلم يمر احد من هذا الطريق الى ثلاثة ايام ورأى الشاب شيخا قال له يا ولدى ليس هذا صنعتك فاستغفر الله تعالى فان طلبتنى فانا اقرأ القرآن فى جامع السيد البخارى ببروسة فاحترق قلب الشاب من تأثير الكلام فقال لرفقائه لو تبعتم رأيى تعالوا نروح الى بروسة ونتجسس عن بعض النجار فنخرج خلفهم فنأخذ اموالهم فقبلوا قوله فلما جاؤا الى بروسة قال لهم تعالوا نصل فى جامع السيد البخارى وندع عنده ليحصل مرادنا فلما جاء الى الجامع ورأى الشيخ هناك يقرأ القرآن سقط على رجله وتاب وبقى عنده سنتين ثم بعد السنتين ارسله هذا الشيخ الى حضرة الشيخ اق شمس الدين فرباه وصار كاملا بعد ان كان مؤمنا ناقصا قاطع الطريق ولذا ينظر الى الخاتمة ولكن حسن العاقبة من سبق العناية فى البداية اللهم اجعلنا من المهديين آمين يا معين
واعلم ان الايمان والتوحيد هو اصل الاصول وهو ان كان لا يزيد ولا ينقص عند الامام الاعظم الا ان نوره يزيد بالطاعات وينقص بالسيآت فينبغى لطالب الحق ان يراعى احكام الشريعة وآداب الطريقة ليتقوى جانب روحانيته فان انوار الطاعات كالاغذية النفيسة للارواح خصوصا نور التوحيد والذكر ولذكر الله اكبر وهو العمدة فى تصفية الباطن وطهارته
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره الادب ادبان فادب السر طهارة القلب وادب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب فعليك بترك الشرور والايمان الكامل بالله الغفور حتى تنال الاجر الموفور والسرور فى دار الحضور : قال الصائب
اززاهدان خشك رسايى طمع مدار ... سيل ضعيف واصل در يانميشود
فلا بد من العشق فى طريق الحق ليصل الطالب الى السر المطلق ومجرد الامنية منية والسفينة لا تجرى على اليبس كما قالت رابعة(3/139)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{ يسئلك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء } نزلت فى احبار اليهود حين قالوا لرسول الله عليه السلام ان كنت نبيا صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما اتى به موسى عليه السلام وقيل كتابا محررا بخط سماوى على الواح كما نزلت التوراة { فقد سألوا موسى اكبر من ذلك } جواب شرط مقدر اى ان استكبرت ما سألوه منك واستعظمت فقد سألوا موسى شيأ اكبر منه واعظم وهذا السؤال وان صدر عن اسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم فى كل ما يأتون وما يذرون اسند اليهم والمعنى ان لهم فى ذلك عرقا راسخا وان ما اقترحوا عليك ليس باول جهالتهم { فقالوا } الفاء تفسيرية { ارنا الله جهرة } اى ارناه جهرة اى عيانا . والجهر حقيقة فى ظهور الصوت لحاسة السمع ثم استعير لظهور المرئى بحاسة البصر ونصبها على المصدر لان المعاينة نوع من الرؤية وهم النقباء السبعون الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الجبل حين كلمه الله تعالى سألوه ان يروا ربهم رؤية يدركونها بابصارهم فى الدنيا { فاخذتهم الصاعقة } نار جاءت من السماء فاحرقتهم { بظلمهم } اى بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل فى تلك الحال التى كانوا عليها وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا
وفى التأويلات النجمية { فقالوا ارنا الله جهرة } وما طلبوا الرؤية على موجب التعظيم او على موجب التصديق ولا حملهم عليها شدة الاشتياق او الم الفراق كما كان لموسى عليه السلام حين قال { رب ارنى انظر اليك } ولعل خرة موسى فى جواب { لن ترانى } كانت من شؤم القوم وما كان لنفسهم من سوء ادب هذا السؤال لئلا يطمعوا فى مطلوب لم يعطه نبيهم فما اتعظوا بحال نبيهم لانهم كانوا اشقياء والسعيد من وعظ بغيره حتى ادركتهم الشقاوة الازلية { فاخذتهم الصاعقة بظلمهم } بان طمعوا فى فضيلة وكرامة ما كانوا مستحقيها ومن طبع كافرا ولو يرى الله جهرة فانه لا يؤمن به ومن طبع مؤمنا عند رشاش النور باصابته فانه يؤمن بنبى لم يره وكتاب لم يقرأه بغير معجزة او بينة كما كان الصديق رضى الله عنه حين قال النبى صلى الله عليه وسلم له « بعثت » فقال صدقت وكما كان حال اويس القرنى فانه لم ير النبى عليه السلام ولا المعجزة وقد آمن به { ثم اتخذوا العجل } اى عبدوه واتخذوه الها { من بعد ما جاءتهم البينات } اى المعجزات التى اظهرت لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر ونحوها لا التوراة لانها لم تنزل عليهم بعد وهذه هى الجناية الثانية التى اقترفهايضا اوائلهم { فعفونا عن ذلك } اى تجاوزنا عنهم بعد توبتهم مع عظم جنايتهم وجريمتهم ولم نستأصلهم وكانوا احقاء به . قيل هذا استدعاء لهم الى التوبة كأنه قيل ان اولئك الذين اجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا انتم ايضا حتى نعفو عنكم . ودلت الآية على سعة رحمة الله ومغفرته وتمام نعمته ومنته وانه لا جريمة تضيق عنها مغفرة الله وفى هذا منع من القنوط { وآتينا موسى سلطانا مبينا } اى تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حيث امرهم بان يقتلوا انفسهم توبة عن معصيتهم فاختبأوا بافنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا له من سلطان مبين(3/140)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
{ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } الباء سببية متعلقة بالرفع . والمعنى لاجل ان يعطوا الميثاق لقبول الدين روى ان موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم فابوا قبولها فامر جبرائيل عليه السلام بلقع الطور فظلله عليهم حتى قبلوا فرفع عنهم { وقلنا لهم } على لسان موسى والطور مشرف عليهم { ادخلوا الباب } اى باب القرية وهى اريحا على ما روى من انهم دخلوا اريحا فى زمن موسى عليه السلام او باب القبة التى كانوا يصلون اليها فانهم لم يدخلوا بيت المقدس فى حياة موسى { سجدا } اى متطامنين منحنين شكرا على اخراجهم من التيه فدخلوها زحفا وبدلوا ما قيل لهم { وقلنا لهم } على لسان داود { لا تعدوا } اى لا تظلموا باصطياد الحيتان يقال عدا يعدو عدوا واعداء وعدوانا اى ظلم وجاوز الحد والاصل لا تعدووا بواوين الاولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعل صار بالاعلال على وزن لا تفعوا { فى } يوم { السبت } وكان يوم السبت يوم عبادتهم فاعتدى فيه اناس منهم فاشتغلوا بالصيد { واخذنا منهم } على الامتثال بما كلفوه { ميثاقا غليظا } اى عهدا مؤكدا غاية التأكيد وهو قولهم سمعنا واطعنا قيل انهم اعطوا الميثاق على انهم ان هموا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذبهم بأى انواع العذاب اراد(3/141)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{ فبما } ما مزيدة للتأكيد { نقضهم ميثاقهم } اى فبسبب نقضهم ميثاقهم ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم او على اعقابهم فالباء متعلقة بفعل محذوف { وكفرهم بآيات الله } اى بالقرآن او بما فى كتابهم عندهم { وقتلهم الانبياء بغير حق } كذكريا ويحيى عليهما السلام { وقولهم قلوبنا غلف } جمع اغلف اى هى مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل اليها ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ولا تفقه ما يقوله او هو تخفيف غلف بضم الغين واللام جمع غلاف اى هى اوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره { بل طبع الله عليها بكفرهم } كلام معترض بين المعطوفين جيىء به على وجه الاستطراد مسارعة على زعمهم الفاسد اى ليس كفرهم وعدم وصول الحق الى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة بل الامر بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم وليست قلوبهم كما زعموا بل هى مطبوع عليها بسبب كفرهم { فلا يؤمنون الا قليلا } منهم كعبد الله بن سلام واضرابه أو ايمانا قليلا لا يعبأ به لنقصانه وهو ايمانهم ببعض الرسل والكتب دون بعض او بالايمان الغير المعتبر لا يجب ان يسموا مؤمنين فهم كافرون حقا
واعلم ان نقض الميثاق صار سببا لغضب الخلاق فعلى المؤمن ان يراعى احكام عهده وميثاقه ليسلم من البلاء
وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال اقبل علينا رسول الله فقال « يا معشر المهاجرين خمس خصال اذا ابتليتم بهن واعوذ بالله ان تدركوهن لم تظهر الفاحشة فى قوم قط حتى يعلنوا بها الا فشا فيهم الطاعون والاوجاع التى لم تكن مضت فى اسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا الكيل والميزان الا اخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة اموالهم الا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله الا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما فى ايديهم وما لم يحكم ائمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما انزل الله الا جعل الله بأسهم بينهم » قال فى المثنوى
سوى لطف بى وفايان هين مرو ... كان بل ويران بودنيكوشنو
نقض ميثاق وعهوداز بندكيست ... حفظ ايمان ووفا كار تقيست
جرعه برخاك وفا آنكس كه ريخت ... كى تواند صيد دولت زوكريخت(3/142)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
{ وبكفرهم } عطف على قولهم اى عاقبنا اليهود بسبب كذا وكذا وبسبب كفرهم بعيسى ايضا { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } يعنى نسبتها الى الزنى وبهتانا منصوب على انه مفعول به نحو قال شعرا او على المصدر الدال على النوع نحو جلست جلسة فان القول قد يكون بهتانا وغير بهتان(3/143)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{ وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } وصفهم له عليه الصلاة والسلام برسول الله انما هو بطريق الاستهزاء به كما فى قوله تعالى { يا ايها الذى نزل عليه الذكر } فانهم على عداوته وقتله فكيف يقولون فى حقه انه رسول الله ونظم قولهم هذا فى سلك سائر جناياتهم ليس لمجرد كونه كذبا بل لتضمنه لابتهاجهم وفرحهم بقتل النبى والاستهزاء به { وما } اى والحال انهم ما { قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } اى وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول فالفعل مسند الى الجار والمجرور نحو خيل اليه وليس عليه روى ان رهطا من اليهود سبوه بان قالوا هو الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وامه فلما سمع عليه الصلاة والسلام ذلك دعا عليهم فقال [ اللهم انت ربى وانا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتنى ولم آتهم من تلقاء نفسى اللهم فالعن من سبنى وسب امى ] فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبوه وسبوا امه قردة وخنازير فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم واميرهم فزع لذلك وخاف دعوته عليه ايضا فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام فبعث الله تعالى جبريل فاخبره بانه يرفعه الى السماء فقال لاصحابه أيكم يرضى بان يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقال رجل منهم انا فالقى الله عليه شبهه فقتل وصلب . وقيل كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما ارادوا قتله قال انا ادلكم عليه فدخل بيت عيسى فرفع عليه السلام والقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون انه عيسى وقيل ان ططيانوس اليهودى دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فالقى الله تعالى شبهه عليه فلما خرج ظنوا انه عيسى فاخذ وقتل ثم صلب وامثال هذه الخوارق لا يستبعد فى عصر النبوة . وقال كثير من المتكلمين ان اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله الى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم فاخذوا انسانا وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس انه هو المسيح والناس ما كانوا يعرفون المسيح الا بالاسم لما كان قليل المخالطة مع الناس فبهذا الطريق اندفع ما يقال اذا جاز ان يقال ان الله تعالى يلقى شبه انسان على انسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة حيث يجوز ان يقال اذا رأينا زيدا لعله ليس بزيد ولكنه شخص آخر القى شبه زيد عليه وعند ذلك لا يبقى الطلاق والنكاح والملك موثوقا به
لا يقال ان النصارى ينقلون عن اسلافهم انهم شاهدوه مقتولا لانا نقول ان تواتر النصارى ينتهى الى اقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب كذا فى تفسير الامام الرازى { وان الذين اختلفوا فيه } اى فى شأن عيسى عليه السلام فانه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس .(3/144)
فقال بعضهم ان كان هذا المقتول عيسى فاين صاحبنا وان كان صاحبنا فاين عيسى . وقال بعضهم الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا فان الله تعالى لما القى شبه عيسى على المقتول القاه على وجهه دون جسده وقال من سمع منه ان الله يرفعنى الى السماء انه رفع الى السماء . وقيل ان الذين اختلفوا فيه هم النصارى فقال قوم منهم انه ما قتل وما صلب بل رفعه الله السماء . وقال قوم منهم ان اليهود قتلوه فزعمت النسطورية ان المسيح صلب من جهة ناسوته اى جسمه وهيكله المحسوس لا من جهة لاهوته اى نفسه وروحه . واكثر الحكماء يختارون ما يقرب من هذا القول قالوا لانه ثبت ان الانسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو اما جسم لطيف فى هذا البدن واما جوهر روحانى مجرد فى ذاته وهو مدبر فى هذا البدن والقتل انما ورد على هذا الهيكل واما النفس التى هى فى الحقيقة عيسى فالقتل ما ورد عليها
لا يقال كل انسان كذلك فما وجه التخصيص لانا نقول ان نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الاشراق بالانوار الآلهية عظيمة القرب من ارواح الملائكة والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ثم انها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص الى فسحة السموات وانوار عالم الجلال فتعظم بهجتها وسعادتها هناك ومعلوم ان هذه الاحوال غير حاصلة لكل الناس وانما تحصل لاشخاص قليلين من مبدأ خلق آدم الى قيام الساعة . وزعمت الملكانية من النصارى ان القتل والصلب وصل الى اللاهوت بالاحساس والشعور لا بالمباشرة . وزعمت اليعقوبية منهم ان القتل والصلب وقعا بالمسيح الذى هو جوهر متولد من جوهرين { لفى شك منه } اى لفى تردد والشك كما يطلق على ما لم يترجح احد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك اكد بقوله تعالى { ما لهم به من علم الا اتباع الظن } استثناء منقطع لان اتباع الظن ليس من جنس العلم والمعنى لكنهم يتبعون الظن { وما قتلوه } قتلا { يقينا } كما زعموا بقولهم انا قتلنا المسيح فيقينا نعت مصدر محذوف على ان يكون فعيلا بمعنى المفعول وهو المتيقن(3/145)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{ بل رفعه الله اليه } رد وانكار لقتله واثبات لرفعه
قال الحسن البصرى اى الى السماء التى هى محل كرامة الله تعالى ومقر ملائكته ولا يجرى فيها حكم احد سواه فكان رفعه الى ذلك الموضع رفعا اليه تعالى لانه رفع عن ان يجرى عليه حكم العباد ومن هذا القبيل قوله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله } وكانت الهجرة الى المدينة وقوله { انى ذاهب الى ربى } اى الى موضع لا يمنعنى احد من عبادة ربى والحكمة فى الرفع انه تعالى اراد به صحبة الملائكة ليحصل لهم بركته لانه كلمة الله وروحه كما حصل للملائكة بركة صحبة آدم ابى البشر من تعلم الاسماء والعلم وان مثل عيسى عند الله كمثل آدم كما ذكر فى الآية . وقيل رفع الى السماء لما لم يكن دخوله الى الوجود الدنيوى من باب الشهوة وخروجه لم يكن من باب المنية بل دخل من باب القدرة وخرج من باب العزة { وكان الله عزيزا } لا يغالب فيما يريده فعزة الله تعالى عبارة عن كمال قدرته فان رفع عيسى عليه السلام الى السموات وان كان متعذرا بالنسبة الى قدرة البشر لكنه سهل بالنسبة الى قدرة الله تعالى لا يغلبه عليه احد { حكيما } فى جميع افعاله فيدخل فيها تدبير انه تعالى فى امر عيسى عليه السلام دخولا اوليا ولما رفع الله عيسى عليه السلام كساه الريش والبسه النور وقطعه عن شهوات المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فكان انسيا ملكيا سماويا ارضيا
قال وهب بن منبه بعث عيسى على رأس ثلاثين سنة ورفعه الله وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين
فان قيل لم لم يرد الله تعالى عيسى الى الدنيا بعد رفعه الى السماء قيل اخر رده ليكون علما للساعة وخاتما للولاية العامة لانه ليس بعده ولى يختم الله به الدورة المحمدية تشريفا لهم بختم نبى مرسل يكون على شريعة محمدية يؤمن بها اليهود والنصارى ويجدد الله تعالى به عهد النبوة على الامة ويخدمه المهدى واصحاب الكهف ويتزوج ويولد له ويكون فى امة محمد عليه السلام وخاتم اوليائه ووارثيه من جهة الولاية
واجمع السيوطى فى تفسير الدر المنثور فى سورة الكهف عن ابن شاهين اربعة من الانبياء احياء اثنان فى السماء عيسى وادريس واثنان فى الارض الخضر والياس فاما الخضر فانه فى البحر واما صاحبه فانه فى البر
قال الامام السخاوى رحمه الله حديث « اخى الخضر لو كان حيا لزارنى » من كلام بعض السلف ممن انكر حياة الخضر
واعلم ان الارواح المهيمة التى من العقل الاول كلها صف واحد حصل من الله ليس بعضها بواسطة بعض وان كانت الصفوف الباقية من الارواح بواسطة العقل الاول كما اشار صلى الله عليه وسلم(3/146)
« انا ابو الارواح وانا من نور الله والمؤمنون فيض نورى » فاقرب الارواح فى الصف الاول الى الروح الاول والعقل الاول روح عيسوى لهذا السر شاركه بالمعراج الجسمانى الى السماء وقرب عهده بعهده فالروح العيسوى مظهر الاسم الاعظم وفائض من الخضرة الآلهية فى مقام الجمع بلا واسطة اسم من الاسماء وروح من الارواح فهو مظهر الاسم الجامع الآلهى وراثة اولية ونبينا عليه السلام اصالة كذا فى شرح الفصوص
ثم اعلم ان قوما قالوا على مريم فرموها بالزنى وآخرين جاوزوا الحد فى تعظيمها فقالوا ابنها ابن الله وكلتا الطائفتين وقعتا فى الضلال . ويقال مريم كانت ولية الله فشقى بها فرقتان اهل الافراط واهل التفريط وكذلك كل ولى له تعالى فمنكرهم شقىّ بترك احترامهم وطلب اذيتهم والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبون يشقون بالزيادة فى اعظامهم وعلى هذه الجملة درج الاكثرون من الاكابر كذا فى التأويلات النجمية : وفى المثنوى
توولى درحد خويش ... الله الله بامنه درحد بيش
جمله عالم زين سبب كمراه شد ... كم كسى زابدال حق آكاه شد
دير بايد تاكى سر آدمى ... آشكارا كردد ازبيش وكمى
زير ديوار بدن كنجست يا ... خانه مارست ومور وازدها(3/147)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{ وان من اهل الكتاب } اى ما من اليهود والنصارى احد { الا ليؤمنن به } اى بعيسى { قبل موته } اى قبل موت ذلك الاحد من اهل الكتاب يعنى اذا عاين اليهودى امر الآخرة وحضرته الوفاة ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالت اتاك عيسى عليه السلام نبيا فكذبت به فيؤمن حين لا ينفعه ايمانه لانقطاع وقت التكليف وتقول للنصرانى اتاك عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله فزعمت انه هو الله وابن الله فيؤمن بانه عبد الله حين لا ينفعه ايمانه قالوا لا يموت يهودى ولا صاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى وان احترق او غرق او تردى او سقطه عليه جدار او اكله سبع او أى ميتة كانت حتى قيل لابن عباس رضى الله عنهما لو خر من بيته قال يتكلم به فى الهواء قيل أرأيت لو ضرب عنق احدهم قال يتلجلج به لسانه وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معاجلة الايمان به قبل ان يضطروا اليه ولم ينفعهم ايمانهم . وقيل الضميران لعيسى والمعنى وما من اهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى من السماء احد الا ليؤمنن به قبل موته روى عن النبى عليه السلام انه قال « انا اولى الناس بعيسى لانه لم يكن بينى وبينه نبى ويوشك انه ينزل فيكم حكما عدلا فاذا رأيتموه فاعرفوه فانه رجل مربوع الخلق الى الحمرة والبياض وكان رأسه يقطر وان لم يصبه بلل فيقتل الخنزير ويريق الخمر ويكسر الصليب ويذهب الصخرة ويقاتل الناس على الاسلام حتى يهلك الله فى زمانه الملل كلها غير ملة الاسلام وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ويهلك الله فى زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال حتى لا يبقى احد من اهل الكتاب وقت نزوله الا يؤمن به وتقع الامنة فى زمانه حتى ترتع الابل مع الاسود والبقر مع النمور والغنم مع الذئاب وتلعب الصبيان بالحيات لا يؤذى بعضهم بعضا ثم يلبث فى الارض اربعين سنة ثم يموت ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه » وفى الحديث « ان المسيح جاىء فمن لقيه فليقرئه منى السلام » { ويوم القيمة يكون } اى عليسى عليه السلام { عليهم } اى على اهل الكتاب { شهيدا } فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بانهم دعوه ابن الله(3/148)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
{ فبظلم من الذين هادوا } اى بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الاشباه والاشكال صادر عن اليهود { حرمنا عليهم طيبات احلت لهم } ولمن قبلهم لا لشىء غيره كما زعموا فانهم كلما ارتكبوا معصية من المعاصى التى اقترفوها حرم عليهم نوع من الطيبات التى كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من اسلافهم عقوبة لهم كلحوم الابل وألبانها والشحوم
وفى التأويلات النجمية نكتة قال لهم { حرمنا عليهم طيبات } وقال لنا { ويحل لهم الطيبات } وقال { كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } فلم يحرم علينا شيأ بذنوبنا وكما آمنا من تحريم الطيبات فى هذه الآية نرجو ان نؤمننا فى الآخرة من العذاب الاليم لانه جمع بينها فى الذكر فى هذه الآية
وقال اهل الاشارة ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات وانا اقوال الاسراف فى ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجاة انتهى كلام التأويلات : قال السعدى
مرو دربى هرجه دل خواهدت ... كه تمكين تن نور جان كاهدت
{ وبصدهم عن سبيل الله } اى بسبب منعهم عن دين الله وهو الاسلام ناسا { كثيرا } او صدا كثيرا(3/149)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
{ واخذهم الربوا وقد } اى والحال انهم قد { نهوا عنه } فان الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا . وفيه دليل على ان النهى يدل على حرمة المنهى عنه { واكلهم اموال الناس بالباطل } بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة { واعتدنا } اى خلقنا وهيأنا { للكافرين منهم } اى للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم { عذابا اليما } وجيعا يخلص وجعه الى قلوبهم سيذوقونه فى الآخرة كما ذاقوا فى الدنيا عقوبة التحريم(3/150)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{ لكن الراسخون فى العلم منهم } اى التائبون من اهل الكتاب كعبد الله بن سلام واصحابه وسماهم راسخين فى العلم لثباتهم فى العلم وتجردهم فيه لا يضطربون ولا تميل بهم الشبه بمنزلة الشجرة الراسخة بعروقها فى الارض { والمؤمنون } اى من غير اهل الكتاب من المهاجرين والانصار { يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك } خبر المبتدأ وهو الراسخون وما عطف عليه
قال فى التأويلات النجمية كان عبد الله بن سلام عالما بالتوراة وقد قرأ فيها صفة النبى عليه السلام فلما كان راسخا فى العلم اتصل علم قراءته بعلم المعرفة فقال لما رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت انه ليس بوجه كذاب فآمن به ولما لم يكن للاحبار رسوخ فى العلم وان قرأوا صفة النبى عليه السلام فى التوراة فلما رأوا النبى عليه السلام ما عرفوه فكفروا به انتهى ونعم ما قيل فى حق الشرفاء
جعلوا لابناء الرسول علامة ... ان العلامة شان من لم يشهر
نور النبوة فى كريم وجوههم يغنى ... الشريف عن الطراز الاخطر خضر
{ و } اعنى { المقيمين الصلوة } فنصبه على المدح لبيان فضل الصلاة { و } هم { المؤتون الزكوة } فرفعه على المدح ايضا وكذا رفع قوله تعالى { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } قدم عليه الايمان بالانبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع لانه المقصود بالآية { اولئك سنؤتيهم اجرا عظيما } اى ثوابا وافرا فى الجنة على جمعهم بين الايمان والعمل الصالح وهو ما اريد به وجه الله تعالى
ومن افاضل الاعمال الصلوات الخمس واقامتها وفى الحديث « من حافظ منكم على الصلوات الخمس حيث كان واين ما كان جاز الصراط يوم القيامة كالبرق اللامع فى اول زمرة السابقين وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر وكان له كل يوم وليلة حافظ عليهن اجر شهيد » وسر هذا الحديث مفهوم من لفظ الصلاة ووجه تسميتها بها لان اشتقاقها من الصلى وهو النار والخشبة المعوجة اذا ارادوا تقويمها يعرضونها على النار فتقوم وفى العبد اعوجاج لوجود نفسه الامارة فيه وسبحات وجه الله الكريم حارة بحيث لو كشف حجابها لاحرقت تلك السبحات من ادركته ومن انتهى اليه البصر كما ورد فى الحديث فبدخول المصلى فى الصلاة يستقبل تلك السبحات فيصيب المصلى من وهج السطوة الآلهية والعظمة الربانية ما يزول به اعوجاجه بل يتحقق به معراجه فالمصلى كالمصطلى بالنار ومن اصطلى بها زال بها اوعجاجه فلا يعرض على نار جهنم الا تحلة القسم وبذلك المقدار من المرور يذهب اثر دون ولا يبقى له احتياج الى المكث على الصراط فيمر كالبرق اللامع وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع(3/151)
« ان اولياء الله المصلون ومن يقيم الصلوات الخمس التى كتبهن الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه ويؤتى الزكاة محتسبا طيبة بها نفسه ويجتنب الكبائر التى نهى الله عنها » فقال رجل من اصحابه يا رسول الله وكم الكبائر قال « تسع اعظمهن الاشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر واكل الربا واكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت العتيق الحرام قبلتكم احياء وامواتا لا يموت رجل لم يعمل هؤلاء الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة الا رافق محمدا فى بحبوبة جنة ابوابها مصاريع الذهب »
واعلم ان الراسخين فى العلم هم الذين رسخوا بقدمى العمل والعلم الى ان بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية اللدنية وفى الحديث « طلعت ليلة المعراج على النار فرأيت اكثر اهلها الفقراء » قالوا يا رسول الله من المال قال « لا من العلم » وفى الحديث « العلم امام العمل والعمل تابعه »
قال حجة الاسلام الغزالى رحمه الله فى منهاج العابدين ولقد صرت من علماء امة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الراسخين فى العلم ان انت عملت بعلمك واقبلت على عمارة معادك وكنت عبدا عالما عاملا لله تعالى على بصيرة غير جاهل ولا مقلد غير غافل فلك الشرف العظيم ولعلمك القيمة الكثيرة والثواب الجزيل وبناء امر العبادة كله على العلم سيما علم التوحيد وعلم السر فلقد روى ان الله تعالى اوحى الى داود عليه السلام فقال [ يا داود تعلم العلم النافع ] قال آلهى وما العلم النافع قال [ ان تعرف جلالى وعظمتى وكبريائى وكمال قدرتى على كل شىء فان هذا الذى يقربك الى ] وعن على رضى الله عنه ما يسرنى انى لو مت طفلا فادخلت الجنة ولم اكبر فاعرف ربى فان اعلم الناس بالله اشدهم خشية واكثرهم عبادة واحسنهم فى الله نصيحة(3/152)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
{ انا اوحينا اليك } جواب لاهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بانه ليس بدعا من الرسل وانما شأنه فى حقيقة الارسال واصل الوحى كشأن سائر مشاهير الانبياء الذين لا ريب لاحدهم فى نبوتهم والوحى والايحاء كالاعلام فى خفاء وسرعة اى انزلنا جبرائيل عليك يا محمد بهذا القرآن { كما اوحينا } اى ايحاء مثل ايحائنا { الى نوح والنبيين من بعده } بدأ بذكر نوح لانه ابو البشر واول نبى عذبت امته لردهم دعوته وقد اهلك الله بدعائه اهل الارض قيل ان نوحا عليه السلام عمر الف سنة لم ينقص له سن ولا قوة ولم يشب له شعر ولم يبالغ احد من انبياء فى الدعوة ما بالغ ولم يصبر على اذى قومه ما صبر وكان يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا وكان يضرب من قومه حتى يغمى عليه فاذا افاق عاد وبلغ وقيل هو اول من تنشق عنه الارض يوم القيامة بعد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم { واوحينا الى ابراهيم } عطف على اوحينا الى نوح داخل معه فى حكم التشبيه اى كما اوحينا الى ابراهيم { واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط } وهم اولاد يعقوب عليه السلام وهم اثنا عشر رجلا { وعيسى وايوب ويونس وهرون وسليمان } خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تشريفا لهم واظهارا لفضلهم فان ابراهيم اول اولى العزم منهم وعيسى آخرهم والباقين اشراف الانبياء ومشاهيرهم وقدم ذكر عيسى على من بعده لان الواو للجمع دون الترتيب فتقدم ذكره فى الآية لا يوجب تقديمه فى الخلق والارسال والفائدة فى تقديمه فى الذكر رد على اليهود فى تبرئته مما رمى به ونسب اليه { وآتينا } اى كما آتينا { داود زبورا } فالجملة عطف على اوحينا داخلة فى حكمه لان ايتاء الزبور من باب الايحاء . والزبور هو الكتاب مأخوذ من الزبر وهو الكتابة
قال القرطبى كان فيها مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الاحكام وانما هى حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد وثناء على الله عز وجل وكان داود يبرز الى البرية ويقرأ الزبور فيقوم معه علماء بنى اسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس وتجيىء الدواب التى فى الجبال اذا سمعت صوت داود فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن من صوته ويجيىء الطير حتى يظللن على داود فى خلائق لا يحصيهن الا الله يرفرفن على رأسه وتجيىء السباع حتى تحيط بالدواب والوحش لما يسمعن فلما قارف الذنب وهو تزوج امرأة اوريا من غير انتظار الوحى بجبرائيل ولم يروا ذلك فقيل ذلك انس الطاعة وهذه وحشة المعصية
وعن ابى موسى الاشعرى قال قال لى رسول الله « لو رأيتنى البارحة وانا استمع لقراءتك لقد اعطيت مزمارا من مزامير آل داود » قال فقلت اما والله يا رسول الله لو علمت انك تسمع لحبرته تحبيرا
وعن ابى عثمان قال ما سمعت قط بربطا ولا مزمارا ولا عودا احسن من صوت ابى موسى وكان يؤمنا فى صلاة الغداة فنودّ انه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته : قال السعدى قدس سره
به ازروى زيباست آواز خوش ... كه آن حظ نفس است واين قوت روح
وعند هبوب الناشرات على الحمى ... تميل غصون البان لا الحجر الصلد(3/153)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
{ ورسلا } نصب بمضمر يدل عليه اوحينا معطوف عليه داخل معه فى حكم التشبيه كما قيل اى وكما ارسلنا رسلا { قد قصصناهم عليك } اى سميناهم لك { من قبل } متعلق بقصصنا اى من قبل هذه السورة او اليوم وعرفناك وقصتهم فعرفتهم { ورسلا لم نقصصهم عليك } اى لم نسمهم لك والرسل هم الذين اوحى اليهم بجبريل والانبياء هم الذين لم يوح اليهم بجبريل وانما اوحى اليهم بملك آخر أو برؤيا فى المنام او بشىء آخر من الالهام
وعن ابى ذرّ رضى الله عنه قال قلت يا رسول الله كم كانت الانبياء وكم كان المرسلون قال « كانت الانبياء مائة الف واربعة وعشرين الف وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر » وفى رواية سئل عن عدد الانبياء فقال « مائتا الف واربعة وعشرون الفا » والاولى ان لا يقتصر على عدد فى التسمية لهذه الآية وخبر الواحد لا يفيد الا الظن ولا عبرة بالظن فى الاعتقاديات { وكلم الله موسى تكليما } عطف على انا اوحينا اليك عطف القصة على القصة وتأكيد كلم بالمصدر يدل على انه عليه السلام سمع كلام الله حقيقة لا كما يقوله القدرية من ان الله تعالى خلق كلاما فى محل فسمع موسى ذلك الكلام لان ذلك لا يكون كلام الله القائم به والافعال المجازية لا تؤكد بذكر المصادر لا يقال اراد الحائط ان يسقط ارادة
قال الفراء العرب تسمى ما وصل الى الانسان كلاما بأى طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فاذا اكد به لم يكن الا حقيقة الكلام والمعنى ان التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحى خص به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحا فى نبوة سائر الانبياء فكيف يتوهم كون نزول التوراة عليه جملة قادحا فى صحة من انزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور ان نزولها كذلك لحكم مقتضية لذلك من جملتها ان بنى اسرائيل كانوا فى العناد وشدة الشكيمة بحيث لو لم يكن نزولها كذلك لما آمنوا بها الا بعد اللتيا والتى وقد فضل الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بان اعطاه مثل ما اعطى كل واحد منهم : قال العطار
كرده درشب سوى معراجش روان ... سر كل با اونهاده درميان
رفت موسى بربساط آن جناب ... خلع نعلين آمدش ازحق خطاب
جون بنزديكى شد از نعلين دور ... كشت در وادى المقدس غرق نور
باز در معراج شمع ذو الجلال ... مى شنود آواز نعلين بلال
موسىء عمران اكرجه بودشاه ... هم نبود انجاش بانعلين راه
ابن عنايت بين كه بهر جاه او ... كرد حق باجاكر دركاه او
جاكرش را كرد مردكوى خويش ... دار بانعلين راهش سوى خويش
موسىء عمران جون آن رتبت بديد ... جاكر اورا جنان قربت بديد
كفت يا رب امت اوكن مرا ... در طفيل همت اوكن مرا
اوست سلطان وطفيل اوهمه ... اوست دائم شاه وخيل اوهمه
روى ان موسى عليه السلام لما اتى طور سيناء انزل الله الظلمة على سبع فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد عنه الهوام ونحى عنه الملكين وكشف له السماء فرأى الملائكة قياما فى الهواء ورأى العرش بارزا وكلمه الله وناجاه حتى اسمعه كلامه من غير واسطة وكيفية وصوت وحرف(3/154)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
{ رسلا } نصب على المدح اعنى رسلا { مبشرين } لاهل الطاعة بالجنة { ومنذرين } للعصاة بالنار { لئلا يكون } اللام متعلقة بارسلنا { للناس } خبر يكون { على الله } متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله { حجة } اى كائنة على الله . وحجة اسم يكون والمعنى لئلا يكون للناس على الله معذرة يوم القيامة يعتذرون بها قائلين لولا ارسلت الينا رسولا فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من احكامك وينبهنا من سنة الغفلة لقصور القوة البشرية عن ادراك جزئيات المصالح وعجز اكثر الناس عن ادراك كلياتها
ففيه تنبيه على ان بعثة الانبياء الى الناس ضرورة وانما سميت المعذرة حجة مع استحالة ان يكون لاحد عليه سبحانه حجة فى فعل من افعاله بل له ان يفعل ما يشاء للتنبيه على ان المعذرة فى القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده بمنزلة الحجة القاطعة التى لا مرد لها ولذلك قال { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } قال النبى صلى الله عليه وسلم « ما احد اغير من الله عز وجل لذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما احد احب اليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه وما احد احب اليه العذر من الله تعالى ولذلك ارسل الرسل وانزل الكتاب » { بعد الرسل } اى بعد ارسالهم وتبليغ الشرائع الى الامم على ألسنتهم متعلق بحجة { وكان الله عزيزا } لا يغالب فى امر من الامور من قضية الامتناع عن الاجابة الى مسألة المتعنتين { حكيما } فى جميع افعاله التى من جملتها ارسال الرسل وانزال الكتب(3/155)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
{ لكن الله } استدراك على مفهوم ما قبله من سؤالهم على وجه التعنت ان ينزل عليهم ما وصفوه من الكتاب فهو بمنزلة قولهم لا نشهد بان الله تعالى بعثك الينا رسولا حتى ينزل ما سألناه فقال تعالى انهم لا يشهدون بصدقك فى دعوى الرسالة لكن الله { يشهد بما انزل اليك } من القرآن المعجز الدال على نبوتك ان جحدوك وكذبوك فان انزال هذا القرآن البالغ فى الفصاحة الى حيث عجز الاولون والآخرون عن معارضته واتيان ما يدانيه شهادة له عليه السلام بنبوته وصدقه فى دعوى الرسالة من الله تعالى فمعنى شهادة الله تعالى بما انزل اليه اثباته لصحته باظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات { انزله بعلمه } حال من الفاعل اى ملتبسا بعلمه الخاص الذى لا يعلمه غيره وهو تأليف على نمط بديع يعجز عنه كل بليغ او بعلمه بحال من انزل عليه واستعداده لاقتباس الانوار القدسية { والملائكة يشهدون } ايضا بنبوتك
فان قلت من اين يعلم شهادة الملائكة قلت من شهادة الله تعالى لان شهادتهم تبع لشهادته { وكفى بالله شهيدا } على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججا ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها كأنه تعالى قال يا محمد ان كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فان الله تعالى وهو اله العالمين يصدقك فى دعواك وملائكة السموات ايضا يصدقونك فى ذلك ومن صدقه رب العالمين والملائكة اى ملائكة العرش والكرسى والسموات السبع اجمعون لا ينبغى له ان يلتفت الى تكذيب اخس الناس وهم هؤلاء اليهود(3/156)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
{ ان الذين كفروا } اى بما انزل الله ويشهد به وهم اليهود { وصدوا عن سبيل الله } وهو دين الاسلام من اراد سلوكه بقوله ما نعرف صفة محمد فى كتابنا { قد ضلوا } بما فعلوا من الكفر والصد عن طريق الحق { ضلالا بعيدا } لانهم جمعوا بين الضلال والاضلال ولان المضل يكون اعرق فى الضلال وابعد من الانقلاع عنه(3/157)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
{ ان الذين كفروا } اى بما ذكر آنفا { وظلموا } اى محمدا صلى الله عليه وسلم بانكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ووضع غيرها مكانها او الناس بصدهم عما فيه صلاحهم فى المعاش والمعاد { لم يكن الله } مريدا { ليغفر لهم } لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر { ولا ليهديهم طريقا الا طريق جهنم } لعدم استعدادهم للهداية الى الحق والاعمال الصالحة التى هى طريق الجنة والمراد بالهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الاشارة خلق الله لاعمالهم السيئة المؤدية بهم الى جهنم عند صرف قدرتهم واختيارهم الى اكتسابها او سوقهم اليها يوم القيامة بواسطة الملائكة والطريق على عمومه والاستثناء متصل وقيل خاص بطريق الحق والاستثناء منقطع { خالدين فيها } حال مقدرة من الضمير المنصوب والعامل فيها ما دل عليه الاستثناء دلالة واضحة كأنه قيل يدخلهم جهنم خالدين فيها { ابدا } نصب على الظرفية رافع لاحتمال حمل الخلود على المكث الطويل { وكان ذلك } اى جعلهم خالدين فيها { على الله يسيرا } لاستحالة ان يتعذر عليه شىء من مراداته تعالى
واعلم ان من كان فيه ذرة من النور المرشوش على الارواح يوم خلقها يخرج به من النار كما قال عليه السلام « يخرج من النار من كان فى قلبه ذرة من الايمان » ومن لم يكن فيه ذلك النور يخلد فى النار لانه وقع فى ظلمة عظيمة لا يمكن الخروج منها وقد ضل ضلال بعيدا اى من يوم رش النور لا ضلالا قريبا من هذا اليوم لان ضلال اليوم من نتائج ضلال ذلك اليوم ومثل هذا لا يهتدى الى طريق الحق والقربة الى الله تعالى فيحترق فى عذاب القطيعة ابدا ولا يخرج من نار الفرقة سرمدا
فعلى العبد ان يشهد بما شهد الله تعالى به ويقبل قول الله وقول الرسول وقول وارثيه من العلماء العاملين فانهم ينطقون عن الله وعن الرسول
قال شقيق رحمه الله الناس يقومون من مجلسى على ثلاثة اصناف كافر محض ومنافق محض ومؤمن محض وذلك لانى افسر القرآن واقول عن الله عز وجل وعن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فمن لا يصدقنى فهو كافر محض ومن ضاق قلبه فهو منافق ومن ندم على ما صنع وعزم على انه لا يذنب كان مؤمنا مخلصا واول الامر الاعتقاد وذلك يحتاج الى العلم اولا والعمل ثانيا لانه ثمرته وسئل النبى عليه السلام عن العلم فقال « دليل العمل » قيل فما العقل قال عليه السلام « قائد الخير » فما الهوى قال « مركب المعاصى » قيل فما المال قال « رداء المتكبرين » قيل فما الدنيا قال « سوق الاخرة »(3/158)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{ يا ايها الناس } خطاب لعامة الخلق { قد جاءكم الرسول } يعنى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ملتبسا { بالحق } وهو القرآن المعجز الذى شهد اعجازه على حقيته او بالدعوة الى عبادة الله وحده والاعراض عما سواه فان العقل السليم يشهد على انه الحق { من } عند { ربكم } متعلق بجاء اى جاء من عند الله وانه مبعوث مرسل غير متقول له { فآمنوا } بالرسول وبما جاءكم به من الحق والفاء للدلالة على ايجاب ما قبلها لما بعدها { خيرا لكم } منصوب على انه مفعول لفعل واجب الاضمار اى اقصدوا او ائتوا امرا خيرا لكم مما انتم فيه من الكفر او على انه نعت لمصدر محذوف اى آمنوا ايمانا خيرا لكم وهو الايمان باللسان والجنان { وان تكفروا } اى ان تصروا وتستمروا على الكفر { فان لله ما فى السموات والارض } من الموجودات سواء كانت داخلة فى حقيقتهما وبذلك يعلم حال انفسهما على ابلغ وجه وآكده او خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم فيدخل فى جملتهم المخاطبون دخولا اوليا اى كلها له عز وجل خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج من ملكوته وقهره شىء منها فمن هذا شأنه فهو قادر على تعذيبكم بكفركم لا محالة او فمن كان كذلك فهو غنى عنكم وعن غيركم لا يتضرر بكفركم ولا ينتفع بايمانكم او فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لامره { وكان الله عليما } مبالغا فى العلم فهو عالم باحوال الكل فيدخل فى ذلك علمه تعالى بكفرهم دخولا اوليا { حكيما } مراعيا للحكمة فى جميع افعاله التى من جملتها تعذيبه تعالى اياهم بكفرهم
واعلم ان النبى صلى الله عليه وسلم صورة النور الغيبى المرسل الى الاجساد فمن كان قابلا لافاضة نور دعوته فقد اهتدى ومن اخطأ فقد ضل
واتفق المشايخ على ان ألقى زمامه فى يد كلب مثلا حتى لا يكون تردده بحكم طبعه فنفسه اقوم لقبول الرياضة ممن جعل زمامه فى حكم نفسه يسترسل بها حيث شاء كالبهائم فلما تيقنت ان الواجب عليك ان تكون تايعا لا مسترسلا فلان تتبع سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم الذى آدم ومن دونه من الاولياء والانبياء تحت لوائه خير لك بل واجب عليك وما اعظم حماقة من يحتاط بقول المنجم فى الاختلاج والفال وينقاد الى الاحتمالات البعيدة ثم اذا آل الامر الى خبر النبوة عن الغيب انكر فلا ترض لنفسك ان تصدق ابن البيطار فيما ذكره فى العقاقير والاحجار فتبادر الى امتثال ما امرك به ولا تصدق سيد البشر صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عنه وتتوانى بحكم الكسل عن الاتيان بما امر به او فعل
واعلم انك لما اخرجك الله من صلب آدم فى مقام ألست رددت الى اسفل السافلين ثم منه دعيت لترتفع بسعيك وكسبك الى اعلى عليين حيث ما قدر لك على حسب قابليتك ولا يمكنك ذلك الا بأمرين .(3/159)
احدهما بمحبته صلى الله عليه وسلم بان تؤثر حبه على نفسك واهلك ومالك . والثانى بمتابعه صلى الله عليه وسلم فى جميع ما امر به ونهى عنه وبذلك تستحكم مناسبتك به وبكمال متابعتك يحصل لك الارتفاع الى اوج الكمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رأيت الجيش بعينى » فيه اشارة الى ان هذا المثل مختص بالنبى عليه السلام لان ما انذر به من الاهوال هى التى رآها بعينيه واما سائر الانبياء عليهم السلام فلم يكن لهم معراج ظاهر حتى يعاينوا تلك الاهوال « وانى انا النذير » وهو الذى يخوف غيره بالاعلام « العريان » وهو الذى لقى العدو فسلبوا ما عليه من الثياب فاتى قومه يخبرهم فصدق بعضهم لما عليه من آثار الصدق فنجوا وهذا القول مثل يضرب لشدة الامر وقرب المحذور وبراءة المخبر من التهمة والكل موجود فى النبى عليه السلام « فالنجاء » بالمد نصب على الاغراء اى اطلبوا النجاء وهو الاسراع « فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا » اى ساروا من اول الليل « فانطلقوا على مهلهم » وهو بفتح الميم والهاء ضد العجلة « وكذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش » اى تاهم صباحا ليغير عليهم « فاهلكهم واجتاحهم » اى اهلكم بالكلية « فذلك » اى المثل المذكور وهذا بيان لوجه المشابهة « مثل من اطاعنى واتبع ما جئت به من الحق » وفيه اشارة الى ان مطلق العصيان غير مستأصل بل العصيان مع التكذيب بالحق كذا فى شرح المشارق لابن الملك رحمه الله تعالى : قال السعدى قدس سره
خلاف بيمبركسى ره كزيد ... كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
محالست سعدى كه راه صفا ... توان رفعت جز دربى مصطفا(3/160)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{ يا اهل الكتاب } الخطاب للنصارى خاصة { لا تغلوا فى دينكم } اى لا تتجاوزوا الحد فى دينكم بالافراط فى رفع شأن عيسى وادعاء الوهيته والغلو مجاوزة الحد
واعلم ان الغلو والمبالغة فى الدين والمذهب حتى يجاوز حده غير مرضى كما ان كثيرا من هذه الامة غلوا فى مذهبهم فمن ذلك مذهب الغلاة من الشيعة فى امير المؤمنين على بن ابى طالب كرم الله وجهه حتى ادعوا الهيته وكذلك المعتزلة غلوا فى التنزيه حتى نفوا صفات الله وكذا المشبهة غلوا فى اثبات الصفات حتى جسموه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولدفع الغلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « لا تطرونى كما اطرت النصارى عيسى ابن مريم » اى لا تتجاوزوا عن الحد فى مدحى كما بالغ النصارى فى مدح عيسى حتى ضلوا وقالوا انه ولد الله « وقولوا عبد الله ورسوله » اى قولوا فى حقى انه عبد الله ورسوله وفى تقديم العبد على الرسول كما فى التحيات ايضا نفى لقول اليهود والنصارى فان اليهود قالوا عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله فنحن نقوله عبده ورسوله والغلو من العصبية وهى من صفات النفس المذمومة والنفس هى امارة بالسوء لا تأمر الا بالباطل
مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتش قبله ديكرست
{ ولا تقولوا على الله الا الحق } اى لا تصفوه بما يستحيل اتصافه من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك . قوله الا الحق استثناء مفرغ ونصبه على انه مفعول به نحو قلت خطبة او نعت مصدر محذوف اى الا القول الحق وهو قريب من المعنى الاول { انما المسيح } مبتدأ وهو لقب من الالقاب المشرفة كالصديق والفاروق واصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك { عيسى } بدل منه معرب من ايشوع { ابن مريم } صفة مفيدة لبطلان ما وصفوه به من نبوته له تعالى . ومريم بمعنى العابدة وسميت مريم مريم ليكون فعلها مطابقا لاسمها ولكون عيسى عليه السلام منسوبا الى امه تدعى الناس يوم القيامة باسماء امهاتهم ويدل عليه حديث التلقين بعد الدفن حيث يقال يا فلان ابن فلانة وفى النسبة الى الامهات ستر منه تعالى للعباد ايضا { رسول الله } خبر للمبتدأ اى انه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها وهذا هو القول الحق { وكلمته } عطف على رسول الله اى تكون بكلمته وامره الذى هو كن من غير واسطة اب ولا نطفة فان تكوين الخلق كله وان كان بكلمة كن له ولكن بالوسائط فان تعلق كن بتكوين الآباء قبل تعلقه بتكوين الابناء فلما كان تعلق امر كن بعيسى فى رحم مريم من غير تعلقه بتكوين اب له تكون عيسى بكلمة كن وكن هى كلمة الله فعبر عن ذلك بقوله وكلمته القاها الى مريم يدل عليه قوله انه مثل عيسى عند الله يعنى فى التكوين كمثل آدم خلقه من تراب يعنى سوى جسمه من تراب ثم قال له يعنى عند بعث روحه الى القالب كن فيكون وانما ضرب مثله بآدم فى التكوين لانه ايضا تكون بكلمة كن من غير واسطة اب { القاها الى مريم } اى اوصلها اليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام { وروح منه } عطف على كلمته ومنه صفة لروح ومن لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى لاستحالة التجزى على الله تعالى وروى انه كان لهارون الرشيد طبيب نصرانى وكان غلاما حسن الوجه جدا وكان كامل الادب جامعا للخصال التى يتوصل بها الى الملوك وكان الرشيد مولعا بان يسلم وهو يمتنع وكان الرشيد يمنيه الامانى ان اسلم فأبى فقال له ذات يوم مالك لا تؤمن قال ان فى كتابكم حجة على من انتحله قال وما هى قال قوله تعالى { وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه } فعنى بهذا ان عيسى عليه السلام جزء منه فضاق قلب الرشيد وجمع العلماء فلم يكن فيهم من يزيل شبهته حتى قيل له قد وفد حجاج من خراسان وفيهم رجل يقال له على بن الحسين بن واقد من اهل مرو وهو امام فى علم القرآن فدعاه فجمع بينه وبين الغلام فسأله الغلام عن ذلك فاستعجم عليه الجوا فى الوقت وقال قد علم الله يا امير المؤمنين فى سابق علمه ان هذا الخبيث يسألنى فى مجلسك هذا وانه لم يخل كتابه عن جوابه وانه ليس يحضرنى الآن ولله علىّ ان لا اطعم ولا اشرب حتى اؤدى الذى يجب من الحق ان شاء الله تعالى ودخل بيتا مظلما واغلق عليه بابه واندفع فى قراءة القرآن حتى بلغ من سورة الجاثية(3/161)
{ وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض جميعا منه } فصاح باعلى صوته افتحوا الباب فقد وجدت الجواب ففتحوا ودعا الغلام فقرأ عليه الآية بين يدى الرشيد وقال ان كان قوله وروح منه يوجب ان يكون عيسى بعضا منه وجب ان يكون ما فى السموات وما فى الارض بعضا منه فانقطع النصرانى واسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل على بن الحسين الواقدى المروزى بصلة جيدة فلما عاد على بن الحسين الى مرو صنف كتابا سماه كتاب النظائر فى القرآن وهو كتاب لا يوازيه كتاب . قيل معنى كونه روحا انه ذو روح صادر منه تعالى كسائر ذوى الارواح الا انه تعالى اضاف روحه الى نفسه تشريفا . وقيل المراد بالروح هو الذى نفخ جبرائيل عليه فى درع مريم فدخلت تلك النفخة بطنها فحملت باذن الله من ذلك النفخ سمى النفخ روحا لانه كان ريحا يخرج من الروح واضاف تعالى نفخة جبريل الى نفسه حيث قال وروح منه بناء على ان ذلك النفخ الواقع من جبريل كان باذن الله تعالى وامره فهو منه
وعن ابى بن كعب انه قال ان الله تعالى لما اخرج الارواح من ظهر آدم لاخذ الميثاق عليهم ثم ردهم الى صلبه امسك عنده روح عيسى الى ان اراد خلقه ثم ارسل ذلك الروح الى مريم فدخل فى فيها فكان منه عيسى عليه السلام .(3/162)
قيل خلق عيسى عليه السلام من ماء مريم ومن النفخ لا من احدهما فقط وهو الاصح عند المحققين . قيل خرج فى ساعة النفخ . وقيل بعد المدة الكاملة بعد ثمانية اشهر والاول هو الاصح
وفى التأويلات النجمية ان شرف الروح على الاشياء بانه ايضا كعيسى تكون بامر كن بلا واسطة شىء آخر فلما تكون الروح بامر كن وتكون عيسى بامر كن سمى روحا منه لان الامر منه تعالى كما قال { قل الروح من امر ربى } فكما ان احياء الاجسام الميتة من شأن الروح اذ ينفخ فيها فكذلك كان عيسى من شأنه احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص بذان الله وكذلك كان ينفخ فى الطين فيكون طيرا باذن الله تعالى
واعلم ان هذا الاستعداد الروحانى الذى هو من كلمة الله مركوز فى جبلة الانسان وخلق منه اى من الامر وانما اظهره الله فى عيسى من غير تكلف منه فى السعى لاستخراج هذا الجوهر من معدنه لان روحه لم يركز فى اصلاب الآباء وارحام الامهات كارواحنا فكان جوهره ظاهرا فى معدن جسمه غير مخفى ببشرية اب وجوهرنا مخفى فى معدن جسمنا ببشرية آبائنا الى آدم فمن ظهور انوار جوهر روحه كان الله تعالى يظهر عليه انواع المعجزات فى بدء طفوليته ونحن نحتاج فى استخراج الجوهر الروحانى من المعدن الجسمانى الى نقل صفات البشرية المتولدة من بشرية الآباء والامهات عن معادننا باوامر استاذ هذه الصنعة ونواهيه وهو النبى عليه السلام كما قال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته وانسانيته يكون عيسى وقته فيحيى الله بانفاسه القلوب الميتة ويفتح به اذانا صما وعيونا عميا فيكون فى قومه كالنبى فى امته فافهم جدا : وفى المثنوى
عيسى اندر مهد دارد صد نفير ... كه جوان ن كشته ماشيخيم وبير
بير بير عقل بايد اى بسر ... نى سفيدى موى اندرريش وسر
جون كرفتى بيرهين تسليم شو ... همجو موسى زيرحكم خضرشو
دست را مسبار جز دردست بير ... حق شدست آن دست اورادستكير
جون بدارى دست خوددردست بير ... بير حكمت كو عليم است وخبير
ثم اعلم انه لما كان النافخ جبرائيل والولد سرّ ابيه كان الواجب ان يظهر عيسى على صورة الروحانيين والجواب انه انما كان على صورة البشر ولم يظهر على صورة الروحانيين لان الماء المحقق عند التمثل كان فى امه وهى بشر ولاجل تمثل جبريل ايضا عند النفخ بالصورة البشرية لانها اكمل الصور كما اشار صلى الله تعالى عليه وسلم فى تجلى الربوبية بصورة شاب قطط وظهور جبريل بصورة دحية فافهم والصورة التى تشهدها الام وتخيلها حال المواقعة لها تأثير عظيم فى صورة الولد حتى قيل ونقل فى الاخبار ان امرأة ولدت ولدا صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية فلما سئلت عنها اخبرت انها رأت حية عند المواقعة(3/163)
وسمع ان امرأة ولدت ولد له اعين اربع ورجلاه كرجل الدب وكانت قبطية جامعها زوجها وهى ناظرة الى دبين كان عند زوجها ولله اسرار فى تكوين الاجساد كيف يشاء وهو على كل شىء قدير كذا فى حل الرموز { فآمنوا بالله } وخصوه بالالوهية { ورسله } اجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالالوهية يعنى ان عيسى من رسله فآمنوا به كايمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه آلها { ولا تقولوا ثلثة } اى الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم ويشهد عليه قوله تعالى { ءانت قلت للناس اتخذونى وامى آلهين من دون الله } او الله ثلاثة ان صح انهم يقولون الله ثلاثة اقانيم اقنوم الاب واقنوم الابن واقنوم روح القدس وانهم يريدون بالاول الذات وقيل الوجود وبالثانى العلم وبالثالث الحياة { انتهوا } اى عن التثليث { خيرا لكم } اى انتهاء خيرا لكم او ائتوا خيرا لكم من القول بالتثليث { انما الله آله واحد } اى واحد بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فالله مبتدأ واله خبره وواحد نعت اى منفرد فى آلهيته { سبحانه ان يكون له ولد } اى اسبحه تسبيحا من ان يكون له ولد او سبحوه تسبيحا من ذلك فانه يتصور له مثل ويتطرق اليه فناء فان التوالد انما هو لحفظ النوع من الانقراض فلذلك لم تتوالد الملائكة ولا اهل الجنان فمن كان نشأته وتكوّنه للبقاء اذا لم يكن له ولد مع كونه حادثا ذا امثال فبالاولى ان لا يتخذ الله تعالى ولدا وهو ازلى منزه عن الامثال والاشياه : وفى المثنوى
لم يلد لم يولد است اوازقدم ... نه بدر دارد نه فرزند ونه عم
{ له ما فى السموات وما فى الارض } مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره اى له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج من ملكوته شىء من الاشياء التى من جملتها عيسى فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى
قال ابن الشيخ فى حواشيه انه تعالى فى كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر ان جميع ما فى السموات والارض مختص به خلقا وملكا للاشارة الى ان ما زعمه المبطلون انه ابن الله وصاحبته مملوك مخلوق له لكونه من جملة ما فى السموات وما فى الارض فلا تتصور المجانسة والمماثلة بين الخالق والمخلوق والمالك والمملوك فكيف يعقل مع هذا توهم كونه ولدا له وزوجة { وكفى بالله وكيلا } اليه يكل كل الخلق امورهم وهو غنى عن العالمين فأنى يتصور فى حقه اتخاذ الولد الذى هو شأن العجزة المحتاجين فى تدبير امورهم الى من يخلفهم ويقوم مقامهم او يعينهم دلت الآية على التوحيد(3/164)
كل شىء ذاته لى شاهد ... انما الله اله واحد
ومطلب اهل التوحيد اعلى المطالب وهو وراء الجنات وذوقهم لا يعادله نعيم حكى ان وليا يقال له سكرى بابا يكون له فى بعض الاوقات استغراق اياما حتى يظنونه ميتا ويضعون على فمه فداما فانتبه يوما فاراد ان يطلق زوجته ويترك اولاده وقال كنت فى مجلس النبى عليه السلام فى الملكوت مع الارواح وكان النبى عليه السلام يفسر قوله تعالى { وآلهكم اله واحد } يتكلم فى مراتب التوحيد على كرسى قوائمه اربع من الانوار الاربعة على حسب المراتب الاربع اى من النور الاسود فى مرتبة الطبيعة ومن النور الاحمر فى مرتبة النفس ومن النور الاخضر فى مرتبة الروح ومن النور الابيض فى مرتبة السر فقيل لى فى العرش ارسلوا سكرى بابا فان اولاده يبكون فلاجل ذلك اريد ان اترك الكل فتضرعوا وحلفوا بان لا يفعلوا مثل ذلك ابدا ففرغ ووجه التمسية بذلك انه كان يعطى سكر الكل من يطلبه حتى طلبوا فى الحمام امتحانا له فضرب برجله رحام الحمام قال خذوه فانقلب سكرا فاعتقدوه وزالت شبهتهم
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى الملكوت ليس فى الفوق بل الملك والملكوت عندك هنا فان الله تعالى منزه عن الزمان والمكان والذهاب والاياب وهو معكم اينما كنتم فللسالك مرتبة ينظر فيها الى الله والى الحق ويسمى تلك بالمعية ثم بعد ذلك اذا وصل الى الفناء الكلى واضمحل وجوده يسمى ذلك بمقام الجمع ففى ذلك المقام لا يرى السالك ما سوى الله تعالى كمن احاطه نور لا يرى الظلمة ألا يرى ان من نظر الى الشمس لا يرى غيرها وتلك الرؤية ليس بحاسة البصر ولا كرؤية الاجسام بل كما ذكر العلماء وكمل الاولياء والانبياء صلوات الله عليهم اجمعين والموحد اذا كان موحدا يوصله الوحيد الى الملكوت والجبروت واللاهوت اعنى الموحد يتخلص من الاثنينية ومن التقيد بالاكوان والاجسام والارواح فيشاهد عند ذلك سر قوله تعالى { انما الله اله واحد } اللهم اجعلنا من الواصلين(3/165)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{ لن يستنكف المسيح } فى اساس البلاغة استنكف منه ونكف امتنع وانقبض انفا وحمية { ان يكون عبدا لله } اى من ان يكون عبدا له تعالى فان عبوديته شرف يتباهى بها وانما المذلة والاستنكاف فى عبودية غيره روى ان وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعيب صاحبنا قال « ومن صاحبكم » قالوا عيسى قال « وأى شىء اقول » قالوا تقول انه عبد الله قال « انه ليس بعار ان يكون عبد الله » قالوا بلى بعار فنزلت { ولا الملائكة المقربون } عطف على المسيح اى ولا يستنكف الملائكة المقربون ان يكونوا عبيدا والمراد بهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل واسرافيل ومن فى طبقتهم { ومن يستنكف } اى يترفع { عن عبادته } اى عن طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى { ويستكبر } الاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وانما يستعمل حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فانه قد يكون باستحقاق { فسيحشرهم اليه } اى فسيجمعهم اليه يوم القيامة { جميعا } المستنكف والمستكبر والمقر والمطيع فيجازيهم(3/166)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
{ فاما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم } اى ثواب اعمالهم من غير ان ينقص منها شيأ اصلا { ويزيدهم من فضله } بتضعيفها اضعافا مضاعفة وباعطاء ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { واما الذين استنكفوا } اى عن عبادته تعالى { واستكبروا فيعذبهم } بسبب استنكافهم واستكبارهم { عذابا اليما } وجيعا لا يحيط به الوصف { ولا يجدون لهم من دون الله } اى غيره تعالى { وليا } يلى امورهم ويدبر مصالحهم { ولا نصيرا } بنصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه
واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الانبياء عليهم السلام وقال مساقه لرد النصارى فى رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضى ان يكون المعطوف وهو ولا الملائكة المقربون اعلى درجة من المعطوف عليه وهو المسيح حتى يكون عدم استنكافهم مستلزما لعدم استنكافه عليه السلام
واجيب بان مناط كفر النصارى ورفعهم له عليه السلام عن رتبة العبودية لما كان اختصاصه عليه السلام وامتيازه عن سائر افراد البشر بالولادة من غير اب وبالعلم بالمغيبات وبالرفع الى السماء عطف على عدم استنكافه عن عبوديته عدم استنكاف من هو اعلى درجة منه فيما ذكر فان الملائكة مخلوقون من غير اب ولا ام وعالمون بما لا يعلمه البشر من المغيبات ومقامهم السموات العلى ولا نزاع لاحد فى علو درجتهم من هذه الحيثية وانما النزاع فى علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات كذا فى الارشاد
قال فى التأويلات النجمية عند قوله تعالى { ولا الملائكة المقربون } ما ذكرهم للفضيلة على عيسى وانما ذكرهم لان بعض الكفار قالوا { الملائكة بنات الله } كما قالت النصارى { المسيح ابن الله } قال تعالى { ألكم الذكر وله الانثى تلك اذن قسمة ضيزى } بل فضل الله المسيح عليهم بتقديم الذكر لان المسيح نسب اليه بالبنوة ونسبت الملائكة اليه بالبنتية وللذكر فضيلة وتقدم على الاناث كقوله تعالى { للذكر مثل حظ الانثيين } فقدم الله الذكر على الانثى وجعل له سهمين وللانثى واحدا فكما ان للذكر فضيلة على الانثى فكذلك للمسيح فضيلة على الملائكة اكبر واعظم يدل عليه ما صح عن جابر رضى الله عنه ان النبى عليه السلام قال « لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب كما خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة قال الله تعالى لا اجعل من خلقته بيدى ونفخت فيه من روحى كمن قلت له كن فكان » وانا اقول ومن فضيلة عيسى على الملائكة انه اجتمع فيه ما كان شرفا لآدم لانه من ذريته من قبل الام وما كان شرفا للملائكة اذ قال له ايضا كن فكان فقد وجد فى عيسى ما لم يوجد فى الملائكة ولم يوجد فى الملائكة شىء لا يوجد فى عيسى فافهم جدا انتهى كلام التأويلات(3/167)
واعلم ان اعظم الاستنكاف عن عبادة الله تعلى الشرك والاعراض عن توحيده كما ان اصل الاعمال التوحيد والايمان ثم ان الكبر من اكبر السيآت ولذا ورد فى بعض الاحاديث مقابلا للايمان قال عليه السلام « لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة من خردك من كبر ولا يدخل النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من ايمان » قال السعدى قدس سره
ترا شهوت وكبر وحرص وحسد ... جوخون در كند وجوجان درجسد
كراين دشمنان تقويت يافتند ... سر از حكم ورأى تو بر تافتند
حكى ان قاضيا جاء الى ابى يزيد البسطامى رحمه الله يوما فقال نحن نعرف ما تعرفه ولكن لا نجد تأثيره فقال ابو يزيد خذ مقدارا من الجوز وعلق وعاه فى عنقك ثم ناد فى البلد كل من يلطمنى ادفع له جوزة حتى لا يبقى منه شىء فاذا فعلت ذلك تجد التأثير فاستغفر القاضى فقال ابو يزيد قد اذنبت لانى اذكر ما يخلصك من كبر نفسك وانت تستغفر منه : قال السعدى
كسى راكه بندار درسربود ... مبندار هركزكه حق بشنود
زعلمش ملال آيداز وعظ ننك ... شقايق بباران نرويد زسنك
فعلى العاقل ان يتواضع فان الرفعة فى التواضع وهو من افضل العبادة(3/168)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{ يا ايها الناس } خطاب لعامة المكلفين { قد جاءكم برهان } كائن { من ربكم وانزلنا اليكم } بواسطة النبى عليه السلام { نورا مبينا } عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن اى جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة . والبرهان ما يبرهن به المطلوب وسمى القرآن نورا لكونه سببا لوقوع نور الايمان فى القلوب ولانه تتبين به الاحكام كما تتبين بالنور الاعيان(3/169)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{ فاما الذين آمنوا بالله } حسبما يوجبه البرهان الذى اتاهم { واعتصموا به } اى امتنعوا به عن اتباع النفس الامارة وتسويلات الشيطان { فسيدخلهم فى رحمة منه } ثواب قدره بازاء ايمانه وعمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب { وفضل } احسان زائد عليه مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { ويهديهم اليه } اى الى الله { صراطا مستقيما } هو الاسلام والطاعة فى الدنيا وطريق الجنة فى الآخرة وهو مفعول ثان ليهدى لانه يتعدى الى مفعولين بنفسه كما يتعدى الى الثانى بالى يقال هديته الطريق وهديته الى الطريق ويكون اليه حالا منه مقدما عليه ولو اخر عنه كان صفة له والمعنى ويهديهم الى صراط الاسلام والطاعة فى الدنيا وطريق الجنة فى العقبى مؤديا ومنتهيا اليه تعالى
والاشارة فى الآية ان الله تعالى اعطى لكل نبى آية وبرهانا ليقيم به الحجة على الامة وجعل نفس النبى عليه السلام برهانا منه وذلك لان برهان الانبياء كان فى الاشياء غير انفسهم مثل ما كان برهان موسى فى عصاه وفى الحجر الذى انفجرت منه اثنتا عشرة عينا وكان نفس النبى عليه السلام برهانا بالكلية فكان برهان عينيه ما قال عليه السلام « لا تستبقونى بالركوع والسجود فانى اراكم من خلفى كما اراكم من امامى » وبرهان بصره { ما زاغ البصر وما طغى } وبرهان انفه قال « انى لاجد نفس الرحمان من قبل اليمين » وبرهان لسانه { ما ينطق عن الهوى انه هو الا وحى يوحى } وبرهان بصاقه ما قال جابر رضى الله عنه انه امر يوم الخندف لاتخبزن عجينكم ولا تنزلن برمتكم حتى اجيىء فجاء فبصق فى العجين وبارك ثم بصق فى البرمة وبارك فاقسم بالله انهم لأكلوا وهم الف حتى تركوه وانصرفوا وان برمتنا لتغط اى تغلى وان عجيننا ليخبز كما هو . وبرهان تفله انه تفل فى عين على كرم الله وجهه وهى ترمد فبرىء باذن الله يوم خيبر . وبرهان يده ما قال تعالى { وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى } وانه سبح الحصى فى يده : قال العطاوى
داعىء ذرات بود آن باك ذات ... دركفش تسبيح ازان كفتى حصاد
وبرهان اصبعه انه اشار باصبعه الى القمر فانشق فلقتين حتى رؤى حراء بينهما
ماه را انكشنت اوبشكافته ... مهر از فرمانش ازبس تافته
وبرهان ما بين اصابعه انه كان الماء ينبع من بين اصابعه حتى شرب منه ورفعه خلق عظيم . وبرهان صدره انه كان يصلى ولصدره ازيز كازيز المرجل من البكاء . وبرهان قلبه انه تنام عيناه ولا ينام قلبه وقال تعالى { ما كذب الفؤاد ما رآى } وقال { ألم نشرح لك صدرك } وقال { نزل به الروح الامين على قلبك } وامثال هذه البراهين كثيرة فمن اعظمها انه عرج به الى السماء حتى جاوز قاب قوسين وابلغ او ادنى وذلك برهان لنفسه بالكلية وما اعطى نبى قبله مثله قط وكان بعد ان اوحى اليه افصح العرب والعجم وكان من قبل اميا لا يدرى ما الكتاب ولا الايمان وأى برهان اقوى واظهر واوضح من هذا والله اكرم هذه الامة به ومن عليهم فمن آمن به ايمانا حقيقيا بنور الله لا بالتقليد فتجذبه العناية وتدخله فى عالم الصفات فان رحمته وفضله صفته ويهديه بنور القرآن وحقيقة التخلق بخلقه الى جنابه تعالى فبالاعتصام يصعد السالك من الصراط المستقيم الى حضرة الله الكريم ولا بد للعبد من الاعتمال والاكتساب فى البداية اتباعا للاوامر الواردة فى الكتب الآلهية والسنن النبوية حتى ينتهى الى محض فضل الله تعالى فيكون هو المتصرف فى اموره ولذلك كان النبى عليه السلام يقول(3/170)
« اللهم لا تكلنى الى نفسى طرفة عين ولا اقل من ذلك » وقد قال بعض الكبار المريد من لا مذهب له يعنى يتمسك باشق الاقوال والمذاهب من جميع المذاهب فيتوضأ من الرعاف والفصد مثلا وان كان شافعيا ومن المس وان كان حنفيا وتنوير الباطن لا يحصل الا بانوار الذكر والعبادة والمعرفة وتعين على ذلك العبادة الخالصة اذا اديت على وجه الكمال والخدمة بمقتضى السنة تصقله بازالة خبث الشهوات والاخلاق المذمومات والتوحيد افضل الاعمال الموصلة الى السعادة وفى الحديث « ان الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخلون الجنة وهم يضحكون » وفى الحديث « ليس على اهل لا اله الا الله وحشة فى قبورهم ولا فى نشورهم كأنى انظر اليهم عند الصيحة ينفضون التراب عنهم ويقولون الحمد الله الذى اذهب عنا الحزن ان ربنا لغفور شكور » وعلى هذا الحديث اول المشايخ هذه الآية الكريمة { والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا } اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين ولا تجعلنا من الغافلين آمين(3/171)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{ يستفتونك } اى يطلبون منك الفتوى فى حق الكلالة { قل الله يفتيكم فى الكلالة } الافتاء تبيين المبهم وتوضيح المشكل . والكلالة فى مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الاعياء استعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لضعفها فى الاضافة الى قرابتهما وتطلق على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين والمراد هنا الثانى اى الذى مات ولم يرثه احد من الوالدين ولا احد من الاولاد لما روى ان جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انى كلالة اى لا يخلفنى ولد ولا والد فكيف اصنع فى مالى فنزلت { ان امرؤ هلك } استئناف مبين للفتيا وارتفع امرؤ بفعل يفسره المذكور وقوله { ليس له ولد } صفة له اى ان هلك امرؤ غير ذى ولد ذكرا كان او انثى { وله اخت } عطف على قوله تعالى ليس له ولد او حال والمراد بالاخت من ليست لام فقط فان فرضها السدس فقط { فلها نصف ما ترك } اى بالفرض والباقى للعصبة اولها بالرد ان لم يكن له عصبة { وهو } اى المرؤ المفروض { يرثها } اى اخته المفروضة ان فرض هلاكها مع بقائه { ان لم يكن لها ولد } ذكرا كان او انثى فالمراد بارثه لها احراز جميع مالها اذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا ارثه لها فى الجملة فانه يتحقق مع وجود بنتها { فان كانتا اثنتين } عطف على الشرطية الاولى اى اثنتين فصاعدا { فلهما الثلثان مما ترك } الضمير لمن يرث بالاخوة والتأنيث والتثنية باعتبار المعنى وفائدة الاخبار عنه باثنتين مع دلالة الف التثنية على الاثنينية التنبيه على ان المعتبر فى اختلاف الحكم هو العدد دون الصغر والكبر وغيرهما { وان كانوا } اى من يرث بطريق الاخوة { اخوة } اى مختلطة { رجالا ونساء } بدل من اخوة والاصل وان كانوا اخوة واخوات فغلب المذكر على المؤنث { فللذكر } منهم { مثل حظ الانثيين } يقسمون التركة على طريقة التعصيب وهذا آخر ما نزل فى كتاب الله من الاحكام روى ان الصديق رضى الله عنه قال فى خطبته ان الآية التى انزلها الله تعالى فى سورة النساء فى الفرائض اولها فى الولد والوالد وثانيها فى الزوج والزوجة والاخوة من الام والآية التى ختم بها السورة فى الاخت لابوين او لاب والآية التى ختم بها سورة الانفال انزلها فى اولى الارحام { يبين الله لكم } اى حكم الكلالة او احكامه وشرائعه التى من جملتها حكمها { ان تضلوا } اى كراهة ان تضلوا فى ذلك فهو مفعول لاجله على حذف المضاف وهو اشيع من حذف لا النافية بتقدير لئلا تضلوا { والله بكل شىء } من الاشياء التى من جملتها احوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم { عليم } مبالغ فى العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم
والاشارة فى الآية ان الله تعالى لم يكل بيان قسمة التركات الى النبى صلى الله عليه وسلم مع انه تعالى وكل بيان اركان الاسلام من الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج اليه واحكام الشريعة وقال(3/172)
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وولاه بيان القرآن العظيم وقال { لتبين للناس ما نزل اليهم } وتولى قسمة التركات بنفسه تعالى كما قال عليه السلام « ان الله لم يرض بملك مقرب ولا نبى مرسل حتى تولى قسمة التركات واعطى كل ذى حق حقه ألا فلا وصية لوارث » وانما لم يوله قسمة التركات لان الدنيا مزينة للناس والمال محبوب الى الطباع وجبلت النفس على الشح فلو لم ينص الله تعالى على مقادير الاستحقاق وكان القسم موكولا الى النبى عليه السلام لكان الشيطان اوقع فى بعض النفوس كراهة النبى عليه الصلاة والسلام لذلك فيكون كفرا لقوله عليه السلام « لا يكون احدكم مؤمنا حتى اكون احب اليه من نفسه وماله وولده والناس اجمعين » كما اوقع فى نفوس بعض شبان الانصار يوم حنين اذ افاء الله على رسوله اموال هوازن فطفق النبى عليه السلام يعطى رجالا من قريش المائة من الابل كل رجل منهم فقالوا يغفر الله لرسوله يعطى قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال انس فحدث رسول الله بمقالتهم فارسل الى الانصار فجمعهم فى قبة من ادم ولم يدع معهم احدا من غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال « ما حديث بلغنى عنكم » فقال الانصار اما ذووا رأينا فلم يقولوا شيأ واما اناس حديثة اسنانهم فقالوا كذا وكذا للذى قالوا فقال النبى صلى الله عليه وسلم « انما اعطى رجالا حديثى عهد بكفر فاؤلفهم » او قال « استألفهم أفلا ترضون ان يذهب الناس بالاموال وترجعوا برسول الله الى رحالكم فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به » قالوا اجل يا رسول الله قد رضينا فالنبى عليه السلام ازال ما اوقع الشيطان فى نفوسهم بهذا اللطائف فلو كان قسم التركات اليه لكان للشيطان مجال الى آخر الدنيا فى ان يوقع الشر فى نفوس الامة ولم يمكن ازالته من النفوس لتعذر الوصول الى الخلق كلهم فى حال الحياة وبعد الوفاة فتولى الله ذلك لانه بكل شىء عليم ولعباده غفور رحيم
برو علم يك ذره بوشيده نيست ... كه بنهان وبيدا بنزدش يكيست
فروماندكانرا برحمت قريب ... تضرع كنانرا بدعوت مجيب
فحسم الكلمة بما نص على المقادير فى الميراث فضلا منه وقطعا لمواد الخصومات بين ذوى الارحام ورحمة على النسوان فى التوريث لضعفهن وعجزهن عن الكسب واظهارا لتفضيل الذكور عليهن لنقصان عقلهن ودينهن وتبيانا للمؤمنين لئلا يضلوا بظن السوء بالنبى عليه السلام كما قال { يبين الله لكم ان تضلوا والله بكل شىء عليم } كذا فى التأويلات النجمية على صاحبها النفحات القدسية والبركات القدوسية(3/173)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
{ يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود } الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الايفاء يقال وفى بالعهد وفاء واوفى به ايفاء اذا اتى ما عهد به ولم يغدر والنقل الى باب افعل لا يفيد سوى المبالغة والعقد هو العهد الموثق المشبه بعقد الحبل ونحوه والمراد بالعقود ما يعم جميع ما الزمه الله تعالى عباده وعقده عليهم من التكاليف والاحكام الدينية وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الامانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به او يحسن دينا ان حملنا الامر على معنى يعم الوجوب والندب . واحتج ابو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على ان من نذر صوم يوم العيد او ذبح الولد يجب عليه ان يصوم يوما يحل فيه الصوم ويذبح ما يحل ان يتقرب بذبحه لانه عهد والزم نفسه ذلك فوجب عليه الوفاء بما صح الوفاء به . واحتج بها ايضا على حرمة الجمع بين الطلقات لان النكاح من العقود فوجب ان يحرم رفعه لقوله تعالى { اوفوا بالعقود } وقد ترك العمل بعمومه فى حق الطلقة الواحدة بالاجماع فبقى فيما عداها على الاصل وفى الحديث « ما ظهر الغلول فى قوم الا القى الله فى قلوبهم الرعب ولا فشا الزنى فى قوم الا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان الا قطع عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق الا فشا فيهم الدم ولا ختر قوم بالعهد الا سلط الله عليهم العدو »
هركه اونيك ميكند يابد ... نيك وبد هرجه ميكند يابد
ثم انه تعالى لما امر المؤمنين بان يوفوا جميع ما اوجبه عليهم من التكاليف شرع فى ذكر التكاليف مفصلة فبدأ بذكر ما يحل ويحرم من المطعومات فقال عز وجل من قائل { احلت لكم بهيمة الانعام } البهيمة كل ذات اربع واضافتها الى الانعام للبيان كثوب الخز وافرادها لارادة الجنس اى احل لكم اكل البهيمة من الانعام وهى الابل والبقر والضأن والمعز وذكر كل واحد من هذه الانواع الاربعة زوج بانثاه وانثاه زوج بذكره فكان جميع الازواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين ومن المعز ثنين ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين على التفصيل المذكور فى سورة الانعام فالبهيمة اعم من الانعام لان الانعام لا تتناول غير الانواع الاربعة من ذوات الاربع والحق بالانعام الظباء وبقر الوحش ونحوهما { الا ما يتلى عليكم } استثناء من بهيمة الانعام بتقدير المضاف اى الا محرم ما يتلى عليكم اى الا الذمى حرمه المتلو من القرآن من قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } بعد هذه الآية او بتقدير نائب الفاعل اى الا ما يتلى عليكم فيه آية كريمة { غير محلى الصيد } الصيد بمعنى المصدر اى الاصطياد فى البر او المفعول اى اكل صيده بمعنى مصيده وهو نصب على الحالية من ضمير لكم ومعنى عدم احلالهم له تقرير حرمته عملا واعتقادا وهو شائع فى الكتاب والسنة { وانتم حرم } اى محرمون حال من الضمير فى محلى .(3/174)
والحرم جمع حرام بمعنى محرم يقال احرم فلان اذا دخل فى الحرم او فى الاحرام وفائدة تقييد احلال بهيمة الانعام بما ذكر من عدم احلال الصيد حال الاحرام اتمام النعمة واظهار الامتنان باحلالها بتذكير احتياجهم اليه فان حرمة الصيد فى حالة الاحرام من مظان حاجتهم الى احلال غيره حينئذ كأنه قيل احلت لكم الانعام مطلقا حال كونكم ممتنعين عن تحصيل ما يغنيكم عنها فى بعض الاوقات محتاجين الى احلالها { ان الله يحكم ما يريد } من تحليل وتحريم على ما توجبه الحكمة ومعنى الايفاء بهما الجريان على موجبهما عقدا وعملا والاجتناب عن تحليل المحرمات وتحريم المحللات
والاشارة فى الآية { اوفوا بالعقود } التى جرت بيننا يوم الميثاق وعلى عهود العشاق وعقودهم على بذل وجودهم لنيل مقصودهم عاقدوا على عهد يحبهم ويحبونه ولا يحبون دونه فالوفاء بالعهد الصبر على الجفاء والجهد فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عنه بذل وجوده { احلت لكم بهيمة الانعام } اى ذبح بهيمة النفس التى هى كالانعام فى طلب المرام { الا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وانتم حرم } يعنى الا النفس المطمئنة اذا تليت عليها ارجعى الى ربك فانها تنفرت من الدنيا وما فيها فانها كالصيد فى الحرم وانتم حرم بالتوجه الى كعبة الوصال باحرام الشوق الى حضرة الجمال والجلال متجردين عن كل مرغوب ومرهوب منفردين من كل مطلوب ومحبوب { ان الله يحكم } بذبح النفس اذا كانت موصوفة بصفة البهيمة ترفع فى مراتع الحيوان السفلية بترك ذبحها ويخاطبها بالرجوع الى حضرة الربوبية عند اطمئنانها مع ذكر الحق واتصافها بالصفات الملكية العلوية { ما يريد } كما يريد كذا فى التأويلات النجمية(3/175)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } نزلت فى الخطيم واسمه شريح بن ضبيعة البكرى اتى المدينة من اليمامة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبى صلى الله عليه وسلم فقال له الى ما تدعو الناس فقال « الى شهادة ان لا اله الا الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة » فقال حسن ألا ان لى امراء لا اقطع امرا دونهم لعلى اسلم وآتى بهم وقد كان النبى عليه السلام قال لاصحابه « يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان » ثم خرج شريح من عنده فقال عليه السلام « لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم » فمر بسرح المدينة فاستاقه فانطلق فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام المقبل خرج حاجا فى حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلدوا الهدى فقال المسلمون للنبى عليه السلام هذا الخطيم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه فقال النبى عليه السلام « انه قد قلد الهدى » فقالوا يا رسول الله هذا شىء كنا نفعله فى الجاهلية فابى النبى عليه السلام فانزل الله هذه الآية وكان المشركون يحجون ويهدون فاراد المسلمون ان يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك . والشعائر جمع شعيرة وهى اسم لما اشعر اى جعل شعائر اى علما للنسك من مواقف الحج ومرامى الجمار والمطاف والمسعى والافعال التى هى علامات الحاج يعرف بها من الاحرام والطواف والسعى والحلق والنحر والمعنى لا تتهاونوا بحرمتها ولا تقطعوا اعمال من يحج بيت الله ويعظم مواقف الحج { ولا الشهر الحرام } اى ولا تستحلوا القتل والغارة فى الشهر الحرام وهو شهر الحج والاشهر الاربعة الحرم وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب والافراد لارادة الجنس { ولا الهدى } بان يتعرض له بالغصب او بالمنع من بلوغ محله وهو ما اهدى الى الكعبة من ابل او بقر او شاة تقربا الى الله تعالى جمع هدية { ولا القلائد } اى ذوات القلائد من الهدى بتقدير المضاف وعطفها على الهدى للاختصاص فانها اشرف الهدى اى ولا تحلوا ذوات القلائد منها خصوصا وهى جمع قلادة وهى ما يشد على عنق البعير وغيره من نعل او لحاء شجرة او غيرهما ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له { ولا آمين البيت الحرام } اى ولا تحلوا قوما قاصدين زيارة الكعبة بان تصدوهم عن ذلك بأى وجه كان { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } حال من المستكن فى آمين اى قاصدين زيارته حال كونهم طالبين الرزق بالتجارة والرضوان اى على زعمهم لان الكافر لا نصيب له فى الرضوان اى رضى الله تعالى ما لم يسلم
قال فى الارشاد انهم كانوا يزعمون انهم على سداد من دينهم وان الحج يقربهم الى الله تعالى فوصفهم الله بظنهم وذلك الظن الفاسد وان كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى لكن لا بعد فى كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصهم من المكاره العاجلة لا سيما فى ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره انتهى
وهذه الآية الى ههنا منسوخة بقوله تعالى(3/176)
{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وبقوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فلا يجوز ان يحج مشرك ولا يأمن كافر بالهدى والقلائد
قال الشعبى لم ينسخ من سورة المائدة الا هذه الآية { واذا حللتم فاصطادوا } تصريح بما اشير اليه بقوله تعالى { وانتم حرم } من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجبها والامر للاباحة بعد الحظر كأنه قيل واذا حللتم من الاحرام فلا جناح عليكم فى الاصطياد { ولا يجرمنكم } يقال جرمنى فلان على ان صنعت كذا اى حملنى والمعنى لا يحملنكم { شنآن قوم } اى شدة بعضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت اضيف الى المفعول او الفاعل فالمعنى على الاول بغضكم لبعض فحذف الفاعل وعلى الثانى بغض قوم اياكم فحذف المفعول { ان صدوكم عن المسجد الحرام } اى لان منعوكم عن زيارته والطواف به للعمرة عام الحديبية { ان تعتدوا } ثانى مفعولى يجرمنكم اى لا يحملنكم شدة بغضكم لهم لصدهم اياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفى { وتعاونوا } اى ليعن بعضكم بعضا { على البر والتقوى } اى على العفو والاغضاء ومتابعة الامر ومجانبة الهوى { ولا تعاونوا على الاثم والعدوان } اى لا يعن بعضكم بعضا على شىء من المعاصى والظلم للتشفى والانتقام وليس للناس اى يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى اذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه لكن الواجب ان يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى . واصل لا تعاونوا لا تتعاونوا فحذف منه احدى التاءين تخفيفا وانما اخر للنهى عن الامر مع تقدم التخلية مسارعة الى ايجاب ما هو مقصود بالذات فان المقصود من ايجاب ترك التعاون على الاثم والعدوان انما هو تحصيل التعاون على البر والتقوى
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والاثم فقال « البر حسن الخلق والاثم ما حاك فى نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس » { واتقوا الله } فى جميع الامور التى من جملتها مخالفة ما ذكر من الاوامر والنواهى فثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهانى { ان الله شديد العقاب } فانتقامه اشد لمن لا يتقيه
واعلم ان شعائر الله فى الحقيقة هى مناسك الوصول الى الله وهى معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة باشارة ارباب الحقيقة فان حقيقة البر هو التفرد للحق وحقيقة التقوى هو الخروج عما سوى الله تعالى فالوصول لا يمكن الا بهما لكنهما خطوتان لا يمكن للمريد الصادق ان يتخطى بها الا بمعاونة شيخ كامل مكمل واصل موصل فانه دليل هذا الطريق : قال الحافظ(3/177)
بكوى عشق منه بى دليل راه قدم ... كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد
وقال ايضا
شبان وادائ ايمن كهى رسد بمراد ... كه جند سال بجان خدمت شعيب كند
وفى الآية اشارة الى تعظيم ما عظمه الله من الزمان والمكان والاخوان وقد فضل الاشهر والايام والاوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والامم بعضها على بعض لتتسارع القلوب الى احترامها وتتشوق الارواح الى احيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق فى فضائلها وفضل الامكنة بعضها على بعض ليعظم الاجر بالاقامة فيها وخلق الله الناس سعيدا وشقيا والعبرة بالخاتمة وكل مخلوق من حيث انه مخلوق الله حسن حتى انه ينبغى ان يكون النظر الى الكافر من حيث انه مخلوق الله لا من حيث كفره وان لم يرض بكفره فعلى الناظر بنظر التوحيد ان يحسن النظر ولا يحقر احدا من خلق الله ولا يشتغل بالعداوة والبغضاء : قال السعدى قدس سره
دلم خانه مهر يارست وبس ... ازان مى نكنجد دروكين كس
ومن كلمات اسد الله كرم الله وجهه العداوة شغل يعنى من اشتغل بالعداوة ينقطع عن الاشتغال بالامور المفيدة النافعة لان القلب لا يسع الاشتغالين المتضادين
هركه بيشه كند عداوت خلق ... از همه جيزها جدا كردد
كه دلش خسته عنا باشد ... كه تنش بسته بلا كردد
وكان صلى الله عليه وسلم موصوفا بمكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال فعليك ان تقتدى به ولما مدح الله الانبياء عليهم السلام ووصف كل نبى بصفة قال له تعالى { فبهداهم اقتده } ففعل فصار مستجمعا لكمال خصال الخير وكان كل واحد منهم مخصوصا بخصلة مثل نوح بالشكر وابراهيم بالحلم وموسى بالاخلاص واسماعيل بصدق الوعد ويعقوب وايوب بالصبر وداود بالاعتذار وسليمان بالتواضع وعيسى بالزهد فلما اقتدى بهم اجتمع له الكل فانت ايها المؤمن من امة ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فاتق الله واستحى من رسول الله كى تنجو من العقاب الشديد والعذاب المديد وتظفر بالخلد الباقى بالنعيم المقيم وتنال ما نال اليه ذو القلب السليم(3/178)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ حرمت عليكم الميتة } اى تناولها فان التحليل والتحريم انما يتعلقان بالافعال دون الاعيان والميتة ما فارقه الروح من غير ذبح { والدم } اى الدم المسفوح اى المصبوب كالدماء التى فى العروق لا الكبد والطحال وكان اهل الجاهلية يصبونها فى امعاء ويشوونها ويقولون لم يحرم من فزدله اى فصدله { ولحم الخنزير } لعينه لا لكون ميتة حتى لا يحل تناوله مع وجود الذكاة فيه وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذكر دون لحم الكلب وسائر السباع ان كثيرا من الكفار الفوا لحم الخنزير فخص بهذا الحكم وذلك ان سائر الحيوانات المحرم اكلها اذا ذبحت كان لحمها طاهرا لا يفسد الماء اذا وقع فيه وان لم يحل اكله بخلاف لحم الخنزير
قال فى التنوير وليس الكلب بنجس العين قال العلماء الغذاء يصير جزأ من جوهر المغتذى ولا بد وان يحصل للمغتذى اخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا فى الغذاء والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة فى المشتهيات فحرم اكله على الانسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية ومن جملة خبائث الخنزير انه عديم الغيرة فانه يرى الذكر من الخنازير ينزو على انثى له ولا يتعرض له لعدم غيرته فاكل لحمه يورث عدم الغيرة { وما اهل لغير الله به } اى رفع الصوت لغير الله عند ذبحه كقولهم باسم اللات والعزى
قال الفقهاء ولو سمى الذابح النبى عليه السلام مع الله فقال باسم الله ومحمد حرمت الذبيحة وفى الحديث « لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله » قال النووى المراد به الذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم او لموسى او لغيرهما
ذكر الشيخ الماوردى ان ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا اليه افتى اهل بخارى بتحريمه لانه مما اهل به لغير الله
وقال الرافعى هذا غير محرم لانهم انما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم كذا فى شرح المشارق لابن ملك { والمنخنقة } اى التى ماتت بالخنق وهو احتباس النفس بسبب انعصار الحلق واكل المنخنقة حرام سواء حصل اختناقها بفعل آدمى اولا مثل ان يتفق ان تدخل البهيمة برأسها بين عودين من شجرة فتخنق فتموت وكان اهل الجاهلية يخنقون الشاة فاذا ماتت اكلوها وهذه المنخنقة من جنس الميتة لانها ماتت من غير تذكية { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب او حجر حتى تموت من وقذته اذا ضربته
قال قتادة كانوا يضربونها بالعصى فاذا ماتت اكلوها وهى فى معنى المنخنقة ايضا لانها ماتت ولم يسل دمها { والمتردية } التى تردت من مكان عال او فى بئر فماتت قبل الذكاة . والتردى هو السقوط مأخوذ من الردى وهو الهلاك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدى بن حاتم(3/179)
« اذا تردت رميتك من جبل فوقعت فى ماء فلا تأكل فانك لا تدرى اسهمك قتلها ام الماء » فصار هذا الكلام اصلا فى كل موضع اجتمع فيه معنيان احدها حاظر والآخر مبيح انه يغلب جهة الحظر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهة فدع ما يريبك الى ما يريبك ألا وان لكل ملك حمى وان حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه » وعن عمر رضى الله عنه انه قال كنا ندع تسعة اعشار الحلال مخافة الربا { والنطيحة } التى نطحتها اخرى فماتت بالنطح وهو بالفارسية « سروزدن » والتاء فى هذه الكلمات الاربع لنقلها من الوصفية الى الاسمية وكل ما لحقته هذه التاء يستوى فيه المذكر والمؤنث وقيل التاء فيها لكونها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة وخصت الشاة بالذكر لكونها اعم ما يأكله الناس والكلام يخرج على الاعم الاغلب ويكون المراد الكل { وما اكل السبع } اى وما أكل منه السبع فمات وكان اهل الجاهلية يأكلونه . والسبع اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الانسان والدواب ويفترسها كالاسد وما دونه وهو يدل على ان جوارح الصيد اذا اكلت مما اصطادته لم يحل { الا ما ذكيتم } اى الا ما ادركتم ذكاته من هذه الاشياء وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح فانه يحل لكم فاما ما صار بجرح السبع الى حالة المذبوح فهو فى حكم الميتة فلا يكون حلالا وان ذبحته وكذلك المتردية والنطيحة اذا ادركتها حية قبل ان تصير الى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى الى صيد فى الهواء واصابه فسقط على الارض ومات كان حلالا لان الوقوع على الارض من ضرورته وان سقط على جبل او شجر ثم تردى منه فمات فلا يحل وهو من المتردية الا ان يكون السهم اصاب مذبحه فى الهواء فيحل كيف ما وقع لان الذبح قد حصل باصابة السهم المذبح واما ما ابين من الصيد قبل الذكاة فهو ميتة . والذكاة فى الشرع بقطع الحلقوم والمرى وهو اسم لما اتصل بالحلقوم وهو الذى يجرى فيه الطعام والشراب واقل الذكاة فى الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمرى وكماله ان يقطع الودجان معهما ويجوز بكل محدد من حديد او قصب او زجاج او حجر او نحوها فان جمهور العلماء على ان كل ما افرى الاوداج وانهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والظفر والعظم ما لم يكن السن والظفر منزوعين لان الذبح بهما يكون خنقا واما المنزوعان منهما اذا افريا الاوداج فالذكات جائزة بهما عندهم والذكاة كالذبح التام الذى يجوز معه الاكل ولا يحرم لان اصل الذكاة اتمام الشىء ومنه الذكاء فى الفهم اذا كان تام العقل وفى الحديث(3/180)
« الذكاة ما بين اللبة واللحيين » فعلى هذا اللحم القديد الذى يجيىء الى دار الاسلام من دار افلاق لا يجوز اكله لانهم يضربون رأس البقر ونحوه بفأس ومثله فيموت فلا توجد الذكاة { وما ذبح على النصب } النصب واحد الانصاب وهى احجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة
قال الامام من الناس من قال النصب هى الاوثان وهذا بعيد لان هذا معطوف على قوله وما اهل لغير الله به وذلك هو الذبح على اسم الاوثان ومن حق المعطوف ان يكون مغايرا للمعطوف عليه
وقال ابن جريج النصب ليس باصنام فان الاصنام احجار مصورة منقوشة وهذه النصب احجار كانوا نصبوها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للاصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها فقال المسلمون يا رسول الله كان اهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ونحن احق ان نعظمه وكان عليه السلام لم يكره ذلك فانزل الله تعالى { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } الى هنا كلام الامام { وان تستقسموا بالازلام } جمع زلم وهو القدح اى وحرم عليكم الاستقسام بالقداح وذلك انهم اذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة قداح مكتوب على احدها امرنى ربى وعلى الآخر نهانى ربى والثالث غفل اى خال عن الكتابة فان خرج الامر مضوا على ذلك وان خرج الناهى اجتنبوا عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بواسطة ضرب القداح وقيل هو استقسام الجزور بالقداح على الانصباء المعلومة اى طلب معرفة كيفية قسمة الجزور وقد تقدم تفصيله عند تفسير قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } فى سورة البقرة { ذلكم } اشارة الى الاستقسام بالازلام { فسق } اى تمرد وخروج عن الحد ودخول فى علم الغيب وضلال باعتقاد انه طريق اليه وافتراء على الله سبحانه ان كان هو المراد بقولهم ربى وشرك وجهالة ان كان هو الصنم
فظاهر هذه الآية يقتضى ان العمل على قول المنجمين لا تخرج من اجل نجم كذا واخرج من اجل نجم كذا فسق لان ذلك دخول فى علم الغيب ولا يعلم الغيب الا الله كذا فى تفسير الحدادى
واعلم ان استعلام الغيب بالطريق الغير المشروع كاستعلام الخير والشر من الكهنة والمنجمين منهى عنه بخلاف استعلام الغيب بالاستخارة بالقرآن وبصلاة الاستخارة ودعائها وبالنظر والرياضة لانه استعلام بالطريق المشروع وان طلب ما قسم له من الخير ليس منهيا عنه مطلقا بل المنهى عنه هو الاستقسام بالازلام وفى الحديث « العيافة والطرق والطيرة من الجبت » والمراد بالطرق الضرب بالحصى وفى الحديث « من تكهن او استقسم او تطير طيرة ترده من سفره لم ينظر الى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة »(3/181)
{ اليوم } اللام للعهد والمراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الازمنة الماضية والآتية ونظيره قولك كنت بالامس شابا واليوم قد صرت شيخا فانك لا تريد بالامس اليوم الذى قبل يومك ولا باليوم اليوم الذى انت فيه . وقيل اراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة يوم عرفة حجة الوداع والنبى عليه السلام واقف بعرفات على العضباء فكادت عضد الناقة تندق لثقلها فبركت واياما كانت فهو منصوب عليه انه ظرف لقوله تعالى { يئس الذين كفروا من دينكم } اى من ابطالكم اياه ورجوعكم عنه بان تحللوا هذه الخبائث بعد ان جعلها الله محرمة او من ان يغلبوكم عليه لما شاهدوا من ان الله عز وجل وفى بوعده حيث اظهره على الدين كله وهو الانسب بقوله تعالى { فلا تخشوهم } اى من ان يظهروا عليكم { واخشون } واخلصوا الى الخشية { اليوم اكملت لكم دينكم } بالنصر والاظهار على الاديان كلها او بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على اصول الشرائع وقوانين الاجتهاد { واتممت عليكم نعمتى } بالهداية والتوفيق او باكمال الدين والشرائع او بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكها والنهى عن حج المشركين وطواف العريان { ورضيت لكم الاسلام دينا } اى اخترته لكم من بين الاديان وهو الدين عند الله لا غير . فقوله دينا نصب حالا من الاسلام ويجوز ان يكون رضيت بمعنى صيرت فقوله دينا مفعول ثان له
قال جابر بن عبد الله سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول قال « جبريل عليه السلام قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسى ولن يصلحه الا السخاء وحسن الخلق فاكرموه بهما ما صحبتموه » وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان رجلا من اليهود قال له يا امير المؤمنين آية فى كتابكم تقرأونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال أى آية قال { اليوم اكملت } الخ قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبى عليه السلام وهو قائم بعرفة يوم الجمعة اشار عمر الى ان ذلك اليوم كان عيدا لنا قال ابن عباس رضى الله عنهما كان ذلك اليوم خمسة اعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولم تجتمع اعياد اهل الملل فى يوم قبله ولا بعده وروى انه لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضى الله عنه فقال النبى عليه السلام « ما يبكيك يا عمر » قال ابكانى انا كنا فى زيادة من ديننا فاذا كمل فانه لم يكمل شىء الا نقص قال « صدقت » فكانت هذه الآية تنعى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها احدى وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة احدى عشر من الهجرة .(3/182)
وقيل توفى يوم الثانى عشر من شهر ربيع الاول وكانت هجرته فى الثانى عشر منه : قال السعدى قدس سره
جهان اى برادر نماند بكس ... دل ندرجهان آفرين بندوبس
جهان اى بسر ملك جاويد نيست ... زدنيا وفا دارى اميد نيست
منه دل برين سال خورده مكان ... كه كنبد نبايد بر وكرد كان
{ فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو ان تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والاسلام المرضى والمعنى فمن اضطر الى تناول شىء من هذه المحرمات { فى مخمصة } اى مجاعة يخاف منها الموت او مباديه { غير متجانف لاثم } حال من فاعل الجواب المحذوف اى فليتناول مما حرم غير ماثل ومنحرف اليه بان يأكلها تلذذا او مجاوزا حد الرخصة او ينتزعها من مضطر آخر كقوله تعالى { غير باغ ولا عاد } { فان الله غفور رحيم } لا يؤاخذه باكلها وهو تعليل للجواب المقدر وروى ان رجلا يا رسول الله انا نكون بارض فتصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة فقال « ما لم تصطبحوا او تغتبقوا او تجنفوا بها بقلا فشانكم بها » ومن امتنع من الميتة حال المخمصة او صام ولم يأكل حتى مات اثم بخلاف من امتنع من التداوى حتى مات فانه لا يأثم لانه لا يقين بان هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج
والاشارة فى الآيات ان ظاهرها خطاب لاهل الدنيا والآخرة وباطنها عتاب لاهل الله وخاصته { حرمت عليكم } يا اهل الحق { الميتة } وهى الدنيا باسرها : قال فى المثنوى
درجهان مرده شان آرام نيست ... كين علف جز لايق انعام نيست
هركرا كلشن بود بزم ووطن ... كى خورد اوباده اندلا كولخن
{ والدم ولحم الخنزير } يعنى حلالها وحرامها قليلها وكثيرها وذلك لان من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة الى اللحم قليل واللحم بالنسبة الى الدم كثير { وما اهل لغير الله به } يعنى كل طاعة وعبادة وقراءة ودراسة ورواية تظهرون به لغير الله { والمنخنقة والموقوذة } يعنى الذين يخنقون نفوسهم بالمجاهدات ويقذفونها بانواع الرياضات بنهيها عن المرادات وزجرها عن المخالفات للرياء والسمعة { والمتردية والنطيحة } الذين يردون نفوسهم من اعلى عليين الى اسفل سافلين بالتناطح مع الاقران والمماراة مع الاخوان والتفاخر بالعلم والزهد بين الاخدان وفى قوله { وما اكل السبع الا ما ذكيتم } اشارة الى انه فيما تحتاجون اليه من القوت الضرورى كونوا محترزين من اكيلة السباع وهم الظلمة الذين يتهاوشون فى جيفة الدنيا تهاوش الكلاب ويتجاذبونها بمخالب الاطماع الفاسدة الا ما ذكيتم بكسب حلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال { وما ذبح على النصب } يشير الى ما ذبح عليه النفس بانواع الجد والاجتهاد من المطالب الدنيوية والاخروية { وان تستقسموا بالازلام ذلكم فسق } يعنى لا تكونوا مترددين متفئلين فى طلب المرام مبتغين لحصول المقصود متهاونين فى بذل الوجود فاذا انتهيتم عن هذه المناهى وتخلصتم من هذه الدواهى واخلصتم لله فى الله بالله وخرجتم من سجن الانانية وسجين الانسانية بالجذبات الربانية فقد عادت ليلتكم نهارا وظلمتكم انوارا { اليوم يئس الذين كفروا } من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها { من دينكم } وتيقنوا ان ما بقى لكم الرجوع الى ملتهم ولا الصلاة الى قبلتهم { فلا تخشوهم } فانكم خلصتم من شبكة مكايدهم ونجوتم من عقد مصايدهم { واخشونى } فان كيدى متين وصيدى مهين وبطشى شديد وحبسى مديد { اليوم } اشارة الى الازل { اكملت لكم دينكم } اى جعلت الكمالية فى الدين من الازل نصيبا لكم من جميع اهل الملل والاديان { واتممت عليكم نعمتى } التى انعمت بها عليكم فى الازل من الكمالية الآن باظهار دينكم على الاديان كلها فى الظاهر واما فى الحقيقة فسيجيىء شرحه { ورضيت لكم الاسلام دينا } تستكملون به الى الابد بحيث من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وذلك لان حقيقة الدين هى سلوك سبيل الله بقدم الخروج من الوجود المجازى للوصول الى الوجود الحقيقى والانسان مخصوص به من سائر الموجودات ولهذه الامة اختصاص بالكمالية فى السلوك من سائر الامم فالدين من عهد آدم عليه السلام كان فى التكامل بسلوك الانبياء سبيل الحق الى عهد النبى عليه الصلاة والسلام فكل نبى سلك فى الدين مسلكا انزله بقربه من مقامات القرب ولكن ما خرج احد منهم بالكلية من الوجود المجازى للوصول الى الوجود الحقيقى بالكمال فقيل للنبى عليه السلام(3/183)
{ اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فسلك النبى جميع المسالك التى سلكها الانبياء باجمعهم فلم يتحقق له الخروج ايضا بقدم السلوك من الوجود المجازى بالكلية حتى تداركته العناية الازلية لاختصاصه بالمحبوبية بجذبات الربوبية واخرجته من الوجود المجازى ليلة اسرى بعدما عبر به على الانبياء كلهم وبلغ فى القرب الى الكمالية فى الدنو وهو سر او ادنى فاستسعد سعادة الوصول الى الوجود الحقيقى فى سر فاوحى الى عبده ما اوحى وفى الحقيقة قيل له فى تلك الحالة { اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى } ولكن فى حجة الوداع فى يوم عرفة عند وقوفه بعرفات اظهر على الامة عند اظهاره على الاديان كلها وظهور كمالية الدين بنزول الفرائض والاحكام بالتمام فقال { اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا } ويدل على هذا التأويل ما روى ابو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مثلى ومثل الانبياء من قبلى كمثل رجل ابتنى بيوتا فاحسنها واجملها واكملها الا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيات فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤها »(3/184)
قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم « فانا اللبنة » متفق على صحته فصح ما قرر من مقامات الانبياء وتكامل الدين بهم وكماليته بالنبى عليه السلام وبخروجه من الوجود المجازى بالكلية وان الانبياء لم يخرجوا منه بالكلية ويدل عى هذا المعنى ايضا ان الانبياء كلهم يوم القيامة يقولون نفسى نفسى لبقية الوجود والنبى عليه السلام امتى امتى لفناء الوجود فافهم جدا ومن كرامة هذه الامة اشتراكهم فى كمالية الدين مع النبى بمتابعته وقال واتممت عليكم نعمتى } وهى اسبال تحصيل الكمال ومعظمها بعثة النبى عليه الصلاة والسلام { ورضيت لكم الاسلام دينا } وهو استسلام الوجود المجازى الى النبى وخلفائه بعده ليطرح عليه اكسير المتابعة فيبدل الوجود المجازى المحبى بالوجود الحقيقى المحبوبى كما قال تعالى { قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } يعنى ويغفر بالوجود الحقيقى ذنوب الوجود المجازى فافهم جدا وتنبه { فمن اضطر فى مخمصة } يعنى فمن ابتلى بالتفاته الى شىء من الدنيا والآخرة مضطرا اليه فى غاية الاضطرار والابتلاء لسر التربية { غير متجانف لاثم } يعنى غير مائل اليه للاعراض عن الحق ولكن من فترة تقع للصادقين او وقفة تكون للسالكين ثم يتداركونها بصدق الالتجاء الى الحق وارواح المشايخ والاستعانة بهم وطلب الاستغفار من ولاية البنين واعانتهم { فان الله غفور } لما ابتلاهم به { رحيم } بان يهديهم الى الصراط المستقيم باقامة الدين القويم كذا فى التأويلات النجمية(3/185)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{ يسألونك ماذا احل لهم } ما للاستفهام وذا بمعنى الذى والمعنى ما الذى احل لهم من المطاعم
ان قلت مفعول يسأل انما يكون مفردا فكيف وقع على الجملة قلت لتضمن السؤال معنى القول { قل احل لكم الطيبات } اى ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر منه كما فى قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } والطيب فى اللغة المستلذ المشتهى فالتقدير كل ما يستلذ ويشتهى والعبرة فى الاستلذاذ والاستطابة باهل المروءة والاخلاق الجميلة فان اهل البادية يستطيبون اكل جميع الحيوانات كذا قال الامام فى تفسيره { وما علمتم } عطف على الطيبات بتقدير المضاف على ان ما موصولة والعائد محذوف اى وصيد ما علمتموه { من الجوارح } حال من الموصول جمع جارحة بمعنى كاسبة قال تعالى { ويعلم ما جرحتم بالنهار } وجوارح الانسان اعضاؤه التى يكتسب بها ويحتمل ان يكون من الجرح بمعنى تفريق الاتصال فان الجوارح تجرح الصيد غالبا . والمراد بالجوارح فى الآية كل ما يكسب الصيد على اهله من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ومن سباع الطير كالصقر والبازى والعقاب والنسر والباشق والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم فان صيد جميعها حلال { مكلبين } اى معلمين لها الصيد والمكلب مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد ومضريها عليه مشتق من الكلب وذكر الكلب لكونه اقبل للصيد والتأديب فيه وانتصابه على الحالية من فاعل علمتم
فان قلت يلزم ان يكون المعنى وصيد ما علمتم معلمين ولا فائدة قلت فائدتها المبالغة لما ان سام المكلب لا يقع الا على النحرير فى علمه فكأنه قيل وما علمتم ماهرين فى تعليم الجوارح حاذقين فيه مشتهرين به { تعلمونهن } حال ثانية { مما علمكم الله } من الحيل وطرق التعليم والتأديب فان العلم به الهام من الله تعالى او مكتسب بالعقل الذى هو منحة منه او مما علمكم ان تعلموه من اتباع الصيد بارسال صاحبه وان ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه
قال صاحب الكشاف قوله تعالى { تعلمونهن مما علمكم الله } فيه تنبيه على ان كل من يأخذ علما ينبغى ان يأخذه ممن هو متبحر فى ذلك العلم غواص فى بحار لطائفه وحقائقه وان احتاج فى ذلك الى ارتكاب سفر بعيد قال عليه السلام « اطلبوا العلم ولو بالصين » فكم من آخذ من غير متقن ضيع ايامه وعض عند لقاء النحارير انامله { فكلوا مما امسكن عليكم } من تبعيضية لما ان البعض مما لا يتعلق به الاكل كالجلود والعظام والريش وما موصولة حذف عائدها وعلى متعلقة بامسكن على انفسهن لقوله عليه السلام لعدى بن حاتم « وان اكل منه فلا تأكل انما امسكه على نفسه » واليه ذهب اكثر الفقهاء(3/186)
وقال بعضهم ومنهم ابو حنيفة يؤكل مما بقى من جوارح الطير ولا يؤكل مما بقى من الكلب والفرق ان يمكن ان يؤدب الكلب على الاكل بالضرب ولا يؤدب البازى على الاكل { واذكروا اسم الله عليه } الضمير لما فى ما علمتم اى سموا عليه عند ارساله او لما فى ما امسكن اى سموا عليه اذا ادركتم ذكاته
وعن ابى ثعلبة قال قلت يا نبى الله انا بارض قوم اهل كتاب أفنأكل فى آنيتهم وبارض صيد اصيد بقوسى وبكلبى الذى ليس بمعلم وبكلبى المعلم فما يصلح لى قال « اما ما ذكرت من آنية اهل الكتاب فان وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وان لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فادركت ذكاته فكل » وعن انس رضى الله عنه ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يضحى بكبشين املحين اقرنين يطأ على صفاحهما ويذبحهما بيده ويقول بسم الله والله اكبر كذا فى تفسير البغوى . والمستحب ان يقول بسم الله الله اكبر بلا واو لان ذكر الواو يقطع نور التسمية كما فى شرح مختصر الوقاية وكره ترك التوجه الى القبلة وحلت كذا فى الذخيرة ومتروك التسمية عمدا حرام لانه ميتة بخلاف متروكها نسيانا فانه حلال { واتقوا الله } فى شأن محرماته { ان الله سريع الحساب } سريع اتيان حسابه او سريع تمامه اذا شرع فيه يتم فى اقرب ما يكون من الزمان والمعنى على التقديرين انه يؤاخذكم سريعا فى كل ما جل ودق ودلت الآية على اباحة الصيد
قال فى الاشباه الصيد مباح الا للتلهى او حرفة كذا فى البزازية وعلى هذا فاتخاذه حرفة كصيادى السمك حرام يحكى عن ابراهيم ابن ادهم انه قال كان ابى من ملوك خراسان فركبت الى الصيد فاثرت ارنبا اذ هتف بى هاتف يا ابراهيم ألهذا خلقت ام بهذا امرت ففزعت ودفعت ثم اخذت ففعلت ثانيا ثم هتف بى هاتف من قربوس السرج والله ما لهذا خلقت ولا بهذا امرت فنزلت فصادفت راعى ابى ولبست جبته وتوجهت الى مكة
ولما نزلت هذه الآية اذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اقتناء الكلاب التى ينتفع بها ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها وامر بقتل الكلب العقور وبما يضر ويؤذى ورفع عما سواها مما لا ضرر فيه وفى الحديث « من اتخذ كلبا الا كلب ماشية او صيد او زرع انتقص من اجره كل يوم قيراط » والحكمة فى ذلك انه ينبح الضيف ويروع السائل كذا فى تفسير الحدادى وفى الحديث « لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب »(3/187)
والمراد بالملائكة ملائكة الرحمة والاستغفار اى النازلون بالبركة والرحمة والطائفون على العباد للزيارة واستماع الذكر لا الكتبة فانهم لا يفارقون المكلفين طرفة عين والمراد بالصورة صورة ذى الروح لمشابهته بيوت الاصنام وبعض الصور يعبد فابغض الاشياء الى الخواص ما عصى الله به . واما الكلب فلانه نجس فاشبه المتبرز وزاد فى بعض الاحاديث ولا جنب الا ان يتوضأ
قال فى الترغيب والترهيب ورخص للجنب اذا نام او اكل او شرب ان يتوضأ ثم قيل هذا فى حق كل من اخر الغسل لغير عذر ولعذر اذا امكنه الوضوء فلم يتوضأ او قيل هو الذى يؤخره تهاونا وكسلا ويتخذ ذلك عادة انتهى
قال فى الشرعة وشرحها لابن السيد على وينام بعد الوطء نومة خفيفة فانه اروح للنفس لكن السنة فيه ان يتوضأ اولا وضوءه للصلاة ثم ينام وكذا اذا اراد الاكل جنبا ولو اراد العود فليتوضأ والمراد به التنظف بغسل الذكر واليدين لا الوضوء الشرعى كما ذهب اليه بعض المالكية
والاشارة فى الآية ان ارباب الطلب واصحاب السلوك { يسألونك ماذا احل لهم } او حرم عليهم من الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم « الدنيا حرام على اهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وهما حرامان على اهل الله تعالى » { قل احل لكم الطيبات } وهى ما لا يقطع عليكم طريق الوصول الى الله فان الله طيب لا يقبل الا الطيب وكل مأكول ومشروب وملبوس ومقول ومعقول ومعمول طلبتموه بحظ من الحظوظ فقد لوثتموه للوث داعى الوجود فهو من الخبيثات لا يصلح الا للخبيثين وما طلبتموه بالحق للقيام باداء الحقوق مطيبا بنفحات الشهود فهو من الطيبات لا يصلح الا للطيبين وفى قوله { ان الله سريع الحساب } اشارة الى انه تعالى يحاسب العباد على اعمالهم قبل ان يفرغوا منها ويجازيهم فى الحال بالاحسان احسان القربة ورفعة الدرجة وجذبة العناية وبالاساءة اساءة البعد والطرد الى السفل والخذلان : ونعم ما قيل [ هركه كند بخود كند ورهمه نيك بد كند ] قال الصائب
جرازغيرشكايت كنم كه همجوحباب ... هميشه خانه خراب هواى خويشتنم(3/188)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ اليوم } اراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الازمنة الماضية والآتية او يوم النزول { احل لكم الطيبات } وهى ما لم تستخبثه الطباع السليمة وهى طباع اهل المروءة والاخلاق الجميلة او ما لم يدل نص شارع ولا قياس مجتهد على حرمته { وطعام الذين اوتوا الكتاب } اى اليهود والنصارى والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها { حل لكم } اى حلال وعن ابن عباس انه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس وهو قول عامة التابعين وبه اخذ ابو حنيفة واصحابه . وحكم الصابئين حكم اهل الكتاب عنده وقال صاحباه صنفان صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرأون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من اهل الكتاب واما المجوس فقد سن بهم سنة اهل الكتاب فى اخذ الجزية منهم دون اكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لقوله عليه السلام « سنوا بهم سنة اهل الكتاب غيرنا كحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم » ولو ذبح يهودى او نصرانى على اسم غير الله كالنصرانى يذبح باسم المسيح فذهب اكثر اهل العلم الى انه يحل فان الله قد احل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون
وقال الحسن اذا ذبح اليهودى او النصرانى فذكر اسم غير الله وانت تسمع فلا تأكله واذا غاب عنك فقد احل الله لك { وطعامكم حل لهم } فلا عليكم ان تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك { والمحصنات من المؤمنات } رفع على انه مبتدأ حذف خبره لدلالة ما تقدم عليه اى حل لكم ايضا والمراد بهن الحرائر والعفائف وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو الاولى لا لنفى ما عداهن فان نكاح الاماء المسلمات صحيح بالاتفاق وكذا غير العفائف منهن واما الاماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند ابى حنيفة خلافا للشافعى { والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } اى هن ايضا حل لكم وان كن حربيات وقال ابن عباس رضى الله عنهما لا تحل الحربيات
قال الحدادى واستدل بعض الفقهاء بظاهر الآية على انه لا يجوز للمسلم نكاح الامة الكتابية والصحيح انه يجوز بظاهر قوله تعالى { باذن اهلهن } بدليل حل ذبائحهن وانما خص الله المحصنات باباحة نكاحهن مع جواز نكاح غيرهن لان الآية خرجت مخرج الامتنان والمنة فى نكاح الحرائر العفائف اعظم واتم يدل على ذلك انه لا خلاف فى جواز النكاح بين المسلم والامة المؤمنة وان كان فى الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات والافضل لمن اراد النكاح ان لا يعدل عن نكاح الحرائر الكتابيات مع القدرة عليهن وذلك ان نكاح الامة يؤدى الى ارقاق الولد لان الولد يتبع امه فى الرق والحرية ولا ينبغى لاحد ان يختار رق ولده كما لا ينبغى ان يختار رق نفسه { اذا آتيتموهن اجورهن } اى مهورهن وتقييد الحل بايتائها لتأكيد وجوبها والحث على الاولى واذا ظرفية عاملها حل المحذوف { محصنين } حال من فاعل آتيتمونهن اى حال كونكم اعفاء بالنكاح وكذا قوله { غير مسافحين } اى غير مجاهرين بالزنى { ولا متخذى اخدان } اى ولا مسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والانثى(3/189)
قال الشعبى الزنى ضربان السفاح وهو الزنى على سبيل الاعلان واتخاذ الخدن وهو الزنى فى السر والله تعالى حرمهما فى هذه الآية واباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان { ومن يكفر بالايمان } اى ومن ينكر شرائع الاسلام التى من جملتها ما بين ههنا من الاحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها { فقد حبط عمله } اى بطل عمله الصالح الذى عمله قبل ذلك { وهو فى الآخرة من الخاسرين } هو مبتدأ من الخاسرين خبره وفى متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق
قال الحدادى فقد بطل ثواب عمله وهو فى الآخرة من المغبونين غبن نفسه ومنزله وصار الى النار لا يغنى عن المرأة الكتابية اسلام زوجها ولا ينفعها ذلك ولا يضر المسلم كفر زوجته الكتابية : قال السعدى
برفتند وهركس درود آنجه كشت ... نماند بجزنام نيكو و زشت
واعلم ان الكفر اقبح القبائح كما ان الايمان احسن المحاسن وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال « لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها تكلمى فقالت قد افلح المؤمنون ثلاثا » وعن كعب الاحبار ان نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنه ساما من بين اولاده وقال اوصيك باثنتين وانهاك عن اثنتين . فاما الاوليان فاحداهما شهادة ان لا اله الا الله فانها تخرق السموات السبع ولا يحجبها شىء ولو وضعت السموات والارض وما فيهن فى كفة ووضعت هى فى الاخرى لرجحت . واما الثانية فان تكثر من قول سبحان الله والحمد لله فانها جامعة للثواب . واما الاخريان فالشرك بالله والاتكال على غير الله
قال القاضى عياض انعقد الاجماع على ان الكفار لا تنفعهم اعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب لكن بعضهم يكون اشد من بعض بحسب جرائمهم واما حسناتهم فمقبولة بعد اسلامهم على ما ورد فى الحديث
قال فى نصاب الاحتساب ما يكون كفرا بلا خلاف يوجب احباط العمل ويلزمه اعادة الحج ان كان قد حج ويكون وطؤه مع امرأته حراما والولد المتولد فى هذه الحالة يكون ولد الزنى وان كان اتى بكلمة الشهادة بعد ذلك اذا كان الاتيان على وجه العادة ولم يرجع عما قال لان الاتيان بكلمة الشهادة على وجه العادة لا يرفع الكفر وما كان فى كونه كفرا اختلاف فان قائله يؤمر بتجديد النكاح والتوبة والرجوع عن ذلك بطريق الاحتياط واما ما كان خطأ من الالفاظ ولا يوجب الكفر فقائله مؤمن على حاله ولا يؤمر بتجديد النكاح ويؤمر بالاستغفار والرجوع عن ذلك انتهى كلام النصاب .(3/190)
والرجل والمرأة فى ذلك سواء حتى لو تكلمت المرأة بما يكون كفرا تبين من زوجها
فعلى العبد الصالح ان يختار من النساء صالحة عفيفة متقية
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره لا تعطى الولاية لولد الزنى قال واشكر الله تعالى على ان جعلنى اول ولد ولدته امى فانه ابعد من ان يصدر الفاظ الكفر من احدى ابوى قال وارثه الاكبر الشيخ الشهير بالهدايى قدس سره قلت والفقير كذلك
والاشارة فى الآية { احل لكم } يا ارباب الحقيقة فى اليوم الذى قدر كمالية الدين فيه لكم فى الازل جميع { الطيبات } التى تتعلق بسعادة الدارين بل احل لكم التخلق بالاخلاق الطيبات وهى اخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات المبرءات من النقائص والشبهات { وطعام الذين اوتوا الكتاب } وفى الحقيقة هم الانبياء عليهم السلام { حل لكم } اى غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة من حملتى الشريعة والحقيقة { وطعامكم حل لهم } يعنى منبع لبن النبوة والولاية واحد وان كان الثدى اثنين فشربتم لبان الطافنا من مشرب الولاية وشرب الانبياء لبان افضالنا من مشرب النبوة قد علم كل اناس مشربهم وللنبى عليه السلام شركة فى المشارب كلها وله اختصاص فى مجلس المقام المحمود من المحبوب بمشرب « ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبىء مرسل » { و } كذلك حل لكم { المحصنات من المؤمنات } وهى ابكار حقائق القرآن التى احصنت من افهام الازواج المؤمنات بها وهى ازواج العلماء وخواص هذه الامة { والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } وهى ابكار حقائق الكتب المنزلة على الامة السالفة التى احصنت من الذين انزل عليهم الكتب وادرجت فى القرآن واخفيت لكم كما قال تعالى { فلا تعلم نفس ما اخفى لهم } يعنى فى القرآن { من قرة اعين } وهى ابكار حقائق جميع الكتب المنزلة فافهم جدا كلها لكم { اذا آتيتموهن اجورهن } اى مهور هذه الابكار وهى بذل الوجود { محصنين } يعنى متعففين فى بذل الوجود فيكون على وجه الحق وبتصرف المشايخ الواصلين { غير مسافحين } على وفق الطبع وخلاف الشرع وبتصرف الهوى { ولا متخذى اخدان } يعنى فى بذل الوجود لا يكون ملتفتا الى شىء من الكونين ولا الى احد فى الدارين سوى الله ليكون هو المشرب ومنه الشراب وهو الحريف والساقى { ومن يكفر بالايمان } بهذه المعاملات والكمالات اذ حرم من العيان من هذه السعادات { فقد حبط عمله } الذى عمله على العمياء والتقليد { وهو فى الآخرة من الخاسرين } الذين خسروا الدنيا والعقبى والمولى كذا فى التأويلات النجمية(3/191)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{ يا ايها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلوة } المراد بالقيام اما القيام الذى هو من اركان الصلاة فالتقدير اذا اردتم القيام لها بطريق اطلاق اسم المسبب على السبب لان الجزاء لا بد وان يتأخر عن الشرط يعنى صحة قيام الصلاة بالطهارة واما القيام الذى هو من مقدمات مباشرة الصلاة فالتقدير اذا قصدتم الصلاة اطلاقا لاسم احد لازميها على لازمها الآخرة فالوضوء من شرائط القيام الاول دون الثانى وهذا الخطاب خاص بالمحدثين بقرينة دلالة الحال فلا يلزم الوضوء على كل قائم الى الصلاة سواء كان محدثا ام لا كما يقتضيه ظاهر الآية { فاغسلوا وجوهكم } الغسل اجراء الماء على المحل وتسييله سواء وجد معه الدلك ام لا والوجه ما يواجهك من الانسان وحده من قصاص الشعر الى اسفل الذقن طولا ومن شحمة الاذن الى شحمة الاذن عرضا يجب غسل جميعه فى الوضوء ويجب ايصال الماء الى ما تحت الحاجبين واهداب العينين والشارب والعذار والعنفقة وان كانت كثيفة وعند الامام لا يجب غسل ما تحت الشعر ففرض اللحية عنده مسح ما يلاقى الوجه دون ما استرسل من الذقن لانه لما سقطت فرضية غسل ما تحت اللحية انتقلت فرضيته الى خلفه وظاهر الآية ان المضمضة والاستنشاق غير واجبين فى الوضوء لان اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن فهما من السنن { وايديكم الى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين فى المغسول ولذلك قيل الى بمعنى مع كقوله تعالى { ا تأكلوا اموالهم الى اموالكم } والمرافق جمع مرفق وهو مجتمع طرفى الساعد والعضد ويسمى مرفقا لانه الذى يرتفق به اى يتكأ عليه من اليد { وامسحوا برؤسكم } الباء مزيدة كما القى بيده . والمسح الاصابة وقدر الواجب عند ابى حنيفة ربع الرأس لانه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع فان للرأس جوانب اربعة ناصية وقذال وفودان والقذال مؤخر الرأس خلف الناصية وفودا الرأس جانباه
فى الواقعات المحمودية قال حضرت الشيخ الشهير بافتاده افندى انكشف لى وجه الاختلاف فى مقدار مسح الناصية وهو ان بدن الانسان مربع فبالقياس اليه ينبغى ان يكون الممسوح ربع الرأس واما اعتبار قدر ثلاثة اصابع فالبنظر الى حال نفس الرأس فانه مسدس والسدس فيه قدر ثلاثة اصابع
قال المرحوم حضرة محمود الهدايى قلت فحينئذ ينبغى ان يكون الاعتبار الاخير اولى لانه بالنظر الى حال نفسه بخلاف الاول لانه بالقياس على البدن
فقال حضرة الشيخ افتاده وجه اولوية الاول ان البدن اكثر من الرأس فاتباع الاقل بالاكثر اولى انتهى
قال الحدادى واما مسح الاذنين فهو سنة فيمسح ظاهر اذنيه بابهاميه وظاهرهما بمسبحتيه بماء الرأس واما مسح الرقبة فمستحب .(3/192)
وفى الحديث « من مسح رقبته فى الوضوء امن من الغل يوم القيامة » { وارجلكم الى الكعبين } بالنصب عطفا على وجوهكم ويؤيده السنة الشائعة وعمل الصحابة وقول اكثر الائمة والتحديد اذ المسح لم يعهد محدودا وانما جاء التحديد فى المغسولات
قال فى الاشباه غسل الرجلين افضل من المسح على الخفين لمن يرى جوازه والا فهو افضل وكذا بحضرة من لا يراه انتهى وذهبت الروافض الى ان الواجب فى الرجلين المسح ورووا فى المسح خبرا ضعيفا شاذا
قال صاحب الروضة خف الروافض مثل فى السعة لانه لا يرى المسح على الخف ويرى المسح على الرجلين فيوسعه ليتمكن من ادخل يده فيه ليمسح برجله
وعن ابن المغيرة عن ابيه قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فى سفر فقال « أمعك ماء » قلت نعم فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عنى فى سواد الليل ثم جاء فافرغت عليه من الاداوة فغسل وجه ويديه وعليه جبة من الصوف فلم يستطع ان يخرج ذراعيه منها حتى اخرجهما من اسفل الجبة فغسل ذراعيه ثم مسح برأسه ثم اهويت لانزع خفيه فقال « دعهما فانى ادخلتهما طاهرين » فمسح عليهما كذا فى تفسير البغوى
واطبق العلماء على ان وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية ومن سنته النية فينوى رفع الحدث او اقامة الصلاة ليقع قربة واستعمال السواك فى غلظة الخنصر وطول الشبر حالة المضمضة تكميلا للانقاء او قبل الوضوء وعند فقده يعالج بالاصابع وينال بالاصبع ثواب السواك
وفى الهداية الاصح ان السواك مستحب
وعن مجاهد قال ابطأ جبريل عليه السلام على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم اتاه فقال له النبى عليه السلام « ما حبسك يا جبريل » قال وكيف آتيكم وانتم لا تقصون اظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ { وما نتنزل الا بامر ربك } والبراجم مفاصل الاصابع والعقد التى على ظاهرها يجتمع فيها من الوسخ وفى الحديث « نقوا براجمكم » فامر بتنقيتها لئلا تدرن فتبقى فيها الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة وفى الحديث « انظفوا لثاتكم » جمع لثة بالتخفيف وهى اللحمة التى فوق الاسنان دون الاسنان فامر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وحل الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ويتأذى الملكان لانه طريق القرآن ومقعد الملكين وتنفر الملائكة من الرائحة الكريهة وفى الحديث « ان العبد اذا تسوك ثم قام يصلى قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنوا منه حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شىءي من القرآن الا صار فى جوف الملك فطهروا افواهكم للقرآن » وفى الحديث « ركعتان بسواك افضل من سبعين ركعة بغير سواك »
ويقول المتوضى بعد التسمية [ الحمد الله الذى جعل الماء طهورا ] .(3/193)
وعند المضمضة [ اللهم اسقنى من حوض نبيك كأسا لا اظمأ بعدها ابدا اللهم اعنى على ذكرك وشكرك وتلاوة كتابك ] . وعند الاستنشاق [ اللهم لا تحرمنى من رائحة نعيمك وجنانك ] او يقول [ اللهم ارحنى رائحة الجنة ولا ترحنى رائحة النار ] . وعند غسل الوجه { اللهم بيض وجهى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ] او يقول [ اللهم بيض وجهى بنورك يوم تبيض وجوه اوليائك ولا تسود وجهى بذنوبى يوم تسود وجوه اعدائك ] . وعند غسل اليد اليمنى [ اللهم اعطنى كتابى بيمينى وحاسبني حسابا يسيرا ] وعند غسل اليد اليسرى [ اللهم لا تعطنى كتابى بشمالى ولا من وراء ظهرى ] . وعند مسح الرأس [ اللهم حرم شعرى وبشرى على النار واظلنى تحت ظل عرشك يوم لا ظل الا ظلك اللهم غشنى برحمتك وانزل على من بركاتك ] . وعند مسح الاذنين [ اللهم اجعلنى من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه ] . وعند مسح رقبته [ اللهم اعتق رقبتى من النار ] . وعند غسل الرجل اليمنى [ اللهم ثبت قدمى على الصراط يوم تزل فيه الاقدام ] . وعند غسل الرجل اليسرى [ اللهم اجعل لى سعيا مشكورا وذنبا مغفورا وعملا مقبولا وتجارة لن تبور ] ويقول بعد الفراغ [ اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين واجعلنى من عبادك الصالحين الذين انعمت عليهم واجعلنى من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ]
والحكمة فى تخصيص الاعضاء الاربعة فى الوضوء ان آدم عليه السلام لما توجه الى الشجرة بالوجه وتناولها باليد ومشى اليها بالرجل ووضع يده على رأسه امره بغسل هذه الاعضاء تكفيرا للخطايا وقد جاء فى الحديث « ان العبد اذا غسل وجهه خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت اشفار عينيه » وكذلك فى بقية الاعضاء . وقيل خص بغسل هذه الاعضاء الامة المحمدية ليكونوا غرا محجلين بين الامم كما روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى المقبرة فقال « السلام عليكم دار قوم مؤمنين وانا ان شاء الله بكم لاحقون وددت انا قد رأينا اخواننا » قالوا أولسنا اخوانك يا رسول الله قال « انتم اصحابى واخواننا الذين يأتون بعد » قالوا كيف تعرف من يأتون بعد من امتك يا رسول الله فقال « أرأيتم لو ان رجلا له خيل غر محجلة بين اظهر خيل دهم بهم ألا يعرف خيله » قالوا بلى يا رسول الله قال « فانهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وانا فرطهم على الحوض »
واعلم ان النبى صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد فقال عمر رضى الله عنه صنعت شيأ لم تكن تصنعه فقال عليه السلام « عمدا فعلته يا عمر » يعنى بيانا للجواز غير انه يستحب تجديد الوضوء لكل فرض وفى الحديث(3/194)
« من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات » وللتجديد اثر ظاهر فى تنوير الباطل . وكان بعض اهل الله يتوضأ عند الغيبة والكذب والغضب لظهور غلبة النفس وتصرف الشيطان فالوضوء هو النور الذى به تضمحل ظلمات النفس والشيطان . وكان على وجه بعضهم قرح لم يندمل اثنتى عشرة سنة لضرر الماء له . وكان مع ذلك لم يدع تجديد الوضوء عند كل فريضة . ونزل فى عين بعضهم ماء اسود فقال الكحال لا بد من ترك الوضوء اياما والا فلا يعالج فاختار ذهاب بصره على ترك الوضوء . ودوام الطهارة مستجلب لمزيد الرزق كما قال عليه السلام « دم على الطهارة يوسع عليك الرزق » والسنة ان يصلى بعد الوضوء ركعتين تسمى شكر الوضوء روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال « يا بلال حدثنى بارجى عمل عملته فى الاسلام فانى سمعت دق نعليك بين يدى فى الحنة » قال ما عملت عملا ارجى عندى من انى لم اتطهر طهورا فى ساعة من ليل او نهار الا صليت بذلك الطهور ما كتب لى ان اصلى
قال فى الاسرار المحمدية لابن فخر الدين الرومى ويصلى شكر الوضوء وان فى الاوقات المكروهة لا الاوقات المحرمة كما قبل صلاة الفجر وبعدها وبعد صلاة العصر ايضا لانها من الصلوات ذوات الاسباب
واما الاوقات المحرمة كطلوع الشمس وزوالها وغروبها فلا تجوز فيه اصلا فيصبر الى وقت اباحة الصلاة فيصليها حينئذ الا اذا كان بمكة
عن جبير ان النبى عليه السلام قال « يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية شاء من ليل او نهار » وعن جندب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس الا بمكة الا بمكة الا بمكة » انتهى كلام الاسرار
والاشارة فى الآية ان الخطاب فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا } هو خطاب مع الذين آمنوا ايمانا حقيقيا عند خطاب ألست بربكم بقولهم بلى . وهم اهل الصف الاول يوم الميثاق آمنوا بعدما عاينوا . واهل الصف الثانى آمنوا اذ شاهدوا . واهل الصف الثالث آمنوا اذ سمعوا الخطاب . واهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا لانهم ما عاينوا ولا شاهدوا ولا سمعوا خطاب الحق بسمع الفهم والدراية بل سمعوا سماع القهر والنكاية فتخيروا حتى سمعوا جواب اهل الصفوف الثلاثة اذ قالوا بلى فقالوا بتقليدهم بلى فلا جرم ههنا ما آمنوا وهم الكفار وان آمنوا ما آمنوا على التحقيق بل بالتقليد او بالنفاق وهم المنافقون . واهل الصف الثالث هم المسلمون وعوام المؤمنين فكما آمنوا هناك بسماع الخطاب فكذلك ههنا آمنوا بسماع كقوله تعالى(3/195)
{ اننا سمعنا مناديا ينادى للايمان ان آمنوا بربكم فآمنا } واما اهل الصف الثانى وهم خواص المؤمنين وعوام الاولياء فكما انهم آمنوا هناك اذ شاهدوا فكذلك ههنا آمنوا بشواهد المعرفة كما قال { واذا سمعوا ما انزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا } ومن ههنا قال بعضهم ما نظرت فى شىء الا ورأيت الله فيه . واما اهل الصف الاول وهم الانبياء وخواص الاولياء فكما آمنوا هناك اذ عاينوا فكذلك ههنا آمنوا اذ عاينوا كقوله تعالى { آمن الرسول بما انزل اليه من ربه } وذلك فى ليلة المعراج اذ اوحى الى عبده ما اوحى قال آمن الرسول بما انزل اليه من ربه وكان ايمان موسى عليه السلام نوعا من هذا فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين . وقال على رضى الله عنه لم اعبد ربا لم اره . وقال بعضهم رأى قلبى ربى وقال آخر ما نظرت فى شىء الا ورأيت الله فيه فخاطب اهل الصف الاول بقوله يا ايها الذين آمنوا تحقيقا ثم اهبطوا عن ممالك القرب الى مهالك البعد ومن رياض الانس الى سباخ الانس { اذا قمتم } من نوم الغفلة انتبهتم من رقدة الفرقة { الى الصلوة } هى معراجكم للرجوع الى مقام قربكم كما قال { واسجد واقترب } { فاغسلوا وجوهكم } التى توجهتم بها الى الدنيا ولطختموها بالنظر الى الاغيار بماء التوبة والاستغفار { وايديكم الى المرافق } اى واغسلوا ايديكم عن التمسك بالدارين والتعلق بما فى الكونين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق { وامسحوا برؤسكم } ببذل نفوسكم { وارجلكم الى الكعبين } اى واغسلوا ارجلكم عن طين طينتكم والقيام بانانيتكم كذا فى التأويلات النجمية : قال الحافظ قدس سره
من هماندم كه وضو ساختم ازجشمه عشق ... جار تكبير زدم يكسره برهرجه كه هست
{ وان كنتم جنبا فاطهروا } اى فتطهروا ادغمت تاء التفعل فى الطاء لقرب مخرجهما واجتلبت همزة الوصل ليمكن الابتداء فقيل اطهروا وهذا التطهر عبارة عن الاغتسال والاطهار هو التطهر بالتكلف والمبالغة فلا يكون الا بغسل جميع ظاهر البدن حتى لو بقى العجين بين اظفاره ويبس لم يجز غسله لان الماء لا يصل تحته ولو بقى الدرن جاز الا ان ما تعذر ايصال الماء اليه كداخل العين ساقط بخلاف باطن الانف والفم حيث يمكن غسلهما ولا ضرر فيه فيجب . والدلك ليس بفرض لانه متمم فيكون مستحبا وليس البدن كالثوب لان النجاسة تخللت فيه دون البدن . ففرض الغسل غسل الفم والانف وسائر البدن . وسنته غسل يديه لكونهما آلة التطهر . وفرجه لانه مظنة النجاسة ونجاسة حقيقية ان كانت على سائر بدنه لئلا تتلاشى عند اصابة الماء . والوضوء وضوءه للصلاة الا انه يؤخر غسل رجليه الى ما بعد صب الماء على جميع بدينه ان كانت فى مستنقع الماء تحرزا على الماء المستعمل وتثليث الغسل المستوعب هكذا حكى غسل رسول الله .(3/196)
ويبتدىء بمنكبه الايمن ثم الايسر ثم الرأس فى الاصح . وليس على المرأة نقض ضفيرتها ولا بلها ان بل اصلها لان كون الشعر من البدن باعتبار اصوله فيكتفى ببل اصوله فيما فيه حرج وفيما لا حرج فيه يجب ايصال الماء الى جميعه كالضفيرة المفتولة وحكم المنقوضة ليس كذلك بل يجب ايصال الماء الى جميعها لعدم الحرج فيها . والرجل يجب عيه ايصال الماء الى جميع شعره والفرق ان حلق الشعر للمرأة مثلة دون الرجل والحرج مندفع عنه بغير الضفيرة وادنى ما يكفى من الماء فى الغسل صاع وفى الوضوء مد والصاع ثمانة ارطال والمد رطلان لما روى ان النبى عليه السلام كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد ثم اختلفوا هل المد من الصاع او من غيره فهذا ليس بتقدير لازم حتى لو اسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك جاز ولو اغتسل باكثر منه جاز ما لم يسرف فهو المكروه كذا فى الاختيار شرح المختار . والجنب الصحيح فى المصر اذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم فى قولهم . واما المحدث فى المصر اذا خاف الهلاك من التوضىء اختلفوا فيه على قول ابى حنيفة رحمه الله والصحيح انه لا يباح له التيمم كذا فى فتاوى قاضى خان . والمرأة اذا وجب عليها الغسل ولم تجد سترة من الرجال تؤخره والرجل اذا لم يجد سترة من الرجال لا يؤخره ويغتسل . وفى الاستنجاء اذا لم يجد سترة يتركه والفرق ان النجاسة الحكمية اقوى والمرأة بين النساء كالرجل بين الرجال كذا فى الاشباه وفى الحديث « ثلاثة لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتضمخ بالخلوف والجنب الا ان يتوضأ » وفى الحديث « لا ينقع بول فى طست فى البيت فان الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع ولا تبولنّ فى مغتسلك »
وفى الاغتسال منافع بدنية وفوائد دينية . منها مخالفة الكفار فانهم لا يغتسلون وازالة الدنس والابخرة الرديئة النفسانية التى تورث بعض الامراض وتسكين حرارة الشهوات الطبيعية
قال الشيخ النيسابورى فى كتاب اللطائف فوائد الطهارة عشر طهارة الفؤاد وهو صرفه عما سوى الله تعالى . وطهارة السر المشاهدة . وطهارة الصدر الرجاء والقناعة . وطهارة الروح الحياء والهيبة . وطهارة البطن أكل الحلال والعفة عن اكل الحرام والشبهات . وطهارة البدن ترك الشهوات وازالة الادناس . وطهارة اليدين الورع والاجتهاد . وطهارة اللسان الذكر والاستغفار
قال الثعلبى فى تفسير هذه الآية قال على رضى الله عنه اقبل عشرة من احبار اليهود فقالوا يا محمد لماذا امر الله بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط . وهما اقذر من النطفة فقال صلى الله عليه وسلم « ان آدم لما اكل من الشجرة تحول فى عروقه وشعره فاذا جامع الانسان نزل من اصل كل شعرة فافترضه الله علىّ وعلى امتى تطهيرا وتكفيرا وشكرا لما انعم الله عليهم من اللذة التى يصيبونها »(3/197)
قال فى بدائع الصنائع فى احكام الشرائع انما وجب غسل جميع البدن بخروج المنى ولم يجب بخروج البول والغائط وانما وجب غسل الاعضاء المخصوصة لا غير لوجوه . احدها ان قضاء الشهوة بانزال المنى استمتاع بنعمة يظهر اثرها فى جميع البدن وهى اللذة فامر بغسل جميع البدن شكرا لهذه النعمة وهذا لا يتقدر فى البول والغائط . والثانى ان الجنابة تأخذ جميع البدن ظاهره وباطنه لان الوطء الذى هو سببها لا يكون الا باستعمال جميع ما فى البدن من القوة حتى يضعف الانسان بالاكثار منه ويقوى بالامتناع عنه واذن اخذت الجنابة جميع البدن الظاهر والباطن بقدر الامكان ولا كذلك الحدث فانه لا يأخذ الا الظاهر من الاطراف لان سببه يكون بظواهر الاطراف من الاكل والشرب ولا يكون باستعمال جميع البدن فاوجب غسل ظاهر الاطراف من الاكل والشرب ولا يكون باستعمال جميع البدن فاوجب غسل ظاهر الاطراف لا سائر البدن . والثالث ان غسل الكل او البعض وجب وسيلة الى الصلاة التى هى خدمة الرب سبحانه والقيام بين يديه وتعظيمه فيجب ان يكون المصلى على اطهر الاحوال وانظفها ليكون اقرب الى التعظيم واكمل فى الخدمة وكمال تعليم النظافة يحصل بغسل جميع البدن وهذا هو العزيمة فى الحديث ايضا الا ان ذلك مما يكثر وجوده فاكتفى منه باكثر النظافة وهى تنقية الاطراف التى تنكشف كثيرا ويقع عليها الابصار ابدا واقيم ذلك مقام غسل كل البدن دفعا للحرج وتيسيرا وفضلا من الله ورحمة ولا حرج فى الجنابة لانها لا تكثر فبقى الامر فيها على العزيمة انتهى كلام البدائع هذا غسل الحى
واما غسل الميت فشريعة ماضية لما روى أن آدم عليه السلام لما قبض نزل جبريل بالملائكة وغسلوه وقالوا لأولاده هذه سنة موتاكم وفى الحديث « للمسلم على المسلم ستة حقوق ومن جملتها ان يغسله بعد موته » ثم هو واجب عملا بكلمة على ولكن اذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود واريد بالسنة فى حديث آدم الطريقة ولو تعين واحد لغسله لا يحل له اخذ الاجرة عليه وانما وجب غسل الميت لانه تنجس بالموت كسائر الحيوانات الدموية الا انه يطهر بالغسل كرامة له ولو وجد ميت فى الماء فلا بد من غسله لان الخطاب بالغسل توجه لبنى آدم ولم يوجد منهم فعل . وقيل ان الميت اذا فارقته الروح وارتاح من شدة النزع انزل فوجب على الاحياء غسله كذا فى حل الرموز وكشف الكنوز
والفرق بين غسل الميت والحى انه يستحب البداءة بغسل وجه الميت بخلاف الحى فانه يبدأ بغسل يديه ولا يمضمض ولا يستنشق بخلاف الحى ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف الحى ان كان فى مستنقع الماء ولا يمسح رأسه فى وضوء الغسل بخلاف الحى فى رواية كذا فى الاشباه
والاشارة فى الآية { وان كنتم جنبا } بالالتفات الى غيرنا { فاطهروا } بالنفوس عن المعاصى وبالقلوب عن رؤية الطاعات وبالاسرار عن رؤية الاغيار وبالارواح عن الاسترواح من غيرنا وبسر السر عن لوث الوجود فلا بد من الطهارة مطلقا : قال الحافظ(3/198)
جون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست ... نبود خيردران خانه كه عصمت نبود
وفى وجوب الغسل اشارة وتنبيه الى وجوب الغسل الحقيقى لوجود القلب والروح ولتلوثه بحب الدنيا وشهواتها فيجب غسلها بماء التوبة والندامة والاخلاص فهو اوجب الواجبات وآكدها واستقصاء اهل الله فى تطهير الباطن اكثر واشد من استقصائهم فى طهارة الظاهر وقد يكون فى بعض متصوفة الزمان تشدد فى الطهارة فلو اتسخ ثوبه يغسله ولا يبالى بما فى باطنه من الغل وسائر الصفات الذميمة : قال السعدى قدس سره
كراجامه باكست وسيرت بليد ... دردوزخش را نبايد كليد
والقرآن لا يمسه الا المطهرون { وان كنتم مرضى } مرضا يخاف منه الهلاك او ازدياده باستعمال الماء { او } كنتم مستقرين { على سفر } طال او قصر { او جاء احد منكم من الغائط } هو المكان الغائر المطمئن والمجيىء منه كناية عن الحدث لان المعتاد ان من يريده يذهب اليه ليوارى شخصه عن اعين الناس { او لا مستم النساء } ملامسة النساء مماسة بشرة الرجل بشرة المرأة وهى كناية عن الجماع ومثل هذه الكناية من الآداب القرآنية اذ التصريح مستهجن { فلم تجدوا ماء } المراد من عدم وجدان الماء عدم التمكن من استعماله لان ما لا يتمكن من استعماله كالمفقود { فيتمموا صعيدا طيبا } اى فتعمدوا شيأ من وجه الارض طاهرا فالصعيد هو وجه الارض ترابا او غيره سمى صعيدا لكونه صاعدا طاهرا والطيب بمعنى الطاهر سواء كان منبثا ام لا حتى لو فرضنا صخرا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه وسمح كان ذلك كافيا عند ابى حنيفة رحمه الله { فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه } اى من ذلك الصعيد اى الى المرفقين لما روى انه صلى الله عليه وسلم تيمم ومسح يديه الى مرفقيه ولانه بدل من الوضوء فيقدر بقدره والباء مزيدة ومن لابتداء الغاية والمعنى فانقلوا بعد وضعهما على الصعيد الى الوجوه والايدى من غير ان يتخللها ما يوجب الفصل { ما يريد الله } بالامر بالطهارة للصلاة او الامر بالتيمم { ليجعل عليكم من حرج } اى تضييقا عليكم فى الدين { ولكن يريد ليطهركم } اى لينظفكم او ليطهركم من الذنوب فان الوضوء مكفر لها كما روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ايما رجل قام الى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئة كفيه مع اول قطرة فاذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه وشفتيه مع اول قطرة واذا غسل وجهه ويديه الى المرفقين ورجليه الى الكعبين سلم من كل ذنب هو عليه وكان كيوم ولدته امه »(3/199)
او ليطهركم بالتراب اذا اعوزكم التطهير بالماء { وليتم } بشرعه ما هو مطهرة لابدانكم ومكفرة لذنوبكم { نعمته عليكم } فى الدين اوليتم برخصته انعامه عليكم بعزائمه والرخصة ما شرع بناء على الاعذار والعزيمة ما شرع اصالة { لعلكم تشكرون } نعمته
واعلم ان المقصود من طهارة الثوب وهو القشر الخارج البعيد ومن طهارة البدن وهو القشر القريب طهارة القلب وهو لب الباطن وطهارة القلب من نجاسات الاخلاق اهم الطهارات ولكن لا يبعد ان يكون لطهارة الظاهر ايضا تأثير فى اشراق نورها على القلب فاذا اسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك صادفت فى قلبك انشراحا وصفاء كنت لا تصادفه قبله وذلك لسر العلاقة التى بين عالم الملك وعالم الملكوت فان ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار الى الجوارح فكذلك قد يرتفع من احوال الجوارح التى هى من عالم الشهادة آثار الى القلب ولذلك امر الله بالصلاة مع انها حركات الجوارح التى من عالم الشهادة ولذلك جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الدنيا ومن الدنيا فقال « حبب الى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عينى فى الصلاة » ولا يستبعد ان يفيض من الطهارة الظاهرة اثر على الباطن وان اردت لذلك دليلا من الشرع فتفكر فى قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « خمس بخمس اذا اكل الربا كان الخسف والزلزلة واذاجار الحكام قحط المطر واذا ظهر الزنى كثر الموت واذا منعت الزكاة هلكت الماشية واذا تعدى على اهل الذنة كانت الدولة لهم » وان كنت تطلب لهذا مثلا من المحسوسات ايضا فانظر الى ما يفيض الله من النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الاجسام المحاذية للمرآة وبالجملة ان الله تعالى جعل الوضوء والتيمم من اسباب الطهارة فلا بد من الاجتهاد فى تحصيل الطهارة مطلقا وان كان التوفيق من الله تعالى : كما قال الحافظ
فيض ازل بزورزر ار آمدى بدست ... آب خضر نصيبه اسكندر آمدى
والاشارة فى الآية { وان كنتم مرضى } بمرض حب الدنيا { او على سفر } فى متابعة الهوى { او جاء احد منكم من الغائط } فى قضاء حاجة شهوة من الشهوات { او لامستم النساء } وهى الدنيا فى تحصيل لذة من اللذات { فلم تجدوا ماء } التوبة والاستغفار { فتيمموا صعيدا طيبا } فتمعكوا فى تراب اقدام الكرام فانه طهور للذنوب العظام { وامسحوا بوجوهكم } من تراب اقدامهم وشمروا لخدمتهم { وايديكم منه } لان فيه شفاء لقساوة القلوب ودواء لمرض الذنوب { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } بهذه الذلة والصغار { ولكن يريد ليطهركم } من الذنوب الكبار واكبر الكبائر الشرك بالله واعظم الشركاء الوجود مع وجود المعبود وهذا ذنب لا يغفر الا بالتمرغ فى هذا التراب ولوث لم يطهر الا بالالتجاء الى هذه الابواب { وليتم نعمته عليكم } بعد ذوبان نحاس انانيتكم بنار تصرفات هممهم العالية بطرح اكسير انوار الهوية { لعلكم تشكرون } اذ تهتدون بانوار الهوية الى رؤية انوار النعمة كذا فى التأويلات النجمية(3/200)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ واذكروا نعمة الله عليكم } بالاسلام لتذكركم المنعم وترغبكم فى شكره
فان قيل ذكر نعمة الاسلام مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل من المسلم ان ينساها مع اشتغاله باقامة وظائف الاسلام على التوالى والدوام
قلنا المواظبة على وظائف الشىء تنزل منزلة الامر الطبيعى المعتاد فينسى كونها نعمة الهية فتكون اقامة وظائفه اتباعا لمقتضى الطبيعة فلا تكون عبادة وانما تكون شكرا لو وقع اتباعا للامر { وميثاقه الذى واثقكم به } اى عهده المؤكد الذى اخذه عليكم وقوله تعالى { اذ قلتم سمعنا واطعنا } ظرف لواثقكم به وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذى اخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى حال اليسر والعسر والمنشط والمكره { واتقوا الله } فى نسيان نعمه ونقض ميثاقه { ان الله عليم بذات الصدور } اى بخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لاطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بجليات الاعمال
واعلم ان اول النعم التى انعم الله بها على المؤمنين اخراجهم من ظلمة العدم الى نور الوجود قبل كل موجود وخلقهم فى احسن تقويم لقبول الدين القويم وهدايتهم الى الصراط المستقيم واستماع الست بربكم وجواب بلى وتوفيقهم للسمع والطاعة ولو لم تكن نعمة التوفيق لقالوا سمعنا وعصينا كما قال اهل الخذلان والعصيان
وعن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الاشجعى قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة او ثمانية او سبعة فقالوا ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثى عهد ببيعته فقلنا قد بايعناك يا رسول الله قال « ألا تبايعون رسول الله » فبسطنا ايدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك قال « ان تعبدوا الله ولا تشركوا به شيأ وتصلوا الصلوات الخمس وتطيعوا اوامره جلية وخفية ولا تسألوا الناس » فلقد رأيت بعض اولئك النفر يسقط سوط احدهم فما يسأل احدا يناوله اياه حتى يكون هو ينزل فيأخذه
وعن ابى ذر رضى الله عنه قال بايعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا واوثقنى سبعا واشهد الله على سبعا ان لا اخاف فى الله لومة لائم
وعنه قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم « اوصيك بتقوى الله بسر امرك وعلانيتك واذا اسأت فاحسن ولا تسألن احدا شيأ وان سقط سوطك ولا تقبض امانة » قال الحافظ الشيرازى
وفا وعهد نكو باشد اربياموزى ... وكرنه هركه توبينى ستمكرى داند
اللهم اجعلنا من الموفين بعودهم آمين(3/201)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{ يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين لله } مقيمين لاوامره ومتمسكين بها معظمين لها مراعين لحقوقها { شهداء بالقسط } اى بالعدل خبر بعد خبر { ولا يجرمنكم } اى ولا يحملنكم { شنآن قوم } اى شدة بغضكم للمشركين { على ان لا تعدلوا } اى على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما فى قلوبكم { اعدلوا هو } اى العدل { اقرب للتقوى } التى امرتم بها واذا كان وجوب العدل فى حق الكفار بهذه المثابة فما ظنك بوجوبه فى حق المسلمين { واتقوا الله } فانه ملاك الامر وزاد سفر الآخرة { ان الله خبير بما تعملون } من الاعمال فيجازيكم بذلك وحيث كان مضمون هذه الجملة التعليلية منبئا عن الوعد والوعيد عقب بالوعد لمن يخاف على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يخل بها فقيل(3/202)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } التى من جملتها العدل والتقوى والمفعول الثانى لوعد محذوف وهو الجنة كما صرح به فى غير هذا الموضع { لهم مغفرة } لذنوبهم { واجر عظيم } اى ثواب عظيم فى الجنة وهذه الجملة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب فان الجنة مسببة عن المغفرة وحصول الاجر فلا محل لها من الاعراب(3/203)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } التى من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالامر بالعدل والتقوى { اولئك } الموصوفن بما ذكر من الكفر وتكذيب الآيات { اصحاب الجحيم } ملابسوها ملابسة مؤبدة وفيه مزيد وعد للمؤمنين لان الوعيد اللاحق باعدائهم مما يشفى صدورهم ويذهب ما كانوا يجدونه من اذاهم فان الانسان يفرح بان يهدد اعداؤ
واعلم ان الله تعالى صرح للمؤمنين الامر بالعدل وبين انه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبين انه مقتضى الهوى لكون الحامل عليه البغض والشنآن فعلى المؤمن العدل فى حق الاولياء والاعداء خصوصا فى حق نفسك واهلك واولادك لما ورد « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته » ووجد فى سرير انوشروان مكتوبا الملك لا يكون الا بالامارة والامارة لا تكون الا بالرجال ولا تكون الرجال الا بالاموال ولا تكون الاموال الا بالعمارة ولا تكون العمارة الا بالعدل بين الرعايا والسلطان شريك رعاياه فى كل خير عملوه : قال الحافظ
شاه را به بود از طاعت صدساله وزهد ... قدريك ساعت عمرى كه درو دادكند
وفى ترجمة وصايا الفتوحات لمحمد بن واسع [ ازا كابردين است روزى بر بلال بن برده كه والىء وقت بود در آمد واودر عيش بود وبيش اوبرف نهاده وبتنعم تمام تشسته محمد بن واسع راكفت يا ابا عبد الله اين خانه مارا جون بينى كفت اين خانه خوش است وليكن بهشت ازين خواشتراست وذكر آتش دوزخ از امثال اين غافل كرداند برسيدكه جه ميكويى درباب قدر كفت در همراز كان توكه درين مقابر مدفونند فكرى بكن تا از قدر برسيدن مشغول شوى كفت براى من دعا كن كفت دعاى من جه ميكنى وبر دركاه توجندين مظلومند همه برتو دعا ميكنند ودعاى ايشان بيشتر بالاميرود ظلم مكن وبدعاء من حاجت نيست ] ومن كلمات بهلول لهارون حين قال له من انا قال انت الذى لو ظلم احد فى المشرق وانت فى المغرب سألك الله عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون
وفى عين المعانى العالم لا يدخل على الظلمة تحاميا عن الدعاء لهم بالبقاء فورد من دعا لظالم بالبقاء فقد احب ان يعصى الله فى ارضه فلا بد من النصيحة وترك المداهنة وفى الحديث « ما ترك الحق لعمر من صديق » وقال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر
لما ادمت النصح والتحقيقا ... لم يتركا لى فى الوجود صديقا
قال السعدى قدس سره
بكوى آنجه دانى سخن سودمند ... وكر هيج كس را نيايد بسند
وبالجملة ان العدل من احسن الاخلاق وحكى ان انوشروان لما مات كان يطاف بتابوته فى جميع مملكته وينادى منادى من له علينا حق فليأت فلم يوجد احد فى ولايته عليه حق من درهم ولذا اشتهر بالعدل اشتهار حاتم بالجود حتى صار العادل لقبا له فلفظ العادل انما يطلق عليه لعدم جوره وظهور عدله لمجرد المدح والثناء عليه .(3/204)
واما سلاطين الزمان فلظهور جورهم وعدم اتصافهم بالعدل منعوا عن اطلاق العادل عليهم اذ اطلاقه عليهم حينئذ انما يكون لمجرد المدح لهم والثناء عليهم فيكون كذبا وكفرا فجواز اطلاق العادل على الكافر المنصف وعدم جواز اطلاقه على المسلمين الجائرين ليس بالنظر الى متانة العدل بل ذاك ليس الا ان العدل والجور متناقضان فلا يجتمعان
قال فى زهرة الرياض اذا كان يوم القيامة ينصب لواء الصدق لابى بكر رضى الله عنه وكل صديق يكون تحت لوائه . ولواء العدل لعمر رضى الله عنه وكل عادل يكون تحت لوائه . ولواء السخاوة لعثمان رضى الله عنه وكل سخى يكون تحت لوائه . ولواء الشهداء لعلى رضى الله عنه وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل . وكل زاهد تحت لواء ابى ذر . وكل فقير تحت لواء ابى الدرداء . وكل مقرىء تحت لواء ابى بن كعب . وكل مؤذن تحت لواء بلال . وكل مقتول ظلما تحت لواء الحسين بن على فذلك قوله تعالى { يوم ندعو كل اناس بامامهم } الآية . والعدل فى الحقيقة هو الوسط المحمود فى كل فعل وقول وخلق وهو المأمور به فى قوله تعالى { فاستقم كما امرت } ولقد صار من نال اليه كالكبريت الاحمر والمسك الاذفر ومن الله الهداية والتوفيق آمين(3/205)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{ يا ايها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } متعلق بنعمة الله { اذ همّ قوم } ظرف لنفس النعمة اى اذكروا انعامه عليكم فى وقت همهم وقصدهم { ان يبسطوا اليكم ايديهم } اى بان يبطشوا بكم بالقتل والاهلاك يقال بسط اليه يده اذا بطش به وبسط اليه لسانه اذا شتمه { فكف ايديهم عنكم } عطف على هم وهو النعمة التى اريد تذكيرها وذكر الهم ايذان بوقوعها عند مزيد الحاجة اليها والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها اى منع ايديهم ان يمدوا اليكم عقيب همهم بذلك لا انه كفها عنكم بعدما مدوها اليكم
وفيه من الدلالة على كمال النعمة من حيث انها لم تكن مشوبة بضرر الخوف والانزعاج الذى قلما يعرى عنه الكف بعد المد ما لا يخفى مكانه وذلك ما روى ان المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه بعسفان فى غزوة ذى انمار وغزوة ذات الرقاع وهى السابعة من مغازيه عليه السلام قاموا الى الظهر معا فلما صلوا ندم المشركون على ان لا كانوا قد اكبوا عليهم فقالوا ان لهم بعدها صلاة هى احب اليهم من آبائهم وابنائهم يعنون صلاة العصر وهموا ان يوقعوا بهم اذا قاموا اليها فردهم الله تعالى بكيدهم بان انزل صلاة الخوف
وقيل هو ما روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى بنى قريظة ومعه الشيخان وعلى رضى الله عنهم يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن امية الضمرى خطأ يحسبهما مشركين فقالوا انعم يا ابا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سألت فاجلسوه فى صفة وهموا بقتله وعمد عمرو بن جحاش الى رحى عظيمة يطرحها عليه فامسك الله تعالى يده ونزل جبريل فاخبر فخرج النبى عليه السلام
وقيل هو ما روى انه صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق اصحابه فى الفضى يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه بشجرة فجاء اعرابى فاخذه وسله فقال من يمنعك منى فقال عليه السلام « الله » فاسقطه جبريل عليه السلام من يده فاخذه الرسول عليه السلام فقال « من يمنعك منى » فقال لا احج اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله { واتقوا الله } عطف على اذكروا اى اتقوه فى رعاية حقوق نعمته فلا تخلوا بشكرها { وعلى الله } اى عليه تعالى خاصة دون غيره استقلالا واشتراكا { فليتوكل المؤمنون } فانه يكفيهم فى ايصال كل خير ودفع كل شر
واعلم ان التوكل عبارة عن الاعتصام بالله تعالى فى جميع الامور ومحله القلب والحركة بالظاهر لا تنافى توكل القلب بعدما تحقق للعبد ان التقدير من قبل الله فان تعسر شىء فبتقديره .(3/206)
واعلى مراتب التوكل ان يكون بين يدى الله تعالى كالميت بين يدى الغاسل تحركه القدرة الازلية وهو الذى قوى يقينه ألا ترى الى ابراهيم عليه السلام لما هم نمرود وقومه ان يبسطوا اليه ايديهم فرموه فى النار جاءه جبريل وهو فى الهواء فقال ألك حاجة قال أما اليك فلا وفاه بقوله حسبى الله ونعم الوكيل وانظر الى حقيقة توكل النبى عليه السلام حيث كف الله عنه وعن اصحابه ايدى المشركين رأسا فلم يقدروا ان يتعرضوا له بل ابتلوا فى اغلب الاحوال بما لا يخطر ببالهم من البلايا جزاء لهم على همهم بالسوء : وفى المثنوى
قصه عاد وثمود از بهر جيست ... تابدانى كه ابيارا ناز كيست
فالتوكل من معالى درجات المقربين فعلى المؤمن ان يتحلى بالصفات الحميدة ويسير فى طريق الحق بسيرة حسنة
ودخل حكيم على رجل فرأى دارا متجددة وفرشا مبسوطة ورأى صاحبها خاليا من الفضائل فتنحنح فبزق على وجهه فقال ما هذا السفه ايها الحكيم فقال بل هو عين الحكمة لان البصاق لزق الى اخس ما كان فى الدار ولم ار فى دارك اخس منك لخلوك عن الفضائل الباطنة فنبه بذلك على دناءته وقبحه لكونه مسترسلا فى لذاته مستغرقا اوقاته لعمارة ظاهره : قال الحافظ رحمه الله
قلندران حقيقت بنيم جو نخرند ... قباى اطلس آنكس كه از هنر عاريست
ثم اعلم ان كل شىء بقضاء الله تعالى وان الله يختبر عباده بما اراد فعليهم ان يعتمدوا عليه فى العسر واليسر والمنشط والمكره
وعن ابى عثمان قال كان عيسى عليه السلام يصلى على رأس جبل فاتاه ابليس فقال انت الذى تزعم ان كل شىء بقضاء قال نعم قال الق نفسك من الجبل وقل قدر علىّ قال يا لعين الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله وما على العبد الا التوكل والشكر على الانعام . ومن جملة انعام الله تعالى الاخراج من ظلمة العدم الى نور الوجود بامر كن والله يعلم ان رجوع العباد الى العدم ليس بهم ولا اليهم كما لم يكن خروجهم بهم فان خروجهم كان بجذبة امر كن فكذلك رجوعهم لا يكون الا بجذبة امر ارجعى فعليهم ان يكونوا واثقين بكرم الله وفضله مسارعين فى طلب مرضاة الله جاهدين على وفق الاوامر والنواهى فى الله ليهديهم الى جذبات عنايته ولطفه(3/207)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{ ولقد اخذ الله ميثاق بنى اسرائيل } اى بالله قد اخذ الله عهد طائفة اليهود والالتفات فى قوله تعالى { وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا } للجرى على سنن الكبرياء او لان البعث كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتى اى شاهدا من كل سبط ينقب عن احوال قومه ويفتش عنها او كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما امروا به
وقد روى ان النبى عليه السلام جعل للانصار ليلة العقبة اثنى عشر نقيبا وفائدة النقيب ان القوم اذا علموا ان عليهم نقيبا كانوا اقرب الى الاستقامة . والنقيب العريف نظيران وقيل النقيب فوق العريف
قال فى شرح الشرعة العريف فعيل بمعنى مفعول وهو سيد القوم والقيم بامور الجماعة من القبيلة والمحلة يلى امورهم ويتعرف الامير منه احوالهم وهو دون الرئيس والعرافة كالسيادة لفظا ومعنى وفى الحديث « العرافة حق ولا بد للناس من عرفاء ولكن العرفاء فى النار » يعنى ان سيادة القوم جائزة فى الشرع لان بها ينتظم مصالح الناس وقضاء اشغالهم فهى مصلحة ورفق للناس تدعوا اليها الضرورة . وقوله ولكن العرفاء فى النار اى اكثرهم فيها اذ المجتنب عن الظلم منهم يستحق الثواب لكن لما كان الغالب منهم خلاف ذلك اجراه مجرى الكل كذا فى شرح المصابيح : قال السعدى
رياست بدست كسانى خطاست ... كه از دستشان دستهابر خداست
مكن تاتوانى دل خلق ريش ... وكرميكنى ميكنى بيخ خويش
نماند ستمكار بد روزكار ... بماند برو لعنت بايدار
مها زرومندى مكن بركهان ... كه بريك نمط مى نماند جهان
دل دوستان جمع بهتركه كنج ... خزينه تهى به كه مردم برنج
بقومى كه نيكى بسندد خداى ... دهد خسرو عادل نيك راى
جوخواهدكه ويران كند عالمى ... كند ملك دربنجه ظالمى
{ وقال الله } اى لبنى اسرائيل فقط اذ هم المحتاجون الى الترغيب والترهيب { انى معكم } اى بالعلم والقدرة والنصرة اسمع كلامكم وارى اعمالكم واعلم ضمائركم فاجازيكم بذلك وتم الكلام هنا ثم ابتدأ بالجملة الشرطية فقال مخاطبا لبنى اسرائيل ايضا { لئن اقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلى } اى بجميعهم واللام موطئة للقسم المحذوف { وعزرتموهم } اى نصرتموهم وقويتموهم واصله الذب وهو المنع والدفع ومنه التعزير ومن نصر انسانا فقد ذب عند عدوه يقال عزرت فلانا اى فعلت به ما يرده عن القبيح ويمنعه عنه { واقرضتم الله } بالانفاق فى سبيل الخير او بالتصدق بالصدقات المندوبة فظهر الفرق بين هذا الاقراض وبين اخراج الزكاة فانها واجبة { قرضا حسنا } وهو ان يكون من حلال المال وخياره برغبة واخلاص لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا يكدرها من ولا اذى وانتصابه يحتمل ان يكون على المصدرية لانه اسم مصدر بمعنى اقراضا كما فى انبتها نباتا حسنا بمعنى انباتا ويحتمل ان يكون على المفعولية على انه اسم للمال المقرض(3/208)
{ لاكفرن عنكم سيآتكم } جواب للقسم المدلول عليه باللام ساد مسد جواب الشرط { ولادخلنكم جنات } اى بساطين { تجرى من تحتها } اى من تحت اشجارها ومساكنها { الانهار } الاربعة واخره لضرورة تقدم التخلية على التحلية { فمن كفر } اى برسلى وبشىء مما عدد فى حيز الشرط والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب والترهيب { بعد ذلك } الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم الموجب للايمان قطعا { منكم } متعلق بمضمر وقع حالا من فاعل كفر { فقد ضل سواء السبيل } اى وسط الطريق الواضح ضلالا بينا واخطأ خطأ فاحشا لا عذر معه اصلا بخلاف من كفر قبل ذلك اذ ربما يمكن ان يكون له شبهة ويتوهم له معذرة روى ان بنى اسرائيل لما استقروا بمصر بعد مهلك فرعون امرهم الله تعالى بالمسير الى اريحا من ارض الشام وهى الارض المقدسة وكانت لها الف قرية فى كل قرية الف بستان وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم انى كتبتها لكم دارا قرارا فاخرجوا اليها وجاهدوا من فيها وانى ناصركم وامر موسى عليه السلام ان يأخذ من كل سبط نقيبا امينا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما امروا به توثقة عليهم فاختار النقباء واخذ الميثاق على بنى اسرائيل وتكفل لهم النقباء وسار بهم فلما دنا من ارض كنعان بعث النقباء يتجسسون له الاخبار ويعلمون علمها فرأوا اجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا فرجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاق الا كالب بن يوقنا نقيب سبط يهودا ويوشع بن نون نقيب سبط افرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام قيل لما توجه النقباء الى ارضهم للتجسس لقيهم عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار الحرب فيشويه بعين الشمس يرفعه اليها ثم يأكله ويروى ان الماء طبق ما على الارض من جبل فى طوفان نوح وما جاوز ركبتى عوج وكانت امه عنق احدى بنات آدم وكان مجلسها جريبا من الارض فلما لقى عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب اخذ الاثنى عشر نقيبا وجعلهم فى الحزمة فانطلق بهم الى امرأته وقال انظرى الى هؤلاء الذين يزعمون قتالنا فطرحهم بين يديها وقال ألا اطحنهم برجلى فقالت لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك وروى انه جعلهم فى كمه واتى بهم الملك فنشرهم بين يديه فقال ارجعوا الى قومكم فاخبروهم بما رأيتم وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم الا خمسة انفس او اربعة بينهم فى خشبة ويدخل فى شطر رمانة اذا نزع حبها خمسة انفس فجعلوا يتعرفون باحوالهم فلما رجعوا قال بعضهم لبعض انكم ان اخبرتم بنى اسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبى الله ولكن اكتموه الا عن موسى وهارون فيكونان هما يريان رأيهما فاخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ثم انصرفوا الى موسى عليه السلام وكان معهم حبة من عنبهم وقر جمل فنكثوا عهدهم وجعل كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى الا كالب ويوشع وكان معسكر موسى فرسخا فى فرسخ فجاء عوج حتى نظر اليهم ثم رجع الى جبل فقوّر منه صخرة عظيمة على قدر المعسكر ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فقوّر من الصخرة وسطها المحاذى لرأسه فانتقبت فوقعت فى عنق عوج فطوقته فصرعته واقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة اذرع وكذا طول العصا فترامى فى السماء عشرة اذرع فما اصاب العصا الا كعبه وهو مصروع فقتله قالوا فاقبلت جماعة ومعهم الخناجر حتى جذروا رأسه وهكذا سنة الله فيما اراد حيث ينصر اولياءه بما لا يخطر ببالهم ولله فى كل فعله حكمة تامة ومصلحة شاملة(3/209)
واعلم ان الله تعالى كما جعل فى امة موسى من النقباء المختارين المرجوع اليهم عند الضرورة اثنى عشر كذلك جعل من كمال عنايته فى هذه الامة من النجباء البدلاء واعزة الاولياء اربعين رجلا فى كل حال وزمان كما قال النبى عليه السلام « يكون فى الامة اربعون على خلق ابراهيم وسبعة على خلق عيسى وواحدة على خلقى » فهم على مراتب درجاتهم ومناصب مقاماتهم امنة هذه الامة كما قال عليه السلام « بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم يدفع الله البلاء » قال ابو عثمان المغربى البلداء اربعون والامناء سبعة والخلفاء من الائمة ثلاثة والواحد هو القطب عارف بهم جميعا ومشرف عليهم ولا يعرفه احد ولا يشرف عليه وهو امام الاولياء الثلاثة الذين هم الخلفاء من الائمة وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه والخلفاء الثلاثة يعرفون السبعة الذين هم الامناء ولا يعرفهم اولئك السبعة والسبعة يعرفون الاربعين الذين هم البدلاء ولا يعرفهم البدلاء الاربعون وهم يعرفون سائر الاولياء من الامة ولا يعرفهم من الاولياء احد فاذا نقص من الاربعين واحد جعل مكانه واحد من الاولياء واذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الاربعين واذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة واذا مضى القطب الذى هو الواحد فى العدد وبه قوام اعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا الى ان يأذن الله تعالى فى قيام الساعة كما فى التأويلات النجمية
وقال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر القطب يحفظ المركز والامام الايمن يحفظ عالم الارواح والامام الايسر يحفظ عالم الاجساد والاوتاد الاربعة يحفظون الشرق والغرب والجنوب والشمال والابدال السبعة يحفظون اقاليم الكرة علوا وسفلا انتهى كلامه فى كتاب العظيمة(3/210)
ويقول الفقير جامع هذه المجالس اللطائف سمعت من حضرة شيخى وسندى الذى بمنزلة روحى فى جسدى ان قطب الوجود اذا انتقل الى الدار الآخرة يكون خليفته فى الجانب الايسر من الافراد دون الجانب الايمن وذلك لان يسار الامام يمين ويمينه يسار حين الاستقبال الى القوم واليه الاشارة بقوله تعالى { واصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة واصحاب المشأمة ما اصحاب المشأمة } فان لفظة ما عند اهل التحقيق نافية واهل اليسار اهل الجلال والفناء واهل اليمين اهل الجمال والبقاء فافهم هذا السر البديع وكن ممن القى سمعه وهو شهيد فان المنكر الغافل طريد عن الحق بعيد
بسر وقت شان خلق كى ره برند ... كه جون آب حيوان بظلمت درند
قال الصائب
سخن عشق باخرد كفتن ... بر رك مرده نيشتر زدنست
ثم تحقيق قوله تعالى { لئن اقمتم الصلوة } ان اقامة الصلاة فى ادامتها بان تجعل الصلاة معراجك الى الحق وتديم العروج بدرجاتها الى ان تشاهد الحق كما شاهدت يوم الميثاق ودرجاتها اربع القيام والركوح والسجود والتشهد على حسب دركات نزلت بها من اعلى عليين وجوار رب العالمين الى اسفل السافلين القلب وهى العناصر الاربعة التى خلق منها قالب الانسان فالمتولدات منها على اربعة اقسام ولكل قسم منها ظلمة وخاصية تحجبك عن مشاهدة الحق وهى الجمادية وخاصيتها التشهد ثم النباتية وخاصيتها السجود ثم الحيوانية وخاصيتها الركوع ثم الانسانية وخاصيتها القيام يشير اليك بالتخلص من حجب اوصاف الانسانية واعظمها الكبر وهو من خاصية النار والركوع يشير اليك بالتخلص من حجب صفات الحيوانية واعظمها الشهوة وهى من خاصية الهواء والسجود يشير اليك بالتخلص من حجب طبع النباتية واعظمها الحرص على الجذب للشىء والنمو وهو من خاصية الماء والتشهد يشير اليك بالتخلص من حجب طبع الجمادية واعظمها الجمودية وهى من خاصية التراب ومن هذه الصفات الاربع تنشأ بقية صفات البشرية فاذا تخلصت من هذه الدركات والحجب ورجعت بهذه المدارج الاربعة الى جوار رب العالمين وقربه فقد اقمت الصلاة مناجيا ربك مشاهدا له كما قال صلى الله عليه وسلم « اعبد الله كأنك تراه » كذا فى التأويلات النجمية(3/211)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
{ فبما نقضهم ميثاقهم } اى فبسب نقض اليهود عهدهم وهو انهم كذبوا الرسل بعد موسى وقتلوا الانبياء ونبذوا الكتاب وضيعوا فرائضه وما مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه فى النفس { لعناهم } اى طردناهم وابعدناهم من رحمتنا او مسخناهم قردة وخنازير او اذللناهم بضرب الجزية عليهم { وجعلنا قلوبهم قاسية } اى غليظة شديدة بحيث لا تتأثر من الآيات والنذر وحجر قاس اى صلب غير لين { يحرفون الكلم عن مواضعه } استئناف لبيان قسوة قلوبهم فانه لا قسوة اشد من تغيير كلام الله والافتراء عليه والمراد بالتحريف اما تبديلهم نعت النبى صلى الله عليه وسلم واما تبديلهم بسوء التأويل وقد سبق فى سورة البقرة { ونسوا حظا } اى وتركوا نصيبا وافرا { مما ذكروا به } من التوراة او من اتباع محمد عليه السلام والمعنى انهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما انزل عليهم فلم ينالوه وقيل معناه انهم حرفوها فتركت بشؤمه اشياء منها عن حفظهم لما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية روى ان الله تعالى غير العلم على امية بن ابى الصلت وكان من بلغاء الشعراء كان نائما فاتاه طائر وادخل منقاره فى فيه فلما استيقظ نسى جميع علومه : قال الحافظ
نه من زبى عملى درجهان ملولم وبس ... ملالت علما هم زعلم بى عملست
واعلم ان العلماء العاملين والمشايخ الواصلين لا يزالون يذكرون الناس كل عصر يوم الميثاق ومخاطبة الحق اياهم تشويقا لهم الى تلك الاحوال فمن سامع ومن معرض فالسامع لكونه معرضا عن الدنيا والعقبى وصل الى جوار المولى فكان مقبولا مرحوما والمعرض لكونه مقبلا على ما سوى المولى لم ينل شيأ فكان مردودا ملعونا لانه نقض عهده مع الله سبحانه وتعالى : وفى المثنوى
بى وفايى جون سكانرا عاربود ... بى وفايى جون رو ادارى نمود
حق تعالى فخر آورد ازوفا ... كفت من اوفى بعهد غيرنا
{ ولا تزال تطلع على خائنة منهم } اى خيانة على انها مصدر كاللاغية والكاذبة قال الله تعالى { لا تسمع فيها لاغية } اى لغوا والمعنى ان الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولاسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها او يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم { الا قليلا منهم } لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام واضرابه وهو استثناء من الضمير المجرور فى منهم { فاعف عنهم واصفح } اى اعرض عنهم ولا تتعرض لهم بالمعاقبة والمؤاخذة ان تابوا وآمنوا او عاهدوا والتزموا الجزية وقيل مطلق نسخ بآية السيف وهو قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } { ان الله يحب المحسنين } تعليل للامر بالصفح وحث على الامتثال وتنبيه على ان العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن العفو عن غيره : قال السعدى(3/212)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{ ومن الذين قالوا انا نصارى اخذنا ميثاقهم } اى واخذنا من النصارى ميثاقهم كما اخذنا ممن قبلهم من اليهود ومن متعلقة باخذنا والتقديم للاهتمام وانما قال قالوا انا نصارى ولم يقل ومن النصارى تنبيها على انهم نصارى بتسميتهم انفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله بقولهم لعيسى عليه السلام نحن انصار الله وليسوا موصوفين بانهم نصارى بتوصيف الله اياهم بذلك ومعنى اخذ الميثاق هو ما اخذ الله عليهم فى الانجيل من العهد المؤكد باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبيان صفته ونعته { فنسوا حظا } اى تركوا نصيبا وافرا { مما ذكروا به } فى تضاعيف الميثاق من الايمان وما يتفرع عليه من افعال الخير { فاغرينا } اى الزمنا والصقنا من غرى بالشىء اذا لزمه ولصق به واغراه غيره { بينهم } ظرف لاغرينا { العداوة } وهى تباعد القلوب والنيات { والبغضاء } اى البغض { الى يوم القيامة } غاية للاغراء او للعداوة والبغضاء اى يتعادون ويتباغضون الى يوم القيامة { وسوف ينئبهم الله } اى يخبرهم فى الآخرة { بما كانوا يصنعون } وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده ساخبرك بما فعلت اى يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والتعبير عن العمل بالصنع للايذان برسوخهم فى ذلك
قيل الذى القى العداوة بين النصارى رجل يقال له بولس وكان بينه وبين النصارى قتال قتل منهم خلقا كثيرا فاراد ان يحتال بحيلة يلقى بينهم القتال فيقتل بعضهم بعضا فجاء الى النصارى وجعل نفسه اعور وقال لهم ألا تعرفوننى فقالوا انت الذى قتلت ما قتلت منا وفعلت ما فعلت فقال قد فعلت ذلك كله والآن تبت لانى رأيت عيسى عليه الصلاة والسلام فى المنام نزل من السماء فلطم وجهى لطمة فقأ عينى فقال أى شىء تريد من قومى فتبت على يده ثم جئتكم لاكون بين ظهرانيكم واعلمكم شرائع دينكم كما علمنى عيسى عليه السلام فى المنام فاتخذوا له غرفة فصعد تلك الغرفة وفتح كوة الى الناس فى الحائط وكان يتعبد فى الغرفة وربما كانوا يجتمعون اليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة وربما يأمرهم بان يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة ويقول لهم قول كان فى الظاهر منكرا وينكرون عليه فكان يفسر ذلك القول تفسيرا يعجبهم ذلك فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به فقال يوما من الايام اجتمعوا عندى فقد حضرنى علم فاجتمعوا فقال لهم أليس خلق الله تعالى هذه الاشياء فى الدنيا كلها لمنفعة بنى آدم قالوا نعم فقال لم تحرمون على انفسكم هذه الاشياء يعنى الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما فى الارض جميعا فاخذوا قوله فاستحلوا الخمر والخنزير فلما مضى على ذلك ايام دعام وقال حضرنى علم فاجتمعوا فقال لهم من أى ناحية تطلع الشمس فقالوا من قبل المشرق فقال ومن أى ناحية يطلع القمر والنجوم فقالوا من قبل المشرق فقال ومن يرسلهم من قبل المشرق قالوا الله تعالى فقال فاعلموا انه تعالى فى قبل المشرق فان صليتم له فصلوا اليه فحول صلاتهم الى المشرق فلما مضى على ذلك ايام دعا بطائفة منهم وامرهم بان يدخلوا عليه فى الغرفة وقال لهم انى اريد ان اجعل نفسى الليلة قربانا لاجل عيسى وقد حضرنى علم فاريد ان اخبركم فى السر لتحفظوا عنى وتدعوا الناس الى ذلك بعدى ويقال ايضا انه اصبح يوما وفتح عينه الاخرى ثم دعاهم وقال لهم جاءنى عيسى الليلة وقال قد رضيت عنك فمسح يده على عينى فبرئت والآن اريد ان اجعل نفسى قربانا له ثم قال هل يستطيع احد ان يحيى الموتى ويبرىء الاكمه والابرص الا الله تعالى فقالوا لا فقال ان عيسى قد فعل هذه الاشياء فاعلموا انه هو الله تعالى فخرجوا من عنده ثم دعا بطائفة اخرى فاخبرهم بذلك ايضا وقال انه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة واخبرهم بذلك ايضا وقال انه ثالث ثلاثة واخبرهم انه يريد ان يجعل نفسه الليلة قربانا فلما كان بعض الليالى خرج من بين ظهرانيهم فاصبحوا وجعل كل فريق يقول قد علمنى كذا وكذا وقال الفريق الآخر انت كاذب بل علمنى كذا وكذا فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقا كثيرا وبقيت العداوة بينهم الى يوم القيامة وهم ثلاث فرق منهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله والثانية الملكانية قالوا ان الله تعالى ثالث ثلاثة المسيح وامه والله والفرقة الثالثة اليعقوبية قالوا ان الله هو المسيح : قال جلال الدين رومى قدس سره(3/213)
درتصور ذات اورا كنج كو ... تادر آيد درتصور مثل او
كربغايت نيك وكربد كفته اند ... هرجه زوكفتند ازخود كفته اند
مى مكن جندين قياس اى حق شناس ... زانكه نايد ذات بيجون درقياس
فعلى المؤمن ان يلاحظ قوله تعالى { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } وان يشتغل بنفسه عن غيره وفى الحديث « ما منكم من احد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر اشأم منه فلا يرى الا ما قدم فينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة » يعنى من لم يجد شيأ يتقى به النار فليتق منها بقول حسن يطيب به قلب المسلم فان الكلمة الطيبة من الصدقات
والاشارة فى الآية ان الله تعالى اخذ الميثاق من اليهود والنصارى على التوحيد كما اخذ من هذه الامة يوم الميثاق ولكنه لما وكل الفريقين الى انفسهم نسوا ما ذكروا به فما بقى لهم حظ من ذلك الميثاق بابطال الاستعداد الفطرى لكمال الانسانية فصاروا كالانعام بل هم اضل اى بل كالسباع يتحارشون ويتناوشون بالعداوة والبغضاء الى يوم القيامة فان ارباب الغفلة لا الفة بينهم وان اصحاب الوفاق لا وحشة بينهم واما هذه الامة لما ايدت بتأييد الاله اذ كتب فى قلوبهم الايمان بقلم خطاب ألست بربكم يوم الميثاق وايدهم بروح منه ما نسوا حظا مما ذكروا به وقيل لنبيهم عليه الصلاة والسلام(3/214)
{ وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين } وقال تعالى خطابا لهم اذ لم ينسوا حظهم ولم ينقضوا ميثاقهم { فاذكرونى اذكركم } على ان ذكره اياهم كان قبل وجودهم وذكرهم اياه حين ذكرهم المحبة وقال { يحبهم ويحبونه } كذا فى التأويلات النجمية(3/215)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{ يا اهل الكتاب } يعنى اليهود والنصارى والكتاب جنس شامل للتوراة والانجيل { قد جاءكم رسولنا } الاضافة للتشريف والايذان بوجوب اتباعه { يبين لكم } حال من رسولنا اى حال كونه مبينا لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة { كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } اى كثيرا كائنا من الذى كنتم تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب اى التوراة والانجيل الذى انتم اهله والمتمسكون به كنعت محمد عليه السلام وآية الرجم فى التوراة وبشارة عيسى باحمد عليهما السلام فى الانجيل { ويعفوا عن كثير } مما تخفونه اى لا يظهره ولا يخبره اذا لم يضطر اليه امر دينى صيانة لكم عن زيادة الافتضاح { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } المراد بالنور والكتاب هو القرآن لما فيه من كشف ظلمات الشرك والشك وابانة ما خفى على الناس من الحق او الاعجاز الواضح والعطف المنبىء على تغاير الطريفين لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات وقيل المراد بالاول هو الرسول صلى الله عليه وسلم وبالثانى القرآن(3/216)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{ يهدى به الله } وحد الضمير لان المراد بهما واحد بالذات او لانهما فى حكم الواحد فان المقصود منهما دعوة الخلق الى الحق احدهما رسول آلهى والآخر معجزته وبيان ما يدعو اليه من الحق { من اتبع رضوانه } اى رضاه بالايمان به { سبل السلام } اى طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب على ان يكون السلام بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة او سبيل الله تعالى وهو شريعته التى شرعها للناس على ان يكون السلام هو الله تعالى وانتصاب سبل بنزع الخافض فان يهدى انما يتعدى الى الثانى بالى او باللام كما فى قوله تعالى { ان هذا القرآن يهدى للتى هى اقوم } { ويخرجهم } الضمير لمن والجمع باعتبار المعنى كما ان الافراد فى اتبع باعتبار اللفظ { من الظلمات } اى ظلمات فنون الكفر والضلال { الى النور } الى الايمان وسمى الايمان نورا لان الانسان اذا آمن ابصر به طريق نجاته فطلبه وطريق هلاكه فحذره { باذنه } اى بتيسيره وارادته { ويهديهم الى صراط مستقيم } اى طريق هو اقرب الطرق الى الله تعالى ومؤد اليه لا محالة وهذه الهداية عين الهداية الى سبل السلام وانما عطف عليها تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى كما فى قوله تعالى { فلما جاء امرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمه منا ونجيناهم من عذاب غليظ } واعلم ان الله تعالى بعث النبى صلى الله عليه وسلم نورا يبين حقيقة حظ الانسان من الله تعالى وانه تعالى سمى نفسه نورا بقوله تعالى { الله نور السموات والارض } لانهما كانتا مخفيتين فى ظلمة العدم فالله تعالى اظهرهما بالايجاد وسمى الرسول نورا لان اول شىء اظهره الحق بنور قدرته من ظلمة العدم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم كما قال « اول ما خلق الله نورى » ثم خلق العالم بما فيه من نوره بعضه من بعض فلما ظهرت الموجودات من وجود نوره سماه نورا وكل ما كان اقرب الى الاختراع كان اولى باسم النور كما ان عالم الارواح اقرب الى الاختراع من عالم الاجسام فلذلك سمى عالم الانوار والعلويات نورانيا بالنسبة الى السفليات فاقرب الموجودات الى الاختراع لما كان نور النبى عليه السلام كان اولى باسم النور ولهذا كان يقول « انا من الله والمؤمنون منى » وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور } وروى عن النبى عليه السلام انه قال « كنت نورا بين يدى ربى قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام وكان يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله آدم القى ذلك النور فى صلبه »
وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم انه قال(3/217)
« لما خلق الله آدم اهبطنى فى صلبه الى الارض وجعلنى فى صلب نوح فى السفينة وقذفنى فى صلب ابراهيم ثم لم يزل تعالى ينقلنى من الاصلاب الكريمة والارحام الطاهرة حتى اخرجنى بين ابوى لم يلتقيا على سفاح قط » قال العرفى فى قصيدته النعتية
اين بس شرف كوهر تومنشى تقدير ... آن روزكه بكذاشتى اقليم قدم را
تاحكم نزول تودرين دارنوشته است ... صدره بعبث باز تراشيد قلم را
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما اعترف آدم بالخطيئة قال يا رب اسألك بحق محمد ان تغفر لى فقال الله يا آدم كيف عرفت محمدا ولم اخلقه قال لانك لما خلقتنى بيدك ونفخت فى من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا اله الا الله محمد رسول الله فعرفت انك لم تضف الى اسمك الا اسم احب الخلق اليك فقال الله تعالى صدقت يا آدم انه لأحب الخلق الى فغفرت لك ولولا محمد لما خلقت » رواه البيهقى فى دلائله(3/218)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{ لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم } لا غير كما يقال الكرم هو التقوى نزلت فى نصارى نجران وهم اليعقوبية القائلون بانه تعالى قد يحل فى بدن انسان معين او فى روحه { قل } يا محمد تبكيتا لهم ان كان الامر كما تزعمون { فمن } استفهامية انكارية { يملك } الملك الضبط والحفظ التام عن حزم اى يمنع { من الله } اى من قدرته وارادته { شيأ } وحقيقته فمن يستطيع ان يمسك شيأ منها { ان اراد ان يهلك المسيح ابن مريم وامه ومن فى الارض جميعا } احتج بذلك على فساد قولهم وتقريره ان المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الالوهية وكيف يكون آلها من لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه ولا عن غيره والمراد بالاهلاك الامانة والاعدام مطلقا لا بطريق السخط والغضب ولعل انظم امه فى سلك من فرض ارادة اهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها انموذجا لحال بقية من فرض اهلاكه كأنه قيل قل فمن يملك من الله شيأ ان اراد ان يهلك المسيح ابن مريم وامه ومن فى الارض وقد اهلك امه فهل مانعه احد فكذا حال من عداها من الموجودين { ولله ملك السموات والارض وما بينهما } اى ما بين قطرى العالم الجسمانى لا بين وجه الارض ومقعر فلك القمر فقط فيناول ما فى السموات من الملائكة وما فى اعماق الارض والبحار من المخلوقات وهو تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته اثر الاشارة الى كون البعض اى من فى الارض كذلك اى له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها ايجادا واعداما واحياء واماتة لا لاحد سواه استقلالا ولا اشتراكا فهو تحقيق لاختصاص الالوهية به تعالى اثر بيان انتفائها عن كل ما سواه { يخلق ما يشاء } اى يخلق ما يشاء من انواع الخلق والايجاد على ان ما نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية لا على المفعولية كأنه قيل يخلق أى خلق يشاؤه فتارة يخلق من غير اصل كخلق السموات والارض واخرى من اصل كخلق السموات والارض واخرى من اصل كخلق ما بينهما فينشىء من اصل ليس من جنس كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن اصل يجانسه اما من ذكر وحده كخلق حواء او انثى وحدها كخلق عيسى او منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شىء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى معجزة له واحياء الموتى وابراء الاكمه والابرص وغير ذلك فينسب كل اليه تعالى لا الى من اجرى ذلك على يده { والله على كل شىء قدير } اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله : وفى المثنوى(3/219)
دامن او كير اى يار دلير ... كومنزه باشد از بالا وزير
نى جو عيسى سوى كردون برشود ... نى جو قارون درزمين اندر رود
ربى الاعلاست ورد آن مهان ... رب ادنى خوراين ابلهان
وعن عبادة من الصامت رضى الله عنه عن النبى عليه السلام قال « من شهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق ادخله الله الجنة على ما كان من عمل »
وعن الحارث الاشعرى رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ان الله تعالى اوحى الى يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات ان يعمل بهن ويأمر بنى اسرائيل ان يعملوا بهن فكأنه ابطأ بهن فاتاه عيسى فقال ان الله امرك بخمس كلمات ان تعمل بهن وتأمر بنى اسرائيل ان يعملوا بهن فاما ان تخبرهم واما ان اخبرهم فقال يا اخى لا تفعل فانى اخاف ان سبقتنى بهن ان يخسف بى او اعذب قال فجمع بنى اسرائيل ببيت المقدس حتى امتلأ المسجد وقعدوا على الشرفات ثم خطبهم فقال ان الله اوحى الى بخمس كلمات ان اعمل بهن وآمر بنى اسرائيل ان يعلموا بهن . اولاهن ان لا تشركوا بالله شيأ فان مثل من اشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب او ورق ثم اسكنه دارا فقال اعمل وارفع الى فجعل يعمل ويرفع الى غير سيده فأيكم يرضى ان يكون عبده كذلك فان الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيأ واذا قمتم الى الصلاة فلا تلتفتوا فان الله يقبل بوجهه الى وجه عبده ما لم يلتف . وآمركم بالصيام ومثل ذلك كمثل رجل فى عصابة معه صرة من مسك كلهم يحب ان يجد ريحها وان الصيام عند الله اطيب من ريح المسك . وآمركم بالصدقة ومثل ذلك كمثل رجل اسره العدو فاوثقوا يده الى عنقه وقربوه ليضربوا عنقه فجعل يقول هل لكم ان اقدى نفسى منكم فجعل يعطى القليل والكثير حتى فدى نفسه . وآمركم بذكر الله كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا فى اسره حتى اتى حصنا حصينا فاحرز نفسه فيه وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان الذى هو اكبر الاعداء الا بذكر الله » قال فى المثنوى
ذكر حق كن بانكه غولانرا بسوز ... جشم نركس را ازين كركس بدوز
ذكر حق باكست جون باكى رسيد ... رخت بر بندد برون آيد بليد
مى كريزد ضدها از ضدها ... شب كريزد جون برافروزد ضيا
جون در آيد نام باك اندر دهان ... نى بليدى ماند ونى آندهان
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « وانا آمركم بخمس الله امرنى بهن بالسمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فانه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه الا ان يراجع » والربقة بكسر الراء وفتحها وسكون الباء الموحدة واحدة الربق وهى عرى فى حبل يشد به اليهم وتستعار لغيره(3/220)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{ وقالت اليهود والنصارى نحن ابناء الله واحباؤه } اى قالت اليهود نحن اشياع ابنه عزير وقالت النصارى نحن اشياع ابنه المسيح كما يقول اقارب الملوك عند المفاخرة نحن الملوك او المعنى نحن من الله بمنزلة الابناء للآباء وقربنا من الله كقرب الوالد لولده وحبنا اياه كحب الوالد لولده وغضب الله علينا كغضب الرجل على ولده والوالد اذا سخط على ولده فى وقت يرضى عنه فى وقت آخر وبالجملة انهم كانوا يدعون ان لهم فضلا ومزية عند الله على سائر الخلق فرد عليهم ذلك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قل } الزاما لهم وتبكيتا { فلم يعذبكم بذنوبكم } اى ان صح ما زعمتم فلأى شىء يعذبكم فى الدنيا بالقتل والاسر والمسح وقد اعترفتم بانه سيعذبكم فى الآخرة اياما معدودة بعدد ايام عبادتكم العجل ولو كان الامر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع { بل } اى لستم كذلك { انتم بشر ممن خلق } اى من جنس ما خلق الله تعالى من غير مزية لكم عليهم { يغفر لمن يشاء } ان يغفر له من اولئكم المخلوقين وهم الذين آمنوا بالله تعالى وبرسله { ويعذب من يشاء } ان يعذبه منهم وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله { ولله ملك السموات والارض وما بينهما } من الموجودات لا ينتمى اليه تعالى شىء منها الا بالمملوكية والعبودية والكل تحت مملوكيته يتصرف فيه كيف يشاء ايجادا واعداما واماتة واثابة وتعذيبا فانى لهم ادعاء ما زعموا { واليه المصير } فى الآخرة خاصة لا الى غيره استقلالا ولا اشتراكا فيجازى كلا من المحسن والمسيىء بما يستدعيه عمله من غير مانع يمنعه وليست المحبة بالدعوى بل لها علامات ولله در من قال
تعصى الاله وانت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... ان المحب لمن يحب مطيع
والله تعالى لا يحب من خالف شيأ من شريعة النبى عليه السلام من سننها وفروضها وحلالها وحرامها وانما يحب من اطاع امره ولا فوق بين الناس من حيث الصورة البشرية وانما تفاوتهم من حيث العلم والعمل والتقرب الى الله تعالى : قال السعدى قدس سره
ره راست بايد نه بالاى راست ... كه كافرهم از روى صورت جو ماست
وانما يظهر التفاوت فى الآخرة لانها دار الجزاء فطوبى لعبد تفكر فى حاله ومصيره فرغب فى الزهد والطاعة قبل مضى الوقت : قال فى المثنوى
كربينى ميل خود سوى سما ... بردولت بركشا همجون هما
ور بينى ميل خود سوى زمين ... نوحه ميكن هيج منشين ازحنين
عاقلان خود نوحها بيشين كنند ... جاهلان آخر بسر بر مى زنند
رابتداء كار آخررا ببين ... تانباشى تو بشيمان روز دين(3/221)
وحكى ان رجلا جاء الى صائغ يسأل منه الميزان ليزن رضاض ذهب له فقال الصائغ اذهب فانه ليس لى غربال فقال الرجل لا تسخر بى آت الميزان فقال الصائغ ليس لى مكنسة ثم قال اطلب منك الميزان ايها الصائغ وانت تجيبنى بما يضحك منه فقال انما قلت ما قلت لانك شيخ مرتعش فعند الوزن يتفرق رضاضك من يدك بسبب ارتعاشك ويسقط الى التراب فتحتاج الى المكنسة والغربال للتخليص فبسبب فكرى لعاقبة امرك قلت ما قلت
من زاول ديدم آخررا تمام ... جاى ديكر رو ازينجا والسلام
واعلم ان احباء الله هم اولياء الله على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم . فمنهم عوام . ومنهم خواص . ومنهم اخص ولكل منهم مقام معلوم من المحبة
ورأى بعضهم معروفا الكرخى تحت العرش وقد قال الله تعالى لملائكته من هذا فقالوا انت اعلم يا رب فقال هذا معروف الكرخى سكر من حبى فلا يليق الا للقائى وكمال الحب انما يحصل بعد تزكية النفس فان النفس اذا كانت مغضوبة لا تتم الرحمة فى حقها وصاحبها انما يحب الله تعالى من وراء حجاب اللهم اجعلنا ممن يحبك حبا شديدا ويسلك فى محبتك طريقا سديدا(3/222)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{ يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا } حال كونه { يبين لكم } الشرائع والاحكام الدينية المقرونة بالوعد والوعيد { على فترة } كائنة { من الرسل } مبتدأة من جهتهم وعلى متعلق بجاءكم على الظرفية اى جاءكم على حين فتور من الارسال وانقطاع من الوحى ومزيد احتياج الى بيان الشرائع والاحكام الدينية يقال فتر الشىء يفتر فتورا اذا سكنت حركته وصارت اقل مما كانت عليه وسميت المدة بين الانبياء فترة لفتور الدواعى فى العمل بتلك الشرائع ونبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بعث بعد انقطاع الرسل لان الرسل كانت متواترة بعضها فى اثر بعض الى وقت رفع عيسى عليه السلام { ان تقولوا } تعليل لمجيئ الرسول بالبيان على حذف المضاف اى كراهة ان تقولوا معتذرين عن تفريطكم فى مراعاة احكام الدين { ما جاءنا من بشير } يبشرنا بالجنة { ولا نذير } يخوفنا بالنار وقد انطمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت اخبارها { فقد جاءكم بشير ونذير } متعلق بمحذوف تنبىء عنه الفاء الفصيحة وتبين انه معلل به اى لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير ى بشير ونذير أى نذير على ان التنوين للتفخيم
وفى الآية امتنان عليهم بان بعث اليهم حين انطمست آثار الوحى وكانوا احوج ما يكون اليه { والله على كل شىء قدير } فيقدر على الارسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما الف وسبعمائة سنة والف نبى وعلى الارسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما السلام حيث كان بينهما ستمائة سنة وتسع وتسعون سنة او خمسمائة وست واربعون سنة واربعة انبياء على ما روى الكلبى ثلاثة من بنى اسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسى وقيل لم يكن بعد عيسى الا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الانسب بما فى تنوين فترة من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بان الرسول قد بعث اليهم عند كمال حاجتهم اليه بسبب مضى دهر طويل بعد انقطاع الوحى ليعدوه اعظم نعمة من الله وفتح باب الى الرحمة وتلزمهم الحجة فلا يتعللوا غدا بانه لم يرسل اليهم من ينبههم من غفلتهم كذا فى الارشاد
وفى الحديث « انا اولى الناس بعيسى ابن مريم فانه ليس بينى وبينه نبى » قال ابن الملك بطل بهذا قول من قال الحواريون كانوا انبياء بعد عيسى عليه السلام انتهى ومعنى قوله نبى اى نبى داع للخلق الى الله وشرعه واما خالد بن سنان فان اظهر بدعواه الانباء عن البرزخ الذى بعد الموت وما اظهر نبوته فى الدنيا
وقصته انه كان مع قومه يسكنون بلاد عدن فخرجت نار عظيمة من مغارة فاهلكت الزرع والضرع فالتجأ اليه قومه فاخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه حتى رجعت هاربة منه الى المغارة التى خرجت منها ثم قال لاولاده انى ادخل المغارة خلف النار لاطفئها وامرهم ان يدعوه بعد ثلاثة ايام تامة فانهم ان نادوه قبل ثلاثة ايام فهو يخرج ويموت وان صبروا ثلاثة ايام يخجر سالما فلما دخل صبروا يومين واستفزهم الشيطان فلم يصبروا فظنوا انه هلك فصاحوا به فخرج خالد من المغارة وعلى رأسه ألم حصل من صياحهم فقال ضيعتمونى واضعتم قولى ووصيتى واخبرهم بموته وامرهم ان يقبروه ويرقبوه اربعين يوما فانه يأتيهم قطيع من الغنم يتقدمه حمار ابتر مقطوع الذنب فاذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه قبره فانه يقوم ويخبرهم باحوال البرزخ والقبر عن يقين ورؤية فانتظروا اربعين يوما فجاء القطيع وتقدمه حمار ابتر فوقف حذاء قبره فهمّ مؤمنوا قومه قومه ان ينبشوا عليه فابى اولاده خوفا من العار لئلا يقال لهم اولاد المنبوش قبره فحملتهم الحمية الجاهليةعلى ذلك فضيعوا وصيته واضاعوه فلما بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاءته بنت خالد فقال عليه السلام(3/223)
« مرحبا بابنة نبى اضاعه قومه » وانما امر خالد ان ينبش عليه ليسأل ويخبر ان الحكم فى البرزخ على صورة الحياة الدنيا فيعلم بذلك الاخبار صدق الرسل كلهم بما اخبروا به فى حياتهم الدنيا فكان غرض خالد عليه السلام ايمان العالم كله بما جاءت به الرسل من احوال القبر والمواطن والمقامات البرزخية ليكون رحمة للجميع فانه تشرف بقرب نبوته من نبوة محمد عليه السلام وعلم خالد ان الله ارسله رحمة للعالمين ولم يكن خالد برسول فاراد ان يحصل من هذه الرحمة فى الرسالة المحمدية على حظ اوفر ولم يؤمر بالتبليغ فاراد ان يحطى فى البرزخ بذلك التبليغ من مقام الرسالة ليكون اقوى فى العلم فى حق الخلق اى ليعلم قوة علمه باحوال الخلائق فى البرزخ فاضاعه قومه وانما وصف النبى قومه بانهم اضاعوا نبيهم اى وصية نبيهم حيث لم يبلغوه مراده من اخباره احوال القبر كذا فى الفصوص وشروحه
واتفق العلماء على انه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل فى عاشر شهر ربيع الاول فى ليلة يوم الاثنين منه فلما تشرف العالم وجوده الشريف وعنصره اللطيف اضاءت قلوب الخلق واستنارت فهداهم الله به عليه السلام فابصره من ابصر وعمى من عمى وبقى فى الكفر والضلال
دركار خانه عشق ازكفرنا كزيرست ... آتش كرابسوزد كر بولهب نباشد
وانما اضاف تعالى الرسول الى نفسه وقال رسولنا وما اضاف اليهم لان فائدة رسالته لم تكن راجعة اليهم ولما خاطب هذه الامة واخبرهم عن مجيىء الرسول ما اضافه الى نفسه وانما جعله من انفسهم فقال { لقد جاءكم رسول من انفسكم } ان فائدة رسالته كانت راجعة الى انفسهم كما فى التأويلات النجمية
فعلى المؤمن ان يقتفى اثر الرسول صلى الله عليه وسلم ويتفكر فى الوعد والوعيد فقد جاء البشير والنذير بحيث لم يبق للاعتذار مجال اصلا وروى ان جبير بن مطعم قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم بالجحفة فقال « أليس تشهدون ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانى رسول الله وان القرآن جاء من عند الله » فقلنا بلى قال « فابشروا فان هذا القرآن طرفه بيده الله وطرفه بايديكم فتمسكوا به فانكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده ابدا »(3/224)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{ واذ قال موسى لقومه } اى اذكر يا محمد لاهل الكتاب ما حدث وقت قول موسى لبنى اسرائيل ناصحا لهم { يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم } اى انعامه عليكم { اذ جعل فيكم انبياء } فى قوت جعله فيما بينكم من اقربائكم انبياء فارشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث فى امة من الامم ما بعث فى بنى اسرائيل من الانبياء وكثرة الاشراف والافاضل فى القوم شرف وفضل لهم ولا شرف اعظم من النبوة { وجعلكم ملوكا } اى جعل فيكم او منكم ملوكا كثيرة فانه قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الانبياء وجعل الكل فى مقام الامتنان عليهم ملوكا لما ان اقارب الملوك يقولون عند المفاخرة نحن الملوك
وقال السدى وجعلكم احرار تملكون انفسكم بعدما كنتم فى ايدى القبط فى مملكة فرعون بمنزلة اهل الجزية قال ابن عباس رضى الله عنهما يعنى اصحاب خدم وحشم وكانوا اول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وقال بعضهم من له امرأة يأوى اليها ومسكن يسكنه وخادم يخدمه فهو من الملوك وكذا من كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك { وآتاكم ما لم يؤت احدا من العالمين } من البحر واغراق العدو وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله من الامور العظام والمراد بالعالمين الامم الخالية الى زمانهم(3/225)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
{ يا قوم ادخلوا الارض المقدسة } هى ارض بيت المقدس ظهرت من الشرك وجعلت قرار الانبياء ومسكن المؤمنين { التى كتب الله لكم } اى كتب فى اللوح المحفوظ انها تكون مسكنا لكم ان آمنتم واطعتم لقوله تعالى لهم بعدما عصوا فانها محرمة عليهم { ولا ترتدوا } لا ترجعوا { على ادباركم } اى مدبرين خوفا من الجبابرة فهو حال من فاعل لا ترتدوا ويجوز ان يتعلق بنفس الفعل اى ولا ترجعوا على اعقابكم بخلاف ما امر الله { فتنقلبوا } فتنصرفوا حال كونكم { خاسرين } اى مغبونين بفوت ثواب الدارين(3/226)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{ قالوا } اى بنوا اسرائيل عند امر موسى ونهيه غير ممتثلين لذلك { يا موسى ان فيها قوما جبارين } اى متغلبين لا تتأتى مقاومتهم والجبار العالى الذي يجبر الناس ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان فعال من جبره على الامر اى اجبره عليه وذلك ان النقباء الاثنى عشر الذين خرجوا لتجسس الاخبار وانتهوا الى مدينة الجبارين لما رجعوا الى موسى واخبروه بما عاينوا من قوتهم وشوكتهم وطول قدودهم وعظم اجسامهم وان الرجل من بنى اسرائيل ليدخل تحت قدمهم لعظمه ووسعته قال لهم موسى اكتموا شأنهم ولا تخبروا به احدا من اهل المعسكر فيفشلوا فاخبر كل واحد منهم قريبه وابن عمه الا رجلين وفيا بما قال لهما موسى احدهما يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف فتى موسى والآخر كالب بن يوفنا ختن موسى على اخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهودا فشاع الخبر بين بنى اسرائيل فلذا قالوا ان فيها قوما جبارين { وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } من غير صنع من قبلنا فانه لا طاقة لنا باخراجهم منها { فان يخرجوا منها } بسبب من الاسباب التى لا تعلق لنا بها { فانا داخلون } حينئذ(3/227)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
{ قال رجلان } كانه قيل هل اتفقوا على ذلك او خالفهم البعض فقيل قال رجلان وهما كالب ويوشع { من الذين يخافون } الله تعالى دون العدو ويتقونه فى مخالفة امره ونهيه وهو صفة لرجلان { انعم الله عليهما } بالتثبيت والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده وهو صفة ثانية لرجلان { ادخلوا عليهم الباب } اى باب بلد الجبارين وهو اريحا وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لان المقصود انما هو دخول الباب وهم فى بلدهم اى باغتوهم وضاغتوهم فى المضيق وامنعوهم من البروز الى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا { فاذا دخلتموه } اى باب بلدهم وهم فيه { فانكم غالبون } من غير حاجة الى القتال فانا قد رأيناهم وشاهدناهم ان قلوبهم ضعيفة وان كانت اجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم فى المضايق فانهم لا يقدرون فيها على الكر والفر { وعلى الله } خاصة { فتوكلوا } بعد ترتيب الاسباب ولا تعتمدوا عليها فانها بمعزل من التأثير وانما التأثير من عنايته العزيز القدير { ان كنتم مؤمنين } به تعالى مصدقين لوعده فان ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما(3/228)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{ قالوا } غير مبالين بقول ذينك الرجلين مصرين على القول الاول { يا موسى انا لن ندخلها } اى ارض الجبابرة { ابدا } اى دهرا طويلا { ما داموا فيها } اى فى ارضهم وهو بدل من ابدا بدل البعض لان الابد يعم الزمن المستقبل كله ودوام الجبارين فيها بعض منه { فاذهب } الفاء فصيحة اى فاذا كان الامر كذلك فاذهب { انت وربك فقاتلا } اى فقاتلاهم انما قالوا ذلك استهانة واستهزاء به تعالى وبرسوله وعدم مبالاة بهما لا انهم قصدوا ذهابهما حقيقة لان من هو فى صورة الانسان يستبعد منه انه يجوز حقيقة الذهاب والمجيىء على الله تعالى الا ان يكون من المجسمة { انا ههنا قاعدون } اراد بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر(3/229)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
{ قال } موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريقة البث والحزن والشكوى الى الله تعالى مع رقة القلب التى بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة { رب انى لا املك الا نفسى واخى } اى الا طاعة نفسى واخى { فافرق بيننا } يريد نفسه واخاه والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله { وبين القوم الفاسقين } الخارجين عن طاعتك المصرين على عصيانك بان تحكم لنا بما نستحقه وعليهم بما يستحقون(3/230)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{ قال } الله تعالى { فانها } اى الارض المقدسة { محرمة عليهم } تحريم منع لا تحريم تعبد وتكليف لا يدخلونها ولا يملكونها لان كتابتها لهم كانت مشروطة بالايمان والجهاد وحيث نكصوا على ادبارهم حرموا ذلك وانقلبوا خاسرين { اربعين سنة } ظرف لمحرمة فالتحريم موقت بهذه المدة لا مؤبد فلا يكون مخالفا لقوله تعالى { كتب الله لكم } فالمراد بتحريمها عليهم انه لا يدخلها احد منهم فى هذه المدة لكن لا بمعنى ان كلهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقى { يتيهون فى الارض } اى يتحيرون فى البرية استئناف لبيان كيفية حرمانهم { فلا تأس } فلا تحزن والاسى الحزن { على القوم الفاسقين } روى انه عليه السلام ندم على دعائه عليهم فقيل لا تندم ولا تحزن عليهم فانهم احقاء بذلك لفسقهم فلبثوا اربعين سنة فى ستة فراسخ وهم ستمائة الف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فاذا امسوا كانوا فى الموضع الذى ارتحلوا منه وكان الغمام يظللهم من حر الشمس ويطلع بالليل عمود من نور يضيىء لهم وينزل عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورهم واذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطوله وماؤهم من الحجر الذى يحملونه وهذه الانعامات عليهم مع انهم معاقبون لما ان عقابهم كان بطريق الفرك والتأديب واصح الاقاويل ان موسى وهارون كانا معهم فى التيه ولكن كان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لابراهيم وملائكة العذاب
قال فى التأويلات النجمية والتعجب فى ان موسى وهارون بشؤم معاملة بنى اسرائيل بقيا فى التيه اربعين سنة وبنوا اسرائيل ببركة كرامتهما ظلل عليهم الغمام وانزل عليهم المن والسلوى فى التيه ليعلم اثر بركة صحبة الصالحين واثر شؤم صحبة الفاسقين انتهى : قال الحافظ
ملول همرهان بودن طريق كاردانى نيست ... بكش دشوارىء منزل بياد عهد آسانى
روى ان موسى عليه السلام خرج من التيه بعد اربعين سنة وسار بمن بقى من بنى اسرائيل الى اريحا وكان يوشع بن نون على مقدمته فحارب الجبابرة وفتحها واقام بها ما شاء الله ثم قبضه الله ولا يعلم قبره الا الله وهذا أصح الاقاويل لاتفاق العلماء على ان عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام
قال السدى فى وفاة هارون ان الله اوحى الى موسى انى متوفى هارون فائت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فاذا هما بشجرة لم ير مثلها فاذا بيت مبنى وفيه سرير عليه فرش واذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون الى ذلك اعجبه وقال يا موسى انى احب ان انام على هذا السرير قال فنم عليه فلما نام جاء ملك الموت فقال يا موسى خدعتنى فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به الى السماء فلما رجع موسى الى بنى اسرائيل وليس معه هارون قالوا ان موسى قتل هارون وحسده على حب بنى اسرائيل اياه فقال لهم موسى ويحكم كان اخى أفترونى اقتل اخى فلما كثروا عليه صلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير حتى نظروا اليه بين السماء والارض فصدقوه(3/231)
وعن على بن ابى طالب رضى الله عنه قال صعد موسى وهارون الجبل فقال بنوا اسرائيل انت قتلته فآذوه فامر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بنى اسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرفت بنوا اسرائيل انه قد مات فبرأه الله مما قالوا ثم ان الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره احد الا الرخم فجعله الله اصم وأبكم
وقال عمرو بن ميمونة مات هارون وموسى فى التيه مات هارون قبل موسى وكانا خرجا الى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف الى بنى اسرائيل فقالوا قتلته لحبنا اياه وكان محببا فى بنى اسرائيل فتضرع موسى الى ربه فاوحى الله اليه ان انطلق بهم الى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينقض رأسه فقال انا قتلتك فقال لا ولكننى مت قال فعد الى مضجعك وانصرفوا
واما وفاة موسى عليه الصلاة والسلام قال ابن اسحق كان صفى الله موسى قد كره الموت واعظمه فاراد الله ان يحبب اليه الموت فنبىء يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى يا نبى الله ما احدث الله اليك فيقول له يوشع يا نبى الله ألم اصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت اسألك عن شىء مما احدث الله اليك حتى تكون انت الذى تبثه به وتذكره ولا يذكر له شيأ ولما رأى موسى ذلك كره الحياة واحب الموت وفى الحديث « جاء ملك الموت الى موسى فقال له اجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت الى الله تعالى فقال انك ارسلتنى الى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عينيى قال فرد الله اليه عينه وقال ارجع الى عبدى فقل له الحياة تريد فان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فانك تعيش بها سنة قال ثم ماذا قام ثم تموت قال فالآن من قريب قال رب ادننى من الارض المقدسة قد رمية حجر » قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « لو انى عنده لأريتكم قبره الى جانب الطريق عند الكثيب الاحمر » قال محمد بن يحيى قد صح حديث ملك الموت وموسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرده الا كل مبتدع كذا فى تفسير الثعلبى وفى حديث آخر « ان ملك الموت كان يأتى الناس عيانا حتى اتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فجاء ملك الموت بعد ذلك خفية »(3/232)
وقال وهب خرج موسى لبعض حاجاته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيأ قط احسن منه ومثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم يا ملائكة الله لمن يحفر هذا القبر فقالوا لعبد كريم على ربه فقال ان هذا العبد من الله بمنزل ما رأيت مضجعا احسن من هذا قالوا يا كليم الله أتحب ان يكون لك قال وددت قال فانزل واضطجع فيه وتوجه الى ربك قال فاضطجع فيه وتوجه الى ربه ثم تنفس اسهل نفس قبض الله روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب وقيل ان ملك الموت اتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه وروى ان يوشع رآه بعد موته فى المنام فقال كيف وجدت الموت قال كشاة تسلخ وهى حية وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى وانقضت الاربعون بعث الله يوشع نبيا فاخبره ان الله قد امره بقتال الجبابرة فصدقوه وتابعوه فتوجه ببنى اسرائيل الى اريحا معه تابوت الميثاق فاحاط بمدينة اريحا ستة اشهر فلما كان السابع نفخوا فى القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ودخلوا فقاتلوا الجبارين فهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بنى اسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم البقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال اللهم اردد الشمس على وقال للشمس انك فى طاعة الله تعالى وانا فى طاعة الله فسأل الشمس ان تقف والقمر ان يقيم حتى ينتقم من اعداء الله قبل دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد فى النهار ساعة حتى قتلهم اجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم احدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع ارض الشام وصارت الشام كلها لبنى اسرائيل وفرق عماله فى نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله الى يوشع ان فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال هلم ما عندك فاتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر وكان قد غله فجعله فى القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فاكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن فى جبل افرائيم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة وتدبيره امر بنى اسرائيل بعد موتى موسى سبعا وعشرين سنة
جهان اى برادر نماند بكس ... دل اندر جهان آفرين بيندوبس(3/233)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{ واتل عليهم } اى على اهل الكتاب { نبأ ابنى آدم } اى خبر ابنى ابى البشر وهما قابيل وهابيل { بالحق } اى تلاوة ملتبسة بالحق والصحة ذكر العلماء ان حواء كانت تلد فى كل بطن ولدين ذكرا وانثى الا شيثا فانها ولدته منفردا فولدت اول بطن قابيل واخته اقليما ثم ولدت فى البطن الثانية هابيل واخته ليوذا فلما ادركوا أوحى الله الى آدم انه يزوج كلا منهما توأمة الآخر لانه لم يكن يومئذ الا اختاهما وكانت توأمة قابيل اجمل فحسد عليها اخاه وسخط وزعم ان ذلك ليس من عند الله بل من جهة آدم فقال لهما قربا قربانا فمن ايكما قبل تزوجها ففعلا فنزلت نار على قربان هابيل فاكلته ولم تتعرض لقربان قابيل فازداد قابيل حسدا وسخطا وفعل ما فعل { اذ قربا قربانا } ظرف لنبأ والقربان اسم لما يتقرب به الى الله تعالى من ذبيحة او صدقة وتوحيده لما انه فى الاصل مصدر والتقدير اذ قرب كلا منهما قربانا { فتقبل من احدهما } هو هابيل وكان صاحب ضرع وقرب جملا سمينا او كبشا ولبنا وزبدا فنزلت نار من السماء بيضاء لا دخان لها فاكلته بعد دعاء آدم عليه السلام وكانت القرابين اذا كانت مقبولة نزلت من السماء نارا فاكلتها وان لم تكن مقبولة لم تنزل النار واكلتها الطير والسباع وقيل ما كان فى ذلك الوقت فقير يدفع اليه ما يتقرب به الى الله تعالى فكانت علامة قبوله ما ذكر من مجيىء النار والاكل
وروى سعيد بن جبير وغيره نزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ورفع بها الى الجنة فلم يزل يرعى الى ان فدى به الذبيح عليه السلام { ولم يتقبل من الآخر } وهو قابيل كان صاحب زرع وقرب اردأ ما عنده من القمح ولم تتعرض له النار اصلا لانه سخط حكم الله ولم يخلص النية فى قربانه وقصد الى اخس ما عنده فنزلا عن الجبل الذى قربا عليه وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد فى نفسه الى ان اتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم اتى قابيل هابيل وهو فى غنمه فعند ذلك { قال } اى من لم يتقبل قربانه لاخيه { لاقتلنك } اى والله لاقتلنك قال ولم قال لان الله قبل قربانك ورد قربانى وتنكح اختى الحسناء وانكح اختك الدميمة فيحدث الناس انك خير منى ويفخر ولدك على ولدى { قال } الذى تقبل قربانه وما ذنبى { انما يتقبل الله } اى القربان { من المتقين } لا من غيرهم وانما تقبل قربانى ورد قربانك لما فينا من التقوى وعدمه اى انما ديت من قبل نفسك لا من قبلى فلم تقتلنى والتقوى من صفات القلب لقوله عليه السلام « التقوى ههنا » واشار الى القلب وحقيقة التقوى ان يكون العامل على خوف ووجل من تقصير نفسه فيما اتى به من الطاعات وان يكون فى غاية الاحتراز من ان يأتى بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله وان يكون فيه شركة لغير الله تعالى(3/234)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
{ لئن بسطت الىّ يدك لتقتلنى ما انا بباسط يدى اليك لاقتلك } اى والله لئن مددت الى يدك وباشرت قتلى حسبما اوعدتنى به وتحقق ذلك منك ما انا بفاعل مثله لك فى وقت من الاوقات ثم علل ذلك بقوله { انى اخاف الله رب العالمين } قيل كان هابيل اقوى ولكن تحرّج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لان القتل للدفع لم يكن مباحا فى ذلك الوقت
قال البغوى وفى الشرع جائز لمن اريد قتله ان ينقاد ويستسلم طلبا للاجر كما فعل عثمان رضى الله عنه(3/235)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
{ انى اريد ان تبوء باثمى واثمك } تعليل آخر لامتناعه عن المعارضة على انه غرض متأخر عنه كما ان الاول باعث متقدم عليه وانما لم يعطف تنبيها على كفاية كل منهما فى العلية والمعنى انى اريد باستسلامى لك وامتناعى عن التعرض لك ان ترجع باثمى اى بمثل اثمى لو بسطت يدك اليك وباثمك ببسط يدك الىّ كما فى قوله صلى الله عليه وسلم « المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم » اى على البادىء عين اثم سبه ومثل سبه صاحبه بحكم كونه سببا له وكلاهما نصب على الحالية اى ترجع ملتبسا بالاثمين حاملا لهما ولعل مراده بالذات انما هو عدم ملابسته للاثم لا ملابسة اخيه له { فتكون من اصحاب النار } فى الآخرة { وذلك } اشارة الى كونه من اصحاب النار { جزاء الظالمين } اى عقوبة من لم يرض بحكم الله تعالى(3/236)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{ فطوعت له نفسه قتل اخيه } من طاع له المرتع اذا اتسع اى وسعته وسهلته اى جعلته سهلا وهوّنته وتقدير الكلام فصورت له نفسه ان قتل اخيه طوع له سهل عليه ومتسع له لا ضيق فيه ولا حرج فان قتل النفس بغير حق لا سيما قتل الاخ اذا تصوره الانسان يجده شيأ عاصيا نافرا كل النفرة عن دائرة الشرع والعقل بعيدا عن الاطاعة والانقياد البتة ثم ان النفس الامارة اذا استعملت القوة السبعية الغضبية صار ذلك الفعل اسهل عليها فكأن النفس صيرته كالمطيع لها بعد ان كان كالعاصى المتمرد عليها ويتم الكلام بدون اللام بان يقال فطوعته نفسه قتل اخيه الا انه جيىء باللام لزيادة الربط كما فى قولك حفظت لزيد ماله مع تمام الكلام بان يقال حفظت مال زيد { فقتله } قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابين فتمثل ابليس طائرا او حية ووضع رأسه على الحجر ثم شدخها بحجر آخر وقابيل ينظر فتعلم منه فوضع رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصى عليه او اغتاله وهو نائم وغنمه ترعى وذلك عند جبل ثور او عقبة حراء او بالبصرة فى موضع المسجد الاعظم وكان لهابيل يوم قتله عشرون سنة وعن بعض الكبار ان آدم لما هبط الى الارض تفكر فيما اكل فاستقاء فنبتت شجرة السم من قيئه فاكلت الحية ذلك السم ولذا صارت مؤذية مهلكة وكان قد بقى شىء مما اكل فلما غشى حواء حصل قابيل ولذا كان قاتلا باعثا للفساد فى وجه الارض { فاصبح من الخاسرين } خسر دينه ودنياه
قال ابن عباس رضى الله عنهما حسر دنياه وآخرته اما الدنيا فانه اسخط لوالديه وبقى مذموما الى يوم القيامة واما الآخرة فهو العقاب العظيم { فبعث الله غرابا } ارسله { يبحث فى الارض } البحث بالفارسية « بكندن » { ليريه } المستكن الى الله تعالى او للغراب واللام على الاول متعلقة ببعث حتما وعلى الثانى بيبحث ويجوز تعلقها ببعث ايضا { كيف يوارى } يستر { سوأة اخيه } اى جسده الميت فانه مما يستقبح انه يرى وقيل عورته لانه كان قد سلب ثيابه . وكيف حال من ضمير يوارى والجملة ثانى مفعولى يرى روى انه لما قتله تركه بالعراء اى الارض الخالية عن الاشجار ولم يدر ما يصنع به لانه كان اول ميت على وجه الارض من بنى آدم فخاف عليه السباع فحمله فى جراب على ظهره اربعين يوما او سنة حتى اروح وعفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمى به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل احدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفرة فالقاه فيها وواراه وقابيل ينظر اليه وكأنه قيل فماذا قال عند مشاهدة حال الغراب فقيل { قال يا ويلتا } هى كلمة جزع وتحسر والالف بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتى احضرى فهذا اوانك والنداء وان كان اصله لمن يتأتى منه الاقبال وهم العقلاء الا ان العرب تتجوز وتنادى ما لا يعقل اظهارا للتحسر ومثله يا حسرة على العباد والويل والويلة الهلكة { أعجزت ان اكون } اى عن ان اكون { مثل هذا الغراب فاوارى سوأة اخى } تعجب من عدم اهتدائه الى ما اهتدى اليه الغراب وقوله فاوارى بالنصب عطف على اكون اى اعجزت عن كونى مشبها بالغراب فمواريا { فاصبح من النادمين } اى على قتله لما كان من التحير فى امره وحمله على رقبته مدة طويلة وغير ذلك فلما كان ندمه لاجل هذه الاسباب لا للخوف من الله بسبب ارتكاب المعصية لم يكن ندمه توبة ولم ينتفع بندمه روى انه لما قتل ابن آدم اخاه رجفت الارض بما عليها سبعة ايام ثم شربت الارض دمه كشرب الماء فناداه الله اين اخوك هابيل قال ما ادرى ما كنت عليه رقيبا فقال الله تعالى ان دم اخيك لينادينى من الارض فلم قتلت اخاك قال فاين دمه ان كنت قتله فحرم الله تعالى على الارض يومئذ ان تشرب دما بعده ابدا
قال مقاتل كان قبل ذلك يستأنس السباع والطيور والوحوش فلما قتل قابيل هابيل نفروا فلحقت الطيور بالهواء والوحوش بالبرية والسباع بالغياض واشتاك الشجر وتغيرت الاطعمة وحمضت الفواكه وامر الماء واغبرت الارض فقال آدم قد حدث فى الارض حدث فاتى الهند فاذا قابيل قد قتل هابيل وكان جسد قابيل ابيض قبل ذلك فاسود فسأله آدم عن اخيه فقال ما كنت عليه وكيلا قال بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم حزينا على قتل ولده مائة سنة لا يضحك وانشأ يقول وهو اول من قال الشعر(3/237)
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الارض مغبر قبيح
تغير كل ذى لون وطعم ... وقال بشاشة الوجه الصبيح
وعن ابن عباس رضى الله عنهما من قال ان آدم قال شعرا فقد كذب ان محمدا والانبياء كلهم فى النهى عن الشعر سواء ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سريانى فلما قال آدم مرثية قال لشيث يا بنى انك وصيى احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل الى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو اول من خط بالعربي وكان يقول الشعر فنظر فى المرثية فرد المقدم الى المؤخر والمؤخر الى المقدم فوزنه شعرا وزيد فيه ابيات منها
ومالى لا اجود بسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضريح
ارى طول الحياة على نقما ... فهل انا من حياتى مستريح
وروى عن انس رضى الله عنه انه قال سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال(3/238)
« يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم اخاه » فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا وتفسيره هبة الله يعنى انه خلف من هابيل علمه الله تعالى ساعات الليل والنهار واعلمه عبادة الخلق فى كل ساعة منها وانزل عليه خمسين صحيفة وصار وصى آدم وولى عهده . واما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فاخذ بيد اخته اقليما وهرب بها الى عدن من ارض اليمن فاتاه ابليس فقال له انما اكلت النار قربان هابيل لانه كان يعبد النار فانصب انت ايضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار وهو اول من عبد النار وكان لا يمر به احد الا رماه فاقبل ابن له اعمى ومعه ابن له فقال للاعمى ابنه هذا ابوك قابيل فرمى الاعمى اباه بحجارة فقتله فقال ابن الاعمى قتلت اباك فرفع يده فلطم ابنه فمات فقال الاعمى ويل لى قتلت ابى برميتى وقتلت ابنى بلطمتى
قال مجاهد فعقلت احدى رجلى قابيل الى فخذها وساقها وعلقت من يومئذ الى يوم القيامة وجهه الى الشمس حيثما دارت عليه فى الصيف حظيرة من نار وفى الشتاء حظيرة من ثلج وهو اول من عصى الله فى الارض من ولد آدم وهو اول من يساق الى النار وفى الحديث « لا تقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الاول كقل من دمها » لانه اول من سن القتل وهو اب يأجوج ومأجوج شر اولاد توالدوا من شر والد
قالوا واتخذ اللهو شرب الخمر وعبادة النار والزنى والفواحش حتى غرقهم الله بالطوفان ايام نوح وبقى نسل شيث
وفى التواريخ لما ذهب قابيل الى سمت اليمن كثروا وخلفوا وطفقوا يتحاربون مع اولاد آدم يسكنون فى الجبال والمغارات والغياض الى زمن مهلاييل بن قينان بن انوش بن شيث ففرقهم مهلاييل الى اقطار الارض وسكن هو فى ارض بابل وكان كيومرث اخاه الصغير وهو اول السلاطين فى العالم فاخذوا يبنون المدن والحصون واستمر الحرب بينهم الى آخر الزمان
واعلم ان الكدر لا يرتفع من الدنيا وانما يرتفع التكدر عن قلوب اهل الله تعالى كالنار والماء لا يرتفعان ابدا لكن يرتفع احراق النار لبعض كما وقع لابراهيم عليه السلام واغراق الماء لبعض كما وقع لموسى عليه السلام والدنيا تذهب على هذا فطوبى لمن رضى وصبر : قال الحافظ
دربن جمن كل بيخار كس نجيد آرى ... جراغ مصطفوى باشرار بولهبيست
وله
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب ... براحتى ترسيد آنكه زحمتى نكشيد
والاشارة فى الآيات ان آدم الروح بازدواجه مع حواء القلب ولد قابيل النفس وتوأمته اقليما الهوى فى بطن اولا ثم ولد هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل وكان اقليما الهوى فى غاية الحسن لان القلب يميل على طلب المولى وما عنده وهو محبب اليه وكان ليوذا العقل فى نظر هابيل القلب فى غاية القبح والدمامة لان القلب به يعقل عن طلب الحق والفناء فى الله ولهذا قيل العقل عقيلة الرجال وفى نظر قابيل النفس ايضا فى غاية القبح لان النفس به تعقل عن طلب الدنيا والاستهلاك فيها فالله تعالى حرم الازدواج بين التوأمين كليهما وامر بازدواج توأمة كل واحد منهما الى توأم الاخرى لئلا يعقل القلب عن طلب الحق بل يحرضه الهوى على الاستهلاك والفناء فى الله ولهذا قال بعضهم لولا الهوى ما سلك احد طريقا الى الله فان الهوى اذا كان قرين النفس يكون حرصا فيه تنزل النفس الى اسفل سافلين الدنيا وبعد المولى واذا كان قرين القلب يكون عشقا فيه يصعد القلب الى اعلى عليين العقبى وقرب المولى ولهذا سمى العشق هوى كما قال الشاعر(3/239)
اتانى هواها قبل ان اعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكنا
ولتعقل النفس عن طلب الدنيا بل يحرضها العقل على العبودية وينهاها عن متابعة الهوى فذكر آدم الروح لولديه ما امر الله به فرضى هابيل القلب وسخط قابيل النفس وقال هى اختى يعنى اقليما الهوى ولدت معى فى بطنى وهى احسن من اخت هابيل القلب يعنى ليوذا العقل وانا احق بها ونحن من ولائد جنة الدنيا وهما من ولائد ارض العقبى فانا احق باختى فقال له ابوه انها لا تحل لك يعنى اذ كان الهوى قرينك فتهلك فى اودية حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها فابى ان يقبل قابيل النفس هذا الحكم من آدم الروح وقال الله تعالى لم يأمر به وانما هذا من رأيه فقال لهما آدم الروح قربا قربانا فايكما يقبل قربانه فهو احق بها فخرجا ليقربا وكان قابيل النفس صاحب زرع يعنى مدبر النفس النامية وهى القوة النباتية فقرب طعاما من اردى زرعه وهو القوة الطبيعية وكان هابيل القلب راعيا يعنى مواشى الاخلاق الانسانية والصفات الحيوانية فقرب جملا يعنى الصفة البهيمية وهى احب الصفات اليه لاحتياجه اليها لضرورة التغذى والبقاء ولسلامتها بالنسبة الى الصفات السبعية الشيطانية فوضعها قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فاكلت جمل الصفة البهيمية لانها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس حبة لانها ليست من حطبها بل هى من حطب نار الحيوانية فهذا تحقيق قوله تعالى { واتل عليهم } الآية
والاشارة فى قوله { فطوعت له نفسه } اى نفس قابيل النفس طوعت له وجوزت { قتل اخيه } وهو القلب لان النفس اعدى عدو القلب { فقتله فاصبح من الخاسرين } يعنى فى قتل القلب خسارة النفس فى الدنيا والآخرة اما فى الدنيا فتحرم عن الواردات والكشوف والعلوم الغيبية التى منشأها القلب وعن ذوق المشاهدات ولذة المؤانسات فتبقى فى خسران جهولية الانسان كقوله تعالى(3/240)
{ والعصر ان الانسان لفى خسر } واما فى الآخرة فتخسر الدخول فى جنات النعيم ولقاء الرب الكريم والنجاة من الجحيم والعذاب الاليم وفى قوله { فبعث الله } اشارات منها ليعلم ان الله قادر على ان يبعث { غرابا } او غيره من الحيوان الى الانسان ليعلمه ما لم يعلم كما يبعث الملائكة الى الرسل والرسل الى الامم ليعلموهم ما لم يعلموا . ومنها لئلا يعجب الملائكة والرسل انفسهم باختصاصهم بتعليم الحق فانه يعلمهم بواسطة الغراب كما يعلمهم بواسطة الملائكة والرسل . ومنها ليعلم الانسان انه محتاج فى التعلم الى غراب ويعجز ان يكون مثل غراب فى العلم . ومنها ان لله تعالى فى كل حيوان بل فى كل ذرة آية تدل على وحدانيته واختياره حيث يبدى المعاملات المعقولة من الحيوانات الغير العاقلة . ومنها اظهار لطفه مع عباده فى اسباب التعيش حتى اذا اشكل عليهم امر كيف يرشدهم الى الاحتيال بلطائف الاسباب لحله كذا فى التأويلات النجمية(3/241)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{ من اجل ذلك } شروع فيما هو المقصود بتلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بنى اسرائيل ومعاصيهم وذلك اشارة الى عظم شأن القتل وافراط قبحه اى من اجل كون القتل على سبيل العدوان مشتملا على انواع المفاسد من خسارة جميع الفضائل الدينية والدنيوية وجمع السعادات الاخروية كما هى مندرجة فى اجمال قوله { فاصبح من الخاسرين } ومن الابتلاء بجميع ما يوجب الحسرة والندامة من غير ان يكون لشىء منه ما يدفعه البتة كما هو مندرج فى اجمال قوله { فاصبح من النادمين } واجل فى الاصل مصدر اجل شرا اذا جناه وهيجه استعمل فى تعليل الجنايات اى فى جعل ما جناه الغير علة لامر يقال فعلته من اجلك اى بسبب ان جنيت ذلك وكسبته ثم اتسع فيه واستعمل فى كل تعليل ومن لابتداء الغاية متعلقة بقوله تعالى { كتبنا على بنى اسرائيل } وتقديمها عليه للقصر اى من ذلك ابتدىء الكتب ومنه نشأ لا من شىء آخر اى قضينا عليهم فى التوارة وبينا { انه من قتل نفسا } واحدة من النفوس { بغير نفس } اى بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص { او فساد فى الارض } اى فساد يوجب اهدار دمها كالشرك وقطع الطريق وهو عطف على ما اضيف اليه غير بمعنى نفى كلا الامرين معا كما فى قولك من صلى بغير وضوء وهو عطف على ما اضيف اليه غير بمعنى نفى كلا الامرين معا كما فى قولك من صلى بغير وضوء او تيمم بطلت صلاته لانفى احدهما كما فى قولك من صلى بغير وضوء او ثوب بطلت صلاته { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث انه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه او من حيث ان قتل الواحد والجميع سواء فى استجلاب غضب الله والعذاب العظيم وقوله جميعا حال من الناس او تأكيد { ومن احياها } اى تسبب لبقاء حياتها بعفو او منع عن القتل او استنقاذ من بعض اسباب الهلكة { فكأنما احيى الناس جميعا } فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا والمقصود من التشبيه المبالغة فى تعظيم امر القتل بغير حق والترغيب فى الاحتراز عنه { ولقد جاءتهم } اى اهل الكتاب { رسلنا بالبينات } اى وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما ارسلناهم بالآيات الواضحة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليهم { ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك } اى بعد ما ذكر من الكتب وتأكيد الامر بارسال الرسل تترى وتجديد العهد مرة بعد اخرى وثم للتراخى فى الرتبة والاستبعاد { فى الارض لمسرفون } فى القتل غير مبالين به والاسراف فى كل امر التباعد عن حد الاعتال مع عدم مبالاة به . قوله بعد ذلك وقوله فى الارض يتعلقان بقوله لمسرفون وهو خبر انّ وبهذا اى بقوله تعالى { ولقد جاءتهم رسلنا } اتصلت القصة بما قبلها
وفى التأويلات النجمية اعلم ان كل شىء ترى فيه آية من الله تعالى فهو فى الحقيقة رسول من الله اليك ومعه آية بينة ومعجزة ظاهرة يدعوك بها الى الله ثم ان كثيرا من الذين شاهدوا الآيات وتحققوا البينات بعد رؤية الآيات فى الارض لمسرفون اى فى ارض البشرية مجاوزون حد الشريعة والطريقة بمخالفة اوامر الله ونواهيه انتهى
واعلم ان اهل الغفلة يشاهدون الآثار لكنهم غافلون عن الحقيقة فهم كأنهم لا بصر لهم بل غيرة الحق تمنعهم من الرؤية الصحيحة لكونهم اغيارا غير لائقين بالدخول فى المجلس الخاص : قال الحافظ(3/242)
معشوق عيان ميكذردبرتو وليكن ... اغيار همى بيند ازان بسته نقابست
وكل ذرة من ذرات الكائنات وان كانت قائمة بالحق وبنوره فى الحقيقة الا ان الدنيا خيال يحتاج السالك الى العبور عن مسالكه الى ان ينتهى الى الحق : وفى المثنوى
اين جهانرا كه بصورت قائمست ... كفت بيغمبر كه حلم نائمست
ازره تقليد توكردى قبول ... سالكان اين ديده بيدا بى رسول
روز درخوابى مكوكين خواب نيست ... سايه فرعست اصل جزمهتاب نيست
خواب بيداريت آن دان اى عضد ... كه نبيند خفته كو در خواب شد
او كمان برده كه اين دم خفته ام ... بى خبرزان كوست درخواب دوم
وهذه اى اليقظة من المنام على الحقيقة لا تتيسر الا لارباب المكاشفة الصحيحة واصحاب المشاهدة الواضحة اللهم افض علينا من هذا المقام(3/243)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
{ انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } اى يحاربون اولياءهما وهم المسلمون جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما لهم والمراد بالمحاربة قطع الطريق وهو انما يكون من قوم اجتمعوا فى الصحراء وتعرضوا لدماء المسلمين واموالهم وازواجهم وامائهم ولهم قوة وشوكة تمنعهم ممن ارادهم { ويسعون فى الارض فسادا } حال من فاعل يسعون اى مفسدين . نزلت فى قوم هلال بن عويمر الاسلمى وكان وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ان لا يعينه ولا يعين عليه ومن اتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج ومن مر بهلال الى رسول الله فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بنى كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ حاضرا فقطعوا عليهم وقتلوهم واخذوا اموالهم
فان قلت بنفس ارادة الاسلام لا يخرج الشخص عن كونه حربيا والحد لا يجب بقطع الطريق عليه وان كان مستأمنا قلت معناه تعلم احكام الاسلام فانهم كانوا مسلمين او يقال جاؤا على قصد الاسلام فهم بمنزلة اهل الذمة والحد واجب بالقطع على اهل الذمة ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى من القتل بدون اخذ المال ومن القتل مع اخذه ومن اخذه بدون قتل ومن الاخافة بدون قتل واخذ شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق التوزيع فقيل { ان يقتلوا } اى حدا من غير صلب ان افردوا القتل ولو عفا الاولياء لا يلتفت الى ذلك لانه حق الشرع ولا فرق بين ان يكون القتل بآلة جارحة او لا { او يصلبوا } اى يصلبوا مع القتل ان جمعوا بين القتل والاخذ بان يصلبوا احياء وتبعج بطونهم برمح الى ان يموتوا ولا يصلبوا بعدما قتلوا لان الصلب حيا ابلغ فى الردع والزجر لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية { او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف } اى ايديهم اليمنى من الرسغ وارجلهم اليسرى من الكعب ان اقتصروا على اخذ مال من مسلم او ذمى وكان فى المقدار بحيث لو قسم عليهم اصاب كلا منهم عشرة دراهم او ما يساويها قيمة اما قطع ايديهم فأخذ المال واما قطع ارجلهم فلاخافة الطريق بتفويت امنه { او ينفوا من الارض } ان لم يفعلوا غير الاخافة والسعى للفساد والمراد بالنفى عندنا هو الحبس فانه نفى عن وجه الارض بدفع شرهم عن اهلها ويعزرون ايضا لمباشرتهم منكر الاخافة وازالة الامن { ذلك لهم خزى } كائن { فى الدنيا } اى ذل وفضيحة . قوله ذلك مبتدأ ولهم خبر مقدم على المبتدأ وهو الخزى والجملة خبر لذلك { ولهم فى الآخرة } غير هذا { عذاب عظيم } لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم . فقوله تعالى لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفى الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا من عذاب لانه فى الاصل صفة له فلما قدم انتصب حالا اى كائنا فى الآخرة(3/244)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{ الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم } استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله عز وجل كما ينبىء عنه قوله تعالى { فاعلموا ان الله غفور رحيم } أما ما هو من حقوق الآدميين فانه لا يسقط بهذه التوبة فان قطاع الطريق ان قتلوا انسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قتلهم حدا وكان ولى الدم على حقه فى القصاص والعفو وان اخذوا مالا ثم تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قطع ايديهم وارجلهم من خلاف وكان حق صاحب المال باقيا فى ماله وجب عليهم رده واما اذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية ان التوبة لا تنفعه ويقام الحد عليه فى الدنيا كما يضمن حقوق العباد وان سقط عنه العذاب العظيم فى العقبى
والآية فى قطاع المسلمين لان توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها يعنى ان المشرك المحارب لو آمن بعد القدرة عليه فلا سبيل عليه بشىء من الحدود ولا يطالب بشىء مما اصاب فى حال الكفر من دم او مال كما لو آمن قبل القدرة عليه . واما المسلمون المحاربون فمن تاب منهم قبل القدرة عليه اى قبل ان يظفر به الامام سقطت عنه العقوبة التى وجبت حقا لله ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فان كان قد قتل فى قطع الطريق سقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ويبقى عليه القصاص لولى القتل ان شاء عفا عنه وان شاء استوفاه وان كان قد اخذ المال يسقط عنه القطع وان كان جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ويجب ضمان المال
وقال بعضهم اذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد تبعة فى دم ولا مال الا ان يوجد معه مال بعينه فيرده على صاحبه
روى عن على رضى الله عنه ان الحارث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق ويسفك الدماء ويأخذ الاموال فقبل توبته ولم يجعل عليه تبعة اصلا واما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شىء من الحقوق
اعلم ان قطع الطريق واخافة المسافرين من اقبح السيآت كما ان دفع الاذى عن الطريق من احسن الصالحات وفى الحديث « عرضت على اعمال امتى حسنها وسيئها فوجدت فى محاسن اعمالها الاذى يماط عن الطريق ووجدت فى مساوى اعمالها النخاعة تكون فى المسجد لا تدفن » وفى الحديث « من اشار الى اخيه » اى اخيه المسلم والذمى فى حكمه « بحديدة » اى بما هو آلة القتل لانه جاء فى رواية « بسلاح » مكان بحديدة « فان الملائكة تلعنه »(3/245)
يعنى تدعو عليه بالبعد عن الجنة اول الامر لانه خوف مسلما باشارته وهو حرام لقوله عليه الصلاة والسلام « لا يحل لمسلم ان يروع المسلم » او لانه قد يسبقه السلاح فيقتله كما صرح به فى رواية مسلم « لا يشر احدكم الى اخيه فانه لا يدرى لعل الشيطان ينزغ فى يده وان كان اخاه » اى المشير اخا المشار اليه « لابيه وامه » يعنى فان كان هازلا ولم يقصد ضربه كنى به عنه لان الاخ الشقيق لا يقصد قتل اخيه غالبا
والاشارة فى الآية ان محاربة الله ورسوله معاداة اولياء الله فان فى الخبر الصحيح حكاية عن الله تعالى « من عادى لى وليا فقد بارزنى بالحرب وانى لأغضب لاوليائى كما يغضب الليث لجروه » ألا يرى ان بلعم بن باعوراء فى زمن موسى عليه السلام كان بحيث اذا نظر رأى العرش فلما مال الى الدنيا واهلها ميلة واحدة ولم يترك لولى من اوليائه حرمة واحدة سلب الله معرفته وجعله بمنزلة الكلب المطرود فجزاء مثل هذا المحارب ان يقتل بسكين الخذلان او يصلب بحبل الهجران على جذع الحرمان او تقطع ايديه عن اذيال الوصال وارجله من خلاف عن الاختلاف او ينفى من ارض القربة والائتلاف فله فى الدنيا بعد وهوان وفى الآخرة عذاب القطيعة والهجران الا الذين تابوا الى الله واستغفروا واعتذروا عن اولياء الله من قبل ان تقدروا عليهم برد الولاية ايها الاولياء فان ردكم رد الحق وقبولكم قبول الحق وان مردود الولاية مفقود العناية : قال الحافظ
كيد كنج سعادت قبول اهل دلست ... مبادكس كه درين نكته شك وريب كند
وفى المثنوى
لا جرم آنراه بر تو بسته شد ... جون دل اهل دل ازتوخسته شد
زود شان درياب واستغفار كن ... همجو ابرى كريها وزار كن
تاكلستان شان سوى توبشكفد ... ميو هاى بخته بر خود واكفد
هم بران دركردكم ازسك مباش ... باسك كهف ارشدستى خواجه تاش(3/246)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
{ يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله } اى اخشوا عذابه واحذروا معاصيه { وابتغوا } اى اطلبوا لانفسكم { اليه } اى الى ثوابه والزلفى منه { الوسيلة } اى القربة بالاعمال الصالحة قوله تعالى اليه متعلق بالوسيلة قدم عليها للاهتمام وليست بمصدر حتى يمتنع ان يتقدم معمولها عليها بل هى فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب الى الله تعالى من وسل الى كذا تقرب اليه والجمع الوسائل
وقال عطاء الوسيلة افضل درجات الجنة وفى الحديث « سلوا الله لى الوسيلة فانها درجة فى الجنة لا ينالها الا عبد واحد وأرجو من الله ان يكون هو انا » وفى الحديث « من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذى وعدته حلت له شفاعتى يوم القيامة »
قال المولى الفنارى فى تفسير الفاتحة اما الوسيلة فهى اعلى درجة فى جنة عدن وهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصلت له بدعاء امته فعل ذلك الحق سبحانه لحكمة اخفاها فانا بسببه نلنا السعادة من الله وبه كنا خير امة اخرجت للناس وبه ختم الله بنا الامم كما ختم به النبيين وهو صلى الله عليه وسلم مبشر كما امر ان يقول ولنا وجه خاص الى الله تعالى نناجيه منه ويناجينا وكذا كل مخلوق له وجه خاص الى ربه فامرنا عن امر الله ان ندعو له بالوسيلة حتى ينزل فيها بدعاء امته وهذا من باب الغيرة الالهية انتهى { وجاهدوا فى سبيله } بمحاربة الاعداء الظاهرة والباطنة { لعلكم تفلحون } بالوصول الى الله والفوز بكرامته
والاشارة فى الآية ان الله تعالى جعل الفلاح الحقيقى فى اربعة اشياء . احدها الايمان وهو اصابة رشاشة النور فى بدء الخلقة وبه يخلص العبد من حجب ظلمة الكفر . وثانيها التقوى وهو منشأ الاخلاق المرضية ومنبع الاعمال الشرعية وبه يخلص العبد من ظلمة المعاصى . وثالثها ابتغاء الوسيلة وهو فناء الناسوتية فى بقاء اللاهوتية وبه يتخلص العبد من ظلمة اوصاف الوجود . ورابعها الجهاد فى سبيل الله وهو اضمحلال الانانية فى اثبات الهوية وبه يتخلص العبد من ظلمة الوجود ويظفر بنور الشهود فالمعنى الحقيقى { يا ايها الذين آمنوا } باصابة النور { اتقوا الله } بتبديل الاخلاق الذميمة { وابتغوا اليه الوسيلة } فى افناء الاوصاف { وجاهدوا فى سبيله } ببذل الوجود { لعلكم تفلحون } بنيل المقصود من المعبود كذا فى التأويلات النجمية
واعلم ان الآية الكريمة صرحت بالامر بابتغاء الوسيلة ولا بد منها البتة فان الوصول الى الله تعالى لا يحصل الا بالوسيلة وهى علماء الحقيقة ومشايخ الطريقة : قال الحافظ
قطع اين مرحله بى همرهىء خضر مكن ... ظلماتست بترس از خطر كمراهى(3/247)
والعمل بالنفس يزيد فى وجودها واما العمل وفق اشارة المرشد ودلالة الانبياء والاولياء فيخلصها من الوجود ويرفع الحجاب ويوصل الطالب الى رب الارباب
قال الشيخ ابو الحسن الشاذلى كنت انا وصاحب لى قد أوينا الى مغارة لطلب الدخول الى الله واقمنا فيها ونقول يفتح لنا غدا او بعد غد فدخل علينا يوما رجل ذو هيبة وعلمنا انه من اولياء الله فقلنا له كيف حالك فقال كيف يكون حال من يقول يفتح لنا غدا او بعد غد يا نفس لم لا تعبدين الله لله فتيقظنا وتبنا الى الله وبعد ذلك فتح علينا فلا بد من قطع التعلق من كل وجه لينكشف حقيقة الحال : قال الحافظ
فداى دوست نكرديم عمر مال دريغ ... كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
وفى صحبة الاخيار والصلحاء شرف عظيم وسعادة عظمى وحكى ان خادم الشيخ ابى يزيد البسطامى كان رجلا مغربيا فجرى الحديث عنده فى سؤال منكر ونكير فقال المغربى والله ان يسألانى لأقولهن لهما فقالوا له ومن اين يعلم ذلك فقال اقعدوا على قبرى حتى تسمعونى فلما انتقل المغربى جلسوا على قبره فسمعوا المسألة وسمعوه يقول أتسألوننى وقد حملت فروة ابى يزيد على عنقى فمضوا وتركوه ولا تستبعد امثال هذا فان جواب المجيب المدقق يذهب معه من هنا فحصل مثل هذا الزاد : وفى المثنوى
كنج زرى كه جو خسبى زيرريك ... باتو باشد آن نباشد مرد ريك
ييش بيش آن جنازت مىرود ... مونس كور وغريبى ميشود(3/248)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
{ ان الذين كفروا لو ان لهم } اى لكل واحد منهم { ما فى الارض } اى من اصناف اموالها وذخائرها وسائر منافعها وهو اسم ان ولهم خبرها { جميعا } توكيد للموصول او حال منه { ومثله } عطف على الموصول اى ضعفه { معه } ظرف وقع حالا من المعطوف والضمير راجع الى الموصول { ليفتدوا به } متعلق بما تعلق به خبر ان اعنى الاستقرار المقدر فى لهم وبه متعلق بالافتداء والضمير راجع الى الموصول ومثله معا وتوحيده لاجرائه مجرى اسم الاشارة كأنه قيل بذلك { من عذاب يوم القيمة } متعلق بالافتداء ايضا اى لو ان ما فى الارض ومثله ثابت لهم لجعلوه فدية لانفسهم من العذاب الواقع يومئذ وافتدوا به { ما تقبل منهم } ذلك وهو جواب لو ولو بما فى حيزه خبر ان والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم واستحالة نجاتهم منه بوجه من الوجوه المحققة والمفروضة وفى الحديث « بجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملىء الارض ذهبا أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقال له انك كنت سئلت ما هو الايسر من ذلك » اى ما هو أسهل من الافتداء المذكور وهو ترك الاشراك بالله تعالى واتيان كلمة الشهادة { ولهم عذاب اليم } وجيع يخلص وجعه الى قلوبهم(3/249)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{ يريدون } كأنه قيل فكيف يكون حالهم او ماذا يصنعون فقيل انهم يريدون { ان يخرجوا من النار } له وجوه الاول انهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج فيلفحهم لهب النار ويرفعهم الى فوق فهناك يريدون الخروج ولات حين مناص والثانى انهم يكادون يخرجون منها لقوة النار وزيادة رفعها اياهم والثالث انهم يتمنون ويريدون بقلوبهم { وما هم } اى يريدون ذلك والحال انهم ليسوا { بخارجين منها } لانهم كلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها { ولهم عذاب مقيم } اى دائم لا ينقطع وهو تصريح بعدم تناهى مدته بعد بيان شدته وفى الحديث « يقال لاهل الجنة لكم خلود ولا موت ولاهل النار يا اهل النار خلود ولا موت » اى لكم خلود فى النار روى ان هذين القولين يكونان بعد ان يؤتى بالموت فى صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار وانما يمثل الموت بهذا المثال ليشاهدوا باعينهم ويستقر فى انفسهم ان الموت ارتفع فيزداد اهل الجنة فرحا واهل النار ترحا وتخصيص صورة الكبش لانه لما كان فداء عن اسماعيل الذى نبينا عليه السلام من نسله كان فى المعنى فداء عن جميع الاحياء فى الدنيا لانهم خلقوا لاجله فناسب ان يكون فداء عنهم فى دار الآخرة ايضا كذا فى شرح المشارق لابن الملك
واعلم ان الكفر وجزاءه وهو الخلود فى النار اثر اخطاء رشاش النور الالهى فى عالم الارواح وقد انعم الله تعالى على المؤمنين باصابة ذلك النور : وفى المثنوى
مؤمنان كان عسل زنبور وار ... كافران خودكان زهرى همجومار
جنبش خلق ازقضا ووعده است ... تيزىء دندان زسوز معده است
نفس اول راند بر نفس دوم ... ماهى ازسر كنده باشدنى زدم
تونميدانى كزين دوكيستى ... جهدكن جندانكه بينى جيستى
جون نهى بريشت كشتى باررا ... بر توكل ميكنى آن كاررا
تو نميدانى كه از هر دوكىء ... غرقه اندر سفر ياناجىء
جونكه بربوكست جمله كارها ... كار دين اولى كزين يابى رها
قال بعض الصلحاء رأيت فى منامى كانى واقف على قناطر جهنم فنظرت الى هول عظيم فجعلت افكر فى نفسى كيف العبور على هذه فاذا قائل يقول يا عبد الله ضع حملك واعبر قلت ما حملى قال دع الدنيا : قال الحافظ
تا كى غم دنياى دنى اى دل دانا ... حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
وفى الحديث « يؤتى بانعم اهل الدنيا » الباء فيه للتعدية وانعم افعل تفضيل من النعمة اى باكثرهم نعمة « من اهل النار يوم القيامة فيصبغ فى النار صبغة » يعنى يغمس فيها مرة اراد من الصبغ الغمس اطلاقا للملزوم على اللازم لان الصبغ انما يكون بالغمس غالبا ثم اراد من غمسه فيها اصابة نفحة من النار به(3/250)
« ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب » شدة العذاب انسته ما مضى عليه من نعم الدنيا « ويؤتى باشد الناس بؤسا » اى شدة وبلاء فى الدنيا « من اهل الجنة فيصبغ صبغة من الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله ما مر بى بؤس قط ولا رأيت شدة قط » كذا فى شرح المشارق لابن ملك
هر جند غرق بحر كناهم زصدجهت ... كر آشناى عشق شوم زاهل رحمتم(3/251)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{ والسارق والسارقة } وهو مبتدأ محذوف الخبر اى حكم السارق والسارقة ثابت فيما يتلى عليكم فقوله تعالى { فاقطعوا ايديهما } بيان لذلك الحكم المقدر فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ولذلك اتى بها فيه لانه هو المقصود مما قبلها ولو لم يأت بالفاء لتوهم انه اجنبى وانما قدر الخبر لان الامر انشاء لا يقع خبرا الا باضمار وتأويل والمراد بايديهما ايمانها ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } اكتفاء بتثنية المضاف اليه وتفضيل ما يتعلق بالسرقة سيجىء فى آخر المجلس { جزاء بما كسبا نكالا من الله } منصوبان على المفعول له والمعنى فاقطعوهما مكافاة لهما على ما فعلا من فعل السرقة وعقوبة رادعة لهما من العود ولغيرهما من الاقتداء بهما وبما متعلق بجزاء ومن الله صفة نكالا اى نكالا كائنا منه تعالى . والنكال اسم بمعنى التنكيل مأخوذ من النكول وهو الامتناع { والله عزيز } غالب على امره يمضيه كيف يشاء من غير ند ينازعه ولا ضد يمانعه { حكيم } فى شرائعه لا يحكم الا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع المنطوية على فنون الحكم والمصالح(3/252)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
{ فمن تاب } من السراق الى الله تعالى { من بعد ظلمه } اى من بعد ان ظلم غيره باخذ ماله والتصريح به مع ان التوبة لا تتصور قبله لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته { واصلح } اى امره بالتفصى عن تبعات ما باشره والعزم على ان لا يعود الى السرقة { فان الله يتوب عليه } اى يقبل توبته فلا يعذبه فى الآخرة واما القطع فلا تسقطه التوبة عندنا لان فيه حق المسروق منه
قال الحدادى لا تقطع يده اذا رد المال قبل المرافعة الى الحاكم واما اذا رفع الى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب فان كانت توبته حقيقة كان ذلك زيادة درجات له كما ان الله تعالى ابتلى الصالحين والانبياء بالبلايا والمحن والامراض زيادة لهم فى درجاتهم وان لم تكن توبته حقيقة كان الحد عقوبة له على ذنبه وهو مؤاخذ فى الآخرة ان لم يتب { ان الله غفور رحيم } مبالغ فى المغفرة والرحمة ولذلك يقبل التوبة(3/253)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ ألم تعلم ان الله له ملك السموات والارض } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به الجميع والاستفهام الانكارى لتقرير العلم والمراد بذلك الاستشهاد على قدرته تعالى على ما سيأتى من التعذيب والمغفرة على ابلغ وجه واتمه اى ألم تعلم ان الله له السلطان القادر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما وفيما فيهما ايجادا واعداما واحياء واماتة الى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته { يعذب من يشاء } ان يعذبه ولو على الذنب الصغير وهو عدل منه { ويغفر لمن يشاء } ان يغفر له ولو كان الذنب عظيما وهو الفضل منه اى يعذب لمن توجب الحكمة تعذيبه ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته { والله على كل شىء قدير } فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة
قال ابن الشيخ انه تعالى لما اوجب قطع يد السارق وعقاب الآخرة لمن مات قبل التوبة ثم ذكر انه يقبل توبته ان تاب اردفه ببيان انه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء يحسن منه التعذيب تارة والمغفرة اخرى لانه مالك جميع المحدثات وربهم وآلههم والمالك له ان يتصرف فى ملكه كيف شاء واراد لا كما زعمت المعتزلة من ان حسن افعاله تعالى ليس لاجل كونه آلها للخلق ومالكا بل لاجل كونها على وفق مصالح الخلق ومتضمنة لرعاية ما هو الاصلح لهم انتهى
واعلم ان السرقة هى اخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة من حرز لا ملك له فيه ولا شبهته فاحترز بالمكلف عن اخذ صبى ومجنون وبالخفية وهو ركن السرقة عن الغصب وقطع الطريق . وقوله قدر عشرة دراهم اى عينا او قيمة وهذا نصباب السرقة فى حق القطع واما فى حق العيب فاخذ ما دون العشرة يعد سرقة ايضا شرعا ويعد عيبا حتى يرد العبد به على بائعه وعند الشافعى نصاب السرقة ربع دينار ولنا قوله عليه السلام « لا قطع الا فى ربع دينا او فى عشرة دراهم » والاخذ بالاكثر اولى احتيالا لدرء الحد والمعتبر فى هذه الدراهم ما يكون عشرة منها وزن سبعة مثاقيل واحترز بالمضروبة عما قيمته دونها حتى اذا سرق تبرا عشرة لا يساوى عشرة مضروبة لا يجب القطع وقوله من حرز اى من مال ممنوع من ان يصل اليه يد الغير سواء كان المانع بناء او حافظا
قال البغوى اذا سرق شيأ من غير حرز كثمر فى حائط لا حارس له او حيوان فى برية لا حافظ له او متاع فى بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه وقيد بقوله ولا شبهته لانه لو كان له شبهة فى المسروق كما اذا سرق من بيت المال اوفى الحرز كما اذا سرق من بيت اذن للناس بالدخول فيه كالحمام والرباط لا يقطع لان القطع يندرىء بالشبهة وكذا لا قطع بسرقة مال سيده لوجود الاذن بالدخول عادة وكذا بسرقة مال زوجته او زوجها ولو من حرز خاص لآخر لا يسكنان فيه لان اليد المبسوطة لكل من الزوجين فى مال الآخر ثابتة وهو مانع عن القطع وكذا لا قطع بسرقة مال من بينهما قرابة ولاء لجريان الانبساط بين الاصول والفروع بالانتفاع فى المال والدخول فى الحرز ولا بسرقة من بيت ذى رحم محرم ولو كان المسروق مال غيره لعدم الحرز ويقطع يمين السارق من زنده وهو مفصل الذراع فى الكف ويحسم بان يدخل فى الدهن الحار بعد القطع لقطع الدم لانه لو لم يحسم لافضى الى التلف والحد زاجر لا متلف ولهذا لا يقطع فى الحر الشديد والبرد الشديد وان سرق ثانيا بعدما قطعت يده اليمنى تقطع رجله اليسرى من المفصل وان سرق ثالثا لا يقطع بل يحبس حتى يتوب ويظهر عليه سيما الصالحين والتائبين لقول على رضى الله عنه فيمن سرق ثلاث مرات انى لاستحيى من الله ان لا ادع له يدا يأكل بها ويستنجى ورجلا يمشى عليها وفى الحديث(3/254)
« اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله » وفيه دليل على ان التوبة يعلم اثرها وتثبت السرقة بما يثبت به شرب الخمر اى بالشهادة او بالاقرار مرة ونصابها رجلان لان شهادة النساء غير مقبولة فى الحدود وطلب المسروق منه شرط القطع لان الخيانة على ملك الغير لا تظهر الا بخصومته ولا فرق فى القطع بين الشريف والوضيع
وعن عائشة رضى الله عنها قالت سرقت امرأة مخزومية فاراد النبى صلى الله عليه وسلم ان يقطع يدها فاستشفع لها اسامة بن زيد وكان النبى عليه الصلاة والسلام يحبه فلم يقبل وقال « يا اسامة أتشفع فى حد من حدود الله انما اهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا شرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » وفى الحديث نهى عن الشفاعة فى الحدود بعد بلوغ الامام ولهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعة اسامة واما قبله فالشفاعة من المجنى عليه جائزة والستر على الذنب مندوب اذا لم يكن صاحب شر واذى : قال السعدى
بس برده بيند عملهاى بد ... هم او برده بوشد ببالاى خود
وفى الحديث ايضا دلالة على وجوب العدل فى الرعية واجراء الحكم على السوية
قال الامام ابو منصور فان قيل ما الحكمة فى قطع يد قيمتها الوف بسرقة عشرة دراهم فكيف يكون قطعها جزاء لفعل السارق وقد قال تعالى(3/255)
{ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها } قلنا جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء ولله تعالى ان يمتحن بما شاء ابتداء اى من غير ان يكون ذلك جزاء على كسب العبد ولان القطع ليس بجزاء ما اخذ من المال ولكن لما هتك من الحرمة ألا يرى انه قال جزاء بما كسبا فيجوز ان يبلغ جزاء هتك تلك الحرمة قطع اليد وان قصر على العشرة علم ذلك لان مقادير العقوبات انما يعلمها من يعلم مقادير الجنايات واذا كان الامر كذلك فالحق التسليم والانقياد انتهى . ونعم ما قال يونس بن عبيد فى باب الترهيب لا تأمن من قطع فى خمسة دراهم خير عضو منك ان يكون عذابه هكذا غدا كما فى منهاج العابدين
فعلى العاقل ان يتوب عن الزلل وينقطع عن الحيل ويتوجه الى الله الاعلى الاجل : وفى المثنوى
حيلهاو جارهاكر ازدهاست ... بيش الا الله آنها جمله لاست
قفل زفتست وكشانيده خدا ... دست درتسليم زن اندر رضا
ثم ان الله تعالى انما بدأ بالسارق فى هذه الآية قبل السارقة وفى آية الزنى بدأ بالزانية لان السرقة تفعل بالقوة والرجل اقوى من المرأة والزنى يفعل بالشهوة والمرأة اكثر شهوة والمرأة ادعى من الرجل الى نفسها منه اليها ولهذا لو اجتمع جماعة على امرأة لم يقدروا عليها الا بمرادها ولهذا قيل قال الله تعالى { وعصى آدم ربه فغوى } ولم يقل وعصت حواء مع انها اكلت قبل آدم ودعته الى الاكل وقيل انما قطعت يد السارق لانها باشرت ولم يقطع ذكر الزانى للمباشرة خوفا لقطع النسل وتحصل ايضا لذة الزنى بجميع البدن
قال النيسابورى قطعت يد السارق لانها اخذت المال الذى هو يد الغنى وعماده كأنه اخذ يد انسان فجزوا يده لتناولها حق الغير وقيل قال الله تعالى { ولله خزائن السموات والارض } فكل ما عند العبد من مال فهو خزانة الحق عنده والعبد خازنه فمهما تعدى خزانة مولاه بغير اجازة استحق السياسة بقطع آلة التعدى الى خيانة خزانته وهى اليد المتعدية
ثم ان السرقة كما تكون من المال كذلك تكون من العبادات وفى الحديث « اسوء الناس سرقة الذى يسرق من صلاته » قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال « لا يتم ركوعها ولا سجودها » وفى الحديث « ان الرجل ليصلى ستين سنة وما تقبل له صلاة » لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع كذا فى الترغيب والترهيب فمثل هذا المصلى يقطع يمينه عن نيل الوصال فلا يصل الى مراده بل يبقى فى الهجران والقطيعة اذ هو اساء الادب بل قصر فيما امر الرب سبحانه وتعالى(3/256)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{ يا ايها الرسول } خاطبه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة للتشريف { لا يحزنك الذين } اى صنع الذين فان الذوات مع قطع النظر عن العوارض لا توجب الحزن والفرح { يسارعون فى الكفر } اى يقعون فى الكفر سريعا فى اظهاره اذا وجدوا منه فرصة والمقصود نهيه عليه السلام عن ان يتحزن بصنيعهم بناء على انه تعالى ناصره عليهم والمعنى لا تحزن ولا تبال بتهافتهم فى الكفر سريعا { من الذين } بيان للمسارعين فى الكفر { قالوا آمنا بافواههم } متعلق بقالوا والفائدة فى بيان تعلقه بالافواه مع ان القول لا يكون الا بالفم واللسان الاشارة الى ان ألسنتهم ليست معبرة عما فى قلوبهم وان ما يجرون على ألسنتهم لا يجاوز افواههم وانما نطقوا به غير معتقدين له بقلوبهم { ولم تؤمن قلوبهم } جملة حالية من ضمير قالوا جىء بها للتصريخ بما اشار اليه بقوله بافواههم { ومن الذين هادوا } عطف على من الذين قالوا وبه يتم بيان المسارعين فى الكفر بتقسيمهم الى قسمين المنافقين واليهود { سماعون } خبر مبتدأ محذوف والتقدير هم اى المنافقون واليهود سماعون { للكذب } اللام اما لتقوية العمل واما لتضمن السماع معنى القبول واما لام كى والمفعول محذوف والمعنى هم مبالغون فى سماع الكذب او فى قبول ما تفتريه احبارهم من الكذب على الله سبحانه وتحريف كتابهم او سماعون اخباركم واحاديثكم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص والتبديل فان منهم من يسمع من الرسول عليه السلام ثم يخرج ويقول سمعت منه كذا وكذا ولم يسمع ذلك منه { سماعون لقوم آخرين } خبر ثان للمبتدأ المقدر مقرر للاول ومبين لما هو المراد بالكذب على الوجهين الاولين واللام مثل اللام فى سمع الله لمن حمده فى الرجوع الى معنى من اى قبل منه حمده والمعنى مبالغون فى قبول كلام قوم آخرين { لم يأتوك } صفة اخرى لقوم اى لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وافراطا فى البغضاء قيل هم يهود خيبر والسماعون بنوا قريظة { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } صفة اخرى لقوم اى يميلونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه الله فيها اما لفظا باهماله او تغيير وصفه واما بحمله على غير المراد واجرائه فى غير مورده { يقولون } صفة اخرى لقوم اى يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند القائهم اليهم اقاويلهم الباطلة مشيرين الى كلامهم الباطل { ان اوتيتم } من جهة الرسول { هذا } المحرف { فخذوه } واعملوا بموجبه فانه الحق { وان لم تؤتوه } بل اوتيتم غيره { فاحذروا } قبوله واياكم واياه روى ان شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين وحدهما الرجم فى التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فارسلوهما مع رهط منهم الى بنى قريظة فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير فقالوا لهم انكم خبير بهذا الرجل ومعه فى بلده وقد حدث فينا فلان وفلانة فجرا وقد احصنا فنحب ان تسألوا لنا محمدا عن قضائه فيه فقالت لهم قريظة والنضير اذا والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم كعب ابن الاشرف وكعب بن اسد وكنانة بن ابى الحقيق وغيرهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد اخبرنا عن الزانى والزانية اذا احصنا ما حدهما فى كتابك فقال(3/257)
« هل ترضون بقضائى » قالوا نعم فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فاخبرهم بذلك فابوا ان يأخذوا به فقال له جبريل اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال عليه السلام « هل تعرفون شابا امرد ابيض اعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا » قالوا نعم فقال « اى رجل هو فيكم » قالوا هو اعلم يهودى بقى على وجه الارض بما انزل الله على موسى فى التوراة قال « فارسلوا اليه » ففعلوا فاتاهم فقال عليه السلام « انت ابن صوريا » قال نعم قال « وأنت اعلم يهودى » قال كذلك يزعمون قال « أتجعلونه بينى وبينكم » قالوا نعم قال له النبى عليه السلام « انشدك بالله الذي لا اله الا هو الذى انزل التوراة على موسى واخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وانجاكم واغرق آل فرعون والذى ظلل عليكم الغمام وانزل عليكم المن والسلوى وانزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون فى كتابكم الرجم على من احصن » قال ابن صوريا نعم والذى ذكرتنى به لولا خشيت ان تحرقنى التوراة ان كذبت او غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هى فى كتابك يا محمد قال « اذا شهد اربعة رهط عدول انه قد ادخله فيها كما يدخل الميل فى المكحلة وجب عليه الرجم » فقال ابن صوريا والذى انزل التوراة على موسى هكذا انزل الله فى التوراة على موسى فقال له النبى عليه السلام « فماذا كان اول ما ترخصتم به فى امر الله تعالى » قال كنا اذا اخذنا الشريف تركناه واذا اخذنا الضعيف اقمنا عليه الحد فكثر الزنى فى اشرافنا حتى زنى ابن عم ملكنا فلم يرجم ثم زنى رجل آخر فى اسوة من الناس فاراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه وقالوا والله لا ترجمه حتى ترجم فلانا ابن عمك فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيأ دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو ان يجلد اربعين جلدة بحبلى مطلى بالقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن صوريا ما اسرع ما اخبرته به وما كنت لما اثنينا عليك باهل ولكن كنت غائبا فكرهنا ان نغتابك فقال لهم انه قد نشدنى بالتوراة ولولا خشية التوراة ان تهلكنى لما اخبرته فامر بهما النبى صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب المسجد وقال(3/258)
« اللهم انى اول من احيى امرك اذ أماتوه » فانزل الله تعالى { يا ايها الرسول } الآية { ومن } شرطية { يرد الله فتنته } اى ضلالته او فضيحته كائنا من كان { فلن تملك له } فلن تستطيع له { من الله شيأ } فى دفعها { اولئك } المنافقون واليهود { الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم } اى من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما واصرارهم عليهما واعراضهم عن صرف اختيارهم الى تحصيل الهداية بالكلية { لهم } اى للمنافقين واليهود { فى الدنيا خزى } اما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم فيما بين المسلمين واما خزى اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم فى كتمان نص التوراة { ولهم فى الآخرة } اى مع الخزى الدنيوى { عذاب عظيم } هو الخلود فى النار(3/259)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{ سماعون للكذب } تكرير لما قبله { اكالون للسحت } اى الحرام كالرشى من سحته اذا استأصله لانه مسحوت البركة { فان جاؤك } الفاء فصيحة اى واذا كان حالهم كما شرح فان جاؤك متحاكمين اليك فيما شجر بينهم من الخصومات { فاحكم بينهم او اعرض عنهم وان تعرض عنهم } بيان لحال الامرين اثر التخيير { فلن يضروك شيأ } من الضرر بان يعادوك لاعراضك عنهم فان الله يعصمك من الناس { وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط } بالعدل الذى امرت به كما حكمت بالرجم { ان الله يحب المقسطين } العادلين فيحفظهم من كل مكروه ومحذور ويعظم شأنهم وفى الحديث « المقسطون عند الله على منابر من نور »(3/260)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحال ان الحكم منصوص عليه فى كتابهم الذى يدعون الايمان به وتنبيه على انهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق واقامة الشرع وانما طلبوا به ما اهون عليهم وان لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم وفيها حكم الله حال من التوراة او رفعها بالظرف وان جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه { ثم يتولون } عطف على يحكمونك داخل فى حكم التعجب وثم للتراخى فى الرتبة { من بعد ذلك } اى من بعد ما حكموك وهو تصريح بما علم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجب اى ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوا بحكمك { وما اولئك } الموصوفون بما ذكر { بالمؤمنين } اى بكتابهم لاعراضهم عنه اولا وعن حكمك الموافق لكتابهم ثانيا او بك وبه . وفى الآيات ذم للظلم ومدح للعدل وقدح فى الحرام والرشوة وفى الحديث « كل لحم انبته السحت فالنار اولى به » وفيه « لعن الله الراشى والمرتشى والرائش » واراد بالرائش الذى يمشى بينهما : وفى المنثوى
اى بسا مرغى برنده دانه جو ... كه بريده حلق اوهم حلق او
اى بسا ماهىدرآب دور دست ... كشته ازحرص كلو مأخوذ شست
اى بسا مستور دربرده بده ... شومى فرج وكلو رس اشده
اى بسا قاضىء حبر نيك خو ... ازكلوى رشوتى اوزرد رو
بلكه درهاروت وماروت آن شراب ... ازعروج جر خشان شد سد باب
ذكر فى ادب القاضى للخصاف الرشوة على اربعة اوجه اما ان يرشوه لانه قد خوفه فيعطيه الرشوة ليدفع الخوف عن نفسه او يرشوه ليسوى امره بينه وبين السلطان او يرشوه ليتقلد القضاء من السلطان او يرشو القاضى ليقضى له . ففى الوجه الاول لا يحل الاخذ لان الكف عن التخويف كف عن الظلم وانه واجب حقا للشرع فلا يحل اخذه لذلك ويحل للمعطى الاعطاء لانه جعل المال وقاية للنفس وهذا جائز موافق للشرع . وفى الوجه الثانى ايضا لا يحل الاخذ لان القيام بامور المسلمين واجب بدون المال فلا يحل له الاخذ . وفى الوجه الثالث لا يحل له الاخذ والاعطاء واما الرابع فحرام الاخذ سواء كان القضاء بحق او ظلم . اما الظلم فلوجهين . احدهما انه رشوة . والثانى انه سبب للقضاء بالجور . واما الحق فلوجه واحد وهو انه اخذ المال لاقامة الواجب . واما العطاء فان كان بجور لا يجوز وان كان بحق جاز
قال ابن مسعود رضى الله عنه من شفع شفاعة يرد بها حقا او يدفع بها ظلما فاهدى له فقبل فهو سحت
وفى نصاب الاحتساب ان المحتسب او القاضى اذا اهدى اليه ممن يعلم انه يهدى لاحتياجه الى القضاء والحسبة لا يقبل ولو قبل كان رشوة واما ممن يعرف انه يهدى للتودد والتحبب لا للقضاء والحسبة فلا بأس به وكان الصحابة رضى الله عنهم يتوسعون فى قبول الهدايا بينهم وهذا لان الهدية كانت عادتهم وكانوا لا يلتمسون منهم شيأ وانما كانوا يهدون لاجل التودد والتحبب وكانوا يستوحشون برد هداياهم فلا يكون فيه معنى الرشوة فلهذا كانوا يقبلونها
قال قوم ان صلات السلاطين نحل للغنى والفقير اذا لم يتحقق انها حرام وانما التبعة على المعطى قالوا لان النبى صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس ملك الاسكندرية واستقرض من اليهود مع قوله الله تعالى(3/261)
{ اكالون للسحت } واما حال السوق فمتى علمت ان الحرام هو الاكثر فلا تشتر الا بعد التفتيش وان كان كثيرا وليس بالاكثر فلك السؤال ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام واصحابه يشترون من الاسواق مع علمهم بان فيهم اهل الربا والغصب والغلول
قال الحدادى ومن السحت ثمن الخمر والخنزير والميتة وعسب الفحل واجرة النائحة والمغنية والساحر وهدية الشفاعة ومهر البغى وحلوان الكاهن هكذا قال عمر وعلى وابن عباس رضى الله عنهم قالوا والمال الذى يأخذه المغنى والقوال ونحوهما حكم ذلك اخف من الرشوة فان صاحب المال اعطاه عن غير اختيار بغير عقد
قال ابن كيسان سمعت الحسن يقول اذا كان لك على رجل دين فاكلت فى بيته فهو سحت . فعليك ايها المؤمن المتقى بالاحتياط فى امورك حتى لا تقع فى الشبهات بل فى الحرام وانما تحصل التصفية للقلب باكل الغذاء الحلال : قال الحافظ
صوفى شهربين كه جون لقمه شبهه ميخورد ... باردمش درازباد اين حيوان خوش علف
والمقصود من البيت تشبيه الذى لا يحترز عن الشبهات بالحيوان فى الاكل من كل ما يجده من غير تفرقة ولان تناول الشبهات من كمال الحرص لانه لو لم يكن له حرص لكان له قناعة بالحلال ولو قليلا والحيوان يعظم من كثرة الاكل والشرب والنوم وهى حكم الطبيعة(3/262)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{ انا انزلنا التوراة } حال كونها { فيها هدى } تهدى شرائعها واحكامها الى الحق وترشد الناس اليه { ونور } تكشف ما انبهم من الاحكام وما يتعلق بها من المستورة بظلمات الجهل { يحكم بها النبيون } اى انبياء بنى اسرائيل اى يحكمون باحكامها ويحملون الناس عليها { الذين اسلموا }
ان قلت النبيون اعظم من الاسلام فكيف يمدح نبى بانه رجل مسلم وما الوصف به بعد الوصف بالنبوة لا تنزل من الاعلى الى الادنى قلت قد يذكر الوصف مدحا للوصف ففائدة التوصيف تنويه شأن الصفة والتنبيه على عظم قدرها حيث وصف بها عظيم كما وصف الانبياء بالصلاح والملائكة بالايمان وقد قيل اوصاف الاشراف اشراف الاوصاف : قال
ما ان مدحت محمدا بمقالتى ... لكن مدحت مقالتى بمحمد
{ للذين هادوا } متعلق بيحكم اى يحكمون فيما بينهم واللام لبيان اختصاص الحكم بهم اعم من ان يكون لهم او عليهم كانه قيل لاجل الذين هادوا { والربانيون والاحبار } عطف على النبيون اى هم ايضا يحكمون باحكامها وهم الزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود { بما استحفظوا من كتاب الله } اى بالذى استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم ان يحفظوها من التضييع والتحريف على الاطلاق ولا ريب فى ان ذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم فى اجراء احكامها من غير اخلال بشىء منها والباء سببية متعلقة بيحكم اى ويحكم الربانيون والاحبار ايضا بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به انبياؤهم وسألوهم ان يحفظوه { وكانوا عليه شهداء } اى رقباء لا يتركونهم ان يغيروا فهو من الشهود بمعنى الحضور { فلا تخشوا الناس } كائنا من كان ايها الرؤساء والاحبار واقتدوا فى مراعاة احكامها وحفظها بمن قبلكم من الانبياء واشياعهم { واخشون } فى الاخلال بحقوق مراعاتها فيف بالتعرض لها بسوء نهوا ان يخشوا غير الله فى حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم او مراقبة كبير ودلالة الآية تتناول حكام المسلمين { ولا تشتروا بآياتى } الاشتراء استبدال السلعة بالثمن اى اخذها بدلا منه ثم استعير لاخذ شىء بدلا مما كان له عينا كان او معنى اخذا منوطا بالرغبة فيما اخذ والاعراض عما اعطى ونبذ اى لا تستبدلوا بآياتى التى فيها بان تخرجوها منها او تتركوا العمل بها وتأخذوا لانفسكم بدلا منها { ثمنا قليلا } من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية فانها وان جلت قليلة مسترذلة فى نفسها لا سيما بالنسبة الى ما فات عنهم بترك العمل بها
آن جهان جيفه است ومردار ورخيص ... بر جنين مردار جون باشم حريص
بس حيات ماست موقوف فطام ... اندك اندك جهد كن تم الكلام
ولما كان الاقدام على التحريف لدفع ضرر كما اذا خشى من ذى سلطان او لجلب نفع كما اذا طمع فى الحظوظ الدنيوية نهوا عن كل منهما صريحا { ومن لم يحكم بما انزل الله } مستهينا به منكرا له كائنا من كان يقتضيه ما فعلوه من التحريف { فاولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بان حكموا بغيره ولذلك وصفهم بقوله الظالمون والفاسقون فكفرهم بانكاره وظلمهم بالحكم على خلافه وفسقهم بالخروج عنه(3/263)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{ وكتبنا } فرضنا عطف على انزلنا التوراة { عليهم } اى على الذين هادوا { فيها } اى فى التوراة { ان النفس بالنفس } اى تقاد بها اذا قتلها بغير حق { والعين } تفقأ { بالعين } اذا فقئت بغير حق { والانف } تجذم { بالانف } المقطوعة بغير حق { والاذن } تصلم { بالاذن } المقطوعة ظلما { والسن } تقلع { بالسن } المقلوعة بغير حق { والجروح قصاص } اى ذات قصاص بحيث تعرف المساواة واما مالا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم او جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه لانه لا يمكن الوقوف على نهايته ففيه ارش او حكومة { فمن تصدق } اى من المستحقين { به } اى بالقصاص اى فمن عفا عنه فالتعبير بالتصدق للمبالغة فى الترغيب فيه { فهو } اى التصدق { كفارة له } اى للمتصدق يكفر الله تعالى بها ما سلف من ذنبه واما الكافر اذا عفا فلا يكون عفوه كفارة له مع اقامته على الكفر وفى الحديث « من اصيب بشىء من جسده فتركه لله كان كفارة له » وفى الحديث « ثلاث من جاء بهن يقوم القيامة مع الايمان دخل الجنة من أى ابواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من عفا عن قاتله ومن قرأ دبر كل صلاة مكتوبة قل هو الله احد عشر مرات ومن ادى دينا خفيا » وقال بعضهم الهاء كناية عن الجارح والقاتل يعنى اذا عفا المجنى عليه من الجانى فعفوه كفارة لذنب الجانى لا يؤخذ به فى الآخرة كما ان القصاص كفارة له فاما اجر العافى فعلى الله { ومن لم يحكم بما انزل الله } من الاحكام والشرائع { فاولئك هم الظالمون } المبالغون فى الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشىء فى غير موضعه(3/264)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
{ وقفينا على آثارهم } عطف على انزلنا التوراة اى آثار النبيين المذكورين { بعيسى ابن مريم } اى ارسلناه عقيبهم وجئنا به بعدهم يقال قفوت اثره قفوا وقفّوا اى اتبعته فهو يتعدى الى واحد واذا قلت قفيت على اثره بفلان يكون المعنى اتبعته اياه وحقيقة التقفية الاتيان بالشىء فى قفا غيره والتضعيف فيه ليس للتعدية فان فعل المضعف قد يكون بمعنى فعل المجرد كقدّر وقدر وانما تعدى الى الثانى بالباء فمفعوله الاول محذوف اى اتبعنا النبيين الذين ذكرناهم بعيسى وجعلناه ممن يقفوهم فحذف المفعول وجعل على آثارهم كالقائم مقامه { مصدقا لما بين يديه من التوراة } حالة من عيسى { وآتيناه الانجيل } عطف على قفينا { فيه هدى ونور } كما فى التوراة وهو فى محل النصب على انه حال من الانجيل اى كائنا فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هدى ونور { ومصدقا لما بين يديه من التوراة } عطف عليه داخل فى حكم الحالية وتكرير ما بين يديه من التوراة زيادة تقرير { وهدى وموعظة للمتقين } عطف على مصدقا منتظم معه فى سلك الحالية جعل كله هدى بعدما جعل مشتملا عليه حيث قيل فيه هدى وتخصيص كونه هدى وموعظة للمتقين لانهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه : قال الحافظ
كرانكشت سليمانى نباشد ... جه خاصيت دهدنقش نكينى
فكما ان الانتفاع بالخاتم انما يكون لمن كان له مشرب سليمانى كذلك الانتفاع بالكتاب انما يكون لمن له تقوى رجحانى(3/265)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{ وليحكم اهل الانجيل بما أنزل الله فيه } اى آتيناه الانجيل وقلنا ليحكم اهل الانجيل بما انزل الله فيه { ومن لم يحكم بما انزل الله } منكرا له مستهينا به { فاولئك هم الفاسقون } المتمردون الخارجون عن الايمان وفيه دلالة على ان الانجيل مشتمل على الاحكام وان عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الاحكام قلت او كثرت لا بما فى التوراة خاصة وفيه تهديد عظيم للحكام وفى الحديث « يؤتى بالقاضى العدل يوم القيامة فيلقى من شدة العذاب ما يتمنى انه لم يفصل بين احد فى تمرتين » فاذا كان هذا حال القاضى العدل فما ظنك بالجائر والمرتشى
بوحنيفه قضانكرد وبمرد ... توبميرى اكر قضانكنى
وفى الحديث « القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة قاض قضى بغير حقا وهو يعلم فذاك فى النار وقاض قضى وهو لا يعلم فاهلك حقوق الناس فذاك فى النار وقاض قضى بحق فذاك فى الجنة » كذا فى المقاصد الحسنة للامام السخاوى حكى ان بنى اسرائيل كانوا ينصبون لاجراء الاحكام بينهم حكاما ثلاثة حتى اذا رفع الخصم الامر الى واحد منهم فلم يرض به الآخر ترافعا الى الثانى ثم الى الثالث ليطمئن قلبه فذات يوم تصور ملك بصورة انسان يريد امتحان هؤلاء الحكام فركب على رمكة وقام على رأس بئر فاذا رجل اتى ببقرة له مع عجلها ليسقيهما فلما سقاهما واراد الرجوع اشار الملك الى العجل فجاء الى جنب الرمكة فكلما نادى صاحبه ودعاه لم يستمع ولم يذهب الى الام فجاء الرجل ليسوقه بأى وجه يمكن فقال الملك يا هذا الرجل ان العجل قد ولدته رمكتى هذه فاذهب وخلنى وعجلى فقال الرجل يا عجبا العجل ملكى قد ولدته بقرتى هذه فتنازعا وترافعا الى القاضى الاول فسبق الملك الرجل الى القاضى وقال ان قضيت لى بالعجل دفعت لك كذا فقبله القاضى فلما تحاكما حكم بالعجل للملك فلم يرض به الرجل فترافعا الى الثانى فحكم هو ايضا بالعجل للملك فلم يرض به الرجل ايضا فترافعا الى الثالث فلما عرض الملك الرشوة عليه قال لا استطيع هذا الحكم فانى قد حضت فقال الملك ايش تقول هل تحيض الرجال والحيض من خواص النساء فقال القاضى له تتعجب من كلامى ولا تتعجب من كلامك فكما ان الرجال لا تحيض فكذلك الرمكة لا تلد عجلا فقال الملك هناك قاضيان فى النار وقاض فى الجنة وهذا الكلام منقول من لسانه كذا ذكر البعض نقلا عن فم حضرة الشيخ الشهير بهدائى الاسكدارى قدس سره(3/266)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{ وانزلنا اليك } يا محمد { الكتاب } اى القرآن حال كونه ملتبسا { بالحق } والصدق حال كونه { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } اى مصدقا لما تقدمه من جنس الكتب المنزلة من حيث انه نازل حسبما نعت فيه وموافقا له فى التوحيد والعدل واصول الشرائع { ومهيمنا عليه } اى رقيبا على سائر الكتب المحفوظة عن التغير فانه يشهد لها بالصدق والصحة والثبات وتقرر اصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين احكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها ولا ريب ان تمييز احكامها الباقية على المشروعية ابدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من احكام كونه مهيمنا عليها { فاحكم بينهم } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها اى اذا كان شأن القرآن كما ذكر فاحكم بين اهل الكتاب عند تحاكمهم اليك { بما انزل الله } اى بما انزل اليك فانه مشتمل على جميع الاحكام الشرعية الباقية فى الكتب الآلهية { ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق } بالانحراف عنه الى ما يشتهونه فعن متعلقة بلا تتبع على تضمني معنى العدول ونحوه كأنه قيل لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا اهواءهم { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } الخطاب بطريق الالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين ايضا بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدى لواحد وهو اخبار بجعل ماض لا انشاء وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل والمعنى لكل امة كائنة منكم ايها الامم الباقية والخالية جعلنا اى عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الامة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التى عينت لها فالأمة من مبعث موسى الى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة والتى كانت من مبعث عيسى الى مبعث النبى عليهما السلام شرعتهم الانجيل واما انتم ايها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس الا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشرعة والشريعة هى الطريقة الى الماء شبه بها الدين الذى شرعه الله اى سنه من نحو الصوم والصلاة والحج والنكاح وغير ذلك من وجوه الصلاح لكونه سبيلا موصلا الى ما هو سبب للحياة الابدية كما ان الماء سبب للحياة الفانية والمنهاج الطريق الواضح فى الدين من نهج الامر اذا وضح قيل فيه دليل على انا غير متعبدين بشرائع من قبلها والتحقيق انا متعبدون باحكامها الباقية من حيث انها احكام شريعتنا لا من حيث انها شرعة للاولين { ولو شاء الله } ان يجعلكم امة واحدة { لجعلكم امة واحدة } اى جماعة واحدة متفقة على دين واحد فى جميع الاعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الامم فى شىء من الاحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل { ولكن } لم يشأ ذلك اى ان يجعلكم امة واحدة بل شاء ما عليه ألسنة الالهية الجارية فيما بين الامم { ليبلوكم } اى ليعاملكم معاملة من يبتليكم { فيما آتاكم } من الشرائع المختلفة المناسبة لاعصارها وقرونها هل تعملون بها مذعنين معتقدين ان اختلافها بمقتضى المشيئة الآلهية المبنية على اساس الحكم البالغة والمصالح النافعة لكم فى معاشكم ومعادكم او تزيغون عن الحق وتتبعون الهوى وتستبدلون المضرة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى : وفى المثنوى(3/267)
كربسوزد باغت انكورت دهد ... درميان ماتمى سورت دهد
لانسلم واعتراض از مابرفت ... جون عوض مى آيداز مفقودزفت
{ فاستبقوا الخيرات } اى اذا كان الامر كما ذكر فسارعوا الى ما هو خير لكم فى الدارين من العقائد الحقية والاعمال الصالحة المندرجة فى القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة واحراز المسابقة الفضل { الى الله مرجعكم جميعا } اى مرجع من آمن ومن لم يؤمن جميعا حال من ضمير الخطاب { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } اى فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا من امر الدين والشريعة وانما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع ازالة الاختلاف التى هى وظيفة الاخبار(3/268)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
{ وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم } عطف على الكتاب اى انزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه { واحذرهم } مخافة { ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك } اى يضلوك ويصرفوك عن بعضه ولو كان اقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق فالمراد بالفتنة ههنا الميل عن الحق والوقوع فى الباطل كما فى قوله عليه السلام « اعوذ بك من فتنة المحيا » اى العدول عن الطريق المستقيم وكل من صرف من الحق الى الباطل واميل عن القصد فقد فتن روى ان احبار اليهود قالوا اذهبوا بنا الى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فذهبوا اليه صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا يا ابا القاسم قد عرفت انا احبار اليهود وانا ان اتبعناك اتبعك اليهود كلهم وان بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم اليك فاقض لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فابى ذلك رسول الله فنزلت
واستدل العلماء بهذه الآية على ان الخطأ والنسيان جائز على الرسل لانه تعالى قال { واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك } والتعمد فى مثل هذا غير جائز على الرسل فلم يبق الا الخطأ والنسيان { فان تولوا } اى اعرضوا عن الحكم بما انزل الله وارادوا غيره { فاعلم انما يريد الله } اى فاعلم ان اعراضهم من اجل ان الله يريد { ان يصيبهم ببعض ذنوبهم } اى يعجل لهم العقوبة فى الدنيا بان يسلطك عليهم ويعذبهم فى الدنيا بالقتل والجلاء والجزية ويجازيهم بالباقى فى الآخرة فالمراد ببعض ذنوبهم ذنب توليهم عن حكم الله تعالى وانما عبر عنه بذلك تنبيها على ان لهم ذنوبا كثيرة هذا مع عظمه واحد من جملتها { وان كثيرا من الناس لفاسقون } اى متمردون فى الكفر مصرون عليه خارجون عن الحدود المعهودة فلذا يتولون عن حكم الله(3/269)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{ أفحكم الجاهلية يبغون } انكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام اى أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وهى الملة الجاهلية التى هى هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع الى وحى { ومن احسن من الله حكما } انكار لان يكون احد حكمه احسن من حكمه تعالى او مساو له وان كان ظاهر السبك غير متعرض لنفى المساواة وانكارها يرشدك اليه العرف المطرد والاستعمال الناشىء فانه اذا قيل من اكرم من فلان او الافضل من فلان فالمراد به حتما انه اكرم من كل كريم وافضل من كل فاضل وحكما نصب على التمييز من احسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن حكمه احسن من حكم الله { لقوم يوقنون } اى عندهم واللام للبيان فيتعلق بمحذوف كما فى سقيا لك فان سقيا دعاء للمخاطب بان يسقيه الله فيكون لك بيانا له اى هذا الاستفهام لقوم يوقنون فانهم الذين يتدبرون الامور بانظارهم فيعلمون يقينا ان حكم الله عز وجل احسن الاحكام واعدلها وليست اللام متعلقة بقوله { حكما } لان حكم الله لا يخص قوما دون قوم
فقد دلت الآيات على ان الدين واحد من حيث الاصول مختلف من جهة الفروع ولله ان يحكم فى كل عصر وزمان بما اراد ففيه حكم ومصالح فعلينا بالتسليم والانقياد وترك الاعتراض والمسارعة الى الخيرات قبل الموت والفوت وفى الحديث « اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك » لان الرجل يقدر على الاعمال فى حال شبابه ما لا يقدر عليه فى حال هرمه ولان الشاب اذا تعود فى المعصية لا يقدر على الامتناع منها فى هرمه « وصحتك قبل سقمك » لان الصحيح نافذ الامر فى ماله ونفسه لانه اذا مرض ضعف بدنه عن الطاعة وقصرت يده عن ماله الا فى مقدار ثلثه « وفراغك قبل شغلك » يعنى فى الليل تكون فارغا وبالنهار تكون مشغولا فينبغى ان تصلى بالليل فى حال فراغك وتصوم بالنهار فى وقت شغلك خصوصا فى ايام الشتاء لان الصوم فى الشتاء غنيمة المؤمن كما قال عليه السلام « الشتاء غنيمة المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه » وفى رواية اخرى « الليل طويل فلا تقصره بمنامك والنهار مضيىء فلا تكدره بآثامك » « وغناك قبل فقرك » يعنى اذا كنت راضيا بما اعطاك الله من القوت فاغتنم ذلك ولا تطمع فيما فى ايدى الناس « وحياتك قبل مماتك » لان الرجل ما دام حيا يقدر على العمل فاذا مات انقطع عمله ولهذا تتمنى الموتى ان يعودوا الى الدنيا فيتهللوا مرة او يصلوا ركعة فالفرصة غنيمة والعمر قليل : قال الحافظ
بكذشتن فرصت اى برادر ... دركرم روى جوميغ باشد
درياب كه عمربس عزيزست ... كر فوت شود دريغ باشد
وقال السيد الشريف لابنه
نصيحت همينست جان يدر ... كه عمرت عزيزست ضايع مكن
فينبغى للعاقل ان لا يضيع ايامه : قال الحكيم : بكودكى بازى . بجوان مستى به بيرى سسنى . خداراكى برستى . فاذا تم شغلك بالشريعة فاجتهد فى الطريقة وهى باطن الشريعة واقتد باولى الالباب فانه كما ان لكل نبى شرعة ومنهاجا كذلك لكل ولى طريقة مسلوكة مخصوصة وقد ضل من ضل منارهم(3/270)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{ يا ايها الذين آمنوا } خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم وان كان سبب وروده بعضا منهم اذ روى ان عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان لى موالى من اليهود كثيرا عددهم وانى ابرأ الى الله ورسوله من ولايتهم واوالى الله ورسوله فقال عبد الله بن ابى انى رجل اخاف الدوائر لا ابرأ من ولاية موالىّ وهم يهود بنى قينقاع فقال تعالى { لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء } اى لا تتخذوا احدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الاحباب ومعاشرتهم لا بمعنى لا تجعلوهم اولياء لكم حقيقة فانه امر ممتنع فى نفسه لا يتعلق به النهى { بعضهم اولياء بعض } اى بعض كل فريق من ذينك الفريقين اولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر لانه لا موالاة بين فريقى اليهود والنصارى رأسا والكل متفقون على الكفر مجمعون على مضارتكم ومضاركم فيكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة { ومن يتولهم منكم } اى من يتخذهم اولياء { فانه منهم } اى هو على دينهم ومعهم فى النار وهذا اذا تولاهم لدينهم واما الصحبة لمعاملة شراء شىء منهم او طلب عمل منهم مع المخالفة فى الاعتقاد والامور الدينية فليس فيه هذا الوعيد
قال المولى ابو السعود وفيه زجر شديد للمؤمنين عن اظهار صورة الموالاة لهم وان لم تكن موالاة فى الحقيقة { ان الله لا يهدى القوم الظالمين } تعليل لكون من يتولاهم منهم اى لا يرشد الذين ظلموا انفسهم بترك اخوانهم المؤمنين وبموالاة اعداء الله بل يخليهم وشأنهم فيقعون فى الكفر والضلالة اللهم لا تكلنى الى نفسى طرفة عين ولا اقل من ذلك : قال الحافظ
درره عشق ازان سوى فناصد خطرست ... تانكوى كه جوعمرم بسر آمدرستم(3/271)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
{ فترى } يا محمد او كل من له اهلية للخطاب رؤية بصرية { الذين فى قلوبهم مرض } اى مرض النفاق ورخاوة العقد فى الدين { يسارعون فيهم } حال من الموصول اى مسارعين فى موالاتهم ومعاونتهم وايثار فى على الى للدلالة على انهم مستقرون فى الموالاة وانما مسارعتهم من بعض مراتبها الى بعض آخر منها والمراد بهم عبد الله بن ابى واضرابه الذين كانوا يسارعون فى موادة اليهود والنصارى نجران وكانوا يعتذرون الى المؤمنين بانهم لا يؤمنون ان تصيبهم صروف الزمان كما قال تعالى { يقولون } معتذرين { نخشى ان تصيبنا دائرة } وهو حال من ضمير يسارعون والدائرة من الصفات الغالبة التى لا يذكر معها موصوفها اى يدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بان ينقلب الامر وتكون الدولة للكفار وقيل نخشى ان يصيبنا مكروه من مكاره الدهر كالجدب والقحط فلا يعطونا الميرة والقرض ولعلهم كانوا يظهرون للمؤمنين انهم يريدون بالدوائر المعنى الاخير ويضمرون فى انفسهم المعنى الاول { فعسى الله ان يأتى بالفتح } رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطع لاطماعهم الفارغة وتبشير للمؤمنين بالظفر فان عسى منه سبحانه وعد محتوم لما ان الكريم اذا اطمع اطعم لا محالة فما ظنك باكرم الاكرمين . والمراد بالفتح فتح مكة او فتح قرى اليهود من خيبر وفدك او هو القضاء الفصل بنصره عليه السلام على من خالفه واعزاز الدين
قال الحدادى وسمى النصر فتحا لان فيه فتح الامر المغلق { او امر من عنده } بقطع شأفة اليهود من القتل والاجلاء . والشأفة قرحة تخرج فى اسفل القدم فتكوى وتذهب يقال فى المثل استأصل الله شأفته اى اذهبه الله كما ذهب تلك القرحة بالكى { فيصبحوا } اى اولئك المنافقون المتعللون بما ذكر { على ما اسروا فى انفسهم نادمين } وهو ما كانوا يكتمون فى انفسهم من الكفر والشك فى امره صلى الله عليه وسلم(3/272)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{ ويقول الذين آمنوا } عند ظهور ندامة المنافقين وهو كلام مبتدأ مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة اى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين الى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة فى السراء والضراء عند مشاهدتهم لخيبة رجائهم وانعكاس تقريرهم بوقوع ضد ما كانوا يترقبون ويتعللون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم { أهؤلاء الذين اقسموا بالله جهد ايمانهم انهم لمعكم } اى بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حكى عنهم { ولئن قوتلتم لننصرنكم } فاسم الاشارة مبتدأ وما بعده خبره والمعنى انكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم فى ذلك والخطاب فى معكم لليهود من جهة المؤمنين . وجهد الايمان اغلظها وهو فى الاصل مصدر ونصبه على تقدير واقسموا بالله يجهدون جهد ايمانهم فحذف الفعل واقيم المصدر مقامه ولا يبالى بتعريفه لفظا لانه مأول بنكرة اى مجتهدين فى ايمانهم او على المصدر اى اقسموا اقسام اجتهاد فى اليمين { حبطت اعمالهم فاصبحوا خاسرين } جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والاقسام على المعية فى المنشط والمكره اثر الاشارة الى بطلانه بالاستفهام الانكارى اى بطلت اعمالهم التى عملوها فى شأن الموالاة وسعوا فى ذلك سعيا بليغا حيث لم يكن لليهود دولة فغبنوا بما صنعوا من المساعى وتحملوا من مكاره المشاق : قال الحافظ
اسم اعظم بكندكار خود اى دل خوش باش ... كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود
واعلم ان للحق دولة وللباطل صولة والباطل يفوز ثم يغور . فعلى المؤمن ان لا يميل الى جانب الباطل واهله اصلا كائنا من كان روى عن ابى موسى الاشعرى انه قال قلت لعمر بن الخطاب ان لى كاتبا نصرانيا فقال مالك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا اما سمعت قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء } قلت له دينه ولى كتابه قال لا تكرموهم اذ اهانهم الله ولا تأتمنوهم اذ خونهم الله ولا تدنوهم اذ اقصاهم الله وروى انه قال لا قوام للبصرة الا به فقال مات النصرانى والسلام يعنى هب انه مات فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره
قال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر شاهدت دمشق ان الرجال والنساء كانوا يوالون النصارى ويسامحون فى المعاملة ويذهبون باطفالهم وصغارهم الى الكنائس ويرشون عليهم بطريق التبرك من ماء المعمودية وهذا كفر والعياذ بالله والمعمودية ماء للنصارى اصفر كانوا يغمسون فيه اولادهم ويعتقدون انه تطهير للمولود كالختان لغيرهم وقس عليه تعظيم نوروز النصارى واهداء شىء فى ذلك اليوم اليهم والمشاركة معهم ويلزم الحسبة فى بعض الامور قطعا لعرق الموالاة(3/273)
وفى ملتقطة الناصرى ولا ادع المشرك يضرب البربط
قال محمد كل شىء امنع من المسلم فانى امنع من المشرك الا الخمر والخنزير ولكن يمنع اهل الكفر من ادخال الخمور والخنازير فى الاسواق على سبيل الشهرة لان فيها استخفافا للمسلمين وما صالحناهم ليستخفوا بالمؤمنين وان حضر لهم عيد لا يخرجون فيه صليبهم ويمنعون من اظهار بيع المزامير والطنبور واظهار الغناء وغير ذلك مما منع منه المسلم ويمنعون من احداث الكنيسة
قال عليه الصلاة والسلام « لا خصاء فى الاسلام ولا كنيسة » والمراء بالخصاء خصاء بنى آدم فيجوز خصاء البهائم وبه نقول فكما يجوز ذبح الحيوان لحاجة الناس الى لحمه فكذلك يجوز خصاء الحيوان اذا كان فى ذلك منفعة للناس
فان قلت لم لا يجوز خصاء بنى آدم وفيه منفعة ايضا قيل لا منفعة فيه لانه لا يجوز للخصى ان ينظر الى النساء كما لا يجوز للفحل كذا فى بستان العارفين
ثم اعلم ان النفس والشيطان والقوى الشريرة فى وجود الانسان كاليهود والنصارى فكما انه يلزم مجانبتهم وعدم موالاتهم لان الله تعالى عاداهم وامر بمعاداتهم فكذلك ما ذكر من النفس وغيرها لا يجوز موالاتها والحمل على هواها لانها تسوق الى النار نار جهنم ونار القطيعة فالمؤمن مأمور بالمعاداة لمن عادى الله تعالى مطلقا والا لم يصح ايمانه : وفى المثنوى
آنجه در فرعون بود اندر توهست ... ليك ازدرهات محبوس جهست
جه خرابت ميكند نفس لعين ... دور مى اندازدت سخت اين قرين
آتشت را هيزم فرعون نيست ... زانكه جون فرعون اوراعون نيست
يعنى ان فرعون ساعده اسباب الدعوى والهوى ولذلك قال ما قال وفعل ما فعل واما انت فليس لك الاسباب مساعدة ولا تجد عونا فى هواك ولذا لا تظهر صورة ما اظهره(3/274)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{ يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } هذا من الكائنات التى اخبر عنها القرآن قبل وقوعها روى انه ارتد عن الاسلام احدى عشرة فرقة ثلاث فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوا مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو اسود العنسى كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده حتى اخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل معاذ بن جبل وسادات اليمن فكتب عليه السلام الى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وامرهم ان يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النهوض الى حرب الاسود فقتله فيروز الديلمى على فراشه قال ابن عمر فأتى الخبر النبى عليه السلام من السماء الليلة التى قتل فيها فقال عليه الصلاة والسلام « قتل الاسود البارحة قتله رجل مبارك » قيل ومن هو قال « فيروز » فبشر عليه السلام اصحابه بهلاك الاسود وقبض عليه السلام من الغد واتى خبر مقتل العنسى المدينة فى آخر شهر ربيع الاول وكان ذلك اول فتح جاء ابا بكر رضى الله عنه والفرقة الثانية من المرتدين بنوا حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان قد تنبأ فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر سنة عشر من الهجرة زعم انه اشرك مع رسول الله فى النبوة وكتب الى النبى عليه السلام من مسلمة رسول الله الى محمد رسول الله اما بعد فان الارض نصفها لى ونصفها لك وبعث بذلك الكتاب رجلين من اصحابه فقال لهما رسول الله عليه السلام « لولا ان الرسل لا تقتل لضربت اعناقكما » ثم اجاب « من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب اما بعد فان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » فمرض عليه السلام وتوفى فبعث ابو بكر خالد بن الوليد الى مسيلمة الكذاب فى جيش كثير حتى اهلكه الله على يدى وحشى غلام مطعم بن عدى قاتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد وكان وحشى يقول قتلت خير الناس فى الجاهلية وشر الناس فى السلام يريد فى جاهليتى واسلامى . والفرقة الثالثة بنوا اسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة فى حياة رسول الله عليه السلام واول من قوتل بعد وفاته عليه السلام من اهل الردة فبعث ابو بكر خالد بن الوليد فهزمهم خالد بعد قتال شديد وافلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام ثم انه اسلم بعد ذلك وحسن اسلامه ثم ان الله تعالى لما قبض نبيه عليه السلام ارتد عامة العرب الا اهل مكة واهل المدينة واهل البحرين من عبد القيس فقال المرتدون اما الصلاة فنصلى واما الزكاة فلا نغصب اموالنا فكلم ابو بكر فى ذلك فقال والله لا افرق بين ما جمع الله تعالى بقوله(3/275)
{ اقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } والله لو منعونى عتودا مما ادوا الى رسول الله لقاتلتهم عليه فبعث الله عز وجل عصائب مع ابى بكر رضى الله عنه فقاتل على ما قاتل عليه نبى الله حتى اقروا بالزكاة المفروضة
قال انس بن مالك كرهت الصحابة قتال مانعى الزكاة قالوا هم اهل القبلة فتقلد ابو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على اثره
وقال ابن مسعود رضى الله عنه كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه فى الانتهاء وقيل ما ولد بعد النبيين مولود افضل من ابى بكر لقد قام مقام نبى فى قتال اهل الردة : قال الشيخ العطار فى نعت ابى بكر رضى الله عنه
هرجه بود از باركاه كبريا ... ريخت در صدر شريف مصطفا
آن همه درسينه صديق ريخت ... لاجرم تابود ازوتحقيق ريخت
وقال الحسن لولا ما فعل ابو بكر لالحد الناس فى الزكاة الى يوم القيامة
قال فى الاشباه المعتمد فى المذهب عدم الاخذ كرها
قال فى المحيط ومن امتنع عن اداء الزكاة فالساعى لا يأخذ منه كرها ولو أخذ لا يقع المأخوذ عن الزكاة لكونها بلا اختيار ولكن يجبره بالحبس ليؤدى بنفسه { فسوف يأتى الله } مكانهم بعد اهلاكهم { بقوم يحبهم } اى يريد بهم خير الدنيا والآخرة { ويحبونه } اى يريدون اطاعته ويتحرزون عن معاصيه قيل هم اهل اليمن قال عليه السلام « الايمان يمان والحكمة يمانية » وانما نسب الايمان اليهم اشعارا بكماله فيهم لان من اتصف بشىء وقوى قيامه به نسب ذلك الشىء اليه لا ان يكون فى ذلك نفى له عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام « الايمان فى اهل الحجاز » ثم ان المراد بذلك الموجودون منهم فى ذلك الزمان لا كل اهل اليمن فى كل الاحيان كذا فى شرح المشارق لابن الملك
وقيل هم الانصار رضى الله عنهم
وقيل هم اهل فارس وفى الحديث « لو كان الايمان معلقا بالثريا لناله ابناء فارس » وفيه فضيلة لهذه القبيلة { اذلة على المؤمنين } جمع ذليل اى ارقاء ورحماء متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى لتضمين معنى العطف والحنو { اعزة على الكافرين } اى اشداء متغلبين عليهم من عزه اذا غلبه { يجاهدون فى سبيل الله } صفة اخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مع ما بعدها لكيفية عزتهم { ولا يخافون لومة لائم } عطف على يجاهدون بمعنى انهم جامعون بين المجاهدة فى سبيل الله وبين التصلب فى الدين . وفيه تعريض بالمنافقين فانهم اذا خرجوا فى جيش المسلمين خافوا اولياءهم اليهود فلا يكادون يعملون شيأ يلحقهم فيه لوم من جهتهم واللومة المرة من اللوم وفيها وفى تنكير لائم مبالغتان كأنه قيل لا يخافون من شىء من اللومات الواقعة من أى لائم كان فالمبالغة الاولى انتفاء الخوف من جميع اللومات والثانية انتفاء الخوف من جميع اللوام كل ذلك لان النكرة فى سياق النفى تعم { ذلك } اشارة الى ما تقدم من الاوصاف الجليلة التى وصف بها القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة فى سبيل الله وانتفاء خوف اللوم من كل واحد { فضل الله } اى لطفه واحسانه لا انهم مستقلون فى الاتصاف بها { يؤتيه من يشاء } ايتاءه اياه ويوفقه لكسبه وتحصيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة { والله واسع } كثر الفواضل والالطاف { عليم } مبالغ فى العلم بجميع الاشياء التى من جملتها من هو اهل للفضل والتوفيق : قال الحافظ(3/276)
سكندررا نمى بخشند آبى ... بزور وزر ميسر نيست اين كار
واعلم ان من السالكين من يقطع العقبات ويحرق الحجب فى سبعين سنة ومنهم من يقطعها فى عشرين سنة ومنهم من يحصل له فى سنة ومنهم من يقطعها فى شهر بل فى جمعة بل فى ساعة حتى ان منهم من تحصل له فى لحظة بتوفيق خاص وعناية سابقة أما تذكر سحرة فرعون ما كان مدتهم الا لحظة حيث رأوا معجزة موسى قالوا آمنا برب العالمين فابصروا الطريق وقطعوه حقه فصاروا من ساعة الى ساعة بل اقل من العارفين بالله وحكى ان ابراهيم بن ادهم كان على ما كان عليه من امر الدنيا فعدل عن ذلك وقصد الطريق الحق فلم يكن الا مقدار سيره من بلخ الى مرو والروذ حتى صار بحيث اشار الى رجل سقط من القنطرة فى الماء الكثير هنالك ان قف فوقف الرجل مكانه فى الهواء فتخلص
وان رابعة البصرية كانت امة كبيرة يطاف بها فى سوق البصرة لا يرغب فيها احد لكبر سنها فرحمها بعض التجار فاشتراها بنحو مائة درهم فاعتقها فاختارت الطريق الحق فاقبلت على العبادة فما تمت لها سنة حتى زارها قراء البصرة وعلماؤها لعظم منزلتها . واما الذى لم تسبق له العناية ولا توجهت له ولم يعامل بالفضل فيوكل الى نفسه فربما يبقى فى شعب من عقبة واحدة من العقبات سبعين سنة ولا يقطعها وكم يصيح وكم يصرخ ما اظلم هذا الطريق واشكله واعسر هذا الامر واعضله
فان قلت لم اختص هذا بالتوفيق الخاص وحرم هذا وكلاهما مشتر كان فى ربقة العبودية فعند هذا السؤال تنادى من سرادق الجلال ان الزم الادم واعرف سر الربوبية وحقيقة العبودية فانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ذلك تقدير العزيز العليم وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
رضابداده بده وزجبين كره بكشاى ... كه برمن وتودراختيار نكشادست
اللهم اجعلنا ممن سبقت له العناية وتقدم فى حقه التوفيق الخاص والهداية آمين يا رب العالمين(3/277)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
{ انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } اى لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء لان بعضهم اولياء بعض وليسوا باوليائكم انما اولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تخطئوهم الى الغير
قال فى التأويلات النجمية فموالاة الله فى معاداة ما سوى الله كما قال الخليل عليه السلام { فانهم عدو لى الا رب العالمين } وموالاة الرسول فى معاداة النفس ومخالفة الهوى كما قال عليه السلام « لا يؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » وقال « لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من نفسه وماله وولده والناس اجمعين » وموالاة المؤمنين فى مؤاخاتهم فى الدين كقوله تعالى { انما المؤمنون اخوة } وقال عليه السلام « لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه » { الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة } بدل من الذين آمنوا { وهم راكعون } حال من فاعل الفعلين اى يعملون ما ذكر من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى والمقصود تمييز المؤمن المخلص ممن يدعى الايمان ويكون منافقا لأن الاخلاص انما يعرف بكونه مواظبا على الصلاة والزكاة فى حال الركوع اى فى حال الخشوع والاخبات لله تعالى(3/278)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } اى ومن يتخذهم اولياء { فان حزب الله هم الغالبون } اى فانهم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه وكأنه قيل ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتشريفا لهم باضافتهم اليه تعالى وتعريضا بمن يوالى غير هؤلاء بانه حزب الشيطان وحزب الرجل اصحابه والحزب الطائفة يجتمعون لأمر حزبهم اى اصابهم . واعلم ان الغلبة على اعداء الله الظاهرة والباطنة كالهوى والنفس والشيطان انما تحصل بنصرة الله تعالى كما قال تعالى { ان تنصروا الله ينصركم } وليست النصرة والغلبة الا بتأثير الله تعالى وهو المعز وكل العزة منه تعالى وروى ان الله تعالى شكا من هذه الامة ليلة المعراج شكايات . الاولى انى لم اكلفهم عمل الغد وهم يطلبون منى رزق الغد . والثانية انى لا ارفع ارزاقهم الى غيرهم وهم يرفعون عملهم الى غيرى . والثالثة انهم يأكلون رزقى ويشكرون غيرى ويخونون معى ويصالحون خلقى . والرابعة ان العزة لى وانا المعز وهم يطلبون العزة من سواى . والخامسة انى خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون ان يوقعوا انفسهم فيها فمن اتبع هوى النفس ولم يهتم لتزكيتها فقد سعى فى الحاق نفسه بزمرة الاعداء فلم يكن منصورا البتة اذ لا يحصل من الجسارة الا الخسارة والهوى مقتضى النفس والنفس ظلمانية ولا يتولد من الظلمانى الا الظلمة : قال فى المثنوى
عكس نورانى همه روشن بود ... عكس ظلمانى همه كلخن بود
عكس هركس رابدان اىدوربين ... بهلوى جنسى كه خواهى مى نشين
فعلى المؤمن ان يجتهد بالصوم والصلاة ووجوه العبادات الى ان يزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ويغلب الاعداء الباطنة والغلبة عليها مفتاح الغلبة على الاعداء الظاهرة ولذا ترى الانبياء والاولياء منصورين مظفرين على كل حال وهذه النصرة والولاية من آثار عناية الله السابقة فكما ان من رش عليه من نور الازل لم ير ظلمة ابدا كذلك من لم يهتد ذلك النور فى بداية الامر لم يصل الى المراد الى آخر العمر : قال الحافظ
بآب زمزم وكوثر سفيد نتوان كرد ... كليم بخت كسىرا كه بافتند سياه(3/279)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
{ يا ايها الذين آمنوا } روى ان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث اظهرا الاسلام ثم نافقا وكان رجال من المؤمنين يوادونهما فنهاهم الله تعالى عن الموالاة وقال { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } قوله الذين اتخذوا مفعول اول لقوله لا تتخذوا ومفعوله الثانى قوله اولياء ودينكم مفعول اول لقوله اتخذوا وهزوا مفعوله الثانى . والهزؤ السخرية والاستهزاء واللعب بالفارسية [ بازى ] ومعنى اتخاذهم دين المسلمين مهزوا به وتلاعبهم به اظهارهم ذلك باللسان مع الاصرار على الكفر فى القلب وقد رتب النهى عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا ولعبا ايماء الى العلة وتنبيها على ان من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة { من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } بيان للمستهزئين ومن قبلكم متعلق باوتوا { والكفار } بالنصب عطف على الموصول الاول والمراد المشركون خصوا به لتضاعف كفرهم فالنهى عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كاهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين { اولياء } وجانبوهم كل المجانبة { واتقوا الله } فى ذلك بترك موالاتهم { ان كنتم مؤمنين } اى حقا لان الايمان يقتضى الاتقاء(3/280)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{ واذا ناديتم الى الصلوة اتخذوها } اى الصلاة والمناداة { هزوا ولعبا } كان المؤذنون اذا اذنوا للصلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم وتغامزوا سفها واستهزاء بالصلاة وتجهيلا لاهلها وتنفيرا للناس عنها وعن الداعى اليها { ذلك } اى الاستهزاء المذكور المستقر { بانهم قوم لا يعقلون } اى بسبب عدم عقلهم فان السفه يؤدى الى الجهل بمحاسن الحق والهزء به ولو كان لهم عقل فى الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة : وفى المثنوى
كشتى بى لنكر آمد مردشر ... كه زباد كز نيابد اوحذر
لنكر عقلست عافل را امان ... لنكرى دريوزه كن ازعاقلان
قال العلماء ثبوت الاذان ليس بالمنام وحده بل هو ثابت بنص هذه الآية فان المعنى اذا دعوتم الناس الى الصلاة بالاذان والنداء الدعاء بارفع الصوت . وفى الاذان حكم منها اظهار شعائر الاسلام وكلمة التوحيد والاعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها والدعاء الى الجماعة الى غير ذلك ولو وجد مؤذن حسن الصوت يطلب على اذانه الاجر والرزق وآخر يتبرع بالاذان لكن غير حسن الصوت فايهما يؤخذ ففيه وجهان اصحهما انه يرزق حسن الصوت فان لحسن الصوت تأثيرا كما ان لقبحه تغييرا وتنفيرا : وفى المثنوى
يك مؤذن داشت بس اوآزبد ... درميان كافرستان بانك زد
جند كفتندش مكو بانك نمار ... كه شود جنك وعداوتها دراز
اوستيزه كرد وبس بى احتراز ... كفت در كافر ستان بانك نماز
خلق خائف شد زفتنه عامه ... خود بيامد كافرى باجامه
شمع وحلوا باجنان جامه لطيف ... هديه آورد وبيامد جون أليف
برس برسان كين مؤذن كوكجاست ... كه صلا وبانك او راحت فزاست
دخترى دارم لطيف وبس سنى ... آرزو مى بود اورا مؤمنى
هيج اين سودانمى رفت ازسرش ... بندها مىداد جندين كافرش
هيج جاره مى ندانستم دران ... تافر وخواند اين مؤذن آن اذان
كفت دخترجيست اين مكروه بانك ... كه بكوشم آمداين دوجار دانك
من همه عمراين جنين آواز زشت ... هيج نشنيدم درين ديرو كنشت
خواهرش كفتا كه اين بانك اذان ... هست اعلام درشعار مؤمنان
باورش نامد بيرسيد ازدكر ... آن ديكرهم كفت آرى اىبدر
جون يقين كشتش رخ اوزردشد ... از مسلمانى دل او سرد شد
بازرستم من زتشويش وعذاب ... دوش خوش خفتم دران بى خوف خواب
راحتم اين بود از آواز او ... هديه آوردم بشكر آن مردكو
جون بديدش كفت اين هديه بذير ... كه مرا كشتى مجيرو دستكيز
كربمال ملك وثروت فردمى ... من دهانت را براززر كردمى
ورد فى التأذين فضائل وفى الحديث « اول الناس دخولا الجنة الانبياء ثم الشهداء ثم بلال »(3/281)
مع مؤذنى الكعبة ثم مؤذنوا بيت المقدس ثم مؤذنوا مسجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم سائر المؤذنين على قدر أعمالهم وفى الحديث « ثلاثة لا يكترثون من الحساب ولا تفزعهم الصيحة ولا يحزنهم الفزع الاكبر حامل القرآن العامل بما فيه يقدم على الله سيدا شريفا ومؤذن اذن سبع سنين لا يأخذ على اذانه طعما وعبد مملوك احسن عبادة ربه وادى حق مولاه » واذا اجتمع الاذان والامامة فى شخص فالامامة افضل لمواظبة النبى عليه السلام عليها وانما أم ولم يؤذن لانه عليه السلام لو اذن لكان كل من تخلف عن الاجابة كافرا ولانه لو كان داعيا لم يجز ان يشهد لنفسه ولانه لو اذن وقال اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله لتوهم ان ثمة نبيا غيره ولأن الاذان رآه غيره فى المنام فولاه الى غيره وايضا انه عليه السلام كان اذا عمل عملا اثبته اى جعله ديمة وكان لا يتفرغ لذلك لاشتغاله بتبليغ الرسالة وهذا كما قال سيدنا عمر رضى الله عنه لولا الخليفى لاذنت
وكره اللحن فى الاذان لما روى ان رجلا جاء الى ابن عمر رضى الله عنهما فقال انى احبك فقال انى ابغضك فى الله فقال لم فقال لانه بلغنى انك تغنى فى اذانك يعنى تلحن وذلك مثل ان يقول آلله بمد الالف الاولى لانه استفهام وشك وان يقول اكبار بمد الباء لانه اسم الشيطان وغير ذلك الى آخر كلمات الاذان
واجابة المؤذن واجبة على كل من سمعه وان كان جنبا او حائضا اذ لم يكن فى الخلاء او فى الجماع
وذكر تاج الشريعة ان اجابة المؤذن سنة
وقال النووى مستحبة فيقول بمثل ما يقول المؤذن وضعف تقبيل ظفرى ابهاميه مع مسبحتيه والمسح على عينيه عند قوله محمد رسول الله لانه لم يثبت فى الحديث المرفوع لكن المحدثين اتفقوا على ان الحديث الضعيف يجوز العمل به فى الترغيب والترهيب فقط ويقول عند حى على الصلاة « لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم » وعند حى على الفلاح « ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن » وعند قوله الصلاة خير من النوم « صدقت وبالخير نطقت » وفى قوله قد قامت الصلاة « اقامها الله وادامها » وحين ينتهى الى قوله قد قامت الصلاة يجيب بالفعل دون القول وروى عن ميمونة رضى الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بين صف الرجال والنساء فقال « يا معشر النساء اذا سمعتن اذا هذا الحبشى واقامته فقلن كما يقول فان لكن بكل حرف الف درجة » قال عمر رضى الله عنه هذا فى النساء فما للرجال قال(3/282)
« ضعفان يا عمر » قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى حبذا الكلام ونعم النداء الاذان فعند قوله الله أكبر الله اكبر « لو انكشف وتجلى عظمة الله تعالى وكبرياؤه » وعند قوله اشهد ان لا اله الا الله « لو انكشف وحدانيته » وعند اشهد ان محمدا رسول الله « لو انكشف حقانيته » وعند الحيعلتين « لو ظهر الطلب من الطالب الى المطلوب » وعند الله اكبر الله اكبر لا اله الا الله « لو تجلى الذات لتم المقصود وحصل المراد » انتهى
ومن فضائل الاذان انه لو اذن خلف المسافر فانه يكون فى امان الى ان يرجع . وان اذن فى اذن الصبى واقيم فى اذنه الاخرى اذا ولد فانه امان من ام الصبيان واذا وقع هذا المرض ايضا وكذا اذا وقع حريق او هجم سيل او برد او خاف من شىء كما فى الاسرار المحمدية
والاذان اشارة الى الدعوة الى الله حقيقة والداعى هو الوارث المحمدى يدعو اهل الغفلة والحجاب الى مقام القرب ومحل الخطاب فمن كان اصم عن استماع الحق استهزأ بالداعى ودعوته لكمال جهالته وضلالته ومن كان ممن القى السمع وهو شهيد يقبل الى دعوة الله العزيز الحميد وينجذب الى حضرة العزة ويدرك لذات شهود الجمال ويغتنم مغانم اسرار الوصال
جوانا سرمتات ازبند بيران ... كه رأى بيرت ازبخت جوان به(3/283)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
{ قل يا اهل الكتاب } روى ان نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه السلام « اؤمن بالله وما انزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما اوتى موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون » فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا لا نعلم اهل دين اقل حظا فى الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فانزل الله هذه الآية اى قل لهؤلاء اليهود الفجرة { هل تنقمون منا } من نقم منه كذا اذا عابه وانكره وكرهه اى ما تعيبون وما تنكرون منا ديننا لعلة من العلل { الا ان آمنا بالله } اى الا لان آمنا بالله فهو مفعول له لتنقمون على حذف المفعول به الذى هو الدين { وما انزل الينا } من القرآن المجيد { وما انزل من قبل } انزاله من التوراة والانجيل وسائر الكتب الالهية { وان اكثركم فاسقون } عطف على ان آمنا اى ولان اكثركم متمردون خارجون عن الايمان بما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به واسناد الفسق الى اكثرهم مع ان كلهم فاسقون لانهم الحاملون لاعقابهم على التمرد والفساد وقيل هو عطف على ان آمنا على انه مفعول به لكن لا على ان المستثنى مجموع المعطوفين بل هو ما يلزمهما من المخالفة كأنه قيل ما تكرهون من جهتنا الا الايمان بالله وبجميع كتبه المنزلة والا مخالفتكم حيث دخلنا الايمان وانتم خارجون منه(3/284)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
{ قل هل انبئكم } الخطاب لليهود { بشر من ذلك } الاشارة الى المنقوم وهو الايمان والمنقوم منهم المؤمنون اى هل اخبركم بما هو شر فى الحقيقة لا ما تعتقدونه شرا وان كان فى نفسه خيرا محضا
قال ابن الشيخ ومن المعلوم قطعا انه لا شر فى دين الاسلام فالمراد الزيادة المطلقة { مثوبة عند الله } اى جزاء ثابتا فى حكمه تعالى والمثوبة مختصة بالخبر كالعقوبة مختصة بالشر فوضعت ههنا موضعها على طريق التهكم ونصبها على التمييز من بشر { من لعنه الله وغضب عليه } خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما اشير اليه بكلمة ذلك اى هو دين من لعنه الله وهو اليهود وابعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم فى المعاصى بعد وضوح الآيات { وجعل منهم القردة والخنازير } اى مسخ بعضهم قردة فى زمن داود عليه السلام بدعائه عليهم حين اعتدوا فى السبت واستحلوه ومسخ بعضهم خنازير فى زمن عيسى عليه السلام بعد اكلهم من المائدة وحين كفروا بعد ما رأوا الآيات البينة
وقيل كلا المسخين فى اصحاب السبت مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود يا اخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤسهم وافتضحوا { وعبد الطاغوت } عطف على صلة من وضميره المستكن يعود الى من أى اطاع الشيطان فيما سول له { اولئك } الموصوفون بتلك القبائح والفضائح { شر مكانا } جعل مكانهم شرا ليكون ابلغ فى الدلالة على شرارتهم { واضل عن سواء السبيل } عطف على شر مقرر له اى اكثر ضلالا عن الطريق المستقيم . وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لان ما يسلكونه من الطريق دينهم فاذا كانوا اضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه وصيغة التفضيل فى الموضعين للزيادة مطلقة لا بالاضافة الى من يشاركهم فى اصل الشرارة والضلال
وعلم ان كل صنف من الناس يفرح بما لديه ويبغض الآخر بما هو عليه ولكن الحق احق ان يتبع فالمؤمن يحب المؤمن فان المحبة من الاخلاق الحسنة والاوصاف الشريفة وفى الحديث « ان من عباد الله عبادا ما هم بانبياء وشهداء يغبطهم الانبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى » قالوا يا رسول الله اخبرنا من هم وما اعمالهم فلعلنا نحبهم قال « هم قوم تحابوا فى الله على غير ارحام منهم ولا اموال يتعاطون فوالله ان وجوههم انوار وانهم يعلون منابر من نور لا يخافون اذا خاف الناس ولا يحزنون اذا حزن الناس »
وسئل عبد الله السالمى بأى شىء يعرف اولياء الله من بين عباده فقال بلطافة اللسان وحسن الخلق وبشاشة الوجه وسخاوة النفس وقلة الاعتراض وقبول الاعتذار وكمال الشفقة على عامة الخلق : قال الحافظ(3/285)
تاج شاهى طلبى كوهر ذاتى بنماى ... ورخوداز كوهر جمشيدوفريدون باشى
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى لا تزال البغضاء بين البيراميين وبين الخلوتية وكذا بينهم وبين اتباع السيد البخارى مع ان البغضاء لا تليق باهل الحق ألا يرى انا لم نسمع من دور آدم الى خاتم النبيين عليهم السلام نوع بعض بين نبيين اصلا مع انه قد يتفق فى بعض الاوقات ان يجتمع ثلاثة واربعة من الانبياء وكذا اتباعهم لا يطعنون فى واحد منهم : قال السعدى
دلم خانه مهر يارست وبس ... ازان مى نكنجد دروكين كس
قال بعضهم القلوب ثلاثة . قلب يطير فى الدنيا حول الشهوات . وقلب يطير فى العقبى حول الكرامات . وقلب يطير فى سدرة المنتهى حول المناجاة : قال الحافظ
غلام همت رندان بى سروبايم ... كه هردوكون نيرزدبه بيش شان يك كاه
فعلى العاقل ان يشتغل بالتوحيد كى يتخلص من ظلمات النفس وهواها والشيطان ووساوسه
نظر عمر بن الخطاب الى شاب فقال يا شاب ان وقيت شر ثلاثة فقد وقيت شر الشيطان ان وقيت لقلقك وقبقبك وذبذبك . قال الاصمعى اللقلق اللسان والقبقب البطن والذبذب الفرج(3/286)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{ واذا جاؤكم قالوا آمنا } نزلت فى ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الايمان نفاقا فالخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والجمع للتعظيم اوله مع من عنده من المسلمين اى اذا جاؤكم اظهروا الاسلام { وقد } اى والحال انهم قد { دخلوا } ملتبسين { بالكفر وهم قد خرجوا } من عندك ملتبسين { به } اى بالكفر كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك { والله اعلم بما كانوا يكتمون } من الكفر وصيغة التفضيل لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يظن نفاقهم من اماراته اللائحة عليهم ويتوقع انه يظهره الله : وفى المثنوى
نيست بازى بامميز خاصه او ... كه بود تمييز عقلش غيب كو
هيج سحروهيج تلبيس ودغل ... مى نبندد برده براهل دول(3/287)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
{ وترى } يا محمد رؤية بصرية { كثيرا منهم } اى من اليهود والمنافقين حال كونهم { يسارعون فى الاثم } اى الكذب على الاطلاق وايثار كلمة فى على كلمة الى للدلالة على انهم مستقرون فى الاثم وانما مسارعتهم من بعض مراتبه الى بعض آخر منها كقوله تعالى { اولئك يسارعون فى الخيرات } لا انهم خارجون منه متوجهون اليه كما فى قوله تعالى { وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة } { والعدوان } اى الظلم المتعدى الى الغير { واكلهم السحت } اى الحرام { لبئس ما كانوا يعملون } اى لبئس شيأ كانوا يعملونه والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار(3/288)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{ لولا } حرف تحضيض { ينهاهم الربانيون والاحبار } المراد بهم العلماء الا ان الربانى الزاهد العارف الواصل والحبر العالم العامل المقبول { عن قولهم الاثم } وهو قولهم آمنا وليسوا بمؤمنين { واكلهم السحت } مع علمهم بقبحها ومشاهدتهم لبماشرتهم لها { لبئس ما كانوا يصنعون } هو ابلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون لان الصنع اقوى من العمل فان العمل انما يسمى صناعة اذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم من عمل الاثم والعدوان واكل السحت ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهى عن المنكر ذنبا راسخا وفى الآية مما ينعى على العلماء من توانيهم فى النهى عن المنكرات ما لا يخفى : قال الشيخ السعدى
كرت نهى منكر برآيد زدست ... نشايد جوبى دست وبايان نشست
جو دست وزبانرا نماند مجال ... بهمت نمانيد مردى رجال
قال عمر بن عبد العزيز ان الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن اذا اظهروا المعاصى فلم ينكروا استحق القوم جميعا للعقوبة ولولا حقيقة هذا المعنى فى التوبيخ على المشايخ والعلماء فى ترك النصيحة لما اشتغل المحققون بدعوة الخلق وتربيتهم لاستغراقهم فى مشاهدة الحق ومؤانستهم به
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره السالك اذا وصل الى الحقيقة اما ان يرسل للارشاد او يبقى فى حضور الوصلة ولا يريد الفرقة كالشيخ ابى يزيد البسطامى فانه لا يختر الارشاد ولكن الارشاد طريقة الانبياء عليهم السلام فانه ما من نبى الا وهو قد بعث وارسل لارشاد الخلق ولم يبق فى عالم الحضور : قال فى المثنوى خطابا من قبل الله تعالى الى حضرة النبى عليه السلام
هين بمكذار اى شفا رنجوررا ... تو زخشم كور عصاى كوررا
نى توكفتى قائد اعمى براه ... صد ثواب واجر يابد ازاله
هركه اوجل كام كورى راكشد ... كشت آمر زيده ويابد رشد
بس بكش توزين جهان بى قرار ... جوق كورانرا قطار اندر قطار
كار هادى اين بود توهادىء ... ماتم آخر زمانرا شادىء
هين روان كن اى امام المتقين ... اين خيال انديشكانرا تايقين
خيز دردم توبصور سهمناك ... تاهزاران مرده بررويد زخاك
واهل الحقيقة والعلماء العاملون المتجردون عن الغرض سوى اعلاء كلمة الله تعالى محفوظون فى اقوالهم وافعالهم وحكى ان زاهدا من التابعين كسر ملاهى مروان بن الحكم الخليفة فاتى له به فامر بان يلقى بين يدى الاسد فالقى فلما دخل ذلك الموضع افتتح الصلاة فجاءت الاسد وجعلت تحرك ذنبها حتى اجتمع عليه ما كان في ذلك الموضع من الاسد فجعلت تلحسه بألسنتها وهو يصلى ولا يبالى فلما اصبح مروان قال ما فعل بزاهدنا قيل القى بين الاسد قال انظروا هل اكلته فجاؤوا فوجدوا الاسد قد استأنست به فتعجبوا من ذلك فاخرجوه وحملوه الى الخليفة فقال له اما كنت تخاف منها قال لا كنت مشغولا متفكرا طول الليل لم اتفرغ الى خوفهم فقال له فيماذا تتفكر قال فى هذه الاسد حيث جاءتنى تلحسنى بألسنتها فكنت اتفكر ألعابها طاهر ام نجس فتفكرى فى هذا منعنى عن الخوف منها فتعجب منه فخلى سبيله كذا فى نصاب الاحتساب(3/289)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{ وقالت اليهود } قال المفسرون ان الله تعالى قد بسط النعمة على اليهود حتى كانوا من اكثر الناس مالا واخصبهم ناحية فلما عصوا الله فى شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة فعند ذلك قالت اليهود { يد الله مغلولة } اى مقبوضة ممسكة عن العطاء . وغل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد فى ذلك الى اثبات يد وغل او بسط قال الله تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك } اى لا تمسكها عن الانفاق { غلت ايديهم } دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكة اى امسكت ايديهم عن الانفاق فى الخير وجعلوا بخلاء واليهود ابخل الناس ولا امة ابخل منهم { ولعنوا } اى ابعدوا وطردوا من رحمة الله تعالى { بما قالوا } اى بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء وهذا الدعاء عليهم تعليم للعباد والا فهو اثر العجز تعالى الله عن ذلك علوا كبير { بل يداه مبسوطتان } اى ليس شأنه عز وجل كما وصفتموه بل هو موصوف بغاية الجود ونهاية الفضل والاحسان وهذا المعنى انما يستفاد من تثنية اليد فان غاية ما يبذله السخى من ماله ان يعطيه بيديه جميعا ويد الله من المتشابهات وهى صفة من صفات الله تعالى كالسمع والبصر والوجه ويداه فى الحقيقة عبارة عن صفاته الجمالية والجلالية وفى الحديث « كلتا يديه يمين »
اديم زمين سفره عام اوست ... برين خوان يغما جه دشمن جه دوست
{ ينفق كيف يشاء } اى هو مختار فى انفاقه يوسع تارة ويضيق اخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصى ان يضيق عليهم : وفى المثنوى
جونكه بدكردى بترس ايمن مباش ... زانكه تخسمت وبروياند خداش
جند كاهى او بيوشاند كه تا ... آيدت زان بديشيمان وحيا
بارها بوشد بى اظهار فضل ... باز كيرد ازبى اظهار عدل
تاكه اين هر دوصفت ظاهرشود ... آن مبشر كردد اين منذر شود
{ وليزيدن كثيرا منهم } وهم علماؤهم ورؤساؤهم . قوله كثيرا مفعول اول ليزيدن { ما انزل اليك من ربك } وهو القرآن وما فيه من الاحكام وهو فاعل يزيدن { طغيانا وكفرا } مفعول ثان للزيادة اى ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين اما من حيث الشدة والغلو واما من حيث الكم والكثرة اذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار كما ان الطعام الصالح للاصحاء يزيد المرضى مرضا { والقينا بينهم } اى بين اليهود فان بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة اما الجبرية فهم الذين ينسبون فعل العبد الى الله تعالى ويقولون لا فعل للعبد اصلا ولا اختيار وحركته بمنزلة حركة الجمادات .(3/290)
واما القدرية فهم الذين يزعمون ان كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصى بتقدير الله . واما المرجئة فهم الذين لا يقطعون على اهل الكبائر بشىء من عفو او عقوبة بل يرجعون الحكم فى ذلك اى يؤخرونه الى يوم القيامة واما المشبهة فهم الذين شبهوا الله تعالى بالمخلوقات ومثلوه بالمحدثات { العداوة والبغضاء } اى جعلناهم مختلفين فى دينهم متباغضين كما قال تعالى { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق اقوالهم والجملة مبتدأة مسوقة لازاحة ما عسى يتوهم فى ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على امر يؤدى الى الاضرار بالمسلمين . قيل العداوة اخص من البغضاء لان كل عدو مبغض بلا عكس كلى { الى يوم القيمة } متعلق بالقينا { كلما اوقدوا نارا للحرب } اى كلما ارادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم واثارة شر عليه { اطفأها الله } اى ردهم الله وقهرهم بان اوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم : وفى المثنوى خطابا من قبل الله تعالى الى حضرة صاحب الرسالة عليه السلام
هركه درمكر تودارد دل كرو ... كردنش را من زنم توشاد شو
بر سر كوريش كوريهانهم ... اوشكر بندارد وزهرش دهم
جيست خود آلاجق آن تركمان ... بيش باى نره بيلان جهان
آن جراغ اوبه بيش صرصرم ... خودجه باشد اى مهين بيغمبرم
{ ويسعون فى الارض فسادا } اى يجتهدون فى الكيد للاسلام واهله واثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بايقاد نار الحرب . وفسادا اما مفعول له او فى موضع المصدر اى يسعون للفساد او يسعون سعى فساد { والله لا يحب المفسدين } ولذلك اطفأ نائرة افسادهم ولا يجازيهم الا شرا
وعلم ان الله تعالى مهما وكل الانسان الى حساسة طبعه وركاكة نظره وعقله فلا يترشح منه الا ما فيه من الاقوال الشنيعة والافعال الرذيلة ولذلك قالت اليهود يد الله مغلولة : ونعم ما قال فى المثنوى
درزمين كرنيشكرورخودنى است ... ترجمان هر زمين نبت وى است
واهل الحسد يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ولكن لا يزيدهم الحسد الا الطغيان فكما ان مصائب قوم عند قوم فوائد كذلك فوائد قوم عند قوم مصائب
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ان جماعة السيد البخارى حسدوا لنا حتى قصدوا القتل بالسلاح واشتغلوا بالاسماء القهرية على حسب طريقهم فلم اقاتل دفعا للفتنة ثم رأيت فى موضع قرب جامع السيد البخارى قد اخذ طريقى ماء عظيم فلم يبق الا طريق ضيق فلما قربت منه لم يبق اثر من الماء ثم انه مات كثير من تلك الجماعة ولكن لم اباشر انا فى حقهم شيأ قال كيف اميل الى مشيختهم وتصرف ثمانية عشر الف عالم بيدى بقدرة الله تعالى فى الباطن وان كنت عاجزا فى الظاهر وحكى ان مولانا جلال الدين اشتغل عند صلاح الدين شركوه بعد المفارقة من شمس الدين التبريزى فلما سمعه بعض اتباع مولانا ارادوا قتله فارسل اليه مولانا ابنه السلطان ولد فقال الشيخ صلاح الدين ان الله تعالى اعطانى قدرة على قلب السماء الى الارض فلو اردت اهلكتهم بقدرة الله تعالى لكن الاولى ان ندعو لاصلاحهم فدعا الشيخ فامن السلطان ولد فلانت قلوبهم واستغفروا اللهم بحق اصفيائك خلصنا من رذائل الاوصاف وسفساف الاخلاق انك انت القادر الخلاق(3/291)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
{ ولو ان اهل الكتاب } اى اليهود والنصارى { آمنوا } بما يجب به الايمان { واتقوا } من المعاصى مثل الكذب واكل السحت ونحو ذلك { لكفرنا عنهم سيآتهم } اى لعفونا عنهم وسترنا عليهم ذنوبهم وهو الخلاص من العذاب { ولادخلناهم جنات النعيم } اى ولجعلناهم خالدين فيها وهو الظفر بالثواب . وفيه تنبيه على ان الاسلام يجب ما قبله وان جل وان الكتابى لا يدخل الجنة ما لم يسلم(3/292)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل } اى عملوا بما فيهما من التصديق بسيد المرسلين والوفاء لله تعالى بما عاهدوا فيهما واقامة الشىء عبارة عن رعاية حقوقه واحكامه كاقامة الصلاة { وما انزل اليهم من ربهم } من القرآن المجيد المصدق لكتبهم وايراده بهذا العنوان للتصريح ببطلان ما كانوا يدعون من عدم نزوله الى بنى اسرائيل { لاكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم } اى لوسع الله عليهم ارزاقهم بان يفيض عليهم بركات السماء والارض بانزال المطر واخراج النبات . وفيه تنبيه على ان ما اصابهم من الضنك والضيق انما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور فى فيض الفياض : وفى المثنوى
هين مراقب باش كردل بايدت ... كزبى هرفعل جيزى زايدت
اين بلا از كودنى آيدترا ... كه نكردى فهم نكته ورمزها
وكأنه قيل هل كلهم كذلك مصرون على عدم الايمان والتقوى والاقامة فقيل { منهم امة مقتصدة } اى طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة كعبد الله بن سلام واضرابه ممن آمن من اليهود وثمانية واربعين ممن آمن من النصارى . والاقتصاد فى اللغة الاعتدال فى العمل من غير غلو ولا تقصير { وكثير منهم } مقول فى حقهم { ساء ما } كانوا { يعملون } وفيه تعجب بحسب المقام اى ما اسوء عملهم من العناد والمكابرة وتحريف الحق والاعراض عنه
وفى الآية بيان ان التقوى سبب لتوسعة الرزق واستقامة الامر فى الدنيا والآخرة
قال عبد الله القلانسى ركبت سفينة فى بعض اسفارى فبدت ريح شديدة فاشتغل اهل السفينة بالدعاء والنذور واشاروا الىّ بالنذر ايضا فقلت انى مجرد عن الدنيا فالحوا علىّ فقلت ان خلصنى الله لا آكل لحم الفيل فقالوا من يأكل لحم الفيل حتى تكفه عن نفسك فقلت هكذا خطر ببالى فخلصنى الله بجماعة ورمانا الى ساحل البحر فمضى ايام لم نجد ما نأكل فبينا نحن جياع اذ ظهر جرو فيل فقتلوه واكلوا لحمه ولم آكل رعاية لنذرى وعهدى فالحوا علىّ فقالوا انه مقام الاضطرار فلم اقبل قولهم ثم ناموا فجاءت ام الجرو ورأت عظام ولدها وشمت الجماعة فردا فردا فكل من وجدت رائحته اهلكته ثم جاءتنى فلما لم تجد الرائحة وجهت الىّ ظهرها واشارت الىّ بالنزول فنزلت ولقيت وقت السحر جماعة فاخذونى الى البيت واضافونى فاخبرتهم قصتى على لسان ترجمان فقالوا من ذلك الموضع الى هنا مسيرة ثمانية ايام وقد قطعتها فى ليلة واحدة فظهر من هذه الحكاية انه برعاية جانب التقوى والوفاء بالعهد يستقيم امر المرء من جهة الدين والدنيا وان شهوة واحدة من شهوات الدنيا لها حزن طويل وكيد عظيم بل هلاك كما وقع لتلك الجماعة التى اكلوا جرو الفيل [ وقتى زنبورى موريرا ديدكه بهزار حيله دانه بخانه ميكشد ودران ربح بسيارمى دبداورا كفت اى مور اين جه رنجست كه برخود نهاده بياكه مطعم ومشرب من بين كه هر طعامكه لطيف ولذيذ ترست تازمن زياده نيايد بيادشاهان نرسد هرانجاكه خواهم نشينم وآنجه خواهم كزينم وخورم ودرين سخن بودكه بربريد وبدكان قصابى برمسلوخى نشست قصاب كه كارد دردست داشت بران زنبور مغرور زدد وباره كرد برزمين انداخت ومور بيامد وباى كشان اورامى بردو كفت « رب شهوة ساعة اورثت صاحبها حزنا طويلا » زنبور كفت مرابجايى مبركه نخواهم مور كفت هركه از روى حرص وشهوت جايى نشيندكه خواهد بجايى كشندش كه نخواهد ]
واعلم ان قوله تعالى { لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم } اشارة الى ما يحصل بالوهب الرحمانى وما يحصل بالكسب الانسانى فمن عمل بما علم واجتهد فى طريق الحق كل الاجتهاد ينال مراتب الاذواق والمشاهدات فيحصل له جنتان جنة العمل وجنة الفضل وهذا الرزق المعنوى هو المقبول : وفى المثنوى(3/293)
اين دهان بستى دهانى بازشد ... كه خورنده لقمهاى رازشد
كر زشيرو ديوتن را وابرى ... درفطام او بسى نعمت خورى
اللهم امدنا بفيض فضلك واحسانك(3/294)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{ يا أيها الرسول بلغ } جميع { ما انزل اليك من ربك } مما يتعلق بمصالح العباد فلا يرد ان بعض الاسرار الآلهية يحرم افشاؤه
قال ابو هريرة حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين من العلم فاما احدهما فقد بثثته واما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم والتحقيق ان ما يتعلق بالشريعة عام تبليغه وما يتعلق بالمعرفة والحقيقة خاص ولكل منهما اهل فهو كالامانة عند المبلغ يلزم دفعها الى اربابها { وان لم تفعل } اى ان لم تبلغ جميعه خوفا من ان ينالك مكروه { فما بلغت رسالته } لان كتمان بعضها ككتمان الكل والرسالة لا سبيل لها ان يبلغها الا باللسان فلذلك لم يرخص له فى تركها وان خاف فهذا دليل لقولنا فى المكره على الطلاق والعتاق اذا تكلم به وقع لان تعلق ذلك باللسان لا بالقلب والاكراه لا يمنع فعل اللسان فلا يمنع النفاذ كذا فى التيسير { والله يعصمك من الناس } امان من الله تعالى للنبى عليه السلام كيلا يخاف ولا يحذر كما روى فى الخبر ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخل المدينة قالت اليهود يا محمد انا ذووا عدد وبأس فان لم ترجع قتلناك وان رجعت ذودناك واكرمناك فكان عليه السلام يحرسه مائة من المهاجرين والانصار يبيتون عنده ويخرجون معه خوفا من اليهود فلما نزل قوله تعالى { والله يعصمك من الناس } علم ان الله يحفظه من كيد اليهود وغيرهم فقال للمهاجرين والانصار « انصرفوا الى رحالكم فان الله قد عصمنى من اليهود » فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يخرج وحده فى اول الليل وعند السحر الى اودية المدينة وحيث ما شاء يعصمه الله مع كثيرة اعدائه وقلة اعوانه وكان الشج والرباعية قبل ذلك او لان المراد العصمة من القتل وقد حفظه من ذلك واما سائر البلايا والمحن فذلك مما كان يجرى على سائر الانبياء والاولياء
قال الكرمانى ما وقع من الابتلاء والسقم فى الانبياء عليهم السلام لنيل جزيل الاجر وليعلم انهم بشر تصيبهم محن الدنيا وما يطرأ على الاجسام وانهم مخلوقون فلا يفتتن بما ظهر على ايديهم من المعجزات انتهى { ان الله لا يهدى القوم الكافرين } تعليل لعصمته عليه السلام اى لا يمكنهم مما يريدون لك من الاضرار . وفيه اشارة الى ان من سنة الله تعالى ان لا يهدى الى حضرته قوما جحدوا نبوة الانبياء وماقبلوا رسالة الرسل ليبلغوا اليهم من ربهم او انكروا على الاولياء وما استمسكوا بعروة ولايتهم ليوصلوهم الى الله تعالى سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وفى الآية ايضا اشارة الى ان من امتثل لامر الخالق يعصمه من مضرة المخلوق كما عصم النبى عليه السلام وابو بكر الصديق رضى الله عنه فى الغار حين الهجرة فاذا عصم الله من امتثل لامره يعصم ايضا من يستشفع برسوله عليه السلام ويهديه الى سواء الصراط حكى ان سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطأ الجيش بارض الروم واسر فانطلق هاربا يلتمس الجيش فاذا بالاسد فقال يا ابا الحارث انا سفينة مولى رسول الله فكان مرادى كيت وكيت فاقبل الاسد يتبصبص حتى قام الى جنبه كما سمع صوتا اهوى اليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الاسد : قال السعدى فى البستان(3/295)
يكى ديدم از عرصه رودبار ... كه بيش آمدم بريلنكى سوار
جنان هول ازان حال برمن نشست ... كه ترسيدنم باى رفتن ببست
تبسم كنان دست برلب كرفت ... كه سعدى مدار انجه آيد شكفت
توهم كردن از حكم داور مييج ... كه كردن نبيجد زحكم توهيج
محالست جون دوست داردترا ... كه دردست دشمن كذارد ترا
وعن جابر رضى الله عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض الغزوات فنزل مع قومه فى واد فتفرق الناس يستظلون بالاشجار وينامون واستظل عليه السلام بشجرة معلقا سيفه بغصنها فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فلما حضرنا رأينا اعرابيا فقال عليه السلام « ان هذا اخترط على سيفى وانا نائم فاستيقظت وهو فى يده صلتا فقال يمنعك منى فقلت الله » يعنى يمنعنى الله منك « فسقط السيف من يده فاخذته فقلت من يمنعك منى فقال كن خير آخذ » قال الراوى قال له النبى عليه السلام أتشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله قال لا ولكن اعاهدك على ان لا اقاتلك ولا اكون مع قوم يقاتلونك فخلى عليه السلام سبيله وفى الحديث كمال توكل النبى عليه السلام وتصديق قوله { والله يعصمك من الناس } واستحباب مقابلة السيئة بالحسنة كذا فى شرح المشارق لابن الملك رحمه الله تعالى(3/296)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{ قل } يا محمد مخاطبا ليهود والنصارى { يا اهل الكتاب لستم على شىء } اى دين يعتد به ويليق بان يسمى شيأ لظهور بطلانه ووضوح فساده { حتى تقيموا التوراة والانجيل } ومن اقامتهما الايمان بمحمد والاذعان لحكمه فان الكتب الآلهية باسرها آمرة بالايمان بما صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد اقامة اصولهما وما لم ينسخ من فروعهما { وما انزل اليكم من ربكم } اى القرآن المجيد بالايمان به ونسب الانزال اليهم لانهم كانوا يدعون عدم نزوله الى نبى اسرائيل { وليزيدن كثيرا منهم } وهم علماؤهم ورؤساؤهم { ما انزل اليك من ربك } اى القرآن { طغيانا وكفرا } على طغيانهم وكفرهم القديمين وهو مفعول ثان ليزيدن { فلا تأس على القوم الكافرين } اى فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه اليهم فان ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفى المؤمنين مندوحة لك عنهم
وفى الآية اشارة الى ان حقيقة الدين انما هى احكام ظاهرة وباطنة والتزين بالاعمال ظاهرا وبالاحوال باطنا وهذا لا يتصور الا بمقدمتين ونتائج اربع فاما المقدمتان فاولاهما الجذبة الآلهية وثانيتهما التربية الشيخية واما النتائج فاولاها الاعراض عن الدنيا وما يتعلق بها كلها وثانيتها التوجه الى الحق بصدق الطلب وهما من نتائج الجذبة ثم تزكية النفس عن الاخلاق الذميمة وتحلية القلب بالاخلاق الآلهية وهما من نتائج التربية الشيخية باستمداد القوة النبوة والقوم الكافرون هم اهل الانكار يتعلقون بظاهر الدين ولا يعرفون وراءه غاية وليس الامر كذلك فان لكل ظاهر باطنا : وفى المثنوى
فائده هرظاهرى خود باطنست ... همجو نفع اندر دواها كامنست
هيج خطاطى نويسد خط بفن ... بهر عبن خط نه بهر خواندن
كند بينش مى نبيند غير اين ... عقل اوبى سيرجون نبت زمين
نبت راجه خوانده جاه ناخوانده ... هست باى اوبكل درمانده
كرسرش جنبد بسير بادرو ... توبسر جنبانيش غره مشو
آن سرش كويد سمعنا اى صبا ... باى او كويد عصينا خلنا
والحامل على الانكار هو الحسد كما كان لطائفة اليهود والنصارى فلا بد من تزكية النفس من مثل هذا القبيح حكى ان تلميذا للفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسه وقرأ سورة يس فقال يا استاذ لا تقرأ هذه ثم سكت ثم لقنه فقال لا اله الا الله فقال لا اقولها لانى بريىء منها ومات على ذلك فدخل الفضيل منزله وجعل يبكى اربعين يوما لم يخرج من البيت ثم رآه فى النوم وهو يسحب الى جهنم فقال بأى شىء نزع الله المعرفة عنك وكنت اعلم تلاميذى فقال بثلاثة . اولها بالنميمة فانى قلت لاصحابى بخلاف ما قلت لك . والثانى بالحسد حسدت اصحابى . والثالث كان لى علة فجئت الى الطبيب وسألته عهنا فقال تشرب فى كل سنة قدحا من الشراب فان لم تفعل بقيت بك العلة فكنت اشربه نعوذ بالله من سخطه الذى لا طاقة لنا به كذا فى منهاج العابدين(3/297)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{ ان الذين آمنوا } اى بألسنتهم فقط وهم المنافقون { والذين هادوا } اى دخلوا فى اليهودية { والصابئون } اى الذين صبت قلوبهم ومالت الى الجهل وهم صنف من النصارى يقال لهم السائحون يحلقون اوساط رؤسهم وقد سبق فى سورة البقرة { والنصارى } جمع نصران وهو معطوف على الذين هادوا . وقوله والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والجملة معطوفة على جملة قوله { ان الذين آمنوا } الخ والتقدير ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك وانما لم يعطف على ما قبله جعل مع خبره المحذوف جملة مستقلة اتى بها فى خلال الجملة الاولى على نية التأخير للدلالة على ان الصابئين مع كونهم اشد الفرق المذكورين فى هذه الآية ضلالا اذا قبل توبتهم وغفر ذنوبهم على تقدير الايمان الصحيح والعمل الصالح فقبول توبة باقى الفرق اولى واخرى { من آمن بالله واليوم الآخر } اى من احدث من هذه الطوائف ايمانا خالصا بالمبدأ والمعاد { وعمل صالحا } حسبما يقتضيه الايمان بهما . قوله من فى محل الرفع بالابتداء وخبره فلا خوف الخ والجملة خبر ان { فلا خوف عليهم } حين يخاف الكفار العقاب { ولا هم يحزنون } حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما
قال الحدادى فى تفسيره اما نفى الحزن عن المؤمنين ههنا فقد ذهب بعض المفسرين الى انه لا يكون عليهم حزن فى الآخرة ولا خوف ونظيره قوله تعالى { تتنزل عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولا تحزنوا } وقال بعضهم ان المؤمنين يخافون ويحزنون لقوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت } وقوله { يوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه } وقال صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة » فقالت عائشة واسوءتاه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم « اما سمعت قول الله تعالى لكل امرىء منهم يومئذ شان يغنيه » قالوا وانما نفى الله تعالى فى هذه الآية الحزن عن المؤمنين لان حزنهم لما كان فى معرض الزوال ولم يكن له بقاء معهم لم يعتد بذلك انتهى : وفى المثنوى
هركه ترسد مرورا ايمن كنند ... مردل ترشنده راساكن كنند
لاتخافوا هست نزل خائفان ... هست درخور از براى خائف آن
آنكه خوفش نيست جون كويى مترس ... درس جه دهى نيست او محتاج درس
واعلم ان اولياء الله لا خوف عليهم فيما لا يكون على شىء لانهم يقيمون القرآن عملا بالظاهر والباطن ولا هم يحزنون على ما يقاسون من شدائد الرياضات والمجاهدات ومخالفات النفس فى ترك الدنيا وقمع الهوى ولا على ما اصابهم من البلاء والمحن والمصيبات والآفات لانهم تخلصوا من التقليد وفازوا بالتحقيق وارتفع عنهم تعب التكاليف فهم مع الله فى جميع احوالهم فعلى المؤمن معالجة مرضه القلبى من الاوصاف الرذيلة والتخلص من النفاق واللحاق باهل الاتفاق
قال ابراهيم الخواص قدس سره دواء القلب خمسة .(3/298)
قراءة القرآن بالتدبر . وخلاء البطن . وقيام الليل والتضرع . الى الله عند السحر . ومجالسة الصالحين
قال حضرة الشيخ الشهير بالهدائى قدس سره ونحن نقول المصلح فى الحقيقة هو الله ولكن اشد الاشياء تأثيرا هو الذكر قال الله تعالى { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } قال على رضى الله عنه [ يأتى على الناس زمان لا يبقى من الاسلام الا اسمه ولا من القرآن الا رسمه يعمرون مساجدهم وهى خراب من ذكر الله شر اهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة واليهم تعود ] : قال السعدى
علم جند انكه بيشتر خوانى ... جون عمل در ونيست نادانى
نه محقق بود نه دانشمند ... جاربايى برو كتابى جند
آن تهى مغزرا جه علم وخبر ... كه بروهيز مست ويا دفتر
واعلم ان زبدة العلوم هى العلم بالله وما سواه فمن محسناته ومن علم فهو كامل فى نفسه الا ان العمل هو المقصود ومجرد القراءة لا يغنى شيأ ولا يجلب نفعا لمن صاحب رفيق التوفيق(3/299)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{ لقد اخذنا ميثاق بنى اسرائيل } اى بالله قد اخذنا عهدهم بالتوحيد وسائر الشرائع والاحكام المكتوبة عليهم فى التوراة { وارسلنا اليهم رسلا } ذوى عدد كثير واولى شأن خطير ليذكروهم وليبينوا لهم امر دينهم { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى انفسهم } جواب شرط محذوف كأنه قيل فماذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من اولئك الرسل بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف عصوه وعادوه كأنه قيل كيف عصوهم فقيل { فريقا كذبوا } اى فريقا منهم كذبوهم من غير ان يتعرضوا لهم بشىء آخر من المضار { وفريقا يقتلون } اى فريقا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم ايضا كزكريا ويحيى عليهما السلام(3/300)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{ وحسبوا ان لا تكون فتنة } اى حسب بنوا اسرائيل وظنوا ان لا يصيبهم من الله تعالى بلاء وعذاب بقتل الانبياء وتكذيبهم وجه حسبانهم انهم وان اعتقدوا فى انفسهم انهم مخطئون فى ذلك التكذيب والقتل الا انهم كانوا يقولون نحن ابناؤه واحباؤه وكانوا يعتقدون ان نبوة اسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العذاب الذى يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب { فعموا } عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها اى آمنوا بأس الله تعالى فتمادوا فى فنون الغى والفساد وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل الى المعاملة الظاهرة وبينوا لهم مناهجة الواضحة اى عملوا معاملة الاعمى الذى لا يبصر { وصموا } عن استماع الحق الذى القوه عليهم اى عملوا معاملة الاصم الذى لا يسمع ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا
قال المولى ابو السعود وهذا اشارة الى المرة الاولى من مرتى افساد بنى اسرائيل حين خالفوا احكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيبا وقيل حبسوا ارمياء عليه السلام { ثم تاب الله عليهم } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد وبعدما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر اسارى فى غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس الى بيت المقدس ليعمره وينجى بقايا بنى اسرائيل من اسر بخت نصر بعد مهلكهم وردهم الى وطنهم وتراجع من تفرق منهم فى الاكناف فعمروه فى ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كاحسن ما كانوا عليه { ثم عموا وصموا } وهو اشارة الى المرة الاخرى من مرتى افسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام { وكثير منهم } بدل من الضمير فى الفعلين
قال الحدادى قوله { كثير منهم } يقتضى فى المرة الثانية انهم لم يكفروا كلهم وانما كفر اكثرهم كما قال تعالى { ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة } وقال تعالى { منهم امة مقتصدة } { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم وفق اعمالهم ومن اين لهم ذلك الحسبان الباطل ولقد وقع ذلك فى المرة الاولى حيث سلط عليهم بخت نصر فاستولى على بيت المقدس فقتل من اهله اربعين الفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية الى ارضه فبقوا هناك على اقصى ما يكون من الذل والنكد الى ان احدثوا توبة صحيحة فردهم الله عز وعلا الى ما حكى عنهم من حسن الحال ثم عادوا الى المرة الاخرى من الافساد فبعث الله عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ففعل بهم ما فعل . قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما صدقتمونى فقتل عليه الوفا منهم ثم قال ان لم تصدقونى ما تركت منكم احدا فقالوا انه دم يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا ينتقم الله منكم ثم قال يا يحيى قد علم ربى وربك ما اصاب قومك من اجلك فاهدأ باذن الله تعالى قبل ان لا ابقى احدا منهم فهدأ
واعلم ان من مقتضى النفس نسيان العهد بينها وبين الله ونسيان نعمه بالكفران وكيف الكفران والانسان غريق فى بحر كرمه ولطفه فيجب عليه شكر ذلك وارسال الرسل وتوضيح السبل ونزول المطر وانبات الارض وصحة البدن وقوة القلب واندفاع الموانع ومساعدة الاسباب كل ذلك من النعم الجليلة وحكى ان دانيال عليه السلام وجد خاتمه فى عهد عمر رضى الله عنه وكان على فصه اسدان وبينهما رجل يلحسانه وذلك ان بخت نصر لما تتبع الصبيان وقتلهم وولد هو القته امه فى غيضة رجاء ان ينجو منه فقيض الله سبحانه اسدا يحفظه ولبوة ترضعه وهما يلحسانه فلما كبر صور ذلك فى خاتمه حتى لا ينسى نعمة الله عليه ولا بد فى قطع طريق الآخرة من تحمل المشاق والقيام بالحقوق الواجبة بينه وبين الخلاق
ذكر عن الفضيل انه قال من عزم على طريق الآخرة فليجعل فى نفسه اربعة الوان من الموت الابيض والاحمر والاسود والاخضر .(3/301)
فالموت الابيض الجوع . والاسود ذم الناس . والاحمر مخالفة الشيطان . والاخضر الوقائع بعضها على بعض الى المصائب والاوجاع واذا كان المرء اعمى واصم فى هذا الطريق فلا جرم يضل ولا يهتدى : قال فى المثنوى
كوررا هر كام باشد ترس جاه ... باهزاران ترس مى آيد براه
مرد بينا ديده عرض راه را ... بس بداند او مغاك و جاه را
ماهيا نرا بحر نكذارد برون ... خاكيانرا بحر نكذارد درون
اصل ما هى آب وحيوان از كلست ... حيله وتدبير اينجا باطلست
قفل زفتست و كشاينده خدا ... دست درتسليم زن اندر رضا
والعصيان وان كان سببا للنسيان ورين العمى والصمم الا ان ما قضاه الله وقدره لا يتغير فليبك على نفسه من ضاع عمره فى الهوى وتتبع الشهوات فلم يجد الى طلب الحق سبيلا والى طريق الرشيد دليلا اللهم انك انت الهادى(3/302)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
{ لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم } نزلت فى نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما وهم المار يعقوبية قالوا ان الله حل فى ذات عيسى واتحد بذاته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا { وقال المسيح } اى قالوا ذلك والحال قد قال المسيح مخاطبا لهم { يا بنى اسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم } فانى عبد مربوب مثلكم فاعبدوا الله خالقى وخالقكم { انه } اى الشان { من يشرك بالله } اى شيأ فى عبادته او فيما يخص به من الصفات والافعال { فقد حرم الله عليه الجنة } فلن يدخلها ابدا كما لا يصل المحرم عليه الى المحرم فانها دار الموحدين { ومأواه النار } فانها هى المعدة للمشركين { وما للظالمين } بالاشراك { من انصار } اى من احد ينصرهم بانقاذهم من النار اما بطريق المغالبة او بطريق الشفاعة وهو من تمام كلام عيسى . ثم حكى ما قاله النسطورية والملكانية من النصارى فقال(3/303)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة } اى احد ثلاثة آلهة والالهية مشتركة بينهم وهم الله وعيسى ومريم { وما من اله الا اله واحد } اى والحال ليس فى الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث انه مبدأ جميع الموجودات الآلهية موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة { وان لم ينتهوا عما يقولون } عن مقالتهم الاولى والثانية ولم يوحدوا { ليمسن الذين كفروا منهم } اى والله ليمسنهم ووضع الموصول موضع الضمير لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن بيانية حال من الذين { عذاب اليم } نوع شديد الالم من العذاب يخلص وجعه بالكفر فمن بيانية حال من الذين { عذاب اليم } نوع شديد الالم من العذاب يخلص وجعه الى قلوبهم(3/304)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
{ أفلا يتوبون الى الله } اى أيصرون فلا يتوبون عن تلك العقائد الزائغة والاقاويل الباطلة وهمزة الاستفهام لانكار الواقع واستبعاده لا لانكار الوقوع وفيه تعجيب من اصرارهم وتحضيض على التوبة { ويستغفرونه } بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه اليه من الاتحاد والحلول { والله غفور رحيم } اى والحال انه تعالى مبالغ فى المغفرة يغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله(3/305)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
{ ما المسيح ابن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل } اى ما هو الا مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها كالرسل الماضية من قبله خصه الله تعالى بآيات كما خصهم بها فان احيى الموتى على يده فقد احيى العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو اعجب وان خلقه من غير اب فقد خلق آدم من غير اب وام وهو اغرب منه وكل ذلك من جنابه عز وجل وانما موسى وعيسى مظاهر شؤونه وافعاله { وامه صديقة } اى ما امه ايضا الا كسائر النساء اللاتى يلاز من الصدق اى صدق الاقوال فى المعاملة مع الخلق وصدق الافعال والاحوال فى المعاملة مع الخالق لا يصدر منهن ما يكذب دعوى العبودية والطاعة { كانا يأكلان الطعام } ويفتقران اليه افتقار الحيوانات فكيف يكون آلها من لا يقيمه الا اكل الطعام { انظر كيف نبين لهم الآيات } الباهرة المنادية ببطلان ما تقولوا عليهما نداء يكاد يسمعه صم الجبال { ثم انظر أنى يؤفكون } اى كيف يصرفون عن استماعها والتأمل فيها . وثم لاظهار ما بين العجبين من التفاوت اى ان بياننا الآيات امر بديع فى بابه واعراضهم عنها مع تعاضد ما يوجب قبولها ابدع(3/306)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
{ قل } يا محمد الزاما لهؤلاء النصارى ومن سلك طريقتهم من اتخاذ غير الله آلها { أتعبدون من دون الله } اى متجاوزين اياه { ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } يعنى عيسى وهو وان ملك ذلك بتمليك الله اياه لكنه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله به من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة والسعة وانما قال ما مع ان اصله ان يطلق على غير العاقل نظرا الى ما هو عليه فى ذاته فانه عليه الصلاة والسلام فى اول احواله لا يوصف بعقل ولا بشىء من الفضائل فكيف يكون آلها { والله هو السميع العليم } بالاقوال والعقائد فيجازى عليها ان خيرا فخير وان شرا فشر وهو حال من فاعل تعبدون(3/307)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ قل يا اهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق } اى غلوا باطلا فترفعوا عيسى الى ان تدعوا له الالوهية كما ادعته النصارى او تضعوه فتزعموا انه لغير رشدة كما زعمته اليهود { ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل } يعنى اسلافهم وائمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد عليه السلام فى شريعتهم { واضلوا كثيرا } اى من تابعهم على بدعهم وضلالهم { وضلوا عن سواء السبيل } عن قصد السبيل الذى هو الاسلام بعد مبعثه لما كذبوه وبغوا عليه وحسدوه
قال الشيخ نجم الدين فى تأويلاته ان النصارى لما ارادوا ان يسلكوا طريق الحق بقدم الفعل وينظروا الى احوال الانبياء بنظر العقل تاهوا فى اودية الشبهات وانقطعوا فى بوادى الهلكات جل جناب القدس عن ادراك عقول الانس هيهات هيهات وهذا حال من يحذو حذوهم ويقفوا اثرهم فاطرت النصارى عيسى عليه السلام اذ نظروا بالعقل فى امره فوجدوه مولودا من ام بلا اب فحكم عقلهم ان لا يكون مولود بلا اب فينبغى ان يكون هو ابن الله واستدلوا على ذلك بانه يخلق من الطين كهيئة الطير ويبرىء الاكمه والابرص ويحيى الموتى ويخبر عما يأكلون فى بيوتهم وما يدخرون وهذا من صفات الله تعالى ولو لم يكن المسيح ابن الله لما امكنه هذا وانما امكنه لان الولد سر ابيه وقال بعضهم ان المسيح لما استكمل تزكية النفس عن صفات الناسوتية حل لاهوتية الحق فى مكان ناسوتيته فصار هو الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
ثم اعلم ان امة محمد لما سلكوا طريق الحق باقدام جذبات الالوهية على وفق المتابعة الحبيبية اسقط عنهم كلفة الاستدلال ببراهين الوصول والوصال كما كان حال الشبلى حين غسل كتبه بالماء وكان يقول نعم الدليل انتم ولكن اشتغالى بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال : وفى المثنوى
جون شدى بر بامهاى آسمان ... سرد باشد جست وجوى نردبان
آينه روشن كه شد صاف وجلى ... جهل باشد بر نهادن صيقلى
ييش سلطان خوش نشسته درقبول ... جهل باشد جستن نامه ورسول
فهؤلاء القوم بعدما وصلوا الى سرادقات حضرة الجلال شاهدوا بانوار صفات الجمال ان الانسان هو الذى حمل امانة الحق من بين سائر المخلوقات وهى نور فيض الالوهية بواسطة الانبياء فهم مخصوصون باحسن التقويم فى قبول هذا الكمال فتحقق لهم ان عيسى عليه السلام صار قابلا بعد التزكية للتخلية بفيض الخالقية والمحبية كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا باذن الله ويبرىء الاكمه والابرص ويحيى الموتى باذن الله لا باذنه اعنى كان صورة الفعل منه ومنشأ صفة الخالقية حضرة الالوهية وهذا كما ان لكرة البلور المخروط استعدادا فى قبول فيض الشمس اذا كانت فى محاذاتها فتقبل الفيض وتحرق المحلوج المحاذى لها بذلك الفيض فمصدر الفعل المحرق من الكرة ظاهرا ومنشأ الصفة المحرقية حضرة الشمس حقيقة فصار للكرة بحسن الاستعداد قابلية لفيض الشمس وظهر منها صفات الشمس وما جلت الشمس فى كرة البلور تفهم ان شاء الله وتغتنم فكذلك حال الانبياء فى المعجزات وكبار الاولياء فى الكرامات والفرق ان الانبياء مستقلون بهذا المقام والاولياء متبعون
قال الامام الغزالى فى قول ابى يزيد انسلخت من نفسى كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فاذا انا هو اذ من انسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها لا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له هم سوى الله واذا لم يحل فى القلب الا جلال الله وجماله صار مستغرقا كأنه هو لا انه هو تحقيقا .(3/308)
وقوله ايضا سبحانى ما اعظم شأنى يحمل على انه قد شاهد كمال حظه من صفة القدس فقال سبحانى ورأى عظيم شأنه بالاضافة الى شأن عموم الخلق فقال ما اعظم شأنى وهو مع ذلك يعلم قدسه وعظم شأنه بالاضافة الى الخلق ولا نسبة له الى قدس الرب وعظم شأنه وقول من قال من الصوفية انا الحق فوارد على سبيل التجوز ايضا كما يقول الشاعر انا من اهوى ومن اهوى انا وذلك متأول عند الشاعر فانه لا يعنى به انه هو تحقيقا بل كأنه هو فانه مستغرق بالهم به كما يكون مستغرق الهم بنفسه فيعتبر هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز
قال الشيخ ابو القاسم الجرجانى ان الاسماء التسعة والتسعين تصير اوصافا للعبد السالك وهو بعد فى السلوك غير واصل
فان قلت ما معنى الوصول قلت معنى السلوك هو تهذيب الاخلاق والاعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد فى جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه الا انه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول وانما الوصول هو ان ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقا به فان نظر الى معرفته فلا يعرف الا الله وان نظر الى همته فلا همة له سواه فيكون كله مشغولا لا بكله مشاهدة وهما لا يلتفت فى ذلك الى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة وباطنه بتهذيب الاخلاق وكل ذلك طهارة وهى البداءة واما النهاية فان ينسلخ عن نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول : وفى المثنوى
كاركاه كنج حق در نيستيست ... غره هستى جه دانى نيست جيست
آب كوزه جون در آب جوشود ... محو كردد دروى وجو او شود(3/309)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
{ لعن الذين كفروا } حال كونهم { من بنى اسرائيل } اى طردوا وابعدوا من رحمة الله { على لسان داود } متعلق يلعن يعنى اهل ايلة لما اعتدوا فى السبت قال داود عليه الصلاة والسلام اللهم العنهم واجعلهم آية ومثلا لخلقك فمسخوا قردة { وعيسى ابن مريم } اى على لسان عيسى ابن مريم يعنى كفار اصحاب المائدة لما اكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى اللهم العنهم كما لعنت اصحاب السبت واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبى كأنه قيل بأى سبب وقع ذلك فقيل { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } اى ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسح بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم(3/310)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } استئناف اى لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعملونه واصطلحوا على الكف عن نهى المنكر { لبئس ما كانوا يفعلون } تعجيب من سوء فعلهم مؤكدا بالقسم(3/311)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{ ترى كثيرا منهم } اى من اهل الكتاب ككعب بن الاشرف واضرابه حيث خرجوا الى مشركى مكة ليتفقوا على محاربة النبى عليه السلام والرؤية بصرية { يتولون الذين كفروا } حال من كثيرا لكونه موصوفا اى يوالون المشركين بعضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { لبئس ما قدمت لهم انفسهم } اى لبئس شيأ قدموا ليردوا عليه يوم القيامة { ان سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون } هو المخصوص بالذم بتقدير المضاف اى موجب سخط الله والخلود فى العذاب لان نفس السخط المضاف الى البارى تعالى لا يقال له انه المخصوص بالذم انما المخصوص بالذم هو الاسباب الموجبة له(3/312)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
{ ولو كانوا } اى الذين يتولون المشركين من اهل الكتاب { يؤمنون بالله والنبى } اى نبيهم { وما انزل اليه } اى الى ذلك النبى من التوراة والانجيل { ما اتخذوهم } اى المشركين { اولياء } لان تحريم ذلك مصرح فى شريعة ذلك النبى وفى الكتاب المنزل اليه فالايمان يمنع من التولى قطعا { ولكن كثيرا منهم فاسقون } خارجون عن الدين والايمان بالله ونبيهم وكتابهم
وفى الآيات امور
الاول ان الانسان الكامل الذى يصلح لخلافة الحق هو مظهر صفات لطف الحق وقهره فقبولهم قبول الحق وردهم رد الحق ولعنهم لعن الحق وصلاتهم صلاة الحق فمن لعنوه فقد لعنه ومن صلوا عليه فقد صلى الحق عليه لقوله تعالى لنبيه عليه السلام { ان صلاتك سكن لهم } وقال { هو الذى يصلى عليكم } فمظهر اللعن كان لسان داود وعيسى وكانت اللعنة من الله حقيقة لقوله { كما لعنا اصحاب السبت } وهم الذين لعنهم داود وصرح ههنا ان اللعن كان منه تعالى وان كان على لسان داود عليه السلام : فى المثنوى
اين نكردى توكه من كردم يقين ... اى صفاتت درصفات مادفين
مارميت اذ رميت كشته ... خويشتن درموج جون كف هشته
وفى محل آخر
كه ترا ازتوبكل خالى كند ... توشوى بست اوسخن عالى كند
كرجه قرآن ازلب بيغمبر است ... هركه كويد حق نكفت اوكافرست
والثانى ان الله تعالى سمى العصيان منكرا لانه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفا لانها توجب المعرفة والاقدام على الفعل المنكر معصية والاصرار على المعصية كالكفر فى كونه سببا للرين المحيط بجوانب القلب ومن ذلك ترك النهى عن المنكر وفى الحديث « يحشر يوم القيامة اناس من امتى من قبورهم الى الله تعالى على صورة القردة والخنازير بما داهنوا اهل المعاصى وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون » فالمداهنة من اعمال الكفار والدعوة الى الله من اخلاق الاخيار : وفى المثنوى
هركسى كوازصف دين سركش است ... ميرود سوى صفى كان وابس است
توز كتار تعالوا كم مكن ... كيمياى بس شكرفست آن سخن
كرمسى كردد زكفتارت نفير ... كيميارا هيج ازوى وامكير
اين زمان كربست نفس ساحرش ... كفت توسودش دهدر آخرش
قل تعالوا قل تعالوا اى غلام ... هين كه ان الله يدعو بالسلام
والثالث ان المؤمن والكافر ليسا من جنس واحد وتولى الكافر موجب لسخط الله لان موالاة الاعداء توجب معاداة الاولياء فينبغى للمؤمن الكامل ان ينقطع عن صحبة الكفار وافار واهل البدع والاهواء وارباب الغفلة والانكار : وفى المثنوى
ميل مجنون بيش آن ليلى روان ... ميل ناقه بس بى طفلش دوان
كفت اى ناقة جوهردو عاشقيم ... مادو ضد بس همره نالايقيم
نيستت بروفق من مهر و مهار ... كرد بايد ازتو صحبت اختيار
جان زهجر عرش اندر فاقه ... تن زعشق خاربن جون ناقة
جان كشايد سوى بالا بالها ... درزده تن درزمين جنكالها
اللهم خلصنا من خلاف الجنس مطلقا(3/313)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{ لتجدن } يا محمد { اشد الناس } مفعول اول للوجدان { عداوة } تمييز { للذين آمنوا } متعلق بعداوة { اليهود } مفعول ثان للوجدان { والذين اشركوا } يعنى مشركى العرب معطوف على اليهود { ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى } اعرابه كاعراب ما سبق . اما عداوة اليهود والمشركين المنكرين للمعاد فلشدة حصرهم الذى هو معدن الاخلاق الذميمة فان من كان حريصا على الدنيا طرح دينه فى طلب الدنيا واقدم على كل محظور ومنكر فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال جاها او مالا . واما مودة النصارى فلانهم فى اكثر الامر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبير والترفع وكل من كان كذلك فانه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم بل يكون لين العريكة فى طلب الحق سهل الانقياد له انظر الى كفر النصارى مع كونه اغلظ من كفر اليهود لان كفر النصارى فى الالوهية وكفر اليهود فى النبوة واما قوله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله } فانما قاله طائفة منهم ومع ذلك خص اليهود بمزيد اللعنة دونهم وما ذاك الا بسبب حرصهم على الدنيا ويؤيده قوله عليه السلام « حب الدنيا رأس كل خطيئة »
قال البغوى لم يرد به جميع النصارى لانهم فى عداوتهم للمسلمين كاليهود فى قتلهم المسلمين واسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم واحراق مصاحفهم لا مودة ولا كرامة لهم بل الآية نزلت فيمن اسلم منهم مثل النجاشى واصحابه وكان النجاشى ملك الحبشة نصرانيا قبل ظهور الاسلام ثم اسلم هو واصحابه قبل الفتح ومات قبله ايضا
وقال اهل التفسير ائتمرت قريش ان يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من فيها المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمه ابى طالب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل باصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد امرهم بالخروج الى ارض الحبشة وقال « ان بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده احد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا » واراد به النجاشى واسمه اصحمة بالمهملتين وهو بالحبشية عطية وانما النجاشى اسم الملك كقولهم قيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس فخرج اليها سرا احد عشر رجلا واربع نسوة منهم عثمان ابن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا الى البحر واخذوا سفينة الى ارض الحبشة بنصف دينار وذلك فى رجب فى السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هى الهجرة الاولى ثم خرج جعفر بن ابى طالب وتتابع المسلمون اليها فكان جميع من هاجر الى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان(3/314)
سعديا حب وطن كرجه حديثست صحيح ... نتوان مرد بسختى كه من انيجازادم
فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمر بن العاص وصاحبه بالهدايا الى النجاشى وبطارقته ليردوهم اليهم فعصمهم الله فلما انصرفا خائبين واقام المسلمون هناك بخير دار وحسن جوار الى ان هاجر رسول الله وعلا امره وذلك فى سنة ست من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى النجاشى على يد عمرو بن امية الضمرى ليزوجه ام حبيبة بنت ابى سفيان وكانت قد هاجرت اليه مع زوجها فمات زوجها فارسل النجاشى الى ام حبيبة جارية يقال لها نزهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اياها فاعطتها اوضاحا لها سرورا بذلك وامرها ان توكل من يزوجها فوكلت خالد بن سعيد بن العاص فانكحها على صداق اربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله النجاشى فانفذ اليها على يد نزهة اربعمائة دينار فلما جاءتها بها اعطتها خمسين دينارا فردتها وقالت امرنى الملك ان لا آخذ منك شيأ وقالت انا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنت به فحاجتى منك ان تقرئيه منى السلام قالت نعم ثم امر الملك نساءه ان يبعثن الى ام حبيبة بما عندهن من عود وعنبر وكان عليه السلام يراه عليها وعندها فلا ينكر قالت ام حبيبة فخرجنا فى سفينتين وبعث معنا النجاشى الملاحين فلما خرجنا من البحر ركبنا الظهر الى المدينة ورسول الله عليه السلام بخيبر فخرج من خرج اليه واقمت بالمدينة حتى قدم النبى عليه السلام فدخلت عليه فكان يسألنى عن النجاشى فقرأت عليه من نزهة السلام فرد عليها السلام فانزل الله { عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } يعنى ابا سفيان { مودة } يعنى تزويج ام حبيبة ولما جاء ابا سفيان تزويج ام حبيبة برسول الله عليه الصلاة والسلام قال ذاك الفحل لا يقرع انفه ثم قال عليه السلام « لا ادرى انا بفتح خيبر اسرّ ام بقدوم جعفر » وبعث النجاشى بعد قدوم جعفر الى رسول الله ابنه ازهر بن اصحمة بن الحر فى ستين رجلا من الحبشة وكتب اليه يا رسول الله اشهد انك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت لله رب العالمين وقد بعثت ابنى ازهر وان شئت ان آتيك بنفسى فعلت والسلام عليك يا رسول الله فركبوا سفينة فى اثر جعفر واصحابه فلما بلغوا اواسط البحر غرقوا وكان جعفر يوم وصل المدينة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل فى سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من اهل الشام منهم بحيرا الراهب فقرأ عليهم رسول الله سورة يس الى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن فآمنوا وقالوا ما اشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فانزل الله تعالى هذه الآية { ولتجدن اقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا انا نصارى } يعنى وفد النجاشى الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا اصحاب الصوامع { ذلك } اى كونهم اقرب مودة للمؤمنين { بان منهم } اى بسبب ان منهم { قسيسين } وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم .(3/315)
والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشىء اذا تتبعه وطلبه بالليل وسموا به لمبالغتهم فى تتبع العلم قاله الراغب . وقال قطرب القسيس العالم بلغة الروم . وعن عروة بن الزبير انه قال ضيعت النصارى الانجيل وادخلوا فيه ما ليس منه وبقى واحد من علمائهم على الحق والدين وكان اسمه قسيسا فمن كان على مذهبه فهو قسيس { ورهبانا } هو جمع راهب كراكب وركبان وقيل انه يطلق على الواحد وعلى الجمع . والترهب التعبد مع الرهبة فى صومعة والتنكير لافادة الكثرة ولا بد من اعتبارها فى القسيسين ايضا اذ هى التى تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فان اتصاف افراد كثيرة بجنس الخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها والا فمن اليهود ايضا قوم مهتدون ألا يرى الى عبد الله بن سلام واضرابه قال تعالى { من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } الخ لكنهم لما لم يكونوا فى الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم الى جنس اليهود { وانهم لا يستكبرون } عطف على ان منهم اى وبانهم لا يستكبرون عن قبول الحق اذا فهموه ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود . وفيه دليل على ان التواضع والاقبال على العلم والعمل والاعراض عن الشهوات محمود وان كانت فى كافر
اقول ذكر عند حضرة شيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة رجولية بعض اهل الذمم ومروته فقال انه من آثار السعادة الازلية ويرجى ان ذلك يدعوه الى الايمان والتوحيد ويصير عاقبته الى الفلاح : قال الحافظ
كارى كنيم ورنه خجالت بر آورد ... روزى كه رخت جان بجهان دكر كشيم(3/316)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{ واذا سمعوا ما انزل الى الرسول } عطف على لا يستكبرون اى ذلك بسبب انهم لا يستكبرون وان اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا عند سماع القرآن وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم الى قبول الحق وعدم تأنفهم عنه { ترى اعينهم تفيض من الدمع } اى تملأ بالدمع فاستعير له الفيض الذى هو الانصاب من الامتلاء مبالغة ومن الدمع متعلق بتفيض ومن لابتداء الغاية والمعنى تفيض من كثرة الدمع والرؤية بصرية وتفيض حال من المفعول { مما عرفوا من الحق } من الاولى لابتداء الغاية متعلق بمحذوف على انها حال من الدمع والثانية لبيان الموصول فى قوله ما عرفوا اى حال كونه ناشئا ومبتدأ من معرفة الحق حاصلا من اجله وبسبب كأنه قيل ماذا يقولون عند سماع القرآن فقيل { يقولون ربنا آمنا } بهذا القرآن { فاكتبنا مع الشاهدين } اى اجعلنا فى جملة الذين شهدوا بانه حق(3/317)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
{ وما لنا } اى أى شىء حصل لنا { لا نؤمن بالله } حال من الضمير فى لنا اى غير مؤمنين على توجيه الانكار والنفى الى السبب والمسبب جميعا { وما جاءنا من الحق } عطف على الجلالة اى بالله وما جاءنا من الحق حال من فاعل جاءنا اى جاءنا فى حال كونه من جنس الحق او من لابتداء الغاية متعلقة بجاءنا ويكون المراد بالحق البارى تعالى { ونطمع ان يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } حال اخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدا اى أى شىء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع فى صحبة الصالحين وانما قدر المبتدأ ليكون الحال هو الجملة الاسمية لان المضارع المثبت لا يقع حالا بالواو الا بتأويل تقدير المتبدأ(3/318)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
{ فاثابهم الله } اى اعطاهم وجازاهم { بما قالوا } اى عن اعتقادهم بدليل قوله مما عرفوا من الحق { جنات } اى بساتين { تجرى من تحتها الانهار } اى تجرى من تحت اشجارها ومساكنها وغرفها انهار الماء والعسل والخمر واللبن { خالدين فيها وذلك } الثواب { جزاء المحسنين } اى الذين احسنوا النظر والعمل او الذين اعتادوا الاحسان فى الامور(3/319)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } فماتوا على ذلك عطف التكذيب بآيات الله على الكفر مع انه ضرب منه لما ان القصد الى بيان حال المكذبين { اولئك اصحاب الجحيم } اهل النار الشديدة الوقود وهم الذين استتروا بحجب اوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية فاصمهم الله واعمى ابصارهم سمعوا ولم يستمعوا وشاهدوا ولم يبصروا بخلاف من قال لهم الله ألست بربكم فاسمعهم كلامه ووفقهم للجواب حتى شهدوا ربوبيته فقالوا بلى شهدنا فكذلك ههنا اسمعهم كلامه وعرفهم حقيقة كلامه فاشتاقوا اليه وتذكر قلوبهم ما شاهدوا عند الميثاق من تلك المشاهدة فبكوا بكاء الشوق وبكاء المعرفة : وفى المثنوى
خوى بددر ذات تواصلى نبود ... كزبد اصلى مى نيابد جز جحود
آن بدى عاريتى باشد كه او ... ارد اقرار وشود اوتوبهجو
همجو آدم ذلتش عاريه بود ... لاجرم اندر زمان توبه نمود
جونكه اصلى بودجرم آن بليس ... ره نبودش جانب توبه نفيس
حكى ان سلطانا زار قبر ابى يزيد قدس سره فسأل عن حاله من بعض اصحاب ابى يزيد فقال من رآه لم يدخل النار فقال السلطان ان أبا جهل رأى النبى عليه السلام ومع ذلك يدخل النار وليس شيخك فوق النبى عليه السلام فقال ايها السلطان ان ابا جهل لم ير النبى صلى الله عليه وسلم بل رأى يتيم ابى طالب فلو رأى انه رسول الله لآمن به وخلص من النار وبنور العرفان آمنت بلقيس فانها لما رأت كتاب سليمان شاورت قومها فقالوا نقاتله انه يدعى النبوة والانبياء عباد الله المكرمون لا يقاتلهم احد فبعد الامتحان آمنت به : قال المولوى قدس سره
جون سليمان سوى مرغان سبا ... يك صفيرى كرد بست آن جمله را
جزمكر مرغى كه بدبى جان وبر ... ياجو ماهى كنك بود ازاصل كر
نى غلط كفتم كه كر كرسر نهد ... بيش وحى كبريا شمعش دهد
جونكه بلقيس ازدل وجان عزم كرد ... بر زمان رفته هم افسوس خورد
ترك مال وملك كرد او آنجنان ... كه بترك نام وننك آن عاشقان
آن غلامان وآن كنيزان بناز ... بيش جشمش همجو بوسيده بياز
باغهاو قصرهاو آب رود ... بيش جشم ازعشق او كلخن نمود
عشق درهنكام استيلاو خشم ... زشت كرداند لطيفانرا بجشم
لا اله الاهو اينست اى بناه ... كه نمايد دمه تراويك سياه
واعلم انه فى العالم العلمى وفق من وفق فجرى على ذلك التوفيق فى هذا العالم العينى الشهادى ثم لا يزال على ذلك فى جانب الابد حتى يدخل الجنة الصورية الحسية مع اذواق الروحانية المعنوية خالدا فيها فهذا هو ثمرة ذلك البذر ومحصول ذلك الزرع والحرث كما قال الله تعالى { فاثابهم الله بما قالوا } الخ فعلى المؤمن ان يجتهد فى تحصيل اليقين ويدخل الجنة العاجلة التى هى المعرفة الالهية كما قال مما عرفوا من الحق ويتخلص من نار البعد والفراق كما قال { اولئك اصحاب الجحيم }(3/320)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{ يايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم } اى لا تمنعوا ما طاب ولذ منه انفسكم كمنع التحريم { ولا تعتدوا } اى لا تتجاوزوا حدود ما احل لكم الى ما حرم عليكم فان محرم ما احل الله يحل ما حرم الله او ولا تسرفوا فى تناول الطيبات فان الاسراف تجاوز الى الحرام كتناول المحرمات { ان الله لا يحب المعتدين } اى لا يرضى عمل المعتدين على انفسهم المتجاوزين حدود الله(3/321)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
{ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } اى ما احل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالا مفعول كلوا ومما رزقكم الله حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة
قال عبد الله بن المبارك الحلال ما اخذته من وجهه والطيب ما غذى ونمى فاما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذى فمكروه الا على وجه التداوى { واتقوا الله الذى انتم به مؤمنون } تأكيد للوصية بما امر به فان قوله { كلوا حلالا } وان كان المراد به ههنا الاباحة والتحليل الا انه انما اباح اكل الحلال فيفيد تحريم ضده فأكد التحريم المستفاد منه بقوله { واتقوا الله } وزاده تأكيدا بقوله { الذى انتم به مؤمنون } فان الايمان يوجب التقوى بالانتهاء عما نهى عنه وعدم التجاوز عما حد له
قال الامام قوله تعالى { كلوا مما رزقكم الله } يدل على انه تعالى قد تكفل برزق كل احد فانه لو لم يتكفل برزقه لما قال { كلوا مما رزقكم الله } واذا تكفل برزقه وجب ان لا يبالغ فى الطلب وان يعول على وعده واحسانه فانه اكرم من ان يخلف الوعد ولذلك قال عليه السلام « فاتقوا الله واجملوا فى الطلب » قال الحافظ
مابروى فقر وقناعت نمى بريم ... بابادشه بكوى كه روزى مقدرست
وقال الصائب
رزق اكر بر آدمى عاشق نمى باشدجرا ... اززمين كندم كريباز جاك مى آيدجرا
قال اهل التفسير ذكر النبى عليه السلام يوما النار ووصف القيامة وبالغ فى الانذار فرق له الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة فى بيت عثمان بن مظعون الجمحى وتشاوروا واتفقوا على ان يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا فى الارض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته ام حكيم بنت امية واسمها خولة وكانت عطارة « احق ما بلغنى عن زوجك واصحابه » فكرهت ان تكذب على رسول الله وكرهت ان تبدى خبر زوجها فقالت يا رسول الله ان كان قد اخبرك عثمان فقد صدق فرجع رسول الله فلما جاء عثمان اخبرته زوجته بذلك فمضى الى رسول الله فسأله النبى عليه السلام عن ذلك فقال نعم فقال عليه السلام « أمانى لم آمر بذلك ان لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا وقوموا وناموا فانى اقوم وانام واصوم وافطر وآكل اللحم والدسم وآتى النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى » ثم جمع الناس وخطبهم وقال « ما بال قوم حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا اما انى لا آمركم ان تكونوا قسيسين ولا رهبانا فانه ليس من دينى ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وان سياحة امتى الصوم ورهبانيتهم الاجتهاد فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيأ وحجوا واعتمروا واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فانما هلك من هلك قبلكم بالتشديد شددوا على انفسهم فشدد الله عليهم فاولئك بقاياهم فى الديارات والصوامع »(3/322)
فانزل الله هذه الآية وروى ان عثمان بن مظعون جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى بان اختصى فائذن لى فى الاختصاء قال « مهلا يا عثمان فان اختصاء امتى الصيام » وفى المثنوى
هين مكن خودرا خصى رهبان مشو ... زانكه عفت هست شهوت راكروا
بى هوا نهى از هوا ممكن نبود ... غازىء بر مردكان نتوان نمود
بس كلو از بهر دام شهوتست ... بعد ازان لاتسرفوا آن عفتست
جونكه رنج صبر نبود مرترا ... شرط نبود بس فرو نايد جرا
حبذا آن شرط وشادا آن جزا ... آن جزاى دلنواز جان فزا
قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى بان اترهب فى رؤوس الجبال قال « مهلا يا عثمان فان ترهب امتى الجلوس فى المساجد لانتظار الصلاة » قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى ان اخرج من مالى كله قال « مهلا يا عثمان فان صدقتكم يوما بيوم وتعف نفسك وعيالك وترحم المساكين واليتيم فتعطيها افضل من ذلك » قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى ان اطلق امرأتى خولة قال « مهلا يا عثمان فان الهجرة فى امتى من هجر ما حرم الله عليه او هاجر الى فى حياتى او زار قبرى بعد وفاتى او مات وله امرأة او امرأتان او ثلاث او اربع » قال يا رسول الله فان نهيتنى ان لا اطلقها فان نفسى تحدثنى ان لا اغشاها قال « مهلا يا عثمان فان المسلم اذا غشى امرأته او ما ملكت يمينه فلم يكن له من وقعته تلك ولد كان له وصيف فى الجنة وان كان له من وقعته تلك ولد فمات قبله كان له فرطا وشفيعا يوم القيامة وان مات بعده كان له نورا يوم القيامة » قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى ان لا آكل اللحم قال « مهلا يا عثمان فانى احب اللحم واكله اذا وجدته ولو سألت ربى ان يطعمنيه فى كل يوم لاطعمنيه » قال يا رسول الله فان نفسى تحدثنى ان لا امس الطيب قال « مهلا يا عثمان فان جبرائيل عليه السلام امرنى بالطيب غبا وقال يوم الجمعة لا مترك له يا عثمان لا ترغب عن سنتى فمن رغب عن سنتى ثم مات قبل ان يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضى يوم القيامة »(3/323)
وعن ابى موسى الاشعرى قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال « ان المؤمن حلو يحب الحلاوة » قال « ان فى بطن المؤمن زاوية لا يملأها الا الحلو » وجاء رجل الى الحسن فقال له ان لى جارا لا يأكل الفالوذج قال ولم قال لئلا يؤدى شكره قال أفيشرب الماء البارد قال نعم قال ان جارك هذا جاهل ان نعمة الله عليه فى الماء البارد اكثر من نعمته فى الفالوذج
وسئل فضيل عن ترك الطيبات من الحوارى واللحم والخبيص للزهد وقال لمن قال لا آكل الخبيص ليتك تأكل وتتقى ان الله لا يكره ان تأكل الحلال الصرف كيف برك لوالديك وصلتك للرحم كيف عطفك على الجار كيف رحمتك للمسلمين كيف كظمك للغيظ كيف عفوك عمن ظلمك كيف احسانك الى من اساء اليك كيف صبرك واحتمالك للاذى انت الى احكام هذا احوج منك الى ترك الخبيص
والحاصل ان الافراط فى الرهبانية والاحتراز التام عن الذات والطيبات مما يوقع الضعف فى الاعضاء الرئيسة التى هى القلب والدماغ واذا وقع الضعف فيها اختلت الفكرة وباختلالها تفوت عنها الكمالات المتعلقة بالقوة النظرية رأسا وينتقص كمالاتها المتعلقة بالقوة العملية فان تمامها وكمالها يبنى على كمال القوة النظرية
وايضا الرهبانية التامة توجب خرابية الدنيا وانقطاع الحرث والنسل فلما كانت عمارة الدنيا والآخرة منوطة بترك تلك الرهبانية والمواظبة على المعرفة والمحبة والطاعة اقتضت الحكمة ان لا يحرم الانسان ماطاب ولذ مما احل الله كما نطقت الآية به
ولكن اشارة الآية ايضا الى الاعتدال كما قال { ولا تعتدوا } فالاعتدال فى التناول وكذا فى الرياضة ممدوح جدا ولذا ترى المرشد الكامل يأمر فى ابتداء امره بترك اللحم والدسم والجماع وغيرها ولكن على الاعتدال بحسب مزاجه فان للرياضات تأثيرا عظيما فى اصلاح الطبيعة وهو امر مهم فى باب السلوك جدا فلا متمسك لارباب الظاهر فى ترك الرياضة مطلقا وقد اشار النبى عليه الصلاة والسلام فى وصاياه لعثمان بن مظعون الى جملة من الامر فافهم وارشد الى طريق الصواب ولا تفريط ولا افراط فى كل باب(3/324)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{ لا يؤاخذكم الله باللغو فى ايمانكم } اليمين تقوية احد الطرفين بالمقسم به واللغو فى اليمين الساقط الذى لا يتعلق به حكم وهو عند الامام الاعظم ان يخلف على شىء يظن انه كذلك وليس كما يظن مثل ان يرى الشىء من بعيد فيظن انه كذا فيقول والله انه كذا فاذا هو بخلافه فلا مؤاخذة فى هذا اليمين باثم ولا كفارة واما الغموس وهى حلفه على امر ماض او حال كذبا عمدا مثل قوله والله لقد فعلت كذا وهو لم يفعله وعكسه ومثل والله ما لهذا على دين وهو يعلم ان له عليه دينا فحكمها الاثم لانها كبيرة قال عليه السلام « من حلف كاذبا ادخله الله النار ولا كفارة فيها الا التوبة » قوله فى ايمانكم صلة يؤاخذكم كما ان باللغو صلة له اى لا يؤاخذكم فى حق ايمانكم بسبب ما كان لغوا منها بان لا يتعلق بها حكم دنيوى ولا اخروى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان } اى بتقيدكم الايمان وتوثيقا بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتموها اذا حنثتم او بنكث او نقض ما عقدتم فحذف للعلم به وهذا اليمين هى اليمين المنعقدة وهى الحلف على فعل امر او تركه فى المستقبل { فكفارته } اى الفعلة التى تذهب اثمه وتستره وعند الامام لا يجوز التكفير قبل الحنث لقوله عليه السلام « من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير ثم ليكفر عن يمينه » { اطعام عشرة مساكين من اوسط ما تطعمون اهليكم } محل من اوسط النصب لانه صفة مفعول محذوف تقديره ان تطعموا عشرة مساكين طعاما كائنا من اوسط ما تطعمون من فى عيالكم من الزوجة والاولاد والخدم اى من اقصده فى النوع او المقدار وهو نصف صاع من بر لكل مسكين كالفطرة ولو اطعم فقيرا واحدا عشرة ايام اجزأه ولو اعطاه دفعة لا يجوز الا عن يوم واحد { او كسوتهم } عطف على اطعام فيكسو كل واحد من العشرة ثوبا يستر عامة بدنه وهو الصحيح ولا يجزىء السراويل لان لابسه يسمى عريانا عرفا { او تحرير رقبة } اى او اعتاق انسان كيف ما كان مؤمنا كان او كافرا او انثى صغيرا او كبيرا ولا يجوز الاعمى والاصم الذى لا يسمع اصلا والاخرس لفوات جنس المنفعة ومقطوع اليدين او ابهاميهما او الرجلين او يد ورجل من جانب واحد ومجنون مطبق لان الانتفاع ليس الا بالعقل ومدبر وام ولد لاستحقاقهما الحرية بجهة فكان الرق فيهما ناقصا ومكاتب ادى بعضا لانه تحرير بعوض فيكون تجارة والكفارة عبادة فلا بد ان تكون خالصة لله تعالى وكذا لا يجوز له تركها جميعا ومتى اتى بواحدة منها فانه يخرج عن العهدة فاذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير { فمن لم يجد } اى شيأ من الامور المذكورة { فصيام } اى فكفارته صيام { ثلثة ايام } متتابعات عند الامام الاعظم { ذلك } اى الذى ذكرت لكم وامرتكم به { كفارة ايمانكم اذا حلفتم } وحنثتم { واحفظوا ايمانكم } بان تضنوا بها ولا تبذلوها لكل امر وبان تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير فان عجز عن البرّ او رأى غير المحلوف عليه خيرا منه فله حينئذ ان يحنث ويكفر كما قال الفقهاء من اليمين المنعقدة ما يجب فيه البر كفعل الفرائض وترك المعاصى لان ذلك فرض عليه فيتأكد باليمين .(3/325)
ومنها ما يجب فيه الحنث كفعل المعاصى وترك الواجبات وفى الحديث « من حلف ان يطيع الله فليطعه ومن حلف ان يعصيه فلا يعصه » ومنها ما يفضل فيه الحنث كهجران المسلم ونحوه وما عدا هذه الاقسام الثلاثة من الايمان التى يستوى فيها الحنث والبر يفضل فيه البر حفظا لليمين ولا فرق فى وجوب الكفارة بين العامد والناسى والمكره فى الحلف والحنث لقوله عليه السلام « ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين » { كذلك } اشارة الى مصدر الفعل الآتى لا الى تبيين آخر مفهوم مما سبق والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الاشارة من الفحامة ومحله فى الاصل النصب على انه نعت لمصدر محذوف واصل التقدير يبين الله تبيينا كائنا مثل ذلك التبيين فقدم على الفعل لافادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة اى مثل ذلك البيان البديع { يبين الله لكم آياته } اعلام شريعته واحكامه لا بيانا ادنى منه { لعلكم تشكرون } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج
والاشارة ان من عقد اليمين على الهجران من الله تعالى فكفارته اطعامه عشرة مساكين وهم الحواس الخمس الظاهرة والباطنة فانها مدخل الآفات وموئل الفترات { من اوسط ما تطعمون اهليكم } وهم القلب والروح والسر والخفى وطعامهم الشوق والمحبة والصدق والاخلاص والتفويض والتسليم والرضى والانس والهيبة والشهود والكشوف واوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والتشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء فاطعام الحواس الظاهرة والقوى الباطنة هذه الاطعمة باستعمالها فى التعبد بها والتحفظ عما ينافيها او كسوتهم وهى الباس الحواس والقوى بلباس التقوى او تحرير رقبة النفس عن عبودية الهوى والحرص على الدنيا فمن لم يجد السبيل الى هذه الاشياء فصيام ثلاثة ايام وذلك لان الايام لا خلو عن ثلاثة اما يوم مضى او يوم حضر او يوم قد بقى فصيام اليوم الذى قد مضى بالامساك عما عقد عليه او قصد اليه او بالصبر على التوبة عنه وصيام الذى قد حضر بالامساك عن التغافل عن الاهم وبالصبر على الجد والاجتهاد ببذل الجهد فى طلب المراد وصيام اليوم الذى قد بقى بالامساك عن فسخ العزيمة فى ترك الجريمة ونسخ الاخلاص فى طلب الخلاص وبالصبر على قدم الثبات فى تقديم الطاعات والمبرات وصدق التوجه الى حضرة الربوبية بمساعى العبودية(3/326)
مكن وقت ضايع بافسوس وحيف ... كه فرصت عزيزست والوقت سيف
قال ابن الفارض قدس سره
وكن صارما كالوقت فالمقت فى عيسى ... واياك علّ فهى اخطر علة
وفى المثنوى
اى كه صبرت نيست از دنياى دون ... جونت صبرست ازخداى دوست جون
جونكه بى اين شرب كم دارى سكون ... جون زابرارى خدا وزيشرون
اعلم ان الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وجلاله ان يرزقه شظية من اقباله ووصاله وذلك فى شريعة الرضى لغو وفى مذهب التسليم سهو فيعفوا عنه رحمة عليه لضعف حاله ولا يؤاخذه بمقاله وان الاولى الذوبان والجمود بحسن الرضى بحسب جريان احكام المولى فى القبول والرد والاقبال والصدّ ايثار استقامة فى اداء حقوقه على الكرامة وعلى لذة تقريبه واقباله وشهوده ووصوله ووصاله كما قال قائلهم
اريد وصاله ويريد هجرى ... فاترك ما اريد لما يريد
كذا فى التأويلات النجمية(3/327)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{ يا ايها الذين آمنوا انما الخمر } هذه هى الآية الرابعة من الآيات الاربع التى نزلت فى الخمر وقد سبق التفصيل فى سورة البقرة ويدخل فى الخمر كل مسكر { والميسر } اى القمار كله فيدخل فيه النرد والشطرنج والاربعة عشر والكعب والبيضة وغير ذلك مما يقامرون به { والانصاب } اى الاصنام المنصوبة للعبادة واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد { والازلام } هى سهام مكتوب على بعضها امرنى ربى وعلى بعضها نهانى ربى يطلبون بها علم ما قسم من الخير والشر
قال المفسرون كان اهل الجاهلية اذا اراده احدهم سفرا او غزوا او تجارة او غير ذلك طلب علم انه خير او شر من الازلام وهى قداح كانت فى الكعبة عند سدنة البيت على بعضها امرنى ربى وعلى بعضها نهانى ربى وبعضها غفل لا كتابة عليها ولا علامة فان خرج السهم الآمر مضوا على ذلك وان خرج الناهى يجتنبون عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام بالازلام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم وهى جمع زلم { رجس } قذر يعاف عند العقول اى تكرهه وتنفر منه العقول السليمة . والرجس بمعنى النجس الا ان النجس يقال فى المستقذر طبعا والرجس اكثر ما يقال فى المستقذر عقلا وسميت هذه المعاصى رجسا لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشىء المستقذر { من عمل الشيطان } صفة لرجس اى رجس كائن من عمله اى من تزيينه لانه هو الداعى اليه والمرغب فيه والمزين له فى قلوب فاعليه { فاجتنبوه } اى الرجس { لعلكم تفلحون } اى راجين فلاحكم امر بالاجتناب وهو تركه جانبا وظاهر الامر على الوجوب { انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر } وهو اشارة الى المفاسد الدنيوية
اما العداوة فى الخمر فهى ان الشاربين اذا سكروا عربدوا وتشاجروا . كما فعل الانصارى الذى شج سعد بن ابى وقاص بلحى الجمل
واما العداوة فى الميسر فهى ان الرجل كان يقامر على الاهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الاهل والمال مغتاظا على حرفاته والفرق بين العداوة والبغضاء ان كل عدو مبغض بلا عكس كلى . وقوله تعالى فى الخمر متعلق بيوقع على ان تكون كلمة فى هنا لافادة معنى السببية كما فى قوله عليه السلام « ان امرأة دخلت النار فى هرة » اى يوقع بينكم هذين الشيئين فى الخمر بسبب شربها وتخصيص الخمر والميسر تنبيها على انهما المقصودان بالبيان لان هذه الآية خطاب مع المؤمنين والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وانما ضم الانصاب والازلام اليهما مع ان تعاطيهما مختص باهل الجاهلية تأكيدا لقبح الخمر والميسر واظهارا لكون هذه الاربعة متقاربة فى المفسدة { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة } اى يمنعكم عنهما وهو اشارة الى المفاسد الدينية فان شرب الخمر يورث الطرب واللذة الجسمانية والنفس اذا استغرقت فى اللذة غفلت عن ذكر الله وعن الصلاة وكذا من يقامر بالميسر ان كان غالبا صار استغراقه فى لذة الغلبة يورثه الغفلة عن العبادة وان صار مغلوبا صار شدة اهتمامه بان يختال بحيلة يصير بها غالبا مانعا من ان يخطر بباله شىء سواه وتخصيص الصلاة بالافراد مع دخولها فى الذكر للتعظيم والاشعار بان الصاد عنها كالصاد عن الايمان لما انها عماده { فهل انتم منتهون } لفظه استفهام ومعناه امر اى انتهوا وهذا نهى بألطف الوجوه ليكون ادعى الى الانتهاء فلما سمعها عمر رضى الله عنه قال انتهينا يا رب وحرمت الخمر فى سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة احد { واطيعوا الله واطيعوا الرسول } فيما امرا به وهو عطف على اجتنبوه { واحذروا } عما نهيا عنه { فان توليتم } اى اعرضتم عن الامتثال والطاعة { فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين } وقد فعل ذلك بما لا مزيدة عليه وخرج عن عهدة الرسالة أى خروج وقامت عليكم الحجة انتهت الاعذار وانقطعت العلل وما بقى بعد ذلك الا العقاب(3/328)
اعلم ان الله تعالى قرن الخمر والميسر بالاصنام ففيه تحريم بليغ لهما ولعل قوله عليه السلام « شارب الخمر كعابد الوثن » مستفاد من هذه الآية وفى الحديث « من شرب الخمر فى الدنيا سقاه الله من سم الاساود وسم العقارب اذا شربه تساقط لحم وجهه فى الاناء قبل ان يشربها فاذا شربها تفسخ لحمه كالجيفة يتأذى به اهل الموقف ومن مات قبل ان يتوب من شرب الخمر كان حقا على الله ان يسقيه بكل جرعة شربها فى الدنيا شربة من صديد جهنم » وفى الحديث « لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة اليه وآكل ثمنها » وفى الحديث « من شرب الخمر بعد ان حرمها الله على لسانى فليس له ان يزوج اذا خطب ولا يصدق اذا حدث ولا يشفع اذا تشفع ولا يؤمن على امانة فمن ائتمنه على امانته فاستهلكها فحق على الله ان لا يخلف عليه » قال الحسين الواعظ الكاشفى فى تفسيره
بى نمكى دان جكر آميخته ... بر جكر بى نمكان ريخته
بى خبر آن مردكه جيزى جشيد ... كش قلم بى خبرى دركشيد
والاشارة { يا ايها الذين آمنوا } ايمانا حقيقيا مستفادا من كتابة الحق بقلم العناية فى قلوبهم { انما الخمسر والميسر والانصاب والازلام } فاما الخمر فانها تخمر العقل وهو نور روحانى علوى من اوليات المخلوقات ومن طبعه الطاعة والانقياد والتواضع لربه كالملك وضده الهوى وهو ظلمانى نفسانى سفلى من اخريات المخلوقات ومن طبعه التمرد والمخالفة والآباء والاستكبار عن عبادة ربه كالشيطان فاذا خمر الخمر نور العقل صار مغلوبا لا يهتدى الى الحق وطريقه ثم يغلب ظلمة الهوى فتكون النفس امارة بالسوء وتستمد من الهوى فتتبع بالهوى السفلى جميع شهواتها النفسانية ومستلذاتها الحيوانية السفلية فيظفر بها الشيطان فيوقعها فى مهالك المخالفات كلها ولهذا قال عليه السلام(3/329)
« الخمر ام الخبائث » لان هذه الخبائث كلها تولدت منها
واما الميسر فان فيه تهيج اكثر الصفات الذميمة وهى الحرص والبخل والكبر والغضب والعداوة والبغض والحقد والحسد واشباهها وبها يضل العبد عن سواء السبيل
واما الانصاب فهى تعبد من دون الله فهى تصير العبد مشركا بالله
واما الازلام فما يلتفت اليه عند توقع الخير والشر والنفع والضر من دون الله تعالى من المضلات فان الله هو الضار والنافع ثم قال تعالى { رجس من عمل الشيطان } يعنى هذه الاشياء اخبث شىء من اعمال الشيطان التى يغوى بها العباد ويضلهم عن صراط الحق وطريق الرشاد { فاجتنبوه } اى اجتنبوا الشيطان ولا تقبلوا وساوسه واتركوا هذه الاعمال الخبيثة { لعلكم تفلحون } تخلصون من مكايد الشيطان وخباثة هذه الاعمال كذا فى التأويلات النجمية(3/330)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } اى اثم وحرج { فيما طعموا } اى تناولوا اكلا او شربا فيتناول شرب الخمر واكل مال الميسر فانزل الله تعالى هذه الآية { اذا ما اتقوا } ان يكون فى ذلك شىء من المحرمات { وآمنوا وعملوا الصالحات } اى واستمروا على الايمان والاعمال الصالحة { ثم اتقوا } عطف على اتقوا داخل معه فى حيز الشرط اى اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق { وآمنوا } اى بتحريمه { ثم اتقوا } اى ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على ان الشروط بالاتقاء فى كل مرة اباحة كل ما طعموه فى ذلك الوقت لا اباحة كل ما طعموه قبله لانتساخ اباحة بعضه حينئذ { واحسنوا } اى عملوا الاعمال الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الاعمال القلبية والقالبية { والله يحب المحسنين } فلا يؤاخذهم بشىء وفيه ان من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار لله محبوبا ومقام المحبوبية فوق جميع المراتب ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب الله وقد فسر الاحسان « بان تعبد الله كأنك تراه » يعنى ان الاحسان مرتبة المشاهدة فاذا ترقى العبد من الايمان الغيبى الى الايمان الشهودى ثم فنى عن كل قيد حتى عن الاطلاق فقد تم امره وكان طعمه وشربه وتصرفه فى المكونات مما لا يضره لانه قد استوفى الشرائط كلها فلا يقاس عليه غيره ثم ان المحسن يتناول كل اهل ويستحق المدح والثناء : وفى المثنوى
محسنان مردندو احسانها بماند ... اىخنك آن راه اين مركب براند
ظالمان مردندو ماند آن ظلمها ... واى جانى كوكند مكرودهان
كفت بيغمبر خنك آنراكه او ... شد زدنيا ماندازو فعل نكو
مرد محسن ليك احسانش نمرد ... نزديزدان دين واحسان نيست خرد
واى آن كو مرد وعصيانش نمرد ... تانبندارى بمرك او جان ببرد
وورد فى فضائل عشر ذى الحجة ( ان من تصدق فى هذه الايام بصدقة على مسكين فكأنما تصدق على رسل الله وانبيائه ومن عاد فيه مريضا فكأنما عاد اولياء الله وبدلاءه ومن شيع جنازة فكأنما شيع جنائز شهداء بدر ومن كسا مؤمنا كساه الله تعالى من حلل الجنة ومن ألطف يتيما اظله الله فى القيامة تحت عرشه ومن حضر مجلسا من مجالس العلم فكأنما حضر مجالس انبياء الله ورسوله ) كذا فى روضة العلماء : قال السعدى قدس سره
باحسانى آسوده كردن دلى ... به ازالف ركعت بهر منزلى
حكى انه وقع القحط فى بنى اسرائيل فدخل فقير سكة من السكك وكان فيها بيت غنى فقال تصدقوا على لاجل الله فاخرجت اليه بنت الغنى خبزا حارا فاستقبله الغنى فقال من دفع اليك هذا الخبز فقال ابنة من هذا البيت فدخل وقطع يد ابنته اليمنى فحول الله حاله فافتقر ومات فقيرا ثم ان شابا غنيا استحسن الابنة لكونها حسناء فتزوجها وادخلها داره فلما جن الليل احضرت مائدة فمدت اليد اليسرى فقال الفتى سمعت ان الفقراء يكونون قليلى الادب فقال مدى يدك اليمنى فمدت اليسرى ثانيا وثالثا فهتف بالبيت هاتف اخرجى يدك اليمنى فالرب الذى اعطيت الخبز لاجله رد عليك يدك اليمنى فاخرجت يدها اليمنى بامر الله تعالى واكلت معه كذا فى الروضة
تونيكى كن بآب انداز اىشاه ... اكر ماهى نداند داند الله(3/331)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
{ يا ايها الذين آمنوا } نزلت عام الحديبية فى السنة السادسة من الهجرة . والحديبية بتخفيف الياء الاخيرة وقد تشدد موضع قريب من مكة اراد عليه السلام زيارة الكعبة فسار مع اصحابه من المدينة وهم الف وخمسمائة واربعون رجلا فنزلوا بالحديبية فابتلاهم الله بالصيد وهم محرومون كانت الوحوش تغشاهم فى رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدها اخذا بايديهم وطعنا برماحهم فهموا باخذها فانزل الله { يا أيها الذين آمنوا } { ليبلونكم الله } يقال بلوته بلوا جربته واختبرته واللام جواب قسم محذوف اى والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف احوالكم { بشىء من الصيد } اى بتحريم شىء حقير هو الصيد بمعنى المصيد كضرب الامير فمن بيانية قطعا والمراد صيد البر مأكولا وغير مأكول ما عدا المستثنيات من الفواسق فاللام للعهد وفى الحديث « خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور » واراد بالكلب العقور الذئب على ما ورد فى بعض الروايات { تناله ايديكم ورماحكم } اى تصل اليه ايديكم ورماحكم بحيث تأخذون بايديكم وتطعنون برماحكم فالتأكيد القسمى فى ليبلونكم انما هو لتحقيق ما وقع من ان عدم توحش الصيد عنهم ليس الا لابتلائهم لا لتحقيق وقوع المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شىء للتحقير المؤذن بان ذلك ليس من الفتن الهائلة التى تزل فيها اقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الانفس واتلاف الاموال وانما هو من قبيل ما ابتلى به اهل ايلة من صيد السمك يوم السبت وفائدته التنبيه على ان من لم يتثبت فى مثل هذا كيف يتثبت عند ما هو اشد منه من المحن { ليعلم الله من يخافه بالغيب } الخوف من الله بمعنى الخوف من عقابه وبالغيب حال من مفعول يخافه وهو عقاب الله اى ليتميز الخائف من عقابه الاخروى وهو غائب مترقب لقوة ايمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخاف كذلك لضعف ايمانه فيقدم عليه فعلم الله تعالى لما كان مقتضى ذاته وامتنع عليه التجدد والتغير كما امتنع ذلك على ذاته جعل ههنا مجازا عن تميز المعلوم وظهوره على طريق اطلاق السبب على المسبب حيث قال القاضى ذكر العلم واراد وقوع المعلوم وظهوره وابو السعود انما عبر عن ذلك بعلم الله اللازم له ايذانا بمدار الجزاء ثوابا وعقابا فانه ادخل فى حملهم على الخوف { فمن اعتدى بعد ذلك } اى بعد بيان ان ما وقع ابتلاء من جهته تعالى بما ذكر من الحكمة والمعنى فمن تعرض للصيد بعد ما بينا ان ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤدّ الى تميز المطيع من العاصى { فله عذاب اليم } لان الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة وعدم مبالاة بتدبير الله وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية والمراد عذاب الآخرة ان مات قبل التوبة والتعزير والكفارة فى الدنيا بنزع ثيابه فيضرب ضربا وجيعا مفرقا فى اعضائه كلها ما خلا الوجه والرأس والفرج ويؤمر بالكفارة(3/332)
والاشارة فى الآية ان الله تعالى جعل البلاء للولاء كاللهب للذهب فقال { يا ايها الذين آمنوا } ايمان المحبين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال واحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال واحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال { ليبلونكم الله } فى اثناء السلوك { بشىء من الصيد } وهو ما سنح من المطالب النفسانية الحيوانية والمقاصد الشهوانية الدنيوية { تناله ايديكم } اى ما يتعلق بشهوات نفوسكم ولذات ابدانكم { ورماحكم } اى ما يتعلق بالمال والجاه { ليعلم الله من يخافه بالغيب } وهو يعلم ويرى اى ليظهر الله ويميز بترك المطالب والمقاصد فى طلب الحق من يخافه بالغيبة والانقطاع عنه ويحترز عن الالتفات لغيره { فمن اعتدى بعد ذلك } اى تعلق بالمطالب بعد الطلب { فله عذاب اليم } من الرد والصد والانقطاع عن الله كذا فى التأويلات النجمية
قال اوحد المشايخ فى وقته ابو عبد الله الشيرازى قدس سره رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام وهو يقول من عرف طريقا الى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به احدا من العالمين
يقول الفقير سمى الذبيح الحقى غفر الله ذنوبه انما كان عذابه اشد لانه رجع عن طريقه بعد معرفته انه الحق الموصل الى الله تعالى وليس من يعلم كمن لا يعلم وسبب الرجوع الامتحانات فى الطريق : قال فى المثنوى
قلب جون آمد سيه شد در زمان ... زر درآمدشد زرىء اوعيان
دشت وبا انداخت زردربوته خش ... در رخ آتش همى خندد رخش
قال الحافظ
ترسم كزين جمن نبرى آستين كل ... كز كلشنش تحمل خارى نميكنى
فينبغى للطالب الصادق ان يتحمل مشاق الرياضات ويزكى نفسه عن الشهوات ويحترز عن اكل ما يجده من الحلال فضلا عما حرم الله الملك المتعال فان اصلاح الطبيعة والنفس وان كان بفضل الله وعنايته لكن الصوم وتقليل الطعام من الاسباب القوية فى هذا الباب يحكى ان سالكا خاطب نفسه بعد رياضات شديدة فقال من انت ومن انا فقالت له نفسه انت انت وانا انا فاشتغل بالتزكية ثانيا حتى حج ماشيا مرات فسأل ايضا فاجابت بما اجابت به اولا فاشتغل اشد من الاول وعالجوا بتقليل الطعام حتى امات نفسه فسأل من انت فقالت انت انت وانا صرت فانية ولم يبق من وجودى اثر فاستراح بعون الله تعالى
وسئل حضرة المولوى هل يعصى الصوفى قال لا الا ان يأكل طعاما قبل الاشتهاء فانه سم له وداء اللهم اعنا على اصلاح هذه النفس الامارة(3/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد } وهو عند ابى حنيفة اسم لكل ممتنع متوحش من الحيوانات سواء كان مأكول اللحم او لم يكن والمراد ما عدا الفواسق وهى العقرب والحية والغراب والفارة والكلب العقور فانها تقتل فى الحل والحرم { وانتم حرم } جمع حرام وهو المحرم وان كان فى الحل وفى حكمه من فى الحرم وان كان حلالا اى لابس حله فالمحرم لا يتصيد اصلا سواء كان فى الحل او فى الحرم بالسلاح او بالجوارح من الكلاب والطير والحلال يتصيد فى الحل دون الحرام اى حرم مكة ومقداره من قبل المشرق ستة اميال ومن الجانب الثانى اثنا عشر ميلا ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلا ومن الجانب الرابع اربعة وعشرون ميلا هكذا قال الفقيه ابو جعفر . وانما ذكر القتل دون الذبح للايذان بكونه فى حكم الميتة فكل ما يقتله المحرم من الصيد لا يكون مذكى وغير المذكى لا يجوز اكله والمعنى لا تقتلوه والحال انتم محرمون { ومن } شرطية { قتله } اى الصيد المعهود البرى مأكولا كان او غير مأكول حال كون القاتل كائنا { منكم } اى من المؤمنين ولعل المقصود من التقييد بالحال توبيخ المؤمن على عدم جريانه على مقتضى ايمانه { متعمدا } حال ايضا من فاعل قتله اى ذاكرا لاحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله والتقييد بالتعمد مع ان محظورات الاجرام يستوى فيها الخطأ والعمد لان الاصل فعل المتعمد والخطأ لاحق به للتغليظ { فجزاء } اى فعليه جزاء وفدية { مثل ما قتل } اى مماثل لما قتل فهو صفة الجزاء والمراد به عند ابى حنيفة وابى يوسف المثل باعتبار القيمة لا باعتبار الخلقة والهيئة فيتقوم الصيد حيث صيد اوفى اقرب الاماكن اليه ان قتل فى بر لا يباع ولا يشترى فيه فان بلغت قيمته قيمة هدى تخير الجانى بان يشترى بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه الى الحرم وبين ان يشترى بها طعاما فيعطى كل مسكين نصف صاع من بر او صاعا من تمر وبين ان يصوم عن طعام كل مسكين يوما فان فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به او صام عنه يوما كاملا لان الصوم مما لا يتبعض فيكون قوله تعالى { من النعم } بيانا للهدى المشترى بالقيمة على احد وجوه التخيير فان فعل ذلك يصدق عليه انه جزى بمثل ما قتل من النعم والنعم فى اللغة من الابل والبقر والغنم فاذا انفردت الابل قيل انها نعم واذا انفردت البقر والغنم لم تسم نعما { يحكم به } اى بمثل ما قتل صفة لجزاء { ذوا عدل منم } اى رجلان عدلان من المسلمين { هديا } الهدى ما يهدى الى البيت تقربا الى الله تعالى من النعم ايسره شاة واوسطه بقرة واعلاه بدنة اى ناقة وهو حال مقدرة من الضمير فى به والمعنى مقدرا انه يهدى { بالغ الكعبة } صفة لهديا لان الاضافة لفظية والاصل بالغا الكعبة ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم حتى لو دفع الهدى المماثل للمقتول الى فقراء الحرم لم يجز بالاتفاق بل يجب عليه ذبحه فى الحرم وله ان يتصدق به بعد ذبحه فى الحرم حيث شاء عند ابى حنيفة { او كفارة } عطف على محل من النعم على انه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة ثانية لجزاء { طعام مساكين } عطف بيان لكفارة عند من لا يخصصه بالمعارف { او عدل ذلك صياما } عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم او طعام مساكين او صيام ايام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدى والطعام والصيام .(3/334)
اما الاولان فبلا واسطة . واما الثالث فبواسطة الثانى فيختار الجانى كلا منها بدلا من الآخرين
قال الفراء العدل بالكسر المثل من جنسه والعدل بالفتح المثل من غير جنسه فعدل الشىء ما عادله من جنسه كالصوم والاطعام وعدله ما عدل به فى المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك اشارة الى الطعام وصياما تمييز للعدل والخيار فى ذلك للجانى عند ابى حنيفة وابى يوسف وللحكمين عند محمد { ليذوق } متعلق بالاستقرار فى الجار والمجرور اى فعليه جزاء ليذوق قاتل الصيد { وبال امره } اى سوء عاقبة هتكه لحرمة الاحرام والوبال فى الاصل المكروه والضرر الذى ينال فى العاقبة من عمل سولته نفسه { عفا الله عما سلف } من قتل الصيد محرما قبل التحريم { ومن عاد } الى قتل الصيد بعد النهى عنه وهو محرم ومن شرطية { فينتقم الله منه } اى فهو ممن ينتقم الله منه لان الفعل اذا وقع جزاء لا يحتاج الى الحرف بخلاف الجملة الاسمية فقدر المبتدأ لئلا تصير الفاء الجزائية لغوا والمراد بالانتقام التعذيب فى الآخرة واما الكفارة فعن بعضهم انها واجبة على العائد وعن بعضهم انه لا كفارة عليه تعلقا بالظاهر واصل الانتقام الانتصار والانتصاف واذا اضيف الى الله تعالى اريد به المعاقبة والمجازاة { والله عزيز } غالب لا يغالب { ذو انتقام } شديد ممن اصر على العصيان والاعتداء قال الله تعالى مخاطبا لخليله [ يا ابراهيم خف منى كما تخاف من السبع الضارى ] يعنى ان الله تعالى اذا اراد اجراء قضائه على احد لا يفرق بين نبى وولى وعدو كما لا يفرق السبع المفترس بين نفاع وضرار فهو تعالى شديد البطش فكيف يتخلص المجرمون من يد قهره وانتقامه فليحذر العاقل من المخالفة والعصيان بقدر الاستطاعة والامكان اينما كان فان الانسان لا يحصد الا ما يزرع : قال فى المثنوى(3/335)
جمله دانند اين اكر تونكروى ... هرجه مى كاريش روزى بدروى
والعجب ان الانسان الضعيف كيف يعصى الله القوى وليس الا من الانهماك فى الشهوات والغفلة عن الله تعالى والنكتة فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وانتم حرم } انه اباح الصيد لمن كان حلالا وهم اهل السلو من العوام الذين رضوا من الكمالات الدينية بالاعمال البدنية من قصور هممهم الدنية وحرم الصيد على من كان حراما وهم اهل المحبة المحرومون من الدنيا لزيارة كعبة الوصلة يعنى من قصدنا فعليه بحسم الاطماع جملة ولا ينبغى ان يكون له مطالبة بحال من الاحوال الا طلب الوصال ويقال العارف صيد الحق ولا يكون للصيد صيد { ومن قتله منكم } اى من الطلاب اذا التفت لشىء من الدنيا { متعمدا } وهو واقف على مضرته وعالم بما فيه فيغلب عليه الهوى ويقع فيه بحرص النفس { فجزاء مثل ما قتل من النعم } يجازى نفسه برياضة ومجاهدة ويماثل ألمها تلك اللذة والشهوة { يحكم به ذوا عدل منكم } وهو القلب والروح يحكمان على مقدار الايمان وعلى انواع الرياضات بتقليل الطعام والشراب او ببذل المال او بترك الجام او بالعذلة والخلوة وضبط الحواس { هديا بالغ الكعبة } اى خالصا لله تعالى فيما يعمل بحيث يصلح لقبول الحق من غير ملاحظة الخلق { او كفارة طعام مساكين } وهم العقل والقلب والسر والروح والخفى فانهم كانوا محرمين من اغذيتهم الروحانية من صدق التوجه الى الحق وخلوص الاعراض عن الخلق وتجرع الصبر على المكروهات والفطام عن المألوفات والشكر على الموهوبات والرضى بالمقدرات والتسليم للاحكام الازليات { او عدل ذلك صياما } والصيام هو الامساك عن ملاحظة الاغيار وطلب الاختيار والركون الى غير الملك الجبار { ليذوق } النفس الامارة { وبال امره } اى تتألم بألم هذه المعاملات التى على خلاف طبعها جزاء وكفارة لما نالت من لذائذ الشهوات وحلاوة الغفلات { عفا الله عما سلف } من الطالبين قبل اقدامهم على الطلب { ومن عاد } الى تعلق شىء من الدنيا بعد الخروج عنها بقدم الصدق { فينتقم الله منه } بالخذلان فى الدنيا والخسران فى العقبى { والله عزيز } لا يوجد لمن تعلق بالكونين حتى يتجرد الطالب عن القليل والكثير والصغير والكبير { ذو انتقام } ينتقم من احبائه باحتجاب التعزز بالكبرياء والعظمة على قدر ألتفاتهم الى غيره وملاحظتهم ما سواه وينتقم من اعدائه بما قاله { ونقلب افئدتهم وابصارهم } الآية من التأويلات النجمية وفى المثنوى
عاشق صنع توام درشكروصبر ... عاشق مصنوع كىباشم جوكبر
عاشق صنع خدا بافر بود ... عاشق مصنوع او كافر بود
فعلى الطالب الصادق ان ينقطع عن الالتفات الى الغير ويتصل الى من بيده الخير والله الموفق والمعين(3/336)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{ احل لكم } الخطاب للمحرمين { صيد البحر } اى ما يصاد فى المياه كلها بحرا كان او نهرا او غديرا وهو ما لا يعيش الا فى الماء مأكولا كان او غير مأكول فما يعيش فى البر والبحر كالبط والضفدع والسرطان والسلحفاة وجميع طيور الماء لا يسمى صيد البحر بل كل ذلك صيد البر ويجب الجزاء على قاتله
قال الامام جميع ما يصطاد فى البحر ثلاثة اجناس . السمك وجميع انواعه حلال . والضفادع وجميع انواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين الجنسين
فقال ابو حنيفة انه حرام
وقال الاكثرون انه حلال لعموم هذه الآية
وقال محيى السنة جملة حيوانات الماء على قسمين سمك وغيره . اما السمك فميتته حلال مع اختلاف انواعها قال النبى عليه الصلاة والسلام « احلت لنا ميتتان السمك والجراد » ولا فرق بين ان يموت بسبب او بغير سبب وعند ابى حنيفة يحل الا ان يموت بسبب من وقوع على حجر او انحسار الماء عنه ونحو ذلك . واما غير السمك فقسمان قسم يعيش فى البر كالضفدع والسرطان ولا يحل اكله وقسم يعيش فى الماء ولا يعيش فى البر الا عيش المذبوح فاختلف فيه فذهب قوم الى ان لا يحل شىء منها الا السمك وهو قول ابى حنيفة وذهب قوم الى ان ميتة الكل حلال لان كلها سمك وان اختلف صورها كالجريث يقال له حية الماء لكونه على شكل الحية واكله مباح بالاتفاق { وطعامه } اى طعام البحر وهو ما قذفه البحر ولفظه او نضب عنه الماء اى غار وبقى هو فى ارض يابسة فيؤخذ من غير معالجة فى اخذه
وقال المولى ابو السعود { وطعامه } اى ما يطعم من صيده وهو تخصيص بعد التعميم والمعنى احل لكم التعرض لجميع ما يصاد فى المياه والانتفاع به انتهى { متاعا لكم } نصب على انه مفعول له
قال المولى ابو السعود مختص بالطعام كما ان نافلة فى قوله تعالى { ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة } حال مختصة بيعقوب اى احل لكم طعامه تمتعا للمقيمين يأكلونه طريا { وللسيارة } منكم يتزودونه قديدا { وحرم عليكم صيد البر } وهو ما يفرخ فيه وان كان يعيش فى الماء فى بعض الاوقات كطير الماء { ما دمتم حرما } ما مصدرية ظرفية اى مدة دوامكم محرمين لا خلاف فى الاصطياد انه حرام على المحرم فى البر فاما عين الصيد فظاهر الآية يوجب حرمة ما صاد الحلال على المحرم وان لم يكن له مدخل فيه لكن مذهب ابى حنيفة انه يحل له ما صاده الحلال وان صاده لاجله اذا لم يشر اليه ولم يدل عليه وكذا ما ذبحه قبل احرامه لان الخطاب للمحرمين وكأنه قيل حرم عليكم ما صدتم فى البر فيخرج منه مصيد غيرهم { واتقوا الله } فيما نهاكم عنه من جميع المعاصى التى من جملتها اخذ الصيد فى الاحرام { الذى اليه تحشرون } لا الى غيره حتى يتوهم الخلاص من اخذه تعالى بالالتجاء اليه كما قال تعالى(3/337)
{ الى ربك يومئذ المساق } اى المنتهى والمرجع بسوق الملائكة الى حيث امرهم الله اما الى الجنة واما الى السعير وفى الحديث « من اشتاق الى الجنة سارع الى الخيرات ومن اشفق من عذاب جهنم كف نفسه عن المحرمات ومن زهد فى الدنيا هانت عليه المصيبات » ومن اراد سهولة الموت فليبادر الى الخيرات فمن لم يترك شهوة لم يرض عنه ربه بطاعته ومن لم يتق الله فى سره لم ينتفع بما ابداه من علامة التقوى : وفى المثنوى
كافرم من كرزيان كردست كس ... درره ايمان وطاعت يكنفس
كار تقوى دارد ودين وصلاح ... كه بدان باشد بدوعالم فلاح
والاشارة فى الآية { احل لكم } ايها المستغرقون فى بحر الحقائق { صيد البحر } ما تصيدون من بحر المعرفة بالمشاهدات والكشوف { وطعامه متاعا لكم وللسيارة } يعنى تشبعون بما يرد عليكم من وارد الحق وتجلى الصفات كما قال عليه السلام « ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى » وتطعمون منه السائرين الى الله من اهل الارادة كقوله تعالى { فكلوا منها واطعموا البائس الفقير } وهذا حال المشايخ واهل التربية من العلماء الراسخين { وحرم عليكم } ايها الطلاب { صيد البر } وهو ما سنح فى اثناء السير الى الله من مطالب الدنيا والآخرة كما قال عليه السلام « الدنيا حرام على اهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وكلتاهما حرامان على اهل الله » { ما دمتم حرما } اى ما دمتم محرمين الى كعبة الوصول متوجهين الى حضرة الوصال فان حكم المتوجه ينافى حكم الواصل الكامل لان من وصل صار محوا والمتوجه صاح وبون بين الصاحى والماحى فان افعال الصاحى به ومنه واحوال الماحى ليست به ولا منه والله غالب على امره فبى يسمع وبى ينطق وبى يبطش ولهذا قال تعالى { واذا حللتم فاصطادوا } اى اذا فرغتم من مناسك الوصول وسلكتم مسالك الاصول سقط عنكم كلف المحرمين ومؤونات المسافرين وثبت لكم لزوم العاكفين واحكام الطائفين كما قال { واتقوا الله الذى اليه تحشرون } يعنى اتقوا بالله الذى اليه تجمعون وتصلون عما سواه لكيلا تحوروا بعدما تكوروا نعوذ بالله من الحور بعد الكور كذا فى التأويلات النجمية المسماة ببحر الحقائق اللهم افض علينا من بركات اوليائك وادر علينا من كاسات احبائك واودائك(3/338)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
{ جعل الله الكعبة } اى صيرها وانما سمى البيت كعبة لتكعبه اى لتربعه والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة تشبيها له بكعب الرجل الذى عند ملتقى الساق والقدم فى كونه على هيئته فى التربيع . وقيل سميت كعبة لارتفاعها عن الارض واصلها من الخروج والارتفاع وسمى الكعب كعبا لنتوه وخروجه من جانبى القدم ومنه قيل للجارية اذا قاربت البلوغ وخرج ثدياها كاعب والكعبة لما ارتفع ذكرها فى الدنيا واشتهر امرها فى العالم سميت بهذا الاسم ولذلك انهم يقولون لمن عظم قدره وارتفع شأنه فلان علا كعبه
قال صاحب اسئلة الحكم جعل الله لبيته العتيق اربعة اركان وهى فى الحقيقة ثلاثة اركان لانه شكل مكعب ولذلك سميت بالكعبة تشبيها بالكعب فسرّ كونه على اربعة اركان بالوضع الحادث اشارة الى قلوب المؤمنين لان قلب المؤمن لا يخلو من اربعة خواطر آلهى وملكى ونفسانى وشيطانى فركن الحجر بمنزلة الخاطر الالهى واليمانى بمنزلة الملكى والشامى بمنزلة النفسانى والركن العراقى بمنزلة الشيطانى لان الشرع شرع ان يقال عنده اعوذ بالله من الشقاق والنفاق وبالذكر المشروع تعرف مراتب الاركان
واما سر كونه مثلث الشكل المكعب فاشارة الى قلوب الانبياء عليهم السلام ليميز الله رسله وانبياءه بالعصمة التى اعطاهم والبسهم اياها فليس لنبى الا ثلاثة خواطر الهى وملكى ونفسى ولغيرهم هذه وزيادة الخاطر الشيطانى فمنهم من ظهر حكمه عليه فى الظاهر وهم عامة الخلق ومنهم من يخطر له ولا يؤثر فى ظاهره وهم المحفوظون من اوليائه بالعصمة الوجوبية للانبياء والحفظ الجوازى للاولياء { البيت الحرام } عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة كذلك وسمى البيت الحرام لان الله تعالى حرمه وعظم حرمته فالحرام بمعنى المحرم وفى الحديث « ان الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والارض » قال بان ملك اعلم ان مكة شرفها الله حرمها ابراهيم عليه السلام لما صح عن النبى عليه الصلاة والسلام انه قال « ان ابراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة » وما روى انه عليه السلام قال « ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات » فالمراد به كتابته فى اللوح المحفوظ ان ابراهيم سيحرمه انتهى كلامه
يقول الفقير ان حرمته العرضية وان كانت حادثة لكن حرمته الذاتية قديمة وتلك الكتابة من الحرمة الذاتية عند الحقيقة
وقد جاء فى بعض التفاسير فى قوله تعالى { ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين } انه لم يجبه بهذه المقالة من الارض الا ارض الحرم فلذلك حرمها فصارت حرمتها كحرمة المؤمن انما حرم دمه وعرضه وماله بطاعته لربه فارض الحرم لما قالت اتينا طائعين حرم صيدها وشجرها وخلاها فلا حرمة الا لذى طاعة وفى الخبر(3/339)
« لم يأكل الحيتان الكبار صغارها فى ارض الحرم فى الطوفان لحرمتها » { قياما للناس } مفعول ثان للجعل ومعنى كونه قياما لهم انه مدار لقيام امر دينهم ودنياهم . اما الاول فلانه يتوجه اليه الحجاج والعمار فيكون ما فى البيت من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة سببا لحط الخطيآت وارتفاع الدرجات ونيل الكرامات . واما الثانى فلانه يجبى الى الحرم ثمرات كل شىء يربح فيه التجار وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ولا يتعرض لهم احد بسوء فى الحرم حتى ان الرجل اذا اصاب ذنبا فى الجاهلية والاسلام او قتل قتيلا لجأ الى الحرم ويأمن فيه : قال المحيى فى فتوح الحرمين مدحا لحضرة الكعبة
هيج نبى هيج ولى هم نبود ... كه اونه برين دررخ اميد سود
هادىء ره نيست بجزلطف دوست ... آمدنت را طلب از نزد اوست
تا نز ند سر ز جمن نو كلى ... نغمه سرا يى نكند بلبلى
{ والشهر الحرام } اى وجعل الشهر الحرام الذى يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة قياما لهم ايضا فالمفعول الثانى محذوف ثقة بما مر ووجه كون الشهر الحرام سببا لقيام الناس ان العرب كان يتعرض بعضهم لبعض بالقتل والغارة فى سائر الاشهر فاذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على سفر الحج والتجارات آمنين على انفسهم واموالهم فكان سببا لاكتساب منافع الدين والدنيا ومصالح المعاش والمعاد
وقد فضل الله الاشهر والايام والاوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والامم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب الى ادراكها واحترامها وتتشوق الارواح الى احيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق فى فضائلها
قال الامام النيسابورى عشر ذى الحجة افضل الايام واحبها عند الله تعالى بعد شهر رمضان لانها هى التى ناجى فيها كليم الله موسى ربه وفيها احرم جميع الخلق بالحج ووجد آدم التوبة فى ايام العشر واسماعيل الفداء وهود النجاة ونوح الانجاء ومحمد الرسالة واصحابه الرضوان فى البيعة وبشارة خيبر وفتح الحديبية ونزول المغفرة بقوله تعالى { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وغير ذلك من الآيات والكرامات وصيام يوم من العشر كصيام الف يوم وقيام ليلة منها كعبادة من حج واعتمر طول سنته فصوم هذا العشر مستحب استحبابا شديدا لا سيما التاسع وهو يوم عرفة لكن يستحب الفطر يوم عرفة للحجاج لئلا يلحقهم فتور عن اداء الطاعات المشروعة فى ذلك اليوم ويؤدوها عل الحضور والكمال وفى الحديث « خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت انا والنبيون لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير » { والهدى } اى وجعل الله الهدى ايضا قياما لهم وهو ما يهدى الى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه بين الفقراء فانه نسك المهدى وقوام لمعيشة الفقراء فكان سببا لقيام امر الدين والدنيا(3/340)
يقول الفقير ومنه يعرف ان المقصود من القربان دفع حاجة الفقراء ولذا يستحب للمضحى ان يتصدق باكثر اضحيته بل بكلها
هر كسى از همت والاى خويش ... سود برد اودرخور كالاى خويش
وللحجاج يوم عيد القربان مناسك الذهاب من منى الى المسجد الحرام فلغيرهم الذهاب الى المصلى موافقة لهم والطواف فلغيرهم صلاة العيد لقوله عليه السلام « الطواف بالبيت صلاة » واقامة السنن من الحلق وقص الاظفار ونحوها فلغيرهم ازالة البدعة واقامة السنة والقربان فلغيرهم ايضا ذلك ولكن ليس كل مال يصلح لخزانة الرب ولا كل قلب يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب : وفى المثنوى
آن تو كل كو خليلان ترا ... تا نبرد تيغت اسماعيل را
آن كرامت جون كليمت ازكجا ... تا كنى شهراه قعرنيل را
{ والقلائد } اى وجعل لله القلائد ايضا قياما للناس وهى جمع قلادة وهى ما يقلد به الهدى من نعل او لحاء شجر ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له بركوب او حمل والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهى البدن وهى الناقة والبقرة مما يجوز فى الهدى والاضاحى وخصت بالذكر لان الثواب فيها اكثر وبهاء الحج بها اظهر ولذا ضحى عمر رضى الله عنه بنجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار لقوله تعالى { ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب } ووجه كون القلائد سببا لقيام الناس ان من قلد هديا لم يتعرض له احد وربما كانوا يقلدون رواحلهم اذا رجعوا من مكة من لحاء شجر الحرم فيأمنون بذلك وكان اهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدى والقلائد فلا يتعرض له تعظيما له { ذلك } اشارة الى الجعل منصوب بفعل مقدر اى شرع الله ذلك وبين { لتعلموا ان الله يعلم ما فى السموات وما فى الارض } فان تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الاولوية والاخروية من اوضح الدلائل على حكمة الشارع وعلى عدم خروج شىء من علمه المحيط { وان الله بكل شى عليم } تعميم بعد تخصيص للتأكيد { اعلموا ان الله شديد العقاب } وعيد لمن انتهك محارمه وآصر على ذلك { وان الله غفور رحيم } وعد لمن حافظ على مراعاة حرمانه تعالى او انقطع عن الانتهاك بعد تعاطيه { ما على الرسول الا البلاغ } اى تبليغ الرسالة فى امر الثواب والعقاب وهو تشديد فى ايجاب القيام بما امر به اى الرسول قد اتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد فى التفريط { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } اى ما تظهرون من القول والعمل وما تخفون فيؤاخذكم بذلك نقيرا وقطميرا : قال السعدى قدس سره(3/341)
بروعلم يك ذره بوشيده نيست ... كه بنهان وبيدا بنزدش يكيست
والاشارة فى الآية ان الله تعالى كما جعل الكعبة فى الظاهر قياما للعوام والخواص يلوذون به ويستنجحون بالتضرع والابتهال هناك حاجاتهم الدنيوية والاخروية كذلك جعل كعبة القلب فى الباطن قياما للخواص وخواص الخواص ليلوذوا به بطريق دوام الذكر ونفى الخواطر بالكلية واثبات الحق بالربوبية والواحدية بان لا موجود الا هو ولا وجود الا له ولا مطلوب ولا محبوب الا هو وسماه البيت الحرام ليعلم انه بيت الله على الحقيقة وحرام ان يسكن فيه غيره فيراقبه عن ذكر ما سوى الحق وحبه وطلبه الى ان يفتح الله ابواب فضله ورحمته والشهر الحرام هو ايام الطلب والسير الى الله حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق والهدى هو النفس البهيمية تساق الى كعبة القلب مع القلائد وهى اركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ولذاتها الحيوانية وفى قوله تعالى { ذلك لتعلموا } الآية اشارة الى ان العبد اذا وصل الى كعبة القلب فيرى بيت الله ويشاهد انوار الجمال والجلال فتلك الانوار يشاهد ما فى السموات وما فى الارض لانه ينظر بنور الله فيعلم على التحقيق { ان الله يعلم ما فى السموات وما فى الارض وان الله بكل شىء عليم } { اعلموا ان الله شديد العقاب } يسدل الحجاب لغير الاحباب ممن ركنوا الى الدنيا واغتروا بزينتها وشهواتها { وان الله غفور رحيم } لطالبيه وقاصدى حضرته بفتح الابواب ورفع الحجاب { ما على الرسول الا البلاغ } بالقال والحال { والله يعلم ما تبدون } من الايمان باقدار اللسان وعمل الاركان { وما تكتمون } من تصديق الجنان او التكذيب وصدق التوجه وخلوص النية فى طلب الحق كذا فى التأويلات النجمية(3/342)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{ قل لا يستوى الخبيث والطيب } نزلت فى حجاج اليمامة لما هم المسلمون ان يوقعوا بهم بسبب انه كان فيهم الحطيم وقد اتى المدينة فى السنة السابقة واستاق سرح المدينة فخرج فى العام القابل وهو عام عمرة القضاء حاجا فبلغ ذلك اصحاب السرح فقالوا للنبى عليه السلام هذا الحطيم خرج حاجا مع حجاج اليمامة فخل بيننا وبينه فقال عليه السلام « انه قلد الهدى » ولم يأذن لهم فى ذلك بسبب استحقاقهم الا من بتقليد الهدايا فنزلت الآية تصديقا له عليه السلام فى نهيه اياهم عن تعرض الحجاج وان كانوا مشركين وقد مضت هذه القصة فى اول السورة عند قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } الآية وبقى حكم هذه الآية الى ان نزلت سورة البراءة فنسخ بنزولها لانه قد كان فيها { انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وفيها { اقتلوا المشركين } فنسخ حكم الهدى والقلائد والشهر الحرام والاحرام وامنهم بها بدون الاسلام وسبب النزول وان كان خاصا لكن حكمه عام فى نفى المساواة عند الله بين الردى وبين الجيد ففيه ترغيب فى الجيد وتحذير عن الردى ويتناول الخبيث والطيب امورا كثيرة . فمنها الحرام والحلال فمثقال حبة من الحلال ارجح عند الله من ملىء الدنيا من الحرام لان الحرام خبيث مردود والحلال طيب مقبول فهما لا يستويان ابدا كما ان طالبهما كذلك اذا طالب الخبيث خبيث وطالب الطيب طيب والله تعالى يسوق الطيب الى الطيب كما انه يسوق الخبيث الى الخبيث كما قال { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } والطيب عند سادات الصوفية قدس الله اسرارهم ما كان لا فكر وحركة نفسانية سواء سيق من طرف صالح او فاسق لانه رزق من حيث لا يحتسب وهو مقبول وخلافه مردود ولا بعد فى هذا لان حسنات الابرار سيآت المقربين وبينهما بون بعيد وايضا الخبيث من الاموال ما لم يخرج منها حق الله والطيب ما اخرجت منه الحقوق والخبيث ما انفق فى وجوه الفساد والطيب ما انفق فى وجوه الطاعات والطيب من الاموال ما وافق نفع الفقراء فى اوقات الضرورات والخبيث ما دخل عليهم فى وقت استغنائهم فاشتغلت خواطرهم بها . ومنها المؤمن والكافر والعادل والفاسق فالمؤمن كالعسل والكافر كالسم والعادل كشجرة الثمرة والفاسق كشجرة الشوك فلا يستويان على كل حال . ومنها الاخلاق الطيبة والاخلاق الخبيثة فمثل التواضع والقناعة والتسليم والشكر مقبول ومثل الكبر والحرص والجزع والكفران مردود لان الاول من صفات الروح والثانى من صفات النفس والروح طيب علوى والنفس خلافه : وفى المثنوى
هين مرواندر بى نفسى جوزاغ ... كو بكورستان برد نه سوى باغ
نفس اكرجه زيركست وخرده دان ... قبله اش دنياست اورامرده دان(3/343)
ومن اخلاق النفس حب المال والكبار قد عدوا المال الطيب حجابا فما ظنك بالخبيث منه فلا بد من تصفية الباطن وتخليته عن حب ما سوى الله تعالى . ومنها العلوم النافعة والعلوم الغير النافعة فالنافعة كعلوم الشريعة وغير النافعة كعلوم الفلاسفة : وفى المثنوى
علم دين فقهست وتفسير وحديث ... هركه خواند غير ازين كرددخبيث
ومنها الاعمال الصالحة والاعمال الغير الصالحة فما اريد به وجه الله تعالى فهو صالح وما اريد به الرياء والسمعة فهو غير صالح
عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغز بوست
قال فى التأويلات النجمية الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك الى الله . وايضا الطيب هو الله الواحد والخبيث ما سواه وفيه كثرة { ولو اعجبك كثرة الخبيث } الواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر اى لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو اعجبتك وكلتاهما فى موضع الحال من فاعل لا يستوى اى لا يستويان كائنين على كل حال مفروض وجواب لو محذوف والمعنى والتقدير ان الخبيث ولو اعجبتك كثرته يمتنع ان يكون مساويا للطيب فان العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة فان المحمود القليل خير من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيث كان اخبث ومعنى الاعجاب السرور بما يتعجب منه يقال يعجبنى امر كذا اى يسرنى والخطاب فى اعجبك لكل واحد من الذين امر النبى عليه السلام بخطابهم { فاتقوا الله } فى تحرى الخبيث وان كثروا آثروا الطيب وان قل { يا اولى الالباب } يا ذوى العقول الصافية وهم فى الحقيقة من تخلصت قلوبهم وارواحهم من قشور الابدان والنفوس { لعلكم تفلحون } راجين ان تنالوا الفلاح وهو سعادة الآخرة
ثم ان التقوى على مراتب
قال ابن عطاء التقوى فى الظاهر مخالفة الحدود وفى الباطن النية والاخلاص وقال فى قوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } وهو صدق قولك لا اله الا الله وليس فى قلبك شىء سواه
ومن وصايا حضرة المولوى قبيل وفاته [ اوصيكم بتقوى الله فى السر والعلانية وبقلة الطعام وقلة المنام وقلة الكلام وهجر المعاصى والآثام وترك الشهوات على الدوام واحتمال الجفاء من جميع الانام وترك مجالسة السفهاء والعوام ودوام مصاحبة الصالحين الكرام فان خير الناس من ينفع الناس وخير الكلام ما قل ودل ]
واعلم ان النافع هو التقوى والسبب المنجى هو الايمان والعمل الصالح دون الحسب والنسب فلا يغرنك الشيطان بكثرة اموالك واولادك ووفرة مفاخر آبائك واجدادك فاصل البول الماء الطيب الصافى والله تعالى يخرج الميت من الحى(3/344)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } روى انه لما نزلت { ولله على الناس حج البيت } قال سراقة بن مالك أكل عام فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعاد ثلاثا فقال « لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم فاذا امرتكم بامر فخذوا منه ما استطعتم واذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه » فنزلت وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه عليه السلام كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال لا اسأل عن شىء الا اجبت فقال رجل اين ابى فقال « فى النار » وقال آخر من ابى فقال « حذافة » وكان يدعى لغيره فنزلت { ان تبد لكم } الشرطية وما عطف عليها صفتان لاشياء والمساءة معلقة بالابداء والابداء معلق بالسؤال . فالمعنى لا تسألوا عن اشياء ان تسألوا عنها فى زمان الوحى تظهر لكم وان تظهر لكم تغمكم والعاقل لا يفعل ما يغمه . قال البغوى فان من سأل عن الحج لم يأمن ان يأمر به فى كل عام فيسوءه ومن سأل عن نسبه لم يأمن ان يلحقه بغيره فيفتضح { عفا الله عنها } استئناف مسوق لبيان ان نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لانها فى نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد فى الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا اى عفا الله عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج فى كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الاخروية بسبب مسألتكم فلا تعودوا الى مثلها { والله غفور حليم } اى مبالغ فى مغفرة الذنوب والاغضاء عن المعاصى ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم فالجملة اعتراض تذييلى مقرر لعفوه تعالى { قد سألها قوم } اى سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها فى كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم التصريح بالمثل للبالغة فى التحذير { من قبلكم } متعلق بسألها { ثم اصبحوا بها } اى بسببها { كافرين } فان بنى اسرائيل كانوا يستفتون انبياءهم فى اشياء فاذا امروا تركوها فهلكوا كما سأل قوم ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى مائدة
قال ابو ثعلبة ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن اشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها
قال الحسين الواعظ الكاشفى فى تفسيره [ بس نيكبخت آنست كه از حال ديكران عبرت كيردبقول وفعل فضولى اشتغالى ننمايد ودرين باب كفته اند ](3/345)
بكوى آنجه كفتن ضرورت شود ... دكر كفته هارا فروبنددر
بجاى آر فعلى كه لازم بود ... زافعال بى حاصل اندر كذر
وكان رجل يحضر مجلس ابى يوسف كثيرا ويطيل السكوت فقال له يوما مالك لا تتكلم ولا تسأل عن مسألة قال اخبرنى ايها القاضى متى يفطر الصائم قال اذا غابت الشمس قال فان لم تغب الى نصف الليل فتبسم وتمثل ببيت جرير
وفى الصمت زين للخلى وانما ... صحيفة لب المرء ان يتكلما
وفى الحديث « عجبت من بنى آدم وملكاه على نابيه فلسانه قلمهما وريقه مدادهما كيف يتكلم فيما لا يعنيه »
والاشارة فى الآيتين ان الله تعالى نهى اهل الايمان ان يتعلموا العلوم اللدنية وحقائق الاشياء بطريق السؤال لانها ليست من علوم القال وانما هى من علوم الحال فقال { يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء } اى عن حقائق اشياء { ان تبد لكم } بيانها بطريق القال { تسؤكم } اذ لم تهتدوا الى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المشوبة بآفات الهوى والوهم والخيال فى الشبهات فتتهالكوا فى اوديتها كما كان حال طوائف الفلاسفة اذ طلبوا علوم حقائق الاشياء بطريق القال والبراهين المعقولة فما كانت منها مندرجة تحت نظر العقول المجردة عن شوائب الوهم والخيال اصابوها وما ضاق نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث عن الصراط المستقيم واوقعهم فى اودية الشبهات وبوادى الهلكات فهلكوا واهلكوا خلقا عظيما بتصانيفهم فى العلوم الالهية وبعضهم خلطوها بعلم الاصول وقرروا شبهاتهم فيها فضلوا واضلوا عن سواء السبيل وما علموا ان تعلم علوم الحقائق بالقال محال وان تعلمها انما يحصل بالحال كما كان حال الانبياء مع الله فقد علمهم علوم الحقائق بالاراءة لا بالرواية فقال تعالى { وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض } وقال فى حق النبى عليه السلام { لنريه من آياتنا } وقال { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } وقال عليه السلام « ارنا الاشياء كما هى » وكما كان حال الامة مع النبى عليه السلام كان يعلمهم الكتاب بالقال والحكمة بالحال بطريق الصحة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس واخلاقها كقوله تعالى { يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وقال تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحة على موائد المتابعة { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق } ثم قال { وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } اى وان كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق الاشياء فاسألوا عنها بعد نزول القرآن اى من القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم . اما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فانها بيان حقائق الاشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بقولهم طلبا للتأويل فانه لا يعلم تأويلها الا الله والراسخون فى العلم وهم الخواص .(3/346)
واما اخص الخواص فيفهمون مما يشير القرآن اليه من حقائق الاشياء بالرموز والاشارات والمتشابهات ما لا يفهم غيرهم كما اشار بقصة موسى والخضر الى ان تعلم العلم اللدنى انما يكون بالحال فى الصحبة والمتابعة والتسليم وترك الاعتراض على الصاحب المعلم لا بالقال ولا بالسؤال لقوله تعالى { هل اتبعك عن ان تعلمن مما علمت رشدا قال انك لن تستطيع معى صبرا } يعنى فى المتابعة وترك الاعتراض { قال ستجدنى ان شاء الله صابرا ولا اعصى لك امرا قال فان اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء } يعنى ان من شرط المتابعة ترك السؤال عن افعال المعلم وغيرها فلما لم يستطع موسى معه صبرا ليتعلم بالحال وفتح باب القال والسؤال فقال اخرقتها لتغرق اهلها اقتلت نفسا زكية فما واساه الخضر وقال { الم اقل لك انك لن تستطيع معى صبرا قال } يعنى موسى { ان سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى } يشير الى ان العلم اللدنى بالحال فى الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال والسؤال وفى السئوال الانقطاع عن الصحبة فافهم جدا فلما عاد فى الثالثة الى السؤال وقال { لو شئت لاتخذت عليه اجرا قال هذا فراق بينى وبينك } ثم قال { عفا الله عنها } اى عما سألتم وطلبتم من علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية { والله غفور } لمن تاب ورجع الى الله فى طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال { حليم } لمن يطلب بالحال يحلم عنهم فى اثناء ما يصدر منهم مما ينافى امر الطلب الى ان يوفقهم لما يوافق الطلب ثم قال { قد سألها قوم من قبلكم } يعنى من مقدمى الفلاسفة فقد شرعوا فى طلب العلوم الآلهية بالقال ونظر العقل فوقعوا فى اودية الشبهات { ثم اصبحوا بها كافرين } اى بسبب الشبهات التى وقعوا فيها بتتبع القيل والقال وكثرة السؤال وترك متابعة الانبياء عليهم السلام كذا فى التأويلات النجمية(3/347)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{ ما جعل الله } هو الجعل التشريعى ويتعدى الى واحد اى ما شرع وما وضع وما سن { من } مزيدة لتأكيد النفى { بحيرة } كان اهل الجاهلية اذا نتجت الناقة خمسة ابطن آخرها ذكر بحروا اذنها اى شقوها وحرموا ركوبها ودرها ولا تطرد عن ماء ولا مرعى فهى فعيلة من البحر وهو الشق بمعنى المفعولة { ولا سائبة } كان الرجل منهم يقول اذا قدمت من سفرى او برئت من مرضى فناقتى سائبة وجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها فهى فاعلة من قولهم ساب الماء يسيب سيبا اذا جرى على وجه الارض ويقال ايضا سابت الحية فالسائبة هى التى تركت حتى تسيب حيث شاءت { ولا وصيلة } كانوا اذا ولدت الشاة انثى فهى لهم وان ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وان ولدت ذكرا وانثى قالوا وصلت اخاها واستحيوا الذكر من اجل الانثى فلا يذبح لآلهتهم . فمعنى الآية ما جعل الله انثى تحلل ذكرا محرما عند الانفراد فهى فعيلة بمعنى فاعلة { ولا حام } كانوا اذا نتجت من صلب الفحل عشرة ابطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فهو اسم فاعل من حمى يحمى اى منع يقال حماه يحميه اذا حفظه { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } اى يكذبون عمدا حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله امرنا بهذا وامامهم عمرو بن لحى الخزاعى فانه كان اقدم من ملك مكة وكان اول من غير دين اسماعيل فاتخذ الاصنام ونصب الاوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى روى انه عليه السلام قال فى حقه « رأيت عمرو بن لحى الخزاعى يجر قصبه فى النار يؤذى اهل النار بريح قصبه » والقصب المعى هذا شأن رؤسائهم وكبارهم { واكثرهم } وهم اراذلهم الذين يوقعونهم فى معاصى رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يعقلون } انه افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا الى الحق بانفسهم فيبقون فى اسر التقليد { واذا قيل لهم } اى للاكثر على سبيل الهداية والارشاد { تعالوا الى ما انزل الله } من الكتاب المبين للحلال والحرام { والى الرسول } الذى انزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادى الى الحق وانقيادهم للداعى الى الضلال . وحسبنا مبتدأ وما وجدنا خبره وهو فى الاصل مصدر والمراد به اسم الفاعل اى كافينا الذى وجدنا عليه آباءنا { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيأ ولا يهتدون } الواو للعطف على شرطية اخرى مقدرة قبلها والتقدير أيحسبهم ذلك اى أيكفيهم وجدان آبائهم على هذا المقال او أيقولون هذا القول ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيأ من الدين ولا يهتدون للصواب والمعنى ان الاقتداء انما يكون بمن علم انه عالم مهتد وذلك لا يعرف الا بالحجة
قال الحسين الواعظ فى تفسيره [ يعنى ايشان جاهل وكمراه بودند تقليد ايشان نافع نيست بلكه تقليد عالم مىبايد تاكار بتحقيق آنجامد ] قال جلال الدين رومى قدس سره فى المثنوى(3/348)
از مقلد تامحقق فرقهاست ... اين يكى كوهست وان ديكر صداست
دست در بينازنى آيى براه ... دست در كورى زنى افتى بجاه
قال الشيخ على دده فى اسئلة الحكم اما ما ورد فى الاحاديث النبوية فى حق الدجاجلة وظهورها بين الامة فلا شك عند اهل العلم ان الدجاجلة هم الائمة المضلون لا سيما من متصوفة الزمان او متشيخيهم وقد شاهدناهم فى عصرنا هذا قاتلهم الله حيثما كانوا انتهى
قال بعضهم قلت لمتشبه بالصوفية ظاهرا بعنى جبتك لما علم من احواله فقال اذا باع الصياد شبكته فبأى شىء يتصيد
بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت
بنزديك من شبرو راهزن ... به از فاسق بارسا وبيرهن
والاشارة ان الشيطان كلما سلط على قوم اغراهم على التصرف فى انعام اجسامهم ونفوسهم مبتدعين غير متبعين وهم يزعمون ان هذه التصرفات لله وفى الله وفى قوله { ما جعل الله من بحيرة } اشارة الى من يتصرف بما لم يؤمر به كمن يشق اذنه او يثقبها ويجعل فيها الحلقة من الحديد او يثقب صدره او ذكره ويجعل عليه القفل او يجعل فى عنقه الغل او يحلق لحيته مثل ما يفعل هؤلاء القلندرية قال الحافظ قدس سره
قلندرى نه بريشست وموى يا ابرو ... حساب راه قلندر بدانكه موى بموست
كذشتن از سر مو در قلندرى سهلست ... جوحافظ آنكه زسر بكذرد قلندر اوست
{ ولا سائبة } وهم الذين يدرون فى البلاد مسيبين خليعى العذار يرتعون فى مراتع البهيمية والحيوانية بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة وهم يدعون انهم أهل الحق قد لعب الشيطان بهم فاتخذوا الههم هواهم { ولا وصيلة } وهم الذين يبيحون المحرمات ويستحلون الحرمات ويتصلون بالاجانب من طريق الاخوة والابوة كالاباحية والزنادقة فيغتر به ويظن انه بلغ مقام الوحدة وانه محمى عن النقصان بكل حال ولا يضره مخالفات الشريعة اذ هو بلغ مقام الحقيقة فهذا كله من وساوس الشيطان وهو اجس النفس ما امر الله بشىء من ذلك ولا رخص لاحد فيه فهؤلاء الذين وضعوا هذه الطريقة وابتدعوها لا يعلمون شيأ من الشريعة والطريقة ولا يهتدون الى الحقيقة فانهم اهل الطبيعة وارباب الخديعة ولقد شاعت فى الآفاق فتنتهم وكملت فيهم غرتهم ومالهم من دافع ولا مانع ولا وازع على ان الخرق قد اتسع على الراقع
ارى الف بان لا يقوم بهادم ... فكيف بيان خلفه الف هادم(3/349)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم } اى الزموا اصلاح انفسكم وحفظها مما يوجب سخط الله وعذاب الآخرة { لا يضركم } ضلال { من ضل } بالفارسى [ زيانى نرساند شمارا بى راهىء آنكس كه كمراه شد ] { اذا اهتديتم } اذا كنتم مهتدين . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون ايمانهم وفيهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعوون عنه بالامر والنهى { الى الله } لا لاحد سواه { مرجعكم } رجوعكم يوم القيامة { جميعا } الضلال والمهتدى { فينئبكم بما كنتم تعملون } فى الدنيا من اعمال الهداية والضلال اى فيجازيكم على ذلك فهو وعد ووعيد للفريقين المهتدين والضالين وتنبيه على ان احدا لا يؤاخذ بعمل غيره ولا يتوهمنّ ان فى الآية رخصة فى ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء ان ينكر على المنكر حسب الطاقة
اكر بينى كه نابينا وجاهست ... اكر خاموش بنشينى كناهست
وفى الحديث « من رأى منكم منكرا ان استطاع ان يغيره فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه » وقد روى ان الصديق قال يوما على المنبر يا ايها الناس انكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هى وانما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « ان الناس اذا رأوا منكرا فلم يغيروه عمهم الله بعقاب » فامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول الله تعالى { يا ايها الذين } الآية فيقول احدكم علىّ نفسى والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر او ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعن خياركم فلا يستجاب لهم
ولو قيل لرجل لم لا تأمر بالمعروف قال [ مراجه كارست ] او قيل لرجل [ فلانرا امر معروف كن ] فقال [ مرا اوجه كرده است ] او قال [ من عافيت كزيده ام ] او قال [ مرا با اين فضولى جه كار ] يخاف عليه الكفر فى هذه الصور : قال المولوى قدس سره
توز كفتار تعالوا كم مكن ... كيمياى بس شكرفست اين سخن
كرمسى كردد ز كفتارت نفير ... كيميارا هيج ازوى وامكير
فالامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض لا يسقط الا عند العجز عن ذلك وكان السلف مغدورين فى بعض الازمان فى ترك الانكار باليد واللسان
جو دست وزبانرا نماند مجال ... بهمت نمايند مردى رجال
والحاصل ان هذا يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال والاوقات فعلى المحب ان لا يتجاوز عن الحد ويراعى حكم الوقت فان لكل زمان دولة ورجالا
والاشارة { يا ايها الذين آمنوا } اى ايمان الطالبين الموقنين بان الوجدان فى الطلب كما قال تعالى « الا من طلبنى وجدنى » { عليكم انفسكم } فاشتغلوا بتزكيتها فانه قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها فلا تشتغلوا قبل تزكيتها بتزكية نفوس الخالق ولا تغتروا بارادة الخلق وبقولهم وحسن ظنهم فيكم وتقربهم اليكم فانها للطالب سم الساعة وان مثل السالك المحتاج الى المسلك والذى يدعى ارادته ويتمسك به كمثل غريق فى البحر محتاج الى سابح كامل فى صنعته لينجيه من الغرق فيتشبث به غريق آخر فى البحر وهو يأخذ بيده لينجيه فيهلكان جميعا فالواجب على الطالب المحق ان يتمسك بذيل ارادة صاحب دولة فى هذا الشأن مسلك كامل ويستسلم للاحكام ولا يلتفت الى كثرة الهالكين فانه لا يهلك على الله الا هالك { لا يضركم } ايها الطالبون { من ضل } من المغرقين والمضلون بسلاسل القهر والخذلان على طريق المكر والعصيان { فينبئكم بما كنتم تعملون } اى فيذيقكم لذة ثواب اعمالكم او الم عقوبة اعمالكم والمعنى ليس للطالب ان يلتفت فى اثناء سلوكه الى احد من اهل الصدق والارادة بان يقبله ليربيه ويغتر بانه شيخ يقتدى به الى ان يتم امر سلوكه بتسليك مسلك كامل واصل ثم ان يرى شيخه ان له رتبة الشيخوخة فيثبته باشارة التحقق فى مقام التربية ودعوة الخلق فحينئذ يجوز له ان يكون هاديا مرشدا للمريدين باحتياط وافر فقد قال تعالى(3/350)
{ ولكل قوم هاد } فاما فى زماننا هذا فقد آل الامر الى ان من لم يكن مريدا قط يدعى الشيخوخة ويخبر بالشيخوخة الجهال والضلال من جهالته وضلالته حرصا لانتشار ذكره وشهرته وكثرة مريديه وقد جعلوا هذا الشأن العظيم والثناء الجسيم لعب الصبيان وضحكة الشيطان حتى يتوارثونه كلما مات واحد منهم كانوا يجلسون ابنه مقامه صغيرا كان او كبيرا ويلبسون منه الخرق ويتبركون به وينزلونه منازل المشايخ فهذه مصيبة قد عمت ولعل هذه الطريق قد تمت فاندرست آثارها والله اعلم باخبارها الى ههنا من الاشارة من التأويلات النجمية(3/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{ يا ايها الذين آمنوا } تصديره بحرف النداء والتنبيه لاظهار كمال العناية بمضمونه روى ان تميم بن اوس الدارى وعدى بن زيد خرجا الى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل بن ابى مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدما الى الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه اسماء جميع ما معه وطرحه فى درج الثياب ولم يخبرهما بذلك واوصى اليهما بان يدفعا متاعه الى اهله ومات ففتشاه فوجدا فيه اناء من فضة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ودفعا المتاع الى اهل فاصابوا فيه الكتاب فقالوا لهما هل باع صاحبكما شيأ من متاعه قالا لا قالوا فهل طال مرضه فانفق شيأ على نفسه قالا لا انما مرض حين قدم البلد فلم يلبث ان مات قالوا فانا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه وفيها اناء منقوش مموّه بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال قالا ما ندرى انما اوصى الينا بشىء وامرنا ان ندفعه اليكم ففعلنا وما لنا بالاناء من علم فرفعوهما الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت { يا ايها الذين آمنوا } فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذى لا اله الا هو انهما لم يخونا شيأ مما دفع ولا كتما فحلفا على ذلك فخلى صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم انه وجد الاناء فى مكة فقال من بيده اشتريته من تميم وعدى وقيل لما طالت المدة اظهراه فبلغ ذلك بنى سهل اولياء بديل فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا الم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيأ فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكرهنا ان نقر به فرفعوهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى { فان عثر } الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن ابى وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر انهما كذبا وخانا فدفع الاناء اليهما
واتفق العلماء على ان هذه الآية اشكل ما فى القرآن اعرابا ونظما وحكما { شهادة بينكم } اى شهادة الخصومات الجارية بينكم فبين ظرف اضيف اليه شهادة على طريق الاتساع فى الظروف بان يجعل الظرف كأنه مفعول للفعل الواقع فيه فيضاف ذلك الفعل اليه على طريق اضافته الى المفعول نحو يا سارق الليلة اى يا سارق فى الليلة وارتفاع الشهادة على انها مبتدأ { اذا حضر احدكم الموت } اى شارفه وظهرت علائمه ظرف للشهادة { حين الوصية } بدل من الظرف وفى ابداله منه تنبيه على ان الوصية من المهمات المقررة التى لا ينبغى ان يتهاون بها المسلم ويذهل عنها { اثنان } خبر للمبتدأ بتقدير المضاف لئلا يلزم حمل العين على المعنى اى شهادة بينكم حينئذ شهادة اثنين او فاعل شهادة بينكم على ان خبرها محذوف اى فيما نزل عليكم ان يشهد بينكم اثنان
واختلفوا فى هذين الاثنين .(3/352)
فقال قوم هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصى . وقال آخرون هما الوصيان لان الآية نزلت فيهما ولانه قال تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان ولا يلزم الشاهدين الايصاء وان صح الى واحد الا انه ورد فى الآية الايصاء الى اثنين احتياطا واعتضادا لاحدهما بالآخر . فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك شهدت وصية فلان بمعنى حضرت والشهيد الذى حضرته الوفاة فى الغزو حتى لو مضى عليه وقت صلاة وهو حى لا يسمى شهيدا لان الوفاة لم تحضره فى الغزو { ذوا عدل منكم } هما صفتان للاثنان اى صاحبا امانة وعقل من اقاربكم لانهم اعلم باحوال الميت وانصح له واقرب الى تحرى ما هو اصلح له او من اهل دينكم يا معشر المؤمنين وهذه جملة تامة تتناول حكم الشهادة على الوصية فى الحضر والسفر { او آخران من غيركم } عطف على اثنان او شهادة عدلين آخرين من غيركم اى من الاجانب او من غير اهل دينكم اى من اهل الذمة وقد كان ذلك فى بدء الاسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما فى السفر ثم نسخ بقوله تعالى { واشهدوا ذوى عدل منكم } فلا يقبل شهادة الذمى على المسلم لعدم ولايته عليه والشهادة من باب الولاية وتقبل شهادة الذمى على الذمى لان اهل الذمة بعضهم اولياء بعض { ان انتم ضربتم فى الارض } اى سرتم وسافرتم فيها { فاصابتكم مصيبة الموت } عطف على الشرط وجوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه اى ان سافرتم فقاربكم الاجل حينئذ وما معكم من الاقارب او من اهل الاسلام من يتولى لامر الشهادة كما هو الغالب المعتاد فى الاسفار فشهادة بينكم شهادة آخرين او فانه يشهد آخران فقوله تعالى { ان انتم ضربتم } تقييد لقوله { او آخران من غيركم } { تحبسونهما } استئناف وقع جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع ان ارتبنا بالشاهدين فقيل تحبسوههما اى تقفونهما وتصبرونهما للتحليف { من بعد الصلوة } من صلة واللام للعهد الخارجى اى بعد صلاة العصر لتعينها عندهم للتحليف بعدها لانه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ولان جمع اهل الايمان يعظمون ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقد روى ان النبى عليه السلام وقتئذ حلف من حلف
قال الشافعى الايمان تغلظ فى الدماء والطلاق والعتاق والمال اذا بلغ مائتى درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر بمكة بين الركن والمقام وفى المدينة عند المنبر وفى بيت المقدس عند الصخرة وفى سائر البلدان فى اشرف المساجد وقال ابو حنيفة لا يختص الحلف بزمان ولا مكان { فيقسمان بالله } عطف على تحبسونهما { ان ارتبتم } شرطية محذوفة الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترضة بين القسم وجوابه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب اى ان ارتاب فيهما الوارث منكم بخيانة واخذ شىء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله { لا نشترى به ثمنا } جواب القسم اى مقسم عليه فان قوله فيقسمان يتضمن قسما مضمرا فيه .(3/353)
والاشتراء استبدال السلعة بالثمن اى اخذها بدلا منه ثم استعير لاخذ شىء بازالة ما عنده عينا كان او معنى على وجه الرغبة فى المأخوذ والاعراض عن الرذائل كما هو المعتبر فى المستعار منه والضمير فى به لله . والمعنى لا نأخذ لانفسنا بدلا من الله اى من حرمته عرضا من الدنيا بان نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب اى لا نحلف بالله كاذبين لاجل المال وطمع الدنيا { ولو كان } اى المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام وهو الميت { ذا قربى } اى قريبا من فى الرحم تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذبا ومبالغة فى التنزه كأنهما قالا لا نأخذ لانفسنا بدلا من حرمة اسمه تعالى مالا ولو انضم اليه رعاية جانب الاقرباء فقد انضم اليها ما هو اقوى منها وادعى الى الحلف كاذبا وهى صيانة انفسهما وان كانت اهم من رعاية الاقرباء لكنها ليست ضميمة للمال بل راجعة اليه { ولا نكتم شهادة الله } معطوف على لا نشترى به داخل معه فى حكم القسم وشهادة الله منصوب على انها مفعول بها اضيفت اليه تعالى لانه هو الآخر بها ويحفظها وعدم كتمانها وتضييعها { انا اذا } اى اذ كتمناها { لمن الآثمين } اى العاصين(3/354)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{ فان عثر } اى اطلع بعد التحليف { على انهما استحقا اثما } اى فعلا ما يوجب اثما من تحريف وكتم بان ظهر بايديهما شىء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه { فآخران } اى رجلان آخران وهو مبتدأ خبره { يقومان مقامهما } اى مقام اللذين عثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقام اداء الشهادة التى تولياها ولم يؤدياها كما هى بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لاظهار الحق { من الذين } حال من فاعل يقومان اى من اهل الميت الذين { استحق عليهم الاوليان } من بينهم اى الاقربان الى الميت الوارثان له الاحقان بالشهادة اى باليمين ومفعول استحق محذوف اى استحق عليهم ان يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين وهما فى الحقيقة الآخران القائمان مقام الاولين على وضع المظهر مقام المضمر فاستحق مبنى للفاعل والاوليان فاعله وهو تثنيه الاولى بالفتح بمعنى الاقرب . وقرىء على البناء للمفعول وهو الاظهر اى من الذين استحق عليهم الاثم اى جنى عليهم وهم اهل الميت وعشيرته فالاوليان مرفوع على انه خبر لمحذوف كأنه قيل ومن هم فقيل الاوليان { فيقسمان بالله } عطف على يقومان { لشهادتنا } المراد بالشهادة اليمين كما فى قوله تعالى { فشهادة احدهم اربع شهادات بالله } اى ليميننا على انهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة فى نفسها { احق } بالقبول { من شهادتهما } اى من يمينهما مع كونها كاذبة فى نفسها لما انه قد ظهر للناس استحقاقهما للاثم ويميننا منزهة عن الريب فصيغة التفضيل مع انه لا حقيقة فى يمينهما رأسا انما هى لا مكان قبولها فى الجملة باعتبار احتمال صدقها فى ادعاء تملكهما لما ظهر فى ايديهما { وما اعتدينا } عطف على جواب القسم اى ما تجاوزنا فيها شهادة الحق وما اعتدينا عليهما بابطال حقهما { انا اذا } اى اذا اعتدينا فى يميننا { لمن الظالمين } انفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى او لمن الواضعين الحق فى غير موضعه ومعنى النظم الكريم ان المحتضر ينبغى ان يشهد على وصيته عدلين من ذوى نسبه او دينه فان لم يجدهما بان كان فى سفر فآخرين من غيرهم ثم ان وقع ارتياب بهما اقسما على انهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة وادعيا تملكه من جهة الميت حلف الورثة وعمل بايمانهم وانما انتقل اليمين الى الاولياء لان الوصيين ادعيا انهما ابتاعاه والوصى اذا اخذ شيأ من مال الميت وقال انه اوصى به حلف الوارث اذا انكر ذلك وتحليف المنكر ليس بمنسوخ(3/355)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ ذلك } اى الحكم الذى تقدم تفصيله { ادنى ان يأتوا بالشهادة على وجهها } اى اقرب الى ان تؤدى الشهود الشهادة على وجهها الذى تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الاخروى هذا كما ترى حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور { او يخافوا ان ترد ايمان بعد ايمانهم } بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة معطوف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل ذلك ادنى ان يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة او يخافوا الافتضاح على رؤس الاشهاد بابطال ايمانهم والعمل بايمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية اليه فأى الخوفين وقع حصل المقصود الذى هو الاتيان بالشهادة على وجهها { واتقوا الله } فى شهادتكم فلا تحرفوها وفى ايمانكم فلا تحلفوا ايمانا كاذبة وفى اماناتكم فلا تخونوها وفيما بينه الله من الاحكام فلا تخالفوا حكمه { واسمعوا } ما توعظون به كائنا ما كان سمع طاعة وقبول { والله لا يهدى القوم الفاسقين } الخارجين عن الطاعة اى فان لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهدى القوم الفاسقين اى الى طريق الجنة او الى ما فيه نفعهم
واعلم ان الشهادة فى الشرع الاخبار عن امر حضره الشهود وشاهدوه اما معاينة كالافعال نحو القتل والزنى او سماعا كالعقود والاقرارات فلا يجوز له ان يشهد الا بما حضره وعلمه وسمعه ولهذا لا يجوز له اداء الشهادة حتى تذكر الحادثة وفى الحديث « اذا علمت مثل الشمس فاشهد والا فدع » وفى الشهادة احياء حقوق الناس وصون العقود عن التجاحد وحفظ الاموال على اربابها وفى الحديث « اكرموا شهودكم فان الله يستخرج بهم الحقوق » ومن تعين للتحمل لا يسعه ان يمتنع اذا طلب لما فيه من تضييع الحقوق الا ان يقوم الحق بغيره بان يكون فى الصك سواه ممن يقوم الحق به فيجوز له الامتناع لان الحق لا يضيع بامتناعه وهو مخير فى الحدود بين الشهادة والستر لان اقامة الحدود حسبة والستر على المسلم حسبة والستر افضل وفى الحديث « من ستر على مسلم ستره الله عليه فى الدنيا والآخرة »
ثم اعلم ان اليمين الفاجرة تبقى الديار بلاقع فينبغى لطالب الآخرة ان يجتنب عن الكذب لطمع الدنيا وان يختار الصدق فى كل قول وفعل : قال الحافظ
طريق صدق بياموز ازآب صافىدل ... براستى طلب آزادكى جو سروجمن
والامانة من الاوصاف الجميلة والله تعالى يأمر باداء الامانات وان قل اصحابها فى هذا الزمان ولله درالقائل
امين مجوى ومكوبا كسى امانت عشق ... درين مكرجبرئيل امين باشد
وعاقبة الخيانة الافتضاح : كما قال الصائب
خيانتهاى بنهان ميكشد آخر برسوايى ... كه دزدخانكىرا شحنه دربازار ميكردد
فلا بد من التقوى وسماع الاحكام الازلية والله لا يهدى الى حضرته القوم الفاسقين يعنى الذين كانوا خارجين عند رشاش النور واصابته كما قال عليه السلام « فمن اصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن اخطأه فقد ضل » عصمنا الله واياكم من مخالفة امره ولا يجعلنا ممن ضاع انفاس عمره انه هو الموفق والمرشد والوهاب(3/356)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{ يوم يجمع الله الرسل } اى اذكروا يوم يجمع الله الرسل وهو يوم القيامة والمراد جمعهم وجمع اممهم وانما لم يذكر الامم لانهم اتباع لهم { فيقول } اى الله تعالى للرسل { ماذا اجبتم } اى أى اجابة اجبتم من جهة الامم حين دعوتموهم الى توحيدى وطاعتى أاجابة اقرار وتصديق ام اجابة انكار وتكذيب فماذا فى محل النصب على انه مفعول مطلق للفعل المذكور بعده وفيه اشارة الى خروجهم من عهدة الرسالة كما ينبغى والا لصدر الخطاب بان يقال هل بلغتم رسالتى ولم يقل ماذا اجابوا بناء على كمال تحقير شأنهم وشدة الغيظ والسخط عليهم
فان قلت ما وجه السؤال مع انه تعالى لا يخفى عليه شىء قلت توبيخ القوم كما ان قوله تعالى { واذا الموؤدة سئلت بأى ذنب قتلت } المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل بها { قالوا } كأنه قيل فماذا يقول الرسل هنالك فقيل يقولون { لا علم لنا } بما كنت انت تعلم { انك انت علام الغيوب } تعليل لذلك اى لانك تعلم ما اضمروه وما اظهروه ونحن لا نعلم الا ما اظهروه فعلمنا فى علمك كالمعدوم وهذا الجواب يتضمن التشكى من الامم كأنه قيل علمك محيط بجميع المعلومات فتعلم بما ابتلينا من قبلهم وكابدنا من سوء اجابتهم فنلتجىء اليك فى الانتقام منهم وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان هذا الجواب انما يكون فى بعض مواطن القيامة وذلك عند زفرة جهنم وجثوّ الامم على الركب لا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل الا قال نفسى نفسى فعند ذلك تطير القلوب من اماكنها فيقول الرسل من شدة هول المسألة وهول الموطن { لا علم لنا انك انت علام الغيوب } وترجع اليهم عقولهم فيشهدون على قومهم انهم بلغوهم الرسالة وان قومهم كيف ردوا عليهم فان قيل كيف يصح ذهول العقل مع قوله تعالى { لا يحزنهم الفزع الاكبر } قيل ان الفزع الاكبر دخول جهنم : قال السعدى قدس سره
دران روزكز فعل برسندوقول ... اولوا العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبياء ... توعذر كنه را جه دارى بيا
برادر زكار بدان شرم دار ... كه درروى نيكان شوى شر مسار
سراز جيب غفلت بر آور كنون ... كه فردا نماند بخجلت نكون
وقيل قولهم { لا علم لنا } ليس المقصود منه نفى العلم بجوابهم حال التبليغ ولا وقت حياة الانبياء بل المقصود نفى علمهم بما كان من الامم بعد وفاة الانبياء فى العاقبة وآخر الامر الذى به الاعتبار لان الثواب والعقاب انما يدوران على الخاتمة وذلك غير معلوم لهم فلهذا المعنى قالوا { لا علم لنا } وفى الحديث « انى على الحوض انظر من يرد علىّ منكم والله ليقطعن دونى رجال فلأقولن اى ربى منى ومن امتى فيقول انك لا تدرى ما احدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على اعقابهم »(3/357)
وهو عبارة عن ارتدادهم اعم من ان يكون من الاعمال الصالحة الى السيئة او من الاسلام الى الكفر وفى الحديث « يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما اتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وامته فيشهدون انه قد بلغ » فذلك قوله تعالى { وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } انما شهد محمد وامة بذلك مع انهم بعد نوح لعلمهم بالقرآن ان الانبياء كلهم قد بلغوا اممهم ما ارسلوا به وقد جاء فى الرواية « ثم يؤتى بمحمد فيسأل عن حال امته فيزكيهم ويشهد بصدقهم » فذلك قوله تعالى { ويكون الرسول عليكم شهيدا } فعلى العاقل ان يجيب الى دعوة الحق وينتصح بنصيحة الناصح الصدق
امروز قدر بند عزيزان شناختم ... يارب روان ناصخ ما ازتو شادباد
واعلم ان القيامة يوم يتجلى الحق فيه بالصفة القهارية قال تعالى { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } قال حضرة شيخنا العلامة ابقاه الله بالسلامة هذا ترتيب انيق فان الذات الاحدى يدفع بوحدته الكثرة وبقهره الآثار فيضمحل الكل فلا يبقى سواه تعالى وقيامة العارفين دائمة لانهم يكاشفون الامور ويشاهدون الاحوال فى كل موطن على ما هى عليه وهى القيامة الكبرى وحشر الخواص بل الاخص اللهم اجعلنا ممن مات بالاختيار قبل الموت بالاضطرار(3/358)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{ اذ قال الله يا عيسى ابن مريم } اى اذكروا ايها المؤمنون وقت قول الله تعالى لعيسى ابن مريم وهو يوم القيامة { اذكر نعمتى } اى انعامى { عليك وعلى والدتك } وليس المراد بامره عليه السلام يومئذ بذكر النعم تكليف الشكر اذ قد مضى وقته فى الدنيا بل ليكون حجة على من كفر حيث اظهر الله على يده معجزات كثيرة فكذبته طائفة وسموه ساحرا وغلا آخرون فاتخذوه آلها فيكون ذلك حسرة وندامة عليهم يوم القيامة والفائدة فى ذكر امه ان الناس تكلموا فيها ما تكلموا ثم عد الله تعالى عليه نعمة نعمة فقال { اذ ايدتك } ظرف لنعمتى اى اذكر انعامى عليكم وقت تأييدى لك { بروح القدس } اى بجبريل الطاهر على ان القدس الطهور واضيف اليه الروح مدحا له بكمال اختصاصه بالطهر كما فى رجل صدق ومعنى تأييده به ان جبريل عليه السلام يجعل حجته ثابتة مقررة { تكلم الناس فى المهد وكهلا } استئناف مبين لتأييده عليه السلام والمعنى تكلمهم فى الطفولة والكهولة على سواء اى من غير ان يوجد تفاوت بين كلامه طفلا وبين كلامه كهلا فى كونه صادرا عن كمال العقل وموافقا لكمال الانبياء والحكماء فانه تكلم حال كونه فى المهد اى فى حجر الام او الذى يربى فيه الطفل بقوله { انى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا اينما كنت واوصانى بالصلوة والزكوة ما دمت حيا } وتكلم كهلا بالوحى والنبوة فتكلمه فى تينك الحالتين على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت معجزة عظيمة حصلت له وما حصلت لاحد من الانبياء قبله ولا بعده وكل معجزة ظهرت منه كما انها نعمة فى حقه فكذلك هى نعمة فى حق امه لانها تدل على براءة ساحتها مما نسبوها اليه واتهموها به وحمل مريم ما كان من الرجال كسائر النساء وانما كان بروح منه كما قال تعالى { ومريم ابنة عمران التى احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } فهذه نعمة خاصة بمريم وكذلك ولادة عيسى وخلفته ما كانت من نطف الرجال وانما كانت كلمته ألقاها الى مريم وروح منه فهذه نعمة خاصة بعيسى . والكهل من الرجال الذى جاوز الثلاثين ووخطه الشيب اى خالطه وقيل المراد بتكلمه كهلا ان يكلم الناس بعد ان ينزل من السماء فى آخر الزمان بناء على انه رفع قبل ان اكهل فيكون قوله تعالى { وكهلا } دليلا على نزوله وروى ان الله تعالى ارسله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث فى رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله تعالى اليه وينزل على هذا السن ثم يكهل { واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل } اى اذكر نعمتى عليكما وقت تعليمى لك جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان بالذكر مع دخولهما فى الجنس اظهارا لشرفهما والمراد بالحكمة العلم والفهم لمعانى الكتب المنزلة واسرارها وقيل هى استكمال النفس بالعلم بها وبالعمل بمقتضاها { واذ تخلق من الطين كهيئة الطير } اى تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير { باذنى } ان بتسهيلى وتيسيرى { فتنفخ فيها } اى فى الهيئة المصورة { فتكون } اى تلك الهيئة { طيرا باذنى } فالخلق حقيقة لله تعالى ظاهر على يده عليه السلام عند مباشرة الاسباب كما ان النفخ فى مريم كان من جبريل والخلق من الله تعالى سألوا منه عليه السلام على وجه التعنت فقالوا له اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا ان كنت صادقا فى مقالتك فاخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء والارض وانما طلبوا منه خلق خفاش لانه اعجب من سائر الخلق ومن عجائبه انه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله ضرع يخرج منه اللبن ولا يبصر فى ضوء النهار ولا فى ظلمة الليل وانما يرى فى ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل ان يسفر جدا ويضحك كما يضحك الانسان ويحيض كما تحيض المرأة فلما رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا هذا سحر { وتبرىء الاكمه والابرص باذنى } الاكمه الذى ولد اعمى والابرص هو الذى به برص اى بياض فى الجلد ولو كان بحيث اذا غرز بابرة لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج ولذا خصا بالذكر وكلاهما مما اعيى الاطباء : وفى المثنوى(3/359)
صومعه عيسى است خوان اهل دل ... هان وهان اى مبتلا اين درمهل
جمع كشتندى زهر اطراف خلق ... ازضرير وشل ولنك واهل دلق
اوجوفارغ كشتى از اوراد خويش ... جا كشتكه بيرون شدى آن خوب كيش
بس دعا كردى وكفتى ازخدا ... حاجت ومقصود جمله شدروا
خوش روان وشادمانه سوى خان ... از دعاى او شدندى باروان
آز مودى توبسى آفات خويش ... يافتى صحت ازين شاهان كيش
جند آن لنكىء تورهوار شد ... جند جانت بى عم و آزار شد
{ واذ تخرج الموتى باذنى } اى تحيى الموتى وتخرجهم من قبورهم احياء قيل اخرج سام ابن نوح ورجلين وجارية كما سبق تفصيله فى سورة آل عمران
قال الكلى كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى بيا حى ويا قيوم وهو الاسم الاعظم عند العلماء المحققين { واذ كففت بنى اسرائيل عنك } اى منعت اليهود الذى ارادوا لك السوء عن التعرض لك { اذ جئتهم بالبينات } بالمعجزات الواضحة ظرف لكففت { فقال الذين كفروا منهم ان هذا الا سحر مبين } اى ما هذا الذى جئت به الا سحر ظاهر ردا وانكارا فبقوا على مرض الكفر ولم يعالجوا بعلاج الايمان على يد الحكيم الالهى الحاذق حكى عن الشبلى انه اعتل فحمل الى البيمارستان وكتب على بن عيسى الوزير الى الخليفة فى ذلك فارسل الخليفة اليه مقدم الاطباء ليداويه فما انجحت مداواته قال الطبيب للشبلى والله لو علمت ان مداواتك فى قطعة لحم من جسدى ما عسر على ذلك قال الشبلى دوائى فيما دون ذلك قال الطبيب وما هو قال بقطعك الزنار فقال الطبيب اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله فاخبر الخليفة بذلك فبكى وقال نفذنا طبيبا الى مريض وما علمنا انا نفذنا مريضا الى طبيب(3/360)
قال اليافعى هذا هو الطبيب الحاذق وحكمته من الحكمة التى بها العلل تزول وفيه اقول
اذا ما طبيب القلب اصبح جسمه ... عليلا فمن ذا للطبيب طبيب
فقل هم اولوا علم لدنى وحكمة ... آلهية يشفى بذاك قلوب
وكل مرشد كامل فهو عيسى وقته
فان قلت ان اولياء الله هم الاطباء حقيقة ومن شأن الطبيب ان يعالج ويبرىء دون ان يهلك ويمرض فما شأن ابراهيم الخواص اشار باصبعيه الى عينى رجل فى برية اراد ان يسلب منه ثيابه فسقطتا قلت انما دعا ابراهيم على اللص بالعمى ودعا ابراهيم بن ادهم على الذى ضربه بالجنة لان الخواص شهد من اللص انه لا يتوب الا بعد العقوبة فرأى العقوبة اصلح له وابن ادهم لم يشهد توبة الظالم فى عقوبته فتفضل عليه بالدعاء فتوة منه وكرما فحصلت البركة والخير بدعائه للظالم فجاءه مستغفرا معتذرا فقال له ابراهيم الرأس الذى يحتاج الى الاعتذار تركته ببلخ وقد كان الانبياء يدعون مطلقا بحسب الاحوال والمصالح وكل ذلك باذن الله تعالى فهم فى دعائهم فانون عن انانيات وجودهم لا يصدر من لسانهم الا حق مطابق للواقع والحكمة والاولياء تلو لهم فى ذلك ولكن الناس لا يعلمون : وفى المثنوى
جون بباطن بنكرى دعوى كجاست ... اوو دعوى بيش آن سلطان فناست
مات زيد زيد اكر فاعل بود ... ليك فاعل نيست كوعاطل بود
اوزروى لفظ نحوى فاعلست ... ورنه او مفعول وموتش قاتلست(3/361)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
{ واذ اوحيت الى الحواريين } جمع حوارى يقال فلان حوارى فلان اى صفوته وخالصته من الحور وهو البياض الخالص سمى به اصحاب عيسى عليه السلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم وكان بعضهم من الملوك وبعضهم من صيادى السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين اذكر يا محمد وقت ان امرتهم على ألسنة رسلى او الهمت اياهم والقيت فى قلوبهم { ان } مفسرة لما فى الايحاء من معنى القول { آمنوا بى } اى بوحدانيتى فى الربوبية والالوهية { وبرسولى } اى وبرسالة رسولى ولا تزيلوه عن حيز حطا ولا رفعا { قالوا } كأنه قيل فماذا قالوا حين اوحى اليهم ذلك فقيل قالوا { آمنا واشهد باننا مسلمون } اى مخلصون فى ايماننا من اسلم وجهه لله اى اخلص(3/362)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{ اذ قال الحواريون } منصوب باذكر { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء } هذا السؤال كان فى ابتداء امرهم قبل ان يستحكم معرفتهم بالله ولذلك اساؤا الادب مع عيسى عليه الصلاة والسلام حيث لم يقولوا يا رسول الله او يا روح الله وخاطبوه باسمه ونسبوه الى امه ولو وفقوا للادب لقالوا يا روح الله ونسبوه الى الله ثم رفضوا الادب مع الله وقالوا هل يستطيع ربك كالمتشكك فى استطاعته وكمال قدرته على ما يشاء كيف يشاء ثم اظهروا دناءة همتهم وخساسة نهمتهم اذ طلبوا بواسطة مثل عيسى من الله تعالى مائدة دنيوية فانية وما رغبوا فى فائدة دينية باقية ولو رغبوا فى الفائدة الدينية لنالوا المائدة الدنيوية ايضا قال الله تعالى { من كان يريد حرث الدنيا نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الآخرة نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } والمائدة الخوان الذى عليه الطعام من ماده اذا اعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم اليها ونظيره قولهم شجرة مطعمة
قال فى الشرعة وضع الطعام على الارض احب الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم على السفرة وهى على الارض والاكل على الخوان فعل الملوك اى آداب الجبارين لئلا يتطأطأوا عند الاكل وعلى المنديل فعل العجم اى اهل فارس من المتكبرين وعلى السفرة فعل العرب وهى فى الاصل طعام يتخذه المسافر للسفر ثم سمى بها الجلد المستدير المحمول هو فيه { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال { اتقوا الله } اى من امثال هذا السؤال { ان كنتم مؤمنين } اى بكمال قدرته تعالى او بصحة نبوتى(3/363)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{ قالوا نريد ان نأكل منها } تمهيد عذر وبيان لما دعاهم الى السؤال لا نريد بالسؤال ازالة شبهتنا فى قدرته تعالى على تنزيلها او فى صحة نبوتك حتى يقدح ذلك فى الايمان والتقوى بل نريد ان نأكل منها اى اكل تبرك يتشفى بسببها مرضانا ويتقوى بها اصحاؤنا ويستغنى بها فقراؤنا وقيل مرادهم اكل احتياج لانهم قالوا ذلك فى زمن المجاعة والقحط { وتطمئن قلوبنا } لكمال قدته تعالى بانضمام علم المشاهدة الى علم الاستدلال { ونعلم } علما يقينا { ان } مخففة اى انه { قد صدقتنا } فى دعوى النبوة وان الله يجب دعوتنا وان كنا عالمين بذلك من قبل { ونكون عليها من الشاهدين } نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى اسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم او من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر(3/364)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{ قال عيسى ابن مريم } لما رأى عليه السلام ان لهم غرضا صحيحا فى ذلك وانهم لا يقلعون عنه ازمع على استدعائها واستنزالها وارد ان يلزمهم الحجة بكمالها { اللهم } اى يا الله والميم عوض عن حرف النداء وهى كلمة عظيمة من قالها فقد ذكر الله تعالى بجميع اسمائه وفى الميم سبعون اسما من اسمائه تعالى قد اندرجت فيها { ربنا } ناداه سبحانه مرتين اظهارا لغاية التضرع ومبالغة فى الاستدعاء { انزل علينا مائدة من السماء } متعلق بأنزل { تكون لنا عيدا } صفة لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها عيدا ولنا حال منه اى يكون يوم نزولها عيدا فعظمه وانما اسند ذلك الى المائدة لان شرف اليوم مستفاد من شرفها وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمى يوم العيد عيدا { لاولنا وآخرنا } بدل من لنا باعادة العامل اى عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا روى انها نزلت يوم الاحد ولذلك اتخذه النصارى عيدا { وآية } كائنة { منك } دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتى { وارزقنا } اى المائدة والشكر عليها { وانت خير الرازقين } تذييل جار مجرى التعليل اى خير من يرزق لانه خالق الارزاق ومعطيها بلا عوض
قال فى التأويلات النجمية { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } اى مائدة الاسرار والحقائق التى تنزلها من سماء العناية عليها اطعمة الهداية { تكون لنا } يعنى لاهل الحق وارباب الصدق { عيدا } نفرح بها { لاولنا وآخرنا } اى لاول انفاسنا وآخرها فان ارباب الحقيقة يراقبون الانفاس اولها وآخرها لتصعد مع الله وتهوى مع الله ففى صعود النفس مع الله يكون عيدا لهم وفى هويه مع الله عيدا لهم : كما قال بالفارسية [ صوفيان دردمى دوعيد كنند ](3/365)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ قال الله انى منزلها عليكم } اجابة الى سؤالكم { فمن يكفر بعد } اى بعد تنزيلها { منكم } حال من فاعل يكفر { فانى اعذبه } بسبب كفره بعد معاينة هذه الآية الباهرة { عذابا } اسم مصدر بمعنى التعذيب اى تعذيبا { لا اعذبه } صفة لعذابا والضمير له اى اعذبه تعذيبا لا اعذب ذلك التعذيب اى مثل ذلك التعذيب { احدا من العالمين } اى من عالمى زمانهم او من العالمين جميعا فانهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذب مثل ذلك غيرهم روى ان عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره ثم دعا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون حتى سقطت بين ايديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللهم اجعلنى من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة للعالمين ولا تجعلها مثلة وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل الذى عليها وقال بسم الله خير الرازقين فاذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوكة يسيل دسمها وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من انواع البقول ما خلا الكراث واذا خمسة ارغفة على واحد منها زيتون وعلى الثانى عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريين يا روح الله أمن طعام الدنيا ام من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه اخترعه الله بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله فقالوا يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية اخرى فقال يا سمكة احيى باذن الله فاضطربت ثم قال لها عودى كما كنت فعادت مشوية فلبث المائدة يوما واحدا فأكل من اكل منها ثم طارت ولم تنزل بعد ذلك اليوم وقيل كانت تأتيهم اربعين يوما غبا اى تنزل يوما ولا تنزل يوما يجتمع عليها الفقراء والاغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى اذا فاء الفيىء طارت وهم ينظرون فى ظلها ولم يأكل منها فقير الا غنى مدة عمره ولا مريض الا برىء ولم يمرض ابدا ثم اوحى الله الى عيسى ان اجعل مائدتى فى الفقراء والمرضى دون الاغنياء الاصحاء فاضطرب الناس بذلك اى تعاظم على الاغنياء والاصحاء حتى شكوا وشككوا الناس فى شأن المائدة ونزولها من السماء حقيقة فمسخ منهم من مسخ فاصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة فى الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى وبكوا على الممسوخين فلما ابصرت الخنازير عيسى بكت وجعلت تطوف به وجعل يدعوهم باسمائهم واحدا بعد واحد فيبكون ويشيرون برؤسهم فلا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة ايام ثم هلكوا ولم يتوالدوا وكذلك كل ممسوخ
والاشارة ان الله تعالى سلخ صورة الانسانية عن حقائق صفات الحيوانية وألبسهم الصور من حقائق صفاتهم فمسخوا خنازير ليعتبر الخلق ويتحقق لهم ان الناس يحشرون على صور صفاتهم يوم تبلى السرائر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه كما قال عليه السلام(3/366)
« يموت الناس على ما عاشوا فيه ويحشرون على ما ماتوا عليه » يعنى يحشرون على صورة صفاتهم التى ماتوا عليها : وفى المثنوى
هر خيالى كوكند در دل وطن ... روز محشر صورتى خواهد شدن
زانكه حشر حاسدان روز كزند ... بى كمان بر صورت كركان كنند
حشربر حرص وخس ومردارخوار ... صورت خوكى بود روز شمار
زانيانرا كنده اندام نهان ... خمر خوارانرا همه كنده دهان
سيرتى كاندر وجودت غالبست ... هم بران تصوير حشرت واجبست
قال القاضى فى تفسيره وعن بعض الصوفية المائدة عبارة عن حقائق المعارف فانها غذاء الروح كما ان الاطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال انهم رغبوا فى حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها وقال لهم عيسى ان حصلتم الايمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها فلم يقلعوا عن السؤال والجواب فيها فسأل لاجل اقتراحهم فبين الله تعالى ان انزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف وعاقبة فان السالك اذا انكشف له ما هو اعلى من مقامه لعله لا يتحمله ولا يستقر له فيضل به ضلالا بعيدا انتهى كلام القاضى
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ان قوم عيسى عليه السلام عصوا مرة فرفعت المائدة وانا نعصى فى كل وقت مع ان نعم الله تعالى مترادفة وذلك لان المائدة التى نزلت عليهم من مرتبة الصفة والنعم الفائضة علينا مرتبة الذات وما هو من الذات لا يتغير ولا يتبدل وانما التغير فى الصفة وقد بقى هنا شىء وهو ان الاعياد اربعة لاربعة اقوام . احدها عيد قوم ابراهيم كسر الاصنام حين خرج قومه الى عيد لهم . والعيد الثانى عيد قوم موسى واليه الاشارة بقوله تعالى فى سورة طه { قال موعدكم يوم الزينة } والعيد الثالث عيد قوم عيسى واليه الاشارة بقوله تعالى { ربنا انزل علينا مائدة } الآية . والعيد الرابع عيد امة محمد عليه السلام وهو ثلاثة عيد يتكرر كل اسبوع وعيدان يأتيان فى كل عام مرة من غير تكرر فى السنة فاما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة وهو عيد الاسبوع وهو مرتب على اكمال الصلوات المكتوبات لان الله فرض على المؤمنين فى اليوم والليلة خمس صلوات وان الدنيا تدور على سبعة ايام فكلما كمل دور اسبوع من ايام الدنيا واستكمل المسلمون صلواتهم شرع لهم فى يوم استكمالهم يوم الجمعة وهو اليوم الذى كمل فيه الخلق وفيه خلق آدم وادخل الجنة واخرج منها وفيه ينتهى امر الدنيا فتزول وتقوم الساعة فيه وفيه الاجتماع على سماع الذكر والموعظه وصلاة الجمعة وجعل ذلك لهم عيدا ولذلك نهى عن افراده بالصوم وفى شهود الجمعة شبه من الحج ويروى انها حج المساكين
وقال سعيد بن المسيب شهود الجمعة احب الى من حجة نافلة والتكبير فيها يقوم مقام الهدى على قدر السبق والشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب الى الجمعة الاخرى اذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما ان الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة الى الحجة الاخرى
وقد روى اذا سلمت الجمعة سلمت الايام .(3/367)
واما العيدان اللذان يتكرران فى كل عام انما يأتى كل واحد منهما مرة واحدة فاحدهما عيد الفطر من صوم رمضان وهو مرتب على اكمال الصيام وهو الركن الثالث من اركان الاسلام ومبانيه فاذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم استوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار فان صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وآخره عتق من النار والعيد الثانى عيد النحر وهو اكبر العيدين وافضلهما وهو مترتب على اكمال الحج وهو الركن الرابع من اركان الاسلام ومبانيه فاذا اكمل المسلمون حجتهم غفر لهم وانما يكمل الحج يوم عرفة والوقوف بعرفة ركن الحج الاعظم وروى انس رضى الله عنه انه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال قد ابدلكم الله بهما خيرا منهما الفطر والاضحى واجتمعت الامة على هذا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم الى يومنا هذا بلا نكير منكر فهذه اعياد الدنيا تذكر اعياد الآخرة وقد قيل كل يوم كان للمسلمين عيدا فى الدنيا فهو عيد لهم فى الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه فيوم الجمعة فى الجنة . يدعى يوم المزيد ويوم الفطر والاضحى يجتمع اهل الجمعة فيهما للزيارة هذا لعوام اهل الجنة واما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا والخواص كانت ايام الدنيا كلها لهم اعيادا فصارت ايامهم فى الآخرة كلها اعيادا . واما اخص الخواص فكل نفس عيد لهم(3/368)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{ واذ قال الله يا عيسى ابن مريم } اى اذكر يا محمد للناس وقت قول الله تعالى لعيسى عليه السلام فى الآخرة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم باقراره عليه السلام على رؤوس الاشهاد بالعبودية وامره لهم بعبادته تعالى { ءأنت قلت للناس اتخذونى وامى آلهين } مفعول ثان للاتخاذ { من دون الله } حال من فاعل اتخذونى كأنه قيل صيرونى وامى آلهين اى معبودين متجاوزين عن الوهية الله تعالى ومعبوديته والمراد اتخاذهما بطريق اشراكهما به سبحانه كما فى قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا } لان احدا منهم لم يذهب الى القول بآلهية عيسى ومريم مع القول بنفى آلهية الله تعالى ولما لم يكن المقصود انكار نفس القول بل قصد توبيخ من قال به ولى حرف الاستفهام المبتدأ ولم يقل كذا لانه يفيد انكار نفس القول
قال المولى ابو السعود رحمه الله ليس مدار اصل الكلام ان القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من ايلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشى وعليه قوله تعالى { ءانت فعلت هذا بآلهتنا } ونظاهره بل على ان المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين انه بامره عليه السلام او من تلقاء انفسهم كما فى قوله تعالى { ءانتم اضللتم عبادى هؤلاء ام هم ضلوا السبيل } انتهى
قال فى التأويلات النجمية الاثبات بعد الاستفهام نفى كما ان النفى بعد الاستفهام اثبات كقوله { ألست بربكم } اى انا ربكم ونظير النفى فى الاثبات قوله تعالى { ءاله مع الله } اى ليس مع الله آله فمعناه ما قلت انت للناس اتخذونى وامى آلهين من دون الله ولكنهم بجهلهم قد بالغوا فى تعظيمك حتى اطروك وجاوزوا حدك فى المدح ولهذا قال النبى عليه السلام « لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم » انتهى
فان قيل ما وجه هذا السؤال مع علمه تعالى ان عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقله قيل ذلك لتوبيخ قومه وتعظيم امر هذه المقالة
قال ابو روق اذا سمع عيسى هذا الخطاب ارتعدت مفاصله وانفجرت من اصل كل شعرة من جسده عين من دم وهذا الخطاب وان كان ظاهره مع عيسى ولكن كان حقيقة مع الامة لان سنة الله ان لا يكلم الكفار يوم القيامة ولا ينظر اليهم { قال } كأنه قيل فماذا يقول عيسى حينئذ فقيل يقول { سبحانك } علم للتسبيح اى انزهك تنزيها لائقا بك من ان اقول ذلك او من ان يقال فى حقك ذلك { ما يكون لى ان اقول ما ليس لى بحق } اى ما يستقيم وما ينبغى لى ان اقول قولا لا يحق لى ان اقوله { ان كنت قلته } اى هذا القول { فقد علمته } لانى لا اقدر على هذا القول الا بان توجد فىّ وتكونه بقولك كن فصدوره عنى مستلزم لعلمك به قطعا فحيث انتفى العلم انتفى الصدور حتما ضرورة ان عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم { تعلم ما فى نفسى } اى ما اخفيه فى نفسى كما تعلم ما اعلنه { ولا اعلم ما فى نفسك } اى ولا اعلم ما تخفيه من معلوماتك فعبر عما يخفيه الله من معلوماته بقوله ما فى نفسك للمشاكلة لوقوعه فى صحبة قوله تعلم ما فى نفسى فان معلومات الانسان مختفية فى نفسه بمعنى كون صورها مرتسمة فيها بخلاف معلومات الله تعالى فان علمه تعالى حضورى لا تنقطع صورة شىء منها فى ذاته فلا يصح ان يحمل النفس على المعنى المتبادر { انك انت علام الغيوب } ما كان وما يكون(3/369)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{ ما قلت لهم الا ما امرتنى به } تصريح بنفى المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه اى ما امرتهم الا ما امرتنى به وانما قيل ما قلت لهم نزولا على قضية حسن الادب ومراعاة لما ورد فى الاستفهام { ان اعبدوا الله ربى وربكم } تفسير للضمير فى به وفى امرت معنى القول وليس تفسيرا لما فى قوله ما امرتنى لانه مفعول لصريح القول والتقدير الا ما امرتنى به بلفظ هو قولك ان اعبدوا الله ربى وربكم { وكنت عليهم شهيدا } رقيبا اراعى احوالهم واحملهم على العمل بموجب امرك وامنعهم عن المخالفة او مشاهدا لاحوالهم من كفر وايمان { ما دمت فيهم } اى مدة دوامى فيما بينهم { فلما توفيتنى } اى قبضتنى اليك من بينهم ورفعتنى الى السماء { كنت انت الرقيب عليهم } اى انت لا غيرك كنت الحافظ لاعمالهم والمراقب لها فمنعت من اردت عصمته عن المخالفة بالارشاد الى الدلائل والتنبيه عليها بارسال الرسول وانزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا { وأنت على كل شىء شهيد } مطلع عليه مراقب له فعلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة(3/370)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
{ ان تعذبهم فانهم عبادك } اى فانك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه . وفيه تنبيه على انهم استحقوا التعذيب حيث عبدوا غيره تعالى { وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم } اى فلا عجز ولا استقباح فانك القادر والقوى على الثواب والعقاب الذى لا يثيب ولا يعاقب الا عن حكمة وصواب فان المغفرة مستحسنة لكل مجرم فان عذبت فعدل وان غفرت ففضل
فان قلت مغفرة المشرك قطيعة الانتفاء بحسب الوجود وعدمه جائزا محتمل الوقوع قلت كون غفران المشرك قطعى الانتفاء بحسب الوجود لا ينافى كونه جائز الوجود بحسب العقل فصح استعمال كلمة ان فيهما لانه يكفى فى صحة استعمالها مجرد الامكان الذاتى والجواز وقيل الترديد بالنسبة الى فرقتين والمعنى ان تعذبهم اى من كفر منهم وان تغفر لهم اى من آمن منهم روى انه لما نزلت هذه الآية احيى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ليلته وكان بها يقوم وبها يقعد وبها يسجد ثم قال « امتى امتى يا رب » فبكى فنزل جبرائيل عليه السلام فقال الله يقرئك السلام ويقول لك انا سنرضيك فى امتك ولا نسوءك(3/371)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{ قال الله } اى يقول الله تعالى يوم القيامة عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا الى صدقه فى ضمن بيان حال الصادقين الذين هو فى زمرتهم { هذا } اى يوم القيامة وهو مبتدأ وخبره ما بعده { يوم ينفع الصادقين صدقهم } المراد الصدق فى الدنيا فان النافع ما كان حال التكليف فالجانى المعترف يوم القيامة بجنايته لا ينفعه اعترافه وصدقه وكذا الجانى المعترف فى الدنيا بجنايته لا ينفعه يومئذ اعترافه وصدقه فانه ليس المراد كل من صدق فى أى شىء كان بل فى الامور الدينية التى معظمها التوحيد الذى نحن بصدده والشرائع والاحكام المتعلقة به والصادقون الرسل الناطقون بالصدق الداعون الى ذلك والامم المصدقون لهم المعتقدون بهم عقدا وعملا { لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا } كأنه قيل ما لهم من النفع فقيل لهم نعيم دائم وثواب خالد وهو الفوز الكبير . قوله ابدا اى الى الابد تأكيد للخلود يعنى بالفارسية [ زمان بود ايشان نهايت ندارد ] { رضى الله عنهم } بالطاعة { ورضوا عنه } بنيل الكرامة والرضوان فيض زائد على الجنات لا غاية وراءه ولذلك قال تعالى { ذلك } اى نيل الرضوان { هو الفوز العظيم } اى النجاة الوافرة وحقيقة الفوز نيل المراد وانما عظم الفوز لعظم شأن المطلوب الذى تعلق به الفوز وهو الرضى الذى لا مطلب وراءه اصلا(3/372)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{ لله ملك السموات والارض وما فيهن } تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا فى حق المسيح وامه اى له تعالى خاصة ملك السموات والارض وما فيهما من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء ايجادا واعداما واماتة واحياء وامرا ونهيا من غير ان يكون لشىء من الاشياء مدخل فى ذلك { وهو على كل شىء قدير } بالغ فى القدرة منزه عن العجز والضعف ومقدس تبارك وتعالى وتقدس
نيست خلقش را دكركس مالكى ... شركتش دعوى كندجز هالكى
واحد اندر ملك واورا يارنى ... بندكانش را جزاو سالارنى
واعلم ان الآية نطقت بنفع الصدق يوم القيامة فلا ينفع الكذب والرياء بوجه من الوجوه اصلا
دلا دلالت خيرت كنم براه نجات ... مكن بفسق مباهات وزهد هم مفروش
فعلى العاقل ان يجتهد فى طريق الصدق فان الصدق بعد الايمان يجر الى الاحسان وقبل الايمان الى الايمال كما حكى عن ابراهيم الخواص قدس سره انه كان اذا اراد سفرا لم يعلم احدا ولم يذكره وانما يأخذ ركوته ويمشى قال حامد الاسود فبينما نحن معه فى مسجد اذ تناول ركوته ومشى فاتبعته فلما وافيا القادسية قال لى يا حامد الى اين قلت يا سيدى خرجت بخروجك قال انا اريد مكة ان شاء الله تعالى قلت وانا اريد مكة ان شاء الله تعالى فلما كان بعد ايام اذا بشاب قد انضم الينا فمشى يوما وليلة معنا لا يسجد لله سجدة فقربت من ابراهيم وقلت ان هذا الغلام لا يصلى فجلس وقال يا غلام مالك لا تصلى والصلاة اوجب عليك من الحج فقال يا شيخ ما على صلاة قلت ألست بمسلم قال لا قلت فأى شىء انت قال نصرانى ولكن اشارتى فى النصرانية الى التوكل وادعت نفسى انها احكمت حال التوكل فلم اصدقها فيما ادعت حتى اخرجتها الى هذه الفلاة التى ليس فيها موجود غير المعبود اثير ساكنى وامتحن خاطرى فقام ابراهيم ومشى وقال دعه معك فلم يزل سائرا معنا حتى وافينا بطن مرو فقام ابراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له ما اسمك قال عبد المسيح فقال يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعنى الحرم وقد حرم الله على امثالك الدخول اليه قال الله تعالى { انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والذى اردت ان تكشف من نفسك قد بان لك فاحذر ان تدخل مكة فان رأيناك بمكة انكرنا عليك قال حامد فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا الى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات اذا به قد اقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح وجوه الناس حتى وقف علينا فاكب على ابراهيم فقبل رأسه فقال له ما وراءك يا عبد المسيح فقال له هيهات انا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له ابراهيم حدثنى حديثك قال جلست مكانى حتى اقبلت قافلة الحجاج فقمت وتنكرت فى زى المسلمين كأنى محرم فساعة وقعت عينى على الكعبة اضمحل عندى كل دين سوى دين الاسلام فاسلمت فاغتسلت واحرمت وها انا اطلبك يومى فالتفت الى ابراهيم وقال يا حامد انظر الى بركة الصدق فى النصرانية كيف هداه الى الاسلام ثم صحبناه حتى مات بين الفقراء رحمه الله سبحانه وتعالى(3/373)
سلام على السادات من كل صادق ... سلام على ذى الوجد من كل عاشق
سلام على ذى الصحو من سكر غفلة ... سلام على الناجين من كل كلفة
سلام على من مات من قبل موته ... سلام على من فات من قبل فوته
اللهم اجعلنا من الناجين فاننا من زمرة المحتاجين آمين يا معين(3/374)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
{ الحمد لله } الالف واللام فى الحمد لاستغراق الجنس واللام فى لله للاختصاص لانه تعالى قال بربهم يعدلون ودفع تسويتهم بربهم مما جعل مقصودا بالذات وفى التأويلات النجمية اللام لام التمليك يعنى كل حمد يحمده اهل السموات والارض فى الدنيا والآخرة ملك له وهو الذى اعطاهم استعداد الحمد ليحمدوه بآثار قدرته على قدر استعدادهم والآخرة ملك له وهو الذى اعطاهم استعداد الحمد ليحمدوه بآثار قدرته على قدر استعدادهم واستطاعتهم لكن حمد الخلق له مخلوق فان وحمده لنفسه قديم باق فان قيل أليس شكر المنعم واجبا مثل شكر الاستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على احسانه قال عليه السلام « من لم يشكر الناس لم يشكر الله » فالجواب ان الحمد والتعظيم المتعلق بالعبد المنعم نظرا الى وصول النعمة من قبله وهو فى الحقيقة راجع اليه تعالى لانه تعالى لو لم يخلق نفس تلك النعمة ولو لم يحدث داعية الاحسان فى قلب العبد المحسن لما قدر ذلك العبد على الاحسان والانعام فلا محسن فى الحقيقة الا الله ولا مستحق للحمد الا هو تعالى وفى تعليق الحمد باسم الذات المستجمع لجميع الصفات اشارة الى المستحق له بذاته سواء حمده حامد او لم يحمده قال البغوى حمد الله نفسه تعليما لعباده اى احمدوه : وفى المثنوى
جو نكه آن خلاق شكر وحمد جوست ... آدمى را مدح جوبى نيز خوست
خاصه مرد حق كه در فضلت جست ... برشود زان بادجون خيك درست
ورنبا شد اهل زان باد دروغ ... خيك بدريد امت كى كيرد فروغ
{ الذى خلق السموات } بما فيها من الشمس والقمر والنجوم { والارض } بما فيها من البر والبحر والسهل والجبل والنبات والشجر خلق السموات وما فيها فى يومين يوم الاحد ويوم الاثنين وخلق الارض وما فيها فى يومين يوم الثلاثاء ويوم الاربعاء . وفى تعليق الحمد بالخلق تنبيه على استحقاقه تعالى باعتبار افعاله وآلائه ايضا وتخصيص خلق السموات والارض بالذكر لانهما اعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبرة والمنافع لهم وجمع السموات دون الارض وهى مثلهن لان طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات قالوا ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة ع ام . السماء الدنيا موج مكفوف اى متصادم بعضه على بعض يمنع بعضه بعضا اى ممنوع من السيلان . والثانية مر مرة بيضاء . والثالثة حديدة . والرابعة نحاس او صفر . والخامسة فضة . والسادسة ذهب . والسابعة ياقوتة حمراء واما الارض فهى تراب لا غير . والا كثرون على تفضيل الارض على السماء لان الانبياء خلقوا من الارض وعبدوا فيها ودفنوا فيها وان الارض دار الخلافة ومزرعة الآخرة وافضل البقاع على وجه الارض البقعة التى ضمت جسم الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم فى المدينة المنورة لان الجزء الاصلى من التراب محل قبره صلى الله عليه وسلم ثم بقعة الحرم المكى ثم بيت المقدس والشام منه ثم الكوفة وهى حرم رابع وبغداد منه { وجعل الظلمات والنور } الجعل هو الانشاء والابداء كالخلق خلا ان ذلك مختص بالانشاء التكوينى وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما فى الآية الكريمة وللتشريعى ايضا كما فى قوله(3/375)
{ ما جعل الله من بحيرة } الآية اى ما شرع وما سن وجمع الظلمات لكثرة اسبابها فان سببها تخلل الجرم الكثيف ومن النير والمحل المظلم وذلك التخلل يتكثر بتكثر الاجرام المتخللة بخلاف النور فان سببه ليس الا النار حتى ان الكواكب منيرة بناريتها فهى اجرام نارية وان الشهب منفصلة من نار الكوكب قال الحدادى وانا جمع الظلمات ووحد النور لان النور يتعدى والظلمة لا تتعدى روى ان هذه الآية نزلت تكذيبا للمجوس فى قولهم الله خالق النور والشيطان خالق الظلمات وفى التيسير انه رد على التنويه فى اضافتهم خلق النور الى يزدان وخلق الظلمات الى اهرمن وعلى ذلك خلق كل خير وشر { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } عطف على الجملة السابقة . وثم لاستبعاد الشرك بعد وضوح ماذكر من الآيات التكوينية ببطلانه . والباء متعلقة بيعدلون وقدم المعمول على العامل للاهتمام وتحقيق الاستبعاد ويعدلون من العدل وهو التسوية يقال عدلت هذا بهذا اذا ساويته والمعنى انه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه اى يسوون به غيره فى العبادة التى هى اقصى غايات الشكر الذى رأسه الحمد مع كون كل ما سواه مخلوقا له غير متصف بشئ من مبادى الحمد والاشارة ان الله تعالى خلق سموات القلوب وارض النفوس وجعل الظلمات فى النفوس وهى صفاتها البهيمية والحيوانية واخلاقها السبعية والشيطانية والنور فى القلوب وهو صفاتها الملكية واخلاقها الروحانية الباقية فمن غ لب عليه النور وهو صفة الملكية الروحانية يميل على عبودية الحق تعالى ويقبل دعوة الانبياء ويؤمن بالله ورسوله ويتحلى بحلية الشريعة فالله تعالى يكون وليه فيخرجه من ظلمات الصفات الخلقية الحيوانية الى الصفات الملكية كقوله تعالى { الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور } فهذا معنى قوله تعالى { والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات } فهذا معنى قوله تعالى { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } يعنى بعد ان خلق سموات القلوب وارض النفوس وجعل فيهن الظلمات النفسانية والنور الروحانى مال نفوس الكفار بغلبات صفاتها الى طاغوت الهوى فعبدوه وجعلوه عديلا لربهم كذا فى التأويلات النجمية حكى انه جاء جماعة من فقهاء اليمن الى الشيخ العارف بالله ابى الغيث ابن جميل قدس سره يمتحنونه فى شىء فلما دنوا منه قال مرحبا بعبيد عبدى فاستعظموا ذلك فلحقوا شيخ الطريقين وامام القريقين ابا الذبيح اسمعيل بن محمد الحضرمى قدس سره فاخبروه بما قاله الشيخ ابو الغيث المذكور لهم فضحك وقال صدق الشيخ انتم عبيد الهوى والهوى ع بده .
غلام همت آنم كه زير جرخ كبود ... زهرجه رنك تعلق بذيرد آزادست(3/376)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{ هو } اى الله تعالى { الذى خلقكم } اى ابتدأ خلقكم ايها الناس { من طين } اى تراب مخلوط بالماء فانه المادة الاولى للكل لما انه منشأ لآدم الذى هو اصل البشر قال السعدى بعث الله جبريل الى الارض ليأتيه بطائفة منها فقالت الارض انى أعوذ بالله منك ان تنقص منى فرجع جبرائيل ولم يأخذ شيأ قال جلال الدين رومى قدس سره فى المثنوى
معدن شرم وحيا بد جبرائيل ... بست آن سوكندها بروى السبيل
قال يا رب انها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت كالمرة الاولى فرجع
خاك لرزيد ودر آمد در كريز ... خالى از مقصود دست وآستين
كفت اسرافيل را يزدان ما ... كه بروازان خاك بركن كف بيا
آمد اسرافيل هم سوى زمين ... باز آغازيد خاكستان حنين
زود اسرافيل باز آمد يشاء ... كفت عذر وما جرا نزد آله
فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال وانا اعوذ بالله ان اخالف امره فاخذ من وجه الارض فيخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف الوان ابن آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح المر فلذلك اختلف اخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت رحم جبرائيل وميكائيل الرض ولم ترحمها لا جرم اجعل ارواح من اخلق من هذا الطين بيدك
كفت يزدان كه بعلم روشنم ... من ترا جلاد اين خلقان كنم
وروى عن ابى هريرة خلق الله آدم من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا اى اسود متغيرا منتنا ثم خلقه وصوره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار اى يابسا مصوتا كالمطبوخ بالنار ثم نفخ فيه من روحه وانما خلق من تراب لان مقام التراب مقام التواضع والمسكنة ومقام التواضع الرفعة والثبات ولذا ورد ( من تواضع رفع الله ) وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم « احينى مسكينا وامتنى مسكينا » وهو الحكمة فى تعذيب الانسان بالنار لا بالماء لان الظرف المعمول من التراب اذا تنجس ببول او قذر آخر لا يطهر بالماء فالانسان المتنجس بنجاسة المعاصى لا يطهر الا بالنار . وهو الحكمة أيضا فى التيمم عند عدم الماء ويقبر كل جسد فى الموضع الذى اخذت منه طينته التى خمرت فى اول نشأة ابناء آدم عليه السلام قال الامام مالك لا اعرف اكبر فضل لابى بكر وعمر رضى الله عنهما من انهما خلقا من طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقرب قبرهما من حضرة الروضة المقدسة المفضلة على الا كوان باسرها زاردها الله تشريفا وتعظيما ومهابة { ثم قضى } اى كتب لموت كل واحد منكم { أجلا } خاصا به اى حدا معينا من الزمان يفنى عند حلوله لا محالة وثم للايذان بتفاوت ما بين خلقهم وبين تقدير آجالهم { وأجل مسمى } اى حد معين لبعثكم جميعا وهو مبتدأ خبره قوله { عِنده } اى مثبت معين فى علمه لا يتغير ولا يقف على وقت حلوله احد لا مجملا ولا مفصلا واما اجل الموت فمعلوم اجمالا وتقريبا بناء على ظهور اماراته او على ما هو المعتاد فى اعمار الانسان وتسميته اجلا انما هى باعتبار كونه لمدة لبسهم فى القبور لا باعتبار كونه مبدأ لمدة القيامة كما ان مدار التسمية فى الاجل الاول هو كونه آخر مدة الحياة لا كونه اول مدة الممات لما ان الاجل فى اللغة عبارة عن آخر المدة لا عن اولها قال حكماء الاسلام ان لكل انسان اجلين .(3/377)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{ وهو } اى الله تعالى مبتدأ خبره قوله { الله } باعتبار المعنى الوصفى اى المعبود ولذا تعلق به قوله { فى السموات وفى الأرض } والمعنى هو المعبود والمستحق للعبادة فيهما ولا يلزم من كونه تعالى معبودا فيهما كونه متحيزا فيهما فانه منزه عن الزمان والمكان روى ان امام الحرمين استاذ الامام الغزالى نزل ببعض الاكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء والاكابر فقام واحد من اهل المجلس فقال ما الدليل على تنزهه عن المكان وهو قال { الرحمن على العرش استوى } فقال الدليل عليه قول يونس فى بطن الحوت { لا إله إلا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين } فتعجب منه الناظرون والتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الامام ان ههنا فقيرا مديونا بالف درهم ادعته دينه حتى ابينه فقيل صاحب الضيافة دينه فقال ان رسول الله لما ذهب فى المعراج الى ما شاء الله من العلى قال هناك « لا أحصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك » ولما ابتلى يونس عليه السلام بالظلمات فى قعر البحر ببطن الحوت قال { لا إله إلا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فكل منهما خاطبه بقوله انت وهو خطاب الحضور ولو كان هو فى مكان لما صح ذلك فدل ذلك على انه ليس فى مكان { يعلم سركم وجهركم } خبر ثان اى ما اسررتموه وما جهرتم به من الاقوال { ويعلم ما تكسبون } اى ما تفعلون لجلب نفع او دفع ضر من الاعمال المكتسبة بالقلوب او بالجوارح سرا وعلانية فيجازيكم على كل ذلك ان خيرا فخير وان شرا فشر وفى التأويلات النجمية { وهو اله فى السموات } اى فى سموات الوجود { وفى الارض } اى فى ارض النفوس { يعلم سركم } الذى اودع فيكم وهو سر الخلافة الذى اختص به الانسان لقبول الفيض الالهى { وجهركم } اى ما هو ظاهر منكم من الصفات الحيوانية والاحوال النفسانية { ويعلم ما تكسبون } باستعمال الاستعداد السرى والجهرى فى المأمورات والمنهيات من الخير والشر وقد خص الانسان بهذا الكسب ايضا دون الملك والحيوان فان الملك لا يقدر ان يكتسب من الصفات الحيوانية شيأ ولا الحيوان قادر على ان يكتسب من الصفات الملكية شيأ والانسان متصرف فى هاتين الصفتين وله اكتساب التخلق باخلاق الله بالتقرب الى الله باداء ما افترض عليه والتزم النوافل واجتناب النواهى الى ان يصير من خير البرية وله ايضا ان يكتسب من الشر ما يصير به شر البرية انتهى قال حسين الواعظ الكاشفى فى تفسيره الفارسى [ در نقد النصوص فرموده كه انسان مر آتيست ذات وجهين در يك رويش خصائض ربوبيت ودرروى ديكر نقايص عبوديت جون خصائص نكرى ازهمه موجودات بزركوارتر وجون نقائص عبوديت شمارى ازهمه خوارتر وبمقدارتر(3/378)
جون درخودارزاوصاف توبابم اثرى ... حاشاكه بود نكوترازمن دكرى
وآن دم كه فتد بحال خويشم نظرى ... درهمر دوجهان نباشد ازمن بترى
بس حق سبحانه وتعلى مى فرمايدركه من اسرار خصائص شما درتيه غيب ميدانم وآثار نقائص شما درعالم شهادت مى شناسم وديكر ميدانم آنجه شما ميكنيد ازعلاكه سبب ترقى باشدبر درجات انسانية ياموجب تنزل بدركات حيوانيه ودانستن اين داناى سالك را بران دارد كه باصلاح وتزكيه اعمال مشغول شده ازحيز استيفاء حظوظ حيوانى برذروه استئناس بانعيم روحانى متصاعد كردد ]
حيف باشد كه عمر انسانى ... جون بهايم بخواب وخور كذرد
آدمى ميتواند از كوشش ... كه مقام فرشته در كذرد
انتهى قال شيخنا العلامة ابقاه الله بالسلامة عند تأويل الحديث القدسى « سر الانسان سرى وسرى سره » يعنى سره ظاهر سرى وصورة سرى وسرى باطن سره وحقيقة سره ثم قال واعلم ان سر الانسان عبارة عن الحقيقة الانسانية الظاهرة على صورة الحقيقة الالهية كما قال عليه السلام « خلق الله آدم على صورته » ولما نزلت تلك الحقيقة الانسانية من مرتبة الغيب الى منزلة الشهادة وتجلى لها الحق سبحانه بجماله وجلاله اودع فى جانبها الشرقى نور جماله وجانبها الغربى ظلمة جلاله واقام فى الاول ملكها يهدى الى الحق وفى الثانى شيطانا يدعو الى الباطل والملك سادن قبضة الجمال ويد اللطف والشيطان خادم قبضة الجلال ويد القهر واذا اراد الحق ان يصرف تلك الحقيقة الانسانية الى الحق يأمر الملك ان يلهمها اياه فتراه بالنور الآلهى الجمالى الذى فاض من تجلى الجمال فتتبعه وتقبله وتكون روحا ما دام وتكون على الحق ثابتة ويصير قالبها الذى هو لوحه فى اثبات الحق قلبا ترتعى فى روضته ويتجلى لها الحق سبحانه بالتجليات الجمالية والالطاف الخالصة المورثة طمأنينتها وسكينتها وتكون على الاستسلام والطاعة والصبر والرضى وغير ذلك من الاخلاق الحميدة واما اذا اراد ان يصرفها الى الباطل فيخلى بينها وبين الشيطان فيلقنها اياه فلا تراه ولا تفهمه اى لا تعلم انه باطل يحجبها عن الحق لان الظلمة الحاصلة من تجلى الجلال تمنعها عن ذلك فلا تجتنبه بل تأخذه وتصير نفسا مظلمة بعد كونها روحا نورانيا فتجريه فى قالبها الذى هو محل لذلك ويكون ذلك القالب طبيعة مظلمة بعد كونه قلبا نورانيا فيتجلى الحق تعالى بالتجليات الجلالية والاحوال القهرية التى تورث الاضطراب وعدم الاستسلام فتكون على المخالفة والاعراض وتتصف بالاوصاف الذميمة بعد الاتصاف بالحميدة هكذا الى آخر الامر اذ ذلك سنته القديمة وعادته الازلية الى ما شاء الله تعالى فانه اذا اراد بعبده خيرا يفقهه فى الدين ويجذبه الى نفسه مما سواه ولا يسلط الشيطان عليه كما قال { ان عبادى ليس لك عليهم سلطان } بل للملائكة السادنة لقبضة الجمال عليهم سلطان بسلطانى عليهم واحكام القبضتين جارية فى العوالم فى النفس والآفاق على ايدى سدنتهما الى تمام الامر والحكم فى التقلب للغالب انتهى كلام حضرة الشيخ قدس سره وهو الذى ما جاء مثله بعدا لصدر القنوى والله اعلم الله اجعلنى من تابعيه حقيقة ومتبعيه شريعة وطريقة(3/379)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } ما نافية ومن الاولى مزيدة للاستغراق والثانية تبعيضية واقعة بمجرورها فة لآية والمراد بالآيات اما الآيات التنزيلية فاتيانها نزولها . والمعنى ما ينزل الى اهل مكة آية من الآيات القرآنية { إلا كانوا عنها معرضين } غير ملتفتين اي على وجه التكذيب والاستهزاء واما الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات فاتيانها ظهورها لهم . والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات التكوينية الدالة على وحدانية الله تعالى الا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المردى الى الايمان بمكونها وعن متعلقة بمعرضين والجملة فى محل النصب على انها حال من مفعول تأتى ففيها دلالة على كمال مسارعتهم الى الاعراض وايقاعهم له فى آن الاتيان كما يفصح عنه كلمة لما فى قوله تعالى(3/380)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{ فقد كذبوا بالحق لما جآءهم } فان الحق عبارة عن القرآن الذى اعرضوا عنه حيث اعرضوا عن كل آية منه وعبر عنه بذلك لكمال قبح ما فعلوا به فان تكذيب الحق مما لا يتصور صدوره عن احد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على انه شئ مغاير له فى الحقيقة واقع عقيبه او حاصل بسببه بل عى ان الاول عين الثانى حقيقة وانما الترتيب بسبب التغاير الاعتبارى كما فى قوله تعالى { فقد جاؤا ظلما وزورا } بعد قوله تعالى { وقال الذين كفروا ان هذا الا افك افتراه واعانه عليه قوم آخرون } فان ما جؤه اى فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكى لكنه لما كان مغايرا له مفهوما واشنع منه حالا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لامره كذلك مفهوم التكذيب بالحق لما كان اشنع من مفهوم الاعراض المذكور اخرج مخرج اللازم البطلان فرتب عليه بالفاء اظهارا لغاية بطلانه ثم قيد بذلك لكونه بلا تأمل تأكيدا لشناعته والمعنى انهم حيث اعرضوا عن تلك الآيات عند اتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه اصلا من غير ان يتدبروا فى حاله ومآله { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن } سوف لتأكيد مضمون الجملة والانباء جمع نبأ وهو الخبر الذى له عظم وشأن وما عبارة عن الحق المذكور وانباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة اى سيعلمون ما يؤول اليه عاقبة استهزائهم بالآيات فقتلهم الله يوم بدر بالسيف(3/381)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{ ألم يروا } لما ذكر تعالى قبائحهم من الاعراض والتكذيب والاستهزاء اتبعه بما يجرى مجرى الموعظة فوعظهم بالقرون الماضية فقال الم يروا وهمزة الانكار لتقرير الرؤية وهى عرفانية مستدعية لمفعول واحد والضمير لاهل مكة اى ألم يعرفوا بمعاينة الآثار وسماع الاخبار { كم } عبارة عن الاشخاص استفهامية كانت او خبرية { اهلكنا من قبلهم } من متعلقة باهلكنا والمراد من قبل خلق اهل مكة او من قبل زمانهم على حذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه { من قرن } مميز لكم عبارة عن اهل عصر من الاعصار سموا بذلك لاقترانهم برهة من الدهر كما فى قوله صلى الله عليه وسلم « خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » واراد بالقرن الاول الصحابة وبالثانى التابعين وبالثالث تابع التابعين وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان ثمانين سنة او سبعين او ستين او اربعين او ثلاثين او مائة فالمضاف على هذا محذوف اى من اهل قرن لان نفس الزمان لا يتعلق به الاهلاك { مكناهم فى الارض } استئناف لبيان كيفية الاهلاك وتفصيل مباديه مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل كيف كان ذلك فقيل مكناهم وتمكين الشئ فى الارض جعله قارا فيها ولما لزمه جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه فى الارض واخرى مكن له فى الارض حتى اجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى { ما لم نمكن لكم } بعد قوله تعالى { مكناهم فى الارض } كأنه قيل فى الاول مكنا لهم وفى الثانى ما لم نمكن لكم وما نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف محلها النصب على المصدرية اى مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم ويحتمل ان يكون مفعولا به لمكناهم على المعنى لان معنى مكناهم اعطيناهم اى اعطيناهم ما لم نعطكم { وأرسلنا السماء } اى المطر او السحاب { عليهم } متعلق بارسلنا { مدرارا } مغرارا اى كثير الدرور والصب وهو حال من السماء قال ابن الشيخ المدرار مفعال وهو من ابنية المبالغة للفاعل كامرأة مذكار ومئناث واصله من درر اللين درورا وهو كثرة وروده على الحالب يقال سحاب مدرارا ومطر مدرار اذا تتابع منه المطر فى اوقات الاحتياج اليه { وجعلنا الانهار } اى صيرناها { تجرى من تحتهم } اى من تحت اشجارهم ومساكنهم وقصورهم والمعنى اعطيناهم من البسط فى الاجسام والامتداد فى الاعمار والسعة من الاموال والاستظهار باسباب الدنيا فى استجلاب المنافع واستدفاع المضار ما لم نعط اهل مكة ففعلوا ما فعلوا من الكفران والعصيان { فاهلكناهم بذنوبهم } اى اهلكت كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب فما اعنى عنهم تلك العدد والاسباب فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب { وأنشأنا من بعدهم } ايى احدثنا من بعد اهلاك كل قرن { قرنا آخرين } بدلا من الهالكين وهو لبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه وان ما ذكر من اهلاك الامم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيأ بل كلما اهلك امة انشأ بدلها اخرى يعمر بهم بلاده ومن عادته تعالى اذهاب اهل الظلم بعد الامهال ومجيئه باهل العدل والانصاف ونفى اهل الرياء والسمعة واثبات اهل الصدق والاخلاص ولن يزال الناس من اهل الخير فى كل عصر ، وعن ابى الدرداء رضى الله عنه انه قال ان لله عبادا يقال لهم الابدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية ولكن بلغوا بصدق الروع وحسن النية وسلامة الصدر والرحمة بجميع المسلمين اصطفاهم الله بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم اربعون رجلا على مثل قلب ابراهيم عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد ا نشأ من يخلفه واعلم انهم لا يسبون شيئا ولا يلعنون ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدونه من فوقهم اطيب الناس خبرا والينهم عريكة واسخاهم نفسا لا تدركهم الخيل المجراة ولا الرياح العواصف فيما بينهم وبين ربهم انما قلوبهم تصعد فى السقوف العلى ارتباجا الى الله تعالى فى استباق الخيرات اولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون وهذا بعض كلامه وفى قوله تعالى { فأهلكناهم بذنوبهم } اشارة الى ان الهلاك مطلقا صوريا ومعنويا بدنيا وماليا انما هو بشؤم المعصية وكفران النعمة : ونعم ما قيل(3/382)
شكر نعمت نعمتت افزون كند ... كفر نعمت ازكفت بيرون كند
فمن اعرض عن المعجزات والكرامات والالهامات لا قباله على الدنيا وزينتها وشهواتها كأنهم الانعام بل هم اضل لان الانعام ما كذبت بالحق وهو قد كذب
دريغ آدمى زاده برمحل ... كه باشد جو انعام بل هم اضل
وقوله تعالى { فسوف يأتيهم } اى فى الدنيا والآخرة { أنباء ما كانوا به يستهزؤن } اما فى الدنيا فمن استهزائهم باقوال الانبياء والاولياء واحوالهم يصمهم الله ويعمى ابصارهم فلا يهتدون الى حق ولا الى حقيقة سبيلا واما فى الآخرة فيعذبهم بعذاب القطيعة والبعد والحرمان والخلود فى النيران حكى ان امام الحرمين كان يدرس يوما فى المسجد بعد صلاة الصبح فمر عليه بعض شيوخ الصوفية ومعه اصحابه من الفقراء وقد دعوا الى بعض المواضع فقال امام الحرمين فى نفسه ما شغل هؤلاء الا الاكل والرقص فلما رجع الشيخ من الدعوة مر عليه وقال يافقيه ما تقول فيمن صلى الصبح وهو جنب ويقعد فى المسجد ويدرس العلوم . ويغتاب الناس فذكر امام الحرمين انه كان عليه غسل ثم حسن اعتقاده بعد ذلك فى الصوفية اقول واول الامر اعتقادهم ثم الاتباع بطريقتهم ثم الوصول الى مقاماتهم وقيل لابى القاسم الجنيد قدس سره ممن استفدت هذه العلوم فقال من جلوسى بين يدى الله تعالى ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة واشار الى درجة فى داره فهذه الطريقة لا تنكشف اسرارها ولا تتلألأ انوارها الا بعد اجتهاد تام وسلوك قوى والله الهادى(3/383)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ ولو نزلنا عليك } روى ان بعض المشركين قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه اربعة من الملائكة يشهدون من عند الله وانك رسوله فانزل الله تعالى قوله { ولو نزلنا عليك } { كتابا فى قرطاس } اى مكتوبا فى رق فالكتاب بمعنى مفعول { فلمسوه } اى الكتاب { بايديهم } بعد ما رأوه بأعينهم بحيث لم يبق لهم فى شأنه اشتباه فذكر اللمس لان التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم ان يقولوا انما سكرت ابصارنا اى سدت وذكر الايدى مع ان اللمس لا يكون عادة الا بها لدفع التجوز فانه يتجوز به للتفحص كما فى قوله تعالى { وانا لمسنا السماء } اى تفحصنا { لقال الذين كفروا } تعنتا وعنادا للحق بعد ظهوره كما هو دأب المحجوج اللجوج { إن هذا } اى الكتاب { الا سحر مبين } اى بين كونه سحرا على كل احد ولا شك ان من حرم التوفيق وكذب بالحق غيبا وحدسا كذب به عيانا وحسا فلو ان اهل الانكار رأوا الاولياء والصالحين يطيرون فى الهواء لقالوا هذا سحر وهؤلاء شياطين }(3/384)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{ وقالوا لولا انزل عليه ملك } شروع فى قدحهم فى النبوة صريحا بعدما اشير الى قدحهم فيها ضمنا ولولا تحضيضية بمعنى الامر والضمير فى عليه للنبى عليه السلام اى هلا انزل عليه ملك بحيث نراه ويكلمنا انه نبى { ولو انزلنا ملكا لقضى الامر } ولو انزلنا ملكا على هيئة حسبما اقترحوه والحال انه من هول المنظر بحيث لا يطيق مشاهدته قوى الآحاد البشرية لقضى الامر اى هلاكهم بالكلية { ثم لا ينظرون } اى لا يمهلون بعد نزوله طرفة العين ومعنى ثم بعد ما بين الامرين قضاء الامر وعدم الانظار وجعل عدم الانظار اشد من قضاء الامر لان مفاجأة العذاب اشد من نفس العذاب واشق(3/385)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{ ولو جعلناه ملكا } الهاء للمطلوب وهو ان يكون الشاهد على نبوته عليه السلام ملكا { لجعلناه رجلا } اى لمثلنا ذلك الملك رجلا لما مر من عدم استطاعة الآحاد لمعاينة الملك على هيكله وكان جبرائيل عليه السلام يأتى النبى عليه السلام فى صورة دحية الكلبى وجاء الملكان الى داود عليه السلام فى صورة رجلين مختصمين اليه وجاءت الملائكة الى ابراهيم فى صورة الضيفان فان القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك وصورته وانما رآهم كذلك الافراد من الانبياء لقوتهم القدسية { وللبسنا عليهم } جواب محذوف اى ولو جعلناه رجلا لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا { ما يلبسون } على انفسهم حينئذ بان يقولوا له انما انت بشر ولست بملك والتعبير عن تمثيله تعالى رجلا باللبس لكونه سببا للبسهم وفيه تأكيد لاستحالة جعله ملكا كأنه قيل لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لبس الامر عليهم من لبست الامر على القوم البسه من باب ضرب اذا شبهت وجعلته مشكلا عليهم واصله الستر بالثوب(3/386)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك } برسل متعلق باستهزئ ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل وهو تسلية لرسول الله عليه السلام عما يلقاه من قومه اى وبالله لقد استهزئ برسل اولى شأن خطير وذوى عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه { فحاق } عقيبه اى احاط او نزل او حل او نحو ذلك فان معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل الا فى الشر والحيق ما يشتمل على الانسان من مكروه فعله { بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } ما موصولة اسمية والعائد الهاء فى به وبه متعلق بيستهزئون والموصول مع صلته فاعل حاق اى فاحاط بهم الذى كانوا يستهزئون به حيث اهلكوا لاجله فاسناد الاحاطة والاهلاك الى الرسل من قبيل الاسناد الى السبب والمعنى احاط الله بهم واهلكهم بسبب استهزائهم بالرسل وقد انجز الله ذلك يوم بدر اى انجاز(3/387)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
{ قل سيروا فى الارض } اى سافروا فى الارض لتعرف احوال الامم الماضية { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } اى تفكروا فى انهم كيف اهلكوا بعذاب الاستئصال وثم لتفاوت ما بين الواجبين فان وجوب السير ليس الا لكونه وسيلة الى النظر ومثله قوله توضأ ثم صل والعاقبة مصدر وهى منتهى الامر ومآله اعلم ان الاستهزاء من شيم النفوس المتمردة بارباب الدين من الانبياءس والاولياء فى كل زمان وحين يروى ان النبى عليه السلام كان جالسا فى المسجد الحرام مع جماعة من المستضعفين بلال وصهيب وعمار وغيرهم فمر بهم ابو جهل فى ملأ من قريش فقال يزعم محمد ان هؤلاء ملوك الجنة فاستهزأ بفقراء المسلمين وقد فعل الله به ما فعل يوم بدر فنال جزاء استهزائه وذلك محل العبرة لاولى الابصار : وفى المثنوى
نى ترا حفظ زبان از راز كس ... نى نظر كردن بعبرت بيش وبس
بيش جه بود يادمرك ونزع خويش ... بس جه باشد مردن ياران زبيش
حكى ان شيعيا يقال له ابن هيلان كان يتكلم بما لا ينبغى فى حق الصحابة فبينما هو يهدم حائطا اذ سقط عليه فدفن بالبقيع مقبرة المدينة فلم يوجد ثانى يوم فى القبر الذى دفن فيه ولا التراب الذى ردم به القبر بحيث يستدل بذلك لنبشه وانما وجدوا اللبن على حاله حسبما شاهده الجم الغفير حتى كان ممن وقف عليه القاضى جمال الدين وصار الناس يجيئون لرؤيته ارسالا الى ان اشتهر امره وعد ذلك من الآيات التى يعتبر بها من شرح الله صدره نسأل الله السلامة كذا فى المقاصد الحسنة للامام السخاوى . فعلم منه عاقبة الطعن والاستهزاء وان الله تعالى ينقل جيفة الفاسق من المحل المتبرك به الى المكان المتشأم منه كما ورد فى الحديث الصحيح « من مات من امتى يعمل عمل قوم لوط نقله الله اليهم حتى يحشر معهم » كما فى الدرر المنتثرة للامام السيوطى وهذا صريح فى نقل جسده لان الحشر بالروح والجسد جميعا فكما ان الله تعالى ينقل اجساد الاشارر من مقام شريف الى محل وضيع كذلك ينقل اجسام الاخيار من مكان وضيع الى مقام شريف كالبقيع والحجون مقبرتى المدينة ومكة فان الله تعالى يسوق الاهل الى الاهل وهذا آخر الزمان وقلما يوجد فيه من هو متوجه الى القبلة فى الظاهر والباطن والحياة والممات ونعم ما قيل ذهب الناس وما بقى الا النسناس وهم الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس وهم يأجوج ومأجوج او حيوان بحرى صورته كصورة الانسان او خلق على صورة الناس اشبهوهم فى شئ وخالفوهم فى شئ وليسوا من بنى آدم وقيل هم من بنى آدم روى ان حيا من عاد عصوا رسولهم فمسخهم الله نسناسا لكل رجل منه ميد ورجل من شق واحد ينقز كما ينقز الطير ويرعون كما ترعى البهائم فأين الاخيار واين اولو الابصار مضوا والله ما بقى الا القليل : قال الحافظ قطعه
بددرين ظلمت سراتاكى ببوى دوست ... كهى انكشت دردندان كهى سربر سرزانوا
تناهى الصبر مذخلت بمأوى الاسد سرحان ... وطار العقل اذغنت بمغنى الورق غربان
بيا اى طائر فرخ بياور مزده دولت ... عسى الايام ان يرجعن قوما كالذى كانوا
اى كالوضع الذى كانوا عليه من الانتظام مطلقا(3/388)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{ قل لمن ما فى السموات والارض قل لله } الجاء لاهل مكة الى الاقرار بان الكل من العقلاء وغيرهم لله خلقا و ملكا وتصرفا كأنه يقول هل لكم سبيل الى عدم الاقرار بذلك مع كونه من الظهور بحث لا يقدر احد على انكاره وفى تصدى السائل للجواب قبل ان يجيب غيره ايماء الى ان مثل هذا السؤال لكون جوابه متعينا ليس من حقه ان ينتظر جوابه بل حقه ان يبادر الى الاعتراف بالجواب { كتب على نفسه الرحمة } جملة مستقلة داخلة تحت الامر مسوقة لبيان انه تعالى رؤف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة والانابة ومعنى كتب الرحمة على نفسه التزمها واوجبها تفضلا واحسانا لانه تعالى منزه عن ان يجب عليه شئ حقيقة وفى التعبير عن الذات بالنفس حجة على من ادعى ان لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى { ليجمعنكم الى يوم القيامة } جواب قسم محذوف اى والله ليجمعنكم فى القبور مبعوثين او محشورين الى يوم القيامة فيجازيكم على شرككم وسائر معاصيكم وان امهلكم بموجب رحمته ولم يعاملكم بالعقوبة الدنيوية { لا ريب فيه } اى فى اليوم اوفى الجميع { الذين خسروا أنفسهم } اى بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الاصلية والعقل السليم وهو مبتدأ وخبره قوله { فهم لا يؤمنون } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والاشعار بان عدم ايمانهم بسبب خسرانهم فان ابطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك فى التقليد واغفال النظر أدى بهم الى الاصرارعلى الكفر والامتناع من الايمان والخروج عن دائرة الرحمة الخاصة قال القاضى والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية الى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الادلة وانزال الكتب والامهال على الكفر وفى تفسير الكاشفى [ مراد رحمت ذاتيه باشدكه رحمت مطلقه كوفيد واين رحمتيست كه برهمه جيز فرا رسيده ونتيجه آن عطاء ادنيست بى سابقه سؤال واستدعا ورابطة حاجت واستحقاق جنانجه در مثنوى معنى واردتس ]
درعدم ما مستحقان كى بديم ... كه برين جان وبرين دانش زديم
ما نبوديم و تقاضا مان نبود ... لطف تونا كفته ما مى شنود
قال الامام الا كمل فى شرح الحديث عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « جعل الله الرحمة مائة جزء فامسك عنده تسعة وتسعين وانزل فى الارض جزأ واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حوافرها عن ولدها يمص ان تصيبه » فهذا مما يدل على كمال الرجاء والبشارة للمسلمين لانه حصل فى هذه الدار من رحمة واحدة ما حصل من النعم الظاهرة والباطنة فما ظنك بمائة رحمة فى الدار الآخرة وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال قدم على النبى عليه السلام سبى فاذا امرأة من السبى تحلب ثديها وتسعى قاذا وجدت صبيا فى السبى اخذته فالصقته ببطنها وارضعته فقال لنا النبى عليه السلام(3/389)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{ وله ما سكن فى الليل والنهار } روى ان كفار مكة اتوا رسول الله فقالوا يا رسول الله قد علمنا انك ما يحملك على ما تدعونا اليه الا الفقر والحاجة فنحن نجمع لك من القبائل اموالا تكون اغنانا رجلا وترجع عما انت عليه من الدعوة فانزل الله تعالى هذه الآية والمعنى ولله تعالى خاصة جميع ما استقر فيهما واشتملا عليه فان اراد يعطى رسوله مالا كثيرا ليكون اغنى الخلق نزل الملوان منزلة المكان فعبر عن نسبة الاشياء الزمانية اليهما بالسكنى فيهما { وهو السميع } المبالغ فى سماع كل مسموع { العليم } المبالغ فى العلم بكل معلوم فلا يخفى لعيه شئ من الأقوال والافعال وفى الخبر ( ان الله تعالى خلق جوهرتين احداهما مظلمة والاخرى مضيئة فاستخلص من المضيئة كل نور فخلق من نورها النهار ومن الباقى النار واستخلص من الظلمة كل ظلمة فخلق منها الليل وخلق من الباقى الجنة فالليل من الجنة والنار من النار ) ولذلك كان الانس بالليل اكثر فالليل انس المحبين وقرة اعين المحبوبين وقدم الليل على النهار لان الليل لخدمة المولى والنهار لخدمة الخلق ومعارج الانبياء كانت بالليل والقدر فى الليل خير من الف شهر وليس فى الايام مثلها وكان بعض الاولياء يقول اذا جاء الليل جاء الخلق الاعظم يقول الفقير جامع هذه المجالس اما من حجب عن سر الليل وحلاوة المناجاة فيه وذوق الخلوة والوحدة فالمحبوب اليه النهار كعلماء الرسوم ألا ترى الى ثعلب النحوى يقول وددت ان الليل نهار حتى لا تنقطع عنى اصحابى وهذا حرص منه على الكثرة والالفة معها والا فكل معلم لم يكن اعلى حالا من المجتهدين ألا ترى ان امامنا الاعظم كان يدرس ويحيى الليل
هر كنج سعادت كه اوداد يحافظ ... ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود
وعلم من التقرير المذكور افضلية الليل على النهار واعلم ان الكل خلق الله تعالى ولكل وعلم من التقرير المذكور افضلية الليل على النهار واعلم ان الكل خلق الله تعالى ولكل منهما ملك موكل به وفى الخبر عن سلمان رضى الله عنه قال الليل موكل به ملك يقال له شراهيل فاذا حان وقت الليل اخذ خرزة سواداء فدلاها من قبل المغرب فاذا نظرت اليها الشمس وجبت فى اسرع من طرفة العين وقد امرت ان لا تغرب حتى ترى الخرزة فاذا غربت جاء الليل وقد نشرت الظلمة من تحت جناحى ملك فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيئ ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع فاذا رأتها الشمس طلعت فى طرفة عين وقد امرت ان لا تطلع حتى ترى الخرزة البيضاء فاذا طلعت جاء النهار فنشر النور من تحت جناحى ملك فلنور النهار ملك موكل ولظلمة الليل ملك موكل عند الطلوع والغروب كما وردت الاخبار(3/390)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
{ قل } يا محمد لكفار مكة ونزلت حين دعوه الى الشرك ودين آبائه { أغير الله اتخذ وليا } اى معبودا بطريق الاستقلال او الاشتراك وقد اتخذني الله فى ازليته حبيبا كما قال عليه السلام « لو كنت متخذا خليلا غير الله لاتخذت ابا بكر خليلا ولكن الله اتخذ صاحبكم خليلا » اى لا اتخذ فالمنكر هو اتخاذ غير الله وليا لا نفس اتخاذ الولى لكن قدم المفعول لكونه مناط الانكار { فاطر السموات والارض } مبدعهما اى خالقهما ابتداء لا على مثال سبق وهو بدل من الجلالة { وهو } اى والحال انه { يطعم ولا يطعم } اى يرزق الخلق ولا يرزق وتخصيص الطعام بالذكر لشدة الحاجة اليه { قل انى امرت ان اكون اول من اسلم } وجهه لله مخلصا له لان النبى امام امته فى الاسلام { ولا تكونن من المشركين } اى وقيل لى لا تكونن من المشركين به تعالى فى امر من امور الدين ومعناه امرت بالاسلام ونهيت عن الشرك وحقيقة الاسلام الاخلاص من حبس الوجود وما خلص منه غيره عليه السلام بالكلية ولهذا يقول الانبياء نفسى نفسى وهو يقول امتى امتى(3/391)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ قل إنى أخاف إن عصيت ربى } اى بمخالفة امره ونهيه اى عصيان كان { عذاب يوم عظيم } اى عذاب يوم القيامة مفعول اخاف وفيه قطع لاطماعهم وتعريض بانهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم(3/392)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
{ من يصرف عنه يومئذ } اى من يصرف عنه العذاب فى ذلك اليوم العظيم ويومئذ ظرف للصرف { فقد رحمه } اى نجاه وانعم عليه { وذلك } الصرف { الفوز المبين } اى النجاة الظاهرة(3/393)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{ وان يمسسك الله بضر } دليل آخر على انه لا يجوز للعاقل ان يتخذ غير الله وليا اى ببلية كمرض وفقر ونحو ذلك والباء للتعدية وترجمته بالفارسية [ واكر برساند خدا بتوسختى ] { فلا كاشف له } اى فلا قادر على كشف ذلك الضر ورفعه عنك { الا هو } تعالى وحده { وان يمسسك بخير } من صحة ونعمة ونحو ذلك { فهو على كل شئ قدير } فكان قادرا على حفظه وادامته فلا يقدر غيره على رفعه كقوله { فلا راد لفضله } وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه قال اهدى الى النبى عليه السلام بغلة اهداها كسرى فركبها بحبل من شعر ثم اردفنى خلفه ثم سار بى مليا ثم التفت الى فقال « يا غلام » فقلت لبيك يا رسول الله فقال « احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده امامك تعرّف الى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة واذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله فقد مضى القلم بما هو كائن فلوجهد الخلائق ان ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا ان يضروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه فان استطعت ان تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فان لم تستطع فاصبر فان فى الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم ان النصر مع الصبر وان مع الكرب الفرج وان مع العسر يسرا » فان قلت قد يتصور ان يكشف الانسان عن صاحبه كربة من الكرب قلت كاشف الضر فى الحقيقة هو الله تعالى اما بواسطة الاسباب او بغيرها : قال الحافظ
كررنج بيشت آيدوكر راحت اى حكيم ... نسبت مكن بغير كه اينها خدا كند
وكذا الاستعانة فى الحقيقة من الله تعالى فالاستعانة من الانبياء والاولياء انما هى استشفاع منهم فى قضاء الحاجة والموحد لا يعتقد ان فى الوجود مؤثرا غير الله تعالى(3/394)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{ وهو القاهر } اى القادر الذى لا يعجزه شئ مستعليا { فوق عباده وهو الحكيم } فى كل ما يفعله ويأمر به { الخبير } باحوال عباده وخفايا امورهم . صور قهره تعالى وعلو شانه بالعلو الحسى فعبر عنه بالفوقية بطريق الاستعارة التمثيلية فقوله { وهو القاهر فوق عباده } عبارة عن كمال القدرة كما ان قوله { وهو الحكيم الخبير } عبارة عن كمال العلم قال المتولى الفنارى فى تفسيره الفوقية من حيث القدرة لا من حيث المكان لعلو شأنه تعالى عن ذلك فانه تعالى قاهر للممكنات معدومة كانت او موجودة لانه يقهر كل واحد منهما بضده فيقهر المعدومات بالايجاد والتكوين والموجودات بالافناء والافساد وفى التأويلات النجمية وقد عم قهره جميع عباده فقهر الكفار بموت القلوب وحياة النفوس اذا اخطأتم النور المرشش على الارواح فى بدء الخلقة فضلوا فى ظلمات الطبيعة وما اهتدوا الى نور الشريعة وقهر نفوس المؤمنين بانوار الشريعة فاخرجهم من ظلمات الطبيعة وما اهتدوا الى نور الشريعة وقهر نفوس المؤمنين بانوار الشريعة فاخرجهم من ظلمات الطبيعة بالقيام على طاعته وقهر قلوب المحبين بلوعات الاشتياق فآنسها بلطف مشاهده وقهر ارواح الصديقين بسطوات تجلى صفات جلاله وبالجملة لا ترى شيأ سواه الا وهو مقهور تحت اعلام عزته وذليل فى ميادين صمديته فعلى العبد ان يعرف مولاه ويشتغل بعبوديته وهو الله تعالى الذى خلق كل شئ واوجده وقهره وحكى عن الشيخ عبد الواحد بن زيد قدس سره قال كنت فى مركب فطرحتنا الريح الى جزيرة واذا فيها رجل يعبد صنما فقلنا له يا رجل من تعبد فاومأ الى الصنم فقلنا له ان آلهك هذا مصنوع عندنا من يصنع مثله ما هذا بآله يعبد قال فانتم من تعبدون قلنا نعبد الذى فى السماء عرضه وفى الارض بطشه وفى الاحياء والاموات قضاؤه تقدست اسماؤه وجلت عظمته وكبرايؤه قال ومن اعلمكم بهذا قلنا وجه الينا رسولا كريما فاخبرنا بذلك قال ما فعل الرسول فيكم قلنا لما ادى الرسالة قبضه الملك اليه واختار له ما لديه قال فهل ترك عندكم من علامة قلنا نعم ترك عندنا كتابا للملك قال فارونى كتاب الملك فانه ينبغى ان تكون كتب الملوك حسانا فاتيناه بالمصحف فقال ما عرف هذا فقرأنا عليه سورة فلم يزل يبقى حتى ختمنا السورة فقال ينبغى لصاحب هذا الكلام ان لا يعصى ثم اسمل وحسن اسلامه ثم مات بعد ايام على احسن حال والحمد لله الملك المتعال فى الغدو والآصال انه هو المعبود المقصود واليه يأول كل امر موجود(3/395)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{ قل اى شئ اكبر شهادة } روى ان قريشا قالوا لرسول الله يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا ان ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فارنا من يشهد انك رسول الله فانهم انكروك فانزل الله تعالى هذه الآية امر حبيبه عليه السلام بان يقول لهم اى شئ اعظم من جهة الشهادة { قل الله } اى الله اكبر شهادة فشهادته اكبر من شهادة الخلق فان شهادة الخلق وعلومهم لا تحيط بحقائق الاشياء كلها والحق سبحانه هو الذى يحيط علمه بجميع حقائق الاشياء امر له عليه السلام بان يتولى الجواب بنفسه للايذان بتعينه وعدم قدرتهم على ان يجيبوا بغيره { شهيد } اى هو شهيد { بينى وبينكم } على صدقى { واوحى الىّ } من جهته تعالى { هذا القرآن } الشاهد بصحة رسالتى { لانذركم به } اى اخوفكم بما فيه من الوعيد ايها الموجودون وقت نزول القرآن { ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين اى بلغه القرآن من الانس والجن الى يوم القيامة قال محمد بن كعب القرطبى من بلغه القرآن فكأنمما رأى محمدا عليه السلام وسمع منه { أئنكم لتشهدون } الجاء لهم الى الاقرار باشراكهم اذ لا سبيل لهم الى انكاره لاشتهارهم به والاسفهام فيه للانكار والتوبيخ والمعنى بالفارسية [ آيا شما ييدكه كواهى ميدهيد ] { ان مع الله آلهة اخرى قل } لهم { لا اشهد } بذلك وان شهدتم به فانه باطل صرف { قل انما هو اله واحد } تكرير الامر للتأكيد اى بل انما اشهد انه تعالى لا اله الا هو اى متفرد بالالوهية { واننى برئى مما تشركون } به من الاصنام(3/396)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{ الذين آتيناهم الكتاب } جواب عما سبق من قولهم { لقد سألنا عنك اليهود والنصارى } والمراد بالموصول اليهود والنصارى وبالكتاب الجنس المنتظم للتوراة والانجيل { يعرفونه } اى محمدا عليه السلام بحليته ونعوته فى كتابهم { كما يعرفون ابناءهم } بحلالهم المعينة لهم روى ان رسول الله لما قدم المدينة قال عمر رضى الله عنه لعبد الله بن سلام انزل الله تعالى على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما اعرف ابنى ولأنا اشد معرفة بمحمد منى يا بنى لانى لا ادرى ما صنع النساء واشهد انه حق من الله تعالى فقال عمر وفقك الله يا ابن سلام { الذين خسروا انفسهم } اى غبنوا انفسهم من اهل الكتابين والمشركين بان ضيعوا فطرة الله التى فطر الناس عليها واعرضوا عن البينات الموجبة للايمان بالكلية وهو مبتدأ خبره قوله { فهم لا يؤمنون } لما انهم مطبوع على قلوبهم والفاء السببية تدل على ان تضييع الفطرة الاصلية والعقل السليم سبب لعدم الايمان قال البغوى وذلك ان الله تعالى جعل لكل آدمى منزلا فى الجنة ومنزلا فى النار فاذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل اهل النار فى الجنة ولاهل النار منازل اهل الجنة فى النار وذلك هو الخسران(3/397)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{ ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا } لوصفهم النبى المنعوت فى الكتابين بخلاف اوصافه عليه السلام فانه افتراء على الله تعالى وبقولهم الملائكة بنات وقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونحو ذلك اى لا احد اظلم منه { او كذب بآياته } كأن كذبوا بالقرآن وبالمعجزات وسموها سحرا وحرفوا التوراة وغيروا نعوته عليه السلام فان ذلك تكذيب بآياته وكلمة او للايذان بان كلا من الافتراء والتكذيب وحده بالغ غاية الافراط فى الظلم كيف وهم قد جمعوا بينهما فاثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما اثبته { انه } اى الشان { لا يفلح الظالمون } اى لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب واذا كان حال الظالمين هذا فما ظنك بمن فى الغاية القاصية من الظلم(3/398)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
{ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين اشركوا } يوم منصوب على الظرفية بمضمر مؤخر قد حذف ايذانا بضيق العبارة عن شرحه وبيانه والحشر جمع الناس الى موضع معلوم والضمير للكل وجميعا حال منه والمعنى ويوم نحشر الناس كلهم ثم نقول للمشركين خاصة للتوبيخ والتقريع على رؤس الاشهاد ما نقول كان من الاحوال والاهوال ما لا يحيط به دائرة المقال والعطف بثم للتراخى الحاصل بين مقامات يوم القيامة فى المواقف فان فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم { اين شركاؤكم } اى آلهتكم التى جعلتموها شركاء لله فالاضافة مجازية باعتبار اثباتهم الشركة لآلهتهم { الذين كنتم تزعمون } اى تزعمونها شركاء شفعاء والزعم القول الباطل والكذب فى اكثر الكلام(3/399)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
{ ثم لم تكن فتنتهم الا ان قالوا } الفتنة مرفوع على انه اسم تكن والخبر الا ان قالوا والاستثناء مفرغ من اعم الاشياء وفتنتهم اما كفرهم مرادا به عاقبته اى لم تكن عاقبة كفرهم الذى التزموه مدة اعمارهم وافتخروا به شيأ من الاشياء الا جحدوه والتبرى منه بان يقولوا { والله ربنا ما كنا مشركين } واما جوابهم عبر عنه بالفتنة لانه كذب وانما يقولون مع علمهم بانه بمعزل من النفع رأسا من فرط الحيرة والدهش كما يقولون ربنا اخرجنا منها وقد ايقنوا بالخلود(3/400)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ انظر } يا محمد { كيف كذبوا على انفسهم } بانكار صدور الاشراك عنهم فى الدنيا وتعجب من كذبهم فانه امر عجيب { وضل عنهم ما كانوا يفترون } عطف على كذبوا داخل فى حيز انظر اى كيف زال وذهب وبطل افتراؤهم فانهم كانوا يفترون فى حق الاصنام انها شفعاؤهم عند الله تعالى فبطل ذلك بالكلية يوم القيامة وفى الآيات امور . الاول اطلاق لفظ الشئ على الله تعالى لكن بمعنى شائ لا بمعنى مشيئ وجوده فهو الشائى المريد . والثانى انه يلزمه التبرى من الشرك عقيب التوحيد قال المولى الشهير باخى جلبى فى حواشى صدر الشريعة اسلام اليهود والنصارى مشروط بالتبرى من اليهودية والنصرانية بعد الاتيان بكلمتى الشهادة وبدون التبرى لا يكونان مسلمين ولو اتيا بالشهادتين مرارا لانهما فسرا قولهما بانه رسول الله اليكم لكن هذا فى الذين اليوم بين ظهرانى اهل الاسلام او فى دين محمد عليه السلام فهذا دليل توبته انتهى قال فى الدر المختصر فى صفة الايمان ان يقول ما امرنى الله تعالى به قبلته وما نهانى عنه انتهيت عنه فاذا اعتقد ذلك بقلبه واقر بلسانه كان ايمانا صحيحا وكان مؤمنا بالكل انتهى وايمان المقلد صحيح عند الامام الاعظم الا انه يأثم بترك النظر والاستدلال وفى فصل الخطاب من تشأ فى بلاد المسلمين وسبح الله تعالى عند رؤية صنائعه فهو خارج عن حد التقليد . والثالث ان قوله تعالى { كما يعرفون ابناءهم } يشير الى ان الآباء قد تحقق عندهم انهم مصادر الابناء ومبدأ وجود الابناء منهم فكذلك اهل المعرفة تحقق عندهم ان الله تعالى مصدرهم ومبدأ وجودهم منه : قال الحافظ
در مكتب حقائق وبيش اديب عشق ... هان اى بسر بكوش كه روزى بدر شوى
خواب وخورت زمرتبه خويش دور كرد ... آنكه رسى بخويش كه بى خواب وخورشوى
فالوصول الى المبدأ القديم بعد العبور من جسر الوصف الحادث . والرابع ان النافع هو الايمان والتوحيد والصدق والاخلاص دون الشرك والكذب يروى أن المشركين اذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن اهل التوحيد قال بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا تنجو مع اهل التوحيد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على افواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر فلا يفلحون . وكذا اهل الرياء من اهل التوحيد يزعمون انهم على اليقين وكمال الاخلاص وافعالهم الصادرة عن جوارحهم تدل على خلاف ذلك فانما خلق الله جهنم لتطهير اهل الشرك مطلقا لكن اهل الكفر مخلدون فافهم المقام واعلم ان الله تعالى واحد وكل شئ يشهد على وحدته وعلى هذه الوحدة يعرفه ويشاهده اهل المعرفة والمشاهدة فان كثرة الآثار لا تنافى الوحدة كالنواة مع الشجرة : قال الحافظ
تادم وحدت زدى حافظ شوريده حال ... خامة توحيد كش برورق اين وآن(3/401)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
{ ومنهم من يستمع اليك } اذا قرأت القرآن روى انه اجتمع ابو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وابو جهل واضرابهم يستمعون تلاوة رسول لاله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحب اخبار يا ابا قتيلة ما يقول محمد فقال والذى جعلها بيته ما ادرى ما يقول الا انه يحرك لسانه ويقول اساطير الاولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية فقال ابو سفيان انى ارى بعض ما يقول حقا فقال ابو جهل كلا فنزل فالضمير للمشركين { وجعلنا } اى انشأنا { على قلوبهم } الضمير راجع الى من باعتبار المعنى { اكنة } اى اغطية كثيرة لا يقادر قدرها خارجة مما يتعارفه الناس . جمع كنان بالكسر وهو ما يستر به الشئ { ان يفقهوه } مفعول له بحذف المضاف اى كراهة ان يفقهوا ما يستمعون من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع { و } جعلنا { فى آذانهم وقرا } اى صمما وثقلا كراهة ان يستمعوه حق الاستماع وهذا تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبى عليه السلام وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج اسماعهم له وهذا دليل على ان الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى ويجعل بعضها فى اكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن كما هو مذهب اهل السنة وفى الآية اشارة الى ان مكافاة من يستمع الى كلام الله تعالى او الى حديث النبى عليه السلام او الى كلمات ارباب الحقائق بالانكار ليأخذوا عليها ويطعنوا فيها ان يجعل الله تعالى حجابا على قلوبهم وسمعهم حتى لا يصل اليهم انوارها ولا يجدون حلاوتها ولا يفهمون حقائقها : قال المولى الجامى
عدجب نبودكه ازقر آن نصيبت نيست جز حرفى ... كه ازخورشيد جز كرمى نبيند جشم نابينا
{ وان يروا كل آية } من الآيات القرآنية اى يشاهدوها بسماعها { لا يؤمنوا بها } اى كفروا بكل واحدة منها وسموها سحرا وافتراء واساطير لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم { حتى } ابتدائية ومع هذا لا مانع من ان تفيد معنى الغاية اى بلغ بهم ذلك المنع من فهم القرآن الى انهم { اذا جاؤك يجادلونك } اى حال كونهم مجادلين لك { يقول الذين كفروا } اى لا يكتفون بمجرد عدم الايمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون { ان هذا } اى ما هذا القرآن { الا اساطير الاولين } اى اباطيلهم واكاذيبهم جمع اسطورة بالضم كالاضاحيك والاعاجيب جمع اضحوكة واعجوبة : وفى المثنوى
جون كتاب الله بيامد هم بران ... اين جنين طعنه زدند آن كافران
كه اساطيراست وافسانه نثرند ... نيست تعميقى وتحقيقى بلند
توزقر آن اى بسر ظاهر مبين ... ديو آدمرا نبيند غير طين(3/402)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{ وهم } اى الكفار { ينهون } الناس { عنه } اى عن القرآن والايمان به { وينأون عنه } اى يتباعدون عنه بانفسهم اظهارا لغاية نفورهم منه وتأكيدا لنهيهم عنه فان اجتناب الناهى عن المنهى عنه من متممات النهى ولعل ذلك هو السر فى تأخير النأى عن النهى . والنأى البعد { وان يهلكون } اى ما يهلكون بالنهى والنأى { الا انفسهم } لان ضرره عليهم { وما يشعرون } اى والحال انهم ما يعملون اى لا باهلاك انفسهم ولا باقتضاء ذلك عليها من غير ان يضربوا بذلك شيأ من القرآن والرسول والمؤمنين(3/403)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{ ولو ترى اذ وقفوا على النار } الخطاب اما لرسول الله صلى الله عليه وسلم او لكل احد من اهل المشاهدة والعيان . والوقف الحبس وجواب لو ومفعول ترى محذوف اى لو تراهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها لرأيت مالا يساعده التعبير { فقالوا يا } للتنبيه { ليتنا نرد } الى الدنيا { ولا نكذب بآيات ربنا } القرآنية { ونكون من المؤمنين } بها العاملين بمقتضاها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل ونصب الفعلين على جواب التمنى باضمار ان بعد الواو واجرائها مجرى الفاء والمعنى ان رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين(3/404)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } اى ليس الامر على ما قالوه من انهم لو ردوا الى الدنيا لآمنوا فان التمنى الواقع منهم يوم القيامة ليس لاجل كونهم راغبين فى الايمان بل لانه ظهر لهم فى موقفهم ذلك ما كانوا يخفون فى الدنيا وهى النار التى وقفوا عليها والمراد باخفائها تكذيبهم لها فان التكذيب بالشئ كفر به واخفاء له محالة { ولو ردوا } الى الدنيا فرضا { لعادوا لما نهوا عنه } من الشرك ونسوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار انظارهم على الاشهد دون الغائب كابليس قد عاين من آيات الله تعالى ثم عاند فلا راد لما قضاه الله تعالى ولا مبدل لما حكم فى الازل { وانهم لكاذبون } الى لقوم ديدنهم الكذب فى كل ما يأتون وما يذرون وبهذه الآية يفتى بقتل اهل البغى والفساد اذلا يؤمن من ان يعودوا لما نهوا عنه : وفى المثنوى
آن ندامت ازنتيجة رنج بود ... نه زعقل روشنى جون كنج بود
جونكه شدر نج آن ندامت شد عدم ... مى نيرزد خاك آن توبه وندم
ميكند او توبه وبير خرد ... بانكه لوردوا لعادوا ميزند(3/405)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
{ وقالوا } عطف على عادوا داخل فى حير الجواب { ان هى } اى ما الحياة فالضمير للحياة فان من الضمائر ما يذكر مبهما ولا يعمل ما يرجع اليه الا بذكر ما بعده { الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } بعد ما فارقنا هذه الحياة كأن لم يروا ما رأوا من الاحوال التى اولها البعث والنشور(3/406)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{ ولو ترى اذ وقفوا على ربهم } اى حبسوا للسؤال كما يوقف العبد الجانى بين يدى سيده للعتاب والجواب محذوف اى لرأيت امرا عظيما { قال } لهم على لسان الملائكة موبحا وهو استئناف { أليس هذا } البعث والحساب { بالحق قالوا بلى وربنا } انه لحق { قال فذوقوا العذاب } الذى عاينتموه { بما كنتم تكفرون } اى بسبب كفركم فى الدنيا بذلك . وخص لفظ الذوق للاشارة الى ان ما يجدونه من العذاب فى كل حال هو ما يجده الذائق لكون ما يجدون بعده اشد من الاول(3/407)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } اى قد غبن الذين كذبوا بالبعث بعد الموت { حتى اذا جاءتهم الساعة } غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم فانه ابدى لا حد له { بغتة } حال من فاعل جاءتهم اى باغتة مفاجئة والبغت والبغتة مفاجأة الشى بسرعة من غير ان يشعر به الانسان حتى لو كان له شعور بمجيئه ثم جاءه بسرعة لا يقال فيه بغتة والوقت الذى تقوم فيه القيامة يفجأ الناس فى ساعة لا يعلمها احد الا الله تعالى فلذلك سميت ساعة خفيفة يحدث فيها امر عظيم وسميت الساعة ساعة لسعيها الى جانب الوقوع ومسافته الانفاس والمعنى انهم قد كذبوا الى ان ظهرت الساعة بغتة فان قيل انما يكذبون الى ان يموتوا والجواب ان زمان الموت آخر زمان من ازمنة الدنيا واول زمان من ازمنة الآخرة فمن انتهى تكذيبه الى هذا الوقت صدق انه كذب الى ان ظهرت الساعة بغتة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام « من مات فقد قامت قيامته » { قالوا } جواب اذا { يا حسرتنا } الحسرة هى شدة الندم والتألم ونداؤها مجاز لان الحسرة لا يتأتى منها الاقبال وانما المعنى على المبالغة فى شدة التحسر كأنهم نادوا الحسرة وقالوا ان كان لك وقت فهذا اوان حضورك ومثله يا ويلتنا والمقصود التنبيه على خطأ المنادى حيث ترك ما احوجه تركه الى نداء هذه الاشياء { على ما فرطنا فيها } اى على تفريطنا فى شان الساعة وتقصيرنا فى مراعاة حقها والاستعداد لها بالايمان بها واكتساب الاعمال الصالحة فعلى متعلق بالحسرة وما مصدرية والتفريط التقصير فى الشئ مع القدرة على فعله { وهم يحملون اوزارهم على ظهورهم } حال من فاعل قالوا . والاوزار جمع وزر وهو فى الاصل الحمل الثقيل يقال وزرته اى حملته ثقيلا ومنه وزير الملك لانه يتحمل اعباء ما قلده الملك من مؤونة رعيته وحشمه سمى به الاثم والذنب لغاية ثقله على صاحبه والحمل من توابع الاعيان الكثيفة لا من عوارض المعانى فلا يوصف به العرض الاعلى سبيل التمثيل والتشبيه وذكر الظهور كذكر الايدى فى قوله تعالى { فبما كسبت ايديكم } فان المعتاد حمل الأثقال على الظهور كما ان المألوف هو الكسب بالايدى . والمعنى انهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال انهم يحملون اوزار ما عملوا من السيئات { ألا سآء ما يزرون } اى بئس شيأ يزرون اى يحملون وزرهم قال السدى وغيره ان المؤمن اذا خرج من قبره استقبله احسن شئ صورة واطيبه ريحا فيقول هل تعرفنى فيقول لا فيقول انا عملك الصالح فاركبنى فقد طالما ركبتك فى الدنيا فذلك قوله تعالى { يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا } اى ركبانا . واما الكافر فيستقبله اقبح شئ صورة وانتنه ريحا فيقول هل تعرفنى فيقول لا فيقول انا عملك الخبيث طالما ركبتنى فى الدنيا وانا اليوم اركبك فهو معنى قوله تعالى(3/408)
{ وهم يحملون } الخ فيكون الحمل على حقيقته لان للاعمال صورا تظهر فى الآخرة وان كان نفسها اعراضا واعلم ان الاوزار كثيرة لكن ذنب الوجود فوق الكل اذ هو الباعث على سائر الاوزار وهو ثقل مانع عن السلوك فعلى السالك ان يتوب عن الكل ويفنى فى طريق الحق فناء كليا : قال الحافظ
فكر خوددو رأى خود در عالم رندى نيست ... كفرست درين مذهب خود بينى وخود رأيى
قال بعضهم لا يمكن الخروج من النفس بالنفس وانما يمكن الخروج من النفس بالله تعالى قال الشيخ ابو عبدالله محمد بن على الترمذى الحكيم قدس سره ذكر الله تعالى يرطب القلب ويلينه فاذا خلا عن الذكر اصابته حرارة النفس ونار الشهوات فقسا ويبس وامتنعت الاعضاء من الطاعة فاذا مددتتها انكسرت كالشجرة اذا يبست لا تصلح الا للقطع وتصير وقودا للنار اعاذنا الله منها فالذكر والتوحيد والاتباع الى اهله هو اصل الاصول حكى عن على بن الموفق انه قال حججت سنة من السنين فى محمل فرأيت رجالا فاحببت المشى معهم فنزلت واركبت واحدا فى المحمل ومشيت معهم فتقدمنا الى البرية وعدلنا عن الطريق فنمنا فرأيت فى منامى جوارى معهن طشوت من ذهب واباريق من فضة يغسلن ارجل المشاة فبقيت انا فقالت احداهن لصواحبها أليس هذا منهم قلن هذا له محمل فقالت بلى هو منهم لانه احب المشى معهم فغسلن رجلى فذهب عنى كل تعب كنت اجده هذه حال من مشى مع ولى باعتقاد صحيح فكيف مع نبى فلو ان كفار مكة ومشركى العرب استمعوا الى النبى عليه السلام واتبعوا الذكر الذى انزل اليه لنجوا واسقطوا كل حمل عن ظهورهم ومشوا الى جنة الفردوس لكن الله تعالى يهدى من يشاء(3/409)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{ وما الحياة الدنيا } على حذف المضاف اى ما اعمال الدنيا اى الاعمال المتعلقة بها من حيث هى هى { الا لعب ولهو } يلهى الناس ويشغلهم بمنفعته الزائلة عن الايمان والعمل الصالح المؤدى الى اللذة الدائمة واللعب عما يشغل النفس وينفرها عما تنتفع به واللهو صرفها عن الجد الى الهزل { وللدار الآخرة } التى هى محل الحياة الاخرى { خير للذين يتقون } الكفر والمعاصى لان منافعها خالصة عن المضار ولذاتها غير منغصة بالآلام مستمرة على الدوام { أفلا تعقلون } الفاء للعطف على مقدر اى أتغفلون فلا تعقلون اى الامرين خير . وسميت الدنيا بالدنيا لدنوها قبل الآخرة او لدناءتها . وسميت الآخرة بالآخر لتأخرها عن خلقها وانما جعل الله الآخرة غائبة عن الابصار لانها لو كانت حاضرة لما حجدوها ولارتفعت التكاليف والمحن فجعل ما على الارض زينة للابتلاء وحقيقة الدنيا ما يشغلك عن ربك قال اهل التحقيق السموات والارضون وما فيهما من عالم الكون والفساد يدخل فى حد الدنيا . واما العرش والكرسى وما يتعلق بهما من العمال الصالحة والارواح الطيبة والجنة وما فيها فمن حد الآخرة وفى الخبر القدسى لما خلق الله الدنيا خاطبها بقوله « يا دنيا اخدمى من خدمنى واتعبى من خدمك » ولهذا كانت الدنيا تحبيء لبعض اوليائه وتكنس داره فى صورة العجوز ولبعض اوليائه تحبيء كل يوم برغيف فان قلت ان الله تعالى خلق هذه الدنيا للمؤمن فلم امر بالزهد فيها قلت السكر اذا نثر على رأس الختن لا يلتقطه لعلو همته ولو التقطه لكان عيبا وفى الحديث « جوعوا انفسكم لوليمة الفردوس » والضيف اذا كان حكيما لا يشبع من الطعام رجاء الحلواء حكى ان قاضيا من اهل بغداد كان مارا بزقاق كلخان مع خدمه وحشمه كالوزير فطلع الكلخائى وهو يهودى فى صورة جهنمى كأن القطران يقطر من جوانبه فأخذ بلجام بغلة القاضى فقال ايد الله القاضى ما معنى قول نبيكم « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » أما ترى ان الدنيا جنة لك وانت مؤمن محمدى والدنيا سجن لى وانا كافر يهودى والحديث دلالته بالعكس فاجاب القاضى وكان من فضلاء الدنيا وما ترى من زينتها وحشمتها سجن لى بالنسبة الى ما وعد الله فى الجنة وجنة لك بالنسبة الى الدركات المعودة فى النيران قيل مثل الدنيا والآخرة مثل رجل له امرأتان ان ارضى احداهما اسخط الاخرى واحتضر عابد فقال ما تأسفى على دار الآخرة والغموم والخطايا والذنوب وانما تأسفى على ليلة نمتها ويوم افطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى
ته عمر خضر بماند نه ملك اسكندر ... نزاع برسر دنياى دون مكن درويش
فالدنيا لا تبقى والآخرة خير وابقى يحكى ان جعفر بن سليمان رحمه الله قال مررت انا ومالك ابن دنياز رضى الله عنه بالبصرة فبينما ندور فيها مررنا بقصر يعمر واذا بشاب حسن يأمر ببناء القصر ويقول افعلوا واصنعوا فدخلنا عليه وسلمنا فرد السلام قال مالك كم نويت ان تنفق على هذا القصر قاله مائة الف فدخلنا عليه وسلمنا فرد السلام قال مالك كم نويت ان تنفق على هذا القصر قال مائة الف درهم قال ألا تعطينى هذا المال فاضعه فى حقه واضمن لك على الله تعالى قصرا خيرا من هذا القصر بولدانه وخدمه وقبابه وخيمه من ياقوتة حمراء مرصع بالجوهر ترابه الزعفران ملاطه المسك لم تمسه يدان ولم يبينه بان قال له الجليل سبحانه كن فكان فاثر فى الشاب كلامه فاحضر البدر ودعا بدواة وقرطاس ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان بن فلان انى ضمنت لك على الله قصرا بدل قصرك صفته كما وصفت والزيادة على الله واشتريت لك بهذا المال قصرا فى الجنة افسح من قصرك فى ظل ظليل بقرب العزيز الجليل ثم طوى الكتاب ودفعه الى الشاب وانفق ما اخذه من المال على الفقراء وما اتى على الشاب اربعون ليلة حتى مات ووصى ان يجعل الكتاب بين كفنه وبدنه ووجد مالك ليلة وفاته كتابا موضوعا فى المحراب فاخذه ونشره فاذا هو مكتوب بلا مداد هذه براءة من الله العزيز الحكيم مالك بن دينار وفينا الشاب القصر الذى ضمنته له وزيادة سبعين ضعفا : وفى المثنوى(3/410)
هركه بايان بين ترا ومسعودتر ... جد ترا وكارد دكه افزون ديدبر
زانكه داند كين جهان كاشتن ... هست بهر محشر وبرداشتن
آخرت قطار اشتران بملك ... درتبع دنياش همجون بشم وبشك
بشك بكزينى شتر نبود ترا ... وربود اشترجه قيمت بشم را
يعنى ان اخترت الدنيا التى هى كصفوف الجمل وآثرتها على الآخرة التى هى كنفس الجمل تكون محروما من الاخرة كما ان من اختار الصوف يحرم من الجمل بخلاف من كان الجمل ملكا له فانه لا قيمة عنده لصوفه ولا زغبه وقال قدس سره فى محل آخر
باز كونه اى اسيران جهان ... نام خود كرديد اميران جهان
اى توبندة اين جهان محبوس جان ... جند كوبى خويش راخوا جهه جهان
تخته بندست آنكه تختش خوانده ... صدر بندارى وبر در مانده
بادشاهى نيستت برريش خود ... بادشاهى جون كنى برنيك وبد
بى مرادتو شود ريشت سبيد ... شرم در ازريش خود اى كزاميد
افتخار از رنك وبو واز مكان ... هست شادى وفريت كود كان
كون ميكويد بيامن خوش بى ام ... وان فسادش كفته رومن لا شى ام
اى زخوبى بهاران لب كزان ... بنكر آن سردى وزردئ خزان
روز ديدى طلعت خورشيد خوب ... مرك اورا يادكن وقت غروب
بدرراديدى برين خوش جار طاق ... حسرتش را هم بين وقت محاق
كودكى از حسن شد مولاى خلق ... بعد فردا شد خرف رسواى خلق
اى بديده لونها جرب وخيز ... فضله آنرا بين در آب ريز
مر خبث را كوكه آن خوبيت كو ... برطبق آن زوق وآن تغزى وبو
بس اتامل رشك استادان شده ... در صناعت عاقبت لزران شده
نركس جشم خمار همجو جان ... آخر اعمش بين وآب ازوى جكان
حيدرى كاندر صف شيران رود ... آخر او مغلوب موشى ميشود
زلف جعد مشكبار عقل بر ... آخر آن جون ذنب زشت خنك وخر
خوش ببين كونش زوال باكشاد ... وآخران رسوابيش بين وفساد(3/411)
والاشارة الحياة التى تكون بالتمتعات الدنيوية النفسانية كلعب الصبيان ولهو اهل العصيان تزيد فى الحجب والسير من البشرية الى الروحانية بترك الشهوات والاعراض عن غير الحق والاقبال على الله خير للذين يتقون عما سوى الله بالله أفلا تعقلون ان الله تعالى خلقكم لهذا الشأن لا لغيره كما قال { واصطنعتك لنفسى } اللهم احفظنا من تضييع العمر واهدنا الى حقيقة الامر انك انت الوهاب الهادى(3/412)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{ قد نعلم } قد هنا للتكثير والمراد بكثرة علمه تعالى كثرة تعلقه { انه } اى الشان { ليحزنك } يا محمد { الذى يقولون } فاعل يحزنك والعائد محذوف اى الذى يقوله كفار مكة وهو ما حكى عنهم من قولهم { ان هذا الا اساطير الاولين } ونحو ذلك { فانهم لا يكذبونك } الا لا تعتد بما يقولون وكله الى الله تعالى فانهم فى تكذيبهم آيات الله لا يكذبونك فى الحقيقة { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } اى ولكنهم يكذبون بآيات الله وينكرونها فما يفعلون فى حقك فهو راجع الىّ فى الحقيقة لانك فان عما سوى الله باق بالله وانا انتقم منهم لا محالة اشد انتقام والمراد بالظلم جحودهم والجحود عبارة عن الانكار مع العلم بخلافه والباء متعلقة بالفعل والتقديم للقصر يقال جحد حقه وبحقه اذا انكره(3/413)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{ ولقد كذبت رسل من قبلك } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فان البلية اذا عمت طابت اى وبالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل اولو شأن خطير وذوا عدد كثير او كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك { فصبروا على ما كذبوا واوذوا } اى على تكذيبهم وايذائهم { حتى اتيهم نصرنا } اى كان غاية صبرهم نصر الله تعالى اياهم فتأس بهم واصطبر على ما نالك من قومك والنصر الموعود للصابرين يحتمل ان يكون بطريق اظهار الحجج والبراهين ويحتمل ان يكون بطريق القهر والغلبة او باهلاك الاعداء : قال الحافظ
اى دل صبور باش ومخور غم كه عاقبت ... اين شام صبح كردد واين شب سحر شود
وقال ايضا
كرت جو نوح نبى صبر هست برغم طوفان ... بلا بكردد وكام هزار ساله بر آيد
{ ولا مبدل لكلمات الله } اى مواعيده بالنصرة والغلبة كما قال تعالى { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون } { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } اى من خبرهم ما يسكن به قلبك وهو نصره تعالى اياك وقال المولى ابو السعود والجار والمجرور فى محل الرفع على انه فاعل اما باعتبار مضمونه اى بعض نبأ المرسلين او بتقدير الموصوف اى بعض من نبأ المرسلين(3/414)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{ وان كان كبر عليك اعراضهم } اى عظم عليك وشق اعراضهم عن الايمان بما جئت به من القرآن وعدم عدهم له من قبيل الآيات واحببت ان تجيبهم الى ما سألوا اقتراحا لحرصك على اسلامهم { فان استطعت ان تبتغى نفقا } اى سربا ومنفذا { فى الارض } تنفذ فيه الى جوفها قال ابن الشيخ النفق سرب فى الارض له مخلص الى مكان آخر ومنه نافقاء اليربوع لان اليربوع يخرق الارض الى القعر ثم يصعد من ذلك الى وجه الارض من جانب آخر { أو سلما } مصعدا { فى السماء } تعرج به فيها { فتأتيهم } منها { بآية } مما اقترحوه والجواب محذوف اى فافعل وجملة الشرطية الثانية جواب للشرطية الاولى والمقصود بيان حرصه البالغ على اسلام قومه وانه لو قدر ان يأتيهم بآية من تحت الارض او من فوق السماء لاتى بها رجاء لايمانهم وايثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للايذان بان ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاذه { ولو شاء الله } هدايتهم { لجمعهم على الهدى } ولكن لم يشأ لعدم صرف اختيارهم الى جانب الهدى مع تمكنهم منه ومشاهدتهم للآيات الداعية اليه فلم يؤمنوا فلا تتهالك عليه { فلا تكونن من الجاهلين } بالحرص على ما لا يكون والجزع فى مواطن الصبر فان ذلك من دأب الجهلة بدقائق شؤونه تعالى التى من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بايمانهم . وفى الآية تربية وتأديب للنبى عليه السلام من الله تعالى كما قال عليه السلام « ان الله ادبنى فاحسن تأديبى » لئلا يبالغ فى الشفقة على غير اهلها(3/415)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
{ انما يستجيب } اي يقبل دعوتك الى الايمان { الذين يسمعون } ما يلقى اليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم : قال الحافظ
كوهر باك ببايدكه شود قابل فيض ... ورنه هرسنك وكلى لؤلؤ ومرجان نشود
{ والموتى } اى الكفار شبههم بهم فى عدم السماع { يبعثهم الله } من قبورهم { ثم اليه } تعالى لا الى غيره { يرجعون } اى يردون للجزاء فحينئذ يستجيبون واما قبل ذلك فلا سبيل اليه(3/416)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{ وقالوا } اى رؤساء قريش { لولا } تحضيضية بمعنى هلا { نزل عليه آية من ربه } كالناقة والعصا والمائدة من الخوارق الملجئة الى الايمان { قل } لهم { ان الله قادر على ان ينزل آية } كما اقترحوا { ولكن اكثرهم لا يعلمون } ان نزولها بلاء عليهم لوجوب هلاكهم ان جحدوها اعلم ان الناس فى الاديان على اربعة اقسام . سعيد بالنفس والروح فى لباس السعادة وهم الانبياء واهل الطاعة . والثانى شقى بالنفس فى لباس الشقاوة وهم الكفار والمصرون على الكبائر . والثالث شقى بالنفس فى لباس السعادة مثل بلعم بن باعورا وبر صيصا وابليس . والرابع سعيد بالنفس فى لباس الشقاوة كبلال وصهيب وسلمان فى اوائل امرهم ثم بدل لباسهم بلباس التقوى والهداية فان قلت ما الحكمة فى ان الله تعالى خلق الخلق سعيدا وشقيا وقال { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولو شاء لهداكم اجمعين } قلنا قال عبدالله بن عمر رضى الله عنهما ان الله تعالى علم فى الازل ان فلانا فى خلقه يعصى لعدم سبق استعداده للسعادة فجعله شقيا لسبق القضاء عليه بمقتضى استعداده فى الاعيان الثابتة ومظهرية استعداده لشؤون الجلال كأنه بلسان الاستعداد كونه شقيا يسأله من فى السموات والارض بلسان القال والحال والاستعداد كل يوم هو فى شأن يفيض ويعطى كل شئ ما يستعد من السعادة والشقاوة على حسب الاستعدادات فى الاعيان الثابتة الغيبية العلمية وعلم سبحانه وتعالى ان عبده يطيع فجعله سعيدا اى بمقتضى استعداده للسعادة الاجمالى والقابلية المودعة فى النشأة الانسانية بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } فتلك الاجابة منهم تدل على الاستعداد السعادى الازلى فلو لم يكن ذلك لما صح التكليف والخطاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب فاذا عرفت ان الانسان سعيد وشقى فاستعداد السعيد لا يعطى الا الاقوال المرضية والافعال الحسنة والاخلاق الحميدة التى تورث الانبساط واستعداد الشقى لا يعطى الا التى تورث الانقباض فلذا امر الله تعالى حبيبه بالصبر وتحمل الايذاء من اهل الشقاوة والقهر والجلال والابتلاء فى الدنيا سبب للغفران وتكميل الدرجات التى لا تنال فى الجنان الا على قدر البلاء وفى الخبر ( ان فى الجنة مقامات معلقة فى الهواء يأوى اليها اهل البلاء كالطير الى وكره ولا ينالها غيرهم ) وان الرجل يبتلى على حسب دينه فان كان فى دينه صلابة اشتد بلاؤه وان كان فى دينه رقة ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى وما عليه خطيئة والبلاء سوط الله على عباده كيلا يركنوا الى الدنيا ولا يشغلوا بها ويفروا الى الله من ضرب سوطه كما يفر الخيل الى مستقره والآخرة هى دار القرار
ما بلارا بكس عطا نكنيم ... تاكه نامش زاوليا نكنيم
وبالجملة فمن ابتلى بشئ من المصائب والبلايا فالعاقبة حميدة فى الصبر وبالصبر يكون من الامة المرحومة حقيقة ويدخل فى اثر النبى عليه السلام(3/417)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{ وما من دابة فى الارض } من زائدة لتأكيد الاستغراق وفى متعلقة بمحذوف هو وصف الدابة اى وما فرد من افراد الدواب يستقر فى قطر من اقطار الارض { ولا طائر } من الطيور فى ناحية من نواحى الجوّ { يطير بجناحيه } كما هو المشاهد المعتاد . فقيد الطيران بالجناح تأكيد كما يقال نظرت بعينى واخذت بيدى او هو قطع لمجاز السرعة لانه يقال طار فلان فى الارض اى اسرع { الا امم امثالكم } محفوظة احوالها مقدرة ارزاقها وآجالها { ما فرطنا فى الكتاب من شئ } يقال فرط فى الشئ ضيعه وتركه اى ما تركنا فى القرآن شيأ من الاشياء المهمة التى بينا انه تعالى مراع فيها لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغى بل قد بينا كل شئ اما مفصلا او مجملا اما المفصل فكقوله تعالى { ان النفس بالنفس والعين بالعين } واما المجمل فكقوله تعالى { ان النفس بالنفس والعين بالعين } واما المجمل فكقوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } روى ان الامام الشافعى كان جالسا فى المسجد الحرام فقال لا تسألونى عن شئ الا اجيبكم فيه من كتاب الله تعالى فقال رجل ما تقول فى المحرم اذا قتل الزنبور فقال لا شئ عليه فقال اين هذا فى كتاب الله فقال قال الله تعالى { وما آتالكم الرسول } الآية ثم ذكر اسنادا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال « للمحرم قتل الزنبور » { ثم الى ربهم } اى الامم { يحشرون } يوم القيامة الى ربهم لا الى غيره فيقضى بينهم(3/418)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
{ والذين كذبوا بآياتنا } اى القرآن { صم } لا يسمعونها سمع تدبر وفهم فلذلك يسمعونها اساطير الاولين ولا يعدونها من الآيات ويقترحون غيرها . وهو جمع اصم والمقصود تشبيه حالهم بحال الاصم لكن حذف حرف التشبيه للمبالغة { وبكم } لا يقدرون على ان ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك . وهو جمع ابكم { فى الظلمات } اى ظلمات الكفر خبر ثالث للمبتدأ { من يشأ الله } اضلاله اى ان يخلق فيه الضلال { يضلله } اى يخلقه فيه لكن لا ابتداء بطريق الجبر من غير ان يكون له دخل ما فى ذلك بل عند صرف اختياره الى كسبه وتحصيله { ومن يشأ } هدايته { يجعله على صراط مستقيم } لا يضل من ذهب اليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه
وفى الآيات امور الاول ان غير الانسان من الامم ايضا وفى الحديث « لولا ان الكلاب امة لامرت بقتلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم » وذلك لان الكلب الاسود شيطان لكونه اعقر الكلاب واخبثها واقلها نفعا واكثرها نعاسا ومن هذا . قال احمد بن حنبل لا يخل الصيد به والاشارة ان ما يدب فى ارض البشرية ويتحرك كالسمع والبصر واللسان والاعضاء كلها والنفس وصفاتها وكذا ما يطير بجانحى الشريعة والطريقة كالقلب والروح وصفاتها امم امثالكم فى السؤال عن افعالهم واحوالهم يدل عليه قوله تعالى { ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا } والثانى ان الحشر عام كما قال ابو هريرة رضى الله عنه يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شئ فيأخذ للجماء من القرناء كما فى الحديث « لتؤدن الحقوق الى اهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء » اى يقتص للشاة التى لا قرن لها من التى لها قرن قال ابن ملك وفيه دلالة على حشر الوحوش كما قال تعالى { واذا الوحوش حشرت } لكن القصاص فيها قصاص مقابلة لا قصاص تكليف انتهى . ثم يقال للبهائم والوحوش والطيور كونى ترابا فتكون ترابا مثل تراب ارض ذلك العالم وعند ذلك يتمنى الكافر ويقول { يا ليتنى كنت ترابا } قال الحدادى والمراد بهذا الافناء للبهائم بعد ان احياها انه افناء لا يكون فيه الم والثالث ان الذين ختم الله على قلوبهم فهم كالاصم والابكم الاصليين ومن خاصة الابكم ان يكون اصم : كما قال فى المثنوى
دائما هر كر اصلى كنك بود ... ناطق آنكس شدكه زماد رشود
جون سليمان سوى مرغان سبا ... يك صفيرى كردبست آن جمله را
جزمكر مرغى كه بدبى جان وبر ... يا جوما هى كنك بوداز اصل كر
تى غلظ كفتم كه كركر سرنهد ... بيش وحى كبريا سمعش دهد
فقلوب الخلق بيد الله تعالى يصرفها كيف يشاء روى ان كفار مكة اجتمعوا على قتل النبى عليه السلام فبينما هم كذلك اذ دخل عليهم ابليس فقال لماذا اجتمعتم فاخبروه بالقصة فقال لابى جهل يا ابا الحكم لو انك حملت صنمك وآلهك الذى تعبده ووضعته بين يدى محمد وسجدت له ربما يسمع محمد منه شيأ وكان صنمه مرصعا بالجوهر والياقوت فحمل ابو جهل صنمه ووضعه بين يدى النبى عليه السلام وسجد له .(3/419)
وقال الهى نعبدك ونتقرب اليك هذا محمد شتمنا بسببك ونطمع منك ان تنصرنا وتشتم محمدا فاخذه الصنم يتحرك ويتكلم ويشتم فدخل فى قلب النبى عليه السلام ورجع الى بيت خديجة فلم يلبث ان دق الباب فاذا شاب دخل وبيده سيف فلم وقال مرنى يا رسول الله حتى امتثل امرك فقال عليه السلام « من انت » قال انا من الجن قال « كم تبلغ قوتك » قال اقدر ان اقلع جبلى حراء وابى قبيس وارميهما فى البحر قال « من اين اقبلت الساعة » قال كنت فى جزيرة البحر السابع اذ اتانى جبرائيل فقال ادرك فلانا الشيطان دخل فى الصنم وشتم النبى عليه السلام فاقتله بهذا السيف فادركته فى الارض الرابعة فقتلته فقال له عليه السلام « ارجع فانى استعين بربى من عدوى » وقال الشاب لى اليك حاجه هى ان ترجع الى مكان كنت فيه امس فانهم يستخبرون ذلك الصنم ثانيا فرجع فى الغد ومعه ابو بكر الصديق فجاء ابو جهل مع صنمه ففعل كما فعل بالامس فاخذ الصنم يتحرك ويقول لا الله الا الله محمد رسول الله وانا صنم لا انفع ولا اضر ويل لمن عبدنى من دون الله فلما سمعوا ذلك قام ابو جهل وكسر صنمه وقال ان محمدا سحر الاصنام فظهر ان الله تعالى يقول الحق من ألسنة المظاهر ولكن لا يسمع المنافق والكافر(3/420)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
{ قل } يا محمد لاهل مكة { أرأيتكم } الكاف حرف خطاب اكدبه ضمير الفاعل المخاطب لتأكيد الاسناد لا محل له من الاعراب كالكاف فى اياك وذلك الكاف يدل على احوال المخاطب من الافراد والتذكير ونحوها فهو يطابق ما يراد به والتاء تبقى على حالة واحدة مفردة مفتوحة ابدا نحو ارأيتك ارأيتكما ارأيتكم ومبنى التركيب وان كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت او بصرية لكن المراد به الاستخبار عن متعلقها اى اخبرونى فجعل العلم او الابصار الذى هو سبب الاخبار مجازا عن الاخبار عن متعلقها اى اخبرونى فجعل العلم او الابصار الذى هو سبب الاخبار مجازا عن الاخبار وجعل الاستفهام الذى للتبكيت والالجاء الى الاقرار مجازا عن الامر بجامع الطلب { ان اتيكم عذاب الله } فى الدنيا كما اتى من قبلكم من الامم { او اتتكم الساعة } اى القيامة المشتملة على ذلك العذاب وهو العذاب الاخروى . والساعة اسم لوقت تقوم فيه القيامة سمى بها لانها ساعة خفيفة يحدث فيها امر عظيم { أغير الله تدعون } هذا مناط الاستخبار ومحط التبكيت { ان كنتم صادقين } جواب الشرط محذوف اى ان كنتم صادقين فى ان اصنامكم آلهى كما انها دعواكم المعروفة فاخبرونى بدعائهم غيره سبحانه(3/421)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{ بل اياه تدعون } عطف على جملة منفية كأنه قيل لا غيره تعال تدعون بل اياه تدعون { فكيف ما تدعون اليه } اى الى كشفه عطف على تدعون اى فيكشف اثر دعائكم { ان شاء } كشفه فقبول الدعاء تابع لمشيئته تعالى فقد يقبله كما فى بعض دعواهم المتعلقة بكشف العذاب الدنيوى وقد لا يقبله كما فى بعض آخر منها وفى جميع ما يتعلق بكشف العذاب الاخروى الذى من جملته الساعة فانه تعالى لا يغفر ان يشرك به فلا يشاء فى الآخرة { وتنسون ما تشركون } عطف على تدعون ايضا اى تتركون ما تشركون به تعالى من الاصنام تركا كليا لما ركز فى العقول انه القادر على كشف العذاب دون غيره فالنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة(3/422)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
{ ولقد ارسلنا } اى وبالله لقد ارسلنا رسلا { الى امم } كثيرة { من قبلك } اى كائنة من زمان قبل زمانك فمن لابتداء الغاية فى الزمان على مذهب الكوفية مثل نمت من اول الليل وصمت من اول الشهر الى آخره وقال المحشى سنان جلبى من زائدة على قول من جوز زيادتها فى الموجب واما عند غيره فهى بمعنى فى كما فى قوله تعالى { اذا نودى للصلاة من يوم الجمعة } { فاخذناهم } الفاء فصيحة تفصح ان الكلام مبنى على اعتبار الحذف اى فكذبوا رسلهم فأخذناهم { بالبأساء } اى بالشدة والفقر { والضراء } اى الضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما { لعلهم يتضرعون } اى لكى يدعوا الله فى كشفها بالتضرع والتذلل ويتوبوا اليه من كفرهم ومعاصيهم(3/423)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
{ فلولا } هلا { إذ جاءهم بأسنا } عذابنا { تضرعوا } اى لم يفعلوا ذلك مع قيام المقتضى له فلولا يفيد اللوم والتنديم وذلك عند قيام الداعى الى الفعل وانتفاء العذر فى تركه { ولكن قست قلوبهم } استدراك على المعنى اى لم يتضرعوا ولكن يبست وجفت قلوبهم ولو كان فى قلوبهم رقة وخوف لتضرعوا { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } اى حسن لهم الكفر والمعاصى بان اغواهم ودعاهم الى اللذة والراحة دون التفكر والتدبر ولم يخطر ببالهم ان ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم الا لاجله(3/424)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
{ فلما نسوا ما ذكروا به } عطف على مقدر اى فانهمكوا فيه ونسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فلما نسوه { فتحنا عليهم ابواب كل شئ } من فنون النعماء على منهاج الاستدراج { حتى } ابتدائية ومع ذلك غاية لقوله فتحنا { اذا فرحوا بما اوتوا } اى صاروا معجبين بحالهم . فالفرح فرح البطن كفرح قارون بما اصابه من الدنيا { اخذناهم } بالعذاب { بغتة } اى فجأة ليكون اشد عليهم وقعا وافظع هولا كما قال اهل المعانى انهم انما اخذوا فى حال الراحة والرخاء ليكون اشد تحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية { فإذا هم مبلسون } متحسرون غاية الحسرة آيسون من كل خير راجون فاذا للمفاجأة . والابلاس بمعنى اليأس من النجاة عند ورود المهلكة والمعنى الحسرة والحزن(3/425)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } اى آخرهم بحيث لم يبق منهم احد فالدابر يقال للتابع للشئ من خلفه كالولد للوالد يقال دبر فلان القوم يدبروا دبرا ودبورا اذا كان آخرهم قال البغوى معناه انهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية ووضع الظاهر موضع الضمير للاشعار بعلة الحكم فان هلاكهم بسبب ظلمهم الذى هو وضع الكفر موضع الشكر واقامة المعاصى مقام الطاعات { والحمد لله رب العالمين } على اهلاكهم فان هلاك الكفار والعصاة من حيث انه تخليص لاهل العرض من شؤم عقائدهم الفاسدة واعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق ان يحمد عليها لا سيما مع ما فيه من اعلاء كلمة الحق التى نطقت بها رسلهم عليهم السلام وفى الآيات امور . منها ان الله تعالى هو المرجع فى كل امر حال الاختيار والاضطرار والعاقل لا يلتجئ الى غيره تعالى لان ما سوى الله آلات واسباب والمؤثر فى الحقيقة هو الله تعالى فشأن المؤمن هو النظر الى بابه والاستمداد من جنابه حال السراء والضراء بخلاف الكافر فانه يفتح عينيه عند نزول الشدة والمقبول هو الرجوع اختيارا فان العبد المطيع لا يترك باب سيده على كل حال ، ومنها ان الله تعالى يقلب الانسان تارة من البأساء والضراء الى الراحة والرخاء وانواع الآلاء والنعماء واخرى يعكس الامر كما يفعله الاب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه اخرى طلبا لصلاحه والزاما للحجة ازاحة للعلة ففى هذه المعاملة تربية له وفائدة عظيمة فى دينه ودنياه ان تفطن : قال الصائب
نهاد سخت توسوهان بخرد نمى كيد ... وكرنه بست وبلند زمان سوهانست
ومنها ان الهلاك بقدر الاستدراج ونعوذ بالله تعالى من المكروه وفى الحديث « اذا رأيت الله تعالى يعطى عبدا فى الدنيا على معصية ما يحب فان ذلك منه استدراج » ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { فلما نسوا ما ذكروا به } الآية وفى التأويلات النجمية { فتحنا عليهم ابواب كل شئ } اى من البلاء فى صورة النعماء لا رباب الظاهر بالنعمة الباطنة من فتوحات الغيب واراءة الآيات وظواهر الكرامات ورؤية الانوار وكشف الاسرار والاشراف على الخواطر وصفاء الاوقات ومشاهدة الروحانية واشباهها مما يربى به اطفال الطريقة فان كثيرا من متوسطى هذه الطائفة تعتريهم الآفات فى اثناء السلوك عند سآمة النفس من المجاهدات وملالتها من كثيرة الرياضات فيوسوسهم الشيطان وتسول لهم انفسهم انهم قد بلغوا فى السلوك رتبة قد استغنوا بها عن صحبة الشيخ وتسليم تصرفاته فيخرجون من عنده ويشرعون فى الطلب على وفق انفسهم فيقعون فى ورطة الخذلان وسخرة الشيطان فيريهم الاشياء الخارقة للعادة وهم يحسبون انها من نتائج العبادة وكان بعضهم يسير فى البادية وقد اصابه العطش فانتهى الى بئر فارتفع الماء الى رأس البئر فرفع رأسه الى السماء وقال اعلم انك قادر ولكن لا اطيق هذا فلو قيضت لى بعض الاعراب يصفعنى صفعا ويسقينى شربة ماء كان خيرا لى ثم انى اعلم ان ذلك الرفق ليس من جهته وقال الشيخ ابو عبدالله القرشى قدس سره من لم يكن كارها لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصى فهى حجاب فى حقه وسترها عنه رحمة .(3/426)
ومنها ان العجب مذموم مهلك وفى الحديث « ثلاث مهلكات شح مطاع وهى متبع واعجاب المرء بنفسه »
مرد معجب زاهل دين نبود ... هيج خود بين خداى بين نبود
بيخبر ازجهان ومست يكيست ... خويشتن بين وبت برست يكيست
وعلاجه رؤية التوفيق من الله تعالى . ومنها ان النعمة لا بدل لها من الحمد والشكر وفى الخبر الصحيح « اول من يدعى الى الجنة الحامدون لله على كل حال » ولما حمد نوح عليه السلام بقوله { الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين } وجد السلامة حيث قال تعالى { يا نوح اهبط بسلام منا } فلا بد من الحمد على السلامة سواء كانت من جهة الدين او من جهة الدنيا اذ كل منهما نعمة ودخل رجل على سهل بن عبدالله فقال ان اللص دخل دارى واخذ متاعى فقال اشكر الله لو دخل اللص قلبك وهو الشيطان وافسد التوحيد ماذا كنت تصنع يقول الفقير جامع هذه المجالس الشريفة سئلت فى المنام عن معنى الحمد فقلت الحمد اظهار الكمال بتهيئة اسبابه فقال السائل وهو واحد من سادات المشايخ ما تهيئة الاسباب فقلت ان ترفع يديك الى السماء وتنظر الى جانب الملكوت وتظهر الخضوع والخشوع وان تثنى على الله تعالى ثناء حقا كما ينبغى ثم استيقظت فجاء التفسير بحمد الله تعالى مشيرا الى مراتب الشكر : كما قال بعضهم
الشكر قيد للنعم . مستلزم دفع النقم ... وهو على ثلاثة قلب يد فاعلم وفم
والحمد لله تعالى ولى الانعام على الاستمرار والدوام(3/427)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{ قل } يا محمد لاهل مكة { ارأيتم } اى اخبرونى ايها المشركون فان الرؤية بصرية كانت او علمية سبب الاخبار كما سبق { ان اخذ الله سمعكم } اى اصمكم { وابصاركم } اى اعماكم بالكلية { وختم على قلوبكم } بان غطى عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم بحيث تصيرون مجانين { من إله غير الله } من استفهامية مبتدأ وإله خبره وغير صفة له { يأتيكم به } اى بما اخذه منكم وهى صفة اخرى له والجملة متعلق الرؤية ومناط الاستخبار اى اخبرونى ان سلب الله عنكم اشراف اعضائكم من احد غير الله يأتيكم بها ومن المعلوم انه لا يقدر عليه الا الله سبحانه فهو المستحق للعبادة والتعظيم وهو احتجاج آخر على المشركين { انظر } يا محمد وتعجب { كيف نصرف الآيات } اى نكروها ونقررها مصروفة من اسلوب الى اسلوب تارة بترتيب المقدمات العقلية وتارة بطريق الترغيب والترهيب وتارة بالتنبية والتذكير باحوال المتقدمين قال الحدادى التصريف توجيه المعنى فى الجهات التى تظهرها اتم الاظهار { ثم هم يصدفون } اي يعرضون عنها فلا يؤمنون وثم لاستبعاد صدفهم اى اعراضهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديع الموجب للاقبال عليها(3/428)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{ قل ارأيتكم } اى اخبرونى ايها المشركون { ان آتيكم عذاب الله بغتة او جهرة } اى ليلا او نهارا لما ان الغالب فيما اتى ليلا البغتة اى الفجأة وفى ما اتى نهارا الجهرة وهو المناسب لما فى سورة الاعراف من قوله تعالى { أفأمن اهل القرى ان يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون او أمن اهل القرى ان يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } والقرآن يفسر بعضه بعضها وهو اللائح بالبال { هل يهلك إلا القوم الظالمون } الاستفهام بمعنى النفى ومتعلق الاستخبار محذوف اى اخبرونى ان اتاكم عذابه العاجل الخاص بكم بغتة او جهرة كما اتى من قبلكم من الامم ماذا يكون الحال ثم قيل بيانا لذلك { هل يهلك الا القوم الظالمون } اى ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم الا انتم ووضع المظهر موضع المضمر ايذانا بان مناط هلاكهم ظلمهم الذى هو وضعهم للكفر موضع الايمان المظهر موضع المضمر ايذانا بان مناط هلاكهم ظلمهم الذى هو وضعهم للكفر موضع الايمان(3/429)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } حالان مقدرتان من المرسلين اى ما نرسلهم الا مقدرا تبشيرهم وانذارهم ففيهما معنى العلة الغائية قطعا اى لم نرسلهم لان يقترح عليهم الآيات ويتلهى بهم بل لان يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعقاب على المعصية التبشير الاخبار بالخبر السار والانذار الاخبار بالخبر الضار { فمن آمن } بهم { واصلح } عمله او دخل فى الصلاح { فلا خوف عليهم } من العذاب الذى انذروه دنيويا كان او اخرويا { ولا هم يحزنون } بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل(3/430)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
{ والذين كذبوا بآياتنا } وهى ما ينطق به الرسل عليهم عند التبشير والانذار ويبلغونه الى الامم { يمسهم العذاب } الاليم واسند المس الى العذاب مع ان حقه ان يسند الى الاحياء لكونه من الافعال المسبوقة بالقصد والاختيار على طريق الاستعارة بالكناية فجعل كأنه حى يطلب ايلامهم والوصول اليهم { بما كانوا يفسقون } اى بسبب فسقهم المستمر الذى هو الاصرار على الخروج عن التصديق والطاعة وفى الآيات ترغيب وترهيب : وفى الكلمات القدسية « يا ابن آدم لا تأمن مكرى حتى تجوز على الصراط » روى ان الله تعالى قال يا ابراهيم ما هذا الوجل الشديد الذى اراه منك فقال يا رب كيف لا اوجل وآدم ابى كان محله القرب منك خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وامرت الملائكة بالسجود له فبمعصية واحدة اخرجته من جوارك فاوحى الله تعالى اليه يا ابراهيم اما عرفت ان معصية الحبيب على الحبيب شديدة « وعن مالك ابن دينار قال دخلت جبانة البصرة فاذا انا يسعدون المجنون فقلت كيف حالك وكيف انت قال يا مالك كيف يكون حال من امسى واصبح يريد سفرا بعيدا بلا اهبة ولا زاد ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد ثم بكى بكاء شديدا فقلت ما يبكيك فقال والله ما بكيت حرصا على الدنيا ولا جزعا من الموت والبلى لكن بكيت ليوم مضى من عمرى لم يحسن فيه عمل
كارى كنيم ورنه خجالت بر آورد ... روزى كه رخت جان بجهان دكر كشيم
ابكانى والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ولا ادرى بعد ذلك اصير الى الجنة ام الى النار فسمعت منه كلام حكمة فقلت ان الناس يزعمون انك مجنون فقال ما بى حنة ولكن حب مولاى خالط قلبى واحشائى وجرى بين لحمى ودمى وعظامى
درره منزل ليلى كه خطر هاست درو ... شرط اول قدم آنست كه مجنون باشى
كاروان رفت وتودر خواب وبيابان دربيش ... كى روى ره زكه برسى جه كنى جون باشى
وعلى تقدير الزلة فليبادر العاقل الى التوبة والاستغفار حتى يتخلص من عذاب الملك القهار كما قال تعالى { فمن آمن واصلح فلا } الخ روى ان الملائكة تعرج الى السماء بسيئات العبد فاذا عرضوها على اللوح المحفوظ يجدون مكانها حسنات فيخرون على وجوههم ويقولون ربنا انك تعلم اننا ما كتبنا عليه الا ما عمل فيقول الله تعالى صدقتم ولكن عبدى ندم على خيطئته واستشفع الىّ بدمعته فغفرت ذنبه وجدت عليه بالكرم وانا اكرم الاكرمين فالايمان واصلاح العمل والندم على الزلل سبب النجاة فى الدنيا والآخرة قال بعض الكبار ان الايمان والاسلام يمكن ان يكونا شيأ واحدا فى الحقيقة ولكن خص كل منهما بنوع مجازا عرفيا فكل ما كان فيه التصديق القلبى اطلق عليه الايمان لوجود اصل معناه فيه كما لا يخفى(3/431)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
{ قل } يا محمد للكفرة الذين يقترحون عليك تارة تنزيل الآيات واخرى غير ذلك { لا اقول لكم عندى خزائن الله } اى لا ادعى ان خزائن مقدوراته تعالى مفوضة الىّ اتصرف فيها كيف اشاء استقلالا واستدعاء حتى تقترحوا علىّ تنزيل الآيات او انزال العذاب او قلب الجبال ذهبا او غير ذلك مما لا يليق بشأنى فالخزائن جمع خزينة بمعنى مخزونة قال الحدادى وليس خزائن الله مثل خزائن العباد وانما خزائن الله تعالى خزائن مقدوراته التى لا توجد الا بتكوينه اياها ويجوز ان يكون جمع خزانة وهى اسم للمكان الذى يخزن فيه الشئ وخزن الشئ احرازه بحيث لا تناله الايدى وكانوا يقولون ان كنت رسولا من عند الله تعالى فوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها فالمعنى لا ادعى ان مفاتيح الرزق بيدى فاقبض وابسط { ولا اعلم الغيب } عطف على محل عندى خزائن الله ولا مزيده مذكرة للنفى اى ولا ادعى ايضا انى اعلم الغيب من افعاله تعالى حتى تسألونى عن وقت الساعة او وقت نزول العذاب او نحوهما { ولا اقول لكم انى ملك } من الملائكة حتى تكلفونى من الافاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيق به البشر من الرقى الى السماء ونحوه او تعدوا عدم اتصافى بصفاتهم قادحا فى امرى كما ينبئ عنه قولهم { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق } والمعنى انى لا ادعى شيأ من هذه الاشياء الثلاثة حتى تقترحوا علىّ ما هو من آثارها واحكامها وتجعلوا عدم اجابتى الى ذلك دليلا على عدم صحة ما ادعيه من الرسالة التى لا تعلق لها بشئ مما ذكر قطعا بل انما هى عبارة عن تلقى الوحى من جهته عز وجل والعمل بمقتضاه فحسب حسبما ينبئ عنه قوله تعالى { ان اتبع الا ما يوحى الىّ } الى ما افعل الا اتباع ما يوحى الىّ من غير ان يكون لى مدخل ما فى الوحى او فى الموحى بطريق الاستدعاء او بوجه آخر من الوجوه اصلا والوحى ثلاثة . ما ثبت بلسان الملك والقرآن من هذا القبيل . وما تبت باشارة الملك من غير ان بينه بالكلام واليه الاشارة بقوله عليه السلام « ان روح القدس نفث فى روعى ان نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها » والثالث ما تبدى لقلبه اى ظهر لقلبه بلا شبهة الهاما من الله تعالى بان اراه الله بنور من عنده كما قال { لتحكم بين الناس بما اراك الله } وابى الاشعرية واكثر المتكلمين ان يحكم عليه السلام بالاجتهاد كما تدل عليه الآية اذ ثبت بها انه لا يتبع الا الوحى والجواب انه جعل اجتهاده عليه السلام وحيا باعتبار المآل فان تقريره عليه السلام على اجتهاده يدل على انه هو الحق كما اذا ثبت بالوحى ابتداء { قل هل يستوى الاعمى والبصير } مثل للضال والمهتدى فانه عليه السلام لما وصف نفسه بكونه متبعا للوحى الالهى لزم منه ان يصف نفسه بالاهتداء ويصف من عانده واستبعد دعواه بالضلال فالعمل بغير الوحى يجرى مجرى عمل الاعمى والعمل بمقتضى الوحى يجرى مجرى عمل البصير { أفلا تتفكرون } اى ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه فتهتدوا باتباع الوحى والعمل بمقتضاه فمناط التوبيخ عدم الامرين معا اى الاستماع والتفكر(3/432)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{ وانذر به } اى خوف من العذاب بما يوحى { الذين يخافون ان يحشروا الى ربهم } اى يبعثو ويجمعوا الى ربهم اى الى موضع لا يملك احد فيه نفعهم ولا ضرهم الا الله تعالى . وقيل يخافون يعلمون لان خوفهم انما كان من علمهم { ليس لهم من دونه ولى } قريب ينفعهم { ولا شفيع } يشفع لهم وجملة النفى اى ليس فى موضع الحال من ضمير يحشرون فان المخوف هو الحشر على هذه الحال . وقوله من دونه حال من اسم ليس اى متجاوزا لله تعالى والمراد بالموصول المؤمنون العاصون كما فى اكثر التفاسير وانما نفى الشفاعة لغيره مع ان الانبياء والاولياء يشفعون كما هو مذهب اهل السنة لانهم لا يشفعون الا باذنه فكانت الشفاعة فى الحقيقة من الله تعالى وقال المولى ابو السعود رحمه الله المراد بالموصول المجوزون من الكفار للحشر سواء كانوا جارمين باصله كاهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين فى شفاعة آبائهم الانبياء كالاولين او فى شفاعة الاصنام كالآخرين او مترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم انهم اذا سمعوا بحديث البعث يخافون ان يكون حقا واما المنكرون للحشر رأسا والقائلون به القاطعون بشفاعة آباهم او بشفاعة الاصنام فهم خارجون ممن امر بانذارهم انتهى فالكلام على هذا ظاهر لان الظالمين ليس لهم من حميم ولا شفيع يطاع { لعلهم يتقون } تعليل للامر اى انذرهم لكى يتقوا الله باقلاعهم عما هم فيه وعمل الطاعات او يتقوا الكفر والمعاصى والاشارة ان الله تعالى امر نبيه عليه السلام ان يكلم الكفار على قدر عقولهم فقال { قل لا اقول لكم عندى خزائن الله } على انها عندى ولكن لا اقول لكم وهى علم حقائق الاشياء وما هياتها وقد كان عنده فى اراءة سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم وفى اجابة قوله عليه السلام « ارنا الاشياء كما هى » فى قوله « اوتيت جوامع الكلم » وما امره الله تعالى ان ان قل ليس عندى خزائن الله قال حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر « ولا تبذر الاسرار » يعنى بيان الحقائق الذى هو غذاء القلب والروح كالسمراء يعنى الحنطة للجسم « فى ارض عميان » يعنى فى ارض استعداد هؤلاء الطوائف الذين لا يبصرون الحق ولا يشاهدونه فى جميع الاشياء كما فى شرح الفصوص للمولى الجامى قدس سره : قال السعدى قدس سره
دريغست باسفله كفت از علوم ... كه ضايع شود تخم درشوره بوم
ولا اعلم الغيب فانه صلى الله عليه وسلم كان يخبر عما مضى وعما سيكون باعلام الحق وقد قال عليه السلام ليلة المعراج « قطرت فى حلقى قطرة علمت ما كان وما سيكون »(3/433)
فمن قال ان نبى الله لا يعلم الغيب فقد اخطأ فيما اصاب ولا اقول لكم انى ملك وان كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبرائيل تقدم فقال لو دنوب انملة لاحرقت : كما قال السعدى قدس سره
شبى برنشست ازفلك بركذشت ... بتمكين وجاه ازملك دركذشت
جنان كرم درتيه قربت براند ... كه درسدره جبريل ازو بازماند
ان اتبع الا ما يوحى الى يعنى لا اخبركم عن مقاماتى واحوالى مما لى مع الله وقد لا يسعنى فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل الا عما يوحى الى ان اخبركم وكيف اخبركم عما اعمى الله بصائركم عنه وانابه بصير فلا يستوى الاعمى والبصير ثم قال وانذر به يعنى اخبر بهذه الحقائق والمعانى الذين يخافون اى يرجون ان يحشروا الى ربهم بجذبات العناية ويتحقق لهم ليس لهم فى الوصول الى الله من دونه ولى يعنى من الاولياء ولا شفيع يعنى من الانبياء لان الوصول لا يمكن الا بجذبات الحق لعلهم يتفون عما سوى الله بالله فى طلب الوصول قال السرى السقطى قدس سره خرجت يوما الى المقابر فاذا ببهلول فقلت له اى شئ تصنع هنا قال اجالس قوما لا يؤذوننى وان غبت لا يغتابوننى فقلت له تكون جائعا فولى وانشأ يقول
ن الجوع من عمل التقى ... وان طويل الجوع يوما سيشبع
الصالحين وما زينهم الله به دون غيرهم مثل جند قال لهم الملك تزينوا للعرض على غدا فمن كانت زينته احسن كانت منزلته عندى ارفع ثم يرسل الملك فى السر بزينة عنده ليس عند الجند مثلها الى خواص مملكته واهل محبته فاذا تزينوا بزينة الملك فخروا سائر الجند عند العرض على الملك فهذا مثل من وفقهم الله تعالى للاعمال الصالحة والاحوال الزكية ولا حاجة لهم ان يصفوا ما عندهم الى عامة الناس فان علمهم بذلك كاف وسيظهر يوم العرض الاكبر وعند الكثيب الاحمر
دام كرام وسادة ... ونحن عبيد السوء بئس عبيد(3/434)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى } روى ان رؤساء قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوا فى مجلسه الشريف فقراء المؤمنين مثل صهيب وعمار وخباب وبلال وسلمان وغيرهم لو طردت هؤلاء الا عبد وارواح جبابهم وكان عليهم جباب صوف لا غير لجالسناك وحادثناك فقال عليه السلام « ما انا بطارد المؤمنين » فقالوا فاذا نحن جئناك فاقمهم عنا حتى يعرف العرب فضلنا فان وفود العرب تأتيك فنستحى ان ترانا مع هؤلاء فاذا قمنا عن مجلسك فاقعدهم معك ان شئت فهم عليه السلام ان يفعل ذلك طمعا فى ايمانهم فانزل الله تعالى هذه الآية يعلمه انه لا يحب ان تفضل غنيا على فقير ولا شريفا على وضيع لان طريقه فيما ارسل به الدين دون احوال الدنيا . والطرد الابعاد وبالفارسية [ مزان ازمجلس خودآن درويشانراكه ميخوانند بروردكار خودرا وذكراو ميكنند بامداد وشبانكاه ] والمراد بذكر الوقتين الدوام ومن دام ذكره دام جلوسه مع الله كما قال « انا جليس من ذكرنى » { يريدون } بذكرهم وعبادتهم { وجهه } تعالى ورضاه لا شيأ من اغراض الدنيا . حال من ضمير يدعون اى يدعونه تعالى مخلصين له وقيد الدعاء بالاخلاص تنبيها على انه ملاك الامر
عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغربوست
واشعارا بانه من اقوى موجبات الاكرام المنافى للابعاد { ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ } لما لم يقتصر المشركون فى طعن فقراء المسلمين على وصفهم بكونهم موالى ومساكين بل طعنوا فى ايمانهم ايضا حيث قالوا يا محمد انهم انما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لانهم يجدون عندك مأكولا وملبوسا بهذا السبب والا فهم عارون عن دينك والايمان بك دفع الله تعالى ما عسى يتوهم كونه مسوغا لطردهم من اقاويلهم فقال { ما عليك } اى ليس عليك الا اعتبار ظاهر حالهم وهو اتسامهم بسمة المتقين وان كان لهم باطن غير مرضى كما يقوله المشركون فمضرة حساب ايمانهم لا ترجع الا اليهم لا اليك لان المضرة المرتبة على حساب كل نفس عائدة اليها لا الى غيرها فالمقصود منه دفع طعن الكفار وتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على تريبة الفقراء وادنائهم . وضمير حسابهم . وعليهم للذين يدعون ربهم وكلمة من فى قوله من شئ زائدة وهو فاعل عليك وعليهم لاعتمادها على النفى ومن حسابهم ومن حسابك صفة لشئ ثم قدمت فصارت حالا قال المولى ابو السعود وذكر قوله تعالى { وما من حسابك عليهم من شئ } مع ان الجواب قد تم بما قبله للمبالغة فى بيان انتفاء كون حسابهم عليه عليه السلام بنظمه فى سلك ما لا شبهة فيه اصلا وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام عليهم على طريقة قوله تعالى { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } { فتطردهم } جواب النفى نحو ما تأتينا فتحدثنا بنصب فتحدث على ان يكون المعنى انتفاء التحديث لانتفاء سببه الذى هو الاتيان والآية الكريمة من هذا القبيل فانه لو كانت مضرة حسابهم مستقرة على المخاطب لكان ذلك سببا لابعاد من يتوهم الوهن فى ايمانه فحكم بان هذا السبب غير واقع حتى يقع مسببه الذى هو الطرد { فتكون من الظالمين } جواب النهى وهو { ولا تطرد الذين } الآية(3/435)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{ وكذلك فتنا } ذلك اشارة الى مصدر ما بعده من الفعل الذى هو عبارة عن تقديمه تعالى لفقراء المؤمنين فى امر الدين بتوفيقهم للايمان مع ما هم عليه فى امر الدنيا من كمال سوء الحال والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الاشارة من الفخامة والمعنى ذلك الفتون الكامل البديع فتنا اى ابتلينا { بعضهم ببعض } اى بعض الناس ببعضهم لافتون غيره حيث قدمنا الآخرين فى امر الدنيا على الاولين المتقدمين عليه فى امر الدنيا تقدما كليا { ليقولوا } اللام للعاقبة اى ليكون عاقبة امرهم ان يقول البعض الاولون مشيرين الى الآخرين محقرين لهم نظرا الى ما بينهما من التفاوت الفاحش الدنيوى وتعاميا عما هو مناط التفضل حقيقة { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } بان وفقهم لاصابة الحق ولما يسعدهم عنده تعالى من دوننا ونحن المتقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك انكار وقوع المن رأسا على طريقة قولهم لو كان خيرا ما سبقونا اليه لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه تعالى قال الكلبى ان الشريف اذا نظر الى الوضيع قد اسلم قبله استنكف وانف ان يسلم وقال قد سبقنى هذا بالاسلام فلا يسلم { أليس الله باعلم الشاكرين } رد لقولهم ذلك وابطال له اى أليس الله باعلم بالشاكرين لنعمه حتى تستبعدوا انعامه عليهم . وفيه اشارة الى ان اولئك الضعفاء عارفون لحق نعمة الله تعالى فى تنزيل القرآن والتوفيق للايمان شاكرون له تعالى على ذلك وتعريض بان القائلين بمعزل من ذلك كله
قال فى التأويلات النجمية { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } يعنى الفاضل بالمفضول والمفضول بالفاضل فليشكر الفاضل وليصبر المفضول فان لم يشكر الفاضل فقد تعرض لزوال الفضل وان صبر المفضول فقد سعى فى نيل الفضل والمفضول الصابر يستوى مع الفاضل الشاكر كما كان سليمان فى الشكر مع ايوب فى الصبر فان سليمان مع كثرة صورة اعماله فى العبودية كان هو وايوب مع عجوه عن صورة اعمال العبودية متساويين فى مقام نعم العبدية فقال لكل واحد منهما { نعم العبد } ففتنة الفاضل للمفضول حسده على فضله وسخطه عليه فى منع حقه من فضله عنه فانه انقطع بالخلق او رأى المنع والعطاء من الخلق وهو المعطى والمانع لا غير فعلى العاقل ان يخار ما اختاره الله ولا يريد الا ما يريده قال الكاشفى فى تفسيره الفارسى [ در كشف الاسرار آورده كه ارادت برسه وجه است . اول ارادت دنياى محض كما قال تعالى { تريدون عرض الدنيا } ونشان آن دو جيزاست در زيادتئ دنيا بنقصان دين راضى بودن واز درويشان ومسلمانان اعراض نمودن . ودوم ارادت آخرة محض كما قال تعالى { ومن اراد الآخرة وسعى لها سعيها }(3/436)
وآنيزدو علامت دارد در سلامتئ دين بنقصان دنيا رضا دادن ودر مؤانست والفت بروى درويشان كشادن . سوم ارادت حق محض كما قال تعالى { يريدون وجهه } ونشان آن باى برسر كونين نهادن ىست واز خود وخلق آزاد كشتن ]
مارا خواهى خطى بعالم دركش ... در بحر فنا غرقه شو ودم دركش
فهم يريدون وجهه تعالى فكل يريدون منه وهم يريدونه ولا يريدون منه كما قيل
وكل له سؤال ودين ومذهب ... ووصلكمو سؤلى ودينى رضا كمو
وتكلم الناس فى الارادة فاكثروا وتحقيقها اهتياج يحصل فى القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل الى الله تعالى فصاحب الارادة لا يهدأ ليلا ولا نهارا ولا يجد من دون وصوله اليه سكوتا ولا قرارا كما فى التأويلات النجمية وفى الآية الكريمة بيان فضل الفقراء وعن ابى سعيد الخدرى قال جلست فى نفر من ضعفاء المهاجرين وكان بعضهم يستتر ببعض من العرى وقارئ يقرأ علينا اذ جاء رسول الله صلى الله لعيه وسلم فقام علينا فلما قام سكت القارئ فسلم رسول الله وقال « ما كنتم تصنعون » قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا وكنا نستمع الى كتاب الله تعالى فقال رسول الله « الحمد لله الذى جعل من امتى من امرنى ان اصبر نفسى معهم » قال ثم جلس وسطنا ليعدل نفسها فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال فما رأيت رسول الله عرف منهم احدا غيرى فقال « ابشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الاغنياء بنصف يوم » وذلك مقدار خمسمائة سنة وفى الحديث « يؤتى بالعبد الفقير يوم القيامة فيعتذر الله عز وجل اليه كما يعتذر الرجل الى الرجل فى الدنيا فيقول وعزتى وجلالى ما زويت الدنيا عنك لهوانك علىّ ولكن لما اعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدى الى هذه الصفوف وانظر الى من اطعمك او كساك واراد بذلك وجهى فخذ بيده فهو لك والناس يومئذ قد الجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل به ذلك فى الدنيا فيأخذه بيده ويدخل الجنة » قال الحافظ
توانكرا دل درويش خود بدست آور ... كه مخزن زر وكنج ودرم نخواهدماند
برين رواق زبرجد نوشته اند بزر ... كه جزنكرى اهل كرم نخواهدماند
وفى الحديث « لكل شئ مفتاح ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء » الصبرهم جلساء الله يوم القيامة : قال الشيخ العطار قدس سره
حب دريشان كليد جنت است ... دشمن ايشان سزاى لعنت است
اللهم اجعلنا من الاحباب ولا تطردنا خارج الباب(3/437)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{ واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } روى ان قوما جاؤا الى النبى عليه السلام فقالوا انا اصبنا ذنوبا عظاما فما تدارك الاستغفار وتدبير الاعتذار فسكت عنهم ولم يرد عليهم شيأ فانصرفوا مأيوسين فنزلت قال الامام كل من آمن بالله دخل هذا التشريف { فقل سلام عليكم } من كل مكروه وآفة والسلام بمعنى التسليم اى الدعاء بالسلامة فمعنى سلام عليكم سلمنا عليكم سلاما اى دعوت بان يسلمكم الله من الآفات فى دينكم ونفسكم وانما امره بان يبدأهم بالسلام مع ان العادة ان الجائى يسلم على القاعد حتى ينبسط اليهم بالسلام عليهم لئلا يحتشموا من الانبساط اليه هذا هو اللام فى الدنيا واما فى الآخرة فتسلم عليهم الملائكة عند دخول الجنة كقوله { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } والله يبتدئ بالسلام عليهم بقوله { سلام قولا من رب رحيم } وقوله { فقل سلام عليكم } يشير الى السلام الذى سلمه الله على حبيبه عليه السلام ليلة المعراج اذا قال له ( السلام عليك ايها النبى ورحمة الله وبركاته ) فقال فى قبول السلام ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) والذى تاب من بعد ظلمه منتظم فى سلك اهل الصلاح فمورد الآية لا ينافى هذا المعنى { كتب ربكم على نفسه الرحمة } اى قضاها واوجبها على ذاته المقدسة بطريق التفضل والاحسان قال ابن الشيخ كلمة على تفيد الايجاب واذا اجتمعنا تأكد الايجاب وهو لا ينافى كونه تعالى فاعلا مختارا بل هو عبارة عن تأكيد وبيان لفضله وكرمه اه
قال فى التأويلات النجمية قال فى حديث ربانى للجنة « انما انت رحمتى ارحم بك من اشاء من عبادى » فيرحم بجنته من شاء من عباده ويرحم بذاته من شاء من عباده { انه من عمل منكم سوأ } بدل من الرحمة والتقدير كتب على نفسه انه من عمل الخ فان مضمون هذه الجملة لا شك انه رحمة والسوء بالفارسية [ كاربد ] { بجهالة } حال من فاعل عمل اى عمله ملتبسا بجهالة حقيقة بان يفعله وهو لا يعلم ما يترتب عليه من المضرة والعقوبة او حكما بان يفعله عالما بسوء عاقبته فان من عمل ما يؤدى الى الضرر فى العاقبة وهو عالم بذلك او ظان فهو فى حكم الجاهل فهو حال مؤكدة لانها مقررة لمضمون قوله { من عمل سوأ } لان عمل السوء لا ينفك عن الجهالة حقيقة او حكما قال اهل الاشارة يشير بقوله { منكم } الى ان عامل السوء صنفان . صنف منكم ايها المؤمنون المهتدون . وصنف من غيركم وهم الكفار الضالون . والجهالة جهالتان جهالة الضلالة وهى نتيجة اخطاء النور المرشش فى عالم الارواح وجهالة الجهولية وهى التى جبل الانسان عليها فمن عمل من الكفار سوأ بجهالة الضلالة فلا توبة له بخلاف من عمل سوأ من المؤمنين بجهالة الجهولية المركوزة فيه فان له توبة كما قال تعالى { ثم تاب } اى رجع عنه { من بعده } اى من بعد عمله { واصلح } اى ما افسده والاصلاح هو ان لا يعود ولا يفسد { فانه } خبر مبتدأ محذوف اى فامره ان الله تعالى { غفور } له { رحيم } به قال الكاشفى فى تفسيره الفارسى [ امام قشيرى رحمة الله فرموده كه ملك برتوذلت مى نويسد ملك براى تو رحمت مى نويسد بس ترادو كتابت است يكى ازلى ويكى وقى مقررست كه كتابت وقتى كتابت ازلى را باطل نمى تواند ساخت مضمون اين آيت شريف شفاست بيماران بيمارستان كناه را وشفا بشرط برهنرست : يعنى توبه واستغفار ](3/438)
دردمندان كنه را روزوشب ... شربتى بهتر زاستغفار نيست
آرزو مندان وصال ياررا ... جاره غير ازنالها وزارنيست(3/439)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
{ وكذلك نفصل الآيات } الكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الاشارة من الفخامة وذلك اشارة الى مصدر الفعل الذى بعده اى هذا التفصيل البديع نفصل الآيات القرآنية ونبينها فى صفة اهل الطاعة واهل الاجرام المصرين منهم والاوابين ليظهر الحق ويعمل به { ولتستبين سبيل المجرمين } اى تظهر طريقتهم فيجتنب عنها . ورفع سبيل على انه فاعل فانه يذكر فى لغة بنى تميم ويؤنث فى لغة اهل الحجاز ووجه الاستبانة والايضاح ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة فعلى العاقل ان يسلك طريق الفوز والفلاح ويصل الى ما وصل اليه اهل الصلاح . واول الطريق هو التوبة والاستغفار قال العلماء تذكر اولا قبح الذنوب وشدة عقوبة الله ثم تذكر ضعفك وقلة حيلتك فى ذلك فمن لا يتحمل قرص نملة وحر شمس كيف يتحمل نار جهنم ولسع حيات فينبغى ان تجتهد فى الخروج من الذنوب على اقسامها التى بينك وبين عباد الله بالاستحلال ورد المظالم . واما التى هى من ترك الواجبات من صلاة وصيام وزكاة فتقضى ما امكن منها . واما التى بينك وبين الله كشرب الخمر وضرب المزامير واكل الربا فتقدم على ما مضى منها وتوطن قلبك على ترك العود الى مثلها ابدا فاذا ارضيت الخصوم بما امكن وقضيت الفوائت بما تقدر عليه وبرأت قلبك من الذنوب فينبغى ان ترجع اليه بحسن الابتهال والضراعة ليكفيك ذلك بفضله فتذهب فتغتسل وتغسل ثيابك فتصلى ركعتين كما فى الحديث الصحيح « ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر الله الا غفر له » وفى حديث آخر « ايما عبد او امة ترك صلاته فى جهالته فتاب وندم على تركها فليصل يوم الجمعة بين الظهر والعصر اثنتى عشرة ركعة يقرأ فى كل منها الفاتحة وآية الكرسى والاخلاص والمعوذتين مرة لا يحاسبه الله تعالى يوم القيامة ووجد صحيفة سيآته حسنات » ذكره فى مختصر الاحياء يقول الفقير جامع هذه الفوائد ان هذا الحديث على تقدير صحته لا ينفهم منه ان هذه الصلاة تكون قضاء لجميع ما فات منه وتقوم بدله كيف وقد ذكر فى اوله التوبة والندامة ومن مقتضاها قضاء ما سلف كما مر آنفا فمعنى ان الله تعالى لا يحاسبه يوم القيامة لا يقول له لم اخرت الصلاة التى فرضت عليك عن اوقاتها وذلك ببركة هذه الصلاة الشريفة التى هى تأكيد لتوبته وزيادة فى اعتذاره وقد عرف فى الشرع ا ن العبد كما يحاسب على ترك الصلوات كذلك يحاسب على تأخيرها عن اوقاتها وبهذا البيان انحل ما اشكل على بعض من مواظبة الناس على قضاء صلوات يوم وليلة فى آخر جمعة من شهر رمضان بين الظهر والعصر فان ما يصلونه هى الصلاة المذكورة عند الحقيقة لكنهم يغلطون فى زعمهم وفى الكيفية والله اعلم وفى كتاب الترغيب والترهيب انه جاء رجل الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال واذنوباه واذنوباه مرتين او ثلاثا فقال له عليه السلام(3/440)
« قل اللهم مغفرتك اوسع من ذنوبى ورحمتك ارجى عندى من عملى » فقالها ثم قال « عد » فعاد ثم قال « عد » فعاد ثم قال « قم فقد غفر الله لك » ومن استغفر للمؤمنين كل يوم كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة وما الميت فى قبره الا كالغريق المنتظر ينتظر دعوة تلحقه من اب او ام او اخ صديق فاذا الحقته كانت احب اليه من الدنيا وما فيها وان الله تعالى ليدخل على اهل القبور من دعاء اهل الارض امثال الجبال وان هدية الاحياء الى الاموات الاستغفار لهم ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب فانك مرجع كل تواب واواب(3/441)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
{ قل انى نهيت } كان كفار قريش يدعونه عليه السلام الى دين آبائه فنزلت اى صرفت وزجرت بما نصب لى من الادلة وانزل علىّ من الآيات فى امر التوحيد { ان اعبد الذين تدعون } اى عن عبادة ما تعبدونه { من دون الله } كائنا ما كان { قل لا اتبع اهواءكم } اشارة الى الموجب للنهى كأنهم قالوا لم نهيت عما نحن فيه ولم تمتنع عن متابعتنا اجاب بان ما انتم عليه هوى وليس بهدى فكيف اتبع الهوى واترك الهدى { قد ضللت اذا } اى ان اتبعت اهوآءكم فقد ضللت اى تركت سبيل الحق { وما انا من المهتدين } من الذين سلكوا طريق الهدى عطف على ما قبله(3/442)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{ قل انى على بينة } كائنة { من ربى } والبينة الحجة الواضحة التى تفصل بين الحق والباطل يقال انا على بينة من هذا الامر وانا على يقين منه اذا كان ثابتا عندك بحجة واضحة وشاهد صدق والمراد بها القرآن والوحى { وكذبتم به } جملة مستأنفة سيقت للاخبار بذلك والضمير المجرور للتنبيه والتذكير باعبتار البيان والبرهان والمعنى انى على بينة عظيمة كائنة من ربى وكذبتم بها وبما فيها من الاخبار التى من جملتها الوعيد بمجيء العذاب { ما عندى ما تستعجلون به } روى ان رؤساء قريش كانوا يستعجلون العذاب بقولهم { متى هذا الوعد ان كنتم صادقين } بطريق الاستهزاء او بطريق الالزام حتى قام النضر بن الحارث فى الحظيم وقال { اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب أليم } والمعنى ليس ما تستعجلون به من العذاب الموعود فى القرآن وتجعلون تأخره ذريعة لتكذيبى فى حكمى وقدرتى حتى اجيئ به واظهر لكم صدقه اى ليس امره بمفوض الى { ان الحكم } اى ما الحكم فى ذلك وغيره تعجيلا وتأخيرا { الا لله } وحده من غير ان يكون لى دخل ما فيه بوجه من الوجوه { يقص الحق } اى يقول الحق ويتبعه فى بيان جميع احكامه ولا يحكم الا بما هو حق فتأخير العذاب حق ثابت جار على حكمة بليغة واصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق او الخصم عن التعدى على صاحبه { وهو خير الفاصلين } اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله مشير الى ان قص الحق ههنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل(3/443)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{ قل لو ان عندى } اى فى قدرتى ومكنتى { ما تستعجلون به } من العذاب الذى ورد به الوعيد بان يكون امره مفوصا الى من جهته عز وجل { لقضى الامر بينى وبينكم } اي بان ينزل ذلك عليكم اثر استعجالكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائره . وفى بناء الفعل للمفعول من الايذان بتعين الفاعل الذى هو الله سبحانه وتهويل الامر ومراعاة حسن الادب ما لا يخفى { والله اعلم بالظالمين } اى بحالهم وبانهم مستحقون للامهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوض الامر الىّ فلم يقض الامر بتعجيل العذاب فعابد الاصنام سواء امهل او لا يذوق العذاب ولا يتخلص منه اصلا وكذا عابد الدنيا والنفس والشيطان والهوى فان ذلك فى نار الجحيم وهذا فى نار الفراق العظيم فعلى العاقل ان لا يتبع الهوى كما امر الله تعالى فقال { قل لا اتبع اهواءكم } قال بعضهم جزت مرة ببلاد السواد فرأيت شيخا جالسا فى الهواء فسلمت عليه فرد السلام على فقلت له بم جلست فى الهواء قال خالفت الهوى فاسكنت فى الهواء وجاء جماعة من فقهاء اليمن الى الشيخ الكبير ابى الغيث قدس سره يمتحنونه فى شئ فلما دنوا منه قال مرحبا بعبيد عبدى فاستعظموا ذلك فلحقوا شيخ الطرقين وامام الفريقين العالم العارف ابا الذبيح اسماعيل بن محمد الحضرمى فأخبروه بما قال الشيخ ابو الغيث لهم فضحك الشيخ وقال صدق الشيخ انتم عبيد الهوى والهوى عبده وانما يتخلص المء من الهوى بالتقوى : وفى المثنوى
جونكه تقوى بست دودست هوا ... حق كشايد هردودست عقل را
بس حواس بيره محكوم توشد ... جون خرد سالار ومخذوم توشد
واعلم ان الهوى من اوصاف النفس فالآيات متعلقة باصلاح النفس ومن كل على بينة من ربه وهى فى الحقيقة النور الذى ينشرح به الصدر يكون على الهدى لا على الهوى وله علامات كما لا يخفى حكى ان بعض الصالحين كان يتكلم على الناس ويعظهم فمر عليه فى بعض الايام يهودى وهو يخوفهم ويقرأ قوله تعالى { وان منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا } فقال اليهودى ان كان هذا الكلام حقا فنحن وانتم سواء فقال له الشيخ لا ما نحن سواء بل نحن نرد ونصدر وانتم تردون ولا تصدرون ننجو نحن منها بالتقوى وتبقون انتم فيها جثيا بالظلم ثم قرأ الآية الثانية { ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } فقال اليهودى نحن المتقون فقال له الشيخ كلا بل نحن وتلا قوله تعالى { ورحمتى وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الى قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبى الامى } فقال اليهودى هات برهانا على صدق هذا فقال له الشيخ البرهان حاضر يراه كل ناظر وهو ان تطرح ثيابى وثيابك فى النار فمن سلمت ثيابه فهو الناجى منها ومن احرقت ثيابه فهو الباقى فيها فنزعا ثيابهما فاخذ الشيخ ثياب اليهودى ولفها ولف عليها ثيابه ورمى الجميع فى النار ثم دخل النار فاخذ الثياب ثم خرج من الجانب الآخر ثم فتحت الثياب فاذا ثياب الشيخ المسلم سالمة بيضاء قد نطفتها النار وازالت عنها الوسخ وثياب اليهودى قد صارت حراقة مع انها مستورة وثياب الشيخ المسلم ظاهرة للنار فلما رأى ذلك اسلم والحمد لله فهذه الحكاية مناسبة لما ذكر من الآيات اذ كفار قريش كانوا من اهل الظلم والهوى فلم ينفعهم دعواهم فصاروا الى العذاب والمؤمنون كانوا من اهل العدل والبينة والهدى فانتج تقواهم ووصلوا الى جنات مفتحة لهم الابواب ومن سلم لباسه من النار سلم وجوده بالطريق الاولى بل الثوب فى الحقيقة هو الوجود الظاهرى الذى استتر به الروح الباطنى فلا بد من تطهيره المؤدى الى تطهير الباطن يسره الله(3/444)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{ وعنده } اى الله تعالى خاصة { مفاتح الغيب } اى خزائن غيوبه . جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن والكنز والاضافة من قبيل لجين الماء وهو المناسب للمقام كما فى حواشى سعدى جلبى المفتى ويجوز ان يكون جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح اى آلة الفتح فالمعنى ما يتوصل به التخييل ولما كان عنده تلك المفاتح كان المتوصل الى ما فى الخزائن من المغيبات هو لا غير كما فى حواشى ابن الشيخ { لا يعلمها الا هو } تأكيد لمضمون ما قبله قال فى تفسير الجلالين وهى الخمسة التى فى قوله تعالى { ان الله عنده علم الساعة } الآية رواه البخارى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا الله لا يعلم ما فى الارحام الا الله ولا يعلم ما فى غد الا الله ولا يعلم متى يأتى المطر الا الله ولا يدرى بأى ارض تموت النفس الا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة الا الله » { ويعلم ما فى البر والبحر } من الموجودات مفصلة على اختلاف اجناسها وانواعها وتكثير افرادها وهو بيان لتعلق علمه تعالى بالمشاهدات اثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها عن ان الكل بالنسبة الى علمه المحيط سواء فى الجلاء { وما تسقط من } زائدة { ورقة الا يعلمها } يريد ساقطة وثابتة يعنى يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه وهى مبالغة فى احاطة علمه بالجزئيات { ولا حبة } عطف على ورقة وهى بالفارسية [ دانه ] { فى ظلمات الارض } اى كائنة فى بطونها قال الكاشفى [ مراد تخميست كه در زمين افتد ] { ولا رطب } عطف على ورقة ايضا وهو بالفارسية [ ثر ] { ولا يابس } بالفارسية [ خشك ] اى ما يسقط من شئ من هذه الاشياء الا يعلمه قال الحدادى الرطب واليابس عبارة عن جميع الاشياء التى تكون فى السموات وفى الارض لانها لا تخلو من احدى هاتين الصفتين انتهى فيختصان بالجسمانيات اذا الرطوبة واليوبسة من اوصاف الجسمانيات { الا فى كتاب مبين } هو اللوح المحفوظ فهو بدل اشتمال من الاسثناء الاول او هو علمه تعالى فهو بدل منه بدل الكل . وقرئ ولا رطب ولا يابس بالرفع على الابتداء والخبر الا فى كتاب وهو الانسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط قال الحدادى فان قيل ما الفائدة فى كون ذلك فى اللوح مع ان الله تعالى لا يخفى عليه شئ وان كان عالما بذلك قبل ان يخلقه وقبل ان يكتبه لم يكتبها ليحفظها ويدرسها قيل فائدته ان الحوادث اذا حدثت موافقة للمكتوب ازدادت الملائكة بذلك علما ويقينا بعظيم صفات الله تعالى يقول الفقير ان الملائكة ليست من اهل الترقى والتنزل فقصر الفائدة على ذلك مما لا معنى له بل نقول ان اللوح قلب هذا التعين كقلب الانسان قد انتقش فيه ما كان وما سيكون وهو من مراتب التنزلات فقد ضبط الله فيه جميع المقدورات الكونية لفوائد ترجع الى العباد يعرفها العلماء بالله : قال الحافظ(3/445)
معرفت نيست درين قوم خدايا سببى ... تابرم كوهر خودرا بخريدار ديكر
والاشارة فى الآية ان الله تعالى جعل لكل شئ من المكونات شهادة تناسب ذلك الشئ وغيبا مناسبا له وجعل لغيب كل مفتاحا يفتح به باب غيب ذلك الشئ وشهادته فينفعل ذلك الشئ كما اراده الله فى الازل وقدره { وعنده مفاتح } ذلك { الغيب لا يعلمها الا هو } لانه لا خالق الا هو ليس لنب ولا لولى مدخل فى علم هذه المفاتح ولا فى استعمالها لانه مختص بالخالق فقط وسأضرب لك مثلا تدرك به هذه الحقيقة وذلك مثل نقاش للصورة فان لكل صورة مما ينقشه شهادة هى هيئتها وغيبا هو علم التصوير ومفتاحا يفتح به باب علم التصوير على هيئة الصورة لتنفعل الصورة كما هى ثابتة فى ذهن النقاش هو القلم والقلم بيد النقاش لا مدخل لتصرف غيره فيه فالله تعالى هو النقاش المصور والصور هى المكونات المختلفة الغيبية والشهادية وشهادة كل صورة منها خلقتها وتكوينها وقلم تصويرها الذى هو مفتاح يفتح به باب علم تكوينها على صورتها وكونها هو الملكوت فبقلم ملكوت كل شئ يكون كون كل شئ وقلم الملكوت بيد الله تعالى كما قال { فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ واليه ترجعون } وكما ان الاشياء مختلفة فالملكوتيات مختلفات وملكوت كل شئ من الجماد والنبات والحيوان والانسان والملك مناسب لصورته ولهذا جمع المفاتح ووحد الغيب وقال { وعنده مفاتح الغيب } لان الغيب هو علم التكوين وهو واحد فى جميع الاشياء وفى الملكوت كثرة كما فى اقلام المصور فافهم جدا { و } بعلم التكوين { يعلم ما فى البر والبحر } لان به كوّن البر وهو عالم الشهادة والصورة والبحر وهو عالم الغيب والملكوت يدل على هذا المعنى قوله لا عالم الغيب والشهادة { و } بهذا العلم { ما تسقط من ورقة الا يعلمها } لانه مكونها ومثبتها ومسقطها { ولا حبة فى ظلمات الارض } اى حبة الروح فى ظلمات صفات ارض النفس وايضا ولا حبة فى ظلمات الارض اى ارض القلب وظلمات صفات البشرية الا وهو ركبها ويعلم كمالها ونقصانها { ولا رطب ولا يابس } الرطب هو الموجود فى الحال واليابس هو المعدوم فى الحال وسيكون موجودا . وايضا الرطب الروحانيات واليابس الجماديات وايضا الرطب المؤمن واليابس الكافر . وايضا الرطب العالم واليابس الجاهل . وايضا الرطب العارف واليابس الزاهد . وايضا الرطب اهل المحبة واليابس اهل السلوة . وايضا الرطب صاحب الشهود واليابس صاحب الوجود . وايضا الرطب الباقى بالله واليابس الباقى بنفسه { الا فى كتاب مبين } وهو ام الكتاب كذا فى التأويلات النجمية قدس سره مؤلفها العزيز الشريف(3/446)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ وهو الذى يتوفاكم بالليل } الخطاب عام للمؤمن والكافر اى ينيمكم فى الليل ويجعلكم كالميت فى زوال الاحساس والتمييز ومن هنا ورد ( النوم اخ الموت ) والتوفى فى الاصل قبض الشئ بتمامه وعن على رضى الله عنه يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه فى الجسد فبذلك يرى الرؤيا فاذا انتبه من النوم عادت الروح الى الجسد باسرع من لحظة يعنى ان الذى يرى الرؤيا هو الروح الانسانى وانه يرى فى عالم البرزخ ما صدر عن الروح الحيوانى من القبيح والحسن وهو ظل الروح الانسانى والتعبير بالحيوانى والانسانى اصطلاح الحكماء واما اهل السلوك فيعبرون عنها بالروح وتنزله { ويعلم ما جرحتم بالنهار } اى ما كسبتم فيه وجوارح الانسان اعضاؤه التى يكسب بها الاعمال خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على العادة { ثم يبعثكم فيه } اى يوقظكم فى النهار عطف على يتوفاكم وتوسيط قوله ويعلم بينهما لبيان ما فى بعثهم من عظيم الاحسان اليهم بالتنبية على انه بعد علم ما يكتسبونه من السيآت مع كونها موجبة لابقائهم على التوفى بل لاهلاكهم فى جنس الليل ثم يبعثكم فى جنس النهار مع علمه بما ستجرحون فيه { ليقضى اجل مسمى } اى ليبلغ المتيقظ آخر اجله المسمى له فى الدنيا وقضاء الاجل فصل الامر على سبيل التمام فمعنى قضاء الاجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت والاجل آخر مدة الحياة { ثم اليه مرجعكم } اى رجوعكم بالموت لا الى غيره اصلا { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } بالمجازاة باعمالكم التى كنتم تعملونها فى تلك الليالى والايام(3/447)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{ وهو القاهر } مستعليا { فوق عباده } اى المتصرف فى امورهم لا غيره يفعل بهم ما يشاء ايجادا واعداما واحياء واماتة وتعذيبا واثابة الى غير ذلك ويجوز ان يكون فوق خبرا بعد خبر وليس معنى فوق معنى المكان لاستحالة اضافة الاماكن الى الله تعالى وانما معناه الغلبة والقدرة ونظيره فلان فوق فلان فى العلم اى اعلم منه : وفى المثنوى
درست شدبالاى دست اين تاكجا ... تابيزدان كه اليه المنتهى
كان بكى درياست بى غوردو كران ... جمله درياها جوسيلى بيش آن
حيلها وجارها كر ازدهاست ... بيش الا الله آنها جمله لاست
{ ويرسل عليكم حفظة } عطف على الجملة الاسمية قبلها اى يرسل عليكم خاصة ايها المكلفون ملائكة تحفظ اعمالكم وهم الكرام الكاتبون والحكمة فيه ان المكلف اذا علم ان اعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الاشهاد كان ازجر عن المعاصى وان العبد اذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه : قال الكاشفى
له اندريشى ازان روزيكه دروى ... حكرها خون ودلها ريش بينى
دهندت نامة اعمال وكويند ... بخوان تاكردهاى خويش بينى
مكن ورميكنى بارى دران كوش ... كه اندر نامه نيكى بيش بينى
ورد فى الخبر ان على كل واحد منا ملكين بالليل وملكين بالنهار يكتب احدهما الحسنات والآخر السيآت وصاحب اليمين امير على صاحب الشمال فاذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر امثالها واذا عمل سيئة فاراد صاحب الشمال ان يكتب قال له صاحب اليمين امسك فيمسك عنه ست ساعات او سبع ساعات فان هو استغفر الله لم يكتب عليه وان لم يستغفر كتب سيئة واحدة فان قلت هل تعرف هؤلاء الملائكة العزم الباطن كما يعرفون الفعل الظاهر قلت نعم لان الحفظة تنتسخ من السفرة وهى من الخزنة التى وكلت باللوح وقد كتب فيه احوال العوالم واهاليها من السرائر والظواهر فبعد وقوفهم على ذلك يكتبون ثانيا من اول اليوم الى آخره ومن اول الليل الى آخره حسبما يصدر عن الانسان وقيل اذا همّ العبد بحسنة فاح من فيه رائحة المسك فيعلمون بهذه العلامة فيكتبونها واذا هم بسيئة فاح منه ريح النتن فان قلت والملائكة التى ترفع عمل العبد فى اليوم أهم الذين يأتون عدا ام غيرهم قلت قال بعض العلماء الظاهر انهم هم وان ملكى الانسان لا يتغيران عليه ما دام حيا وقال بعض المشايخ من جاء منهم لا يرجع ابدا مرة اخرى ويجيئ آخرون مكانهم الى نفاد العمر واختلف فى موضع جلوس الملكين وفى الخبر النبوى « نقوا افواهكم بالخلال فانها مجلس الملكين الكريمين الحافظين وان مدادهما الريق وقلمهما اللسان وليس عليهما شئ امر من بقايا الطعام بين الاسنان »(3/448)
ولا يبعد ان يوكل بالعبد ملائكة سوى هذين الملكين كل منهم يحفظه من اذى كما جاء فى الروايات { حتى اذا جاء احدكم الموت } حتى هى التى يبتدأ بها الكلام وهى مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل ويرسل عليكم حفظة يحفظون اعمالكم مدة حياتكم حتى اذا انتهت مدة احدكم كائنا من كان وجاءه اسباب الموت ومباديه { توفته رسلنا } الآخرون المفوض اليهم ذلك وهم ملك الموت واعوانه وانتهى هناك حفظ الحفظة { وهم } اى الرسل { لا يفرطون } اى لا يقصرون فيما يؤمرون بالتوانى والتأخير طرفة عين واعلم ان القابض لا رواح جميع الخلق هو الله تعالى حقيقة وان ملك الموت واعوانه وسائط ولذلك اضيف التوفى اليهم وقد يكون التوفى بدون وساطتهم كما نقل فى وفاة فاطمة الزهراء رضى الله عنها وغيرها واعوان ملك الموت اربعة عشر ملكا سبعة منها ملائكة الرحمة واليهم يسلم روح المؤمن بعد القبض وسبعة منهم ملائكة العذاب واليهم يسلم روح الكافر بعد الوفاة قال مجاهد قد جعلت الارض لملك الموت كالطشت يتناول من حيث يشاء يقول الفقير ليس على ملك الموت صعوبة فى قبض الارواح وان كثرت وكانت فى امكنة مختلفة وكيفية لا تعرف بهذا العقل الجزئى كما لا تعرف كيفية وسوسة الشيطان فى قلوب جميع اهل الدنيا روى فى الحبر ان رسول الله دخل على مريض يعوده فرأى ملك الموت عند رأسه فقال ( يا ملك الموت ارفق به فإنه مؤمن ) فقال ملك الموت يا محمد ابشر وطب نفسا وقر عينا فانى بكل مؤمن رفيق انى لاقبض روح المؤمن فيصرخ اهله فاعتزل فى جانب الدار فاقلو ما لى من ذنب وانى مأمور وان لى لعودة فالحذر وما من اهل بيت مدر ولا وبر فى بر وبحر الا وانا اتصفحهم فى كل يوم خمس مرات حتى انى لا علم بصغيرهم وكبيرهم منهم بانفسهم والله لو ادرت ان اقبض روح بعوضة لما قدرت عليها حتى يأمرنى الله تعالى بقبضها قال العلماء الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وانما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما وتبذل حال وانتقال من دار الى دار ولما خلق الله الموت على صورة كبش املح قال له اذهب الى صفوف الملائكة على هيئتك هذه فلم يبق ملك الاغشى عليه الفى عام ثم افاقوا فقالوا يا ربنا ما هذا قال الموت قالوا لمن ذلك قال على كل نفس قالوا لم خلقت الدنيا قال ليسكنها بنوا آدم قالوا لم خلقت النساء قال ليكون النسل قالوا من يسلط عليه هذا هل يشتغل بالنساء والدنيا قال ان طول الامل ينسيهم الموت حتى يكون منهم اخذ الدنيا وشهوة النساء ولذلك قيل الموت من اعظم المصائب واعظم منه الغفلة عنه(3/449)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ ثم ردوا } عطف على توفته والضمير للكل المدلول عليه باحدكم اى ردوهم الملائكة بعد البعث { الى الله } اى الى حكمه وجزائه فى موقف الحساب فالرد الى الله ليس على ظاهره لكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة بل هو عبارة عن جعلهم منقادين لحكم الله تعالى مطيعين لقضائه بان يساقوا الى حيث لا مالك ولا حاكم فيه سواه { موليهم } اى مالكهم الذى يملك امورهم على الاطلاق واما قوله تعالى { وان الكافرين لا مولى لهم } فالمولى فيه بمعنى الناصر فلا تناقض وهو بدل من الجلالة { الحق } الذى لا يقضى الا بالعدل وهو صفة للمولى { الا } اى اعلموا وتنبهوا { له الحكم } اى القضاء بين العباد يومئذ لا حكم لغيره فيه بوجه من الوجوه { وهو اسرع الحاسبين } يحاسب جميع الخلائق فى اسرع زمان واقصره لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن لا يتكلم بآلة ولا يحتاج الى فكرة وروية وعقديد ومعنى المحاسبة تعريف كل واحد ما يستحقه من ثواب وعقاب قال بعض العلماء المحاسبة لتقدير الاعمال والوزن لاظهار مقاديرها فيقدم الحساب على الميزان ولهذا لا ميزان لمن يدخل الجنة بلا حساب واعلم ان الحشر والحساب لا يكون على وجه الارض وانما يكون فى الارض المبدلة وهى ارض بيضاء كالفضة لم يسفك فيهادم ولم يظلم عليها احد فاذا ثبت الحشر والحساب وان الله تعالى هو المحاسب وجب على العاقل ان يحاسب نفسه قبل ان يناقش فى الحساب لانه هو التاجر فى طريق الآخرة وبضاعته عمره وربحه صرف عمره فى الطاعات والعبادات وخسرانه صرفه فى المعاصى والسيآت ونفسه شريكه فى هذه التجارة وهى وان كانت تصلح للخير والشر لكنها اميل واقبل الى المعاصى والشهوات فلا بد له من مراقبتها ومحاسبتها : قال السعدى قدس سره
توغافل درانديشه سود ومال ... كه سرماية عمر شد بايمال(3/450)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
{ قل } يا محمد لاهل مكة { من } استفهام { ينجيكم } اى يخلصكم ويعطى لكم نجاة { من ظلمات البر والبحر } من شدائدهما واهوالهما فى اسفاركم استعيرت الظلمة للمشقة لمشاركتهما فى الهول وابطال الابصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب اى اشتدت ظلمته حتى صار كالليل فى ظلمته بناء على ان الليل اذا لم يستنر بنور القمر ظهرت الكواكب صغارها وكبارها وكلما اشتدت ظلمته اشتد ظهور الكواكب { تدعونه تضرعا وخفية } اى معلنين ومسرين على ان يكون تضرعا وخفية مصدرين فى موضع الحال من فاعل تدعونه وتدعون حال من فاعل ينجيكم اى داعين اياه تعالى والتضرع اظهار الضراعة وهى شدة الفقر والحاجة الى الشئ { لئن انجينا } حال من فاعل تدعون ايضا على ارادة القول اى تدعونه قائلين والله لئن خلصنا { من هذه } الظلمات والشدائد { لنكونن من الشاكرين } اى الراسخين فى الشكر المداومين عليه لاجل هذه النعمة . والشكر الاعتراف بالنعمة مع القيام بحقها وحق نعمة الله ان يطاع منعها ولا يعصى فضلا عن اين يشرك به ما لا يقدر على شئ اصلا(3/451)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{ قل } لهم { الله ينجيكم منها ومن كل كرب } اى غم سواها والكرب غاية الغم الذى يأخذ بالنفس { ثم انتم } بعد ما تشاهدون من هذه النعم الجليلة { تشركون } بعبادته تعالى غيره . والمناسب لقولهم { لنكونن من الشاكرين } ان يقال ثم انتم لا تشكرون اى لا تعبدون لكن وضع تشركون موضعه تنبيها على ان الاشراك بمنزلة ترك الشكر رأسا(3/452)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{ قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا } لاجل اشراككم { من فوقكم } اى عذابا كائنا من جهة الفوق كما فعل بقوم نوح عليه السلام بحيث اهلكهم بان ارسل عليهم الطوفان والصاعقة والريح والصيحة واهلك قوم لوط واصحاب الفيل بان امطر عليهم حجارة { او من تحت ارجلكم } اى من جهة السفل كما اغرق فرعون وخسف بقارون . وقيل من فوقكم ملوككم واكابركم ورؤسائكم ومن تحت ارجلكم عبيدكم السوء وسفلتكم وسفهائكم وكلمة او لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح { او يلبسكم } من لبست عليه الامر اى خلطته من باب ضرب واما لبست الثوب فمن باب علم ومصدر الاول اللبس بالفتح والثانى بالضم والمعنى او يخلطكم { شيعا } منصوب على انه حال من مفعول يلبسكم وهو جمع شيعة كسدة وسدر . والشعية كل قوم اجتمعوا عى امر اى يخلطكم حال كونكم فرقا متجزئين على اهواء شتى ومذاهب مختلفة كل فرقة مشايعة لامام فينشب بينكم القتال اى يهيج ويظهر فهذا الخلط هو خلط اضراب لا خلط اتفاق { ويذيق بعضكم بأس بعض } يقاتل بعضكم بعضا ومن سنة الله تعالى ان يذيق الكافرين بأس المؤمنين وبالعكس وان يذيق بعض الكافرين بأس بعض وبعض المؤمنين بأس بعضهم كما هو فى اكثر الازمان والاعصار على حسب التربية المبنية على جماله وجلاله تعالى وفى الحديث « سألت ربى ثلاثا فاعطانى اثنتين ومنعنى واحدة سألت ربى ان لا يهلك امتى بالسنة فاعطانيها فسألته ان لا يهلك امتى بالغرق فاعطانيها وسألته ان لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها » اراد بالسنة قحطا يعم امته وبالغرق بفتح الراء ما يكون على سبيل العموم كطوفان نوح عليه السلام قال حضرة الشيخ الشهير فافتاده افندى البروسوى تأثير طوفان نوح عليه السلام يظهر فى كل ثلاثين سنة مرة واحدة لكن على الخفة فيقع مطر كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل اه كلامه واراد عليه السلام بالبأس الحرب والفتن وفى الحديث « فناء امتى بالطعن والطاعون » وفى آخر « اذا وضع السيف فى امتى لم يرفع منها الى يوم القيامة » وفيه معجزة للنبى عليه السلام حيث كان الامر كما اخبره . والبأس الشدة فى الحرب وسبب دخول البأس عدم حكم الاثمة بكتاب الله تعالى وسبب تسلط العدو نقض عهد الله وعهد رسوله كما جاء فى بعض الاحاديث { انظر } يا محمد { كيف نصرف } لهم { الآيات } القرآنية من حال الى حال بالوعد والوعدي اى نبين لهم آية على اثر آية ونوردها على وجوه مختلفة من اول السورة الى هنا { لعلهم يفقهون } كى يفقهوا ويقفوا على جلية ا لامر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد(3/453)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
{ وكذب به } اى بالعذاب الموعود او القرآن المجيد الناطق بمجيئه { قومك } اى المعاندون منهم { وهو الحق } اى والحال ان ذلك العذاب واقع لا محالة او انه الكتاب الصادق فى كل ما نطق { قل } لهم { لست عليكم بوكيل } بحفيظ وكل الى امركم لا منعكم من التكذيب واجبركم على التصديق انما انا منذر وقد حرجت من العهدة حيث اخبرتكم بما سترونه(3/454)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{ لكل نبأ } اى خبر من اخبار القرآن { مستقر } اسم زمان اى وقت يقع فيه ويستقر زمن عذابكم { وسوف تعلمون } عند وقوعه فى الدنيا او فى الآخرة او فهيما معا فعلى العاقل ان يتضرع الى الله تعالى فى دفع الشدائد ولا يصر على ذنبه فانه سبب للابتلاء وكل ظلمة انما تجيء من ظلمات النفس الامارة : كما قال فى المثنوى
هر جه برتو آيد از ظلمات غم ... آن زبى شرمى وكستاخيست هم
قال الصائب :
جرازغير شكايت كنم كه همجو حباب ... هميشه خانه خراب هواى خويشتم
والاشارة ان البر هو الاجسام والبحر هو الارواح فالارواح وان كانت نورانية بالنسبة الى الاجسام لكن بالنسبة الى الحق ونور الوهيته ظلمانية كما قال عليه السلام « ان الله خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره » فمعناه اذا خلقتكم فى ظلمة الخلقية فمن ينجيكم من ظلمات بر البشرية وظلمات بحر الروحانية اذ تدعونه تضرعا اى بالجسم وخفية اى بالروح { لئن انجانا من هذه لنوكنن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم انتم تشركون } حين تجلى لكم نور من انوار صفاته فبعضكم يشرك ويقول انا الحق وبعضكم يقول سبحانى ما اعظم شأنى { قل هو القادر على ان يبعث عليكم } حين تقولون انا الحق وسبحانى { عذابا من فوقكم } بان يرخى حجابا بينه وبينكم يعذبكم به عزة وغيرة { او من تحت ارجلكم } اى حجابا من اوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم { او يلبسكم شيعا } يجعل الخلق فيكم فرقا فرقة . يقولون هم الصديقون وفرقة يقولون هم الزنادقة { ويذيق بعضكم بأس بعض } بالقتل والصلب وقطع الاعراق كما فعل بابن منصور قالوا وكان قد جرى من الحلاج قدس سره كلام فى مجلس جامد بن عباس وزير المقتدر بحضرة القاضى ابى عمر فافتى بحل دمه وكتب خطة بذلك وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء وقال له الحلاج ظهرى حمى ودمى حرام وما يحل لكم ان تتأولوا علىّ بما يبيحه وانما اعتقادى الاسلام ومذهبى السنة وتفضيل الائمة الاربعة الخلفاء الراشدين وبقية العشرة من الصحابة رضى الله عنهم ولى كتب فى السنة موجودة فى الوراقين فالله الله فى دمى ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم الى ان استكملوا ما احتاجوا اليه وانفضوا من المجلس وحمل الحلاج الى السجن وكتب الوزير الى المقتدر يخبره بما جرى فى المجلس فعاد جواب المقتدر بان القضاة اذا كانوا قد افتوا بقتله فليسلم الى صاحب الشرطة وليتقدم بضربه الف سوط فان مات والا فيضرب الف سوط آخر ثم ليضرب عنقه فسلمه الوزير الى الشرطى وقال له ما رسم به المقتدر وقال ايضا ان لم يتلف بالضرب يقطع يده ثم رجله ثم يحز رأسه وتحرق جثته وان خدعك وقال لك انا اجرى لك الفرات ودجلة ذهبا وفضة فلا تقبل منه ذلك ولا ترفع العقوبة عنه فتسلمه الشرطى ليلا واصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذى الحجة من سنة تسع وثلاثمائة فاخرجه الى باب الطاق وهو يتبختر فى قيوده واجتمع من العامة خلق لا يحصى عددهم وضربه الجلاد الف سوط ولم يتأوه ولما فرغ من ضربه قطع اطرافه الاربعة ثم حز رأسه ثم احرقت جثته ولما صار رمادا القاه فى دجلة ونصب الرأس ببغداد على الجسر وادعى بعض اصحابه انه لم يقتل ولكن القى شبهه على عدو من اعداء الله تعالى كما وقع فى حق عيسى عليه السلام والاولياء ورثة للانبياء يقول الفقير لهذا التشبيه والتخييل نظائر فى حكايات المشايخ يجدها من تتبع ومرادى بيان جوازه لا اعتقاد انه كان كذلك فان قلت من حق ولاية الحلاج ان لا يحترق ولا يكون رمادا قلت ذلك غير لازم فان الاجساد مشتركة فى قبول العوارض والآفات ألا ترى الى حال ايوب ويحيى وغيرهما من الانبياء عليهم السلام وقد ذكر اهل التفسير فى اصحاب الرس انهم قتلوا الانبياء المبعوثين اليهم واكلوا لحومهم تمردا وعنادا ورسوا بئرهم بعظامهم نعم قد يكون فى هذه النشأة امور خارجة عن العادة خارقة كاحوال بعض الانبياء والاولياء الذين قتلوا مثلا ثم احياهم الله تعالى واما فى القبر فقد ثبت ان الارض لا تأكل اجساد الانبياء ومن يليهم(3/455)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
{ واذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا } اذا منصوب بجوابه وهو فاعرض والمراد بالخطاب النبى عليه السلام وامته . والخوض فى اللغة الشروع فى الشئ مطلقا الا انه غلب فى الشروع فى الشئ الباطل والآيات القرآن . والمعنى اذا رأيت الذين يشرعون فى القرآن بالتكذيب والاستهزاء به والطعن فيه كما هو دأب كفار قريش { فاعرض عنهم } بترك مجالستهم والقيام عنهم عند خوضهم فى الآيات { حتى يخوضوا فى حديث غيره } اى استمر على الاعراض الى ان يشرعوا فى حديث غير آياتنا فالضمير الى الآيات والتذكير باعتبار كونها حديثا او قرآنا { واما } اصله ان ما فادغمت نون ان الشرطية فى ما المزيدة { ينسينك الشيطان } اى ما امرت به من ترك مجالستهم { فلا تقعد بعد الذكرى } اى بعد ان تذكره فهو مصدر بمعنى الذكر ولم يجئ مصدر على فعلى غير ذكرى { مع القوم الظالمين } الذين وضعوا التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم وهذا الانساء محض والنسيان على الانبياء عليهم السلام والمراد بالشيطان ابليس او واحد من اكابر جنوده لان الذى هو قرينه عليه السلام اسلم فلا يأمره الا بخير بخلاف قرين كل واحد من الامة وفى الحديث « فضلت على آدم بخصلتين كان شيطانى كافرا فاعاننى الله عليه فاسلم وكان ازواجى عونا لى وكان شيطان آدم وزوجته عونا على خطيئته » ولما قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع ان نجلس فى المسجد الحرام ونطوف بالبيت لانهم يخوضون ابدا رخص الله تعالى فى مجالستهم على سبيل الوعظ والتذكير فقال(3/456)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{ وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ } الضمير فى حسابهم للخائضين ومن زائدة وشئ فى محل الرفع على انه مبتدأ للخبر المقدم وهو على الذين اى وما على المؤمنين الذين يجتنبون عن قبائح اعمال الخائضين واقوالهم شئ مما يحاسبون عليه من الجرائم والآثام { ولكن ذكرى } اى ولكن عليهم ان يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح بما امكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والتنكيرفنصب ذكرى على المصدرية والواو للعطف . ولكن خالص للاستدراك فلا يلزم الجمع بين حرفى العطف كما ان اللام مع سوف تخرج عن كونها للحال وتخلص للتأكيد { لعلهم يتقون } اى يجتنبون الخوض حياء وكراهة لمساءتهم(3/457)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } المراد بالموصول الكفار الخائضون فى الآيات ودينهم هو الذى كلفوه وامروا باقامة مواجبه وهو دين الاسلام ومعنى اتخاذه لعبا ولهوا انهم سخروا به واستهزؤا . واللعب عمل يشغل النفس وينفرها عما تنتفع به . واللهو صرفها عن الجد الى الهزل { وغرتهم الحياة الدنيا } واطمأنوا بها حتى زعموا ان لا حياة بعدها ابدا والمعنى اعرض عنهم واترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم وليس المراد ان يترك انذارهم لانه تعالى قال { وذكر به } اى بالقرآن من يصلح للتذكر { ان تبسل نفس } اى لئلا تسلم الى الهلاك وترهن { بما كسبت } بسبب ما عملت من القبائح . واصل البسل والابسال المنع ولذا صح استعمال الابسال فى معنى الاسلام الى الهلاك لان الاسلام الى الهلاك يستلزم المنع فانه اذا اسلم احد الى الهلاك كان المسلم اليه وهو الهلاك يمنع المسلم وهو الشخص من الخروج عنه والخلاص منه وفى التفسير الفارسى للكاشفى [ تا تسليم كرده نشود بهلاك يا رسوا نكرده نفس هر كافرى بسبب انجه كرده است از بديها ] { ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع } استئناف مسوق للاخبار بذلك والاظهر انه حال من نفس كأنه فى قوة نفس كافرة او نفوس كثيرة كما فى قوله تعالى { علمت نفس ما احضرت } ومن دون الله حال ومن ولى اى ليس لتلك النفس غيره تعالى من يدفع عنها العذاب { وان تعدل كل عدل } اى تفد تلك النفس كل فداء بان جاءت مكانها بكل ما كان فى الارض جميعا { لا يؤخذ منها } اى لا يقبل فقوله كل عدل نصب على المصدر فالعدل ههنا ليس بمعنى ما يفتدى به كما فى قوله تعالى { لا يؤخذ منها عدل } بل المراد المعنى المصدرى فان قلت الاخذ يتعلق بالاعيان لا بالمعنى قلت نعم الا ان الامام قال الاخذ قد يستعمل بمعنى القبول كما فى قوله تعالى { ويأخذ الصدقات } اى يقبلها واذا حمل الاخذ فى هذه الآية على القبول جاز اسناده الى المصدر بلا محذور والمقصود من هذه الآية بيان ان وجوه الخلاص منسدة على تلك النفس ومن ايقن بهذا كيف لا ترتعد فرائسه اذا اقدم على المعصية { اولئك } المتخذون دنيهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا { الذين ابسلوا } اى اسلموا الى العذاب { بما كسبوا } بسبب اعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة وفى التفسير الفارسى [ آن كروه آن كسانندكه سبرده شده اند بملائكة عذاب بسبب آنجه كرده اند ازقبائح افعال ] قال ابو السعود اولئك الذين اسلموا الى ما كسبوا من القبائح انتهى وهو جعل معنى الباء كما فى قوله مررت بزيد { لهم شراب } كأنه قيل ماذا لهم حين ابسلوا بما كسبوا فقيل لهم شراب { من حميم } اى من ماء مغلى يتجرجر فى بطونهم وتتقطع به امعاؤهم { وعذاب اليم } بنار تشتعل بابدانهم { بما كانوا يكفرون } اى بسبب كفرهم المستمر فى الدنيا واعلم ان التكذيب بآيات الله تعالى والاستهزاء بها هو الكفر وعاقبة الكفر هو العذاب الاليم وكذا الاصرار على المعاصى يجر كثيرا من عصاة المؤمنين الى الموت على الكفر والعياذ بالله وعن ابى اسحق الفزارى قال كان رجل يكثر الجلوس الينا ونصف وجهه مغطى فقلت له انك تكثر الجلوس الينا ونصف وجهك مغطى اطلعنى على هذا فقال وتعطينى الامان قلت نعم قال كنت نباشا فدفنت امرأة فاتيت قبرها فنبشت حتى وصلت الى اللبن ثم ضربت بيدى الى الرداء ثم ضربت بيدى الى اللفافة فمددتها فجعلت تمدها هى فقلت اتراها تغلبنى فجيبت على ركبتى فجررت اللفافة فرفعت يدها فلطمتنى وكشف وجهه فاذا اثر خمس اصابع فقلت له ثم مه قال ثم رددت عليها لفافتها وازارها ثم رددت التراب وجعلت على نفسى ان لا انبش ما عشت قال فكتبت بذلك الى الاوزاعى فكتب الى الوزاعى ويحك سله عمن مات من اهل السنة ووجهه الى القبلة فسألته عن ذلك فقال اكثرهم حول وجهه عن القبلة فكتبت بذلك الى الوزاعى فكتب الىّ انا لله وانا اليه راجعون ثلاث مرات اما من حول وجهه عن القبلة فانه مات على غير السنة واراد بالسنة ملة الاسلام تسأل الله تعالى العفو والمغفرة والرضوان : قال الحافظ قدس سره :(3/458)
يارب ازابر هدايت برسان بارانى ... بيشتر زانكه جو كردى زميان برخيزم
وفى الايات اشارة الى انه لا يصلح للطالب الصادق المجالسة مع الذين يخوضون فى احوال الرجال ولا حظ لهم منها سوى التزيى بزيهم واللبس لخرقتهم لان الطبع من الطبع يسرق
نفس از هم نفس بكيرد خوى ... بر حذر باش از لقاى خبيث
باد جون بر فضاى بد كذر ... بوى بد كيرد از هواى خبيث
فلا بد من الصحبة مع الاخيار والاتعاظ بكلمات الكبار وعن عبدالله بن الاحنف قال خرجت من مصر اريد الرملة لزيارة الرود بادى قدس سره فرآنى عيسى بن يونس المصرى فقال لى هل ادلك قلت نعم قال عليك بصور فان فيها شيخا وشابا قد اجتمعا على حال المراقبة فلو نظرت اليهما نظرة لاغنتك باقى عمرك قال فدخلت عليهما وانا جائع عطشان وليس على ما يسترنى من الشمس فوجدتهما مستقبلين القبلة فسلمت عليهما وكلمتهما فلم يكلمانى فقلت اقسمت عليكما بالله ألاما كلمتمانى فرفع الشيخ رأسه وقال يا ابن الاحنف ما اقل شغلك حتى تفرغت الينا ثم اطرق فاقمت بين يديهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب عنى الجوع والعطش فقلت للشاب عظنى بشئ انتفع به فقال نحن اهل المصائب ليس لنا لسان العظة فاقمت عندهما ثلاثة ايام بلياليها لم نأكل فيها شيأ ولم نشرب فلما كان عشية اليوم الثالث قلت فى قلبى لا بد من سؤالهما فى وصية انتفع بها باقى عمرى فرفع الشاب رأسه الىّ وقال عليك بصحبة من يذكرك الله بنظره ويعظك بلسان فعله لا بلسان قوله ثم التفت فلم ارهما وانشد لسان الحال(3/459)
شدوا المطايا قبيل الصبح وارتحلوا ... وخلفونى على الاطلال ابكيها
ثم ان النصيحة سهلة والمشكل قبولها ومن اراد الله تعالى هدايته وسيقت منه له عناية يجذبه لا محالة الى باب ناصح له فى ظاهره وباطنه فيهتدى بنور العظة والتذكير الى مسالك الوصول الى الله الخبير فيترقى من حضيض هوى النفس التى تلعب كالصبيان الى اوج هدى الروح الذى له وقار واطمئنان وعلو شأن فهذه الآيات الكريمة تنادى على داء النفس ودوائها ومن الله الاعانة فى اصلاحها(3/460)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ قل أندعو } أتعبد والاستفهام للانكار { من دون الله } اى متجاوزين عبادة الله تعالى { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } اى ما لا يقدر على نفعنا اذا عبدناه ولا على ضرنا اذا تركناه وهو الاصنام والقادر على النفع والضر هو الله تعالى { ونرد على اعقابنا } جمع عقب بالفتح وكسر القاف موخر القدم اى نرجع من الاسلام الى الشرك باضلال المضل { بعد اذ هدانا الله } الى الاسلام وانقذنا من الشرك { كالذى استهوته الشياطين } حال من فاعل نرد اى انرد على اعقابنا مشبهين بالذى ذهبت به مردة الجن الى المهامة واضلته { فى الارض } متعلق باستهوته { حيران } حال من هاء استهوته وهو صفة مشبهة مؤنثة حيرى والفعل منه حار يحار حيرة اى متحيرا ضالا عن الطريق { له اصحاب } الجملة صفة حيران اى لهذا المستوى رفقة { يدعونه الى الهدى } اى يهدونه الى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر مبالغة كأنه نفس الهدى { ائتنا } على ارادة القول على انه بدل من يدعونه اى يقولون له ائتنا شبه الله تعالى من اشرك وعبد غير الله مع قيام البرهان الفاصل بين القح والباطل بشخص موصوف بثلاثة اوصاف الاول استهوته مردة الجن والغيلان فى المهامة والمفاوز والثانى كونه حيران تائها ضالا عن الجادة لا يدرى كيف يصنع والثالث ان يكون له اصحاب يدعونه قائلين له ائتنا فقد اعتسفت المهامه وضللت عن الجادة وهو لا يجيبهم ولا يترك متابعة الجن والشياطين . والجن اجسام لطيفة تتشكل باشكال مختلفة وتقدر على ان تنفذ فى بواطن الحيوان نفوذ الهواء فى خلال الاجسام المتخلخلة { قل ان هدى الله } الذى هدانا اليه وهو الاسلام { هو الهدى } وحده وما عداه ضلال محض وغى بحت { و } قل ايضا { امرنا لنسلم لرب العالمين } اى بان نسلم فاللام بمعنى الباء والعرب تقول امرتك لتفعل وان تفعل وبان تفعل(3/461)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
{ وأَن } اى بان { اقيموا الصلاة واتقوه } تعالى فالاسلام رئيس الطاعات الروحانية والصلاة رئيس الطعات الجسمانية والتقوى رئيس ما هو من قبيل التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغى { وهو الذى اليه تحشرون } تجمعون يوم القيامة للحساب(3/462)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{ وهو الذى خلق السموات والارض } اى العلويات والسفليات وما فيهما { بالحق } حال من فاعل خلق اى قائما بالحق والحكمة { ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } يوم ظرف لمضمون جملة قوله الحق والواو بحسب المعنى داخل عليها والمعنى وامره المتعلق بكل شئ يريد خلقه من الاشياء فى حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من افراد الاحيان الحق اى المشهود له بالحقية المعروف بها { وله الملك يوم ينفخ فى الصور } لا ملك فيه لغيره ولو مجازا كما فى الدنيا { عالم الغيب والشهادة } اى هو عالم ما غاب وما شوهد { وهو الحكيم } فى كل ما يفعله { الخبير } بجميع الامور الجلية والخفية وفى الحديث « لما فرغ الله من خلق السموات والارض خلق الصور فاعطاه اسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره الى العرش متى يؤمر » قال ابو هريرة رضى الله عنه قلت يا رسول الله ما الصور قال « القرن » قلت كيف هو قال « عظيم والذى نفسى بيده ان عظم دائرة فيه كعرض السماء والارض » ويقال ان فيه من الثقب على عدد ارواح الخلائق قالوا ان النفخة ثلاث . اولاها نفخة الفزع فانهم اذا سمعوا النفخة يعلمون انهم يموتون يقينا ولم يبق من ايام الدنيا شئ فيأخذهم الفزع لاجل العرض والحساب والعذاب . والنفخة الثانية الصعق وهو موت الخلائق اجمعين حلا لا يبقى الا الله تعالى كل شئ هالك الا وجهه . والنفخة الثالثة نفخة البعث من القبور ومن النفخة الى النفخة اربعون عاما فعند موت جميع الخلائق تجعل ارواحهم فى الصور وليس من الانسان شئ الا يبلى الا عظما واحدا لا تأكله الارض ابدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ويجمع الله ما تفرق من اجساد الناس من بطون السباع وحيوانات الماء وبطن الارض وما اصاب النيران منها بالحرق والمياه بالغرق وما ابلته الشمس وذرته الرياح وذلك بعدما انزل ماء من تحت العرش يقال له الحيوان فتمطر السماء اربعين سنة حتى يكون من الفوق اثنى عشر ذراعا ثم يأمر الله الاجساد فتنبت كنبات البقل فاذا جمعها واكمل كل بدن منها ولم يبق الا الارواح يحيى حملة العرش ثم يحيى جبرائيل وميكائيل واسرافيل فينفخ فى الصور فتخرج الارواح من ثقب الصور كامثال النحل قد ملأت ما بين السماء والارض فيقول الله تعالى ليرجعن كل روح الى جسده فتدخل الارواح فى الارض الى الاجساد ثم تدخل فى الخياشيم فتمشى فى الاجساد مشى السم فى اللديغ ثم تنشق الارض فاول من يخرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الامة شبابا كلهم ابناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية سراعا الى ربهم هذا فى المؤمنين المخلصين .(3/463)
واما الكافرون فيقولون هذا يوم عسير فيوقفون حفاة عراة مقدار سبعين عاما لا ينظر الله اليهم فتبكى الخلائق حتى تنقطع الدموع ثم تدمع دما حتى يبلغ منهم الاذقان ويلجمهم ثم يفعل الله فيهم ما يشاء فعليك بالاسلام الحقيقى والتسليم حتى تنجو وهو ترك الوجود كالكرة فى ميدان القدر مستسلما لصولجدان القضاء المجارى احكام رب العالمين وهو انما يحصل بمحض فضل الله تعالى لكن الانبياء والاولياء وسائط : كما اشار اليه صاحب المثنوى فقال
سازد اسرافيل روزى ناله را ... جان دهد بوسيده صد ساله را
اوليارا دردرون هم نغمها ست ... طالبانرا زان حياة بى بهاست
تشنود آن تغمهارا كوش حس ... كزستمها كوش حس باشد نجس
هين كه اسرافيل وقتند اوليا ... مرده را زيشان حياتست ونما
تغمهاى اندرون اوليا ... اولا كويد كه اى اجزاى لا
هين زلاى نفى سرها بر زنيد ... اين خيال و وهم يكسو افكنيد
اى همه بوسيده دركون وفساد ... جان باقيان نروئيد ونزاد(3/464)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
{ واذ قال ابراهيم لابيه آزر } اعلم ان ابراهيم عليه السلام لما سلم قلبه للعرفان ولسانه لاقامة البرهان على فساد طريق اهل الشرك والطغيان وسلم بدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ثم انه سأل ربه وقال { واجعل لى لسان صدق فى الآخرين } وجب فى كرم الله تعالى انه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه فاجاب دعاءه وجعل جميع الطوائف واهل الاديان والملل معترفين بفضله حتى ان المشركين ايضا يعظمونه ويفتخرون بكونهم من اولاده ولما كانوا معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجه على مشركى العرب اى واذكر يا محمد لاهل مكة وقت قول ابراهيم لابيه آزر اى مو بخاله على عبادة الاصنان فان ذلك مما يبكتهم وآزر عطف بيان لابيه وهو تارح بفتح الراء وسكون الحاء المهملة علمان لاب ابراهيم كاسرائيل ويعقوب او آزر لقبه وتارح اسم له وكان من قرية من سواد الكوفة ياقل لها كوثى { أتتخذ اصناما آلهة } اى أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الانكار الى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وانما اريد صيغة الجمع باعتبار الوقوع { انى اريك وقومك } الذين يتبعونك فى عبادتها { فى ضلال } عن الحق { مبين } اى بين كونه ضلالا لا اشتباه فيه . والرؤية اما علمية فالظرف مفعولها الثانى واما بصرية فهو حال من المفعول والجملة تعليل للانكار والتوبيخ ثم اعلم ان عبادة الاصنام كفر فدلت الآية على ان آزر كان كافرا وذلك لا يقدح فى شأن نسب نبينا صلى الله عليه وسلم واما قوله عليه اسلام « لم ازل انقل من اصلاب الطاهرين الى ارحام الطاهرات » فذلك محمول على انه ما وقع فى نسبه من ولد من الزنى ونكاح اهل الجاهلية صحيح كما يدل عليه قوله عليه السلام « ولدت من نكاح لا من سفاح » اى زنى وقوله « لما خلق الله تعالى آدم اهبطنى فى صلبه الى الارض وجعلنى فى صلب نوح فى السفينة وقذفنى فى صلب ابراهيم ثم لم يزل تعالى ينقلنى من الاصلاب الكريمة والارحام حتى اخرجنى بين اوبى لم يلتقيا على سفاح قط » وروى ان حواء لما وضعت شيتا انتقل النور المحمدى من جبهتها الى جبهته ولما كبر وبلغ مبلغ الرجال اخذ آدم عليه العهود والمواثيق ان لا يودع هذا السر الا فى المطهرات المحصنات من النساء ليصل الى المطهرين من الرجال فانتقل ذلك النور الى يانش ويقال انوش ثم الى قنان ثم الى مهلائيل ثم الى يرد ثم الى خنوخ على وزن ثمود وهو ادريس عليه السلام ويقال اخنوخ ثم الى متوشلح ثم الى لمك ثم الى نوح عليه السلام ثم الى سام ابو العرب ثم الى رافخشذ ثم الى شالخ ثم الى عابر على وزن ناصر ويقال عبير على وزن جعفر ثم الى فالخ ويقال فاغل ثم الى ارغو ويقال راغو ثم الى شارو ثم الى ناخود ثم الى تارح وهو آزر ثم الى ابراهيم عليه السلام ثم الى اسمعيل عليه السلام وفيه لغة اخرى وهى اسمعين بالنون على ما حكاه النوى ثم الى قندار ثم الى حمل ثم الى النبت ثم الى سلامان ثم الى يشجب على وزن ينصر ثم الى يعرب على وزن ينصر ايضا ثم الى الهميسمع ثم الى اليسع ثم الى ادد ثم الى اد والى هنا اختلف فى اسماء اهل النسب بخلاف ما بعده ثم الى عدنان ثم الى معد ثم الى نزار ثم الى مضر ثم الى الياس بفت حالهمزة فى الابتداء والوصل وقيل بكسر الهمز ضد الرجاء ثم الى مدركة ثم الى خزيمة ثم الى كنانة ثم الى النضر ثم الى مالك ثم الى فهر ثم الى غالب ثم الى لوى ثم الى كعب ويجتمع عمر رضى الله عنه مع النبى عليه السلام فى النسب فى كعب ثم الى مرة ويجتمع ابو بكر مع النبى عليه السلام فى النسب فى مرة ثم الى كلاب ثم الى قصى ثم الى عبد مناف ثم الى هاشم ثم الى عبد المطلب ثم الى عبدالله اب السر المصون والدر المكنون محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يرض بعض اهل العلم بما اشتهر بين الناس من عبادة قريش صنما استدلالا بقوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام(3/465)
{ واجنبنى وبنى ان نبعد الاصنام } فى سورة ابراهيم وقوله تعالى فى حق ابراهيم { وجعلها كلمة باقية فى عقبه } فى حم الزخرف والجواب ان الآية الاولى تدل بظاهرها على الابناء الصلبية ولو سلم دلالتها على الاحفاد ايضا كما تدل على كل ولد من ذريته . ومعنى الآية الثانية وجعل الله كلمة التوحيد كلمة باقية فى نسله وذريته على انه لا تخلو سلسلة نسبه عن اهل التوحيد والايمان فلا تدل على ايمان كل اعقابه واحفاده وهو اللائح بالبال والله اعلم بحقيقة الحال
والاشارة فى الآية ان الله تعالى اظهر قدرته فى اخراج الحى من الميت بقوله { واذا قال ابراهيم لابيه آزر أتتخذ اصناما آلهة } دون الله اذ الاصل منهمك فى الجحود لموت قلبه والنسل مضمحل فى الشهود لحياة قلبه والاصنام ما يبعد من دون الله { انى اراك وقومك فى ضلال مبين } بما ارانى الله ملكوت الاشياء كما فى التأويلات النجمية ومن بلاغات الزمخشرى كم يحدث بين الخبيثين ابن لا يؤبن والفرث والدم يخرج من بينهما اللبن : قال السعدى
جو كنعانرا طبيعت بى هنر بود ... بيمبر زاد كى قدرش نيفزود
هنر بنماى اكر دارى نه كوهر ... كل ازخارست وابراهيم از آزر
وقال [ خاكستر اكرجه نسب عالى دار كه آتش جوهر علويست وليكن بنفس خودجون هنرى ندارد باخاك برابراست قيمت شكرنه ازنى است كه آن خاصيت وى است ] فظهر ان الله تعالى من شأنه القديم اخراج الحى من الميت ولا يختص به نسب وكذا امر العكس ومن الله التوفيق(3/466)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{ وكذلك نرى ابراهيم } ذلك اشارة الى الاراءة التى تضمنها قوله نرى لا الى اراءة اخرى يشبه بها هذه الاراءة كما يقال ضربته كذلك اى هذا الضرب المخصوص والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الاشارة من الفخامة . والمعنى كذلك التبصير نبصره عليه السلام { ملكوت السموات والارض } ارى ربوبيته تعالى وما لكيته لهما وسلطانه القاهر عليهما وكونهما بما فيهما مربوبا ومملوكا له تعالى لا تبصيرا آخر ادنى منه والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهر والاظهر مختص بملك الله عز سلطانه وهذه الاراءة من الرؤية البصرية المستعارة للمعرفة ونظر البصيرة اى عرفناه وبصرناه وصيغة الاستقبال حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها فان قيل رؤية البصيرة حاصلة لجميع الموحدين كرؤية البصر ومقام الامتنان يأبى ذلك والجواب انهم وان كانوا يعرفون اصل دليل الربوبية الا ان الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى فى كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب اجناسبها وانواعها واشخاصها واحوالها مما لا يحصل الا لاكابر الانبياء ولهذا كان عليه السلام يقول فى دعائه ( ارنا الاشياء كما هى )
قال فى التأويلات النجمية اعلم ان لكل شئ من العالم ظاهرا . يعبر عنه تارة بالجسمانى لما له من الابعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق ولتحيزه وقبول القسمة والتجزى . وتارة بالدنيا لدنوها الى الحسن . وتارة بالصورة لقبول التشكل ولادراكه بالحس . وتارة بالشهادة لشهوده فى الحس . وتارة بالملك لتملكه والتصرف فيه بالحس . وباطنا يعبر عنه تارة بالروحانى لخلوه عن الابعاد الثلاثة وعن التحيز والتجزى فى الحس . وتارة بالآخرة لتأخره عن الحس . وتارة بالمعنى لتعريه عن التشكل وبعده عن الحس . وتارة بالغيب لغيبوبته عن الحس . وتارة بالملكوت لملاك عالم الملك والصورة به فان قيام الملك بالملكوت وقيام الملكوت بقدرة الحق كما قال الله تعالى { فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ واليه ترجعون } اى من طريق الملكوت والملكوت من الاوليات التى خلقها الله تعالى من لا شئ بامركن اذا كان الله ولم يكن معه شئ يدل عليه قوله { او لم ينظروا فى ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شئ } فنبه على ان الملكوت لم يخلق من شئ وما سواه خلق من شئ وقد سمى الله تعالى ما خلق بالامر امرا وما خلق من الشئ خلقا فقال { ألا له الخلق والامر } فالله تعالى ارى ابراهيم ملكوت الاشياء والآيات المودعة فيها الدالة على التوحيد انتهى وقد اطلق العلماء الملك على ما يدرك بالبصر والملكوت على ما يدرك بالبصيرة فالملكوت لا ينكشف لارباب العقول بل لاصحاب القلوب فان العقل لا يعطى الا الادراك الناقص بخلاف الكشف وتلك المكاشفة لا تحصل الا لاهل المجاهدة فانها ثمرة المجاهدة وهى مما يعز منا له جدا اللهم اجعلنا من اهل العيان دون السامعين للاثر { وليكون من الموقنين } اللام متعلقة بمحذوف مؤخر والجملة اعتراض مقرر لما قبلها اى ليكون من زمرة الراسخين فى الايقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور لا لامر آخر فان الوصول الى تلك الغاية القاصية كمال مترتب على ذلك التبصير لا ععينه وليس القصر لبيان انحصار فائدته فى ذلك كيف لا وارشاد الخلق والزام المشركين من فوائده بل لبيان انه الاصل الاصيل والباقى من مستتبعاته(3/467)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{ فلما جن عليه الليل } اى ستره بظلامه { رأى كوكبا } جواب لما فان رؤيته انما تحقق بزوال نور الشمس عن الحس وهذا صريح فى انه لم يكن فى ابتداء الطلوع بل كان غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيق انه كان قريبا من الغروب قيل كان ذلك هو الزهرة وقيل هو المشترى وكلاهما من الكواكب السبعة السيارة { قال } كأنه قيل فماذا صنع عليه السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الموافقة مع الخصم { هذا ربى } وكان ابوه وقومه يعبدون الاصنام والكواكب والمستدل على فساد قول يحكيه على رأى خصمه ثم يكر عليه بالابطال { فلما افل } اى غرب { قال لا احب الآفلين } اى الارباب المنتقلين من مكان الى مكان المتغيرين من حال الى حال المحتجبين بالاستار فانهم بمعزل عن استحقاق الربوبية قطعا(3/468)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{ فلما رأى القمر بازغا } اى مبتدئا فى الطلوع اثر غروب الكوكب { قال هذا ربى فلما افل } كما افل النجم { قال لئن لم يهدنى ربى } الى جنابه { لأكونن من القوم الضالين } تعريض لقومه بانهم على ضلال ولعله عليه السلام كان اذ ذاك فى موضع كان من جانبه الغربى جبل شامخ يستتر به الكواكب والقمر وقت الظهر من النهار او بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وافقه الشرقى مكشوف والا فطلوع القمر بعد افول الكوكب ثم افوله قبل طلوع الشمس مما لا يكاد يتصور(3/469)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
{ فلما رأى الشمس بازغة } اى مبتدئة فى الطلوع { قال هذا } الجرم المشاهد { ربى هذا اكبر } من الكوكب والقمر وهو تأكيد لما رامه من اظهار النصفة بقوله { لاكونن من الضالين } { فلما افلت } كما افل الكوكب والقمر وقويت عليهم الحجة ولم يرجعوا { قال } مخاطبا للكل صادعا بالحق بين اظهرهم { يا قوم انى بريئ مما تشركون } بالله تعالى من الاصنام والاجرام المحتاجة الى محدث فقالوا له ما تعبد قال(3/470)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{ انى وجهت وجهى } اى اخلصت دينى وعبادتى وجعلت قصدى { للذى فطر السموات والارض } اى لله الذى خلقهما { حنيفا } اى مائلا عن الاديان الباطلة كلها الى الدين الحق ميلا لا رجوع فيه { وما انا من المشركين } به تعالى فى شئ من الافعال والاقوال وهذه حال من كملت صقالة مرآة قلبه عن طبع الطبع وتنزهت عن ظلمة هوى النفس وشهواتها فانه لا يلتفت الى الاجرام والاكوان بل الى اليمين والشمال لان شوق الخلة الى الحضرة نصبه فى محاذاة ذاته المقدسة عن الجهة : قال فى المثنوى
آفتاب از امر حق طباخ ماست ... ابلهى باشد كه كوثيم اوخداست
آفتابت كر بكيرد جون كنى ... آن سياهى زوتوجون بيرون كنى
نى بدركاه خدا آرى صداع ... كه سياهى را ببرداده شعاع
كركشندت نيم شب خورشيدكو ... تابنالى يا امان خواهى ازو
حادثات اغلب بشب واقع شود ... وان زمان معبود تو غائب شود
سوى حق كرر استانه خم شوى ... وارهى از اختران محرم شوى(3/471)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
{ وحاجه قومه } اى جادلوه فى دينه وهددوه بالاصنام ان تصيبه بسوء ان تركها { قال أتحاجونى } بنون ثقيلة اصله أتحاجوننى بنونين اولاهما نون الرفع والثانية نون الوقاية فاستثقل اجتماعهما فادغم الاولى فى الثانية اى أتجادلوننى { فى الله } اى فى شأنه تعالى ووحدانيته { وقد هدين } اى والحال ان الله تعالى هدانى الى الحق { ولا اخاف ما تشركون به } اى ما تشركون به تعالى من الاصنام ان يصيبنى بسوء لعدم قدرتها على شئ { الا ان يشاء ربى شيأ } استثناء متصل والمستثنى منه وقت محذوف والتقدير لا اخاف معبوداتكم فى وقت من الاوقات الا وقت مشيئته تعالى شيأ من اصابة مكروه بى من جهتها وذلك انما يكون من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم فيه اصلا { وسع ربى كل شئ علما } كأنه تعليل للاستثناء اى احاط بكل شئ علما فلا يبعد ان يكون فى علمه تعالى ان يحيق به مكروه من قبلها بسبب من الاسباب لا بالطعن فيها { أفلا تتذكرون } اى أتعرضون عن التأمل فى ان آلهتكم جمادات غير قادرة على شئ ما من نفع ولا ضر فلا تتذكرون انها غير قادرة على اضرارى(3/472)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
{ وكيف اخاف ما اشركتم } بالله من الاصنام وهى لا تضر ولا تنفع والاستفهام انكار الوقوع ونفيه بالكلية { ولا تخافون انكم اشركتم بالله } حال من ضمير اخاف بتقدير مبتدأ اى وكيف اخاف انا ما ليس فى حيز الخوف اصلا وانتم لا تخافون غاثلة ما هو اعظم المخوفات واهولها وهو اشراككم بالله الذى ليس كمثله شئ فى الارض ولا فى السماء ما هو من جملة مخلوقاته وانما عبر عنه بقوله { ما لم ينزل به } اى باشراكه { عليكم سلطانا } اى حجة وبرهانا على طريقة التهكم مع الايذان بان الامور الدينية لا يعول فيها الا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى { فأى الفريقين احق بالامن } أنحن ام انتم قال المولى ابو السعود المراد بالفريقين الفريق الآمن فى محل الأمن والفريق الآمن فى محل الخوف { ان كنتم تعلمون } من احق به فاخبرونى(3/473)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{ الذين آمنوا } اى احد الفريقين الذين آمنوا { ولم يلبسوا ايمانهم } اى لم يخلطوه { بظلم } اى بشرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون انهم يؤمنون بالله تعالى وان عبادتهم للاصنام من تتمات ايمانهم واحكامه لكونها لاجل التقريب والشفاعة كما قالوا { ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى } وهذا معنى الخلط { اولئك لهم الأمن } فقط من العذاب { وهم مهتدون } الى الحق ومن عداهم فى ضلال مبين(3/474)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{ وتلك } اشارة الى ما احتج به ابراهيم على قومه من قوله { فلما جن } الى قوله { وهم مهتدون } { حجتنا } الحجة عبارة عن الكلام المؤلف للاستدلال على الشئ { آتيناها ابراهيم } اى ارشدناه اليها او علمناه اياها وهو حال من حجتنا لاصفة لانها معرفة بالاضافة { على قومه } متعلق بحجتنا
والاشارة ان محجة السلوك الى الله تعالى انما هى تحقق بالآيات التى هى افعاله وهذه مرقاة لهم وهى الرتبة الاولى ثم شهود صفاته باراءته لهم وهى الرتبة الثانية ثم التحقق بوجوده وذاته عند التجلى لاسرارهم وهذا مبدأ الوصول ولا غاية له فقوله وتلك اى اراءة الملكوت وشواهد الربوبية فى مرآة الكواكب وصدق التوجه الى الحق والاعراض والتبرى مما سواه والخلاص من شرك الانانية والايمان الحقيقى والايقان بالعيان آتيناها ابراهيم واريناه بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه { نرفع } الى { درجات } اى رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة { من نشاء } رفعه كما رفعنا درجات ابراهيم حتى فاق فى زمن صباه شيوخ اهل عصره واهتدى الى ما لم يهتد اليه الا اكابر الانبياء عليهم السلام
داد حق را قابليت شرط نيست ... بلكه شرط قابليت داد اوست
{ ان ربك حكيم } فى كل ما فعل من رفع وخفض { عليم } بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة ثم ان المقصود من المباحث الجارية بين ابراهيم وبين قومه انما هو الزام القوم وارشادهم الى طريق النظر والاستدلال وتنبيههم على ضلالهم فى امر دينهم كما هو المختار عند اجلاء المفسرين وعلى هذا المسلك جريت فى تفسير الآيات كما وقفت وقال بعضهم المقصود مما حكى الله عن ابراهيم من الاستدلال على وحدانية الله تعالى وابطال الوهية ما سواه نظره واستدلاله فى نفسه وتحصيل المعرفة لنفسه فيحمل على ان ذلك فى زمان مراهقته واول اوان بلوغه وان المراد بالملكوت الآيات قال الحدادى وهو الاقرب الى الصحة
قال الكاشفى فى تفسيره الفارسى { وكذلك } وجنانكه بدو نموده بوديم كمراهئ قوم اورا همجنان { نرى ابراهيم } بنموديم ابراهيم را { ملكوت السموات والارض } عجائب وبدائع آسمانها وزمينها ازذروه عرش تاتحت الثرى بروى منكشف ساخته تاستدلال كندبدان در قدرت كامله حق تعالى { وليكون من الموقنين } وتا باشد ازبى كمانان يا موفق بود در علم استدلال در معالم آورده كه نمرود بن كنعانكه بادشاهى روى زمين تعلق بدوداشت درشهر بابل نشستى شبى در واقعه ديدكه كوكبى اذا فق آن بلده طلوع نمود كه در شعشه جمال اونور آفتاب وماه نابود كشت ازغايت فزع بيدارشد وكاهنان وحكماء مملكت تعبير اين واقعة برين وجه كردندكه درين سال بولايت بابل مولودى حجسته طالع ازخلو تخانة عدم بفضاء صحراى وجود خرامدكه هلاك تو واهل مملكت تو بدودست او باشد وهنوز اين مولود از مستقر صلب بمستودع رحم نييوسته نمرود بفرمود تاميان زنان و شوهران تفريق كردند وبر هزده يكى برايشان مؤكل ساخت وآزررا كه يكى از محرمان ومقربان نمرود بود شبى بازن خود او فى بنت نمر بنهان زمؤكلان خلوت دست داد وحامله شد وبامدادش را كاهنان بانمرود كفتند امشب آن كودك برحم بيوسته ىست نمرود خثم كرفته بفرمود تابرهر حامله بكى مؤكل ساختند تا اكر بسر بزايد بكشند زنانى كه در تفحص احوال حامله بودند جون مادر ابراهيم را اثر حمل ظاهر نبود ازو دركذشتند وديكر كسى بدو التفات نكرد تاوقتى كه وضع حمل نزديك رسيد او فى ترسيدكه اكربسرى زايدنا كاه خبر بكسان نمرود رسد فى الحال اورابكشند ببهانه ازشهر بيرون رفت وغارى درميان كوه نشان داشت دران غار ابراهيم را بزاد ودر خرقه بيجيد وهمانجا كذاشته درغار بسنك استوار كرد وآزرراكه ازحمل خبر داشت كفت كه ازترس كما شتكان نمرود بصحرا رفتم وبسرى بزادم وفى الحال بمرد در خاكش دفن كردم وبازكشتم آزر باور كرد واوفى روز ديرك باغار آمد ديدكه ابراهيم انكشتان خودرا ازيكى شير واز ديكرى عسل بيرون ميكشد ومى نوشد او فى جون اين حال بديد خوش وقت شد وباشهر مراجعت نمود : القصه ابراهيم جون شير تر بيت از بستان عنايت الهى نوشيد بروزى جندان مى باليدكه كودك ديكر درماهى وبما هى جندان بزرك ميشدكه ديكرى درسالى(3/475)
جو ماه نوكه باروى دل افروز ... بود زاينده نورش روز تاروز
جون بانزده ماهه شد باجوانان بانزده ساله مقابل كشت وازخانه بيرون آمد وكفته اند هفت سال باسيزده سال ياهفتده سال درغار بود برهر تقدير جون ابراهيم بزرك شد او فى بآزر كفت كه بسرتو آنروز خبر مرك او بدروغ دادم جوانى رسيده است درغايت خوب رويى ونيكو خويى بس آزررا بغار آورد وابراهيم را بوى نمود آزر بجمال بسر خوش آمد وبا او كفت اين را ازغار بخانه آوركه بملازمت نمرود بريم آزر برفت واوفى ازغار بدر آوردنماز شام بود در بايان غار كلهاى اسب واشتر ورمهاى كوسفند جمه بودند ابراهيم ازمادر برسيده هر آيينه اين هارا برورد كارى خواهد بودكه آفريده وروزى ميدهد يس ما دررا كفت كه هيج مخلوقى را ازخالفى جاره نيست آفريده كارا وباشد وبمدد تربيت يابد برمورد كار من كيست مادرش كفت من بروردكار توام ابراهيم كفت بروردكار توكيست كفت بدرتو ابراهيم كفت خداى او كيست كفت نمرود كفت خداى نمرود كيست مادرش بانك بر ابراهيم زدكه مثل اين سخنان مكوكه خطر عظيم دارد در زمان نمرود بعضى ستاره وآفتاب وماه مى برسيتدند وبرخى بت برست بودند وجمعى برستش نمرود مى كردند ابراهيم بامادر بشهر روانه شد(3/476)
{ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } بس بعضى كه ستاره برست بودندى روى بوى سجده كردند { قال هذا ربى } اى اينست برورد كار من بر سبيل استفهام يا بزعم آن قوم { فلما افل قال لا احب الآفلين } بس قدرى ديكر راه فتند وشب جهاردهم بودماه طبق سمين بر كناره خوان سبز فلك نمودار شد { فلما رأى القمر بازغا } جمعى ماه برستان بيش وى بسجده درفتادند { قال هذا ربى فلما افل } يعنى ازخط نصف النهار بجانب مغرب ميل كرد { قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين } بس از آنجا دركذشتند ونزديك شهر رسيدند آفتاب ابتداء طلوع كرد جمعى متوجه اوشده عزم سجود كردند { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم انى برئ مما تشركون انى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض حنيفا } درحالتى كه من مائلم ازهمه اديان بدين توحيد { وما انا من المشركين } در تفسير منير مذ كوراست كه جون ابراهيم عليه السلام بشهر در آمد اورا بديدن نمرود بردند اومردى ديدكه كريه منظر وابراهيم اوراديد برتختى نشيته وغلامان ماه منظر وكنيز ان برى بيكر كرد تخت او صف زده ازمادر برسيدكه اين جه كس است كه مرا بدين او آوريده آيد كفتند خداى همه كس ىست برسيده اين ملازمان بر حوالئ تخت كيانند كفت آفريدكان اويند ابراهيم تبسم فرمود وكفت اى مادر جكونه است كه اين خداى شماديكر انرا ازخود خوبتر آفريده است بايستى كه اوزايشان خوبتر بودى كذا فى ذلك التفسير للكاشفى مع اختصار(3/477)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{ ووهبنا له } الهبة فى اللغة التبرع والعطية الخالية عن تقدم الاستحقاق والضمير لابراهيم عليه السلام { اسحق } ابنه الصلبى وهو ابن انبياء بنى اسرائيل { ويعقوب } ابن اسحق { كلا هدينا } اى كل واحد منهما وفقنا وارشدنا الى الفضائل الدينية والكلمات العلمية والعملية لا احدهما دون الآخر { ونوحا } منصوب بمضمر يفسره { هدينا من قبل } اى من قبل ابراهيم وعّد هداه نعمة على ابراهيم من حيث انه ابوه وشرف الوالد يتعدى الى الولد { و } هدينا { من ذريته } اى ذرية نوح ولم يرد من ذرية ابراهيم لانه ذكر فى جملتهم يونس ولوطا ولم يكونا من ذرية ابراهيم كذا قال البغوى وقال ابن الاثير فى جامع الاصول يونس من ذرية ابراهيم لانه كان من الاسباط فى زمن شعيب ارسله الله الى نينوى من بلد الموصل ولابعد فى عد لوط من ذرية ابراهيم ايضا باعتبار انه كان ابن اخيه هاجر معه الى الشام قال سعدى جلبى المفتى ومحيى السنة يعنى البغوى اوثق من ابن الاثير { داود } ابن ايشا { وسليمان } ابنه وسلسلتهما تنتهى الى يهودا بن يعقوب { وايوب } من اموص بن رازخ بن روم بن عيصا بن اسحق بن ابراهيم { ويوسف } ابن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم { وموسى } ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب { وهرون } هو اخو موسى اكبر منه بسنة وليس ذكرهم على ترتيب ازمانهم { وكذلك } اى كما جزيناهم برفعة الدرجات { نجزى المحسنين } على احسانهم على قدر استحقاقهم فاللام للجنس ويجوز ان تكون الكاف مقحمة واللام للعهد والمعنى ذلك الجزاء البديع الذى هو عبارة عما اوتى المذكورون من فنون الكرامات نجزيهم لا جزاء آخر ادنى منه فالمراد بالمحسنين هم المذكورون والاظهار فى موضع الاضمار للثناء عليهم بالاحسان الذى هو عبارة عن الاتيان بالاعمال الحسنة على الوجه اللائق الذى هو حسنها الوصفى المقارن لحسنها الذاتى(3/478)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
{ وزكريا } اى وهديناه ايضا وهو ابن اذن وسلسلته تنتهى الى سليمان { ويحيى } ابنه { وعيسى } ابن مريم ابنة عمران من بنى ماثان الذين هم ملوك بنى اسرائيل . وفى ذكره دليل على ان الذرية تتناول اولاد البنت فيكون الحسن والحسين من ذرية سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم مع انتسابهما اليه بالام ومن آذاهما فقد آذى ذريته عليه السلام فيقول الفقير فاذا كان النسب من طرف الام صحيحا معتبرا فالذى كانت سيادته من طرفها مقبول كما هو من طرف الاب اذ المعتبر انتهاء السلسلة الى الحسنين من أى جانب كان { والياس } ابن اخ هارون اخى موسى قال البغوى الصحيح ان الياس غير ادريس لان الله تعالى ذكره فى ولد نوح وادريس هو جد ابى نوح { كل } منهم { من الصالحين } الكاملين فى الصلاح وهو الاتيان بما ينبغى والتحرز عما لا ينبغى(3/479)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
{ واسمعيل } عطف على نوحا اى وهدينا اسماعيل بن ابراهيم كما هدينا نوحا ولعل الحكمة فى افراد اسمعيل عن باقى ذرية ابراهيم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ذرية اسماعيل والكائنات كانت تبعا لوجوده فما جعل الله اسماعيل تبعا لوجود ابراهيم ولا هدايته تبعا لهدايته لشرف محمد صلى الله عليه وسلم فلذا افرده عنهم واخره فى الذكر
آنجه اول شد بديد از جبيب غيب ... بود نور جان او بى هيج ريب
بعد ازان ان نور مطلق زد علم ... كشت عرش وكرسى ولوح وقلم
يك علم از نور باكش علم اوست ... يك علم ذريت آدم ازوست
{ واليسع } ابن اخطوب بن العجوز واللام زائدة لانه علم اعجمى { ويونس } ابن متى { ولوطا } بن هاران بن اخى ابراهيم { وكلا } منهم { فضلنا على العالمين } اى عالمى عصرهم بالنبوة لا بعضهم دون بعض(3/480)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
{ ومن آبائهم } من تبعيضية اى وفضلنا بعض آباء المذكورين كآدم وشيث وادريس اذ من الآباء من لم يكن نبيا ولا مفضلا مهديا { وذرياتهم } اى وبعض ذرياتهم من بعضهم كأولاد يعقوب ومن جملة ذرياتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما فى تفسير الحدادى وانما اراد ذرية بعضهم لان عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان ذرية بعضهم من كان كافرا { واخوالهم } كأخوة يوسف فى عصرهم ويحتمل ان يكون المراد بهم كل من آمن معهم فانهم كلهم دخلوا فى هداية الاسلام { واجتبيناهم } عطف على فضلنا اى اصطفيناهم { وهديناهم } اى ارشدناهم { الى صراط مستقيم } لا يضل من سلك اليه(3/481)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
{ ذلك } الهدى { هدى الله } الاضافة للتشريف { يهدى به من يشاء من عباده } وهم مستعدون للهداية والارشاد { ولو اشركوا } اى لو اشكر هؤلاء الانبياء مع فضلهم وعلو شأنهم { لحبط عنهم } اى بطل وذهب { ما كانوا يعملون } من الاعمال المرضية الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم واعمالهم اعمالهم وهذا غاية التوبيخ والترهيب للعوام والخواص لئلا يأمنوا مكر الله(3/482)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{ اولئك } المذكورون من الانبياء الثمانية عشر { الذين آتيناهم الكتاب } اى جنس الكتاب المتحقق فى ضمن اى فرد كان من افراد الكتب السماوية والمراد بايتائه التفهيم التام بما فيه من الحقائق والتمكين من الاحاطة بالجلائل والدقائق اعم من ان يكون ذلك بانزال ابتداء او بالايراث بقاء فان المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين { والحكم } اى الحكمة او فصل الخطاب على ما يقتضيه الحق والصواب { والنبوة } اى الرسالة { فان يكفر بها } اى بهذه الثلاثة { هؤلاء } اهل مكة { فقد وكلنا بها } اى امرنا بمراعاتها وفقنا للايمان بها والقيام بحقوقها { قوما ليسوا بها بكافرين } فى وقت من الاوقات بل مستمرون على الايمان بها وهم اصحاب النبى عليه السلام والباء صلة كافرين وفى بكافرين لتأكيد النفى(3/483)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{ اولئك } الانبياء المتقدم ذكرهم { الذين هدى الله } اى هداهم الله الى الحق والنهج المستقيم { فبهداهم اقتده } اى فاختص هداهم بالاقتداء ولا تفتد بغيرهم والمراد بهداهم طريقتهم فى الايمان بالله تعالى وتوحيده واصول الدين ودون الشرائع القابلة للنسخ فانها بعد النسخ لا تبقى هدى واحتج العلماء بهذه الآية على انه عليه السلام افضل جميع الانبياء عليهم السلام لان خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقة فيهم . فداود وسليمان كانا من اصحاب الشكر على النعمة . وايوب كان من اصحاب الصبر على البلية . ويوسف كان جامعا بينهما . وموسى كان صاحب المعجزات القاهرة . وزكريا . ويحيى . وعيسى . والياس كانوا اصحاب الزهد . واسماعيل كان صاحب الصدق فكل منهم قد غلب عليه خصلة معينة فجمع الله كل خصلة فى حبيبه عليه السلام لانه اذا كان مأمورا بالاقتداء لم يقصر فى التحصيل
هرجه بخوبان جهان داده اند ... قسم تونيكوتر ازان داده اند
هرجه بنازند بدان دلبران ... جمله تراهست زيادت بران
وفى التأويلات النجمية { اولئك الذين هداهم الله } بصفاته الى ذاته { فبهداهم اقتده } لا انهم سلكوا مسلكا غير مسلوك حتى انتهى سير كل واحد منهم الى منتهى قدر له كما اخبرت انى رأيت آدم فى السماء الدنيا ويحيى وعيسى فى السماء الثانية ويوسف فى السمءا الثالثة وادريس فى السماء الرابعة وهارون فى السماء الخامسة وموسى فى السماء السادسة وابراهيم فى السماء السابعة فاقتد بهم حتى تسلك مسالكهم الى ان تنتهى الى سدرة المنتهى وهو منتهى مقام الملائكة المقربين ثم يعجر بك الى المحل الادنى والمقام الارفع حتى تخرج من نفسك وتدنو اليه به الى ان تصل الى مقام قاب قوسين او ادنى مقاما لم يصل اليه احد قبلك لا ملك مقرب ولا نبى مرسل { قل } لكفار قريش { لا اسئلكم عليه } اى على القرآن { اجرا } اى جعلا من جهتكم كما لم يسأله من قبلى من الانبياء عليهم السلام وهذا من جملة ما امر بالاقتداء بهم فيه { ان هو } اى ما القرآن { الا ذكرى للعالمين } اى الاعظة وتذكير لهم من جهته سبحانه فلا يختص بقوم دون آخرين وعلى هذا جرى الاولياء من اهل الارشاد اذلا اجر للتعليم والارشاد اذ الاجر من الدنيا ولا يجوز طمع الدنيا لاهل الآخرة ولا لاهل الله تعالى وانما خدمة الدين مجردة عن الاغراض مطلقا(3/484)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{ وما قدروا الله حق قدره } اصل القدر السبر والحرز يقال قدر الشئ يقدره بالضم قدرا اذا سبره وحزره ليعلم مقداره ثم استعمل فى معرفة الشئ مقداره واحواله واوصافه فقيل لمن عرف شيأ هو يقدر قدره ولمن لم يعرفه بصفاته انه لا يقدر قدره ونصب حق قدره على المصدرية وهو فى الاصل صفة للمصدر اى قدره الحق وضميره يرجع الى الله تعالى واما ضمير الجمع فالى اليهود لما روى ان مالك بن الصيف من احبار اليهود ورؤسائهم خرج مع نفر الى مكة معاندين ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء وكان رجلا سمينا فاتى رسول الله بمكة فقال له عليه السلام انشدك بالذى انزل التوراة على موسى هل تجد فيها ان الله تعالى يبغض الحبر السمين قال نعم قال فانت الحبر السمين وقد سمنت من مأكلتك التى تطعمك اليهود ولست تصوم اى تمسك فضحك القوم فخجل مالك بن الصيف فقال غضبا ما انزل الله على بشر من شئ فلما رجع مالك الى قومه قالوا له ويلك ما هذا الذى بلغنا عنك أليس ان الله انزل التوراة على موسى فلم قلت ما قلت قال اغضبنى محمد فقلت ذلك قالوا له وانت اذا غضبت تقول على الله غير الحق وتترك دينك فاخذوا الرياسة والحبرية منه وجعلوهما الى كعب بن الاشرف فنزلت هذه الآية والمعنى ما عرفوه تعالى حق معرفته فى اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى فى ذلك بل اخلوا بها اخلالا فعبر عن المعرفة بالقدر لكونه سببا لها وطريقا اليها { اذ قالوا } منكرين لبعثة الرسل وانزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما { ما انزل الله على بشر من شئ } اى كتاب ولا وحى مبالغة فى انكار انزال القرآن اذ القائلون من اهل الكتاب كما مر آنفا { قل } لهم على طريق التبكيت والقام الحجر { من انزل الكتاب الذى جاء به موسى } يعنى التوراة حال كون ذلك الكتاب { نورا } بينا بنفسه ومبينا لغيره . بالفارسى [ روشناى دهنده ] { وهدى } بيانا { للناس } وحال كونه { تجعلونه قراطيس } اى تضعونه فى قراطيس مقطعة وورقات مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم وهى جمع قرطاس بمعنى الصحيفة { تبدونها } صفة قراطيس اى تظهرون ما تحبون ابداءه منها { وتخفون كثيرا } مما فيها كنعوت النبى عليه السلام وآية الرجم وسائر ما كتموه من احكام التوراة { وعلمتم } ايها اليهود على لسان محمد { ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم } وهو ما اخذوه من الكتاب من المعلوم والشرائع . فقوله علمتم حال من فاعل تجعلونه باضمار قد مفيد لتأكيد التوبيخ فان ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيع للابداء والاخفاء شناعة عظيمة فى نفسها ومع ملاحظة كونه مأخذا لعلومهم ومعارفهم اشنع واعظم { قل الله } اى انزله الله امره عليه السلام بان يجيب عنهم اشعارا بان الجواب متعين لا يمكن غيره تنبيها على انهم بهتوا وافحموا ولم يقدروا على التكلم اصلا { ثم ذرهم } اى دعهم واتركهم { فى خوضهم } اى فى باطلهم الذى يخوضون فيه اى يشرعون فلا عليك بعد الا التبليغ والزام الحجة { يلعبون } حال من الضمير الاول والظرف صلة ذرهم او يلعبون ويقال لكل من عمل ما لا ينفعه انما انت لاعب(3/485)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ وهذا } القرآن { كتاب انزلناه } وصفه به ليعلم انه هو الذى تولى انزاله بالوحى على لسان جبريل وليس تركيب الفاظه على هذه الفصاحة من قبل الرسول { مبارك } اى كثير الفائدة والنفع وكيف وقد احاط بالعلوم النظرية والعملية فان اشرف العلوم النظرية هو معرفة ذات الله وصفاته وافعاله واحكامه ولا يوجد كتاب يفيد معرفة هذه الامور مثل ما افاده القرآن . واما العلوم العملية فالمطلوب منها اما اعمال الجوارح واما اعمال القلوب وهى المسمى بعلم الاخلاق وتزكية النفس فانك لا تجد شيأ منهما مثل ما تجده فى القرآن العظيم
قال فى التأويلات النجمية { مبارك } على العوام بان يدعوهم الى ربهم . وعلى الخواص بان يهديهم الى ربهم . وعلى خواص الخواص بان يوصلهم الى ربهم ويخلقهم باخلاقه وفى كتاب المحبوب شفاء لما فى القلوب كما قيل
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ... وفيها شفاء للذى انا كاتمه
اين جه منشور كريمست كه ازهر شكنش ... بوى جان برور احسان وعطا مى آيد
اين جه انفاس روان بخش عبير افشانست ... كه ازو رائحه مسك خطامى آيد
{ مصدق الذى بين يديه } من التوراة لنزوله حسبما وصف فيها { ولتنذر ام القرى } عطف على ما دل عليه مباك اى للبركات ولانذارك اهل ام القرى فالمضاف محذوف والمراد بام القرى مكة وسميت بها لان الارض دحيت من تحتها فهى اصل الارض كلها كالام اصل النسل قال الكاشفى فى تفسيره الفارسى قرى جمع قرية است واورا ازقرا كرفته اند بمعنى جمع است بس هرجا كه مجتمعى باشد ازشهر وده انرا قريه توان كفت { ومن حولها } اهل الشرق والغرب
قال فى التأويلات النجمية ام القرى هى الذرة المودعة فى القلب التى هى المخاطب فى الميثاق وقد دحيت جميع ارض القالب من تحتها ومن حولها من الجوارح والاعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والاخلاق بان يتنوروا بانواره وينتفعوا باسراره ويتخلقوا باخلاقه { والذين يؤمنون بالآخرة } وبما فيها من انواع العذاب { يؤمنون به } اى بالكتاب لانهم يخافون العاقبة ولا يزال الخوف يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به { وهم على صلاتهم يحافظون } يعنى المؤمنون بالكتاب يداومون على الصلوات الخمس التى هى اشرف التكاليف والطاعات ولذا خصص محافظتها من بين سائر العبادات
وفى الآيات امور الاول ان المخلوق لا يقدر قدر الخالق ولا يدركه باعتبار كنه ذاته وتجرده عن التعينات الاسماتية والصفاتية
بخيال درنكنجد توخيال خود مرنجان ... فكل من عرف الله بآلة محلوقة فهو على الحقيقة غير عارف ومن عرفه بآلة قديمة كما قال بعضهم عرفت ربى بربى فقد عرف الله ولكن على قدر استعداده فى قبول فيض نور الربوبية الذى به عرف الله على قدره لانها بينت ذاته وصفاته فالذى يقدر الله حق قدره هو الله تعالى لا غيره(3/486)
كنه خردم درخور اثبات تونيست ... داننده ذات توبجزذات تونيست
ما للترات ورب الارباب والثانى ذم السمن كما عرف فى سبب النزول قال ابن الملك السمن المذموم ما يكون مكتسبا بالتوسع فى المأكل لا ما يكون خلقة وفى الحديث « ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة واقرأوا ان شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا » قال العلماء معنى هذا الحديث انه لا ثواب لهم واعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن فى موازين القيامة من لا حسنة له فهو فى النار قال القرطبى فى تذكرته وفيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما فى ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم بل يدل على تحريم كثرة الاكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن انتهى وفى الفروع ان الاكل فرض ان كان لدفع هلاك نفسه ومأجور عليه ان كان لتمكينه من صومه وصلاته قائما ومباح الى الشبع ليزيد قوته وحرام فوق الشبع الا لقصد قوة صوم الغد ولئلا يستحي ضيفه : قال السعدى قدس سره
باندازه خورزاد اكرمر دمى ... جنين برشكم آدمى ياخمى
ندارند تن بروان آكهى ... كه بر معده باشد زحكمت تهى
قال الامام السخاوى فى المقاصد الحسنة فى الحديث « ان الله يكره الحبر السمين » وفى التوراة ( ان الله ليبغض الحبر السمين ) وفى رواية ( ان الله يبغض القارئ السمين ) قال الشافعى رحمه الله ما افلح سمين قط الا ان يكون محمد بن الحسن فقيل له ولم قال لانه لا يفكر والعاقل لا يخلو من احدى حالتين اما ان يهمّ لآخرته ومعاده او لدنياه ومعاشه والشحم مع الهم لا ينعقد فاذا خلا من المعنيين صار فى حد البهائم بعقد الشحم ثم قال الشافعى كان ملك فى الزمان الاول كثير اللحم جدا فجمع المتطببين وقال احتالوا حيلة تخف عنى لحمى هذا قليلا فما قدروا فنقبو له رجلا عاقلا اديبا متطببا وبعثوه فاشخص اليه بصره وقال أيعالجنى ذلك الفتى قال اصلح الله اللمك انا رجل متطبب منجم دعنى انظر الليلة فى طالعك اى دواء يوافق فاشفيك فهدأ عليه فقال ايها الملك الامان قال لك الامان قال رأيت طالعك يدل على ان عمرك شهر فمتى اعالجك وان اردت بيان ذلك فاحبسنى عندك فان كان لقولى حقيقة فخل عنى والا فاقتص منى قال فحبسه ثم رفع الملك الملاهى واحتجب عن الناس وخلا وحده مغتما ما يرفع رأسه يعد الايام كلما انسلخ يوم ازدادغما حتى هزل وخف لحمه ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوما فبعث اليه فاخرجه فقال ما ترى فقال اعز الله الملك انا اهون على الله من ان اعلم الغيب والله ما اعرف عمرى فكيف اعرف عمرك انه لم يكن عندى دواء الا الهم فلم اقدر اجلب اليك الهم الا بهذه العلة فاذابت شحم الكلى فاجازه واحسن اليه والثالث ما فى قوله تعالى(3/487)
{ قل الله } من لطائف العبارات من اهل الاشارات قال فى التفسير الفارسى [ شيخ ابو سعيد ابو الخير قدس سره در كلمه { قل الله ثم ذرهم } فرموده كه الله بس وما سواه هوس وانقطع النفس وشيخ الاسلام فرموده كله { قل الله } دل سوى اوداد { ثم ذرهم } غير اورافرو كذار وشبلى بابعض اصحاب خود ميكفت كه عليك بالله ودع ما سواه ]
جون تفرقه دلست حاصل زهمه ... دلرا بيكى سبار وبكسل زهمه
فالآية باشارتها تدل على ان من اراد الوصول الى الله تعالى فلينقطع عما سواه فانه لعب ولهو واللاهى واللاعب ليس على شئ نسأل الله سبحانه ان يحفظنا من اشتغال بما سواه والرابع مدح القرآن وبيان فضيلته وفائدته قال احمد بن حنبل رأيت رب العزة فى المنام فقلت يا رب ما افضل ما تقرب به المتقربون اليك قال كلامى يا احمد قلت يا رب بفهم ام بغير فهم قال بهفم وبغير فهم والنظر الى المصحف عبادة برأسه وله أجر على حدته ما عدا اجر القراءة وعن حميد بن الاعرج قال من قرأ القرآن وختمه ثم دعا امن على دعائه اربعة آلاف ملك ثم لا يزالون يدعون له ويستغفرون ويصلون عليه الى المساء او الى الصباح فعلى العاقل ان يجتهد حتى يختم القرآن فى اوائل الايام الصيفية والليالى الشتائية ليستزيد فى دعائهم واستغفارهم وفى الحديث « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » وينبغى ان يقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يطلب عوضا ولا يقصد جزاء ولا شكورا بل يعلم للتقرب الى الله تعالى ويقتدى بالانبياء حيث قدم كل واحد منهم على دعوته قوله { لا أسألكم عليه اجرا } قال فى الاسرار المحمدية من اخذ الجراية ليتعلم فهى له حلال ولكن من تعلم ليأخذ الجراية فهى عليه حرام . وفيه ايضا لا يتخذ صحيفة القرآن اذا درست وقابة للكتب بل يمحوها بالماء وكان من قبلنا يستشفى بذلك الماء وينبغى لقارئ القرآن ان يجود ويحسن صوته وفى الحديث « ليس منا من لم يتغن بالقرآن وحسنوا القرآن باصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا » قيل اراد بالتغنى الاستغناء وقيل الترنم وترديد الالحان وهو اقرب عند اهل اللغة كذا فى الاسرار ويحكى عن ظهير الدين المرغينانى انه قال من قال لمقرئ زماننا احسنت عند قراءته يكفر كذا فى شرح الهداية لتاج الشريعة وقال فى البزازية من يقرأ القرآن بالالحان لا يستحق الاجر لانه ليس بقارئ قال الله تعالى { قرآنا عربيا غير ذى عوج } انتهى وسأل الحجاج بعض جلسائه عن ارق الصوت عندهم فقال احدهم ما سمعت صوتا ارق من صوت قارئ حسن الصوت يقرأ كتاب الله تعالى فى جوف الليل قال ذلك الحسن وقال آخر ما سمعت صوتا اعجب من ان اترك امرأتى ما خضا واتوجه الى المسجد بكيرا فيأتينى آت فيبشرنى بغلام فقال واحسناه فقال شعبة بن علقمة التميمى لا والله ما سمعت اعجب الى من ان اكون جائعا فاسمع خفخفة الخوان فقال الحجاج ابيتم يا بنى تميم الاحب الزاد والمقصود من هذه الحكاية بيان اختلاف مشارب الناس فمن احب الله وانس بكلامه وتجرد عن الاعراض وكان القارئ متحاشيا من الانغام الموسيقية والحان اهل الفسق قارئا على لحون العرب محسنا صوته فلا مجال للطعن فيه والدخل ظاهرا وباطنا والله اعلم(3/488)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{ ومن } استفهام مبتدأ اى لا احد { اظلم } خبره { ممن افترى على الله كذبا } مفعول افترى اى اختلق كذبا وافتعله فزعم انه تعالى بعثه نبيا كمسيلمة الكذاب والاسود العبسى او اختلق عليه احكاما كعمرو بن لحى وهو اول من غير دين اسماعيل عليه السلام ونصب الاوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة قال عليه السلام فى حقه ( رأيته يجر قصبه فى النار ) قال قتادة كان مسيلمة يسجع ويتكهن كما قال فى معارضة سورة الكوثر انا اعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر انا كفيناك المكابر والمجاهر فانظر كيف كان سافل الالفاظ والبنا فاسد المعانى والجنى فادعى النبوة وكان قد ارسل الى رسلو الله صلى الله عليه وسلم رسولين فقال عليه السلام { اتشهدون ان مسيلمة نبى } قالا نعم فقال عليه السلام { لولا ان الرسل لا تقتل لضربت اعناقكما } وفى الحديث « بينا انا نائم اتيت بخزائن الارض فوضع فى يدى سواران من ذهب فكبرا علىّ واهمانى فاوحى الى ان انفخهما فنفختهما فذهبا فاولتهما بالكذابين اللذين انا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة » قال القاضى وجه تأويلهما بالكذابين ان السوار كالقيد لليد يمنعها عن البطش فكذا الكذابان يقومان بمعارضة شريعته ويصدان عن نفاذ امرها قتل صاحب صنعاء وهو الاسود العبسى فى مرض موت النبى عليه السلام قتله فيروز الديلمى فلما بلغ خبر قتله النبى عليه السلام قال فاز فيروز وقتل صاحب اليمامة وهو مسيلمة فى عهد الصديق قتله الوحشى قاتل حمزة فلما قتله قال قتلت خير الناس فى الجاهلية وشر الناس فى اسلامى { او قال اوحى الى } من جهته تعالى { ولم يوح اليه } اى والحال انه لم يوح اليه { شئ } اصلا كعبد الله بن سعد بن ابى سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلت { ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين } فلما بلغ { ثم انشأناه خلقا آخر } قال عبد الله { فتبارك الله احسن الخالقين } تعجبا من تفصيل خلق الانسان فقال عليه السلام « اكتبها فكذلك نزلت » فشك عبدالله وقال لئن كان محمد صادقا اى فى قوله فكذلك نزلت لقد اوحى الى كما اوحى اليه ففى التحقيق انا اكون مثله ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فعلىّ ان ادعى نزول الوحى مثله فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين ثم رجع الى الاسلام قبل فتح مكة اذ نزل النبى عليه السلام بمرو { ومن } اى وممن { قال سأنزل مثل ما انزل الله } وهم المستهزئون الذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا { ولو ترى اذ الظالمون } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومفعول ترى محذوف لدلالة الظرف عليه اى ولو ترى الظالمين اذ هم .(3/489)
فالظالمون مبتدأ وما بعده خبره واذ مضاف الى الجملة والمراد بالظالمين الجنس فيدخل فيهم المتلبئة وغيرهم وجواب لو محذوف اى لو ترى الظالمين فى هذا الوقت لرأيت امرا عظيما { فى غمرات الموت } اى شدائده وسكراته . جمع غمرة وهى الشدة الغالبة من غمره الماء اذا علاه وغطاه { والملائكة } اى ملك الموت واعوانه من ملائكة العذاب { باسطوا أيديهم } بقبض ارواحهم كالمتقاضى الملظ اى كالغريم الملازم الملح الذى يبسط يده الى من عليه الحق ويعنفه علهي فى المطالبة ولا يمهله ويقول له اخرج الى ما لى عليك الساعة ولا ازال من مكانى حتى انزعه من كبدك وحدقتك او باسطوها بالعذاب قائلين { اخرجوا انفسكم } اى ارواحكم الينا من اجسادكم وهذا القول منهم تغليظ وتعنيف والا فلا قدرة لهم على الاخراج المذكور اواخر جوها من العذاب وخلوصا من ايدينا { اليوم } اى وقت الاماتة او الوقت الممتد بعده الى ما لا نهاية له { تجزون عذاب الهون } اى العذاب المتضمن لشدة واهانة والهون الهوان اى الحقارة { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } كاتخاذ الولد ونسبة الشريك وادعاء النبوة والوحى كذبا { وكنتم عن آياته تستكبرون } فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها وفى الحديث « ان المؤمن اذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر من الريحان وتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال لها ايتها النفس الطيبة اخرجى راضية مرضية ومرضيا عنك الى روح الله وكرامته فاذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها الى عليين وان الكافر اذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال لها أيتها النفس الخبيثة اخرجى ساخطة ومسخوطا عليك الى هوان الله وعذابه فاذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وان لها نشيجا اى صوتا ويطوى عليها المسح ويذهب بها الى سجين » كذا فى تفسير ابى الليث رحمه الله
والاشارة ان الذين يراؤن فى التأوه والزعقات واظهار المواجيد والحالات لهم من الله خطرات ونظرات وليس لهم منها نصيب الا الزفرات والحسرات والمتشبع بما لم يملك كلابس ثوبى زور وفى معناه انشدوا
اذا انسكبت دموع فى خدود ... تبين من بمى ممن تباكى
والذى نزل نفسه منزلة المحدثين واهل الاشارة ولم يلق الى اسرارهم خصائص الخطاب ولم تلهم نفوسهم بها والذين يتشدقون ويتفيهقون فى الكلام الذين يدعون انهم يتكلمون بمثل ما انزل الله من الحقائق والاسرار على قلوب عباده الواصلين الكاملين فكلهم من الظالمين وتظهر مضرة ظلمهم وافترائهم عند انقطاع تعلق الروح عن البدن واخراج النفس من القالب كرها لتعلقها بشهوات الدنيا ولذاتها وحرمانها من لذة الحقائق الغيبية والشهوات الاخروية اذا الملائكة يبسطون ايديهم بالقهر اليهم لنزع انفسهم بالهوان والشدة وهى متعلقة بحسب الافتراء والكذب واستحلاء رفعة المنزلة عند الخلق وطلب الرياسة باصناف المخلوقات فتكون شدة النزع والهوان بقدر تعلقها بها كما قال { اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } يعنى آياته المودعة فى انفسكم تعرضون عنها وتراؤن بما ليس لكم ولعل تعلق النفس يتقطع عن البدن بيوم او يومين او ثلاثة ايام وتعلقها عن اوصاف المخلوقات لا ينقطع بالسنين ولعله الى الحشر والكفار الى الابد وهم فى عذاب النزع بالشدة ابدا وهو العذاب الاليم والعذاب الشديد ومن نتائج هذه الحالة عذاب القبر فافهم جدا وحكى عن بعض العصاة انه مات فلما حفروا قبره وجدوا فيه حية عظيمة فحفروا له قبرا آخر فوجدوها فيه ثم كذلك قبر ابعد قبر الى ان حفروا نحوا من ثلاثين قبرا وفى كل قبر يجدونها فلما رأوا انه لا يهرب من الله هارب ولا يغلب الله غالب دفنوه معها وهذه الحية هى عمله : قال الحافظ(3/490)
كارى كنيم ورثه خجالت برآورد ... روزى كه رخت جان بجهان دكركشيم(3/491)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء وهو بمعنى المستقبل اى تجيئوننا وانما ابرز فى صورة الماضى لتحققه كقوله تعالى { أتى امر الله } والخطاب لكفار قريش لانها نزلت حين قالوا افتخارا واستخفافا للفقراء نحن اكثر اموالا واولادا فى الدنيا وما نحن بمعذبين فى الآخرة { فرادى } جمع فرد اى منفردين عن الاموال والاولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا { كما خلقناكم اول مرة } بدل من فرادى اى على الهيئة التى ولدتم عليها فى الانفراد او حال من ضمير فرادى اى مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غر لا بهما اى ليس بهم شئ مما كان فى الدنيا نحو البرص والعرج كذا فى القاموس وفى الخبر ( انهم يحشرون يوم القياة عراة حفاة غرلا ) قالت عائشة رضى الله عنها واسوءتاه الرجل والمرأة كذلك فقال عليه السلام « لكل امرى منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال الى النساء ولا النساء الى الرجال شغل بعضهم عن بعض » { وتركتم ما خولناكم } ما تفضلنا به عليكم فى الدنيا فشغلتم به عن الآخرة . والتخويل تمليك الخول اى الخدم والاتباع واحدهم خائل او الاعطاء على غير جزاء { وراء ظهوركم } ما قدمتم منه شيأ ولم تحملوا نقيرا بخلاف المؤمنين فانهم صرفوا همتهم الى العقائد الصحيحة والاعمال الصالحة فبقيت معهم فى قبورهم وحضرت معهم فى محفل القيامة فهم فى الحقيقة ما حضروا فرادى
جون ازنيجا وارهى انجاروى ... درشكر خانه ابد شاكر شوى
{ وما نرى معكم شفعاءكم } الاصنام { الذين زعمتم انهم فيكم شركاء } اى شركاء لله فى ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم { لقد تقطع بينكم } اى وقع التقطع بينكم كما يقال جمع بين الشيئين اى اوقع الجمع بينهما قال الكاشفى [ منقطع كشت آنجه ميان شمابود ازو صلت ومودت ] { وضل عنكم } اى بطل وضاع { ما كنتم تزعمون } انها شفعاؤكم فلم يقدروا على دفع شئ من العذاب عنكم اوانها شركاؤكم لله فى ربوبيتكم وهو الانسب لسياق النظم ألا ترى الى قوله تعالى { الذين زعمتم انهم فيكم شركاء } اعلم ان للانسان اعداء اربعة هى المال والاهل والاولاد والاصدقاء وهى لا تدخل فى القبر مع الميت فيبقى فريدا وحيدا منهم . واصدقاء اربعة هى كلمة الشهادة والصلاة والصوم وذكر الله وهى تدخل فى القبر وتشفع عند الله تعالى فتصحب الميت لا يبقى وحيدا فعلى العاقل ان يتفكر فى تجره وتفرده فيسعى فى تحصيل لباس له هو التقوى ومصاحب هو العمل الصالح وفى الحديث « ان عمل الانسان يدفن معه فى قبره فان كان العمل كريما اكرم صاحبه وان كان لئيما اسلمه وان كان عملا صالحا آنس صاحبه وبشره ووسع عليه قبره ونوره وحماه من الشدائد والاهوال والعذاب والوبال وان كان عملا سيئا فزع صاحبه وروّعه واظلم عليه قبره وضيقه وعذبه وخلى بينه وبين الشدائد والاهوال والعذاب والوبال »(3/492)
قال اليافعى وقد سمت عن بعض الصالحين فى بعض بلاد اليمن انه لما دفن بعض الموتى وانصرف الناس سمع فى القبر صوتا ودقا عنيفا ثم خرج من القبر كلب اسود فقال له الشيخ الصالح ويحك ايش انت فقال انا عمل الميت فقال فهذا الضرب فيك ام فيه قال بل فى وجدت عنده سورة يس واخواتها فحالت بينى وبينه وضربت وطردت فانظرانه لما قوى عمله الصالح غلب على عمله الطالح وطرده عنه بكرم الله تعالى ولو كان عمله القبيح اقوى لغلب عليه وافزعه وعذب : قال السعدى
غم وشادمائى نماند وليك ... جزاى عمل ما ندونام نيك
مكن تكيه برملك وجاه وحشم ... كه بيش ازتو بودتس وبعد ازتوهم
قال القشيرى { ولقد جئتمونا فرادى } اى دخلتم الدنيا بخرقة وخرجتم منها بخرقة ألا وتلك الخرقة ايضا لبسه وما دخلت الا بوصف التجرد وما خرجت الا بحكم التجرد ثم الاثقال والاوزار والاعمال والاوصال لا يأتى عليها حصر ولا مقدار فلا مالكم اغنى ولا حالكم يدفع عنكم ولا شفيع يخاطبنا فيكم ولقد تفرق وصلكم وتبدد شملكم وتلاشى ظنكم وخاب سعيكم انتهى كلام القشيرى
والاشارة ان المجيء الى الله يكون بالتجريد ثم بالتفريد ثم بالتوحيد فالتجريد هو التجرد عن الدنيا وما يتعلق بها والتفريد هو التفرد عن الدنيا والآخرة رجوعا الى الله خاليا عن التعلق بهما كما كان فى بدء الخلقة روحا مجردا عن تعلقات الكونين كقوله { لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم اول مرة } يعنى اول خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب فانه خلقة ثانية كما قال { ثم انشأناه خلقا آخر } وقال { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } فللعبد فى السير الى لاله كسب وسعى بالتجريد والتفريد عن الدنيا والآخرة كما قال { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } يعنى من تعلقات الكونين { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء } يعنى الاعمال والاحوال التى ظننتم انها توصلكم الى الله فاذا وصل العبد الى سرادقات العزة انتهى سيره كما انتهى سير جبرائيل ليلة المعراج عند سدرة المنتهى وهو منتهى سير السائرين من الملك والانس والتوحيد هو التوحد لقبول فيض الوحدانية عن التجلى بصفات الواحدية لتوصل العبد بجذبة ارجعى الى ربك الى مقام الوحدة ولو لم تدركه العناية الزلية بجذبات الربوبية لانقطع عن السير فى الله بالله وبقى فى السدرة وهو يقول وما منا الا له مقام معلوم فافهم كذا فى التأويلات النجمية(3/493)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{ ان الله فالق الحب } الفلق الشق بابانة . والحب جمع حبة وهى اسم لجميع البزور المقصودة بذواتها كالبر والشعير والذرة ونحوها والمعنى شاق الحب بالنبات اى يشق الحبة اليابسة فيخرج منها ورق اخضر { والنوى } واحدتها نواة وهى الشئ الموجود فى داخل الثمر مثل نواة الخوج والمشمش والتمر ونحوها والمعنى شاق النوى بالشجر اى يشق النواة الصلبة فيخرج شجرة ذات اورقا واغصان { يخرج الحى من الميت } بيان لما قبله اى يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحب { ومخرج الميت } كالنطفة والحب { من الحى } كالحيوان والنبات وهو معطوف على فالق الحب فالحى والميت مجاز عن النامى والجامد تشبيها للنامى بالحى والحى حقيقة فيما يكون موصوفا بالحياة المستتبعة للحس والحركة الارادية والميت حقيقة فيما يكون خاليا عن صفة الحياة ممن تكون الحياة من شأنه ومنهم من حمل اللفظ على الحقيقة وقال يخرج من النطفة الميتة بشرا حيا ومن الدجاجة بيضة ميتة قال ابن عباس رضى الله عنهما يخرج المؤمن من الكافر كما فى حق ابراهيم عليه السلام والكافر من المؤمن كما فى حق ولد نوح عليه السلام والعاصى من المطيع وبالعكس والعالم من الجاهل وبالعكس والعاقل من الاحمق وبالعكس
والاشارة يخرج نخل الايمان من نوى الحروف الميتة فى كلمة لا اله الا الله ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهى لا اله الا الله { ذلكم } القادر العظيم الشأن { الله } المستحق للعبادة وحده { فأنى تؤفكون } فكيف تصرفون عن عبادته الى غيره ولا سبيل اليه اصلا . والافك فى اللغة قلب الشئ وصرفه والخطاب لكفار قريش لان السورة مكية(3/494)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ فالق الاصباح } خبر آخر لان . والاصباح بكسر الالف مصدر بمعنى الدخول فى ضوء النهار سمى به الصبح اى فالق عمود الفجر عن بياض النهار واسفاره { وجعل الليل سكنا } يسكن اليه التعب بالنهار لاستراحته من سكن اليه اذا اطمأن اليه استئناسا به او سكن فيه الخلق من قوله تعالى { لتسكنوا فيه } { والشمس والقمر } اى وجعلهما { حسبانا } اى على ادوار مختلفة يحسب بها الاوقات فانه تعالى قدر حركه الشمس بمقدار من السرعة والبطئ بحيث تتم دورتها فى سنة وقدر حركة القمر بحيث تتم الدورة فى شهر وبهذا التقدير تنتظم المصالح بالفصول الاربعة كنضج الثمار وامور الحرث والنسل ونحو ذلك مما يتوقف عليه قوام العالم وباختلاف منازل القمر وتجدد الاهلة فى كل شهر بعلم آجال الديون ومواقيت الاشياء فمعنى جعل الشمس والقمر حسبانا جعلهما علمى حساب . فالحسبان بالضم مصدر بمعنى الحساب والعد وبابه نصر . واما الحسبان بكسر الحاء فهو من باب علم ومعناه الظن والتخمين وتقديم الشمس لضيائها على القمر لانها معدن الانوار الفلكية من البدور والنجوم واصلها فى النورانية وان انوارهم مقتبسة من نور الشمس على قدر تقابلهم وصفوة اجرامهم قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره نور القمر ليس من نفسه وانما هو من عالم الانوار فهو ليس بناقص فى ذاته وانما ذلك بسبب عروض الكشافة بالتدريج ولولا ذلك لم تعرف الشهور والسنون والشمس والقمر عينا هذا التعين وظاهرهما الى الفوق والذى نراه جانبهما الداخل فهو تارة يفتح عينيه واخرى يغمض كما انا نفعل كذلك والكواكب ليست مركوزة فيه وانما هى بانعكاس الانوار فى بعض عروقه اللطيفة والذى يرى كسقوط النجم فكدفع الشمس من موضع الى موضع وهذا لا يطلع عليه الحكماء وانما يعرفه اهل السلوك ثم قال الليل والنهار فى عالم الآخرة ليسا بالظلمة والضياء بل لهما علامة اخرى بتجلى من التجليات فيعرفون به الليل والنهار وكيف يكون الليل هنا بالظلمة وقد قال عليه السلام « لو خرج ورق من اوراقها الى الدنيا لاضاء العالم » انتهى كلامه { ذلك } اشارة الى جعلهما حسبانا اى ذلك التسيير البديع بالحساب المعلوم { تقدير العزيز } الذى قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص { العليم } بما فيهما من المنافع والمصالح المتعلقة بمعاش الخلق ومعادهم : قال السعدى
ابر وباد ومه وخورشيد وفلك دركارند ... تاتو نانى بكف آرى وبغفلت نخورى
همه ازبهر توسر كشته وفرمان بردار ... شرط انصاف نباشد كه توفرمان نبرى(3/495)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
{ وهو الذى } [ واوست خداونديكه بقدرت كامله ] { جعل لكم } اى انشأ لاجلكم وابدع { النجوم } التى تختلف مواضعها من جهة الشمال والجنوب والصبا والدبور { لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر } اى فى ظلمات الليل فى البر والبحر واضافتها اليهما للملابسة فان الحاجة الى الاهتداء بها انما تحقق عند ذلك قال الحدادى لتعرفوا بها الطرق من بلد الى بلد فى المفاوز ولجج البحار فى الليالى المظلمة فى السفن فان من النجوم ما يجعله السائر تلقاء وجهه . ومنها ما يجعله على يمنيه . ومنها ما يجعله على يساره . ومنها ما يجعله خلفه ليظهر له الطريق التى تؤديه الى بغيته . وللنجوم فوائد اخر وهى انها زينة السماء ورمى الشياطين وغير ذلك { قد فصلنا الآيات } اى بينا الآيات الدالة على قدرتنا فصلا فصلا { لقوم يعلمون } فانهم المنتفعون بها(3/496)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{ وهو الذى انشأكم } مع كثرتكم { من نفس واحدة } من نفس آدم وحدها فانه خلقنا جميعا منه وخلق امّنا حواء من ضلع من اضلاع آدم فصار كل الناس محدثة مخلوقة من نفس واحدة حتى عيسى فان ا بتداء تكوينه من مريم التى هى مخلوقة من ماء ابويها وانما منّ علينا بهذا لان الناس اذا رجعوا الى اصل واحد كانوا اقرب الى ان يألف بعضهم بعضا
قال اهل الاشارة ان الله تعالى كما خلق آدم ابتداء وجعل اولاده منه كذلك خلق روح محمد صلى الله عليه وسلم قبل الارواح كما قال « اول ما خلق الله روحى » ثم خلق الارواح من روحه فكان آدم أبا البشر وكان محمد صلى الله عليه وسلم ابا الارواح واليه يشير قوله تعالى { هو الذى انشأكم من نفس واحدة } { فمستقر ومستودع } كل واحد منهما مصدر ميمى مرفوع على الابتداء والخبر محذوف اى فلكم استقرار فى الاصلاب او فوق الارض واستيداع فى الارحام او تحت الارض وجعل صلب الاب مستقر النطفة ورحم الام مستودعا لها لان النطفة حصلت فى صلب الاب لا من قبل الغير وحصلت فى رحم الام بفعل الغير فاشبهت الوديعة كأن الرجل اودعها ما كان مستقرا عنده وقال الحسن يا ابن آدم انت وديعة فى اهلك ويوشك ان تلحق بصاحبك وانشد قول لبيد
وما المال والاهلون الا وديعة ... ولا بد يوما ان ترد الودائع
والقلب ايضا من الودائع والامانات : قال الصائب
ترا بكوهر دل كردماند اما نتدار ... نه دزد امانت حق را نكاه دار مخسب
{ قد فصلنا الآيات } المبينة لتفاصيل خلق البشر من هذه الآية ونظائرها { لقوم يفقهون } غوامض الدقائق باستعمال الفطنة وتدقيق النظر وانما ذكر مع ذكر النجوم يعلمون ومع ذكر تخليق بنى آدم يفقهون لان ذلك اشارة الى آيات الآفاق وهذا الى آيات الانفس ولا شك ان آيات الآفاق اظهر واجلى وآيات الانفس ادق واخفى فكان ذكر الفقه لها انسب واولى لان الفقه عبارة عن الوقوف على المعنى الخفى واصل تركيب الفقه يدل على الشق والفتح والفقيه العالم الذى يشق الاحكام ويفتش عن حقائقها ويفتح ما استغلق منها فالفقه انما يطلق حيث يكون فيه حذاقة وتدقيق نظر قال الحدادى الفقه فى اللغة هو الفهم لمعنى الكلام الا انه قد جعل فى العرف عبارة عن علم الغيب على معنى انه استدراك معنى الكلام بالاستنباط من الاصول ولهذا لا يجوز ان يوصف الله تعالى بانه فقيه لانه لا يوصف بالعلم على جهة الاستنباط ولكنه عالم بجميع الاشياء على وجه احد انتهى ثم هذه الآيات الآفاقية والانفسية تفصح عن صنع الله البديع وتدعو اهل الشرك الى التوحيد والايمان واهل الاخلاص الى الشهود والعيان واهل المعصية الى الطاعة والتوبة باللسان والجنان فان الامتنان بذكر النعم الجليلة يستدعى شكرا لها ومعرفة لحقها ولكل قوم وفريق سلوك الى طريق التحقيق على حسب ما انعم عليه من توحيد الافعال والصفات والذات فعلى العاقل ان يجتهد فى طلب الحق فان المقصود من ترتيب مقدمات العوالم آفاقية كانت او انفسية هو الوصلو الى الظاهر من جهة المظاهر وانما اصل الحجاب هو الغفلة وحكى ان الشيخ أبا الفوارس شاهين بن شجاع الكرمانى رحمه الله خرج للصيد وهو ملك كرمان فامعن فى الطلب حتى وقع فى برية مقفرة وحده فاذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع فلما رأته ابتدرت نحوه فزجرها الشاب عنه فلما دنا اليه سلم عليه وقال له ياشاه ما هذه الغفلة عن الله اشتغلت بدنياك عن آخرتك وبلذاتك وهواك عن خدمة مولاك انما اعطاك الله الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة الى الاشتغال عنه فبينما الشاب يحدثه اذ خرجت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب فدفع باقيه الى الشاه فشربه فقال ما شربت شيأ ألذ منه ولا ابرد ولا اعذب ثم غابت العجوز فقال الشاب هذه الدنيا وكلها الله الى خدمتى فما احتجت الى شئ الا احضرته الى حين يخطر ببالى أما بلغك ان الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها(3/497)
« يا دنيا من خدمنى فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه » فلما رأى ذلك تاب وكان منه ما كان وانشد بعضهم
خدمت لما ان صرت من خدمك ودار عندى السرور من نعمك ... وكانت الحادثات تطرقنى
فاستحشمتنى اذ صرت من حشمك ... اللهم اجعلنا من الملازمين لبابك ولا تقطعنا عن جنابك(3/498)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{ وهو } اى الله تعالى { الذى انزل من السماء ماء } خاصا هو المطر ثم التفت من الغيبة الى التكلم فقال { فاخرجنا } بعظمتنا فالنون للعظة لا الجمع فان الملك العظيم يعبر عن نفسه بلفظ الجمع تعظيما له { به } اى بسبب ذلك الماء مع وحدته { نبات كل شئ } ينب كنبات الحنطة والشعير والرمان والتفاح وغيرها فشئ مخصص فلا يلزم ان يكون لكل شئ بنات كالحجر مثلا والنبت والنبات ما يخرج من الارض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر او لمي كن كالنجم فان قيل كيف جعل الله المطر سببا للنبات والفاعل بالسبب يكون مستعينا بفعل السبب والله تعالى مستغن عن الاسباب قيل لان المطر سبب يؤدى الى النبات وليس بمولود له والله تعالى قادر على انبات النبات بدون المطر وانما يكون الفاعل بالسبب مستعينا بذلك السبب اذا لم يمكنه فعل ذلك الشئ الا بذلك السبب كما ان الانسان اذا لم يمكنه ان يصعد السطح الا بالسلم فان السلم آلة للصعود والظاهر انه اذا صعد السطح بالسلم لم يكن السلم آلة له لانه يمكنه ان يصعد السطح بدون السلم { فاخرجنا منه } شروع فى تفصيل ما اجمل من الاخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم اى فاخرجنا من النبات الذى لا ساق له شيأ غضا { خضرا } بمعنى اخضر وهو اى الشئ الاخضر الخارج من النبات ما تشعب من اصل النبات الخارج من الحبة { تخرج منه } صفة لخضرا اى نخرج من ذلك الخضر المتشعب { حبا متراكبا } هو السنبل المنتظم للحبوب المتراكبة بعضها فوق بعض على هيئة مخصوصة { ومن النخل } شروع فى تفصيل حال الشجر اثر بيان حال النجم وهو خبر مقدم { من طلعها } بدل منه باعادة العالم وهو شئ يخجر من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود { قنوان } مبتدأ اى وحاصلة من طلع النخل قنوان جمع قنو وهو للثمر بمنزلة العنقود للعنب { دانية } سهلة المجتنى قرييبة من القاطف فانها وان كانت صغيرة ينالها القاعد تأتى بالثمر لا تنتظر الطلو او ملتفة متقاربة وفيه اختصار معناه من النخل ما قنوانها دانية ومنها ما هى بعيدة فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لان النعمة فى القريبة اكمل واكبر وفى الحديث « اكرموا عماتكم النخل فانها خلقت من فضلة طينة آدم وليس من الشجر شجرة اكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فاطعموا نساءكم الولد الرطب فان لم يكن رطب فتمر » انتهى فظهر ان السبب فى اطعام النفساء رطبا ان مريم رضى الله عنها كان اول ما اكلت حين وضع عيسى عليه السلام هو الرطب كما قال تعالى فى سورة مريم(3/499)
{ وهزى اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا } وورد فى فضيلة السفرجل ايضا انه شكا بعض الانبياء الى الله تعالى من قبح اولاد امته فاوحى الله اليه مرهم ان يطعموا نساءهم الحبالى السفرجل فى الشهر الثالث والرابع لان فيه تصور الجنين فانه يحسن الولد { و } اخجرنا به { جنات } بساتين كائنة { من اعناب } فهو عطف على نبات كل شئ ولعل زيادة الجنات هنا من غير اكتفاء يذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما ان الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا الا عند اجتماع طائفة من افراده وكل نبت متكائف يستر بعضه بعضا فهو جنة من جن اذا استتر والاعناب جمع عنب وهو بالفارسية [ انكور ] { والزيتون والرمان } اى واخرجنا ايضا شجر الزيتون وشجر الرمان { مشتبها } اوراقهما ومشتملا على الغصن من اوله الى آخره فى كليهما وهو حال { وغير متشابه } ثم هما وفى التفسير الفارسى [ { مشتبها } در حالتى كه آن درختان بعضى ببعضى ما نند دربرك { وغير متشابه } ونه ما ننند يكديكر درطعم ميوه جه بعضى بغايت ترش ميباشد وبعضى شيرين وبرخى تشر وشيرين ] { انظروا } يا مخاطبين نظر اعتبار { الى ثمره } [ بميوه هردرختى ] { اذا اثمر } اذا اخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به { وينعه } والى حال نضجه كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة والينع فى الاصل مصدر ينعت الثمرة اذا ادركت . وقوله اذا اثمر ظرف لقوله انظروا امر بالنظر فى اول حال حدوث الثمرة وفى كمال نضجها مع كونها نابتة من ارض واحدة ومسقية بماء واحدة ليعلم كيف تتبدل وتنتقل الى احوال مضادة للاحوال السابقة وحصول هذه التغيرات مسند الى القادر الحكيم العليم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والحكمة والمصلحة قال القرطبى هذا الينع هو الذى يتوقف عليه جواز بيع الثمرة وهو ان يطيب اكل الفاكهة وتأمن العاهة وهو عند طلوع الثريا بما اجرى الله تعالى عادته عليه روى ابو هريرة عن النبى عليه السلام انه قال « اذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن اهل البلد » وطلوعها صباحا فى اثنتى عشرة تمضى من شهر ايار وهو آخر الشهور الثلاثة من اول فصل الربيع وهى اذار ونيسان وايار { ان فى ذلكم } اشارة الى ما امر بالنظر اليه { لآيات } عظيمة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته { لقوم يؤمنون } خصوا بالذكر لانهم المنتفعون بالاستدلال بها والاعتبار
والاشارة فى الآية ان الله تعالى ينزل من سماء العناية ماء الهداية فيخرج به انواع المعارف والاسرار على حسب مراتب اهل الزهد والفتوى واهل العشق والتقوى اذا القلب كالروضة ينشأ منه ما هو مستعد له وكل نبت يترجم عن ترابه : كما قال فى المثنوى
درزمين كرنى شكر ورخود نى است ... ترجمان هر زمين نبت وى است(3/500)
والنخل اعلى من غيره ولذا يقال انه اشارة الى اصحاب الولايات فمن ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين والمريدين يعنى منهم من يكون مريبا فينتفع بثمرات ولايته ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المتمسكين به وجملة شؤونهم ناظرة الى امر الله تعالى واذنه ولذا لا يطعن فيهم الا جاهل وهم فى خلواتهم وجلواتهم يتفكهون من روضات القلوب ويتلذذون بلذائذ حبات الغيوب وامرهم مستور عن الخلق واعينهم وعن بعضهم قال رأيت عند قبر النبى عليه السلام تسعة من الاولياء فتبعتهم فالتفت الى احدهم وقال اين تمر قلت اسير معكم لحبى فيكم فانى سمعت عمن زرتموه عليه السلام انه قال « المرء مع من احب » فقال احدهم انك لا تقدر على المسير الى هذا الموضع الذى نقصده فانه لا يقدر عليه الا من بلغ سنه اربعين سنة فقال آخر دعه لعل الله يرزقه فسرت معهم والارض تطوى من تحتنا طيا فلم نزل حتى انتهينا الى مدينة مبنية بالذهب والفضلة واشجارها متكاثفة وانهارها مطردة رائقة وفواكهها كبيرة فائقة فدخلنا واكلنا من ثمرها واخذت معى ثلاث تفاحات فلم يمنعونى من اخذها فسألتهم عند الانصراف عن المدينة قالوا مدينة الاولياء اذا ارادوا التنزة ظهرت لهم اينما كانوا ما دخلها احد قبل الاربعين غيرك وكنت كلما جعت اكلت من التفاحة وهى لا تتغير ورجعت الى اهلى وقد بقى معى تفاحة واحد غير التى ادخرتها لنفسى فعانقتنى اختى وقالت اين الذى اطرفتنا به من سفرك فقلت وما الذى اطرفكم به وانا بعيد عن الدنيا وعن الراحة قالت فاين التفاحة فعميت عليها وقلت وأى تفاحة قالت يا مسكين والله لقد ادخلونى تلك المدينة وانا بنت عشرين سنة واما انت فلم ترها الا بعد ان طردونك وانا والله جذبت اليها جذبة وخطبت اليها خطجبة قلت اى اخت فالبدل الكبير منهم يقول لى لم يدخلها احد لم يبلغ اربعين سنة غيرك قالت نعم من المريدين واما المرادون فيدخولنها ولا يرضون بها ومتى شئت ارتيكها فقلت قد شئت فقالت يا مدينتى احضرى فوالله لقد رأيت المدينة بعينها تتدلى اليها وترف عليها فمدت يدها وقالت اين تفاحك قال فتساقط على من التفاح ما علانى فضحكت ثم قالت من عنده من الملك هذا يحتاج الى تفاحتك قال فاستحقرت والله نفسى عند ذلك وما كنت اعلم ان اختى منهم رضى الله عنها وعنهم : قال السعدى
هركس سزاوار باشد بصدر ... كرامت بفضلست ورتبت بقدر(4/1)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{ وجعلوا لله شركاء الجن } قال الكاشفى الاصح انها نزلت فى الزنادقة اعنى المجوس ويقال لهم الثنوية ايضا قالوا ان الله تعالى وابليس اخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والانعام وكل خير ويعبرون عن الله بيزدان وابليس خالق السباع والحيات والعقارب وكل شر ويعبرون عن ابليس باهر من وهذا كقوله تعالى { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } وابليس من الجنة والمعنى وجعلوا الجن شركاء لله فى اعتقادهم الباطل { وخلقهم } حال من فاعل جعلوا بتقدير قد اى والحال انهم قد علموا ان الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق فالضمير للجاعلين ويحتمل ان يكون للجن اى والحال انه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له { وخرقوا له } اى افتعلوا وافتروا له تعالى يقال خرق واخترق واختلق وافترى اذا كذب { بنين وبنات } فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت طائفة من العرب الملائكة بنات الله { بغير علم } بحقيقة ما قالوه من خطأ او صواب بل رميا بقول من عمى وجهالة من غير فكر وروية . والباء متعلقة بمحذوف هو حال من فاعل خرقوا اى خرقوا ملتبسين بغير علم { سبحانه } اى تنزه تعالى بذاته تنزها لألقابه { وتعالى } من العلو اى استعلى ويجوز فى صفات الله تعالى علا ولا يجوز ارتفع لان العلو قد يكون بالاقتدار والارتفاع يقتضى الجهة والمكان ولما فى السبحان والتعالى من معنى التباعد قيل { عما يصفون } اى تباعد عما يصفونه من ان له شريكا او ولدا(4/2)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{ بديع السموات والارض } اى هو مبدع من غير مثال سبق لقطرى العالم العلوى والسفلى بلا مادة فاعل على الاطلاق منزه عن الانفعال بالمرة والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يكون له ولد فالفعيل بمعنى المفعل كالاليم والحكيم بمعنى المؤلم والمحكم والاضافة حقيقية وقيل هو من اضافة الصفة المشبهة الى فاعلها اى بديع سمواته وارضه من بدع اذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق { انى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } اى من اين او كيف يوجد له ولد والحال ان اسباب الولادة منتفية فان وجود الولد بلا والدة محال وان امكن بلا والد كعيسى عليه السلام والمراد بالصاحبة الزوجة : وفى المثنوى
لم يلد لم يولداست او ازقدم ... نى بدر دارد نه فرزندونه عم
{ وخلق كل شئ } انتظم بالتكوين والايجاد من الموجودات التى من جملتها ما سموه ولداله تعالى فكيف يتصور ان يكون المخلوق ولدا لخالقه
خالق افلاك وانجم بلاعلا ... مردم ود يووبرى ومرغ را
{ وهو بكل شئ } من شأنه ان يعلم كائنا ما كان مخلوقا او غير مخلوق { عليم } مبالغ فى العلم ازلا وابدا فلا يخفى عليه خافية مما كان وما سيكون من الذوات والصفات والاحوال التى من جملتها ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز من المحالات التى كان ما زعموه فردا من افرادها(4/3)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ ذلكم } اى ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة ايها المشركون { الله } المستحق للعبادة خاصة مبتدأ وخبره { ربكم } اى مالك امركم
نيست خلقش را دكركس مالكى ... شركتش دعوى كند جزهالكى
{ لا اله الا هو } اى لا شريك له اصلا { خالق كل شئ } مما كان وما سيكون فلا تكرار وهذه اخبار مترادفة { فاعبدوه } حكم مسبب عن مضمونها فان من جمع هذه الصفات استحق العبادة خاصة { وهو على كل شئ وكيل } اى وهو مع تلك الصفات متولى اموركم فكلوها اليه وتوسلوا بعبادته الى انجاح مآربكم الدنيوية والاخروية ورقيب على اعمالكم فيجازيكم قال الامام الغزالى قدس سره والوكيل ينقسم الى من يفى بما وكل اليه وفاء تاما من غير قصور والى من لا يفى بالجميع والوكيل المطلق هو الذى يفى بالامور الموكولة اليه وهو ملى بالقيام بها وفى باتمامها وذلك هو الله تعالى فقط وقد فهمت م هذا مقدار يدخل العبد فى معنى هذا الاسم انتهى كلامه وعن الشيخ ابى حمزة الخراسانى رحمه الله قال حججت سنة من السنين فبينما انا امشى اذ وقعت فى بئر فنازعتنى نفسى ان استغيث فقلت لا والله لا استغثيث فما استتم هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال احدهما للآخر تعالى حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه احد فأتيا بقصب وبارية وطمسا رأس البئر فهممت ان اصيح ثم قلت فى نفسى الجأ الى من هو اقرب منهما وسكت وفوضت امرى الى الله تعالى فبينما انا بعد ساعة اذا بشئ جاء وكشف عن رأس البئر وادلى رجله وكأنه يقول تعلق بى فى حمهمة منه كنت اعرف منها ذلك فتعلقت به فاخرجنى فاذا هو سبع فمر وهتف بى هاتف يا ابا حمزة أليس هذا احسن نجيناك من التلف بالتلف فالله تعالى قادر على ذلك وهو على كل شئ وكيل
والاشارة فى الآيات ان الله تعالى كما اخرج بماء اللطف والهداية من ارض القلوب لأربابها انواع الكمالات اخرج بماء القهر والخذلان من ارض النفوس لأصحابها انواع الضلالات حتى اشركوا بالله تعالى وقالوا ما قالوا من اسوأ المقال مع انه تعالى متفرد بالذات والصفات والافعال فعلى العاقل ان يستعيذ بالله من مكره وقهره ويستجلب بطاعته مزيد رضاءه ورحمته ويقطع النظر عن الغير فى كل شر وخير فان الكل من الله تعالى وان كان لا يرضى لعباده الكفر
كناه اكرجه نبود اختيار ما حافظ ... تودر طريق ا دب كوش وكوكناه منست
اللهم لا تؤمنا مكرك فانه لا يأمن منه الا القوم الكافرون(4/4)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{ لا تدركه الابصار } البصر حاسة النظر وقد تطلق على العين من حيث انها محله وادراك الشئ عبارة على الوصول اليه والاحاطة به اى لا تصل اليه الابصار ولا تحيط به { وهو يدرك الابصار } اى يحيط بها علمه { وهو اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الابصار ولهذا خص الابصار بادراكه تعالى اياها مع انه يدرك كل شئ لان الابصار لا تدرك نفسها ولا يجوز فى غيره ان يدرك البصر وهو لا يدركه ففيه دليل على ان الخلق لا يدركون بالابصار كنه حقيقة البصر وهو الشئ الذى صار به الانسان يبصر من عينيه دون ان يبصر من غيرهما من سائر اعضائه اعلم ان الادراك غير الرؤية لان الادراك هو الوقوف على كنه الشئ والاحاطة به والرؤية المعاينة وقد تكون الرؤية بلا ادراك لانه يصح ان يقال رآه وما ادركه فالادراك اخص من الرؤية ونفى الاخص لا يستلزم نفى الاعم فالله يجوز ان يرى من غير ادراك واحاطة كما يعرف فى الدنيا ولا يحاط به يعنى ان معرفة الله تعالى ممكنة من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية اذ منه ما لا تفيه الطاقة البشرية وهو ما وقع به الكمل فى ورطة الحيرة واقروا بالعجز عن حق المعرفة وقالوا ما عرفناك حق معرفتك فذات الله تعالى من حيث تجرده عن النسب والاضافات لا يدرك ولهذا سئل النبى عليه السلام هل رأيت ربك قال « نورانى اراه » اى النور المجرد لا يمكن رؤيته وكذا اشار الحق فى كتابه لما ذكر ظهور نوره فى مراتب المظاهر قال الله تعالى { الله نور السموات والارض } فلما فرغ من ذكر مراتب التمثيل قال { نور على نور } فاحد النورين هو الضياء والآخر هو النور المطلق الاصلى ولهذا تمم فقال { يهدى الله لنوره من يشاء } اى يهدى الله بنوره المتعين فى المظاهر والسارى فيها الى نوره المطلق الاحدى فانما تتعذر الرؤية والادراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والاضافات فاما فى المظاهر ومن ورائية حجابية المراتب فالدراك ممكن كما قيل
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجهها ... فاذا اكتست برقيق غيم امكنا
والى مثل هذا اشار النبى صلى الله عليه وسلم فى بيان الرؤية الجنانية المشبهة برؤية الشمس والقمر فاخبر عن اهل الجنة انهم يرون ربهم وانه ليس بينه وبينهم حجاب الا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن فنبه صلى الله عليه وسلم على بقاء الرتبة الحجابية وهى رتبة المظهر وتحقيقه ان اهل الاعتزال بالغوا فى نفى الرؤية واستدلوا على مذهبهم بما ورد فى الصحيحين عن ابى موسى « جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين ان ينظروا الى ربهم الا رداء الكبرياء على وجهه »(4/5)
قالوا ان الرداء حجاب بين المرتدى والناظرين فلا تمكن الرؤية وجوابهم انهم حجبوا وان المرتدى لا يحتجب عن الحجاب اذ المراد بالوجه الذات وبرداء الكبرياء هو العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامعة للحقائق الامكانية والالهية والرداء هو الكبرياء واضافته للبيان والكبرياء رداؤه الذى يلبسه عقول العلماء بالله يقول الفقير فى شرح هذا المقام قوله ولكنهم حجبوا الخ وذلك لان المرآة لا تكون حجابا للناظر كما ان اللباس كذلك بالنسبة الى البدن نفسه اذ لا واسطة بينهما فالرداء من المرتدى بمنزلة المرآة من النظر وكذا المرتدى من الرداء بمنزلة الناظر من المرآة اذ المراد بالوجه الذات بطريق اطلاق اسم الجزء على الكل فالمرتدى وهو الذات لا يحتجب عن حجابه وانما يحتجب به عن الغير كالقناع للعروس فانه كشف بالاضافة اليها وحجاب بالنسبة الى غيرها وبرداء الكبرياء الخ الحقيقة المحمدية التى هى حقيقة الحقائق ولكل موجود حصة من تلك الحقيقة بقدر قابليته لكنها فى نفسها حقيقة واحدة وهو الوجود العام الشامل كالحيوان الناطق فانه معنى واحد عام شامل لجميع الافراد وكثرته بالنسبة الى تكل الافراد لا تنافى وحدته الحقيقية فمعنى قوله عليه السلام وما بين القوم وبين ان ينظروا الى ربهم الارداء الكبرياء على وجهه حقيقة كل منهما التى تجلى الذات فيها بحسب صفاء مرآتها ومعرفتها وتلك الحقيقة ليست بحجاب بين القوم وبين الذات الاحدية اذ ما وراء تلك الحقيقة مع قطع النظر عن التجلى فيها وكونها مرآة له اطلاق صرف لا يتعلق به رؤية رداء ايا كان فكل ناظر ينكشف له جمال الذات من حقيقة نفسه فينظر اليه من تلك الحقيقة وهى ليست بحجاب للنظر ولا للذات اذهى كالمرآة فالنظر الظاهرى قيد تام وما وراء تلك الحقيقة من الذات اطلاق صرف فلا مناسبة بينهما بوجه من الوجوه وتلك الحقيقة بين التقييد والاطلاق برزخ جامع لهما كما قال عليه السلام « من عرف نفسه فقد عرف ربه » فالعارف اذ لم يتعلق عرفانه بنفسه الكلية وحقيقته الجامعة لا يتأتى منه عرفان ربه لان ربه مطلق عن القيود والنسب والاضافات وهو بهذا الاعتبار لا تتعلق به المعرفة واما نفسه المتجلى فيها الرب بحقائق اسمائه فتتعلق بها تلك الرؤية من تلك الحيثية فتكون حقيقة نفسه ومعرفتها مرآة معرفة ربه فلا حجاب بين المرتدى وردائه اصلا وانما غ لط من غلط بقياس الغائب على الشاهد وهو ممنوع باطل لانه لا يلزم ان يكون هناك رداء مانع وبرزخ بين الناظر والمرتدى ولذا قال الكبرياء رداؤه الذى يلبسه عقول العلماء بالله فالتردد فى ان الرداء حجاب بين المرتدى والناظرين فلا يمكن الرؤية انما هو من عمى البصيرة والعياذ بالله وهو فى ثلاثة اشياء ارسال الجوارح فى معاصى الله والتصنع بطاعة الله والطمع فى خلق الله فالحق ليس بمحجوب عنك لثبوت احاطته وانما المحجوب انت عن النظر اليه بما تراكم على بصيرتك من العيوب العارضة وما يلازم بصرك من العيب اللازم الذى هو الفناء الحسى الذى لا يرتفع الا فى الدار الآخرة فلذلك كانت الرؤية موقوفة عليها والا فالحجاب فى حقه تعالى ممتنع غير متصور فلا تكن ممن يطلب الله لنفسه ولا يطالب نفسه لربه فذلك حال الجاهلين وقال بعض المفسرين ان الدراك اذا قرن بالبصر كان المراد منه الرؤية فانه يقال ادركت ببصرى ورأيت ببصرى بمعنى واحد فمعنى قوله { لا تدركه الابصار } اى لا تراه فى الدنيا فهو مخصوص برؤية المؤمنين له فى الآخرة لقوله تعالى(4/6)
{ وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة } وحديث الشيخين « انكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية فى الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئى بالمرئى اى فى الجهة وانما يرونه فى الآخرة لانها قلب الدنيا فالبصيرة هناك كالبصر فى الدنيا فيكون البصر الظاهر فى الدنيا باطنا فى الآخرة والبصيرة الباطنة ظاهرة فيستعد الكل للرؤية بحسب حاله واما فى الدنيا فالرؤية غاية الكرامة فيها وغاية الكرامة فيها لأكرم الخلق وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود الذى شاهد ربه ليلة المعراج بعينى رأسه يعنى رآه بالسر والروح فى صورة الجسم فكان كل وجوده الشريف عينا لانه تجاوز فى تلك الليلة عن عالم العناصر ثم عن عالم الطبيعة ثم عن عالم الارواح حتى وصل الى عالم الامر وعين الرأس من عالم الاجسام فانسخل عن الكل ورأى ربه بالكل فافهم هداك الله الى خير السبل فان العبارة ههنا لا تسع غير هذا
قال فى التأويلات النجمية { لا تدركه الابصار } اى لا تلحقه المحدثات لا الابصار الظاهرة ولا الابصار الباطنة تقدست صمديته عن كل لحوق ودرك ينسب الى مخلوق ومحدث بل { وهو يدرك الابصار } بالتجلى لها فيفنى المحدثات فيكون هو بصره الذى يبصر به فاستوت عند التجلى الابصار الظاهرة والباطنة فى الرؤية بنور الربوبية { وهو اللطيف } من ان يدركه المحدثات او يلحقه المخلوقات { الخبير } بمن يستحق ان يتجلى له الحق ويدرك ابصارها باطلاعه عليها فيستعدها للرؤية ومن لطف الله انه اوجد الموجودات وكون المكونات فضلا منه وكرما من غير ان يكون استحقاقها للوجود انتهى ولو رآه انسان فى الموطن الدنيوى لوجب عليه شكره ولو شكره لاتسحق الزيادة ولا مزيد على الرؤية ولذلك حرمها وهذا هو المعنى فى قوله عليه السلام « لن تروا ربكم حتى تموتوا » قال ابن عطاء اتمام النعيم بالنظر الى وجه الله الكريم على الوجه اللائق بجلاله فى الدار الآخرة حسبما جاء الوعد الصدق بذلك كما فى الدنيا اذ غالب النصوص يقتضى منع ذلك بل يكاد يقع الاجماع على نفى وقوع ذلك ومنعه شرعا وان جار عقلا انتهى واما الرؤية فى المنام فقد حكيت عن كثير من السلف كأبى حنيفة وعن ابى يزيد رحمه الله رأيت ربى فى المنام فقلت له كيف الطريق اليك فقال اترك نفسك ثم تعال وروى عن حمزة القارئ انه قرأ على الله القرآن من اوله الى آخره فى المنام حتى اذا بلغ الى قوله(4/7)
{ وهو القاهر فوق عباده } قال الله تعالى يا حمزة وانت القاهر ولا خفاء فى ان الرؤية فى المنام نوع مشاهدة يكون بالقلب دون العين وفى الحديث « رأيت ربى فى المنام فى صورة شاب امرد » وسر تجليه فى صورة الانسانية بصفة الربوبية ان الحقيقة الانسانية اجمع الحقائق فانه تعالى لما استخلف الانسان وجعله خاتما على خزائن الدنيا والآخرة ظهر جميع ما فى الصورة الآلهية من الاسماء فى النشأة الانسانية الجامعة بين النشأة العنصرية والروحانية واليه يشر قوله عليه السلام « ان الله خلق آدم على صورته » واطلاق الصورة على الحق مجاز باعتبار اهل الظاهر اذ لا تستعمل فى الحقيقة الا فى المحسوسات ففى المعقولات مجاز واما عند المحققين فحقيقة لان العالم الكبير باسره صورة الحضرة الآلهية ومظاهر اسمائها بحضراتها تفصيلا واجمالا والانسان الكامل صورته جمعا فان قلت أ لرؤية اقوى انواع الادراك ام العلم قلت قد قيل بالاول ولهذا يتلذذ المؤمنون برؤية الله تعالى فوق ما يتلذذون بمعرفته قال الامام فى الاحياء ان الرؤية نوع كشف وعلم الا انها اوضح واتم من العلم فاذا جاز تعلق العلم به ليس فى جهة جاز تعلق الرؤية من غير جهة وكما جاز ان يعلم من غير كيفية وصورة جاز ان يرى كذلك من غير كيفية وصورة قال بعضهم الرؤية اعلى من المعرفة لان العرافين مشتاقون الى منازل الوصال والواصلون لايشتاقون الى منازل المعرفة وقال بعضهم المعرفة ألطف والرؤية اشرف قال حضرة الشيخ الشهير بافناده افندى قدس سره وصلة العلماء على قدر علمهم واستدلالهم ووصلة الكمل على قدر مشاهدتهم وعيانهم لكن لا على وجه مشاهدة سائر الاشياء فانه تعالى منزه عن الكيف والاين بل هى عبارة عن ظهوره وانكشاف الوجود الحقيقى عند اضمحلال وجود الرائى وفنائه انتهى اقول فظهر من هذا ان من فنى عن ذاته وصفاته وافعاله واضمحل عن بشريته وهويته فجائز ان يرى الله تعالى فى الدنيا بالبصيرة بعد الانسلاخ التام
جون تجلى كرد اوصاف قديم ... بس بسوزد وصف حادث راكليم
وذلك كالشمس فى الجلاء لا يكابر فيه احد اصلالان القلب من عالم الملكوت والبصيرة كالبصر له وعالم الملكوت مطلق عن قيود الامور الوهمية التى هى الزمان والمكان والجهة والكيفية وغيرها لانها من احكام عالم الملك فاين هذا من ذاك ولا يقاس احدهما على الآخر وحقيقة ذوق هذا المطلق الاعلى لا تعرف الا بالسلوك : قال الحافظ(4/8)
شكر كمال حلاوت بس از رياضت يافت ... نخست درشكن ننك ازان مكان كيرد
ثم اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ومادق منها وما لطف ثم يسلك فى ايصالها الى المستصلح سبيل الرفق دون العنف واذا اجتمع الرفق فى الفعل واللطف فى الادراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك فى العلم والفعل الا لله تعالى وحظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله تعالى والتلطف بهم فى الدعوة الى الله تعالى والهداية الى سعادة ا لآخرة من غير ازراء وعنف ومن غير تعصب وخصام واحسن وجوه اللطف فيه الجذب الى قبول الحق بالشمائل والسير المرضية والاعمال الصالحة فانها اوقع وألطف من الالفاظ المزينة قال الشيخ الاكبر قدس سره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « صلوا كما رأيتمونى اصلى » ولم يقل صلوا كما قلت لكم لان الفعل ارجح فى نفس التابع المقتدى من القول كما قيل
واذا المقال مع الفعال وزنته ... رجع الفعال وخف كل مقال
انتهى : وفى المثنوى
بند فعلى خلق را جذاب تر ... كه رسد درجان هربا كوش كر
والخبير هو الذى لا تعزب عنه الاخبار الباطنة ولا يجرى فى الملك والملكوت شئ ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن الا ويكون عنده خبرها وهو بمعنى العليم لكن العلم اذا اضيف الى الخفايا الباطنة سمى خبرة وسمى صاحبه خبيرا وحظ العبد من ذلك ان يكون خبيرا بما يجرى فى عالمه وعالمه قلبه وبدنه والحفايا التى يتصف القلب بها من الغش والخيانة والطواف حول العاجلة واضمار الشر واظهار الخير والتجمل باظهار الاخلاص والافلاس عنه لا يعرفها الا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحادبها وتشمر لمعاداتها واخذ الحذر منها فذلك من العباد جدير بان يسمى خبيرا(4/9)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{ قد جاءكم } اى قل يا محمد للناس وخصوصا لاهل مكة قد جاءكم { بصائر } كائنة { من ربكم } اى دلائل التوحيد وحقية النبوة ودلائل البعث والحساب والجزاء وغير ذلك . والبصائر جمع بصيرة وهى نور تبصر به النفس كما ان البصر نور تبصر به العين فاستعير لفظ البصيرة من القوة المودعة فى القلب لادراك المعقولات للحجة البينة لكون كل واحدة منهما سبب الادراك { فمن ابصر } اى الحق بتكل البصائر وآمن به { فلنفسه } ابصر لان نفعه لها { ومن عمى } اى لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك ظهورا بينا وضل عنه وانما عبر بالعمى عنه تقبيحا له وتنفيرا عنه { فعليها } وباله
والاشارة ان الله تعالى اعطى لكل عبد بصيرة لقلبه يبصر بها الحقائق المودعة فى الغيوب والكمالات المعدة لأرباب القلوب كما اعطى بصرا لقالبه يبصر به الاعيان فى الشهادة ما اعد لهم فيها من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح فمن نظر ببصر البصيرة الى المراتب العلوية الاخروية الباقية وابصر كمالات القرب وما اعد الله مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيشتغل بتحصيله ويقبل على الله بسلوك سبيله ويعرض عن الدنيا الدنية ويترك زينتها وشهواتها الفانية فذلك تحصيل سعادة وكرامة لنفسه فان الله غنى عن العالمين ومن عمى عن النظر بالبصيرة وغير هذه الكمالات لما ابصر ببصر القالب الى الدنيا وزينتها واستلذ بشهواتها واستحلى مراتعها الحيوانية فعميت بصيرته فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور فذلك تحصيل شقاوة وخسارة على نفسه كذا فى التأويلات النجمية { وما انا عليكم بحفيظ } وانما انا منذر ومبلغ والله هو الحفيظ عليكم يحفظ اعمالكم ويجازيكم عليها(4/10)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ وكذلك نصرف الآيات } اى ومثل هذا التصريف البديع نصرف الآيات الدالة على المعانى الرائقة الكاشفة عن المعانى الفائقة ولا تصرف ادنى منه من الصرف وهو نقل الشئ من حال الى حال { وليقولوا درست } علة لمحذوف واللام للعاقبة والدرس القراءة والتعلم اى وليقولوا فى عاقبة امرهم درست صرفنا اى قرأت وتعلمت من غيرك نحو سيار وجبير كانا عبدين لقريش من سبى الروم كان قريش يقولون له عليه السلام انك تتعلم هذه الاخبار منهما ثم تقرأ علينا على زعم انها من عند الله { ولنبينه } عطف على ليقولوا واللام على الاصل اى التعليل لان التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار القرآن { لقوم يعلمون } وتخصيص التبيين بهم لما انهم المنتفعون به(4/11)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
{ اتبع ما اوحى اليك من ربك } اى دم يا محمد على ما انت عليه من اتباع القرآن الى عمدة احكامه التوحيد وان قدحوا فى تصريف آياته { لا اله الا هو } لا شريك له اصلا { واعرض عن المشركين } ولا تبال باقوالهم ولا تلتفت الى آرائهم فانه لا يجوز الفتور فى تبليغ الدعوة والرسالة بسبب جهل الجاهلين
بكوى آنجه دانى سخن سودمند ... وكر هيج كس را نيايد بسند
كه فردا بشيمان بر آرد خروش ... كه آوخ جرا حق نكردم بكوش(4/12)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
{ ولو شاء الله } توحيدهم وعدم اشراكهم { ما اشركوا } وهو دليل على انه تعالى لا يريد ايمان الكافر لكن لا بمعنى انه تعالى يمنعه عنه مع توجهه اليه بل بمعنى انه تعالى لا يريده منه لعدم صرف اختياره الجزئى نحو الايمان واصراره على الكفر { وما جعلناك عليهم } متعلق بما بعده وكذا عليهم الآتى { حفيظا } رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم اعمالهم { وما انت عليهم بوكيل } من جهتهم تقوم بامورهم وتدبر مصالحهم قال الحدادى وانما جمع بين حفيظ ووكيل لاختلاف معناهما . فان الحافظ للشئ هو الذى يصونه عما يضره . والوكيل بالشئ هو الذى يجلب الخير اليه فقد ظهر ان عدم قبول الحق من الشقاوة الاصلية ولذا لم يشأ الله سعادتهم وهدايتهم . وعلامة الشقاوة جمود العين وقساوة القلب وحب الدنيا وطول الامل . وعلامة السعادة حب الصالحين والدنو منهم وتلاوة القرآن وسهر الليل ومجالسة العلماء ورقة القلب وعن ابراهيم المهلب السائح رحمه الله قال بينا انا اطوف اذا بجارية متعلقة باستار الكعبة وهى تقول بحبك لى ألا رددت علىّ قلبى فقلت يا جارية من اين تعلمين انه يحبك قالت بالعناية القديمة جيش فى طلبى الجيوش وانفق الاموال حتى اخرجنى من بلاد الشرك وادخلنى فى بلاد التوحيد وعرفنى نفسى بعد جهلى اياها فهل هذا يا ابراهيم الا لعناية او محبة : قال الحافظ
جون حسن عاقبت نه برندى وزاهد بس ... آن به كه كار خود بعنايت رها كنند
والواجب على العبد ان يسارع الى الاعمال الصالحة فانها من علامات السعادة والتأخير وطول الامل من علامات الشقاوة حكى ان بعض العباد كان يسأل الله تعالى ان يريه ابليس فقيل له اسأل الله العافية فابى الا ذلك فاظهره الله تعالى له فلما رآه العباد قصده بالضرب فقال له ابليس لو انك تعيش مائة سنة لاهلكتك ولعاقبتك فاغتر بقوله فقال فى نفسه ان عمرى بعيد فافعل ما اريد ثم اتوب فوقع فى الفسق وترك العبادة وهلك وهذه الحكاية تحذرك طول الامل فانه آفة عظيمة : قال الصائب
درسراين غافلان طول امل داتى كه جبست ... آشيان كردست مارى در كبوتر خانه
واعلم انه ما على الرسول عليه السلام الا التبليغ ودلالة كل قوم الى ما خلق له . فيدعو العوام الى التوحيد . والخواص الى الوحداية . وخواص الخواص الى الوحدة وكذا حال الولى الوارث لكن الوصول الى هذه المقامات انما يكون بهداية الله ومشيئته فليس فى وسع المرشد ان يوصل كل من اراد الى ما اراده فيبقى من يبقى فى الاثنينية ويصل من يصل الى عالم الوحدة والسبب الموصل هو التويحد فكما ان الكافر لا يكون مؤمنا الا بكلمة التوحيد فكذا المؤمن لا يكون مخلصا الا بتكرارها لان الشرك مطلقا جليا كان او خفيا لا يزول الا بالتوحيد مطلقا فالمؤمن الناقص كما انه لا يلتفت الى المشرك بالشرك الجلى وحاله كذلك المؤمن الكامل لا ينظر الى جانب المشرك بالشرك الخفى ولذا قال تعالى { لا اله الا هو واعرض عن المشركين } لكن الاعراض من حيث الحقيقة لا ينافى الاقبال من حيث الظاهر لاجل الدعوة حتى يلزم الحجة ويحصل الافحام { والله يدعو الى دار السلام } فالسلام على من اتبع الهدى والملام على من اتبع الهدى قال الحافظ :
جه شكر هاست درين شهركه قانع شده اند ... شاهبازان طريقت بمقام مكسى(4/13)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{ ولا تسبوا } اى لا تشتموا ايها المؤمنون { الذين } اى الاصنام { يدعون } اى يدعونها آلهة ويعبدونها { من دون الله } اى متجاوزين عبادة الله تعالى والمراد بالداعين كفار مكة وقال المولى ابو السعود رحمه الله اى لا تشتموهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا { فيسبوا الله عدوا } اى تجاوزا عن الحق الى الباطل بان يقولوا لكم مثل قولكم لهم وهو منصوب على المصدر لكونه نوعا من عامله لان السبب من جنس العدو او على ا نه مفعول له اى لاجل العدو { بغير علم } حال اى يسبونه غير عالمين بالله تعالى وبما يجب ان يذكر به اى مصاحبين للجهل لانهم لوقدروا الله حق قدره لما اقدموا عليه فان قتل انهم كانوا مقرين بالله وعظمته وان الاصنام انما تعبد ليكونوا شفعاء عند الله فكيف يسبونه قلت انهم لا يفعلون ذلك صريحا لكن ربما يفضى فعلهم الى ذلك وايضا ان الغيظ والغضب انما يحمل النسان على التكلم بما ينافى العقل ألا يرى ان المسلم قد يتكلم لشدة غضبه بما يؤدى الى الكفر والعياذ بالله وفى الآية دليل على ان الطاعة اذا ادت الى معصية راجحة وجب تركها فان ما يؤدى الى الشرشر ألا يرى ان سب الاصنام وطعنها من اصول الطاعات وقد نهى الله تعالى عنه لكونه مؤديا الى معصية عظيمة وهى شتم الله وشتم رسوله وفتح باب السفاهة قال الحدادى وفى هذا دليل على ان الانسان اذا اراد ان يأمر غيره بالمعروف ويعلم ان المأمور يقع بذلك فى اشد مما هو فيه من شتم او ضرب او قتل كان الاولى ان لا يأمره ويتركه على ما هو فيه : قال السعدى قدس سره
مجال سخن تانيابى مكوى ... جو ميد ان نبينى نكهدار كوى
{ كذلك } اى مثل ذلك التزيين القوى وهو تزيين المشركين سب الله تعالى وعبادة الاوثان { زينا لكل امة عملهم } من الخير والشر والطاعة والمعصية باحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا او تخذيلا { ثم الى ربهم } مالك امرهم { مرجعهم } اى رجوعهم بالبعث بعد الموت { فينبئهم } [ بس خبر دهد ايشانرا ] من غير تأخير { بما كانوا يعملون } فى الدنيا على الاستمرار من السيآت المزينة لهم وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة وهى ان كل ما بظهر فى هذه النشأة من الاعيان والاعراض فانما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التى بها يظهر فى النشأة الآخرة فان المعاصى سموم قاتلة قد برزت فى الدنيا بصورة يستحسنها نفوس العاصة كما نطقت به هذه الآية الكريمة وكذا الطاعات فانها مع كونها احسن الاحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة ولذلك قال عليه السلام « حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات » فاعمال الكفرة قد برزت لهم فى هذه النشأة بصورة مزينة يستحسنها الطغاة وستظهر فى النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة فعند ذلك يعرفون ان اعمالهم ماذا فعبر عن اظهارها بصورها الحقيقية بالاخبار بها لما ان كلام منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هى كذا فى تفسير الارشاد ويظهر صور الاعمال القبيحة لاهل السلوك فى البرزخ الدنيوى فيجتهدون فى تبديلها حكى عن الشيخ ابى بكر الضرير رحمه الله قال كان فى جوارى شاب حسن الوجه يصوم النهار ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فجاءنى يوما وقال يا استاذ انى نمت عن وردى الليلة فرأيت كأن محرابى قد انشق وكأنى بجوار قد خرجن من المحراب لم ار احسن اوجها منهن واذا فيهن واحدة شوهاء لم ار اقبح منها منظرا فقلت لمن انتن ولمن هذه فقلن نحن لياليك التى مضين وهذه ليلة نومك فلو مت فى ليلتك هذه لكانت هذه حظك ثم انشأت الشوهاء تقول(4/14)
اسأل لمولاك وارددنى الى حالى ... فانت قبحتنى من بين اشكالى
وقد اردت بخير اذ وعظت بنا ... ابشر فانت من المولى على حال
قالت جارية من الحسان
نحن الليالى اللواتى كنت تسهرها ... تتلو القرآن بترجيع ورنات
وقد قال بعض الكبار انشكاف عيب النفس خير من انكشاف الملكوت اذ المقصود اصلاح الطبيعة والنفس والاكل والشرب والمنام من الصفات البهيمية التى هى مقتضى الطبيعة
وفى التأويلات النجمية { زينا لكل امة عملهم } من المقبولين اعمال اهل القبول ومن المردودين اعمال اهل الرد { ثم الى ربهم مرجعهم } اى باقدام تلك الاعمال كلا الفريقين يذهبون الى ربهم { فينبئهم بما كانوا يعملون } اما اهل القبول فيسلكون على اقدام الاعمال الصالحة طريق اللطف فينبئهم بالفضل والاحسان انهم كانوا يحسنون واما اهل الرد فيقطعون على اقدام المخالفات فى بوادى القهر والهلكات فينبئهم بالعدل والخسران انهم كانوا يسيئون انتهى فى المثنوى
جمله دانند هين اكر تو نكروى ... هرجه مى كاريش روزى بدروى
وعن بعض الصالحين قال كانت فى جانبى عجوز قد اضنتها العبادة فسألتها ان ترفق بنفسها فقالت يا شيخ اما علمت ان رفقى بنفسى غيبنى عن باب المولى ومن غاب عنه مشتغلا بالدنيا عرض نفسه للمحن والبلوى وما قدر عملى اذا اجتهدت فكيف اذا قصرت ثم قالت واسوأتاه من حسرة السباق وفجعة الفراق . فاما حسرة السباق فاذا قام القائمون من قبورهم وركب الابرار نجائب الانوار وساروا الى قصر من العز والجلال ورفعت لهم منازل المحبين وقدمت بين ايديهم نجائب المقربين وبقى المسبوق فى جملة المحزونين فعند ذلك ينقطع فؤاده حسرة وتأسفا ويذوب ندامة وتلهفا . واما فجعة الفراق فعند تمييز الناس والافتراق وذلك ان الله سبحانه اذا جمع الخلق فى صعيد واحد امر ملكا فنادى ايها المجرمون امتازوا ان المتقين قد فازوا وهو قوله تعالى { وامتازوا اليوم ايها المجرمون } فيتميز الرجل من زوجته والولد من والدته والحبيب من حبيبه هذا يحمل مبجلا الى رياض النعيم وهذا يساق مسلسلا مغلغلا الى عذاب الجحيم وقد طال منهم التلفت والوداع ودموعهم تجرى كالانهار بفجعة الفراق وانشدوا بالبين والفراق
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... ورأيت كيف نكرر التوديعا
لعلمت ان من الدموع لأبحرا ... تجرى وعاينت الدماء دموعا(4/15)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{ واقسموا بالله } روى ان قريشا قالوا يا محمد انك تخبرنا ان موسى عليه السلام كانت معه عصا فيضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشر عينا وتخبرنا ان عيسى عليه السلام كان يحيى الموتى وان صالحا عليه السلام اخرج الناقة من الجبل فائتنا انت ايضا بآية بينة فان فعلت ذلك لنصدقنك ونؤمنن لك وحلفوا على ذلك وبالغوا فى تأكيد الحلف فقال عليه السلام « اشى شئ تحبون » قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا او ابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول ام باطل او أرنا الملائكة يشهدون لك فقال عليه السلام « فان فعلت بعض ما تقولون تصدقوننى » قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك اجمعين وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فهم عليه السلام بالدعاء فجاء جبريل عليه السلام فقال ان شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوا عنده ليعذبنهم بعذاب الاستئصال ولئن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فانزل الله تعالى هذه الآية اى حلف كفار قريش بالله تعالى { جهد ايمانهم } مصدر فى موقع الحال اى جاهدين فى ايمانهم وجهد الايمان اغلظها واشدها { لئن جاءتهم آية } من مقترحاتهم { ليؤمنن بها قل } لهم { انما الآيات } كلها { عند الله } اى هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شئ منها بقدرتى وارادتى وانما انا نذير ثم بين تعالى الحكمة فى عدم مجئ الآيات فقال مخاطبا للمسلمين { وما يشعركم انها اذا جاءت لا يؤمنون } اى أى شئ يعلمكم ان الآية التى يقترحونها اذا جاءت لا يؤمنون بل يبقون على ما كانوا عليه من الكفر والعناد اى لا تعلمون ذلك فتتمنون مجيئها طمعا فى ايمانهم فانكر السبب اى الاشعار مبالغة فى نفى المسبب اى الشعور وفيه بيان ان ايمانهم فاجرة وانه لا يغنى وضوح الادلة لمن لم يساعده سوابق الرحمة(4/16)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ ونقلب افئدتهم } عطف على لا يؤمنون اى وما يشعركم انا حينئذ نحول قلوبهم عن الحق فلا يفهمون { وابصارهم } عن اجتلائه فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها { كما لم يؤمنوا به } اى بما جاء من الآيات { اول مرة } من انشقاق القمر ونحوه { ونذرهم } اى ندعهم عطف على لا يؤمنون داخل فى حكم الاستفهام الانكارى { فى طغيانهم } ضلالهم متعلق بنذرهم { يعمهون } اى متحيرين لانهديهم هداية المؤمنين فهو حال من الضمير المنصوب فى نذرهم ووجه هذا التقليب والترك فساد استعدادهم واعراضهم عن الحق بالكلية فان الله تعالى لا يفعل بهم ذلك مع توجههم الى الحق واستعدادهم لقبوله فانه اجبار محض فان كان مقهورا مطبوعا على قلبه فليعلم ان ذلك لعدم تأثير اللطف فيه اصلا فلله الحجة البالغة ومن الله الهداية والتوفيق . تم الجزء السابع فى اوائل شهر ربيع الآخر من سنة الف ومائة(4/17)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة } تفصيل ما ذكر على الاجمال بقوله { وما يشعركم انها اذا جاءت لا يؤمنون } اى ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة كما سألوه بقولهم لو انزل علينا الملائكة فنراهم عيانا { وكلمهم الموتى } وشهدوا بحقية الايمان بعد ان احييناهم حسبما اقترحوه بقولهم فائت بآية قال صاحب التيسير واحيينا لهم كل الموتى فكلموهم بان شهدوا لك وان كانوا سألوا منك احياء اثنين من موتاهم قصى بن كلاب وجدعان بن عمرو وكانا كبيرين منهم وصدوقين حيث قالوا لئن احييتهما فشهدا لك بالنبوة لشهدنا نحن ايضا { وحشرنا } اى جمعنا { عليهم كل شئ قبلا } جمع قبيل بمعنى كفيل وانتصابه على الحالية من المفعول اى كفلاء بصحة الامر وصدق النبى عليه السلام او جمع قبيل الذى هو جمع قبيلة بمعنى جماعات اى وحشرنا كل شئ نوعا نوعا وفوجا فوجا من سائر المخلوقات وفى التيسير اى وبعثنا كل حيوان من الفيل الى البعوض اى اقمنا القيامة { ما كانوا ليؤمنوا } فى حال من الاحوال الداعية الى الايمان { الا ان يشاء الله } اى الا فى حال مشيئة الله لايمانهم وهيهات ذلك وحالهم حالهم من التمادى فى العصيان والغلو فى التمرد والطغيان { ولكن اكثرهم يجهلون } اى ولكن اكثر المؤمنين يجهلون عدم ايمانهم عند مجيئ الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله تعالى لايمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون فالجملة مقررة لمضمون قوله تعالى { وما يشعركم } الآية واعلم ان الآية وان عظمت لا تضطر الى الايمان ان لم يشأ الله تعالى فانه لا آية اعظم من قيام الساعة والله تعالى يقول { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وجملة الامر ان المشيئة تغير السجية وعدمها من فساد الاستعداد فلذا بقى اهل الضلال فى يد القهر والجلال : قال السعدى
زوحشى نه يايدكه مردم شود ... بسعى اندر اوتربيت كم شود
توان باك كردن ززنك آيينه ... ولكن نيايد زسنك آيينه
وقال الحافظ
كرجان بدهد سنك سيه لعل نكردد ... باطينت اصلى جه كند بدكهر افناد
واما قول المولوى قدس سره فى المثنوى
كرتو سنك خاره ومرمر شوى ... جون بصاحب دل رسى كوهر شوى
فاشارة الى المستبعد بحكم الاصل فان التربية تنفع فيه فجميع المعجزات من الانبياء والكرمات من الاولياء علمية كانت او كونية تربية لمن فى زمانهم فمن حسن استعداده مال واهتدى ومن فسد اعرض وضل وترى كثيرا من المغرورين المشغولين باحكام طبائعهم الخبيثة ونفوسهم المتمردة يقولون كالطلبة لو انا صادفنا المرشد الكامل ورأينا منه العلامة واضحة لكنا اول من يسلك بطريقتهم ويتمسك باذيال حقيقتهم فقل لهم ان الشمس شمس وان لم يرها الضرير والعسل عسل وان لم يجه طعمه الممرور والطالب المتسعد لا يقع فى الامنية ولا يضيع نقد عمره بخسارة بل يجتهد كل حين بما امكن له من الطاعات ويكون فى طريق الطلب فان ما لا يدرك كله لا يترك قله : قال فى المثنوى(4/18)
كركران وككرشتابنده بود ... عاقبت جوينده يابنده بود
ثم هذا الاستعداد وانشراح الصدر فى طريق الحق نور من الله تعالى يقذفه فى قلب أى عبد شاء وليس بحداثة السن ولا بالشيخوخة وكم رأيت وسمعت من غلبه الحال فى عنفوان عمره وعنوان امره وعن بعض الصالحين قال حججت سنة من السنين وكانت سنة كثيرة الحر والسموم فلما كان ذات يوم وقد توسطنا ارض الحجاز انقطعت عن الحاج وغفلت قليلا فلم اشعر ليلا الا وانا ودى فى البرية فلاح لى شخص امامى فاسرعت اليه ولحقته واذا به غلام امرد لانبات بعارضيه كأنه القمر المنير والمشس الضاحية وعليه اثر الدلال والترف فقلت له السلام عليك يا غلام فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا ابراهيم فعجبت منه كل العجب ورابنى امره فلم اتمالك ان قلت له يا غلام سبحان الله من اين تعرفنى ولم ترنى قبلها فقال لى يا ابراهيم ما جهلت مذعرفت ولا قطعت مذ وصلت فقلت ما الذى اوقعك فى هذه البرية فى مثل هذه السنة الكثيرة الحر والقيظ فاجابنى يا ابراهيم ما آنس بسواء ولارافقت غيره وانا منقطع اليه بالكلية مقر له بالعبودية فقلت له من اين المأكول والمشروب فقال لى تكفل به المحبوب فقلت والله انى خائف عليك لاجل ما ذكرت لك فاجابنى ودموعه تنحدر على خديه كاللؤلؤ الرطب
فلو اجوع فذكر الله يشبعنى ... ولا اكون بحمد الله عطشانا
وان ضعفت فوجد منه يحملنى ... من الحجاز الى اقصى خراسانا
فقلت له بالله عليك يا غلام ألا ما اعلمتنى حقيقة عمرك فقال اثنتا عشرة سنة ثم رجوته فدعا لى باللحوق الى اصحابى فلما وقفنا بعرفة ودخلنا الحرم اذا انا بالغلام وهو متعلق باستار الكعبة وهو يبكى ويناجى ثم وقع ساجدا ومات الى رحمة الله تعالى ثم رأيته فى المنام فقلت ما الذى فعل بك الهك فقال اوقفنى بين يديه وقال لى ما بغيتك فقلت الهى وسيدى انت بغيتى فقال لى انت عبدى حقا ولك عندى ان لا احجب عنك ما تريد فقلت اريد ان تشفعنى فى القرن الذى انا فيه قال شفعتك فيه ثم انه صافحنى فاستيقظت بعد المصافحة فلم ار احدا الا ويقول لى يا ابراهيم لقد ازعجت الناس من طيب رائحة يدك قال بعض المحدثين ولم تزل رائحة الطيب تخرج من يد ابراهيم حتى قضى نحبه رحمه الله رحمة واسعة(4/19)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{ وكذلك } اى كما جعلنا لك عدوا كأبى جهلٍ وغيره من كفار قريش { جعلنا لكل نبى } قبلك { عدوا } وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ان عداوتهم وما ينبنى عليها مما لا خير فيه من الاقاويل الكاذبة والافاعيل الباطلة ليس مختصا به عليه السلام بل كما ابتلى هو وامته بكيد الاعداء ابتلى جميع الانبياء واممهم { شياطين الانس والجن } اى مردة الفريقين على ان الاضافة بمعنى من البيانية وهو بدل من عدوا . والشياطين جمع شيطان وهو يطلق على كل عات متمرد من الانس والجن والشيطان من الجن اذا اعياه المؤمن وعجز عن اغوائه ذهب الى متمرد من الانس فاغراه على المؤمن ليفتنه وعن مالك بن دينار انه قال شياطين الانس اشد علىّ من شياطين الجن وذلك انى ان تعوذت بالله من شياطين الجن ذهبت عنى وشياطين الانس تجيئنى فتجرنى الى المعاصى عيانا { يوحى بعضهم الى بعض } كلام مستأنف مسوق لبيان احكام عداوتهم وتحقيق وجه الشبه بين المشبه والمشبه به . والوحى الكلام الخفى والقول السريع الذى يلقى سرا اى يلقى يوسوس شياطين الجن والانس او بعض الجن الى بعض وبعض الانس الى بعض { زخرف القول } اى المموه منه المزين ظاهره والباطل باطنه يقال فلان زخرف كلامه اذا زينه بالكذب والباطل { غرورا } مفعول له ليوحى اى ليغرّوهم { ولو شاء ربك } عدم ما ذكر من العداوة والايحاء { ما فعلوه } اى ما ذكر فاعيد ضمير الواحد الى الاثنين باعتباره { فذرهم } اى اذا كان ما فعلوه فى حقك بمشيئته تعالى فاتركهم { وما يفترون } وافتراءهم اى كفرهم وسائر مكائدهم فان لهم فى ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته تعالى على الحكم البالغة البتة(4/20)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ ولتصغى اليه } الى زخرف القول علة اخرى للايحاء معطوفة على غرورا وانما لم ينصب لفقد شرطه اذ الغرور فعل الموحى واصغاء الافئدة فعل الموحى اليه اى يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول ليغروهم به ولتميل اليه { افئدة } قلوب { الذين لا يؤمنون بالآخرة } واما المؤمنون بها فلا يتصور منهم الميل الى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها { وليرضوه } لانفسهم بعدما مالت اليه افئدتهم { وليقترفوا } اى يكتسبوا بموجب ارتضائهم له { ما هم مقترفون } له من القبائح التى لا يليق ذكرها وهى ما قضى عليهم فى اللوح المحفوظ يقال اقترف فلان ذنبا اذا عمله ومالا اذا اكتسبه وفى الآية اشارة الى ان البلايا للسائرين الى الله هى المطايا وان اشد البلاء شماتة الاعداء فلما كانت رتبة الانبياء اعلى كانت عداوة الكفار لهم اوفى وفى ذلك ترقيات لهم وتجليات : قال الحافظ
جه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى ... ببوى آنكه درك نوبهار باز آيد
والاشارة فى شيطان الانس الى النفس الامارة بالسوء وهى اعدى الاعداء ولهذا قدم ذكره على الجن ههنا بخلاف المواضع الاخر وليعلم ان عداوة النفس واصحاب النفوس اشد واصعب من عداوة شياطين الجن فان كيد الشيطان مع كيد الانسان ضعيف وارباب القلوب لا يصغون الى زخارف اقوال اصحاب النفوس بل كلما تشتد عداوة الاعداء يقوى ايمان الاولياء
وفا كنيم وملامت كشيم وخوش باشيم ... كه در طريقت ما كافريست رنجيدن
وانما يتسلط الشيطان على ابن آدم بفضول النظر والكلام والطعام وبمخالطة الناس ومن اختلط فقد استمع الى الاكاذيب وعن بعض الشيوخ ان الشيطان اشد بكاء على المؤمن اذا مات من بعض اهله لما فاته من افتتانه اياه فى الدنيا واذا عرج بروح المؤمن الى السماء قالت الملائكة سبحان الذى نجى هذا العبد من الشيطان يا ويحه كيف نجا فعلى المؤن ان يحترز من وساوسه وحديث نفسه ايضا كيلا يفتضح عند اله وعنند الناس فانه روى ان الوسواس الخناس يخبر بما وقع فى قلب ابن آدم وحدث به نفسه وان لم يخبره لغيره كما حكى ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ذكر امرأة فى نفسه فجعل الناس يتحدثون به فيما بينهم والعم ان قرين المرء من لاجن اذا اسلم سلم من شره ومن الجن قوم مؤمنون منتفعون بعلوم كل البشر محبون حكى عن ابراهيم الخواص قال حججت سنة من السنين فبينا انا امشى مع اصحابى اذا عارضنى عارض من سرى يقتضى الخلوة وخروجا عن الطريق الجادة فاخذت طريقا غير الطريق الذى عليه الناس فمشيت ثلاثة ايام بليالهن ما خطر على سرى ذكر طعام ولا شراب ولا حاجة فانتهيت الى برية خضراء فيها من كل الثمرات والرياحين ورأيت فى وسطها بحيرة فقلت كانها الجنة وبقيت متعجبا فبينا انا اتفكر اذا انا بنفر قد اقبلوا بسيماهم سيما الآدميين عليهم المرقعات الحسان فحفوا بى وسلموا علىّ فقلت وعليكم السلام ورحمة الله وبكراته وفقع فى خاطرى انهم من الجن فقال قائل منهم قد اختلفنا فى مسألة ونحن نفر من الجن قد سمعنا كلام الله تعالى من محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وسلبتا نغمة كلامه جميع امور الدنيا وقد عين الله لنا هذه البحيرة فى هذه البرية قلت وكم بيننا وبين الموضع الذى تركت فيه اصحابى فتبسم بعضهم وقال يا ابا اسحق لله عز وجل عجائب واسرار الموضع الذى انت فيه لم يحضره آدمى قبلك الا شاب من اصحابهم توفى ههنا وذاك قبره اشار الى قبر على شفير البحيرة حوله روضة ورياحين لم ار مثلها قبل ثم قال بينك وبين القوم الذين فارقتهم مسيرة كذا وكذا شهرا او قال كذا وكذا سنة فقلت اخبرونى عن الشاب فقال قائل منهم بينما نحن قعود على شفير البيحرة نتذاكر المحبة اذ بشخص قد اقبل الينا وسلم علينا فرددنا عليه السلام فقلنا له من اين اقبل الشاب قال من مدينة نيسابور قلنا له ومتى خرجت منها قال منذ سبعة ايام قلنا له وما الذى ازعجك على الخروج من وطنك قال سمعت قول لاله تعالى(4/21)
{ وانيبوا الى ربكم واسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } قلنا له ما معنى الانابة وما معنى الاسلام وما معنى العذاب فقال النابة ان ترجع بك منك اليه والاسلام ان تسلم نفسك له وتعلم انه اولى بك منك والعذاب الفرقة ثم صاح صحية عظيمة فمات فواريناه وهذا قبره رضى الله عنه قال ابراهيم فتعجبت مما وصفوا ثم دنوت من قبره واذا عند رأسه باقة نرجس كأنها رحى عظيمة وعلى قبره مكتوب هذا حبيب الله فتيل الغيرة وعلى ورقها مكتوب صفة الانابة فقرأت ما هو على النرجس مكتوب فسألونى ان افسره لهم ففسرته فوقع فيهم الطرف فلما افاقوا وسكنوا قالوا قد كفينا جواب مسألتنا قال ووقع علىّ النوم فما انتبهت الا وانا قريب من مسجد عائشة رضى الله عنها واذا فى وعائى باقة ريحان فبقيت معى سنة كاملة لم تتغير فلما كان بعد فقدتها رضى الله عنه وعنهم وعن جميع الصالحين(4/22)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{ أفغير الله ابتغى حكما } الهمزة للانكار والفاء للعطف على مقدر وغير مفعول ابتغى وحكما حال وتقديم المفعول للايذان بان مدار الانكار هو ابتغاء غيره حكما لا مطلق الابتغاء والحكم ابلغ من الحاكم وادل على الرسوخ لما انه لا يطلق الا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم وفى الكلام ارادة القول واضماره روى ان مشركى مكة قالوا يا محمد اجعل بيننا وبينك حكما من احبار اليهود او من اساقفة النصارى يفصل بين المحق والمبطل فانهم قرأوا الكتب قبلك فانزل الله هذه الآية وقال قل يا محمد أاميل عن الحق فاطلب غير الله تعالى حال كون ذلك الغير قاضيا بينى وبينكم { وهو الذى انزل اليكم الكتاب } الجملة حال من فاعل ابتغى اى والحال ان الله تعالى هو الذى انزل اليكم وانتم امة امية لا تدرون ما تأتون وما تذرون القرآن الناطق بالحق والصواب { مفصلا } اى مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الاحكام وهذا كما ترى صريح فى ان القرآن الكريم كاف فى امر الدين مغن عن غيره بيانه وتفصيله { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك } كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مبين ان الذين وثقوا بهم ورضوا بحكميتهم من علماء اهل الكتابين عالمون بحقية القرآن ونزوله من عند الله تعالى والمعنى وعلماء اليهود والنصارى الذين فهمناهم التوراة والانجيل يعلمون ان ذلك الكتاب اى القرآن منزل من ربك حال كونه ملتبسا { بالحق } والصدق وهو بالفارسى [ براتسى ودرستى ] وهو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن فى منزل { فلا تكونن من الممترين } اى من الشاكين فى انهم يعلمون بحقية القرآن لما لا تشاهد منهم آثار العلم واحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهى على الاخبار بعلم اهل الكتاب بشأن القرآن وفى انه منزل من ربك بالحق فيكون من باب التوبيخ والالهاب اى الثبات على اليقين كقوله { ولا تكونن من المشركين } فالفاء لترتيب النهى على نفس علمهم بحال القرآن ثم انه تعالى لما بين كمال الكتاب المذكور من حيث اضافته اليه تعالى بكونه منزلا منه بالحق بين ايضا كماله من حيث ذاته فقال(4/23)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{ وتمت كلمة ربك } عبر عن الكتاب اى القرآن بالكلمة لانها الاصل فى الاتصاف بالصدق والعدل وبها يظهر الآثار من الحكم { صدقا وعدلا } مصدران نصبا على الحال اى صادقة وعادلة ومعنى تمامها عبارة عن بلوغها الغاية فى كونها كافية فى بيان ما يحتاج اليه المكلفون الى يوم القيامة علما وعملا وفى كونها صدقا وعدلا والمعنى انها بلغت الغاية القاصية صدقا فى الاخبار والمواعيد كالخبر عن وجود ذات الله تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية وكالخبر عن احكام الله تعالى فى الوعد والوعيد والثواب والعقاب وكالخبر عن احوال المتقدمين وعن الغيوب المستقبلة وعدلا فى الاقضية والاحكام المتعلقة بالمكلفين من الجن والانس كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر التكاليف الشرعية سواء كانت امرا او نهيا { لا مبدل لكلماته } لا ا حد يبدل شيأ من ذلك بما هو اصدق واعدل ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى { وهو السميع } لكل ما يتعلق به السمع { العليم } بكل ما يمكن ان يعلم فيدخل فى ذلك اقوال المتحاكمين واحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا اوليا ومحصول الآية ان القرآن حكم الله تعالى وحجته الغالبة بين الناس فلا عدول عنه الى غيره اذ لا يعدل عنه الا المنكر سواء كان انكاره عناديا كالعالم بحقيته او تكذيبيا كالجاهل بها واما المقر فهو له جذبة الهية ينجذب بالعمل بما فيه الى درجات العلم والعرفان وكمال الايقان اذ هو كلمة حق وصدق والصدق يهدى الى الجنة والقربة والوصلة ولا ترتفع التكليفات عن العبد وان وصل الى تجلى الذات ما دام فى عالم الدنيا لا كما زعمه بعض الزاعمين واما فى عالم الآخرة فترتفع التكليفات فعبادة ذلك العالم التوحيد ليس الا ولابد من رعاية الشريعة فى جميع المراتب فان الكمال فيه والا فهو ناقص ولذلك ترى المجاذيب لا يخلون عن نقصان ألا يرى ان الانبياء عليهم السلام لم يسمع عن واحد منهم عروض السفه والجنون فكامل العقل يحس صرير الباب وصوت الذباب فى حال استغراقه حكى ان الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر قال يوما لمريديه هل صدر منى شئ يخالف الشريعة قالوا لا فحمد الله تعالى قوال ما كنت ههنا منذ ثلاثين سنة والانسان اشرف المخلوقات واشرف الانسان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ولذلك صار مظهرا للفرقان الكريم من المبتدأ القديم وهو الحكم الذى نصبه الله تعالى لاحقاق الحق وابطال الباطل
ألا اى احمد مرسل شود هرمشكل ازتوحل ... كنم وصف ترا مجمل توبى سلطان هرمولى
شريعت ازتو روشن شد طريقت هم مبرهن شد ... حقيقت خود معين شد زهى سلطان بى همتا
واعلم ان هذه الآية متعلقة بمرتبة النفس واصلاحها فان ابتغاء حكم غير الله تعالى من هوى النفس فاصلاحها بالانقياد والتسليم وكل من له حظ من علم القرآن ظاهرا او باطنا فهو وارث النبى عليه السلام بقدر حاله والحاكم هو عالم امر الله لا الجاهل قال على كرم الله وجهه من افتى الناس بغير علم لعنه السماء والارض وسألت بنت علىّ البلخى اباها عن القيئ اذا خرج الى الحلق فقال يجب اعادة الوضوء فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يا على حتى يكون ملئ الفم فقال علمت ان الفتوى تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فآليت على نفسى ان لا افتى ابدا وسئل الشعبى عن مسأةل فقال لا اعلم فقيل ألا تستحى وانت فقيه العراقين قال ولم لا استحيى مما لا تستحيى منه الملائكة حيث قالت(4/24)
{ لا علم لنا الا ما علمتنا } فعلى العامة ان يرجوا فى الامور الظاهرة الى اعلم البلدة او العصر بقدر الامكان وعلى الخاصة ان يستفتوا فى الاحوال الباطنة من الاعرف وان كان اميا لا يعرف اصطلاحات العلماء اذ له حكمة معنوية تغنى عن الاصطلاحات وهو الذى يليق بان يسمى حكيما وقد اتفق اهل الله تعالى على ان العبد اذا وصل الى الله فالله تعالى يعلمه ويلهمه فيميز بين الحق والباطل ولا يكون ما يتكلمه خارجا عن الشريعة واليه يشير قول من قال ما اتخذ الله من ولى جاهل ولو اتخذه لعلمه وكما ان الاصحاب ما خرجوا عن حكم النبى عليه السلام كما قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } وقال { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم } كذلك اهل الارادة ما خرجوا عن امر المرشد الكامل اذ الحكم وان كان لله تعالى فى الحقيقة كما نطقت به الآية الا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خليفة الله تعالى وكذا من ورثه قولا وحالا(4/25)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{ وان تطع اكثر من فى الارض } وذلك ان اهل مكة كانوا يستحلون اكل الميتة ويدعون المسلمين الى اكلها وكانوا يقولون انما ذلك ذبح الله فهو احل مما ذبحتم انتم بسكاكينكم فانزل الله تعالى هذه الآية والمعنى ان تطع الكفار يا محمد لانهم اكثر من فى الارض { يضلوك عن سبيل الله } اى دينه وشريعته كأنه قيل كيف يضلون فقيل { ان يتبعون } اى ما يتبعون فى امور دينهم ومجادلتهم لك فى امر الميتة { الا الظن } وهو ظنهم ان آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون فيضلون ضلالا مبينا ولا ريب ان الضال المتصدى للارشاد انما يرشد غيره الى مسلك نفسه فهم ضالون مضلون فان سبيل الحق لا يسلك بالظن والتقليد والهوى وانما يسلك بالصدق والتحقيق والهدى { وان هم الا يخرصون } اى ما هم الا يكذبون على الله تعالى فى تحليل الميتة وغيره(4/26)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
{ ان ربك هو اعلم } بعلم { من يضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين } فيجازى كلا منهم بما يستحقون فاحذر ان تكون من الفريق الاول قال الحدادى وانما قال اعلم لان الله يعلم الشئ من كل جهاته وغيره يعلم الشئ من بعض جهاته(4/27)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ان كنتم بآياته مؤمنين } مسبب عن انكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام . والمعنى كلوا ايها المؤمنون مما ذكر اسم الله تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط او مع اسم الله تعالى او مات حتف انفه فان الايمان بالآيات القرآنية يقتضى استباحة ما احله الله والاجتناب عما حرمه(4/28)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{ وما لكم ان لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وأى سبب حاصل لكم فى ان لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه قال الامام ان المشركين كانوا يبيحون اكل ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه وانما النزاع فى انهم ايضا كانوا يبيحون اكل الميتة والمسلمون كانوا يحرمونها واذا كان كذلك كان ورود الامر باباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثا لانه يقتضى اثبات الحكم فى المتفق عليه وترك الحكم فى المختلف فيه فاجاب بان معنى كلوا اجعلوا اكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه ومعنى ان لا تأكلوا ان لا تجعلوا اكلكم مقصورا عليه فيفيد تحريم اكل الميتة فقط { وقد فصل لكم } اى والحال انه تعالى قد بين لكم { ما حرم عليكم } مما لم يحرمه بقوله تعالى فى هذه السورة { قل لا اجد فيما اوحى الىّ محرما } ية فبقى ما عدا ذلك على الحل لا بقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم } الآية لانها مدنية وهذه السورة مكية فان قلت قوله تعالى { قل لا اجد } الآية مذكور بعده هذه الآية وصيغة فصل تقتضى التقدم قلت ان التأخر فى التلاوة لا يوجب التأخر فى النزول ويجوز ان يحمل على التفصيل بالوحى الغير المتلو كما ذهب اليه سعدى جلبى المفتى وجعله اولى عنده { الا ما اضطررتم اليه } مما حرم عليكم فانه ايضا حلال حال الضرورة فالاستثناء متصل والمستثنى منه ما حرم وما مصدرية بمعنى المدة اى وقد فصل لم الاشياء التى حرمت عليكم فى جميع الاوقات الا وقت الاضطرار اليها وان جعلت موصولة تعين ان يكون الاستثناء منقطعة لان ما اضطر اليه حلال فلا يدخل تحت ما حرم عليهم { وان كثيرا } من الكفار { ليضلون } الناس { باهوائهم } بما تهواه انفسهم من تحليل الميتة وغيرها { بغير علم } مقتبس من الشريعة الشريفة مستند الى الوحى { ان ربك هو اعلم بالمعتدين } المتجاوزين الحق الى البالط والحلال الى الحرام اعلم ان اهل الهوى على انواع فالمعتزلة والشيعة ونحوهما من اهل القبلة اهل هوى لانهم يخالفون اهل السنة والجماعة بتأويل الكتاب والسنة على حسب هواهم فيضلون الناس بهواهم كما يضل الكفار واهل الشرك . واما اخذ الاشارة من الآيات والاحاديث على وجه يطابق الشرع الشريف فذلك ليس بهو بل هو عرفان محض : قال فى المثنوى
توزقر آن اى بسر ظاهر مبين ... ديو آدم را نبيند جزكه طين
ظاهر قرآن جو شخص آدميست ... كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
فالتقليد لاصحاب الاشارات ليس كالتقليد لاصحاب الضلالات لانهم بنوا امرهم على العيان واليقين لا على الظن والتخمين وكذا اهل الدنيا اهل هوى بالنسبة الى اهل العقبى فان الكون كله خيال وتابع الخيال لا يعد من العقلاء والرجال وعن بهلول رحمه الله قال بينما انا ذات يوم فى بعض شوارع البصرة اذا الصبيان يلعبون بالجوز واللوز واذا انا بصبى ينظر اليهم ويبكى فقلت هذا صبى يتسحر على ما فى ايدى الصبيان ولا شئ معه فيلعب به فقلت له اى بنى ما يبكيك اشترلك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان فرفع بصره الىّ وقال يا قليل العقل ما للعب خلقنا فقلت اى بنى فلما ذا خلقنا فقال للعلم والعبادة فقلت من اين لك ذلك بارك الله فيك قال من قول الله عز وجل(4/29)
{ أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون } المولى فاهل المولى تجردوا عن تعلق الكونين وتجاوزوا عن اعتبار الوصل والبين وما نظروا الى شئ غيره : قال صاحب المحمدية
سالكان دركهت را هردو عالم يك نفس ... والهان حضرتت را ازحور جنت ملال
وقد حرم الله الدنيا على اهل الآخرة والآخرة على اهل الدنيا وحرم كلا منهما على اهل الله تعالى لكن من تناول من الدنيا قدر ما يسد به جوعته ويستر به عورته فانه ليس من اهل الدنيا لان ذلك من الضرورات البشرية وفيه اذن الله تعالى لمحافظة الدائرة البدنية التى هى الاس
والاشارة فى قوله تعالى { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ان كنتم بآياته مؤمنين } يعنى ان من امارات الايمان ان تأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع وتذيبوه بذكر الله كما قال عليه السلام « اذيبوا طعامكم بذكر الله » فان الاكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان وفى هذا الحديث اشارة الى مشروعية الجهر اذ ذوبان الطعام فى صورة الجهر اظهر ويدل عليه ما ورد ايضا من الركعتين بعد الطعام او من تلاوة عشر آيات من القرآن اذ الحركة البدنية تفضى الى استمراء الطعام وانهضامه الذى به تحصل قوة البدن وبقوة البدن يقوى المرء على العبادة وفى العبادة بعد الطعام شكر للنعمة والشكر اما بالقلب او باللسان او بالاعضاء والجوارح(4/30)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{ وذروا } اى اتركوا ايها المؤمنون { ظاهر الاثم وباطنه } من اضافة الصفة الى الموصوف اى الاثم الظاهر والاثم الباطن والمراد بالاثم ما يوجب الاثم وهو المعاصى كلها لانها لا تخلو من هذين الوجهين فيدخل فيه ما يعلن وما يسر سواء كان من اعمال القلوب او الجوارح فاعمال الجوارح ظاهرة كالاقوال والافعال واعمال القلوب باطنة كالعقائد الفاسدة والعزائم الباطلة وحقيقة ظاهر الاثم طلب نعم الدنيا وباطنه الميل الى نعم العقبى لان كلا منهما يصير سببا للبعد عن حضرة المولى
ظاهر وباطن خود باك كن ازلوث كناه ... تاكه باكيزه شوى درصف مردان اله
{ ان الذين يكسبون الاثم } اى يعملون المعصية ظاهرا وباطنا { سيجزون } سيعاقبون فى الآخرة { بما كانوا يقترفون } اى يكسبون فى الدنيا كائنا ما كان فلا بد من اجتنابهما
جمله دانند اين اكر تونكروى ... هرجه ميكاريش روزى بد روى
والاشارة ان الله تعالى كما خلق للانسان ظاهرا هو بدن جسمانى وباطنا هو قلب روحانى فكذلك جعل للاثم ظاهرا هو كل قول وفعل موافق للطبع مخالف للشرع وباطنا هو كل خلق حيوانى وسعى وشيطانى جبلت النفس عليه { وذروا ظاهر الاثم وباطنه } اى اتركوا الاعمال الطبيعة باستعمال الاعمال الشرعية واتركوا الاخلاق الذميمة النفسانية بالتحلق بالاخلاق الملكية الروحانية { ان الذين يكسبون الاثم } ظاهره وباطنه بالافعال والاخلاق { سيجزون بما كانوا يقترفون عاجلا } وآجلا اما عاجلا فلكل فعل وقول طبيعى ظلمة تصدأ مرآة القلب بها فيخرف مزاج الاخلاق القلبية الروحانية ويتقوى مزاج الاخلاق النفسانية الظلمانية وبه يغلب الهوى ويميل الى الدنيا وشهواتها فباظهار كل خلق منها على وفق الهوى يزيد رينا وقسوة فى القلب فيحتجب به عن الله تعالى كما قال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } واما آجلا فبهذه الموانع والحجب ينقطع العبد عن الله ويبقى محجوبا معذبا فى النار خالدا مخلدا كما قال تعالى { كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } كذا فى التأويلات النجمية اعلم ان العصاة كلهم فى خطر المشيئة بل الطائعون لا يدرون بماذا يختم لهم فيا ايها العاصى لا تغتر فان العناية لا تحصل لكل عاص ولا تدرى انك ممن اراد الله تعالى عفوه فان المعفو من اول الامر وقع قليلا كما حكى عن مالك بن دينار قال رأيت بالبصرة قوما يحملون جنازة وليس معهم احد ممن يشيع الجنازة فسألتهم عنه قالوا هذا رجل من كبار المذنبين قال فصليت عليه وانزلته فى قبره ثم انصرفته الى الظل فنمت فرأيت ملكين قد نزلا من السماء فشقا قبره ونزل احدهما اليه وقال لصاحبه اكتبه من اهل النار فما فيه جارحة سلمت من المعاصى والاوزار فقال له صاحبه يا اخى لا تعجل عليه اختبر عينيه قال قد اختبرتها فوجدتهما مملوءتين بالنظر الى محارم الله قال فاختبر سمعه قال قد اختبرته فوجدته مملوأ بسماع الفواحش والمنكرات قال فاختبر لسانه قال قد اختبرته فوجدته مملوأ بالخوض فى المحظورات وارتكاب المحرمات قال فاختبر يديه قال قد اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بتناول الحرام وما لا يحل من الشهوات واللذات قال فاختبر رحليه قال فاختبر رحليه قال قد اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بالسعى فى النجاسات والامور المذمومات قال يا اخى لا تعجل عليه ودعنى انزل اليه فنزل اليه الملك الثانى واقام عنده ساعة وقال يا اخى قد اختبرت قلبه فوجدته مملوأ ايمانا فاكتبه مرحوما سعيدا ففضل الله تعالى يستغرق ما عليه من الذنوب والخطايا : قال السعدى قدس سره(4/31)
ود نوبت ما تمت ... كرت نيك روزى بود خاتمت
وفاتك يكون يوم فرح وسرور ان كنت ممن قبض على الايمان تسأل الله عفوه ورجاه
ق بنى فاطمه ... كه برقول ايمان كتم خاتمه(4/32)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } اى عمدا اذ الناسى حال نسيانه لا يكون مكلفا وذكر الله تعالى فى قلب كل مؤمن واما العامد فلأنه لما ترك التسمية عمدا فكأنه نفى ما فى قلبه ويدخل فيه الميتة لانها مما لم يذكر اسم الله عليه وكذا ما ذبح على اسم غيره تعالى { وانه } اى الاكل منه او عدم ذكر التسمية { لفسق } اى خروج لما لا يحل فان من ترك التسمية عامدا حال الذبح لا يحل اكل ذبيحته عند الامام الاعظم واعلم ان المشركين جادلوا المسلمين فقالوا أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله فانزل الله الآية واجاب بجواب اعم وبنى الحرمة على وصف يشمل الكل وهو ترك الذكر { وان الشياطين } اى ابليس وجنوده { ليوحون الى اوليائهم } اى يوسوسون الى المشركين . والوحى القاء المعنى الى النفس مع الخفية { ليجادلوكم } ايها المؤمنون فى تحليل الميتة بالوساوس الشيطانية { وان اطعتموهم } فى استحلال الحرام وساعدتموهم على اباطيلهم { انكم لمشركون } ضرورة ان من ترك طاعة الله الى طاعة غيره واتبعه فى دينه فقد اشرك به تعالى بل آثره عليه سبحانه
والاشارة لا تأكلوا طعاما الا بامر الله وعلى ذكر الله وفى طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته وان ظلمة الطعام وشهوته مؤدية الى الفسق الذى هو الخروج من النور الروحانى الى الظلمة النفسانية وفى الحديث « ان الشيطان يستحل الطعام الا بذكر اسم الله عليه » اى لانه لا يذكر اسم الله عليه بعد الشروع وما لم يشرع فيه احد لا يتمكن الشيطان من استحلاله وفيه اشارة الى انه ان سمى واحد من الآكلين حصل اصل السنة ومن نسى التسمية فى اول الطعام فانه يقول حين يذكر بسم الله اوله وآخره فاذا قال ذلك فقد تدارك تقصيره وهذا بخلاف الوضوء فان التسمية وذلك لان الوضوء كله عمل واحد بخلاف الاكل فان كل لقمة اكلة وكان رجل يأكل فلم يسم حتى لم يبق من طعامه الا لقمة فلما رفعها الى فيه قال بسم الله اوله وآخره فضحك النبى عليه السلام ثم قال « ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله تعالى استقاء ما فى ما بطنه » وهذا الحديث يدل على ان الشيطان يأكل بمضغ وبلغ كما ذهب اليه قوم وقال آخرون اكل الشيطان صحيح لكنه تشمم واسترواح وانما المضغ والبلع لذوى الحثث والشياطين اجسام رقاق قال فى آكام المرجان كل ما لم يسم عليه من طعام او شراب او لباس او غير ذلك مما ينتفع به فللشيطان تصرف واستعمال اما باتلاف عينه كالطعام واما مع بقاء عينه قال ثعلبة بن سهيل كنت اصنع شرابا لى اشربه فى السحر فاذا جاء السحر جئت فلا اجد شيئا فوضعت شرابا آخر وقرأت عليه يس فلما كان السحر جئت فاذا الشراب على حاله واذا شيطان اعمى يدور حول البيت وفى الحديث(4/33)
« ان الشيطان حساس لحاس فاحذروه على انفسكم من بات وفى يده ريح غمر فاصابه شئ فلا يلومنّ الا نفسه » قال بعض ارباب الاشارة انما حرم اكل ما لم يذكر اسمه عليه لان العارف حبيب الله والحبيب لا يذبح ولا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفرش ولا يفعل شيأ الا باسم حبيبه ألا ترى ان يعقوب عليه السلام كان يقول فى جميع احواله يوسف وانما وجبت التسمية عند الذبائح لان مرارة النزع شديدة وذكر اسم الله تعالى احلى من كل شئ فامرنا بالتسمية عند الذبائح كى تسمع الشاة ذكر الله عند الموت فلا تشتد مرارة النزع مع حلاوة اسم الله ولذلك قال عليه السلام « لقنوا موتاكم بشهادة ان لا اله الا الله يسهل عليكم سكرات الموت » فلما كان الاحياء والاماتة من الله تعالى وحده لم يجز ان يذبح باسم غيره تعالى ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اكل ما ذبح للجن وعلى اسمها واستنبط بعض الخلفاء عينا واراد اجراءها وذبح للجن عليها لئلا يغور ماؤها فاطعم ذلك ناسا فبلغ ذلك ابن شهاب فقال اما انه قد ذبح ما لم يحل له واطعم الناس ما لا يحل لهم وكان من عادة الجاهلية قبل الاسلام تزيين جارية حسناء والباسها احسن ثيابها والقاءها فى النيل حتى يطلع ثم قطع تلك السنة الجاهلية على يدى من اخاف الجن وقمعها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهكذا هذه العين لو حفرها رجل عمرى لم يذبح لهم عصفورا فما فوقه ولكن لكل زمان رجال فول داوم انسان على اسم الله لاتحرقه النار ولا تغرقه البحار ولا تنهشه الحيات ولا تضره السموم لان كل مضر خلق مخوفا لمن يخاف الله فاذا خاف العبد من الله بكماله فله التسخير والتأثير
توهم كردن از حكم داور مييج ... كه كردن نييجد زحكم توهيج
محالست جون دوست دارد ترا ... كه در دست دشمن كذارد ترا
وقد ظهر لك من هذا كله ان احراق البخور والقاء ماء الورد ورشه وذبح شئ من مكان يتوهم فيه الجن كله شرك يجب ان يترز عنه وكذا من ذبح دجاجة لتصويتها مثل الديك او ذبح ديكا لتصويته قبل الوقت وهو السحر والقاها فى مكان فقد ذبح ذلك للجن فى اعتقاده لانه اراد به صيانة نفسه واهله واولاده وماله من اصابة الجن والبلاء ولو كان لله تعالى لأكلها بل لو كان مخلصا لما فعل مثل هذا(4/34)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{ أو من كان ميتا } روى عن ابن عباس ان ابا جهل رمى النبى عليه السلام بفرث فاخبر حمزة بما فعل ابو جهل وهو راجع من الصيد بيده قوس وكان يومئذ لم يؤمن بعد فلقى ابا جهل فضرب رأسه بالقوس فقال ابو جهل أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا فقال حمزة وانتم اسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله تعالى اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله فنزلت هذه الآيات والهمزة للانكار والنفى والواو لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذى يدل عليه الكلام اى انتم ايها المؤمنون مثل المشركين ومن كان ميتا { فاحييناه } اعطيناه الحياة وما يتبعها من القوى المدركة والمتحركة { وجعلنا له } مع ذلك من الخارج { نورا } عظيما { يمشى به } اى بسببه { فى الناس } اى فيما بينهم آمنا من جهتهم { كمن مثله } اى صفته العجيبة { فى الظلمات } خبر مبتدأ محذوف اى هو فى الظلمات { ليس بخارج منها } بحال وهو حال من المستكن فى الظرف فمن الاولى موصولة مبتدأة وكمن خبرها وهى ايضا موصولة صلتها الجملة الاسمية الواقعة بعدها فالاولى تمثيل لمن هداه الله تعالى وانقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها فى الاشياء فيميز بين الحق والباطل والحق والمبطل كحمزة رضى الله عنه والثانية تمثيل لمن بقى على الضلالة لا يفارقها اصلا كأبى جهل { كذلك } اى كما زين للمؤمن من ايمانه { زين } اى من جهة الله تعالى بطريق الخلق او من جهة الشيطان بطريق الوسوسة { للكافرين ما كانوا يعملون } اى ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصى وبهذا التزيين بقوا فى ظلمات الكفر والضلالة ولم يهتدوا الى نور الايمان والهداية قال ارباب الحقيقة الموت بهوى النفس والحياة بمحبة الحق وايضا الموت بالنكرة والحياة بالمعرفة وفرق بين حياة المعرفة وحياة البشرية فاهل العموم حى بحياة البشرية لكنه كلاميت فى قبر قالبه لا يمكنه الخروج من ظلمات وجوده المجازى واهل الخصوص حى بحياة المعرفة فحياة البشرية تزول لقوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } بخلاف حياة المعرفة لقوله تعالى { لنحيينه حياة طيبة } وقوله عليه السلام « المؤمن حى فى الدارين »
نميرد هر كرا جانش توباشى ... خوشا جانى كه جانانش توباشى
قال الحافظ :
هركزنميرد آنكه دلش زنده شد بعشق ... ثبت است بر جريده عالم دوام ما
وفى التفسير الفارسى [ شاه كرمانى اين آيت برخواندكه { أو من كان ميتا فأحييناه } كفت نشان اين آبت سه جيزاست ازخلق عزلت وباحق دعوت ودوام ذكر برزبان ودل وبزركى اين معنى را نظم فرموده ]
برروى خلائق در صحبت مكشاى ... مى باش بكلى متوجه بخداى
غافل مشو ازذوق دل وذكر زبان ... تازنده جاويد شوى دردو سراى(4/35)
واعلم ان الحى الحقيقى الذى ما كان ميتا ولا يموت ابدا هو الله تعالى وما سواه فهو ميت لانه كان ميتا فى العدم وسيموت ايضا : قال الحافظ
من هماندم كه وضو ساختم ازجشمه عشق ... جار تكبير زدم يكسره تر هرجه كه هست
يعنى شاهدت جميع الخلق موتى بسبب الوصول الى مقام العشق والفناء قال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر من شهد الخلق لافعل لهم فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد فاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وعن عبد الواحد بن زيد رحمه الله قال مررت براهب فسألته منذ كم انت فى هذا الموضع فقال منذ اربع وعشرين سنة قلت من انيسك قال الفرد الصمد قلت ومن المخلوقين قال الوحش فسألته وما طعامك قال ذكر الله تعالى قلت ومن المأكولات قال ثمار هذه الاشجار ونبات الارض قلت أفلا تشتاق الى احد قال نعم الى حبيب قلوب العارفين قلت ومن المخلوقين قال من كان شوقه الى الله تعالى سبحان كيف يشتاق الى يره قلت فلم اعتزلت عن الخلق قال لانهم سراق العقول وقطاع طريق الهدى قلت ومتى يعرف العبد طريق الهدى قال اذا هرب الى ربه من كل شئ سواه واشتغل بذكره عن ذكر ما سواه ولكل سالك خطوة فى السلوك الى ملك الملوك كما حكى ايضا عن الشيخ عبد الواحد بن زيد قال قصدت بيت المقدس فضلت الطريق فاذا بامرأة اقبلت الىّ فقلت لها يا غريبة انت ضالة فقالت كيف يكون غريبا من يعرفه وكيف يكون ضالا من يحبه ثم قالت خذ رأس عصاى وتقدم بين يدى فاخذت رأس عصاها وتقتدمت بين يديها ست اقدام او اقل او اكثر فاذا انا بمسجد بيت المقدس فدلكت عينى وقلت لعل هذا غلط منى فقالت يا هذا سيرك سير الزاهدين وسيرى سير العارفين فالزاهد سيار والعارف طيار ومتى يلحق السيار بالطيار ثم غابت عنى فلم ارها بعد ذلك فظهر من هذه الحكاية ان للعارف نورا يمشى به الى حيث شاء والجاهل يبقى فى وادى الحيرة ولا يجد سبيلا الا بتوفيق الله تعالى وهدايته فكما ان الاعمى والبصير ليسا على سواء فكذلك البصير الجاهل والعالم سواء كان جهله وعلمه فى مرتبة الشريعة او الطريقة او المعرفة او الحقيقة فالله تعالى باين بين اهل الحال كما باين بين اهل المقال وعظم النور وسعته بالنسبة الى فسحة القلب ومعرفته فالقلب بيد الله تعالى يقلبه كيف يشاء ولذلك زين لاهل الايمان وجوه الخير والطاعات وزين لاهل الكفر صنوف الشر والسيآت لكن العباد ليسوا بمجبورين فلهم اختيار فى الخروج من الظلمات فاذا لم يصرفوا استعداداتهم الى ما خلقوا لاجله بقوافى ظلمات الطبيعة والنفس هذا هو الكلام بالنسبة الى ظاهر الحال واما ان نظرت الى اسناد الاحياء والجعل فى الآية المذكورة الى الله تعالى فمقتضى التوحيد ان الكل بيد الله ولا تأثير الا من عند الله فان وجدت خيرا فلتحمد الله كثيرا فقد سبقت لك العناية وساعدك التوفيق فرب تقليد يوصل الى التحقيق والله الهادى(4/36)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{ وكذلك } اى كما صيرنا فى مكة فساقها اكابر { جعلنا فى كل قرية } متعلق بالفعل { اكابر } مفعول ثان جمع اكبر بمعنى عظيم { مجرميها } مفعول اول جمع مجرم . بالفارسية [ كنهكار ] { ليمكروا فيها } اى ليفعلوا المكر فى تلك القرية لانهم لاجل رياستهم اقدر على المكر والغدر وترويج الاباطيل على الناس من غيرهم وكان صناديد قريش ومجرموها اجلسوا على كل طريق من طرق مكة اربعة نفر ليصرفوا الناس عن الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقولون لكل من تقدم اياك وهذا الرجل فانه كاهن ساحر كذاب قال البغوى وذلك سنة الله تعالى ان جعل فى كل قرية اتباع الرسل ضعفاءهم كما قال فى قصة نوح { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وجعل فساقهم اكابرها ليمكروا فيها والمكر السعى بالفساد فى خفية ومداجاة والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وما يمكرون الا بانفسهم } لان وباله عليهم { وما } والحال انهم لا { يشعرون } بذلك اصلا بل يزعمون انهم يمكرون بغيرهم(4/37)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{ واذا جاءتهم } لما بين ان فساق كل قرية يكونون رؤساءها المتميزين بكثرة المال والجاه بين ما كان من رؤساء مكة من الجرم والفسق وهو انه اذا جاءتهم { آية } دالة على صحة النبوة { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى رسل الله } من الوحى والكتاب لما روى ان ابا جهل قال زاحمنا بنى عبد مناف فى الشرف حتى اذا صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يوحى اليه والله لا نرضى به الا ان يأتينا وحى كما يأتيه فارادوا اى قوم مكة ان تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلتا لمحمد عليه السلام وان يكونوا متبوعين لا تابعين قال صاحب التيسير وهذه غاية السفه ان يقال لرجل آمن فيقول لا اومن حتى يجعلنى الله نبيا قال الامام الثعلبى المراد برسل الله هو حضرة النبى عليه السلام كما انه المخاطب فى قوله تعالى { يا ايها الرسل }
هرجه هوبان همه دارند توتنا دار ... واعلم ان ما بين الجلالتين من هذه السورة من الاماكن التى يرجى فيها استجابة الدعاء فليحافظ على ذلك { الله اعلم } من كل شئ يعلم { حيث يجعل رسالته } اى الموضع الصالح لوضعها فيه ويضعها وهؤلاء ليسوا اهلالها لان الاهلية بالفضائل النفسانية لا بالنسب والمال فحيث نصب على المفعولية بيعلم المقدر توسعا { سيصيب الذين اجرموا } اى يصيبهم البتة مكان ما تمنوه من عز النبوة وشرف الرسالة { صغار } اى ذلة وحقارة بعد كبرهم { عند الله } اى يوم القيامة فهو منصوب بقوله سيصيب مجاز عن حشرهم يوم القيامة { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } اى بسبب مكرهم المستمر وحيث كان هذا من معظم مواد اجرامهم صرح بسببيته واعلم ان النبوة اختصاص الهى عطائى غير كسبى كالسلطنة فلا ينالها المجاهد وان اتى بجميع الشرائط والاسباب وكذا الولاية لكنها كالوزارة فيجوز ان ينالها بعض المجاهدين فليس كل مجاهد واصلا وقد يكون الوصول بدون المجاهدة ايضا اذا كمل الاستعداد وسبقت العناية كما روى عن بعض شيوخ اليمن انه خرج يوما من زبيد الى نحو الساحل المعروف بالاهواز ومعه تلميذ له فمر فى طريقه على قصب ذرة كبار فقال للتلميذ خذ معك من هذا القصب ففعل المريد وتعجب فى نفسه وقال ما مراد الشيخ بهذا ولم يقل له الشيخ شيأ حتى اذا بلغ الى محله لعبيد يقال لهم السناكم يأكلون الميتات ويشربون المسكرات ولا يعرفون الصلوات واذا بهم يشربون ويلعبون ويلهون ويطربون ويغنون ويضربون فقال الشيخ للتلميذ ائتنى بهذا الشيخ الطويل الذى يضرب الطبل فاتاه التلميذ فقال له اجب الشيخ فرمى الطبل من رقبته ومشى معه الى الشيخ فلما وقف بين يديه قال الشيخ للتلميذ اضربه فضربه حتى استوفى منه الحد ثم قال له الشيخ امش قدامنا فمشى حتى بلغوا البحر فامره الشيخ ان يغسل ثيابه ويغتسل وعلمه كيفية ذلك وكيفية الوضوء ففعل ثم علمه كيف يصلى وتقدم الشيخ فصلى بهما الظهر فلما فرغوا من الصلاة قام الشيخ ووضع سجادته على البحر وقال له تقدم فقام ووضع قدميه على السجادة ومشى على الماء حتى غاب عن العين فالتفت التلميذ الى الشيخ وقال وامصيبتاه واحسرتاه لى معك كذا وكذا سنة ما حصل لى من هذا شئ وهذا فى ساعة واحدة حصل له هذا المقام وهذه الكرامات العظام فبكى الشيخ قال يا ولدى وايش كنت انا هذا فعل الله تعالى قيل لى فلان من الابدال توفى فاقم فلانا مقامه فامتثلت الامر كما يمتثل الخدام وودت انه حصل لى هذا المقام فظهر ان الله تعالى اعلم حيث يجعل ولايته ايضا : قال الحافظ(4/38)
جون حس عاقبت نه برندى وزاهديست ... آن به كه كارخود بعنايت رها كنند
والاشارة { وكذلك جعلنا فى كل قرية اكابر مجرميها ليمكروا فيها } ان القرية هى القالب . واكابر مجرميها اى مفسدى حسن الاستعداد بقبول الشقاوة هى النفس والهوى والشيطان يمكرون فيها بمخالفات الشرع وموافقات الطبع { وما يمكرون الا بانفسهم } لا فساد استعدادهم عائد الى انفسهم بحصول الشقاوة وفوات السعادة { وما يشعرون } ولا شعور لهم على ما يفعلون بانفسهم وان مرجعهم الى النار { واذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن } اى النفس والهوى والشيطان من دأبهم ان لا يؤمنوا برؤية الآيات اذ جبلوا على التمرد والاباء والانكار ولسان حالهم يقول لن نؤمن { حتى نؤتى مثل ما اوتى رسل الله } اى القلب والسر والروح لانهم مهبط اسرار الحق والهاماته { الله اعلم حيث يجعل رسالته } يخص بها القلب والسر والروح ونفسا تطمئن بذكر الله فتستحق رسالة ارجعى الى ربك { سيصيب الذى اجرموا صغار عند الله } يعنى اصحاب النفس الامارة بالسوء لهم ذلة البعد من عند الله { وعذاب شديد } وهو عذاب الفرقة والانقطاع { بما كانوا يمكرون } اى بما افسدوا استعداد الوصلة وهو جزاء مكرهم وكيدهم كذا فى التأويلات النجمية(4/39)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{ فمن يرد الله } معناه بالفارسية [ يس هركرا خواهد خداى ] { ان يهديه } اى يعرفه طريق الحق ويوفقه للايمان { يشرح صدره للاسلام } فيتسع له وينفسح وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة بحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه فالمعنى من اراد الله منه الايمان قوى صوارفه عن الكفر ودواعيه الى الايمان وجعل قلبه قابلا لحلول الايمان مهيئا لتحليه به صافيا خاليا عما بنا فيه ويمنعه ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال « نور يقذفه الله فى قلب المؤمن فينشرح له وينفسح » فقالو هل لذلك امارة يعرف بها فقال « نعم الانابة الى دار الخلود والتجافى عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله » واعلم ان العلم علمان علم المعاملة وعلم المكاشفة فالاول هو العلم بما يقرب اليه تعالى وما يبعد عنه وهو مقدم على الثانى الذى هو نور يظهر فى القلب فيشاهد به الغيب لانه الشرط له قال تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } لا ينفك عنه لان الحديث المذكور صرح بان الانابة والتجافى والاستعداد التى هى من علم المعاملة علامة ذلك النور وفى فضل المكاشفة ورد قوله عليه السلام « فضل العالم على العباد كفضلى على امتى » اذغير المكاشفة تبع للعمل لثبوته شرطا له
قال فى التأويلات النجمية كلما كان الحجاب ارق كان الايمان اقوى والقلب انور واصفى الى ان يصير الايمان ايقانا لكمال رقة الحجاب وتنور القلب الى ان يصير الايقان عيانا عند رفع الحجاب وتجلى الحق بصفة جماله الى ان يصير العيان عينا بتجلى صفة جلاله { ومن يرد ان يضله } اى يخلق فيه الضلال لصرف اختياره اليه { يجعل صدره ضيقا } بالفارسية [ تنك ] { حرجا } بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الايمان اى من اراد الله منه الكفر قوى صوارفه عن الايمان وقوى دواعيه الى الكفر . والحرج بالفتح مصدر وصف به مبالغة وبالكسر اسم الفاعل وهو المتزايد فى الضيق فهو اخص من الاول فكل حرج ضيق من غير عكس قيل الحرج موضع الشجر المتلف يعنى ان قلب الكافر لا يصل اليه الايمان كما لا تصل الراعية الى الموضع الذى التف فيه الشجر { كأنما يصعد فى السماء } قال الامام فى كيفية هذا التشبيه وجهان الاول كما ان الانسان اذا كلف الصعود الى السماء نقل ذلك التكليف عليه وعظم وقعه عليه وقويت نفرته منه فكذلك الكافر يثقل عليه الايمان وتعظم نفرته منه . والثانى ان يكون التقدير ان قلبه يتباعد عن الاسلام ويتباعد عن قبول الايمان فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الارض الى السماء انتهى كما قال الكاشفى فى تفسيره الفارسى [ كوبى بالا ميرود در آسمان يعنى ميكريزد از قبول حق ميخواهدكه بآسمان رود ] واعلم ان القلوب متفاوتة .(4/40)
فمنهما ما يشق عليه الايمان وهى قلوب الكفرة . ومنا ما يشق عليه الذوق والوجدان وهى قلوب اهل النقصان من اهل الايمان فان بعض الناس منهم من يتباعد عن الكلمات العرفانية بل ينكر احوال اصحاب الفضائل النفسانية وهذا لان من انهمك فى الصفات الحيوانية وحكم عليه الصفات السبعية والشيطانية لا يسوغ له الشرب من المشارب الروحانية ولذا يوصى بكتم ما يتعلق بالاسرار عن الاغبار
جرا صدف نكند جاك سينه را صائب ... درين زمانه كه جوهر شناس نايابست
{ كذلك } اى مثل الجعل المذكور { يجعل الله الرجس } اى العذاب والخذلان او اللعنة او الشيطان اى يسلطه { على الذين لا يؤمنون } اى عليهم فوضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بان جعله تعالى معلل بما فى حيز الصلة من كمال نبوهم عن الايمان واصرارهم على الكفر والطغيان(4/41)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
{ وهذا } اى البيان الذى جاء به القرآن { صراط ربك } اى طريقه الذى ارتضاه حال كونه { مستقيما } لمن يسلكه فلا يعوج به حتى يورده الى الجنة { قد فصلنا الآيات } اى ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر { لقوم يذكرون } اى يتعظون وخصوا بالذكر لانهم المنتفعون بتفصيل الآيات(4/42)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{ لهم } كأن سائلا يسأل عما اعد الله تعالى للمتذكرين بما فى تضاعيف الآيات فقيل لهم { دار السلام } اى السلامة من كل المكاره وهى الجنة { عند ربهم } حال من دار السلام اى نزله وضيافته كما تقول نحن اليوم عند فلان اى فى كرامته وضيافته . وقيل العندية كناية عن وعدها والتكفل بها { وهو وليهم } اى مولاهم ومحبهم او ناصرهم على اعدائهم { بما كانوا يعملون } اى بسبب الاعمال الصالحة واعلم ان الله تعالى بين حسن الايمان وقبح الكفر وحال السعيد والشقى ورغب فى طريق الانبياء والاولياء وجعل العمل الصالح وهو ما اريد به وجه الله سببا لمحبة الله ودخول دار السلام وهى دار القرار التى يأمن من دخلها من العذاب مطلقا فالله تعالى ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور روى ان عمر بن الخطاب جهز جيشا الى فتح بعض حصون ديار العجم اربعة آلاف فارس وامر عليهم ابنه عبدالله رضى الله عنهما قال فسرنا حتى حاصرنا قلعة على جبل عال لا يصل اليه اسلحتنا فحاصرناها وكان فيها جيش من الكفار وكانت اميرتهم امرأة حسناء فحصل لنا تعب شديد ففى ذات يوم نظرت اميرتهم من المنظرة عسكرنا فرأت شابا حسنا من شبان العرب وكان شابا فارسا ماهرا فى الحرب فلما وقع نظرها عليه تأوهت فقالت لها بعض جواريها لم تأوهت يا ملكة وانت فى حصار ومنعة فقالت ان حصننا هذا يفتحه هذا الشاب قالت وكيف ذلك قالت سترين بعد ساعة ثم ارسلت اليه الملكة رسولا تقول هل اجد اليك سبيلا فتكون لى واكون لك فقال الشاب نعم بشرطين ان تسلمى الحصن الخرج الينا والداخل اليه فارسلت مع الرسول تستفهم اما الخارج فعرفنا واما الداخل فما عرفنا قال لها تسلمى قلبك الى الله تعالى وتقرين له بالوحدانية فارسلت اليه قوما ادخل بعسكرك فانى قد فتحت لك الباب فلما دخل الحصن عرض عليها الاسلام فقالت اعلم انى ملكة ذات همة عالية فهل فى عسكرك من هو اكبر منك حتى اسلم على يديه قال نعم اميرنا وكبيرنا وهو ابن امير المؤمنين فلما حضرت بين يدى عبدالله بن عمر رضى الله عنهما عرض عليها الاسلام فقالت كالاول هل احد اكبر منك فى المسلمين حتى اسلم بين يديه فقال لها نعم والدى امير المؤمنين عمر رضى الله عنه فقالت ارسلنى اليه حتى اسلم بين يديه فارسلها ومعها عسكر واموال جزيلة اخرجتها معها من الحصار فلا زالت حتى وصلت الى عمر رضى الله عنه فقالت له يا امير المؤمنين هل هنا احد اكبر منك قال نعم محمد رسول الله وهذا قبره الشريف واشار الى الروضة المطهرة فقالت لا اسلم الا بين يديه فاجابها لما قالت فلما اتت الروضة المنورة سلمت وجلست بادب ووقار فى حضرة النبى عليه السلام وقالت اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله ثم قالت خرجت من الظلمات الى النور وانا اخشى يا رسول الله ان يدنس ايمانى المعاصى فاسأل ربك الذى ارسلك الينا بالحق ان يقبض روحى قبل ان اعصيه مرة اخرى ثم وضعت رأسها على عتبة المصطفى صلى الله عليه وسلم فماتت من ساعتها فبكى عمر رضى الله عنه من حسن حالها وامر بغسلها وتجهيزها ودفنها بالبقيع بين الصحابة رضى الله عنهم(4/43)
بروز واقعة تابوت من زسر وكنيد ... كه ميروم بهواى بلند بالانى
اللهم اجعلنا من الذين سلكوا الصراط المستقيم ووصلوا الى جنابك بالقلب السليم فنجوا من عذابك الاليم آمين كريم يا رحيم(4/44)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ ويوم يحشرهم جميعا } اى واذكر يا محمد لاهل مكة وغيرهم يوم يحشر الله الثقلين جميعا ويجمعهم فى موقف القيامة فيقول بطريق التوبيخ { يا معشر الجن } اى يا جماعة الشياطين فان المعشر الجماعة التى تضبطهم جهة واحدة وحصل بينهم معاشرتهم ومخالطتهم ويجمع على معاشر . قال بعضهم سميت الجماعة بالمعشر لبلوغها غاية الكثرة فان العشر هو العدد الكامل الكثير الذى لا عدد بعده الا بتركيبه بما فيه من الآحاد فتقول احد عشر واثنا عشر فاذا قيل معشر فكأنه قيل محل العشر الذى هو الكثرة الكاملة . وسمى الجن جنا لاجتنانهم اى استتارهم عن اعين الناس { قد استكثرتم من الانس } اى من اغوائهم واضلالهم اى اضللتم خلقا كثيرا من الانس { وقال اولياؤهم } اى اولياء الشياطين الذين اطاعوهم حال كونهم { من الانس } فهو حال من اولياؤهم { ربنا استمتع بعضها ببعض } اى انتفع الانس بالجن والجن بالانس . اما انتفاع الانس بالجن فمن حيث ان الجن كانوا يدلونهم على انواع الشهوات وما يتوصل به اليها ويسهلون طريق تحصيلها عليهم . واما انتفاع بالجن بالانس فمن حيث ان الانس اطاعوهم ولم يضيعوا سعيهم والرئيس المطاع ينتفع بانقياد اتباعه له { وبلغنا اجلنا الذى اجلت لنا } اى ادركنا الوقت الذى وقت لنا وهو يوم القيامة قالوه اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث واظهارا للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم
كنون بايدا اى خفته بيدار بود ... جومر لئا ندر آرد زخوابت جه سود
جه خوش كفت باكودك آموزكار ... كه كارى نكرديم وشد روزكار
ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للايذان بان المضلين فداقحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم اصلا { قال } كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ فقيل قال { النار مثواكم } اى منزلكم فهو اسم مكان بمعنى مكان الاقامة { خالدين فيها } قال ابن عباس رضى الله عنهما الخلق اربعة . فخلق فى الجنة كلهم . وخلق فى النار كلهم . وخلقان فى الجنة والنار . اما الذى فى الجنة كلهم فالملائكة . واما الذى فى النار كلهم فالشياطين . واما الذى فى الجنة والنار فالانس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب { الا ما شاء الله }
قال فى التأويلات النجمية ( الا ما شاء الله ) من الاوقات التى يخرجون فيها لشوب بن حميم فانه خارجها كما قال الله { ثم ان مرجعهم لإلى الجحيم } وقيل يفتح لهم وهم فى النار باب الى الجنة فيسرعون نحوه حتى اذا صاروا اليه سد عليهم الباب وقيل { الا ما شاء الله } قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم ابدا الا وقت امهالكم الى وقت الادخال والخلود كما ينتقص من الآخر كذلك ينتقص من الاول هذا ما ذهب اليه علماء الظاهر فى توجيه الاستثناء الا ان حضرة الشيخ نجم الدين قدس سره قال فى ذلك حفظا لظاهر الشرع وللعلماء بالله تحقيق بديع فى هذه المقام لا يتحمله عقول العوام ونحن نشير الى نبذ من ذلك ونوصى بالستر الاعلى السالك قال المولى رمضان فى شرح العقائد اعلم ان اهل النار لم يقنطوا من الخلاص حتى اذا ذبح كبش الموت بين الجنة والنار ونودى اهلهما بالخلود ايس اهل النار من الخلاص فاعتادوا بالعذاب ولم يتألموا حتى آل امرهم الى ان يتلذذوا به حتى لو صب عليهم نسيم الجنة استنكروه وتعذبوا به كالجعل يستطيب الروث ويتألم من الورد انتهى كلامه وهذا معنى ما قال الشيخ الاكبر والمسك الاذفر والكبريت الاحمر قدس سره الاطهر تبقى جهنم خالية وان العذاب من العذب انتهى ولا يغرنك ظاهر هذا الكلام الاكبرى فان اتفاق العلماء من الطرفين على ان المخلد لا يخرج من النار ولا تبقى جهنم خالية من جسده قال حضرة شيخنا وسندنا الذى فضله الله تعالى على العالمين بما خصه من كمالات الدين فكما اذا استقر اهل دار الجمال فيها يظهر عليهم اثر الجمال ويتذوقون دائما ابدا ويختفى منهم جلال الجمال واثره بحيث لا يحسونه ولا يرونه ولا يتألمون به قطعا سرمدا فكذلك اذا استقر اهل دار الجلال فيها بعد مرورو الاحقاب يظهر على بواطنهم اثر جمال الجلال ويتذوقون به ابدا ويختفى منهم اثر نار الجلال بحيث لا يحسونه ولا يرونه ولا يتألمون به سرمدا لكن كما عرفت ليس كذلك الا بعد انقطاع احراق النار بواطنهم وظواهرهم بعد مرور الايام والاحقاب وكل منهم تخرقه النار خمسين الف سنة من سنى الآخرة لشرك يوم واحد من ايام الدنيا والظاهر عليهم بعد مرور الاحقاب هو الحال الذى يدوم عليهم ابدا وهو الحال الذى كانوا عليه فى الازل وما بينهما ابتلا آت رحمانية والابتلاء حادث قال تعالى(4/45)
{ ونبلوكم بالشر والخبير فتنة والينا ترجعون } عصمنا الله واياكم من دار البوار انتهى كلام الشيخ رضى الله عنه { ان ربك حكيم } فى افعاله ومنها تخليد اولياء الشياطين فى النار { عليم } باحوال الثقلين واعمالهم وبما يليق بها من الجزاء(4/46)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{ وكذلك } اى كما خذلنا عصاة الجن والانس حتى استمتع بعضهم ببعض { نولى بعض الظالمين بعضا } اى نسلط بعضهم على البعض فنأخذ من الظالم بالظالم { بما كانوا يكسبون } بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصى وجاء ( من اعان ظالما سلطه الله عليه ) وعن ابن عباس رضى الله عنهما اذا اراد الله بقوم خيرا ولى امرهم خيارهم واذا اراد بقوم شرا ولى امرهم شرارهم وجاء فى بعض الكتب الالهية انى انا الله ملك الملوك قلوب الملوك بيدى فمن اطاعنى جعلتهم عليه رحمة ومن عصانى جعلته عليه نقمة فلا تشغلوا انفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا الى اعطفهم عليكم وفى الحديث « الظالم عدل الله فى الارض ينتقم به ثم ينتقم منه » وفى المرفوع « يقول الله عز وجل انتقم ممن ابغض بمن ابغض ثم اصير كلا الى النار » وفى الزبور انى لانتقم من المنافق بالمنافق ثم انتقم من المنافقين جميعا وقول القائل كيف يجوز وصفه بالظلم وينسب الى انه عدل من الله تعالى جوابه ان المراد بالعدل هنا ما يقابل بالفضل فالعدل ان يعامل كل احد بفعله ان خيرا فخير وان شرا فشر والفضل ان يعفو مثلا عن المسيئ وهذا على طريق اهل السنة بخلاف المعتزلة فانهم يوجبون عقوبة المسيئ ويدعون ان ذلك هو العدل ومن ثمة سموا انفسهم اهل العدل والى ما صار اليه اهل السنة يشير قوله تعالى { وقل رب احكم بالحق } اى لا تمهل الظالم ولا تتجاوز عنه بل عجل عقوبته لكن الله تعالى يمهل من يشاء ويتجاوز عمن يشاء ويعطى من يشاء لا يسأل عما يفعل كذا فى المقاصد الحسنة للامام السخاوى : وفى المثنوى
جونكه بدكردى بترس ايمن مباش ... زانكه تخمست وبرو ياند خداش
جند كاهى اوبيو شاندكه تا ... آيدت زان بد بشيمان وحيا
بارها بوشد بى اظهار فضل ... باز كيرد از بى اظهار عدل
تاكه اين هردو صفت ظاهر سود ... آن مبشر كردد اين منذر شود
واعلم ان الظلم مطلقا مفسد للاستعداد الفطرى الروحانى القابل للفيض الربانى ولذا لا ينجع فى الظالم الكلام الحق واكثر ما يكون من ارباب الرياسة للقدرة والغلبة وفى الحديث « ان من اشراط الساعة اماتة الصلوات واتباع الشهوات وان تكون الامراء خونة والوزراء فسقة » فوثب سلمان فقال بابى وامى أهذا كائن قال « نعم يا سلمان عندها يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح فى الماء ولا يستطيع ان يغير » قال أو يكون ذلك قال « نعم يا سلمان ان اذل الناس يومئذ المؤمن يمشى بين اظهرهم بالمخافة ان تكلم اكلوه وان سكت مات بغيظه » كذا فى روضة الاخبار : قال السعدى قدس سره
خبر دارى از خسروان عجم ... كه كردندبر زير دستان ستم
نه آن شوكت وبادشاهى بماند ... نه آن ظلم برروستايى بماند
مكن تاتواننى دل خلق ريش ... وكرميكنى ميكنى بيخ خويش
اللهم احفظنا من الظلم والفساد انك حافظ العباد والبلاد(4/47)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{ يا معشر الجن والانس ألم يأتكم } اى يقول الله تعالى يوم القيامة للثقلين جميعا ألم يأتكم فى الدنيا اى كل فريق منكم { رسل } اى رسول معين من الله تعالى { منكم } صفة لرسل اى كائنة منكم اعلم ان الجن والانس مكلفون بالاتفاق لكن الرسول اليهم يحتمل ان يكون من جنسهم كما كان جبريل ونحوه رسل الملائكة من جنسهم وخواص البشر رسل الانس من انفسهم لان الجنس الى الجنس اميل والاستفادة والاستئناس فى الحنسية وخواص البشر رسل الانس من انفسهم لان الجنس الى الجنس اميل والاستفادة والاستئناس فى الحنسية اظهر ويحتمل ان يكون من غير جنسهم بان يكون من البشر وذلك لا يمنع الاستفادة لانه يجوز ان يستفيد خواصهم من الرسل ويكونوا رسل الرسول الى قومهم كاستفادة خواص البشر من خواص الملائكة وقد قام الاجماع على ان نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل الى الثقلين ودعا كل واحد من الفريقين الى الايمان بالله واليوم الآخر وقد كان الانبياء قبله يبعثون الى قومهم خاصة واما سليمان عليه السلام فانه لم يبعث الى الجن بالرسالة العامة بل بالملك والضبط والسياسة التامة فقوله تعالى { رسل منكم } اما محمول على المعنى الاول بان يكون الرسل من جنس الفريقين وقد ذهب اليه الضحاك ومن تبعه حيث قالوا لا معنى للعدول عن الظاهر بغير ضرورة وأيدوه بما قال ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى { ومن الارض مثلهن } فى كل ارض نبى مثل نبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وابراهيم كابراهيم وعيسى كعيسى وصححه صاحب آكام المرجان كيف وابن عباس رضى الله عنهما سلطان المفسرين بالاتفاق ولا معنى لقول السخاوى فى المقاصد الحسنة انه اخذه من الاسرائيليات وهذا كما قالوا ان فى كل سماء كعبة حيالها يطوفها اهلها وكذا فى كل ارض ويناسب هذا ما قاله حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره خطايا لحضرة الهدائى الآن عوالم كثيرة يتكلم فيها محمود وافتاده كثير واما محمول على المعنى الثانى وهو الذى ادعوا فيه الاجماع وفيه تفصيل شأن البشر فالرسل من الانس خاصة لكن لما جمعوا مع الجن فى الخطاب صح ذلك ونظيره { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } والمرجان يخرج من الملح دون العذب وقيل الرسل يعم رسل الرسل وقد ثبت ان نفرا من الجن قد استمعوا القرآن وانذروا به قومهم هذا ما وفقنى الله تعالى لترتيبه وتهذيبه فى هذا الباب والله يقول الحق ويهدى الى الصواب { يقصون عليكم آياتى } اى يقرأون عليكم كتبى { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } يعنى يوم القيامة { قالوا } جوابا عند ذلك التوبيخ الشديد { شهدنا على انفسنا } ان قد بلغنا وهو اعتراف منهم بالكفر واستحقاق العذاب وشهدنا انشاء الشهادة مثل بعت واشتريت فلفظ الماضى لا يقتضى تقدم الشهادة { وغرتهم الحياة الدنيا } فلم يؤمنوا { وشهدوا على انفسهم } فى الآخرة { انهم كانوا } فى الدنيا { كافرين } اى بالآيات والنذر التى أتى بها الرسل وهو ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فانهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات على انفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيرا للسامعين من مثل حالهم(4/48)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ ذلك } اى ارسال الرسل { ان } اللام مقدرة وهى مخففة اى لان الشأن { لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } اى بسبب ظلم منها { واهلها غافلون } لم يرسل اليهم رسول يبين لهم قال البغوى وذلك ان الله تعالى اجرى السنة اى لا يأخذ احدا الا بعد وجود الذنب وانما يكون مذنبا اذا امر فلم يأترم ونهى فلم ينته ويكون ذلك بعد انذار الرسل وهو التفسير الفارسى [ استئصال هيج قوم نباشد الا بعد از تقدم وعيد واكرنه ايشانرا برحق حجت باشدكه لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك ]
قال فى التأويلات النجمية الاستعداد الروحانى لا يفسد باستيفاء الحظ الحيوانى فى الطفولية الا بعد ان يصير العبد مستعدا لقبول فيض العقل وفيض الهام الحق عند البلوغ فيخالف الالهام ويتبع الهوى فيفسد بذلك حسن الاستعداد لقبول الفيض الالهي كقوله تعالى { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وهذا كما انه تعالى لا يعذب قوما ما بلغتهم الدعوة حتى يبعث فيهم رسولا فيخالفونه فيعذبهم بها وقد عبر لسان الشرع عن هذا المعنى بان لا يجرى عليه قلم تكاليف الشريعة الا بعد البلوغ بالاوامر والنواهى لانه اوان ترقى الروح باستعمال المأمورات ونقصانه باستعمال المنهيات انتهى فعلى العاقل ان يتدارك حاله ويخاف من الخطاب القهرى يوم القيامة
كر بمحشر خطاب قهر كند ... انيسارا جه جاى معذرتست
قال الحسن البصرى رحمه الله الناس فى هذه الدنيا على خمسة اصناف . العلماء وهم ورثة الانبياء . والزهاد وهم الادلاء . والغزاة وهم اسياف الله . والتجار وهم امناء الله . والملوك وم رعاة الخلق فاذا اصبح العالم طامعا وللمال جامعا فبمن يقتدى ولذا قال من قال
شيخ جون مائل بمال آيد مريد او معاش ... مائل دينار هر كز مالك ديدار نيست
واذا اصبح الزاهد راغبا فبمن يستدل ويهتدى
اززاهدان خشك رسائى طمع مدار ... سبل ضعيف واصل دريا نميشود
واذا اصبح الغازى مرائيا والمرائى لا عمل له فمن يظفر بالاعداء
عبادت بالاخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغز بوست
واذا كان التاجر خائنا فمن يؤمن ويرتضى
درين زمانه مكر جبرئيل امين باشد ... واذا اصبح الملك ذئبا فمن يحفظ الغنم ويرعى
بادشاهى كه طرح ظلم افكند ... باى ديوار ملك خويش بكند
نكند جور بيشه سلطانى ... كه نيايد زكرك جوبانى
والله ما هلك الناس الا العلماء المداهنون والزهاد الراغبون والغزاة المراؤون والتجار الخائنون والملوك الظالمون { وسيعلم الذين ظلموا اىّ منقلب ينقلبون } ثم ان الاحكام الالهية قد بلغت الى كل اقليم وبلغ الشاهد الغائب الى يومنا هذا من قديم وامتلاء الآذان من سماع الحق والكلام المطلق فلم يبق للسلطان ولا للوزير ولا لغيرهما من الوضيع والخطير عذر ينجيه من الهلاك وقهر مالك الاملاك والتنبيه مقدم لكل خامل ونبيه فهلاك القرى واهلها وظهور الظلمات فرعها واصلها انما هو من غفلة الانسان ايقظه الله الملك المنان فلا تلومن عند وجود التنزل الا نفسك الابية وظهور التسفل الا طبيعتك الغبية فقد استبان البرهان والحجة ووضع لسالكيها المحجة ألم تسمع الى قوله تعالى { فلله الحجة البالغة } واراك انك القمت الحجر ولا تدرى ما فعل بك بل تتمادى فى تعبك وتتمرغ فى غضبك فعالج نفسك ايها المريض قبل الحلول الى الحضيض(4/49)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{ ولكل } من المكلفين من الثقلين مؤمنين كانوا او كفارا { درجات مما عملوا } اى مراتب كائنة من اعمالهم صالحة كانت او مسيئة فلاهل الخير درجات بالمراتب لان الدرجات غلب استعمالها فى الخير والثواب والكفار لا ثواب لهم { وما ربك بغافل عما يعملون } فيخفى عليه عمل من اعمالهم طاعة او معصية والمقصود ان الله يجزى كل عامل بما عمل(4/50)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
{ وربك الغنى } عن العباد والعبادة . والغنى هو الذى لا يحتاج الى شئ فيكون وجود كل شئ عنده وعدمه سواء وغيره تعالى لا يسمى غنيا الا اذا لم يبق له حاجة الا الى الله تعالى فاصل الحاجة لا ينقطع عن غير الله لانه فى وجوده وغناه يحتاج الى الغنى الحقيقى { ذو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصى
وفى التأويلات النجمية يعنى مع غناه عن الخلق له رحمة قد اقتضت ايجاد الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم : قال فى المثنوى
جون خلقت الخلق كى يربح على ... لطف توفر مود اى قيوم وحى
لا لان اربح عليهم جود تست ... كه شود زو جمله ناقصها درست
عفو كن اين بند كان تن برست ... عفو از درياى عفو اولى ترست
عفو خلقان همجو جو وهمجو سيل ... هم بدان درياى خود تازند خيل
{ ان يشأ يذهبكم } ايها العصاة اى يهلككم { ويستخلف } بالفارسى [ خليفه وجانشين شما سازد ] { من بعدكم } اى من بعد اذهابكم واهلاككم { ما يشاء } اى خلقا آخر اطوع لله منكم وايثار ما على من لا ظهار كمال الكبرياء واسقاطهم عن رتبة العقلاء { كما انشأكم من ذرية قوم آخرين } اى من قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهو اهل سفينة نوح عليه السلام لكنه ابقاكم ترحما عليكم وفى التفسير الفارسى [ همجاننكه شمارا بيدا كرد از ذرية قومى ديكركه بدران شمابودند ](4/51)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{ ان ما توعدون } اى الذى توعدون من البحث والعذاب { لآت } لواقع لا محالة لا خلف فيه { وما انتم بمعجزين } اى بفائتين ذلك وان ركبتم فى الهرب متن كل صعب وذلول(4/52)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{ قل } لاهل مكة { يا قوم اعملوا على مكانتكم } المكانة مصدر بمعنى التمكن وهو القوة والاقتدار اى اعملوا على غاية تمكنكم ونهاية استطاعتكم يعنى اعملوا ما انتم عاملون واثبتوا على كفركم وعداوتكم { انى عامل } ما كتب على من المصابرة والثبات على الاسلام والاستمرار على الاعمال الصالحة . والامر للتهديد من قبيل الاستعارة تشبيها للشر المهدد عليه بالمأمور به الواجب الذى لا بد ان يكون
قال فى التأويلات النجمية { اعملوا على مكانتكم } اى على ما جبلتم عليه نظيره قوله { قل كل يعمل على شاكلته } { فسوف تعلمون من } استفهامية او موصولة { تكون له عاقبة الدار } اى اينا تكون له العاقبة المحمودة التى خلق الله تعالى هذه الدار لها او فسوف تعرفون الذى له العاقبة الحسنى فالدار دار الدنيا والعاقبة الاصلية لهذه الدار هى عاقبة الخير واما عاقبة السوء فمن نتائج تحريف الفجار { انه } اى ان الشان { لا يفلح } يسعد { الظالمون } اى الكافرون اى لا يظفرون بمرادهم وبالفارسى [ بدرستى كه بيروزى ورستكارى نيابند ستمكاران يعنى كفار . صاحب كشف الاسرار فرموده كه هم درين روزى بدانيد كه دنيا كجارسد ودولت فلاح كرا رسد بينيد كه درويشان شكسته بال را بسراى كرامت جون خوانند وخواجكان صاحب اقبال را سوى زندان ندامت جون رانند ]
باش تاكل يابى آنهاراكه امر وزندجزو ... باش تاكل بينى انهارا كه امر وزندخار
تاكه ازدار الغرورى ساختن دار السرور ... تاكى ازدار الفرارى ساختن دار القرار
وليس الفلاح الا فى العلم والعمل وترك الدنيا والكسل والذلل حكى عن بعضهم انه دخل عليه بعض الفقرا ولم يجد فى بيته شيأ من المتاع فقال امالك شئ قال بلى لنا داران احداهما دار امن والاخرى دار خوف فما يكون لنا من الاموال ندخره فى دار الامن يعنى نقدمه للدار الآخرة فقال له انه لا بد لهذا المنزل من متاع فقال ان صاحب هذا المنزل لا يدعنا فيه وذلك ان الدنيا عارية ولا بد للمعير ان يرجع فى عاريته فعاقبة الدار انما هى للاخيار الابرار الذين عملوا لله فى ليلهم ونهارهم ولم ينقطعوا عن التوجه اليه حال سكونهم وقرارهم وكان شاب يجتهد فى العبادة فقيل له فى ذلك فقال رأيت فى منامى قصرا من قصور الجنة مبنيا بلبنة من ذهب ولبنة من فضة وكذلك شراريفه وبين كل شرافتين حورية لم ير الراؤون مثلها لما بها من الحسن والجمال وقد ارخين ذوائب شعورهن فتبسمت احداهن فى وجهى فانارت الجنة بنور ثناياها ثم قالت يا فتى جد لله تعالى فى طلبى لاكون لك وتكون لى فاستيقظت فحقيق على ان اجد فاذا كان هذا الاجتهاد فى طلب حورية فكيف بمن يطلب رب الحورية(4/53)
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ ... كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
فظهر ان الاجتهاد فى طريق الحق له عاقبة حميدة فانه موصل الى الجنة والقربة والوصلة فسيظهر اثره فى الدار الآخرة . واما الظالمون الذين افسدوا استعداداتهم بما عملوا من المعاصى فانهم لا يفلحون بمثل هذه السعادة الى دار البوار وحالهم فى الدنيا هى الخسارة لا غير فان الباطل يفور ثم يغور والدولة فى الدنيا والآخرة لاهل الايمان والخلاص من التنزل لا يحصل الا بالايمان فمن دخل فى حصن الايمان وقوة اليقين يترقى الى ما شاء الله تعالى من الدرجات والشيطان وان كل ينبح عليه خارج الحصن لكنه لا يضره وفى الحديث « جددوا ايمانكم » والمراد الانتقال من مرتبة الى مرتبة فان اصل الايمان قد تم بالاول ولكن الايمان على ثمانى عشرة مرتبة العناية من الله تعالى وتوحيد كل شخص على قدر يقينه وهو قد يكون على قدر يقينه فى ملك وجوده وقد لا يكون على قدر هذا اليقين فالذين يظهرون الدعوى فتوحيدهم فى ملك وجودهم فقط فلو انهم جاوزوا الى هذا اليقين لندموا عليها ورغبوا عن انفسهم فعلى العاقل ان لا يسامح فى باب الدين بل يجتهد فى تحصيل اليقين فان الاجتهاد باب لهذا التحصيل ووسيلة فى رطيقة التكميل وان كان الله تعالى هو الموصل برحمته الخاصة والمؤثر فى كل الامور اللهم اجعلنا من اهل التوحيد الحقانى وشرفنا بالايمان العيانى فانك الغنى ونحن الفقراء(4/54)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{ وجعلوا } اى مشركوا العرب { لله مما ذرأ } اى خلق { من الحرث } اى الزرع { والانعام نصيبا } ولشركائهم ايضا نصيبا { فقالوا هذا } النصيب { لله بزعمهم } اى بادعائهم الباطل من غير ان يكون ذلك بامر الله تعالى { وهذا لشركائنا } اى آلهتنا التى شاركونا فى اموالنا من المتاجر والزروع والانعام وغيرها فهو من الشركة لا من الشرك والاضافة الى المفعول روى انهم كانوا يعينون شيأ من الحرث والنتائج لله ويصرفونه الى الضيفان والمساكين وشيأ منهما لآلهتهم وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه معتلين بان الله تعالى غنى وما ذلك الا لحب آلهتهم وايثارهم لها { فما كان لشركائهم } من نماء الحرث والانعام { فلا يصل الى الله } اى الى المساكين والاضياف وقالوا لو شاء الله زكى نصيب نفسه { وما كان لله } من ذلك النماء { فهو يصل الى شركائهم } بذبح النسائك عنده والاجراء على سدنتها لانهم اذا لم ينم نصيب الآلهية يبدلون ذلك النامى الذى عينوه لله تعالى ويجعلونه لآلهتهم { ساء ما يحكمون } اى ساء الذى يحكمون حكمهم فيما فعلوا من ايثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم بالم يشرع لهم(4/55)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{ وكذلك } ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك فى قسمة القربان بين الله تعالى وبين آلهتهم { زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم } اى اولياؤهم من الجن او من السدنة فقوله قتل مفعول زين وشركاؤهم فاعله وكان اهل الجاهلية يدفنون بناتهم احياء خوفا من الفقر او من التزويج او من السبى وكان الرجل منهم يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينجرنّ احدهم كما حلف عبدالمطلب على ابنه عبدالله روى ان عبد المطلب رأى فى المنام انه يحفر زمزم ونعت له موضعها وقام يحفر وليس له ولد يومئذ الا الحارث فنذر لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا لينحرن احدهم لله تعالى عند الكعبة فلما تموا عشرة اخبرهم بنذره فاطاعوه وكتب كل واحد منهم اسمه فى قدح فخرج على عبدالله فاخذ الشفرة لينحر فقامت قريش من انديتها فقالوا لاتفعل حتى ننظر فيه فانطلق به الى عرّافة فقالت قربوا عشرا من الابل ثم اضربوا عليه وعليها القداح فان خرجت على صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم واذا خرجت على الابل فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم فقربوا من الابل عشرا فخرج على عبدالله فزاد عشرا عشرا فخرجت فى كل مرة على عبدالله الى ان قرب مائة فخرج القدح على الابل فنحرت ثم تركت لا يصدّ عنها انسان ولا سبع ولذلك قال عليه السلام « انا ابن الذبيحين » يريد اباه عبدالله واسمعيل عليه السلام { ليردوهم } اى ليهلكوهم بالاغواء { وليلبسوا عليهم دينهم } وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسمعيل عليه السلام واللام للتعليل ان كان التزيين من الشياطين وللعاقبة ان كان من السدنة لظهور ان قصد السدنة لم يكن الاردآء واللبس وانما كان ذلك قصد الشياطين { ولو شاء الله } اى عدم فعلهم ذلك { ما فعلوه } اى ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل { فذرهم وما يفترون } الفاء فصيحة اى اذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم على الله انه امرهم بدفن بناتهم احياء فان الله تعالى مع قدرته عليهم تركهم فاتركهم انت فان لهم موعدا يحاسبون فيه ولله تعالى فيما شاء حكم بالغة(4/56)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{ وقالوا هذه } اشارة الى ما جعلوه لآلهتهم { انعام وحرث حجر } اى حرام { لا يطعمها } بالفارسى [ نجشد ونخورد آنرا ] { الا من نشاء } يعنون خدم الاوثان والرجال دون النساء { بزعمهم } اى قالوه ملتبسين بزعمهم الباطل من غير حجة { وانعام } خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله تعالى هذه انعام اى قالوا مشيرين الى طائفة اخرى من انعامهم اى وهذه انعام { حرمت ظهورها } يعنون بها البحائر والسوائب والحوامى { وانعام } اى وهذه انعام كما مر وقوله تعالى { لا يذكرون اسم الله عليها } صفة لانعام لكنه غير واقع فى كلامهم المحكى كنظائره بل مسوق من جهته تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما فى قوله تعالى { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } على احد التفاسير كأنه قيل وانعام ذبحت على الاصنام فانها التى لا يذكر عليها اسم الله وانما يذكر عليها الاصنام { افتراء عليه } اى افتروا على الله افتراء يعنى انهم يفعلون ذلك ويزعمون ان الله تعالى امرهم به { سيجزيهم } بالفارسى [ زود باشدكه خدا جزادهد ايشانرا ] { بما كانوا يفترون } اى بسبب افترائهم(4/57)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{ وقالوا ما فى بطون هذه الانعام } يعنون به اجنة البحائر والسوائب { خالصة لذكورنا ومحرم على ازواجنا } اى حلال للرجال خاصة دون الاناث وتأنيث خالصة محمول على معنى ما وتذكير محرم محمول على لفظه وهذا الحكم منهم ان ولد ذلك حيا { وان يكن ميتة } اى ولدت ميتة { فهم فيه } اى ما فى بطون الانعام { شركاء } يأكلون منه جميعا ذكورهم واناثهم { سيجزيهم وصفهم } اى جزاء وصفهم الكذب على الله تعالى فى امر التحيل والتحريم { انه حكيم عليم } تعليل للوعد بالجزاء فان الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذى هو من مقتضيات الحكمة(4/58)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{ قد خسر الذين قتلوا اولادهم } جواب قسم محذوف وهم ربيعة ومضر واضرابهم من العرب الذين كانوا يئدون بناتهم محافظة السبى والفقر اى خسروا دينهم ودنياهم بالفارسى [ زيان كرند ] { سفها بغير علم } متعلق بقتلوا على انه علة له وبغير علم صفة لسفها اى لخفة عقلهم وجهلهم بان الله تعالى هو الرزاق لهم ولاولادهم { وحرموا } على انفسهم { ما رزقهم الله } من البحائر ونحوها { افتراء على الله } اى افتروا على الله افتراء حيث قالوا ان الله امرهم بها { قد ضلوا } عن الطريق المستقيم { وما كانوا مهتدين } اليه وان هدوا بفنون الهدايات روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رجلا من اصحابه كان لا يزال مغتما بين يديه فقال عليه السلام « مالك تكون محزونا » فقال يا رسول الله انى قد اذنبت فى الجاهلية ذنبا فاخاف ان لا يغفر لى وان اسلمت فقال عليه السلام « اخبرنى عن ذنبك » فقال يا رسول الله انى كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لى بنت فشفعت الىّ امرأتى ان اتركها فتركتها حتى كبرت وادركت فصارت من اجمل النساء فخطبوها فدخلت على الحمية ولم يتحمل قلبى ان ازوجها او اتركها فى البيت بغير زوج فقلت للمرأة انى اريد ان اذهب الى قبيلة كذا فى زيارة اقربائى فابعثيها معى فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلل واخذت على المواثيق بان لا اخونها فذهبت بها الى رأس بئر فنظرت فى البئر ففطنت الجارية بنى انى اريد ان القيها فى البئر فالتزمتنى وجعلت تبكى وتقول يا ابى أى شئ تريد ان تفعل بى فرحمتها ثم نظرت فى البشر فدخلت على الحمية ثم التزمتنى وجعلت تقول يا ابى لا تضيع امانة امى فجعلت مرة انظر الى البئر ومرة انظر اليها وارحمها وغلبنى الشيطان فاخذتها وألقيتها فى البئر منكوسة وهى تنادى فى البئر يا ابى قتلتنى فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله وقال « لو امرت ان اعاقب احدا بما فعل فى الجاهلية لعاقبتك بما فعلت » واعلم انهم لما انسد عليهم طريق الثقة بالله حملتهم خشية الفقر على قتل الاولاد ولذلك قال اهل التحقيق من امارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل قال حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر من دخل هذا الطريق وهو ذو زوج فلا يطلق او عزب فلا يتزوج حتى يكمل فاذا كمل فهو فى ذلك على ما يلقى اليه ربه انتهى واختار اكثر الكمل موت اولادهم لان كل ما يشغل الطالب عن الله من الاموال والاولاد فهو فتنة ومنهم ابراهيم بن ادهم حيث اجتمع بولده بمكة فرأى فى قلبه ميلا اليه فقال الهى امتنى او هذا مشيرا الى ولده فمات والانسب ان يدفعه من قلبه بالتوحيد ولا يدعو عليه بالموت لان الدعاء تصرف من عند نفسه والمتصرف فى الحقيقة هو الله فاذا ادخل عبده فى امر لا يتولى العبد اخراج نفسه منه بل يصبر وينتظر الى امر الله تعالى وقلة المال مع كثرة العيال والصبر عليها من المجاهدات المعتبرة عند السلاك قال حضرة الشيخ افتاده افندى خطابا لحضرة الهدايى اذا اظهر اهل بيتك جوعا شديدا ورأيتهم قد اشرفوا على الهلاك فعليك ان تتوكل على الله وتسلم الامر اليه بان تقول عن صميم قلبك لا بمجرد لسانك الهى انا عبد ذليل مثلهم وهم عبادك فامرى وامرهم اليك الا احل انا بينك وبين عبادك يتم المقصود بالسهولة ويقضى الرب جميع حوائجك قال ويكون توكل الطالب على وجه لو ان اولاده ما توا من الجوع لما ترحم عليهم بل قال هذا الرب وهذا عبده وافوض امرى الى الله ان الله بصير بالعباد : قال الصائب(4/59)
فكر آب اودانه دركنج قفس بيحاصلست ... زير جرخ انديشه روزى جرا بلشد مراد(4/60)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{ وهو الذى انشأ } اى خلق يقال نشأ الشئ نشأة اذا ظهر وارتفع وانشأه الله تعالى اى اظهره ورفعه { جنات } اى بساتين من الكروم { معروشات } اى مرفوعات على ما يحملها من خشب ونحوه { وغير معروشات } ملقيات على وجه الارض فان بعض الاعناب يعرش وبعضها لا يعرش بل يلقى على وجه الارض منبسطا او المعروشات الاعناب التى يجعل لها عروش وغير المعروشات كل ما نبت منبسطا على وجه الارض مثل القرع والبطيخ او المعروشات ما يحتاج الى ان يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه وهو الكرم وما يجرى مجراه وغير المعروش ما لا يحتاج اليه بل يقوم على ساقه كالنخل والزرع ونحوهما من الاشجار والبقول او المعروشات ما لا يحتاج اليه بل يقوم على ساقه كالنخل والزرع ونحوهما من الاشجار والبقول او المعروشات ما يحصل فى البساتين والعمرانات مما يهتم به الناس ويغرسونه وغير المعروشات ما انبته الله تعالى فى البرارى والجبال { والنخل والزرع } اى انشأهما وافرادهما بالذكر مع انهما داخلان فى الجنات لكونهما اعم نفعا من جملة ما يكون فى البساتين والمراد بالزرع ههنا جميع الحبوب التى يقتات بها { محتلفا أكله } حال مقدرة اذ ليس كذلك وقت الانشاء اى انشأ كل واحد منهما فى حال اختلاف ثمره الذى يؤكل فى الهيئة والكيفية قال البغوى ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والردى { والزيتون والرمان } اى انشأهما { متشابها وغير متشابه } نصب على الحالية اى يتشابه بعض افرادهما فى اللون والهيئة والطعم ولا يتشابه بعضها مثل الرمانين لونهما واحد وطعمهما مختلف { كلوا من ثمره } اى من ثمر كل واحد من ذلك { اذا اثمر } وان لم يدرك ولم يينع بعد ففائدة التقييد بقوله اذا اثمر اباحه الاكل منه قبل ادراكه وينعه { وآتوا حقه يوم حصاده } اشهر الاقوال على ان المراد ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد اى يوم قطع العنب والنخل ونحوهما بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار حتى نسخه افتراض العشر فيما يسقى بماء السماء ونصف العشر فيما يسقى بالدلو والدالية او نحوهما { ولا تسرفوا } اى فى التصدق كما روى ان ثابت بن قيس جذ خمسمائة نخلة فقسمها فى يوم واحد ولم يترك لاهله شيأ وقد جاء فى الخبر « ابدأ بمن تعول » وقيل الخطاب للسلاطين اى لا تأخذوا فوق حقكم { انه لا يحب المسرفين } اى لا يرضى فعلهم(4/61)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
{ ومن الانعام } اى انشأ من الانعام { حمولة } ما يحمل عليه الاثقال { وفرشا } وما يفرش للذبح او يتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش ولعله من قبيل التسمية بالمصدر { كلوا مما رزقكم الله } من تبعيضية وما عبارة عن الحمولة والفرش اى كلوا بعض ما رزقكم الله اى حلاله وفيه تصريح بان انشاءها لاجلهم ومصلحتهم وتخصيص الاكل بالذكر من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه فى السائبة واخواتها لكونه معظم ما ينتفع به ويتعلق به الحل والحرمة { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } اى لا تسلكوا الطريق التى سولها الشيطان لكم فى امر التحليل والتحريم فانه لا يدعوكم الا الى المعصية { انه لكم عدو مبين } اى ظاهر العداوة وقد ابان عداوته لابيكم آدم عليه السلام(4/62)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ ثمانية ازواج } بدل من حمولة وفرشا والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل فالاثنان المصطحبان يقال لهما زوجان لازوج فعلى هذا يقول مقراضان ومقصان لا مقراض ومقص لانهما اثنان والمراد بالازواج الثمانية الانواع الاربعة لانها باعتبار مزاوجها ثمانية { من الضأن اثنين } بدل من ثمانية ازواج اى انشا من الضان زوجين الكبش والنعجة والضأن معروف وهو ذو الصوف من النعم { ومن المعز اثنين } اى انشأ من المعز زوجين التيس والعنز والمعز ذو الشعر من النعم { قل } لهم يا محمد { آلذكرين } من ذينك النوعين وهما الكبش والتيس { حرم } اى الله تعالى كما تزعمون انه هو المحرم { ام الانثيين } وهما النعجة والعنز { امَّا اشتملت عليه ارحام الانثيين } اى ام ما حملت اناث النوعين حرم ذكرا كان او انثى { نبئونى بعلم } اى اخبرونى بامر معلوم من جهة الله تعالى من الكتاب او اخبار الانبياء يدل على انه تعالى حرم شيأ مما ذكر { ان كنتم صادقين } فى دعوى التحريم عليه سبحانه(4/63)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{ ومن الابل اثنين } عطف على قوله تعالى من الضأن اثنين اى وانشأ من الابل اثنين هما الجمل والناقة { ومن البقر اثنين } ذكرا وانثى { قل } افحاما لهم ايضا { آلذكرين } منهما { حرم ام الانثيين امّا اشتملت عليه ارحام الانثيين } من ذينك النوعين والمعنى انكار ان الله تعالى حرم عليهم شيأ من الانواع الاربعة ذكرا وانثى او ما يحمل اناثها ردا عليهم فانهم كانوا يحرمون ذكور الانعام تارة كالحام فانه اذا نتجت من صلب الفحل عشرة ابطن حرموه ولم يمنعوه ماء ولا مرعى وقالوا انه قد حمى ظهره وكالوصيلة فان الشاة اذا ولدت اثنى فهى لهم وان ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وان ولدتهما وصلت الانثى اخاها ويحرمون اناثها تارة كالبحيرة والسائبة فانه اذا نتجت الناقة خمسة ابطن آخرها ذكر بحروا اذنها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب وكان الرجل منهم يقول ان شفيت فناقتى سائبة ويجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها وكانوا اذا ولدت النوق البحائر والسوائب فصيلا حيا حرموا لحم الفصيل على النساء دون الرجال وان ولدت فصيلا ميتا اشترك الرجال والنساء فى لحم الفصيل ولا يفرقون بين الذكور والاناث فى حق الاولاد { ام كنتم شهداء } ام منقطعة بمعنى بل والهمزة ومعنى الهمزة الانكار والتوبيخ ومعنى بل الاضراب عن التوبيخ بما ذكر الى التوبيخ بوجه آخر اى بل أكنتم حاضرين شاهدين { اذ وصيكم الله بهذا } اى حين وصاكم بهذا التحريم اذ انتم لا تؤمنون بنبى فلا طريق لكم حسبما يؤول اليه مذهبكم الى معرفة امثال ذلك الا المشاهدة والسماع { فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا } فنسب اليه تحريم ما لم يحرم { ليضل الناس } متعلق بافترى قال سعدى جلبى المفتى الظاهر ان اللام للعاقبة { بغير علم } حال من فاعل يضل اى ملتبسا بغير علم بما يؤدى بهم اليه { ان الله لا يهدى القوم الظالمين } كائنا من كان الى ما فيه صلاح حالهم عاجلا وآجلا فاذا نفى الهداية عن الظالم فما ظنك بمن هو اظلم(4/64)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{ قل لا اجد فيما اوحى الى } طعاما { محرما } من المطاعم التى حرموها { على طاعم } اى طاعم كان من ذكر او انثى ردا على قولهم ومحرم على ازواجنا وقوله تعالى { يطعمه } لزيادة التقرير { الا ان يكون } ذلك الطعام { ميتة } لم تذك وهى التى تموت حتف انفها { او دما مسفوحا } اى مصبوحا كالدماء التى فى العروق لا كالطحال والكبد فانهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما وفى الحديث « احلت لنا ميتتان ودمان » والمراد من الميتتين السمك والجراد ومن الدمين الكبد والطحال وما اختلط باللحم من الدم وقد تعذر تخلصه من اللحم عفو مباح لانه ليس بسائل ايضا { او لحم خنزير فانه } اى الخنزير { رجس } اى قذر لتعوده اكل النجاسة قال الحدادى كل ما استقذرته فهو رجس ويجوز ان يعود الضمير الى اللحم وتخصيصه مع ان لحمه وشحمه وشعره وعظمه وسائر ما فيه كله حرام لكونه اهم ما فيه فان اكثر ما يقصد من الحيوان المأكول اللحم فالحل والحرمة يضاف اليه اصالة ولغيره تبعا قال سعدى جلبى المفتى الاصل عود الضمير الى المضاف لانه المقصود والمضاف اليه لتعريفه وتخصيصه { او فسقا } عطف على لحم خنزير { اهل لغير الله به } صفة موضحة اى ذبح على اسم الاصنام وانما سمى ذلك فسقا لتوغله فى الفسق { فمن اضطر } اى اصابته الضرورة الداعية الى تناول شئ من ذلك { غير باغ } على مضطر مثله { ولا عاد } قدر الضرورة { فان ربك غفور رحيم } مبالغ فى المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك والآية محكمة لانها تدل على انه عليه السلام لم يجد فيما اوحى اليه الى تلك الغاية غيره ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك فى شئ آخر
قال فى التأويلات النجمية يشير بالميتة الى ميتة الدنيا فانها جيفة مستحيلة كما قال بعضهم
وما هى الا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فان تجتنبها كنت سلما لاهلها ... وان تجتذبها نازعتك كلابها
وفى الحديث « اوحى الله الى داود مثل الدنيا كمثل جيفة اجتمعت عليها الكلاب يجرونها أفتحب ان تكون كلبا مثلهم فتجر معهم » قال الحافظ :
هما بى جون توعالى قدر حرص استخوان حيفست ... دريغاسايه همت كه برنا اهل افكندى
والدم المسفوح هو الشهوات واللذات التى بهراق عليها دم الدين ولحم الخنزير هو كل رجس من عمل الشيطان كما قال { انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } وحقيقة الرجس الاضطراب عن طريق الحق والبعد منه كما جاء فى الخبر لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس ايوان كسرى اى اضطراب وتحرك حركة سمع لها صوت فالرجس ما يبعدك عن الحق او فسقا اهل لغير الله به اى خروجا عن طلب الحق فى طلب غير الحق : قال السعدى(4/65)
خلاف طريقت بود كاوليا ... تمنا كنند ازخدا جز خدا
فالشروع فى هذه الاشياء محرم لانها تحرمك من الله وقرباته الا ان يكون بقدر ما يدفع الحاجة الانسانية فان الضرورات تبيح المحظورات قال بعضهم فى قوله عليه السلام « تمعددوا واخشوشنوا » اى اقتدوا بمعدّ بن عدنان والبسوا الخشن من الثياب وامشوا حفاة فهو حث على التواضع ونهى عن الافراط فى الترفه والتنعم كما قال عليه السلام « اياك والتنعم فان عباد الله ليسوا بالمتنعمين »
بناز ونعمت دنيا منه دل ... كه دل برداشتن كاريست مشكل
فعلى العاقل ان يكون ازهد الناس فى الدنيا ويتجرد عن الاسباب كالانبياء وكمل الاولياء وعن بعضهم قال رأيت فقيرا ورد على بئر ماء فى البادية فادلى ركوته فيها فانقطع حبله ووقعت الركوة فيها فاقام زمانا وقال وعزتك لا ابرح الا بركوتى او تأذن لى فى الانصراف عنها قال فرأيت ظبية عطشانة جاءت الى البئر ونظرت فيها وفاض الماء وطفح على البئر واذا بركوته على فم البئر فاذخا وبكى وقال الهى ما كان لى عند محل ظبية فهتف به هاتف يا مسكين جئت بالركوة والحبل وجاءت الظبية ذاهبة عن الاسباب لتوكلها علينا ففى هذه الحكاية ما يدل على كمال الانقطاع عن غير الله تعالى(4/66)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{ وعلى الذين هادوا } اى على اليهود خاصة لا على من عداهم من الاولين والآخرين { حرمنا كل ذى ظفر } كل ما له اصبع سواء كان ما بين اصابعه منفرجا كانواع السباع والكلاب والسنانير او لم يكن منفرجا كالابل والنعام والاوز والبط وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا عم التحريم { ومن البقر والغنم } متعلق بقوله { حرمنا عليهم شحومهما } لا لحومهما فانها باقية على الحل . والشحوم الثروب وشحوم الكليتين { الا ما حملت ظهورهما } استثناء من الشحوم اى الا ما اشتملت على الظهور والجنوب من شحم الكتفين الى الوركين من داخل وخارج { او الحوايا } عطف على ظهورهما اى او الا الذى حملته الامعاء واشتمل عليها . جمع الحوية كما فى الصحاح وهى المباعر والمصارين { او ما اختلط بعظم } عطف على ما حملت وهو شحم الالية واختلاطه بالعظم اتصاله بالعصص وهو عجب الذنب اى عظمه واصله ويقال انه اول ما يخلق وآخر ما يبلى { ذلك } الجزاء { جزيناهم } اى اليهود { ببغيهم } اى بسبب ظلمهم وهو قتلهم الانبياء بغير حق واخذهم الربا واكلهم اموال الناس بالباطل وكانوا كلما اتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شئ مما احل لهم وقد انكروا ذلك وادعوا انها لم تزل محرمة على الامم الماضية فرد عليهم ذلك واكد بقوله تعالى { وانا لصادقون } اى فى الاخبار عن كل شئ لا سيما فى الاخبار عن التحريم المذكور وفى الاخبار عن بغيهم(4/67)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{ فان كذبوك } اى اليهود والمشركون فيما فصل من احكام التحليل والتحريم { فقل ربكم ذو رحمة واسعة } لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فانه امهال لا اهمال { ولا يرد بأسه } عذابه { عن القوم المجرمين } حين ينزل(4/68)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
{ سيقول الذين اشركوا لو شاء الله } عدم اشراكنا { ما اشركنا } نحن { ولا آباؤنا ولا حمنا من شئ } ارادوا به ان ما فعلوه حق مرضى عند الله تعالى { كذلك } اى كهذا التكذيب وهو قولهم انا انما اشركنا وحرمنا لكون ذلك مشروعا مرضيا عند الله تعالى وانك كاذب فيما قلت من ان الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرمتموه { كذب الذين من قبلهم } اى متقدموهم الرسل { حتى ذاقوا } غاية لامتداد التكذيب { بأسنا } الذى انزلنا عليهم بتكذيبهم { قل هل عندكم من } زائدة { علم } من امر معلوم يضح الاحتجاج به على ما زعمتم { فتخرجوه لنا } فتظهروه لنا { ان تتبعون الا الظن } اى ما تتبعون فيما انتم عليه من الشرك والتحريم الا الظن الباطل من غير علم ويقين { وان انتم الا تخرصون } تكذبون على الله تعالى(4/69)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{ قل فلله الحجة البالغة } الفاء جواب شرط محذوف اى واذا قد ظهر ان لا حجة لكم فلله الحجة البالغة اى البينة الواضحة التى بلغت غاية المتانة والثبات او بلغ بها صاحبها صحة دعواه والمراد بها الكتاب والرسول والبيان { فلو شاء } هدايتكم جميعا { لهديكم اجمعين } بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم لصرف اختيارهم الى سلوك طريق الحق وضلال آخرين لصرف هممهم الى خلاف ذلك(4/70)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{ قل هلمّ } اسم فعل اى احضروا { شهداءكم الذين يشهدون ان الله حرم هذا } وهم قدوتهم الذين ينصرون قولهم ومذهبهم ولا من يشهد بصحة دعواهم كائنا من كان ولذلك قيد الشهداء بالاضافة اليهم وانما امروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وانه لا متمسك لهم كمن يقلدهم { فان شهدوا } بعدما حضروا بان الله تعالى حرم هذا { فلا تشهد معهم } اى فلا تصدقهم فانه كذب محض وبين لهم فساده { ولا تتبع اهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة } كعبدة الاوثان والموصول الثانى عطف على الموصول الاول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتخاذ الموصوف فان من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس { وهم بربهم يعدلون } اى يجعلون له عديلا عطف على لا يؤمنون . والمعنى لا تتبع اهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله وبين الكفر بالآخرة وبين الاشراك به سبحانه لكن لا على ان يكون مدار النهى المذكور بل على ان اولئك جامعون لها متصفون بكلها واعلم ان الله تعالى احل الطيبات ورد ما كان اهل الجاهلية يفعلونه من تحريم من عند انفسهم لان الدين يبتنى على الوحى لا على الهوى وحرم الخبائث كالخمر والميتة والدم والخنزير وغير ذلك اى تناولها وبيعها لان ما يحرم تناوله يحرم بيعه واكل ثمنه بخلاف ما اذا كان الانتفاع بغير ذلك كشحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فان ذلك ليس بحرام وما حرمه الله تعالى اما ان يكون بلاء ونقمة كما فعل اليهود وجزاء على انفسهم واما ان يكون رحمة ومنة لعلمه ان فيه ضررا نفسانيا او روحانيا فالنفسانى كضرر السم وامثاله والروحانى كضرر لحوم السباع والمؤذيات وامثالها فانه بتعدى اخلاقها تغير الاخلاق الروحانية كما قال عليه السلام « الرضاع بغير الطباع » ومن ثم لما دخل الشيخ ابو محمد الجوينى بيته ووجد ابنه الامام ابا المعالى يرتضع ثدى غير امه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه وادخل اصبعه فى فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن قائلا يسهل علىّ موته ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير امه ثم لما كبر الامام كان اذا حصلت له كبوة فى المناظرة يقول هذه من بقايا تلك الرضعة فعلم ان من ارتضع امرأة فالغالب عليه اخلاقهما من خير وشر وكذا لحوم الحيوانات لها تأثير عظيم وفى الحديث « عليكم بالبان البقر وسمنانها واياكم ولحومها فان البانها وسمنانها دواء وشفاء ولحومها داء » وقد صح ان النبى عليه السلام ضحى عن نسائه بالبقر قال الحليمى هذا ليبس الحجاز ويبوسة لحم البقر ورطوبة لبنها وسمنها فكأنه يرى اختصاصه ذلك به وهذا التأويل المستحسن والا فالنبى عليه السلام لا يتقرب الى الله تعالى بالداء فهو انما قال ذلك فى البقر لتلك اليبوسة .(4/71)
وجواب آخر انه عليه السلام ضحى بالبقر لبيان الجواز او لعدم تيسر غيره كذا فى المقاصد الحسنة . ومن فوائد سمن البقر انه لو شرب منه على الريق خمسين درهما ينفع للجنون ويؤثر فى دفعه قال الفقيه ابو الليث يستحب للرجل ان يعرف من الطب مقدار ما يمتنع به عما يضر ببدنه لان العلم علمان علم الابدان ثم علم الاديان واجاز عامة العلماء التداوى بالمحرمات عند الضرورة كاساغة اللقمة بالخمر اذا غص وفى الاشباه الطعام اذا تغير واشتد تغيره تنجس وحرم واللبن والزيت والسمن اذا نتن لا يحرم اكله والدجاجة اذا ذبحت ونتف ريشها واغليت فى الماء قبل شق بطنها صار الماء نجسا وصارت نجسة بحيث لا طريق لاكلها الا ان تحمل الهرة اليها لا ان تحمل الى الهرة فعلى العاقل ان يحترز عن الحرام وعما يضر بالبدن ومن المضر الامتلاء كما قال عليه السلام « رأس الداء الامتلاء ورأس الدواء الاحتماء »
آن حكيمى كه در حكمت سفت ... كل قليلا تعش كثيرا كفت
قال السعدى قدس سره :
ندارند تن بروران آكهى ... كه برمعده باشدز حكمت تهى
ومن الله التوفيق(4/72)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{ قل } يا محمد لكفار مكة { تعالوا } امر من تعالى والاصل فيه ان يقوله من فى مكان عال لمن هو اسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم فتكلم به كل من تطلب ان يتقدم ويقبل اليه شخص سواء كان الطالب فى علو او سفل او غيرهما { اتل } جواب الامر اى اقرأ { ما حرم ربكم } اى الذى حرمه ربكم اى الآيات المشتملة عليه { عليكم } متعلق بحرم { ان } مفسرة { ألا } ناهية { تشركوا به } تعالى { شيأ } من الاشياء فتقدير الكلام ذلك التحريم هو قوله لا تشركوا به شيأ اعلم ان هذه الآيات الثلاث الى قوله { لعلكم تتقون } تشتمل على عشر خصال جامعة للخير كله لم ينسخهنّ شئ من جميع الكتب فهن محرمات على بنى آدم كلهم لم يختلفن باختلاف الامم والاعصار من عمل بهن دخل الجنة ومت تركهن دخل النار . اولاهن قوله { ألا تشركوا به شيئا } قدم الشرك لانه رأس المحرمات ولا يقبل الله تعالى معه شيأ من الطاعات وهو ينقسم الى جلى وخفى فالجلى عبادة الاصنام والخفى رؤية الاغيار مع الله الواحد القهار
تادم وحدت زدى حافظ شوريده حال ... خامه توحيد كش برورق اين وآن
{ وبالوالدين احسانا } اى واحسنوا بهما احسانا اى لا تسيئوا اليهما لان المحرم هو الاساءة والامر بالشئ مستلزم للنهى عن ضده وكذا معنى اوفوا لا تبخسوا وانما وضع الامر موضع النهى للمبالغة فى ايجاب مراعاة حقوقهما فان مجرد ترك الاساءة غير كاف فى قضاء حقوقهما . وهذا هو الامر الثانى من الاحكام العشرة وانما ذكر بعد تحريم الشرك تحريم العقوق لان الوالدين سببان قريبان لوجوده كما ان الله تعالى موجده فالتقاعد عن اداء حقوقهما عقوق فهو اكبر الكبائر بعد الشرك قال بعض الاولياء كنت فى تيه بنى اسرائيل فاذا رجل يماشينى فتعجبت منه والهمت انه الخضر فقلت له بحق الحق من انت قال انا اخوك الخضر قلت بأى وسيلة رأيتك قال ببرك امك
جنت كه سراى مادرانست ... زير قدمات مادرانست
{ ولا تقتلوا اولادكم } اى لا تدفنوا بناتكم حية { من املاق } من اجل فقر . والاملاق تفاد الزاد والنفقة يقال املق الرجل اذا نفد زاده ونفقته من الملق وهو بذل المجهود فى طلب المراد { نحن نرزقكم واياهم } لا انتم لا تخافوا الفقر بناء على عجزكم عن تحصيل الرزق . وهذا هو الحكم الثالث من الاحكام العشرة وانما حرم قتل الاولاد لما فيه من هدم بنيان الله وملعون من هدم بنيانه وفيه ابطال ثمرة شجرته ومحصوده وقطع نسله وترك التوكل فى امر الرزق يؤدى الى تكذيب الله تعالى لانه قال { وما من دابة فى الارض الا على الله رزقها }
ما آبروى فقر وقناعت نمى بريم ... بايادشه بكوى كه روزى مقدرست(4/73)
{ ولا تقربوا الفواحش } اى الزنى وحبى بصيغة الجمع قصدا الى النهى عن انواعها ولذلك ابدل منها بدل اشتمال قوله { ما ظهر منها وما بطن } اى ما يفعل منها علانية فى الحوانيت كما هو دأب ارذالهم وما يفعل سرا باتخاذ الاخدان كما هو عادة اشرافهم . وهذا هو الحكم الرابع منها وتوجيه النهى الى قربانها للمبالغة فى النهى عنها ويدخل فى ذلك ما يبعده من الجنة ويدنيه من النار وهو ما ظهر وما يبعده من الحق ويحجبه عنه وان لم يحجبه عن الجنة ولم يبعده منها وهو ما بطن وايضا ما ظهر منها بالفعل وما بطن بالنية ومن الزنى زنى النظر
اين نظر ازدور جون تيراست وسم ... عشقت افزون ميشود صبر توكم
وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان الشيطان من الرجل فى ثلاثة منازل فى عينيه وفى قلبه وفى ذكره وهو من المرأة فى ثلاثة منازل فى عينيها وفى قلبها وفى عجزها { ولا تقتلوا النفس التى حرم الله } اى حرم قتلها بان عصمها بالاسلام او بالعهد فيخرج منها الحربى { الا بالحق } استثناء مفرغ من اعم الاحوال اى لا تقتلوها فى حال من الاحوال الا حال ملابستكم بالحق الذى هو امر الشرع بقتلها وذلك بالكفر بعد الايمان والزنى بعد الاحصان وقتل النفس المعصومة . وهذا هو الحكم الخامس وفى القتل ترك تعظيم امر الحق وترك الشفقة على الخلق وهما ملاك الدين
والاشارة ان القتل الحق هو القتل فى طلب الحق والمقتول فى سبيل الله هو حى عند ربه
وعن ابى سعيد الخراز كنت بمكة فجزت يوما بباب بنى شيبة فرأيت شابا حسن الوجه ميتا فنظرت فى وجهه فتبسم فى وجهى وقال لى يا ابا سعيد اما علمت ان الاحباب احياء وان ماتوا وانما ينقلون من دار الى دار
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد ... كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
{ ذلكم } اشارة الى ما ذكر من التكاليف الخمسة { وصاكم به } اى امركم ربكم بحفظه امرا مؤكدا { لعلكم تعقلون } اى تستعملون عقولكم التى تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المذكورة(4/74)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{ ولا تقربوا مال اليتيم } اى لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه اليتيم من الانسان من لا اب له ومن الحيوان من لا ام له والخطاب للاولياء والاوصياء { الا بالتى هى احسن } الا بالخصلة التى هى احسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره { حتى يبلغ اشده } غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهى كأنه قيل احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموه اليه وجعل ابو حنيفة غاية الاشد خمسا وعشرين سنة فاذا بلغها دفع اليه ماله ما لم يكن معتوها قال الجوهرى { حتى يبلغ اشده } اى قوته وهو ما بين ثمانى عشرة الى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك وهو الاسرب ولا نظير لهما وكان سيبويه يقول واحدته شدة . وهذا هو الحكم السادس وانما وصى الله تعالى بحفظ مال اليتيم لانه عاجز فتولى الله امره وامر بالشفقة والنظر فى حقه
ألا تانكر يدكه عرش عظيم ... بلرزد همى جون بكريد يتيم
{ واوفوا الكيل } فى المكيلات اى أتموه ولا تنقصوا منه شيأ { والميزان } فى الموزونات وهو بالفارسى [ ترازو ] { بالقسط } حال من فاعل اوفوا اى اوفو هما مقسطين اى ملتبسين بالقسط وهو العدل
فان قيل ايفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما فائدة التكرير
قلنا ان الله تعالى امر المعطى بايفاء ذى الحق حقه من غير نقصان وامر صاحب الحق بأخذه من غير طلب زيادة { لا نكلف نفسا الا وسعها } الا ما يسعها ولا يعسر عيها . وذكره عقيب الامر للايذان بان مراعاة العدل عسير عليكم فعليكم بما فى وسعكم وما وراءه معفو عنكم فاذا اجتهد الانسان فى الكيل والوزن ووقعت فيه زيادة يسيرة او نقصان يسير لم يؤاخذه به اذا اجتهد جهده وان اعيد الكيل على ذلك فزاد او نقص لم يثبت التراجع اذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين . واما التقصير القصدى فليس بمعفو وينبغى الاحتياط بقدر الامكان روى عن بعضهم انه قال لبعض الناس وهو فى النزع وكان يعامل الناس بالميزان قل لا اله الا الله فقال ما اقدر اقولها لسان الميزان على لسانى يمنعنى من النطق بها قال فقلت له أما كنت توفى الوزن قال بلى ولكن ربما كان يقع فى الميزان شئ من الغبار لا اشعر به
وعن مالك بن دينار انه دخل على جار له احتضر فقال يا مالك جبلان من النار بين يدى اكلف الصعود عليهما قال مالك فسألت اهله فقالوا كان له مكيالان يكيل باحدهما ويكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت احدهما بالآخر حتى كسرتهما ثم سألت الرجل فقال ما يزداد الامر الا شدة . وهذا هو الحكم السابع
والاشارة اوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الالوهية لا نكلف نفسا فى ايفاء الحقوق واستيفاء الحظوظ الا بحسب استعدادها(4/75)
هركس بقدر بال وبرخويش مى برد ... { واذا قلتم } قولا فى حكومة او شهادة او نحوهما { فاعدلوا } فيه { ولو كان } المقول له او عليه { ذا قربى } اى ذا قرابة منكم ولا تميلوا نحوهم اصلا لان مداد الامر اتباع الحق المشروع وطلب مرضاة الله تعالى فلا فرق بين ذى قرابة واجنبى . وهذا هو الحكم الثامن وحقيقة العدل فى الكلام ان يذكر الله ولا يذكر معه غيره وان يتكلم لله وفى الله وبالله وهذا لا يتيسر الا لارباب التحقيق فان كلام غيرهم مشوب بالغرض والدعوى
بانك هدهدكر بياموزد فتى ... راز هدهد كوو بيغام سبا
{ وبعهد الله اوفوا } اى ما عهد اليكم أى عهد كان من ملازمة العدل وتأدية احكام الشرع وغيرهما فهو مضاف الى الفاعل او ما عاهدتم الله عليه من الايمان والنذور فهو مضاف الى المفعول ويحتمل ان يراد به العهد بين الانسانين ويكون اضافته الى الله تعالى من حيث انه امر يحفظه والوفاء به
وفاء عهد نكو باشد اربيا موزى ... وكرنه هركه توبينى ستمكرى داند
وهذا هو الحكم التاسع وحقيقة العهد ان لا يعبد الا مولاه ولا يحب الا اياه ولا يرى سواه
ازدم صبح ازل تا آخر شام ابد ... دوستى ومهربريك عهد ويك ميثاق بود
{ ذلكم } اشارة الى ما فصل من التكاليف الاربعة { وصاكم به } امركم به امرا مؤكدا { لعلم تذكرون } تتذكرون ما فى تضاعيفه وتعملون بمقتضاه(4/76)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{ وان } بتقدير اللام علة للفعل المؤخر اى ولان { هذا } اى ما ذكر فى هذه السورة من اثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة { صراطى } اى مسلكى وشريعتى . وسمى الشرع طريقا لانه يؤدى الى الثواب فى الجنة ومعنى اضافته الى ضمير عليه السلام انتسابه اليه من حيث السلوك لامن حيث الوضع كما فى صراط الله { مستقيما } حال مؤكدة اى مستويا قويما { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } اى الطرق المختلفة التى عدا هذا الطريق مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل { فتفرق بكم } منصوب باضماران بعد الفاء فى جواب النهى اصله فتتفرق حذفت منه احدى التاءين والباء للتعدية اى فتفرقكم وتزيلكم { عن سبيله } اى عن دين الله الذى ارتضى وبه اوصى وهو الاسلام . وفيه تنبيه على ان صراطه عليه السلام عين سبيله تعالى . وهذا هو العاشر من الخصال
خلاف بيغمبر كسى ره كزيد ... كه هر كز بمنزل نخواهد رسيد
محالست سعدى كه راه صفا ... توان رفت جزدربى مصطفا
{ ذلكم } اى اتباع سبيله وترك اتباع سائر السبل { وصاكم به لعلكم تتقون } اتباع سبيل الكفر والضلالة
ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية خط خطا فقال « هذا سبيل الله » ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال « هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه »
واعلم ان الشرع ههنا هو الصراط المستقيم وهو احد من السيف وادقّ من الشعر ولذا لانزال فى كل ركعة من الصلاة نقول انهدنا الصراط المستقيم ومن زل عن هذا الصراط فى الدنيا زل عن صراط الآخرة ايضا قال عليه السلام « الزالون عن الصراط كثير واكثر من يزل عنه النساء » واكثر الرجال فى هذا الزمان فى حكم النساء فى اتباع الشهوات والاخذ بالعادات والدين بدأ غريبا وعاد غريبا فلا يوجد من يستأنس به ويستأهل له الانادرا
قال فى التفسير الفارسى [ محققان برآنندكه صراط متعين نكردد الاميان بدايتى ونهايتى وعارف داندكه بدايت همه ازكيست ونهايت همه يكيست وحضرت شيخ صدر الدين قونوى قدس سره واعجاز البيان فرموده كه احاطه حق بهمه اشيا ثابت است والله بكل شئ محيط وآن احاطه وجودى است يا علمى باختلاف افقال واقوال متنهاى سر صراط وغايت سر سالك خواهدبو جنانجه فرمود { صراط الله الذى له ما فى السموات وما فى الارض ألا الى الله تصير الامور }
هرجا قدمى زديم دركوى توبود ... هركوشه كه برفتيم سوى توبود
كفتيم مكر سوى ديكرراهى هست ... هرراه كه ديديم همه سوى توبود(4/77)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ ثم آتينا موسى الكتاب } عطف على مقدر اى فعلنا تلك التوصية باتباع صراط الله ثم آتينا موسى الكتاب اى التوراة وثم للتراخى فى الاخبار كما فى قولك بلغنى ما صنعت اليوم ثم ما صنعت امس اعجب { تماما } مصدر من اتم بحذف الزوائد اى اتماما للكرامة والنعمة { على الذى احسن } اى على من احسن القيام به كائنا من كان من الانبياء والمؤمنين { وتفصيلا لكل شئ } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج اليه فى الدين وهذا لا ينافى الاجتهاد فى شريعتهم كما لا ينافى قوله تعالى فى آخر سورة يوسف { وتفصيل كل شئ } فى شريعتنا لان التفصيل فى الاصول والاجتهاد فى الفروع { وهدى } من الضلالة { ورحمة } نجاة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه { لعلهم } اى بنى اسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى { بلقاء ربهم يؤمنون } الباء متعلقة بيؤمنون اى كى يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب(4/78)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{ وهذا } اى القرآن { كتاب انزلناه } ليس من قبل الرسول كما يزعم المنكرون { مبارك } اى كثير النفع دينا ودنيا
قال فى التأويلات النجمية { مبارك } عليك وبركته انه انزل على قلبك بجعل خلقك القرآن ومبارك على امتك بانه حبل بينهم وبين ربهم ليوصلهم اليه بالاعتصام { فاتبعوه } واعملوا بما فيه { واتقوا } مخالفته { لعلكم ترحمون } بواسطة اتباعه والعمل بموجبه(4/79)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
{ ان تقولوا } على حذف المضاف كما هو رأى البصريين اى انزلناه كراهة ان تقولوا يا اهل مكة يوم القيامة لم تنزله { انما انزل الكتاب } اى التوراة والانجيل { على طائفتين } كائنتين { من قبلنا } وهما اليهود والنصارى ولعل الاختصاص فى انما اشتهار الكتابين يومئذ فيما بين الكتب السماوية { وان } مخففة اى وانه { كنا عن دراستهم } قرآتهم ولم يقل عن دراستهما لان كل طائفة جماعة { لغافلين } لا ندرى ما فى كتابهم اذ لم يكن على لغتنا فلم نقدر على قرآته(4/80)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{ او تقولوا لو انا انزل علينا الكتاب } كما انزل عليهم { لكنا اهدى منهم } الى الحق الذى هو المقصد الاقصى او الى ما فى تضاعيفه من جلائل الاحكام والشرائع ودقائقها لحدة اذهاننا ونقابة افهامنا ولذلك تلقفنا فنونا من العلم كالقصص والاشعار والخطب مع انا اميون { فقد جاءكم } متعلق بمحذوف معلل به اى لا تعتذروا بذلك القول فقد جاءكم { بينة } كائنة { من ربكم } اى حجة واضحة { وهدى ورحمة } عبر عن القرآن بالبينة ايذانا بكمال تمكنهم من دراسته لانه على لغتهم ثم بالهدى والرحمة { فمن ظلم } اى لا احد اظلم { ممن كذب بآيات الله } اى القرآن { وصدف عنها } اى صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والاضلال . فى القاموس صدف عنه يصدف اعرض وفلانا صرفه { سنجزى الذين } بالفارسى [ زود باشدكه جزادهم آنراكه ] { يصدفون } الناس { عن آياتنا } وعيد لهم ببيان جزاء اضلالهم بحيث يفهم منه جزاء ضلالتهم ايضا { سوء العذاب } اى شدته { بما كانوا يصدفون } اى بسبب ما كانوا يفعلون الصدف والصرف على التجدد والاستمرار فعلى العاقل ان يعمل بالقرآن ويرغب غيره بقدر الامكان لانه يكون شريكه فى الثواب الفائض من الله الوهاب والمعرض عن القرآن الذى هو غذاء الارواح كالمعرض عن شراب السكر الذى هو غذاء الاشباح . وله ظاهر فسره العلماء وباطن حققه اهل التحقيق وكل قد علم مشربه وفى الحديث « انزل القرآن على سبعة احرف » اى على سبع لغات وهى لغات العرب المشهورين بالفصاحة من قريش وهذيل وهوازن واليمن وطى وثقيف تسهيلا وتيسيرا ليقرأ كل طائفة بما يوافق لغتهم بشرط السماع من النبى عليه السلام اذ لو كلفوا القراءة بحرف واحد لشق عليهم اذ الفطام عن المألوف شاق او على سبع قراآت وهى التى استفاضت عن النبى عليه السلام وضبطتها الامة واضافت كل حرف منها الى من كان اكثر قراءة به من الصحابة ثم اضيفت كل قراءة منها الى من اختارها من القراء السبعة وهم نافع وابن كثير وابو عمر وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى ويقال ان جاحد القراآت السبع كافر وجاحد الباقى آثم مبتدع
ولما تنزل القرآن العظيم من عالم الحقيقة كتب فى جميع الالواح وفى لوح هذا التعين حتى فى لوح وجودك واودع القابلية فى كل منها لقرآته ومعرفته والمقصود الاصلى هو العمل به والتخلق باخلاقه دون تصحيح المخرج ورعاية ظاهر النظم فقط : ونعم قول من قال
نقد عمرش زفكرت معوج ... خرج شد در رعايت مخرج
صرف كردش همه حيات سره ... در قرا آت سبعه وعشره
قال الحافظ
عشقت رسد بفريادكر خود بسان حافظ ... قرآن زبربخوانى درجازده روايت
وفى الحديث « لو كان القرآن فى اهاب ما مسته النار »(4/81)
قال القاضى البيضاوى اى لو صور القرآن وجعل فى اهاب والقى فى النار ما مسته ولا احرقته ببركة القرآن فكيف بالمؤمن الحامل له المواظب على تلاوته وعن على رضى الله عنه من قرأ القرآن وهو قائم فى الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة ومن قرأ على غير وضوء فعشر حسنات وروى عن بعض الاخيار من اهل التلاوة للقرآن الكريم انه لما حضرته الوفاة كان كلما قالوا قل { لا اله الا الله } قال { بسم الله الرحمن الرحيم طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى } الى قوله { الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى } فلم يزل يعيدها كلما اعادوا عليه حتى مات على هذه الآية الكريمة فظهر ان الموت على ما عاش عليه الشخص
وكان حرفة رجل بيع الحشيش وهو غافل عن الله فلما حضرته الوفاة كان كلما قيل له قل لا اله الا الله قال حزمة بفلس نسأل الله تعالى التوفيق للموت على الاسلام(4/82)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{ هل ينظرون } هل استفهامية معناها النفى وينظرون بمعنى ينتظرون فان النظر يستعمل فى معنى الانتظار كأنه قيل انى اقمت على اهل مكة الحجة وانزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا فما ينتظرون { الا ان تأتيهم الملائكة } اى ملك الموت واعوانه لقبض ارواحهم { او يأتى ربك } اى امره بالعذاب والانتقام
وقال البغوى { او يأتى ربك } بلا كيف لفضل القضاء بين موقف القيامة انتهى . او المراد باتيان الرب اتيان كل آية يعنى آيات القيامة والهلاك الكلى بقرينة قوله تعالى { او يأتى بعض آيات ربك } يعنى اشراط الساعة التى هى الدخان ودابة الارض وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام ونار تخرج من عدن وهم ما كانوا منتظرين لاحد هذه الامور الثلاثة وهى مجيئ الملائكة او ميجئ الرب او مجيء الآيات القاهرة من الرب لكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظرين شبهوا بالمنتظرين { يوم يأتى بعض آيات ربك } ظرف لقوله { لا ينفع نفسا ايمانها } كالمحتضر فان معاينة اشراط الساعة بمنزلة نفسها ووقوع العيان يمنع قبول الايمان لانه انما يقبل اذا كان بالغيب { لم تكن آمنت من قبل } صفة نفسا اى من قبل اتيان بعض الآيات { او كسبت فى ايمانها خيرا } الآية تقتضى ان لا ينفع الايمان بدون العمل الصالح ومذهب اهل السنة انه نافع حيث ان صاخبه لا يخلد فى النار
قال حضرة الشيخ الشهير بالهدائى الاسكدارى فى الواقعات لاح لى فى توفيق هذه الآية على مذهب اهل السنة وجهان . الاول ان يكون قوله { او كسبت } معطوفا على آمنت المقدر لا على آمنت المذكور والتقدير لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل سواء آمنت ايمانا مجردا او كسبت فى ايمانها خيرا . والثانى ان يعطف على آمنت المذكور ولكن يعتبر فى اللف مقدر فيكون النشر ايضا على اسلوبه والتقدير لا ينفع نفسا ايمانها ولا كسبها خيرا لم تكن آمنت من قبل او كسبت فى ايمانها خيرا { قل انتظروا } ما تنتظرونه من اتيان احد الامور الثلاثة لتروا أى شئ تنتظرون { انا منتظرون } لذلك وحينئذ لنا الفوز وعليكم الوبال بما حل بكم من سوء العاقبة
قال البغوى المراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها وعليه اكثر المفسرين
قال الحدادى فى تفسيره قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم « اذا غربت الشمس رفع بها الى السماء السابعة فى سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من اين تطلع أمن مطلعها او من مغربها وكذا القمر فلا تزال كذلك حتى يأتى الله بالوقت الذى وقته لتوبة عباده وتكثر المعاصى فى الارض ويذهب المعروف فلا يأمر به احد وينتشر المنكر فلا نيهى عه احد فاذا فعلوا ذلك حبست الشمس تحت العرش فاذا مضى مقدار ليلة سجدت واستأذنت ربها من اين تطلع فلم يجر لها جوابا حتى يوافيها القمر فيسجد معها ويستأذن من اين يطلع فلا يجر له جوابا فيحسبان مقدار ثلاث ليال فلا يعرف مقدار تلك الليلة الا المتهدون فى الارض وهم يومئذ عصابة قليلة فى هوان من الناس فينام احدهم تلك الليلة مثل ما ينام قبلها من الليالى ثم يقوم فيتهجد ورده فلا يصبح فينكر ذلك فيخرج وينظر الى السماء فاذا هو بالليل مكانه والنجوم مستديرة فينكر ذلك ويظن فيه الظنون فيقول أخففت قراءتى أم قصرت صلاتى ام قمت قبل حينى ثم يقوم فيعود الى مصلاه فيصلى نحو صلاته ف الليلة الثانية ثم ينظر فلا يرى الصبح فيشتد به الخوف فيجتمع المتهجدون من كل بلدة فى تلك الليلة فى مساجدهم ويجأرون الى الله بالبكاء والتضرع فيرسل الله جبريل الى الشمس والقمر فيقول لهما ان الله يأمركما ان ترجعا الى مغربكما فتطلعا منه فانه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وجلا من الله بكاء يسمعه اهل السموات السبع واهل سرادقات العرش ثم يبكى من فيهما من الخلائق من خوف الموت والقيامة فبينما المتهجدون يبكون ويتضروعون والغافلون فى غفلاتهم اذا بالشمس والقمر قد طلعا من المغرب اسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر كصفتهما فى كسوفهما فذلك قوله تعالى { وجمع الشمس والقمر } فيرتفعان كذلك مثل البعيرين ينازع كل واحد منهما صاحبه استباقا فيتصارخ اهل الدنيا حينئذ ويبكون فاما الصالحون فينفعهم بكاؤهم ويكتب لهم عبادة واما الفاسقون فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب ذلك عليهم حسرة وندامة فاذا بلغ الشمس والقمر سرة السماء ومنتصفها جاء جبريل فأخذ بقرونهما فردهما الى المغرب فيغربان فى باب التوبة »(4/83)
فقال عمر رضى الله عنه بابى انت وامى يا رسول الله ما باب التوبة فقال « يا عمر خلق الله بابا للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب وما بين المصراع الى المصراع اربعون سنة للراكب فذلك الباب مفتوح مذ خلق الله خلقه الى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس من مغربها فاذا غربا فى ذلك الباب رد المصراعان والتأم بينهما فيصير كأن لم يكن بينهما صدع فاذا اغلق باب التوبة لم يقبل للعبد توبة بعد ذلك ولم ينفعه حسنة يعملها الا من كان قبل ذلك محسنا فانه يجزى كما قبل ذلك اليوم فذلك قوله تعالى { يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قل أو كسبت فى ايمانها خيرا } » وانما لم يقبل الايمان فى ذلك الوقت لانه ليس بايمان اختيارى فى الحقيقة وانما هو ايمان لخوف الهلاك قال الله تعالى(4/84)
{ فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا } قال السعدى قدس سره
جه سود ازدزد آنكه توبه كردن ... كه نتواند كمند انداخت بركاخ
بلند ازميوه كو كوتاه كن دست ... كه اين كوته ندارد دست برشاخ
وعدم قبول الايمان والتوبة غير مخصوص بمن يشاهد طلوع الشمس من المغرب وهو الاصح والظاهر ان من تولد بعد طلوعها او ولد قبله ولم يكن مميزا بعد ذلك يقبل ايمانه وجعله فى شرح المصابيح اصح قالت عائشة رضى الله عنها اذا خرجت اول الآيات طرحت الاقلام وحبست الحفظة وشهدت الاجساد بالاعمال
قال الامام السيوطى رحمه الله يظهر المهدى قبل الدجال بسبع سنين ويخرج الدجال قبل طلوع الشمس بعشر سنين ويقوم المهدى سنة مائتين بعد الالف او اربع ومائتين والله اعلم وقبل ظهور المهدى اشراط اخر من خروج بنى الاصفر وغيرها
وفى التأويلات النجمية ان الله تعالى جعل نفس الانسان وقبله ارضا صالحا لقبول بذر الايمان وانباته وتربيته كما قال عليه السلام « لا الله الا الله ينبت الايمان فى القلب كما ينبت الماء البقلة » فالبذر هو قول المرء اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله عند تصديق القلب بشهادة اللسان وانما كان زمان هذه الزراعة زمان الدنيا لا زمان الآخرة ولهذا قال عليه السلام « الدنيا مزرعة الآخرة » فلا ينفع نفسا فى زمان الآخرة بذر ايمانها لم تكن بذرت من قبل فى زمان الدنيا او كسبت فى ايمانها خيرا من الاعمال الصالحة التى ترفع الكلمة الطيبة وهى لا اله الا الله وتجعلها شجرة طيبة مثمرة تؤتى اكلها كل حين باذن ربها من ثمار المعرفة والمحبة والكشف والمشاهدة والوصول والوصال ونيل الكمال انتهى ما فى التأويلات ونسأل الله ان يرزقنا التوفيق لتحقيق التوحيد(4/85)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{ ان الذين } اى اليهود والنصارى { فرقوا دينهم } اى بدّدوه وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم { وكانوا شيعا } جمع شيعة يقال شايعه على الامر اذا تبعه اى فرقا تشيع كل فرقة اماما لها قال عليه السلام « افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وستفترق امتى على ثلاث وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة » واستثناء الواحدة من فرق كل من اهل الكتابين انما هو بالنظر الى العصر الماضى قبل النسخ واما بعده فالكل فى الهاوية { لست منهم فى شئ } لست من البحث عن تفرقهم والتعرض لمن يعاصرك بالمناقشة والمؤاخذة فى شئ { انما امرهم الى الله } تعليل للنفى المذكور اى هو يتولى وحده اولاهم واخراهم ويدبرهم كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة { ثم ينبئهم } اى يوم القيامة { بما كانوا يفعلون } عبر عن اظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة فى انهما سببان للعلم تنبيها على انهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه من سوء عاقبته اى يظهر لهم على رؤوس الاشهاد ويعلمهم اى شئ شنيع كانوا يفعلونه فى الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء
واعلم ان كل فعل شنيع وعمل قبيح فى الدنيا يتصور بصورة قبيحة فى الآخرة وهو قد كان بصورة قبيحة فى الدنيا ايضا لكنه برز لفاعله فى صورة مستحسنة امتحانا وابتلاء فصار كالشهد المختلفط بالسم نعوذ بالله من سيآت الاعمال حفت الجنة بمكر وهاتنا وحفت النيران بشهواتنا يعنى جعلت الجنة محفوفة بالاشياء التى كانت مكروهة لنا وجعلت النار محاطة بالاشياء التى كانت محبوبة لنا يعنى ان نفوسنا تميل اليها وتحب ان تفعلها لكونها على وفق هواها فكما ان فى الآفاق فرقا مختلفة ينفى بعضهم الصانع وبعضهم صفاته وبعضهم يعتقد فى حقه تعالى ما لا يجوز اعتقاده وبعضهم يجرى على ما جرى عليه الانبياء والاولياء من حسن العقيدة وصالح العمل كذلك فى الانفس قوى مختلفة لا تتحد فى البنية ولا تجتمع على امر واحد فالطبيعة على التشهى والنفس على الهوى والروح على الاقبال الى المولى والدين الحقيقى الذى فيه كمالية الانسان انما يوجد بتوافق الظاهر والباطن فمن فارقه بقلبه وتمسك ببعض شعاره وبظاهره رياء وسمعة فهو من فرق اهل الدعوى من غير المعنى قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى مخاطبا لحضرة الهدائى قدس الله اسرارهما اشكر الله على عدم اقترانك بالملاحدة فان الالحاد كمرض الجذام بعيد عن الاصلاح قال واظن انهم لا يخرجون من النار لانهم فى دعوى المقال بدون الحال انتهى . ومن المدعين القلندرية وهم الذين يقصون لحاهم وشعورهم بل يحلقون(4/86)
قلندرى نه بريشست وموى ويا ابرو ... حساب راه قلندر بدانكه موى بموست
كذشتن ازسر مو در قلندرى سهلست ... جو حافظ آنكه زسر بكذرد قلندر اوست
ومن الفرق المبتدعة الجوالقية وهم الذين يحلقون لحاهم ويلبسون الجوالق والكساء الغليظ وقد نهى النبى عليه السلام عن لباس الشهرة سواء كان من جنس الرقيق او الغليظ لانه اشتهار بذلك وامتياز به عن المسلمين وقد قال عليه السلام « كن كواحد من الناس » ولا ينفع الجوالق والكساء اذا كان المرء صاحب الرياء : قال السعدى قدس سره .
بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت
كر آوزاره خواهى رد اقليم فاش ... برون حله كن كودرون حشو باش
وقال
درغزا كند مرد بايد بود ... مخنث سلاح جنك جه سود
وكان الشيخ قطف الدين حيدر مجذوبا صاحب حال جدّا حتى حكى انه اخذ حديدا حارا من كير حداد صار كقطعة نار والقاه على عنقه ساعة فلم يحترق فاخذ الحيدرية بذلك ولبسوا الحديد تقليدا ولبس الحديد اكثر اثما من لبس الذهب
فعلى العاقل ان يجتنب عن البدعة واهلها وروى ان ابن المبارك رؤى فى المنام فقيل له ما فعل ربك فقال عاتبنى واوقفنى ثلاثين سنة بسبب انى نظرت باللطف يوما الى مبتدع فقال انك لم تعاد عدوى فى الدين فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين
واعلم ان اهل الهوى والبدعة ليس مخصوصا بالبشر كما قال الاعمش تزوج الينا جنى فقلت له ما احب الطعام اليكم فقال الارز فقال فأتنا به فجعلت ارى اللقم ترفع ولا ارى احدا فقلت هل فيكم من هذه الاهواء التى فينا قال نعم قلت فما الرافضة فيكم قال شرنا والروافض هم الذين رفضوا زيد بن على بن الحسني بن على بن ابى طالب لعدم تبريه من ابى بكر وعمر رضى الله عنهما ولزم هذا اللقب كل من غلا فى مذهبه واستجاز الطعن فى الصحابة واصله ان زيدا خرج بالكوفة داعيا لنفسه فبايعه جماعة من اهلها واتاه طائفة من اهل الكوفة وقالوا تبرأ من ابى بكر وعمر نبايعك فابى فقالوا اذا نرفضك فمن ذلك سموا الروافض وقالت طائفة من اهل الكوفة نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما وخرجوا مع زيد فسموا الزيدية وسبب بغضهم للاصحاب انه لما وقعت الهزيمة فى غزوة احد ونادى الشيطان ان قد مات محمد اعتقده الاصحاب غير على رضى الله عنه حتى وقع النزاع فقال كرم الله وجهه هل اقتلكم لو لم يكن واقعا قالوا نعم فلما ظهر خلافه عفا عنهم فمن ثم احبوا عليا وتركوا الباقى وابغضوه
جون خدا خواهد كه برده كس درد ... ميلس اندر طعنه باكان برد
فعلى العاقل ان يحب الصالحين حبا شديدا كى ينال منهم شفاعة يوم القيامة فويل لمن كان شفعاؤه خصماءه اللهم اعصمنا ولا تزغ قلوبنا واهدنا وسددنا فمنك التوفيق لسلوك طريق التحقيق(4/87)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{ من جاء بالحسنة } اى من جاء يوم القيامة بالاعمال الحسنة من المؤمنين اذ لا حسنة بغير ايمان قال القاضى عياض انعقد الاجماع على ان الكفار لا تنفعهم اعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب لكن بعضهم يكون اشد عذابا من بعض بحسب جرائمهم انتهى نعم اذا اسلموا يثابون على الخيرات المتقدمة لما ورد فى الحديث « حسنات الكفار مقبولة بعد اسلامهم »
وفى تفسير الكاشفى [ هركه بيايد دردنيا بنكوبى ] { فله عشر امثالها } اى فله عشر حسنات امثالها فضلا من الله تعالى فالامثال ليس مميزا للعشر بل مميزها هو الحسنات والامثال صفة لمميزها ولذا لم يذكر التاء للعشر . وقيل انما انث عشر وان كان مضافا الى ما مفرده مذكر لاضافة الامثال الى مؤنث هو ضمير الحسنة كقوله تعالى { يلتقطه بعض السيارة } { ومن جاء بالسيئة } اى بالاعمال السيئة كائنا من كان من العاملين { فلا يجزى الا مثلها } بحكم الوعد واحدة بواحدة فان قيل كفر ساعة يوجب عقاب الابد على نهاية التغليظ فما وجه المماثلة
واجيب بان الكافر على عزم انه لو عاش ابدا لبقى على ذلك الاعتقاد فملا كان العزم مؤبدا عوقب بعقاب الابد بخلاف المسلم المذنب فانه يكون على عزم الاقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة { وهم لا يظلمون } بنقص الثواب وزيادة العقاب
قال الحدادى وانما قال ذلك لان التفضل بالنعم جائز والابتداء بالعقاب لا يجوز انتهى
واعلم ان الحسنات العشر اقل ما وعد من الاضعاف : قال السعدى قدس سره
نكوى كارى از مردم نيك راى ... يكى را يده مينويسد خداى
تونيز اى بسر هر كرايك هنر ... به بينى زده عيبش اندر كذر
وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر فى العدد الخاص كما يقول القائل لئن اسديت الىّ معروفا لاكافئنك بعشر امثاله وحكمة التضعيف لئلا يفلس العبد اذا اجتمع الخصماء فى طاعته فيدفع اليهم واحدة ويبقى له تسع فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من اصل حسناته لان التضعيف فضل من الله تعالى واصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة وفى الحديث « ويل لمن غلب آحاده على اعشاره » اى سيآته على حسناته وفى الحديث « الاعمال ستة موجبتان ومثل بمثل وحسنة بحسنة وحسنة بعشر وحسنة بسبعمائة فاما الموجبتان فهو من مات ولا يشرك بالله شيأ دخل الجنة ومن مات وهو مشرك بالله دخل النار واما مل بمثل فمن عمل سيئة فجزاء سيئة مثلها واما حسنة بحسنة فمن هم بحسة حتى تشعر بها نفسه ويعلمها الله من قلبه كتبت له حسنة واما حسنة بعشر فمن عمل حسنة فهل عشر امثالها واما حسنة بسبعمائة فالنفقة فى سبيل الله »(4/88)
كنون بركف دست نه هرجه هست ... كه فردا بدندان كزى بشت دست
قال فى اسئلة الحكم اعلم ان الشارع قد يرتب الثواب للعمل لئلا يترك بل يرغب فيه فلا يكون ذلك العمل افضل من العمل المؤكد عليه الذى لم يترتب عليه ذلك الثواب فمن ذلك قوله عليه السلام « من صلى الضحى اثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتات فى الجنة من ذهب » مع ان السنة الراتبة لفرض الظهر افضل من الضحى ومن ذلك قوله عليه السلام « من صلى ست ركعات بين المغرب والعشاء كتب الله له عبادة اثنتى عشرة سنة » مع ان سنة المغرب افضل من ذلك وانما رتب الثواب على ذلك لكثرة الغفلة فيه وامثال ذلك كثيرة فى الاخبار فلا يفضل على الراتب المؤكد وان لم يعين اجره غير الراتب او غير راتبة فى الاجر والفضيلة فى عمل او حكم ولا يبلغ مرتبة الراتبة نقل من الاحكام وان لم يتعين قدر اجرها فان السنن شرعت لتتم نقائض الفرائض والنوافل الغير الراتبة لتتميم نقائص السنن الراتبة فلا ينوب نفل مناب فرض يجب قضاؤه فرض لا يسقط بالنوافل كما يزعم بعض العوام يترك الفرائض ويرغب فى النوافل مما ورد كثرة الاجر عليه كالصلاة بعد المغرب بزعم سقوط الفرائض بها وتنوب مناب القضاء وذلك غير مشروع اصلا وترتيب اجور الاعمال والاذكار موقوف على الوحى والالهام لا قدم فيه لتخمين العقول
والاشارة فى الآية ان الله تعالى من كمال احسانه مع العبد احسن اليه بعشر حسنات قبل ان يعمل العبد حسنة واحدة فقال تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر امثالها } يعنى قبل ان يجئ بحسنة احسن اليه بعشر حسنات حتى يقدر ان يجيء بالحسنة وهى حسنة الايجاد من العدم وحسنة الاستعداد بان خلقه فى احسن تقويم مستعدا للاحسان وحسنة التربية وحسنة الرزق بعثة الرسل وحسنة انزال الكتب وحسنة تبيين الحسنات والسيآت وحسنة التوفيق وحسنة الاخلاص فى الاحسان وحسنة قبول الحسنات { من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها } والسر فيه ان السيئة بذر يزرع فى ارض النفس والنفس خبيثة لانها امارة بالسوء والحسنة بذر يزرع فى ارض القلب والقلب طيب لان بذكر الله تطمئن القلوب وقد قال تعالى { والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذى خبث لا يخرج الا نكدا } واما ما جاء فى القرآن والحديث من تفاوت الجزاء للحسنات
فاعلم انه كما ان للاعداد اربع مراتب آحاد وعشرات ومآت والوف والواحد فى مرتبة الآحاد واحد بعينه وفى مرتبة العشرات عشرة وفى مرتبة المآت مائة وفى مرتبة الالوف الف فكذلك للانسان مراتب اربع النفس والقلب والروح والسر فالعمل الواحد فى مرتبة النفس اى اذا صدر منها يكون واحدا بعينه كما قال(4/89)
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } اذا هى فى مرتبة الاحاد وفى مرتبة القلب يكون بعشر امثالها لانه بمرتبة العشرات وفى مرتبة الروح يكون بمائة لانه بمرتبة المآت وفى مرتبة السر يكون بالف الى اضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية الى ما يتناهى لانه بمنزلة الالوف والله اعلم { وهم لا يظلمون } المعنى ان الله تعالى قد احسن اليهم قبل ان يحسنوا بعشر حسنات شاملات للحسنات الكثيرة فلا يظلمهم بعد ان احسنوا بل يضاعف حسناتهم يدل عليه قوله تعالى « ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجرا عظيما » كذا فى التأويلات النجمية(4/90)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
{ قل } يا محمد لكفار مكة الذين يدعون انهم على الدين الحق وقد فارقوه بالكلية { اننى هدانى ربى } اى ارشدنى بالوحى وبما نصب فى الآفاق والانفس من الآيات التكوينية { الى صراط مستقيم } موصل الى الحق { دينا } بدل من محل الى صراط والمعنى هدانى صراطا { قيما } مصدر بمعنى القيام وصف به الدين بمالغة والقياس قوما كعوض فاعل لاعلال فعله كالقيام { ملة ابراهيم } عطف بيان لدينا والملة من امللت الكتاب اى امليته وما شرعه الله لعباده يسمى ملة من حيث انه يدّون ويملى ويكتب ويتدارس بين من اتبعه من المؤمنين ويسمى دينا باعتبار طاعتهم لمن شرعه وسنه اى جعله لهم سننا وطريقا { حنيفا } حال من ابراهيم اى مائلا عن الاديان الباطلة ميلا لا رجوع فيه { وما كان من المشركين } اى ما كان ابراهيم منهم فى امر من امور دينهم اصلا وفرعا وانما اضاف هذا الدين الى ابراهيم لان ابراهيم كان معظما فى عيون العرب وفى قلوب اهل سائر الاديان اذ اهل كل دين يزعمون انهم ينتحلون الى دين ابراهيم عليه السلام فرد الله تعالى بقوله { وما كان من المشركين } على الذين يدعون انهم على ملته عليه السلام عقدا وعملا من اهل مكة واليهود المشركين بقولهم { عزير ابن الله } والنصارى المشركين بقولهم { المسيح ابن الله } والمشرك فى الحقيقة هو الذى يطلب مع الله تعالى شيأ آخر ومن الله غير الله : قال السعدى قدس سره
خلاف طريقت بود كاوليا ... تمنا كنند از خدا جز خدا(4/91)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{ قل } اعيد الامر لما ان المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق باصولها { ان صلاتى } يعنى الصلوات الخمس المفروضة { ونسكى } اى عبادتى كلها . واصل النسك كل ما تقربت به الى الله تعالى ومنه قولهم للعابد ناسك . ويقال اراد بالصلاة صلاة العبد وبالنسك الاضحية وعن انس رضى الله عنه عن رسول الله انه قرب كبشا املح اقرن فقال ( لا اله الا الله والله اكبر ان صلاتى ونسكى ) الى قوله تعالى { وانا اول المسلمين } ثم ذبح فقال « شعره وصوفه فداء لشعرى من النار وجلده فداء لجلدى من النار ودمه فداء لدمى من النار ولحمه فداء للحمى من النار وعظمه فداء لعظمى من النار وعروقه فداء لعروقى من النار » فقالوا يا رسول الله هنيئا مريئا هذا لك خاصة قال « بل لامتى عامة الى ان تقوم الساعة اخبرنى به جبريل عليه السلام عن ربى عز وجل » { ومحياى ومماتى } اى وما انا عليه فى حياتى واكون عليه عند موتى من الايمان والطاعة فالتقدير ذا محياى وذا مماتى فجعل ما يأتى به فى حياته وعند موته ذا حياته وذا موته كقولك ذا انائك تريد الطعام فاضافته بادنى ملابسة { لله رب العالمين لا شريك له } اى خالصة له تعالى لا اشرك فيها غيره { وبذلك } الاخلاص { امرت } لا بشئ غيره { وانا اول المسلمين } لان اسلام كل بنى متقدم على اسلام امته . وفيه بيان مسارعته عليه السلام الى الامتثال بما امر به وان ما امر به ليس من خصائصه عليه السلام بل الكل مأمورون به يقتدى به عليه السلام من اسلم منهم
والاشارة { ان صلاتى ونسكى } اى سيرى على منهاج الصلاة هو معراجى الى الله تعالى وذبيحة نفسى { ومحياى } حياة قلبى وروحى { ومماتى } اى موت نفسى { لله رب العالمين } لطلق الحق والوصول اليه { لا شريك له } فى الطلب من مطلوب سواه { وبذلك امرت } اى ليس هذا الطلب والقصد الى الله من نظرى وعقلى وطبعى انما هو من فضل الله ورحمته وهدايته وكمال عنايته اذ اوحى الى وقال { وتبتل اليه تبتيلا } وقال { قل الله ثم ذرهم } { وانا اول المسلمين } يعنى اول من استسلم عند الايجاد لامركن وعند قبول فيض المحبة لقوله { يحبهم ويحبونه } والاستسلام للمحبة فى قوله يحبونه دل عليه قوله عليه السلام « اول ما خلق الله نورى » كذا فى التأويلات النجمية
وفى الآية حث على التوحيد والاخلاص وعلامتهما التبرى من كل شئ سواه تعالى ظاهرا وباطنا ولو من نفسه والتحقق بحقائق المحبة الذاتية
وعن مالك بن دينار قال خرجت حاجا الى بيت الله الحرام واذا شاب يمشى فى الطريق بلا زاد ولا راحلة فسلمت عليه فرد على السلام فقلت ايها الشاب من اين قال من عنده قلت والى اين قال اليه قلت واين الزاد قال عليه قلت ان الطريق لا يقطع الا بالماء والزاد وهل معك شئ قال نعم تزودت عند خروجى بخمسة احرف قلت وما هذه الخمسة الاحرف قال قوله تعالى(4/92)
{ كهيعص } قلت وما معنى كهيعص قال اما قوله كاف فهو الكافى . واما الهء فهو الهادى . واما الياء فهو المؤدى . واما لعين فهو العالم . واما الصاد فهو الصادق ومن كان صاحبه كافيا وهاديا ومؤديا وعالما وصادقا لا يضيع ولا يخشى ولا يحتاج الى حمل الزاد والماء قال مالك فلما سمعت هذا الكلام نزعت قميصى على ان ألبسه اياه فابى ان يقبله وقال ايها الشيخ العرى خير من قميص دار الفناء حلالها حساب وحرامها عقاب وكان اذا جن الليل يرفع وجهه نحو السماء ويقول يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصى هب لى ما يسرك واغفر لى ما لا يضرك فلما احرم الناس ولبوا قلت لم لا تلبى فقال يا شيخ اخشى ان اقول لبيك فيقول لا لبيك ولا سعديك لا اسمع كلامك ولا انظر اليك ثم مضى فما رأيته الا بمنى وهو يقول اللهم ان الناس ذبحوا وتقربوا اليك بضحاياهم وهداياهم وليس لى شئ اتقرب به اليك سوى نفسى فتقبلها منى ثم شهق شهقة فخر ميتا واذا قائل يقول هذا حبيب الله هذا قتيل الله قتل بسيف الله فجهزته وواريته وبت تلك اليلة متفكرا فى امره ونمت فرأيته فى منامى فقلت ما فعل الله بك قال فعلى بى كما فعل بشهداء بدر قتلوا بسيف الكفار وانا قتلت بسيف الجبار
جان كه نه قربانى جانان بود ... جيفه تن بهتر از آنان بود
هركه نشد كثته شمشير دوست ... لاشه مردار به ازجان اوست
نسأل الله الكريم ان يجعلنا على الصراط المستقيم(4/93)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{ قل } يا محمد لمن يقول من الكفار ارجع الى ديننا { أغير الله ابغى } اطلب حال كونه { ربا } آخر فاشركه فى عبادته { وهو رب كل شئ } اى والحال ان ما سواه مربوب له مثلى فكيف يتصور ان يكون شريكا له فى العبودية { ولا تكسب كل نفس الا عليها } كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم اما بمعنى ليكتب علينا ما علمتم من الخطايا لا عليكم واما بمعنى لتحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا لا عليكم واما بمعنى لتحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا فهذا رد له بالمعنى الاول اى لا تكون جناية نفس من النفوس الا عليها ومحال ان يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر حتى يتأتى ما ذكرتم وقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر اخرى } رد له بالمعنى الثانى اى لا تحمل يومئذ نفس حامله حمل نفس اخرى حتى يصح قولكم ولنحمل خطاياكم . والوزر فى اللغة هو الثقل { ثم الى ربكم مرجعكم } اى الى مالك امركم رجوعكم يوم القيامة { فينبئكم } يومئذ { بما كنتم فيه تختلفون } اى يبين الرشد من الغىّ ويميز المحق من المبطل
وفى الآية امور
الاول ان غاية المبتغى ونهاية المرام هو الله الملك العلام فمن وجده فقد وجد الكل ومن فقده فقد فقد الكل والعاقل العاشق لا يطلب غير الله لانه الحبيب والمحب لا يتسلى بغير المحبوب : قال الحافظ :
دردمرا طبيب نداند دواكه من ... بى دوست خسته خاطر وبادرد خوشترم
والثانى ان كل ما تكسب النفس من خير او شر فهو عليها اما الشر فهى مأخوذة به واما الخبر فالمطلوب منها صحة القصد والخلو من الرياء والعجب والافتخار به : قال السعدى قدس سره
جه قدر آورد بنده بدرديس ... كه زير قبادارد اندام بيس
والنفس امارة بالسوء فلا تكسب الاسوأ والسوء عليها لا لها وهذا دأب النفس ما وكلت الى نفسها الا ان رحمها ربها كما قال { ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى } ولهذا كان من دعائه عليه السلام « رب لا تكلنى الى نفسى طرفة عين ولا اقل من ذلك » وهى اى النفس مأمور بالسير الى الله بقدم العبودية والاعمال الصالحة
قال الشيخ ابو عبدالله محمد بن الفضل العجب ممن يقطع الاودية والمفاوز والقفاز ليصل الى بيته وحرمه لان فيه آثار انبيائه كيف لا يقطع بالله نفسه وهواه حتى يصل الى قلبه فان فيه آثار مولاه
والثالث ان كل نفس مؤاخذ بذنبه لا بذنب غيره
فان قلت قوله عليه السلام « من كانت عنده مظلمة لاخيه من عرض او شئ فليستحلل منه اليوم قبل ان لا يكون دينار ولا درهم الا ان كان له عمل صالح اخذ منه بقدر مظلمته وان لم يكن له حسنات اخذ من سيآت صاحبه فحمل عليه »(4/94)
يدل على خلاف ذلك وكيف يجوز فى حكم الله وعدله ان يضع سيآت من اكتسبها على من لم يكتسبها وتؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها
فالجواب على ما قال الامام القرطبى فى تذكرته ان هذا لمصلحة وحكمة لا نطلع عليها وان الله تعالى لم يبن امور الدين على عقول العباد ولو كان كل ما لا تدركه العقول مردودا لكان اكثر الشرائع مستحيلا على موضوع عقول العباد انتهى
يقول الفقيران الذنب ذنبان ذنب لازم وذنب متعد . فالذنب اللازم كسرب الخمر مثلا يؤخذ به صاحبه دون غيره فهذا الذنب له جهة واحدة فقط . والذنب المتعدى كقتل النفس مثلا فهذا وان كان يؤخذ به صاحبه ايضا لكن له جهتان جهة التجاوز عن حد الشرع وجهة وقوع الجناية على العبد فحمل سيآته وطرح حسناته عليه حمل سيآت نفسه فى الحقيقة وما طرح حسنات غيره فى نفس الامر ولا ظلمة اصلا فالآية والحديث متحدان فى المآل والله اعلم بحقيقة الحال
والرابع كما ان الاختلاف واقع بين اهل الكفر والايمان كذلك بين اهل الاخلاص والرياء والشرع وان كان محكا يميز بين المحقق والمبطل الا ان انكشاف حقيقة الحال وظهور باطن الاقوال والافعال انما يكون يوم تبلى السرائر وتبدى الضمائر : وفى المثنوى
جون كند جان بازكونه بوستين ... جند واويلا برآيد زاهل دين
بردكانهر زرنما خندان شده است ... زانكه سنك امتحان بنهان شده است
قلب بهلومى زند بازر بشب ... انتظار روز مى دارد ذهب
باز زبان حال زر كويدكه باش ... اى مزور تا برآيد روز فاش
وفى الحديث « يخرج فى آخر الزمان اقوام يجتلبون الدينا بالدين » يعنى يأخذونها ويلبسون لباس جلود الضأن من اللين « ألسنتهم احلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب فيقول الله تعالى ابى تقترفون ام على تجترئون فى حلفت لأبعثن على اولئك فتنة تدع الحليم فهيا حيران » فعلى المؤمن ان يصحح الظاهر والباطن ويرفع الاختلاف فان الحق واحد فماذا بعد الحق الا الضلال . واما اختلاف الائمة فرحمة لعامة الناس وليس ذلك من قبيل الاختلاف بحسب المراء والجدال بل بحسب اختلاف الاشخاص والاحوال فالحق احق ان يتبع عصمنا الله واياكم من الاختلاف المفسد للدين والجدل المزيل لاصل اليقين وجعلنا من اهل التوفيق للصواب انه الكريم المفيض الوهاب(4/95)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ وهو } اى الله تعالى { الذى جعلكم } ايها الناس { خلائف الارض } من بعد بنى الجان او خلائف الامم السابقة البشرية او خلفاء الله فى ارضه تنصرفون فيها . والخلائف جمع الخليفة كالوصائف جمع الوصيفة وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفته لانه يخلفه
قال فى التأويلات النجيمة هو جعل كل واحد من بنى آدم آدم وقته وخليفة ربه فى الارض وسر الخلافة انه صوره على صورة صفات نفسه حيا قيوما سميعا بصيرا عالما قادرا متكلما مريدا
آدمى جيست بررخ جامع ... صورت خلق وحق درو واقع
متصل بادقائق جبروت ... مشتمل برحقائق ملكوت
{ ورفع بعضكم } فى الشرف والغنى { فوق بعض } الى { درجات } كثيرة متفاوتة { ليبلوكم فيما آتاكم } من المال والجاه اى ليعاملكم معاملة من يبتليكم ويمتحنكم لينظر ماذا تعملون من الشكر وضده حكى ان جنيدا كان يلعب مع الصبيان فى صباوته فمر به السرى السقطى فقال ما تقول فى حق الشكر يا غلام قال الشكر ان لا تستعين بنعمه على معاصيه { ان ربك } يا محمد { سريع العقاب } اى عقابه سريع الاتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه الله ولم يشكره وانما قال سريع العقاب مع انه موصوف بالحلم والامهال لان كل ما هو آت قريب : قال الحافظ
بمهلتى كه سبهرت دهد زراه مرو ... تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كرد
{ وانه لغفور رحيم } لمن راعاها كما ينبغى وفى الحديث « يؤتى بالرجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام وانفقه فى حرام فيقال اذهبوا به الى النار ويؤتى بالرجل قد جمع مالا من حلال وانفقه فى حلال فيقال له تف لعلك فرطت فى هذا فى شئ مما فرض عليك من صلاة لم تصلها لوقتها او فرطت فى ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول لا يارب كسبت من حلال وانفقت فى حلال ولم اضيع شيأ مما فرضت فيقال لعلك اختلت فى هذا المال فى شئ من مركب او ثوب باهيت به فقال لا يا رب لم اختل ولم اباه فى شئ فيقال لعلك منعت حق احد امرتك ان تعطيه من ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيقول لا يارب كسبت من حلال وانفقت فى حلال ولم اضيع شيأ مما فرضت علىّ ولم اختل ولم ا باه ولم اضيع حق احد امرتنى ان اعطيه قال فجيئ باولئك فيخاصمونه فيقولون يا رب اعطيته وجعلته بين اظهرنا وامرته ان يعطينا فانه اعطانا وما ضيع شيأ من الفرائض ولم يختل فى شئ فيقال قف الآن هات شكر نعمة انعمتها عليك فى اكلة او شربة او لذة فلا يزال يسأل »(4/96)
واعلم ان الله تعالى كما اعطى المال والجاه ليتميز من هو على الشكر ومن هو على الكفران كذلك اعطى الحال اى استعداد الخلافه ليظهر من المتخلق باخلاق الله القائم باوامره فى العباد والبلاد ومن الذى رجع القهقرى الى صفات البهائم والانعام فمن اضاع صفات الحق بتبديلها بصفات الحيوانات عوقب بالختم على قلبه وسمعه وبصره فهو لا يرجع الى مكان الغيب الذى خرج منه بل حبس فى اسفل سافلين الطبيعة ومن تاب عن متابعة النفس والهوى ومخالفة الحق والهدى وآمن وعمل عملا صالحا للخلافة فقد اهتدى ولم يرجع القهقرى حكى عن ابراهيم بن ادهم انه حج الى بيت الله الحرام فبينما هو فى الطواف اذ بشاب حسن الوجه قد اعجب الناس حسنه وجماله فصار ابراهيم ينظر اليه ويبكى فقال بعض اصحابه انا لله وانا اليه راجعون غفلة دخلت على الشيخ بلا شك ثم قال يا سيدى ما هذا النظر الذى يخالطه البكاء فقال له ابراهيم يا اخى انى عقدت مع الله تعالى عقدا لا اقدر على فسخه والا كنت ادنى هذا الفتى واسلم عليه فانه ولدى وقرة عينى تركته صغيرا وخرجت فارا الى الله تعالى وها هو قد كبر كما ترى وانى لاستحيى من الله سبحانه ان اعود لشئ خرجت عنه قال ثم قال لى امض وسلم عليه لعلى اتسلى بسلامك عليه وابرد نارا على كبدى قال فاتيت الفتى فقلت له بارك الله لأبيك فيك فقال يا عم واين ابى ان ابى خرج فارا الى الله تعالى ليتنى اراه ولو مرة واحدة وتخرج نفسى عند ذلك هيهات وخنقته العبرة وقال والله اودذ انى رأيته واموت فى مكانى قال ثم رجعت الى ابراهيم وهو ساجد فى المقام وقد بل الحصى بدموعه وهو يتضرع الى الله تعالى ويقول
هجرت الخلق طرا فى هواك ... وايتمت العيال لكى اراك
فلو قطعتنى فى الحب اربا ... لما سكن الفؤاد الى سواك
قال فنلت له ادع له فقال حجبه الله عن معاصيه واعانه على ما يرضيه انتهى فانظر الى حال من ترك السلطنة واختار الفقر والقناعة وانت تؤثر الغنى والمقال على الفقر والحال وفى الحديث « اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا » اى قدر ما يمسك الرمق وقيل القوت هو الكفاية من غير اسراف وفيه بيان ان الكفاف افضل من الغنى لان النبى عليه السلام انما يدعو لنفسه بافضل الاحوال : قال الحافظ
درين بازار كر سوديست يادورويس خرسندست ... الهى منعمم كردان بدرويشى وخرسندى
جملنا الله واياكم من المقتفين لآثار سنة سيد المرسلين وحقق آمالنا من الوصول الى مقام التوكل واليقين انه لا يخيب رجاء سائله وداعيه ولا يقطع اجر عبده فى كل مساعيه
تمت سورة الانعام بمعونة الملك العلام فى سلخ جمادى الاولى المنتظم
فى سلك شهور سنة الف ومائة ويتلوها سورة الاعراف(4/97)
المص (1)
{ المص } ( ا ) اشارة الى الذات الاحدية ( ل ) الى الذات مع صفة العلم ( م ) الى معنى محمد صلى الله عليه وسلم اى نفسه وحقيقته ( ص ) الى الصورة المحمدية وهى جسده وظاهره
وعن ابن ع باس رضى الله عنهما ( ص ) جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار اشارة بالجبل الى جسد محمد صلى الله عليه وسلم . وبعرش الرحمن الى قلبه كما ورود فى الحديث « قلب المؤمن عرش الله » وقوله حين لا ليل ولا نهار اشارة الى الوحدة لان القلب اذا وقع فى ظل ارض النفس واحتجب بظلمة صفاتها كان فى الليل واذا طلع عليه نور شمس الروح واستضاء بضوئه كان فى النهار واذا وصل الى الوحدة الحقيقية بالمعرفة والشهور الذاتى واستوى عنده النور والظلمة لفناء الكل فيه كان وقته لا ليل ولا نهار ولا يكون عرش الرحمن الا فى هذا الوقت . فمعنى الآية ان وجود الكل من اوله الى آخره كتاب انزل اليك عمله كذا فى التأويلات القاشانية
وقال الشيخ نجم الدين انه تعالى بعد ذكر ذاته وصفاته بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } عرف نفسه بقوله { المص } يعنى الله اله من لطفه فرد عبده للمحبة والمعرفة وانعم عليه بالصبر والصدق لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة كتاب انزل اليك انتهى
وقال فى تفسير الفارسى [ المص : نام قرآنست . يا اسم اين سوره . ياهر حرفى اشارتست باسمى ار اسماى الهى جون اله ولطيف وملك وصبور . ياهر حرفى كنايتست از صفتى جون اكرام ولطف ومجد وصدق . يا ايمايست باسم المصور . يا بعض حروف دلالت براسمادارد بعض برافعال وتقدير جنان بودكه انا الله اعلم وافضل منم خداى كه ميدانم وبيان ميكنم يا ازهمه داناترم وحق از باطل جدا ميكردانم در حقايق سلمى كويدكه . الف ازلست . ولام ابد . وميم ما بين ازل وابد . وصاد اشارتست باتصال هر متصلى وانفصال هر منفصلى وفى الحقيقه نه اتصال را مجال كنجايش ونه انفصال را محل نمايش ]
اين جه راهست اين برون ازفصل ووصل ... كاندرونى فرع مى كنجد نه اصل
نى معانى نى عبارت نى عيان ... نى حقائق نى اشارت نى بيان
بر ترست ازمدركات عقل ووهم ... لا جرم كم كشت دروى فكر وفهم
جون بكلى روى كفت وكوى نيست ... هيجكس راجز خموشى روى نيست
يقول الفقير غفر الله ذنوبه ان الحروف المقطعة من المتشابهات القرآنية التى غاب علمها عن العقول وانما اعطى فهمها لاهل الوصول وكل ما قيل فيها فهو من لوازم معانيها وحقائقها فلنا ان نقول ان فيها اشارة الى هذا التركيب الصفاتى والفعلى الواحدى الايدى كان افرادا فى مرتبة الوحدة الذاتية الازلية فبالتجلى الالهى صار المفرد مركبا والمقطع موصلا والقوة فعلا والجمع فرقا وتعين النسب والاضافات كما ان اصل المركبات الكلامية هو حروف التهجى ثم بالتركيب يحصل اب ثم ابجد ثم الحمد لله وكما ان اصل الانسان بالنسبة الى تعين الجسم هو النطفة ثم بالتصوير يحصل التركيب الجسمى والله اعلم(4/98)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{ كتاب } اى هذا كتاب { انزل اليك } اى من جهته تعالى { فلا يكن فى صدرك حرج منه } اى شك ما فى حقيته كما فى قوله تعالى { فان كنت فى شك مما انزلنا اليك } خلا انه عبر عنه بما يلازمه من الحرج فان الشاك يعتريه ضيق الصدر كما ان المتيقن يعتريه انشراحه خاطب به النبى عليه السلام والمراد الامة اى لا ترتابوا ولا تشكوا . قوله منه متعلق بحجر يقال حرج منه اى ضاق به صدره ويجوز ان يكون الحرج على حقيقته اى لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة ان يكذبوك فانه عليه السلام كان تعالى ونهاه عن المبالاة بهم { لتنذر به } اى بالكتاب المنزل متعلق بانزل { وذكرى للمؤمنين } اى ولتذكر المؤمنين تذكيرا(4/99)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ اتبعوا } ايها المكلفون { ما انزل اليكم من ربكم } يعنى القرآن { ولا تتبعوا من دونه } اى من دون ربكم الذى انزل اليكم ما يهديكم الى الحق وهو حال من الفاعل اى لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى { اولياء } من الجن والانس باطاعتهم فى معصية الله { قليلا ما تذكرون } بحذف احدى التاءين وما مزيد لتأكيد العلة اى تذكرا قليلا او زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دين الله تعالى وتتبعون غيره
ثم شرع فى التهديد ان لم يتعظوا بما جرى على الامم الماضية بسبب اصرارهم عى اتباع دين اوليائهم فقال(4/100)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{ وكم } للتكثير مبتدأ والخبر هو جملة ما بعدها { من قرية } تمييز { اهلكناها } الضمير راجع الى معنى اى كثير من القرى اردنا اهلاكها او كثيرا منها على ان يكون كم فى موضع نصب باهلكناها كما فى قوله تعالى { انا كل شئ خلقناه بقدر } { فجاءها } اى فجاء اهلها { بأسنا } اى عذابنا { بياتا } مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال اى بائتين كقوم لوط
قال الحدادى سمى الليل بياتا لانه يبات فيه والبيتوتة خلاف الظلول وهو ان يدركك الليل نمت او لم تنم وهى بالفارسية [ شب كذا شتن ] { او هم قائلون } عطف على بياتا اى قائلين من القيلولة نصف النهار كقوم شعيب اهلكهم الله فى نصف النهار وفى حر شديد وهم قائلون
قال فى التفسير الفارسى [ تخصيص اين دووقت بجهت آنست كه زمان آسايش واستراحتند وتصور وتوقع عذاب دران نيست ](4/101)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{ فما كان دعواهم } اى دعاؤهم وتضرعهم { اذ جاءهم بأسنا } عذابنا وعاينوا اماراته { الا ان قالوا } جميعا { انا كنا ظالمين } اى الا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا عليه وندامة وطمعا فى الخلاص وهيهات لانه لا تنفع التوبة وقت نزول العذاب اذهو وارتفاع التكليف مقارنان وقوم يونس مستثنى من هذا كما يجئ : وفى المثنوى
همجو آن مرد مفلست روز مرك ... عقل را مى ديد بس بى بال وبرك
بى غرض مى كرد آندم اعتراف ... كزذكاوت رانده ايم اسب ازكزاف
از غرورى سر كشيديم از رجال ... آشنا كرديم در بحر خيال
آشنا هيجست اندر بحر روح ... نيست انجا جاره جز كشتى نوح
اينجنين فرموده آن شاه رسل ... كه منم كشتى درين درياى كل
باكسى كودر بصيرتهاى من ... شد خليفه راستين بر جاى من
كشتئ نوحيم در درياكه تا ... رو نكردانى زكشتى اى فتى(4/102)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
{ فلنسئلن الذين ارسل اليهم } الفاء لترتيب الاحوال الاخروية على الدنيوية اى لنسألن الامم قاطبة يوم الحشر قائلين ماذا اجبتم المرسلين { ولنسئلن المرسلين } عما اجيبوه او المراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والذى نفى بقوله تعالى { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } سؤال الاستعلام او الاول فى موقف الحساب والثانى فى موقف العقاب
وفى التفسير الكبير انهم لا يسألون عن الاعمال ولكن يسألون عن الدواعى التى دعتتهم الى الاعمال وعن الصوارف التى صرفتم عنها(4/103)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{ فلنقصن عليهم } اى على الرسل حين يقولون لا علم لنا انك انت علام الغيوب { بعلم } اى عالمين بظواهرهم وبواطنهم { وما كنا غائبين } عنهم فى حال من الاحوال فيخفى علينا شئ من اعمالهم واحوالهم
واعلم ان الرسل يقولون يوم الحشر اللهم سلم سلم ويخافون اشد الخوف على اممهم ويخافون على انفسهم والمطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ولا ظواهرهم ايضا بالمخالفات الشرعية آمنون يغبطهم النبيون فى الذى هم عليه من الامن لما هم اى النبيون عليه من الخوف على اممهم فمن لقى الله تعالى فى ذلك اليوم شاهدا له بالاخلاص مقرا بنبيه صلى الله عليه وسلم بريئا من الشرك ومن السحر بريئا من اهراق دماء المسلمين ناصحا لله تعالى ولرسوله محبا لمن اطاع الله ورسوله مبغضا لمن عصى الله ورسوله استظل تحت ظل عرش الرحمن ونجا من الغم ومن حاد عن ذلك ووقع فى شئ من هذه الذنوب بكلمة واحدة او تغير قلبه او شك فى شئ من دينه بقى الف سنة فى الحر والهم والعذاب حتى يقضى الله فيه بما يشاء روى ان ملكا من ملوك كندة كان طويل المصاحبة لهو واللذات كثير العكوف على اللعب فركب يوما للاصطياد او غيره فانقطع عن اصحابه فاذا هو برجل جالس قد جمع عظاما من عظام الموتى وهى بين يديه يقلبها فقال ما قصتك ايها الرجل وما الذى بلغ بك ما ارى من سوء الحال ويبس الجلد وتغير اللون والانفراد فى هذه الفلاة فقال اما ما ذكرت من ذلك فلانى على جناح سفر بعيد وبى موكلان مزعجان يحدوان بى الى منزل كبيت النمل مظلم القمر كريه المقر يسلمانى الى مصاحبة البلى ومجاورة الهلكى تحت اطباق الثرى فلو تركت بذلك المنزل مع ضيقه ووحشته وارتعاء حشاش الارض من لحمى حتى اعود رفاتا وتصير اعظمنى رماما لكان للبلى انقضاء وللشقاء نهاية ولكنى ادفع بعد ذلك الى صيحة الحشر واردا طول مواقف الجرائم ثم لا ادرى الى أى الدارين يؤمر بى فأى حال يلتذ به من يكون هذا الامر مصيره فلما سمع الملك كلامه القى نفسه عن فرسه وجلس بين يدى وقال ايها الرجل لقد كدّر مقالك على صفو عيشى وملك قلبى فاعد علىذ بعض قولك فقال له اما ترى ههذ التى بين يدى قال بلى قال هذه عظام ملوك غرتهم الدنيا بزخرفها واستحوذت على قلوبهم بغرورها فالهتهم عن التأهب لهذه المصارع حتى فاجأتهم الآجال وخذلتهم الآمال وسلبتهم بهاء النعة وسنشر هذه العظام فتعود اجساما ثم تجازى باعمالها فاما الى دار النعيم والقرار واما الى دار العذاب والبوار ثم غاب الرجل فلم يدر اين ذهب وتلاحق اصحاب الملك به وقد تغير لونه وتواصلت عبراته فلما جن عليه الليل نزع ما عليه من لباس الملك ولبس طمرين وخرج تحت الليل فكان آخر العهد به وانشدوا(4/104)
افتى القرون التى كانت منعمة ... كر اللييلات اقبالا وادبارا
ياراقد الليل مسرورا باوله ... ان الحوادث قد يطرقن اسحارا
لا تأمنن بليل طاب اوله ... فرب آخر ليل اجج النارا
قال الامام زين العابدين . عجبت للمتكبر الفخور الذى كان بالامس نطفة ويكون غذا جيفة . وعجبت كل العجب لمن شك فى الله وهو يرى خلقه . وعجبت كل العجب لمن انكر النشأة الآخرة وهو يرى النشأة الاولى . وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء
فعلى العاقل ان يعتبر بمن مضى قبل ان يجبيء على رأسه القضاء ويجتهد فى طريق الحق ذاكرا له فى الغدو والرواح ويتهيأ للموت قبل نزوله والوقت يمضى كالرياح فاين الذين وقعوا فى انكار الرسل وتكذيب الانبياء مضوا والله الى دار الجزاء وسينقضى الزمان كله فلا يبقى احد على بساط العالم من ملك وجن وبنى آدم وتطوى صحائف الاعمال وتنشر يوم السؤال ويظهر كل جليل ودقيق فيا شقاوة اهل الخذلان ويا سعادة اهل التوفيق اللهم انا نسألك مراقبة الاوقات ومحافظة الطاعات والتمشى على الصراط السوى فى المسلك الصورى والمعنوى فاعن الضعفاء يا قوى آمين يا معين(4/105)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{ والوزن } اى وزن الاعمال التمييز بين راجحها وخفيفها وجيدها ورديها والمعنى بالفارسية ( سنجيدن اعمال هريك ) { يومئذ } اى يوم القيامة { الحق } بالفارسية [ راستست وبودنى ] { فمن ثقلت موازينه } اى حسناته التى توزن فهو جمع موزون ان يكون جمع ميزان باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن
وقال فى التأويلات النجمية وانما قال موازينه بالجمع لان كل عبد ينصب له موازين بالقسط تناسب حالاته فلبدنه ميزان يوزن به اوصافه ولروحه ميزان يوزن به نعوته ولسره ميزان يوزن به احواله ولخفيه ميزان يوزن به اخلاقه والخفى لطيفة روحانية قابلة لفيض الاخلاق الربانية ولهذا قال عليه السلام « ما وضع فى الميزان اثقل من حسن الخلق » وذلك لانه ليس من نعوت المخلوقين بل هو من اخلاق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق باخلاقه { فاولئك } الجمع باعتبار معنى من { هم } ضمير فصل يفيد اختصاص المسند بالمسند اليه { المفلحون } الفائزون بالنجّاته والثواب(4/106)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{ ومن خفت موازينه } بالفارسية [ عملهاى وزن كرده او وآن سبكى بمعصيت خواهد بود ] { فأولئك الذين خسروا انفسهم } بتضييع الفطرة السليمة التى فطرت عليها واقتراف ما عرضها للعذاب
قال الحدادى الخسران اذهاب رأس المال ورأس مال الانسان نفسه فاذا هلك بسوء عمله فقد حسر نفسه { بما كانوا بآياتنا يظلمون } يعنى وضعوا التكذيب بها موضع التصديق . قوله بما متعلق بخسروا وما مصدرية وبآياتنا متعلق بيظلمون على تضمين معنى التكذيب
قال فى التأويلات النجمية الوزن عند الله يوم القيامة لاهل الحق وارباب الصدق واعمال البر فلا وزن للباطل واهله ويدل عليه قوله تعالى { فلا نقيم له يوم القيامة وزنا } وروى انه يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فيوزن فلا يزن جناح بعوضة انتهى وهذه الرواية تدل على ان الموزون هو الاشخاص كما ذهب اليه بعض العلماء ولكن الجمهور على ان صحائف الاعمال هى التى توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر اليه الخلائق اظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن اعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم وتشهد عليهم الانبياء والملائكة والاشهاد وكما تثبت فى صحائفهم فيقرأونها فى موقف الحساب
ويؤيده ما روى ان الرجل يؤتى به الى الميزان فينشر له تسعة وتسعون سجلا مدى البصر فتخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات فى كفه والبطاقة فى كفة فيطيش السجلات وتثقل البطاقة والبطاقة رقعة صغيرة وهى ما يجعل فى طى الثوب يكتب فيها ثمنه روى ان داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان الذى ينصب يوم القيامة فرأى كل كفة ملئ ما بين المشرق والمغرب فغشى عليه فلما افاق قال الهى من يقدر ان يملأ كفته بالحسنات فقالف الله تعالى يا داود اذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة من صدقة
وقال فى التفسير الفارسى [ درتيبان از ابن عباس ثقل ميكندكه درازى عمود ميزان بنجاه هزار ساله راهست وكفين او يكى از نورست ويكى ازظلمت حسنات در بله نورنهند وسيآت دريله ظلمت ]
ويحكى عن بعضهم انه قال رأيت بعضهم فى المنام فقلت ما فعل الله بك فقال وزنت حسناتى فرجحت السيآت على الحسنات فجاءت صرة من السماء وسقطت فى كفة الحسنات فرجحت فحللت الصرة فاذا فيها كف تراب القيته فى قبر مسلم ويجاء بعمل الرجل فيوضع فى كفة ميزانه فيخف فيجاء بشئ امثال الغمام فيوضع فى كفة ميزانه فترجيح فيقال له أتدرى ما هذا فيقول لا فيقال له هذا فضل العلم الذى كنت تعلمه الناس وتستوى كفتا الميزان لرجل فيقول الله تعالى لست من اهل الجنة ولا من اهل النار فيأتى الملك بصحيفة فيضعها فى كفة الميزان فيها مكتوب أف فيترجح على الحسنات لانها كلمة عقوق ترجح بها جبال الدنيا فيؤمر به الى النار فيطلب الرجل ان يرد الى الله تعالى فيقول ردوه فيقول ايها العبد العاق لأى شئ تطلب الرد الى فيقول الهى رأيت انى سائر الى النار وان لا بدل لى منها زمن عاقا لأبى وهو سائر الى النار مثل فضعف على بى عذابى وأنقذه منها فيضحك الله تعالى ويقول عققته فى الدنيا وبررته الآخرة خذ بيد ابيك وانطلق الى الجنة : قال الحافظ(4/107)
طمع زفيض كرامت مبركه خلق كريم ... كنه بنجشد وبر عاشقان بنجشايد
واعلم ان السبعين الالف الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان وكذا يؤتى باهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان فيصب لهم الاجر صبا حتى ان اهل العافية ليتمنون فى الموقف ان اجسامهم قد قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله فهم يكونون تحت شجرة فى الجنة تسمى شجرة البلوى قال الله تعالى { انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب } قال ارباب التحقيق التويحد الرسمى يدخل فى الميزان لانه يوجد له ضد كما اشير اليه بحديث صاحب السجلات واما التوحيد الحقيقى فلا يدخل فى الميزان لانه لا يعادله شئ اذ لا يجتمع ايمان وكفر بخلاف ايمان وسيآت ولهذا كانت لا اله الا الله افضل الاذكار فالذكر بها افضل من الذكر بكلمة الله الله وهو هو عند العلماء بالله لانها جامعة بين النفى والاثبات وحاوية على زيادة العلم والمعرفة فمن نفى بلا اله عين الخلق حكما لا علما فقد أثبت كون الحق حكما وعلما والاله من له جميع الاسماء وما هو الا عين واحدة هى مسمى الله الذى بيده ميزان الرفع والخفض
قال حضرة لاشيخ الاكبر قدس سره لا تدخل الموازين الا اعمال الجوارح وهى سبع السمع والبصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل . واما الاعمال المعنوية فلا تدخل الميزان المحسوس لكن يقام فيها العدل وهو الميزان المعنوى فحس لحس ومعنى لمعنى يقابل كل شئ بشاكلته
قال العلماء اذا انقضى الحساب كان بعده وزن الاعمال لان الوزن للجزاء ينبغى ان يكون بعد المحاسبة فان المحاسبة لتقرير الاعمال والوزن لاظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها كذا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى
فعلى العاقل ان يسارع الى الطاعات ويبادر الى الحسنات خصوصا الى احسن الحسنات وهو كلمتا الشهادة ليكون ممن ثقلت موازينه ويدخل فى زمرة المفلحين(4/108)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{ ولقد مكناكم فى الارض } اى جعلنا لكم منها مكانا وقرارا وأقدرناكم فى التصرف فيها على أى وجه شئتم { وجعلناكم فيها معايش } اى انشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها اسبابا تعيشون بها جمع معيشة وهى ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما والخطاب لقريش فانه تعالى فضلهم على العرب بان مكنهم من الرحلة الى الشام اوان الصيف ومن الرحلة الى اليمن اوان الشتاء آمنين بسبب كونهم سكان حرم الله تعالى ومجاورى بيته الشريف ويتخطف الناس من حولهم فيتجرون بتينك الرحلتين ويكسبون ما يكون سببا لحياتهم من المآكل والمشارب والملابس وغيرها { قليلا ما تشكرون } فيما صنعت اليكم
والاشارة ان التمكين لفظ جامع للتمليك والتسليط والقدرة على تحصيل اسباب كل خير وسعادة دنيوية كانت او اخروية وكمال استعداد المعرفة والمحبة والطلب والسير الى الله ونيل الوصول والوصال ما تشرف بهذا التمكين الا الانسان وبه كرم وفضل وبه يتم امر خلافته ولهذا امر الملائكة بسجود آدم وبه من الله على اولاده بقوله { لقد مكناكم فى الارض } اى سيرناكم ووهبنا لكم فى خلافة الارض ما لم نمكن احدا غيركم فى الارض من الحيوانات ولا فى السماء من الملائكة وجعلنا لكم خاصة فيها معايش اى جعلنا لكل صنف من الملك والحيوان والشيطان معيشة يعيش بها او جعلنا لكم فيها معايش لان الانسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والانسانية فمعيشة الملك هى معيشة روحه ومعيشة الحيوان هى ميعشة بدنه ومعيشة الشيطان هى معيشة نفسه الامارة بالسوء ولما حصل للانسان بهذا التركيب مراتب الانسانية وانها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهى القلب والسر والخفى فمعيشة قلبه هى الشهود ومعيشة سره هى الكشوف ومعيشة خفيه هى الوصال والوصول قليلا ما تشكرون اى قليلا منكم من يشكر هذه النعم اى نعمة التمكن ونعمة المعايش برؤية هذه النعم والتحدث بها فان رؤية النعم شكرها والتحدث بالنعم ايضا شكر كذا فى التأويلات النجمية
نعمت بسى وشكر كزارنده اندكست ... كوينده سياس الهى زصد يكست
واعلم ان النعمة انما تسلب ممن لا يعرف قدرها ولا يؤدى شكرها روى ان بعض الانبياء عليهم السلام سأل الله تعالى عن امر بلعم وطرده بعد تلك الآيات والكرامات فقال الله تعالى لم يشكرنى يوما من الايام على ما اعطيته ولو شكرنى على ذلك مرة لما سلبته فتيقظ ايها الرجل واحتفظ بركن الشكر جدا جدا واحمد الله على مننه التى اعلاها الاسلام والمعرفة وادناها مثلا توفيق لتسبيح او عصمة من كلمة لا تعنيك عسى ان يتم نعمه عليك ولا يبتليك بمرارة الزوال فان امر الامور واصعبها الاهانة بعد الاكرام والطرد بعد التقريب والفراق بعد الوصال : قال السعدى قدس سره
نداند كسى قدر روز خوشى ... مكر روزى افتد بسختى كشى
مكن تكيه برد ستاكهى كه هست ... كه باشد كه نعمت نماند بدست
بسا اهل دولت ببازى نشت ... كه دولت برفتش ببازى زدست
فضيحت بود خوشه اندوختن ... بس ازخرمن خويشتن سوختن
توبيش ازعقوبت درعفو كوب ... كه سودى ندارد فغان زير جوب
اكر بنده كوشش كند بنده وار ... عز يزش ندارد خداوندكار
وكر كند رايست در بندكى ... ز جاندارى افتد بخر بندكى
اللهم احفظنا من الكفران ووفقنا للشكر كل حين وآن(4/109)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ ولقد خلقناكم ثم صورناكم } اى خلقنا اباءكم آدم طينا غير مصور بصورته المخصوصة ثم صورناه عبر عن خلق نفس آدم وتصويره بخلق الكل وتصويرهم تنزيلا لخلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويرهم من حيث ان المقصود من خلقه وتصويره تعمير الارض باولاده فكان خلقه بمنزلة خلق اولاده فالاسناد فى ضمير الجمع مجازى { ثم قلنا للملائكة } كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص { اسجدوا لآدم } سجدة تحية وتكريم لان السجود الشرعى وهو وضع الجبهة على قصد العبادة انما هو لله تعالى حقيقة { فسجدوا } اى الملائكة بعد الامر من غير تلعثم { الا ابليس } اى لكن ابليس { لم يكن من الساجدين } اى ممن سجد لآدم والا فهو كان ساجدا لله تعالى(4/110)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{ قال } استئناف كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ فقيل قال { ما } اى أى شئ { منعك ان لا تسجد } اى ان تسجد ولا صلة كما فى قوله تعالى { لئلا يعلم اهل الكتاب } اى ليتحقق علم اهل الكتاب { اذ امرتك } اى وقت امرى اياك به { قال } ابليس { انا خير منه } اى الذى منعنى من السجود هو انى افضل منه لانك { خلقتنى من نار وخلقته من طين } والنار جوهر لطيف نورانى والطين جسم كثيف ظلمانى فهو خير منه ولقد اخطأ اللعين حيث لاحظ الفضيلة باعتبار المادة والعنصر
ز آدمى ابليس صورت ديد وبس ... غافل ازمعنى شد آن مردود خس
نيست صورت جشم را نيكو بمال ... تابيينى شعشع نور جلال
ونعم ما قيل ايضا
صورت خاك ارجه دارد تيركى درتيركى ... نيك بنكر كزره معنى صفا اندر صفاست
اين هما يومن خاك كاندر وصف او صاحب دلى ... نكته كفتش كه ازوى ديده جانرا اجلا ست
جستن كوكرد احمر عمر ضايع كردنست ... روى برخاك سياه آوركه يكسر كيمياست
وفى المثنوى
كفت نار ازخاك بى شك بهترست ... من زنارو او ز خاك اكدرست
بس قياس فرع بر اصلش كنيم ... او زظلمت من زنور روشنيم
كفت حق نى بكله لا انساب شد ... زهد وتقوى فضل را محراب شد
اين نه ميراث جهان فانيست ... كه بانسابش بيان جانيست
بلكه اين ميراثها ى انبياست ... وارث ابن جانهاى اتقياست
بور آن بوجهل شد مؤمن عيان ... بور آن نوح نبى از كمرهان
زاده خاكى منور شد جو ماه ... زاده آتش توئى اى رو سياه
اين قياسات وتحرى روز ابر ... يا بشب مر قبله را كردست جبر
ليك با خورشيد وكعبه بيش رو ... اين قياس واين تحرى را مجو
كعبه ناديده مكن رو زومتاب ... از قياس الله اعلم بالصواب
وفى التأويلات النجمية ان شرف مسجودية آدم وفضيلته على ساجديه لم يكن بمجرد خواصه الطينية وان تشرفه التخمير بغير واسطة كقوله تعالى { ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدى } وكقوله عليه السلام « خمر الله طينة آدم بيده اربعين صباحا » وانما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح المشرف بالاضافة الى الحضرة فيه من غير واسطة كما قال { ونفخت فيه من روحى } ولاختصاصه بالتجلى فيه عند نفخ الروح كما قال عليه السلام « ان الله تعالى خلق آدم فتجلى فيه » ولهذا السر ما امر الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين بل امرهم بالسجود بعد نفخ الروح فيه كما قال الله تعالى { انى خالق بشرا من طين فاذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين } وذلك لان آدم بعد ان نفخ فيه الروح صار مستعدا للتجلى لما حصل فيه من لطافة الروح ونورانيته التى يستحق بها التجلى ومن امساك الطين الذى يقبل ا لفيض الالهى ويمسكه عند التجلى فاستحق سجود الملائكة فانه صار كعبة حقيقة(4/111)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{ قال } الله تعالى { فاهبط } يا ابليس { منها } اى من الجنة والاضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها وكانوا فى جنة عدن لا فى جنة الخلد وفيها خلق آدم وهذا امر عقوبة على معصية { فما يكون لك } اى فما يصح ويستقيم لك ولا يليق بشأنك { ان تتكبر فيها } اى فى الجنة ولا دلالة فيه على جواز التكبر فى غيرها { فاخرج } تأكيد للامر بالهبوط { انك من الصاغرين } اى من الاذلاء واهل الهوان على الله تعالى وعلى اوليائه لتكبرك
وفى الىية تنبيه على ان الله تعالى انما طرده واهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه وفى الحديث « من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله » وفى المثنوى
علتى بد تر ز بندار كمال ... نيست اندرجانت اى مغرورو ضال
ازدل وازديده ات بس خون رود ... تاز تو اين معجبى بيرون شود
علت ابليس انا خير بدست ... وين مرض در نفس هر مخلوق هست
كرجه خودرا بس شكسته بينداو ... آب صافى دان وسركين زيرجو
جون بشورانى مراوراز امتحان ... آب سركين رنك كردد در زمان
درتك جوهست سركين اى فتى ... كرجه جو صافى نمايد مر ترا
وكان الاصحاب رضى الله عنهم يبكون دما من اخلاق النفس وذكر ان قاضيا جاء الى ابى يزيد البسطامى يوما فقال نحن نعرف ما تعرفه ولكن لا نجد تأثيره فقال ابو يزيد خذ مقدارا من الجوز وعلق وعاءه فى عنقك ثم ناد فى البلد كل من يلطمنى ادفع له جوة حتى لا تبقى منه شيأ فاذا فعلت ذلك تجد التأثير فاستغفر القاضى فقال ابو يزيد قداذنبت لانى اذكر ما يخلصك من كبر نفسك وانت تستغفر من ذلك لكمال كبرك
قال ابو جعفر البغدادى ست خصال لا تحسن بست رجال . لا يحسن الطمع فى العلماء . ولا العجلة فى الامراء . ولا الشح فى الاغنيا . ولا الكبر فى الفقراء . ولا السفه فى المشايخ . ولا اللؤم فى ذوى الا حساب فعليك بالتوحيد فانه سيف صارم يقطع عرق كل خلق مذموم(4/112)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{ قال } الشيطان بعد كونه مطرودا { انظرنى } اى امهلنى ولا تمتنى { الى يوم يبعثون } اى آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وهو وقت النفخة الثانية واراد اللعين بذلك ان يجد فسحة من اغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لاستحالته بعد الموت(4/113)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{ قال } الله تعالى { انك من المنظرين } اى من جملة الذين اخرت آجالهم الى وقت النفخة الاولى لا الى وقت البعث الذى هو المسئول كما بين مدة المهلة فى قوله تعالى { انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم } وهو يوم النفخة الاولى يموت الخلق فيه ويموت ابليس معهم وبين النفخة الاولى والثانية اربعون سنة فاستجيب بعض دعائه لاكله
والفتوى على ان دعاء الكافر يستجاب استدراجا ودل ظاهر قوله { انك من المنظرين } على ان ثمة منظرين غير ابليس وعن ابن عباس قال ان الدهر يمبر بابليس فيهرم ثم يعود ابن ثلاثين
غافلان از مرك مهلت خواستند ... عاشقان كفتند نى نى زود باد
وانما انظره ابتلاء للعباد وتمييزا بين المخلص لله ومتبع الهوى وتعريضا للثواب بمخالفته . وقيل انظره مكافأة له بعبادته التى مضت فى السماء وعلى وجه الارض ليعلم انه لا يضيع اجر العاملين وقيل امهله وابقاه الى آخر الدهر استدراجا له من حيث لا يعلم ليتحمل من الوزار ما لا يتحمل غيره من الاشرار والكفار فأنظره الى يوم القرار ليحصل الاعتبار به لذوى الابصار بان اطول الاعمار فى هذه الدار لرئيس الكفار وقائد زمرة الفجار
واختلف العلماء هل كلم الله تعالى ابليس بغير واسطة اولا والصحيح انه انما كلمه بواسطة ملك لان كلام البارى لمن كلمه رحمة ورضى وتكرم واجلال ألا ترى ان موسى عليه السلام فضل بذلك على الانبياء ما عدا الخليل ومحمدا صلى الله عليه وسلم
فان قيل أليس رسالته ايضا تشريفا لابليس . قيل مجرد الارسال ليس بتشريف وانما يكون لاقامة الحجة بدلالة ان موسى عليه السلام ارسله الله الى فرعون وهامان ولم يقصد اكرامهما واعظامهما لعلمه بانهما عدوان وكان كلامه اياه تشريف له وقوله تعالى { ويوم يناديهم } اى على لسان بعض ملائكته(4/114)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{ قال } ابليس { فبما اغويتنى } الباء متعلقة بفعل القسم المحذوف . والاغواء الاضلال عن المنهج القويم والهمزة فيه للصيرورة اى بسبب ان صيرتنى غاويا ضالا عن الهدى محرما من الرحمة لاجلهم اقسم بعزتك { لاقعدن لهم } اى لآدم وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للقطع على السابلة { صراطك } اى على صراطك { المستقيم } الموضل الى الجنة وهو دين الاسلام فالقعود كناية عن الاجتهاد فى اغواء بنى آدم فان من هلك بسبب الاجتهاد فى تكميل امر من الامور يقعد حتى يصير فارغ البال عما يشغله عن اتمام مقصوده ويتوجه اليه بكليته(4/115)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ ثم لآتيناهم } [ بس بيايم بديشان ] { من بين ايديهم } اى من قبل الآخرة فاشككهم فيها . وايضا من قبل الحسد فازين لهم الحسد على الاكابر من العلماء والمشايخ فى زمانهم ليطعنوا فى احوالهم واعمالهم واقوالهم { ومن خلفهم } من جهة الدنيا ارغبهم . فيها وايضا من قبل العصبية ليطعنوا فى المتقدمين من الصحابة والتابعين والمشايخ الماضين ويقدحوا فيهم ويبغضوهم { وعن ايمانهم } من جهة الحسنات واوقعهم فى العجب والرياء . وايضا من قبل الانبساط فاحرض المريدين على سوء الادب فى صحبة المشايخ وترك الحشمة والتعظيم والتوسع فى الكلام والمزاح لانزلهم عن رتبة القول { وعن شمائلهم } من جهة السيآت فازينها لهم . وايضا من قبل المخالفة فامرهم بترك اوامر المشايخ ونواهيهم لأوردهم به موارد الرد واهلكهم بسطوات غيره الولاية وردها بعد القبول والمقصود من الجهات الاربع التى يعتاد هجوم العدو منها مثل قصده اياهم للتسويل والاضلال من أى وجه يتيسر باتيان العدو من الجهاد الاربع ولذلك لم يذكر الفوق والتحت وانما عدى الفعل الى الاولين بحرف الابتداء لانه منهما متوجه اليهم والى الآخرين بحرف المجاوزة فان الآتى منهما كالمنحرف المتجافى عنهم المار على عرضهم وجانبهم كما تقول جلست عن يمينه اذا جلست متجافيا عن جانب يمينه غير ملاصق له فكأنك انحرفت عنه وتجاوزت { ولا تجد اكثرهم شاكرين } اى مطيعين
وفى التفسير الفارسى [ يعنى كافران باشندكه منعم را نشتاسد ] وانما قال ظنا لا علما لقوله تعالى { ولقد صدق عليهم ابليس ظنه } لما رأى فيهم مبتدأ الشر متعددا وهو الشهوة والغضب ومبدأ الخير واحدا وهو العقل : قال السعدى قدس سره
نه ابليس درحق ما طعنه زد ... كزينان نيايد يجز كاريد
فغان ازبديها كه در نفس ماست ... كه ترسم شودظن ابليس راسب
جومعلون بسند آمدش قهرما ... خدايش بر انداخت ازبهرما
كجاسر بر آريم عاروننك ... كه با او بصلحيم وباحق بجنك(4/116)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{ قال } الله تعالى لابليس { اخرج منها } اى من الجنة حال كونك { مذؤما } اى مذموما من ذأمه اذا ذمه فالذام من المهموز العين والذم من المضاعف كلاهما بمعنى واحد وهو التعييب البليغ { مدحورا } اى مطرودا فاللعين مطرود من الجنة ومن كل خير لعجبه ونظره الى نفسه ففيه عبرة لكل مخلوق بعده { لمن اتبعك منهم } اللام لتوطئة القسم ومن شرطية ومعناه بالفارسية [ بخداى كه هركه دربى توبيايد از اولاد آدم ] { لأملأن جهنم منكم اجمعين } جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط ومعنى منكم اى من ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم وفى الحديث « تحاجت النار والجنة فقالت هذه يدخلنى الجبارون المتكبرون وقالت هذه يدخلنى الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه انت عذابى اعذب بك من اشاء وقال لهذه انت رحمتى ارحم بك من اشاء ولكل واحدة منكما ملؤها » والتابعون للشيطان هم الذين يأتيهم من الجهات الاربع المذكورة فيقبلون منه ما امره فليحذر العاقل عن متابعته وليجتهد فى طاعة الله وعبادته حتى لا يدخل النار مع الداخلين وفى الحديث « اذا كان يوم القيامة رفع الى كل مؤمن رجل من اهل الملل فقيل هذا فداؤك من النار » وفى هذا الحديث دليل على كمال لطف الله بعباده وكرامتهم عليه حيث فدى اولياءه باعدائه ويحتمل ان يكون معنى الفداء ان الله تعالى وعد النار ليملأها من الجنة والناس فهى تستنجز الله موعده فى المشركين وعصاة المؤمنين فيرضيها الله تعالى بما يقدم اليها من الكفار فيكون ذلك كالمفاداة عن المؤمنين
وقال بعضهم معناه ان المؤمنين يتوقون بالكفار من نفح النار اذا مروا على الصراط فيكونون وقاية وفداء لاهل الاسلام
قال بعضهم رأيت ابا بكر بن الحسين المقرى فى المنام فى الليلة التى دفن فيها فقلت له ايها الاستاذ ما فعل الله بك قال ان الله تعالى اقام ابا الحسن العامرى صاحب الفلسفة فدائى وقال هذا فداؤك من النار وقد كان ابو الحسن توفى فى الليلة التى توفى فيها ابو بكر المقرى وفى الحديث « يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب امثال الجبال فيغفرها الله لهم ويصعها على اليهود والنصارى » ولا يستبعد من فضل الله مع اهل الاسلام والايمان ان يفديهم باهل الكفر والطغيان وذلك عدل من الله مع اهل المعصية وفضل على اهل طاعته خلافا للمعتزلة فانهم انكروا هذه واستدلوا بقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر اخرى } والذى صاروا اليه خلاف الكتاب والسنة قال الله تعالى { وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم } فلا يصح استدلالهم بالآية لان كل كافر معاقب بوزره(4/117)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
{ ويا آدم } اى وقلنا لآدم بعد اخراج ابليس من الجنة يا آدم { اسكن انت } اى لازم الاقامة على طريق الاباحة والتكريم { وزوجك } حواء والزوج فى كلام العرب هو العدد الفرد المزاوج لصاحبه فاما الاثنان المصطحبان فيقال لهما زوجان { الجنة } اى فيها وهى اما جنة الخلد التى جعلت دار الجزاء وعليه اكثر اهل العلم لوجوه ذكروها فى كتبهم او جنة فى المساء هبطا منها او جنة فى الارض كانت مرتفعة على سائر بقاع الارض ذات اشجار واثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور اعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وعليه بعض المحققين من اهل الظاهر والباطن لانه كلف فيها ان لا يأكل من تلك الشجرة ولا تكليف فى الجنة الجزائية ولانه نام فيها واخرج منها ودخل عليه ابليس فيها ولا نوم فى الجنة ولا خروج بعد الدخول ولا يجوز دخول الشيطان فيها بعد الطرد والاخراج ولقول قابيل انا من اولاد الجنة كما لا يخفى ولما روى ان آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الملائكة فقالوا اين تريدون يا بنى آدم فقالوا ان ابانا اشتهى قطفا من عنب الجنة فقالوا لهم ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا اليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبرآئيل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم فى موتاكم قالوا فلولا ان الوصول الى الجنة التى كان فيها آدم التى اشتهى منها القطف كان ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك فدل على انها فى الارض لا فى السماء وقد تبت ان النيل يخرج من الجنة ولا شك انها من جنان الارض وبساتينها والله اعلم { فكلا من حيث شئتما } من أى مكان شئتما ومن أى شئ شئتما من نعم الجنة وثمارها موسعا عليكما { ولا تقربا ههذ الشجرة } اختلفوا فى هذه الشجرة ايضا وقد ابهم الله ذكرها وتعيينها ولو كان فى ذكرها مصلحة تعود الينا لعينها للنا كما فى غيرها كذا فى آكام المرجان { فتكونا من الظالمين } اى فتصيرا من الذين ظلموا انفسهم(4/118)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{ فوسوس لهما الشيطان } قال فى الصحاح فوسوس لهما الشيطان يريد اليهما وكلن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل انتهى . والوسوسة الكلام الخفى المكرر يلقيه الشيطان الى قلب البشر ليزين له ما هو المكر شرعا واول ما ابتدأهما به من كيده اياهما انه ناح عليهما نياحة احزنتهما حين سمعاها فقالا له ما يبكيك قال ابكى عليكما تموتان فتفارقان ما انتما فيه من النعمة والكرامة فوقع ذلك فى نفهسما ثم اتاهما فوسوس اليهما وقال ما نها كما كما يجيء { ليبدى لهما } اى ليظهر لهما . واللام للعاقبة لان اللعين انما وسوس لهما ليوقعهما فى المعصية لا لظهور عورتهما لكن لما كان عاقبة وسوسته ظهور سواتهما شبه ظهورها بالغرض الحامل على الوسوسة ويحتمل ان يكون اللام لام الغرض على انه اراد بوسوسته ان يسوءهما اى يخزيهما بانكشاف عورتهما عند الملائكة وكان قد علم ان لهما سوءة بقراءته كتب الملائكة ولم يكن آدم يعلم ذلك وفى كون الانشكاف غرضا لا بليس دليل على ان كشف العورة فى الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن فى الطباع ولم يقع نظر على رضى الله عنه الى عورته حذرا من ان يراها بالعين التى يرى بها جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذا كان النظر الى سوءته بهذه الرتبة فما ظنك بالنظر الى سوءة الغير وما اشد قبح كشف العورة قالت عائشة رضى الله عنها ما رأى منى ولا رأيت منه اى العورة { ما وورى عنهما } اى الذى ستر عنهما وهو مجهول وارى { من سوآتهما } اى عورتها وكانا لا يريانها من انفسهما ولا احدهما من الآخر لانهما قد البسا ثوبا يستر عورتهما . والسوآت جمع السوءة والتعبير بلفظ الجمع عن اثنين لكراهة اجتماع لفظى التثنية ويحتمل ان يكون الجمع على اصل وضعه باعتبار ان كل عورة هى الدبر والفرج وذلك اربعة فهى جمع وسميت العورة سوءة لانه يسوء الانسان انكشافها { وقال } عطف على وسوس بيانا وتفصيلا لكيفية وسوسته { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } اى عن اكلها لامر مّا { الا } كراهة { ان تكونا ملكين } اى كالملائكة فى لطافة البينة والاستغناء عن التغذى بالاطعمة والاشربة ونحوهما وفضل الملائكة من بعض الوجوه لا يدل على فضلهم على الانبياء مطلقا لجواز ان يكون لنوع البشر فضائل اخر راجحة على ما للملك فليس المراد انقلاب حقيقتهما البشرية الى الحقيقة الملكية فانه محال
قال سعدى المفتى فيه بحث اذ لا مانع منه عند الا شاعرة لتجانس الاجسام انتهى
واعلم ان الله تعالى باين بين الملائكة والجن والانس فى الصورة والاشكال فمن حصل على بينة الانسان ظاهرا وباطنا فهو انسان فلو قلب الانسان الى بينة الملك لخرج بذلك عن كونه انسانا لكن الملك والشيطان لا يخرجان بالتشكلات الظاهرية المختلفة عن حقيقتهما { او تكونا من الخالدين } الذين لا يموتون ويخلدون فى الجنة(4/119)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{ وقاسمهما } اى اقسم لهما . فالقسم انما وقع من ابليس فقط الا انه عبر عن اقسامه بزنة المفاعلة للدلالة على انه اجتهد فى القسم اجتهاد المقاسم وهو الذى حلف فى مقابله حلف شخص آخر { انى لكما لمن الناصحين } فيما اقول والنصح بذل المجهود فى طلب الخير فى حق غيره(4/120)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{ فدلاهما } فنزلهما الى الاكل من الشجرة وحطهما من المرتبة العالية وهى مرتبة الطاعة الى المنزلة السافلة وهى الحالة المغضبة والتدلية ارسال الشئ من الاعلى الى الاسفل كارسال الدلو فى البئر { بغرور } اى بسبب تغريره اياهما باليمين بالله كاذبا وكان العين اول من حلف بالله كاذبا وظن آدم ان احدا لا يحلف بالله كاذبا فاغتريه فان شأن المؤمن ان يعتقد بصدق من حلف بالله لتمكن عظمة اسم الله تعالى فى قلبه وكان بعض العلماء يقول من خادعنا بالله خدعنا وفى الحديث « المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم » { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } اى فلما وجدا طعمها آخذين فى الاكل منها اخذهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما فاستحييا
وفى الاخبار ان غيرهما لم ير عورتهما قيل كان لباسهما فى الجنة ظفرا فى اشد اللفطافة واللين والبياض يكون حاجبا من النظر الى اصل البدن فلما اصابا الخطيئة نزع ذلك عن بدنهما وبقى عند رؤس الاصابع تذكيرا لما فات من النعم وتجديدا للندم . وقيل كان لباسهما نورا يحول بينهما وبين النظر الى حد البدن . وقيل كان حلة من حلل الجنة { وطفقا يخصفان } اى اخذا يرقعان يلزقان ورقة فوق ورقة { عليهما } اى على بدنهما او على سوآتهما من قبيل صغت قلوبكما فى التعبير عن المثنى بالجمع لعدم التباس المراد فجاز ان يرجع اليه ضمير التثنية { من ورق الجنة } قيل كان ذلك ورق التين ولم يستره من الشجر الأجشر التين فقال الله تعالى كما سترت آدم اخرج منك المعنى قبل الدعوى وسائر الاشجار يخرج منها الدعوى قبل المعنى فلهذه الحكمة يخرج ثمر سائر الاشجار فى كمامها اولا ثم تظهر الثمرة من الكمام ثانيا وشجرة التين اول ما يبدو ثمره يبدو بارزا من غير كمام
وفى الآية دليل على ان كشف العورة قبيح من لدن آدم عليه السلام ألا ترى انهما كيف بادرا الى الستر لما تقرر فى عقلهما من قبح كشف العورة { وناداهما ربهما } مالك امرهما بطريق العتاب والتوبيخ يحتمل ان يكون ذلك بان اوحى اليهما بواسطة الملك ذلك الكلام او بان الهمهما ذلك فى قلبهما . قيل كانت حجتهما بهذا العتاب اشد عليهما من كل محنة اصابتهما { الم انهكما } وهو تفسير للنداء فلا محل له من الاعراب { عن تلكما الشجرة واقل لكما } عطف على انهكما اى الم اقل لكما { ان الشيطان لكما عدو مبين } اشارة الى قوله تعالى { ان هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } ولكما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل روى ان الله تعالى قال لآدم الم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال بلى وعزتك ولكن ما ظننت ان احدا من خلقك يحلف بك كاذبا قال فبعزتى لاهبطنك الى الارض ثم لا تنال العيش الا كدا فاهبط وعلم صنعه الحديد وامر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز(4/121)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{ قالا } اعترافا بالخطيئة وتسارعا الى التوبة { ربنا } اى يا ربنا { ظلمنا انفسنا } اى ضررناهما بالمعصية وعرضناها للاخراج من الجنة { وان لم تغفر لنا } تستر علينا ذنبنا { وترحمنا } بقبول توبتنا { لنكونن من الخاسرين } اى الهالكين الذين باعوا حظهم فى الآخرة بشهوة ساعة وهو دليل على ان الصغائر معاقب عليها ان لم تغفر والمغفرة مشكوك فيها فكان ذنب آدم صغيرة لانه لم يأكل من الشجرة قصدا لمخالفة حكم الله تعالى بل انما اكل بناء على مقالة اللعين عن اكله فحمله طبعه عليه ولانه انما اقدم عليه بسبب اجتهاد اخطأ فيه فانه ظن ان النهى للتنزيه اوان الاشارة فى قوله { ولا تقربا هذه الشجرة } الى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها وقد كان المراد بها الاشارة الى النوع كما روى انه عليه السلام اخذ حريرا وذهبا بيده وقال « هذان حرامان على ذكور امتى حل لاناثها »(4/122)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{ قال } الله تعالى { اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وذريتهما اولهما ولابليس { بعضكم لبعض عدو } جملة حالية من فاعل اهبطوا اى متعادين فطبع ابليس على العداوة كطبع العقرب على اللدغ والذئب على السلب فعادى آدم لذهاب رياسته بين الملائكة بسبب خلافة آدم وامرنا بمعاداة ابليس لان الابن يعادى عدو ابيه { ولكم فى الارض مستقر } [ قرار كاهى وآرام جابى ] { ومتاع } اى تمتع وانتفاع { الى حين } هو حين انقضاء آجالهم فاغتم آدم وظن انه لا يرجع الجنة(4/123)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{ قال } الله تعالى { فيها تحيون } اى فى الارض تعيشون { وفيها تموتون } وتقبرون { ومنها تخرجون } للجزاء فعلم آدم من مضمون هذا الخطاب انه يعود الى الجنة فصار متسليا بفضل الله تعالى ووعده
قال الامام القشيرى ونعم ما قال اصبح آدم عليه السلام محسود الملائكة مسجودا لكافتهم على رأسه تاج الوصلة وعلى جسده لباس الكرامة وفى وسطه نطاق القربة وفى جيده قلادة الزلفى لا احد من المخلوق فوقه من الرتبة ولا شخص مثله فى الرفعة يتوالى عليه النداء كل لحظة يا آدم فلم يمس حتى نزع عنه لباسه وسلب استثنائه وتبدل مكانه وتشوش زمانه فاذا كان شؤم معصية واحدة على من اكرمه الله بكل كرامة هكذا فكيف شؤم المعاصى الكثيرة علينا انتهى : قال الحافظ
جه كونه دعو وصلت كنم بجانكه شدست ... سم وكيل قضا ودلم ضمان فراق
وقضاء الله تعالى يجرى على كل احد نبيا كان او وليا
نه من ازبرده تقوى بدر افتادم وبس ... بدرم نيز بهشت ابد از دست بهشت
واعلم ان آدم تناول من شجرة المحبة حقيقة فوقع فى شبكة المحنة وامر بالصبر على الهجر ووعد بالوجد بعد الفقد فكان ما كان من الترقيات المعنوية بعد التنزلات الصورية
مقام عيش ميسر نمى شود بى رنج ... بلى بحكم بلاسته اند حكم الستد
وشجرة العلم المجرد منهى عن ان يقربها احد بدون المكاشفة والمشاهدة والمعاينة فان صاحبه محجوب ومحروم من لذات ثمرات الحققة فلتكن المشاهدة همته من اول امره الى ان يصل الى ذروة الكمال قبل مجيئ الآجال فان فاجأه الموت وهو فى الطريق فالله تعالى يوصله الى مطلبه ولو فى البرزخ . وايضا لا ينبغى لاحد ان يقرب من شجرة التدبير فان التقدير كاف لكل غنى وفقير ألا ترى الى قيام الصلاة فانه اشارة الى التقدير الازلى وهو التفويض . والركوع اشارة الى التدبير الابدى وهو التسليم . والسجدة اشار الى الفناء الكلى عنهما اذ كما لا بد من التخلق بمثل هذه الصفات لا بد من الفناء عنها فى غاية الغايات قال تعالى { فيها تحيون } اى فى المحبة وصدق الطلب وقرع باب الفرج بالصبر والثبات على العبودية وفى طلب الحق تموتون على جادة الشريعة باقدام الطريقة ومنها تخرجون الى عالم الحقيقة يدل عليه قوله عليه السلام « كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون »
بكوش خواجه واز عشق بى نصيب مباش ... كه بنده را نخرد كس بعيب بى هنرى
مرادرين ظلمات آنكه رهنما يى كرد ... دعاى نيم شبى بود وكريه سحرى(4/124)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{ يا بنى آدم } خطاب للناس كافة روى ان العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف فى ثياب عصينا الله فيها فنزلت الى آخر الآيات الثلاث { قد انزلنا عليكم لباسا } اى خلقنا لكم بانزلا سببه من السماء وهو ماء المطر فما تنبته الارض من القطن والكتان من ماء السماء وما يكون من الكسوة من اصواف الانعام فقوام الانعام ايضا من ماء السما
واعلم ان المساء فاعلة والارض قابلة والحوادث الارضية منسوبة الى السماء فكل ما فى الارض انما هو بتدبيرات سماوية { يوارى سوآتكم } اى يستر عوراتكم فكشف العورة مع وجود ما يسترها من اللباس فى غاية القباحة ولا شك ان الشيطان اغوى من فعل ذلك كما اغوى آدم وحواء فبدت لهما سوآتهما ونستعيذ بالله من شره { وريشا } هو من قبيل ما حذف فيه الموصوف واقيمت صفته مقامه كأنه قيل ولباسا ريشا اى ذا ريش وزينة تتجملون به عبر عن الزينة بالريش تشبيها لها بريش الطائر لان الريش زينة الطائر كما ان اللباس زينة لبنى آدم كأنه قيل انزلنا عليكم لباسين لباسا يوارى سوآتكم ولباسا يزينكم فان الزينة غرض صحيح قال تعالى { لتركبوها وزينة } قال الحسين الكاشفى [ در تفسير امام زاهد فرموده كه لباس آنست كه از ينبه باشد وريش ازابرشيم وكتان وبشم ] { ولباس التقوى } اى خشية الله تعالى مبتدأ خبره قوله { ذلك خير } شبهت التقوى بالملبوس من حيث انها تستر صاحبها وتحفظه مما يضره كما يحفظه الملبوس
قال قتادة والسدى هو العمل الصالح لانه يقى من العذاب كأنه قال لباس التقوى خير من الثياب لان الفاجر وان كان حسن الثياب فهو بادى العورة
قال الشاعر
انى كأنى ارى من لا حياء له ... ولا امانة وسط القوم عريانا
قال الحافظ
فلندران حقيقت بنيم جو نخرند ... قباى اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
وفى التفسير الفارسى [ { ولباس التقوى } وبوشش تقوى يعنى لباس كه براى تواضع بوشند جون بشيمينها وجامها درشت { ذلك خير } آن بهتراست كه ازلباسهاى نرم ] وفى الحديث « من رق ثوبه رق دينه » وقيل اول من لبس الصوف آدم وحواء حين خرجا من الجنة
وكان عيسى عليه السلام يلبس الشعر ويأكل من الشجر ويبيت حيث امسى فلبس الصوف والشعر علامة التواضع وفيه تشبيه بالمساكين والعاقل من اختار ما اختاره الصلحاء : قال الصائب
جمعى كه بشت كرم بعشق نيند ... ناز سمور ومنت سنجاب ميكشند
واعلم ان اكل جزء من اجزاء الانسان لباسا يوارى سوآة ذلك الجزء من ظاهره وباطنه فلباس الشريعة يوارى سوآة الافعال القبيحة باحكام الشريعة فى الظاهر . وسوآة الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة فى الباطن والتقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفى .(4/125)
فلباس القلب من التقوى هو الصدق فى طلب المولى يوارى سوآة طبع الدنيا وما فيها . ولباس الروح من التقوى محبة الحق تعالى يوارى به سوآة التعلق بغير المولى . ولباس السر هو شهود انواع اللقاء يوارى به سوآة رؤية ما سوى الله تعالى . ولباس الخفى هو البقاء بهوية الحق يوارى به سوآة هوية الخلق [ يعنى همه تعينات مضمحل ومتلاشى كردد وحجاب بندار ازسر وجودات متكثرة دركشيده آيد وسر { لمن الملك اليوم } برغوفه وحدت قهارى جلوه نمايد ]
ملك ملك اوست او خود ما لكست ... غير ذاتش كل شئ هالكست
كل شئ ما خلا الله باطل ... ان فضل الله غيم هاطل
هالك آيدييشى وجهش هست نيست ... هستى اندرنيسنى خود طرفه ايست
{ ذلك } اى انزال اللباس { من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته { لعلهم يذكرون } فيعرفون نعمته حيث اغناهم باللباس عن خصف الورق او يتعظون فيتورعون عن القبائح نحو كشف العورة
وفى الاسرار المحمدية العالم مشحون بالارواح فليس فيه موضع بيت ولا زاوية الا وهو معمور بما لا يعلمه الا الله وما يعلم جنود ربك الا هو
قال حجة الاسلام فى كتابه معراج السالكين والدليل على ذلك امر النبى عليه السلام بالتستر فى الخلوة وان لا يجامع الرجل امرأته عريانين
وكان الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر يدخلون الماء وعليهم السراويلات تسترا عن سكان الماء يحكى عن احمد بن حنبل قال كنت يوما مع جماعة يتجردون ويدخلون الماء فاستعملت خبر النبى عليه السلام « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام الا بمئزر » فلم اتجرد فرأيت تلك الليلة فى المنام كأن قائلا يقول ابشر يا احمد فان الله تعالى قد غفر لك باستعمال السنة فقلت ومن انت قال انا جبرائيل فقد جعلك الله اماما يقتدى بك
قال فى الشرعة وينوى بلبس الثياب ستر العورة والعيب الواقع فى البدن والتزين بها توددا الى اهل الاسلام لا لحظ النفس فان ذلك اللبس بتلك النية يصفى وينور العقل عن الكدورات تصفية بحيث لا يشوبه شئ من اهوية النفس وحظوظها ويؤجر عليه بتلك النية
قيل الاعمال البهيمية ما كان بغير نية
فعلى العاقل جميع الهمم بحيث لا يسخ فى السر ذكر غيره تعالى(4/126)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{ يا بنى آدم لايفتننكم الشيطان } اى لا يوقعنكم فى الفتنة والمحنة بان يمنعكم من دخول الجنة باغوائكم { كما اخرج ابويكم من الجنة } نعت لمصدر محذوف اى لا يفتننكم فتنة مثل فتنة اخراج ابويكم آدم وحواء من الجنة فانه اذا قدر بكيده على ازلالهما فان يقدر على ازلال اولاده اولى فوجب عليكم ان تحترزوا عن قبول وسوسته والنهى فى اللفظ للشيطان والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتتان به وهو ابلغ من لا تقبلوا فتنة الشيطان { ينزع عنهما لباسهما } حال من ابويكم
وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان لباسهما كان من الظفر اى كان يشبه الظفر فانه كان مخلوقا عليهما خلقة الظفر واسند نزع اللباس الى الشيطان مع انه لم يباشر ذلك لكونه سببا فى ذلك النزع { ليريهما سوآتهما } اى ليظهر لهما عوراتهما وكانا قبل ذلك لايريانها من انفسهما ولا احدهما من الآخر كما روى ان آدم كان رجلا طوالا وكأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع بالخطيئة بدت سوآته وكان لا يراها فانطلق هاربا فى الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها ارسلينى فقالت لست مرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنى تفرّ قال لا ولكنى استحييت { انه } اى الشيطان او الشان { يراكم هو وقبيله } اى جنوده وذريته { من حيث لا ترونهم } من لابتداء غاية الرؤية وحيث ظرف لمكان اتفاء الرؤية ومعناه بالفارسية [ ازجايى كه شما اورانمى بينيد يعنى اجسام ايشان از غايت رقت ولطافت در نظر شما نمى آيد وايشان اجاسم شمارا بواسطة غلظت وكثافت مى بينند حذر از جنين دشمن لازمست ] : وفى المثنوى
ازنبى برخوان كه ديو و قوم او ... مى برنداز حال انسى خفيه بو
ازر هى كه انس ازان آكاه نيست ... زانكه زين محسوس وزين اشباه نيست
مسلكى دارند ازديده درون ... مازد دذديهاى ايشان سرنكون
دمبدم خبط وزبانى ميكنند ... صاحب نقب وشكاف زوربند
ورؤيتهم ايانا من حيث لا نراهم فى الجملة اى فى بعض احوالهم وهو حال بقائهم على صورهم الاصلية لا يقتضى امتناع رؤيتنا اياهم بان يتمثلوا لنا كما تواتر من ان بعض الناس رأى الجن جهارا علنا
قال فى آكام المرجان فى احكام الجان لو كشف الله اجاسمهم وقوى شعاع ابصارنا لرأيناهم او لو كثفهم وشعاع ابصارنا على ما هو عليه من غير ان يقوى لرأيناهم ألا ترى ان الريح ما دامت رقيقة لطيفة لا ترى فاذا كشفت باختلاف الغبار رأيناهم ولم يمتنع دخولهم فى ابداننا كما يدخل الريح والنفس المتردد الذى هو الروح فى ابداننا من التخرق والتخلخل وفى الحديث(4/127)
« ان الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم » وقد يحتاج فى ابراء المصروع ودفع الجن عنه الى الضرب فيضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة او اربعمائة ضربة او اقل او اكثر والضرب انما يقع على الجنى ولا يحس به المصروع ولو كان على الانسى لقتله وكذا يجوز دخولهم فى الاحجار اذا كان مخلخلة كما يجوز دخول الهواء فيها
فان قلت لو دخل الجن فى جسد ابن آدم لتداخلت الاجسام ولاحترق الانسان
قلت الجسم اللطيف يجوز اني دخل الى مخاريق الجسم الكثيف كالهواء الداخل فى سائر الاجسام ولا يؤدى ذلك الى اجتماع الجواهر فى حيز واحد لانها لا تجتمع الا على طريق المجاورة لا على سبيل الحلول وانما يدخل فى اجسامنا كما يدخل الجسم الرقيق فى الظروف والجن ليسوا بنار محرقة بل هم خلقوا من نار فى الاصل كما خلق آدم من التراب فالنسبة باعتبار الجزء الغالب
قال فى بحر الحقائق الاشارة انهم انما يرونكم من حيث البشرية التى هى منشأ الصفات الحيوانية وانكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التى هى منشأ علوم الاسماء والمعرفة فانهم لا يرونكم فى هذا المقام وانتم ترونهم بالنظر الروحانى بل بالنظر الربانى انتهى .
ثم قوله { انه يراكم } تعليل للنهى بيان انه عدو صعب الاحتراز عن ضرره فان العدو الذى يراك ولا تراه شديد المؤونة لا يتخلص منه الا من عصمة الله فلا بد ان يكون العاقل على حذر عظيم من ضرره
فان قيل كيف نحاربهم ونحترز عنهم ونحن لا نراهم
قلنا لم نؤمر بمحاربة اعيانهم وانما امرنا بدفع وسوستهم وعدم قبول ما القاه فى قلوبنا بالاستعاذة منه الى الله تعالى روى عن ذى النون المصرى انه قال ان كان هو يراك من حيث لا تراه فان الله يراه من حيث لا يرى الله فاستعن بالهل عليه فان كيد الشيطان كان ضعيفا { انا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون } بما اوجدنا بينهم من التناسب فى الخذلان والغواية فصار بعضهم قرين بعض واغواه . فالاولياء جمع ولى بمعنى الصديق ضد العدو يقال منه تولاه اى اتخذه صديقا وخليلا
وذكر عن وهب بن منبه انه قال امر الله تعالى ابليس ان يأتى محمدا عليه السلام ويجيبه عن كل ما يسأله فجاء على صورة شيخ وبيده عكازة فقال له « من انت » قال انا ابليس قال « لماذا جئت » قال امرنى ربى ان آتيك واجيبك فاخبرك عما تسألنى فقال عليه الصلاة والسلام « فكم اعداؤكم من امتى » قال خمسة عشر انت يا محمد . وامام عادل . وغنى متواضع . وتاجر صدوق . وعالم متخشع . ومؤمن ناصح . ومؤمن رحيم القلب . وثابت على التوبة . ومتورع عن الحرام .(4/128)
ومديم على الطهارة . ومؤمن كثير الصدقة . وحسن الخلق مع الناس . ومن ينتفع الناس . وحامل القرآن مديم عليه . وقائم الليل والناس نيام قال « فكم رفقاؤكم من امتى » فقال عشرة . سلطان جائر . وغنى متكبر . وتاجر خائن . وشارب الخمر والقتال . وصاحب الرياء . وآكل مال اليتيم . وآكل الربا . ومانع الزكاة . والذى يطيل الامل فهؤلاء اصحابى واخوانى فظهر ان الشياطين كما انهم اولياء لاهل الكفر كذلك هم اولياء لمن هو فى حكم اهل الكفر من اهل المعصية ونسأل الله العناية والتوفيق ويحكى ان الخبيث ابليس تبدى ليحيى بن زكرياء عليهما السلام فقال انى اريد ان انصحك قال كذبت انت لا تنصحنى ولكن اخبرنى عن بنى آدم قال هم عندنا على ثلاثة اصناف . اما الصنف الاول منها فاشد الاصناف علينا نقبل عليه حتى نفته ونتمكن منه ثم يفزع الى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شئ ادركنا منه ثم نعود له فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن من ذلك فى عناء . واما الصنف الثانى فهم فى ايدينا بمنزلة الكرة فى ايدى صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا انفسهم . واما الصنف الآخر فهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شئ قال يحيى بعد ذلك هل قدرت منى على شئ قال لا الا مرة واحدة فانك قدمت طعاما تأكله لم ازل اشهيه اليك حتى اكلت منه اكثر مما تريد فنمت تلك الليلة فلم تقم الى الصلاة كما كنت تقوم اليها فقال له يحيى لا جرم انى لا اشبع من طعام ابدا قال له الخبيث لا انصح آدميا بعدك
ولقى يحيى بن زكريا ابليس فى صورته ايضا فقال له اخبرنى من احب الناس اليك وابغض الناس اليك فقال احب الناس الى المؤمن البخيل وابغضهم الى الفاسق السخى قال يحيى وكيف ذلك قال لان البخيل قد كفانى بخله والفاسق السخى اتخوف ان يطلع الله عليه فى سخاه فيقبله ثم ولى وهو يقول لولا انك يحيى لم اخبرك كذا فى آكام المرجان فى احكام الجان(4/129)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
{ واذا فعلوا } اى كفار قريش { فاحشة } اى فعلة متناهية فى القبح كعبادة الصنم وكشف العورة فى الطواف ونحوهما { قالوا } جوابا للناهين عنها محتجين على حسنها بامرين الاول تقليد الآباء وهو قولهم { وجدنا عليها آباءنا } والثانى الافتراء على الله وهو قولهم { والله امرنا بها } فاعرض الله تعالى عن رد احتجاجهم الاول لظهور فساده فان التقليد لا يعتبر دليلا على صحة الفعل الذى قام الدليل على بطلانه وان كان معتبرا فى غيره ورد الثانى بقوله { قل ان الله لا يأمر بالفحشاء } لان عادته تعالى جرت على الامر بمحاسن الافعال والحث على مكارم الخصال { أتقولون على الله مالا تعلمون } انه امركم بذلك وذلك لان طريق العلم اما السماع من الله تعالى ابتداء اى من غير توسط رسول يبلغهم ان الله تعالى امرهم بذلك وانتفاؤه ظاهر واما المعرفة بواسطة الانبياء وهم ينكرون نبوة الانبياء على الاطلاق فلا طريق لهم الى العلم باحكام الله تعالى فكان قولهم والله امرنا بها قولا على الله بما لا يعلمون وهو اى قوله أتقولون من تمام القول المأمور به والهمزة لانكار الواقع واستقباحه
والاشارة فى الآية ان الفاحشة طلب الدنيا وحبها والحرص على جمعها فان افحش الفواحش حب الدنيا لانه رأس كل حطيئة . والمعنى اذا قوع اهل الغفلة فى طلب الدنيا وزينتها والتمتع بها بتلقين الشياطين وتدبيرهم وتزيينهم فيدعوهم داع الى الله وطلبه وترك الدنيا وطلبها { قالوا وجدنا عليها آباءنا } اى على محبة الدنيا وشهواتها { والله امرنا بها } اى بطلبها بالكسب الحلال { قل ان الله لا يأمر بالفحشاء } اى لا يأمر بحب الدنيا والحرص على جمعها وانما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوة واللباس ليقوم باداء حق العبودية { أتقولون على الله مالا تعلمون } اى تفترون على الله مالا تعلمون آفته ولا وبال عاقبته ولا تعلمون ان ذلك ن فتنة الشيطان وتزيينه واغوائه كذا فى التأويلات النجمية : وفى المثنوى
اين جهان جيفه است ومردار رخيص ... برجنين مردار جون باشم حريص(4/130)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{ قل امر ربى بالقسط } بيان للمأمور به اثر نفى ما اسند اليه امره به تعالى من الامور المنهى عنها . والقسط العدل وهو الوسط من كل شئ المتجاوز عن طرفى الافراط والتفريط وفى الخبر « خير الامور اوساطها »
توسد اذا ما شئت امرا فانه ... كلا طرفى قصد الامور ذميم
{ واقيموا وجوهكم } معطوف على امر بتقدير قل لئلا يلزم عطف الانشاء على الاخبار اى وقل لهم توجهوا الى عبادته مستقيمين غير عادلين الى غيرها او اقيموا وجوهكم نحو القبلة { عند كل مسجد } يحتمل ان يكون اسم زمان وان يكون اسم مكان اى فى كل وقت سجود او مكان سجود والمراد بالسجود الصلاة بطريق ذكر الجزء وارادة الكل
وقال الكلبى معناه اذا حضرت الصلاة وانتم فى مسجد فصلوا فيه ولا يقولن احدكم اصلى فى مسجدى واذا لم يكن عند مسجد فليأت اى مسجد شاء وليصل فيه وفى الفروع مسجد المحلة افضل من الجامع اذا كان الامام عالما ومسجد المحلة فى حق السوقى نهارا ما كان عند خانوته نهارا وليلا ما كان عند منزله
قال الحدادى وهذه الآية تدل على وجوب فعل الصلاة المكتوبة فى الجماعة وفى الحديث « من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له الا من عذر »
وصلاة الجماعة افضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وذلك لان كل صلاة اقيمت فى الجماعة كصلاة يوم وليلة اذا اقيمت بغير جماعة لان فرائض اليوم والليلة سبع عشرة ركعة والرواتب عشر فالجميع سبع وعشرون
قال العلماء كل ما شرعت فيه الجماعة كالفرائض والتراويح ونحوهما فالمسجد فيه افضل من ثواب المصلين فى البيت بالجماعة لان فيه اظهار شعائر الاسلام كما ان ثواب المصلين فى البيت وحدانا دون ثواب المصلين فى البيت بالجماعة { وادعوه } اى واعبدوه فهو من اطلاق الخاص على العالم فان الدعاء من ابواب العبادة وهو الخضوع للبارى مع اظهار الافتقار والاستكانة وهو المقصود من العبادة والعمدة فيها { مخلصين له الدين } اى الطاعة فان مصيركم اليه فى الآخرة
فرداكه بيشكاه حقيقت شود بديد ... شرمنده رهروى كه عمل برمجاز كرد
{ كما بدأكم } اى انشأكم ابتداء { تعودون } اليه باعادته فيجازيكم على اعمالكم والكاف فى محل النصب على انه صفة مصدر محذوف تقديره تعودون عودا مثل ما بدأكم وهو بالهمزة بمعنى انشأ واخترع وانما شبه الاعادة بالابداء تقريرا لامكانها والقدرة عليها . يعنى قيسوا الاعادة بالابداء فلا تنكروها فان من قدر على الانشاء قدر على الاعادة اذ ليس بعثكم اشد من ابتداء خلقكم(4/131)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{ فريقا } منصوب بما بعده { هدى } بان وفقهم للايمان { وفريقا } نصب بفعل مضمر يفسره ما بعده من حيث المعنى اى واضل فريقا { حق عليهم } [ سزاوار كشت برايشان ] { الضلالة } بمقتضى القضاء السابق التابع للمشيئة المبنية على الحكم البالغة { انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون الله } تعليل لما قبله اى حقت عليهم الضلالة لاتخاذهم الشياطين اولياء وقبولهم ما دعوا اليه بدون التأمل فى التمييز بين الحق والباطل وكل واحد من الهدى والضلال وان كان يحصل بخلق الله تعالى اياه ابتداء الا انه يخلق ذلك حسبما اكتسبه العبد وسعى فى حصوله فيه { ويحسبون انهم مهتدون } اى يظنون انهم على الهدى . وفيه دلالة على ان الكافر المخطئ والمعاند سواء من حيث انه تعالى ذم المخطئ الذى ظن انه فى دينه على الحق بانه حق عليه الضلالة وجعله فى حكم الجاحد والمعاند فعلم منه ان مجرد الظن والحسبان لا يكفى فى صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم واليقين لانه تعالى ذم الكفار بانهم يحسبون انهم مهتدون ولو كفى مجرد الحسبان فيه لما ذمهم بذلك
فعلى العاقل تحصيل اليقين وترك التقليد والاقتداء باصحاب التحقيق والتوحيد فان المرء لا يعرف حاله ومقامه الا بالتعريف : ونعم ما قال الصائب
واقف نميشوند كه كم كرده اندراه ... تا رهروان براهنمابى نمى رشد
وكل واحد من التقليد الباطل والشك والرياء وحب الدنيا وحب الخلق مذموم لا يجدى نفعا
وعن ذى النون رضى الله عنه قال بينما انا فى بعض جبال لكان اذا برجل قائم يصلى والسباع حوله ترتبض فلما اقبلت نحوه نفرت عنه السباع فاوجز فى صلاته وقال يا ابا لفيض لو صفوت لطلبتك السباع وحنت اليك الجبال فقلت ما معنى قولك لو صفوت قال تكون لله خالصا حتى يكون لك مريدا قال فقلت فبم الوصول الى ذلك قال لا تصل الى ذلك حتى تخرج حب الخلق من قلبك كما خرج الشرك منه فقلت هذا والله شديد على فقال هذا ايسر الاعمال على العارفين فولاية الخلق مطلقا اذا كانت سبيلا للضلالة فما ظنك بولاية الشيآطين سواء كانوا شياطين الانس او شياطين الجن فلا بد من محبة الله تعالى فويل لمن جاوز محبة الله تعالى الى محبة ما سواه وقد ذمه الله بقوله من دون الله نسأل الله تعالى ان لا يزيغ قلوبنا بعدما هدانا الى محبته وارشدنا الى طريق طاعته وعبادته(4/132)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{ يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } الزينة وان كانت اسما لما يتزين به من الثياب الفاخرة الا ان المفسرين اجمعوا على ان المراد بالزينة ههنا الثياب التى تستر العورة استدلالا بسبب نزول الآية وهو ان اهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة وقالوا لا نطوف فى ثياب اصبنا فيها الذنوب ودنسناها بها فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة فامرهم الله تعالى ان يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا عند كل مسجد سواء دخلوه للصلاة او للطواف وكانوا قبل ذلك يدعون ثيابهم وراء المسجد عند قصد الطواف
وفى تفسير الحدادى كانوا اذا قدموا منى طرح احدهم ثيابه فى رحله فان طاف وهى عليه ضرب وانتزعت منه وكانت المرأة تطوف بالليل عريانة الا انها كانت تتخذ سيورا مقطعة تشدها فى حقويها فكانت السيور لا تسترها سترا تاما
وهذه الآية اصل فى وجوب ستر العورة فى الصلاة والمعنى خذوا ثيابكم لمواراة عورتكم عند كل مسجد لطواف او صلاة
قال شيخ الاسلام خواهر زاده فيه دليل على ان اللبس من احسن الثياب مستحب حالة الصلاة لان المراد من الزينة الثوب بطريق اطلاق اسم المسبب على السبب انتهى فاخذ الثوب واجب ولباس التجمل مسنون وكان ابو حنيفة رحمه الله اتخذ لباسا لصلاة الليل وهو قميص وعمامة ورداء وسراويل قيمة ذلك الف وخمسمائة درهم يلبسه كل ليلة ويقول التزين لله تعالى اولى من التزين للناس
قال الفقهاء ولا اعتبار لستر الظلمة لان الستر وجب لحق الصلاة وحق الناس
وفى التفسير الفارسى [ كفته اند بزبلن علم ستر عوتست براى نماز وبزبان كشف حضور دلست براى عرض راز
ذوق طاعت بى حضور دل ثيابد هيجكس ... طالب حق را دل حاضر برين دركاه بس
{ وكلوا واشربوا } ما طاب لكم من الاطعمة والاشربة روى ان بنى عامر فى ايام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام الا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به فنزلت
والاشارة كلوا مما يأكل اهل البينات فى مقام العبودية واشربوا مما يشربون كما قال عليه السلام « ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى » وكان عليه السلام يخص رمضان من العبادات بما لا يخص به غيره من الشهور حتى انه كان يواصل احيانا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة وكان ينهى اصحابه عن الوصال فيقولون له فانك تواصل فيقول « لست كاحدكم انى ابيت » وفى رواية « اظل عند ربى يطعمنى ويسقينى » وقد اختلف العلماء فى هذا الطعام والشراب المذكور على قولين . احدهما انه طاعام وشراب حسى بالفم قالوا وهذا حقيقة اللفظ ولا يجب العدول عنه وكان يؤتى بطعام من الجنة .(4/133)
والثانى ان المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه لقربه ونعيم محبته وتوابع ذلك من الاحوال التى هى غذاء القلوب ونعيم الارواح وقرة الاعين وبهجة النفوس حكى ان مريد اخدم الشيخ منصور الحلاج فى الكعبة حين كان مجاورا سنتين قال كان يجئ له طعام من ارباب الخيرات فاضعه عنده ثم اجده فى الصبح من غير نقصان فاطعمه فقيرا فما رأيته فى السنتين اكل لقمة
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى ان النبى عليه السلام انما اكل فى الظاهر لاجل امته الضعيفة والا فلا احتياج له الى الاكل والشرب وما روى من انه كان يشد الحجر فهو ليس من الجوع بل من كمال لطافته لئلا يصعد الى الملكوت فكان يشد الحجر حتى يحصل الاستقرار فى عالم الارشاد قال يعنى انه صلى الله عليه وسلم كان ينظر الى حدوث العالم فيتنعم بتجل البقاء انتهى كلامه { ولا تسرفوا } بتحريم الحلال فان بتحريم الحلال يتحقق تضييع المال وهو اسراف او بالتعدى الى الحرام بان يتناول ما حرمه الله عليه من المأكول والمشروب والملبوس او بافراط الطعام والشره علهي بان يتناول ما لا يحتاج اليه البدن فى قوامه فان ذلك ايضا من قبيل الاسراف { انه لا يحب المسرفين } لا يرتضى فعلهم ولا يثنى عليهم
قال بعضهم الاسراف هو ان يأكل الرجل كل ما يشتهيه ولا شك ان من كان تمام همته مصروفا الى فكر الطعام والشراب كان اخس الناس واذلهم
خواجه را بين كه ازسحر تاشام ... دارد انديشه شراب وطعام
شكم ازخوش دلى وخوش حالى ... كاه بر ميكند كهى خالى
فارغ ازخلد وايمن از دوزخ ... جاى اومزبلس ويا مطبخ
[ شيخ الاسلام عبدالله الانصارى فرموده كه اكرهمه دنيارا لقمه سازى ودردهان درويشى نهى اسراف نباشد اسراف آن بودكه نه برضاى حق تعالى صرف كنى ]
يك جوانراكه خير دائم داشت ... بند ميداد راهبى دردير
كاى بسرخير نيست دراسراف ... كفت اسراف نيست اندرخير
قال فى التأويلات النجمية الاسراف نوعان افراط وتفريط فالافراط ما يكون فوق الحاجة الضرورية او على خلاف الشرع او على وفق الطبع والشهوة او على الغفلة او على ترك الادب او بالشره او على غير ذلك والتفريط ان ينقص من قدر الحاجة الضرورية ويقصر فى حفظ القوة والطاقة للقيام بحق العبودية او يبالغ فى اداء حق الربوبية باهلاك نفسه فيضيع حقها او يضيع حقوق الربوبية بحظوظ نفسه او يضيع حقوق القلب والروح والسر التى هى مستعدة لحصولها بحظوظ النفس فالمعنى لا تسرفوا اى لا تضيعوا حقوقنا ولا حقوقكم لحظوظكم انتهى ويروى ان هرون الرشيد كان له طبيب نصرانى حاذق فقال لعلى بن حسيبن بن واقد ليس فى كتابكم من علم الطب شئ والعلم علمان علم الاديان وعلم الابدان فقال له ان الله تعالى قد جمع الطب كله فى نصف آية من كتابنا قال وما هى قال قوله تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } فقال النصرانى وهل يؤثر عن رسولكم شئ من الطب قال نعم جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب فى الفاظ يسيرة قال وما هى قال قوله(4/134)
« المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وعودوا كل جسم ما اعتاد » فقال النصرانى ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا
وعن ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيلة وينبغى لاهل الرخصة ان يقتصروا على اكلتين فى اليوم والليلة فى غير شهر رمضان ولاهل العزيمة على اكلة واحدة فان ما فوق الاكلتين للطائفة الاولى وما فوق الاكلة للثانية تجاوز عن الحد وميل الى الاتصاف بصفات البهائم . والهند جل معالجتهم الحيمة يمتنع المريض عن الاكل والشرب والكلام عدة ايام فيبرأ فجانب الاحتماء اولى(4/135)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{ قل } لما طاف المسلمون فى ثيابهم واكلوا اللحم والدسم عيرهم المشركون لانهم كانوا يطوفون عراة ولا يأكلون اللحم والدسم حال الاحرام فامر الله حبيبه صلى الله عليه وسلم ان يقول لهم { من } استفهام انكار { حرم زينة الله } من الثياب وسائر ما يتجمل به { التى اخرج } بمحض قدرته { لعباده } من النبات كالقطن والكتان ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع { والطيبات من الرزق } عطف على زينة الله اى من حرم ايضا المستلذات من المآكل والمشارب كاللحوم والدسوم والالبان
اعلم ان الرجل اذا ادى الفرائض واحب ان يتنعم بمنظر حسن وجوار جميلة فلا بأس به فمن قنع بادنى المعيشة وصرف الباقى الى ما ينفعه فى الآخرة فهو اولى لان ما عند الله خير وابقى لان الاقتصار على ادنى ما يكفيه عزيمة وما زاد عليه من التنعم ونيل اللذة رخصة دلت عليها هذه الآية ودلت ايضا على ان الاصل فى المطاعم والملابس والتجمل بانواع التجملات الاباحة لان الاستفهام فى من انكارى كما هو مذهب الشافعى واكثر اصحاب ابى حنيفة فانهم قالوا ان الاصل فى الاشياء الاباحة وذهب بعضهم الى التوقف وبعضهم الى الحظر ووجه قول القائلين بالاباحة انه سبحانه وتعالى غنى على الحقيقة جواد على الاطلاق والغنى الجواد لا يمنع ماله عن عبيده الا ما كان فيه ضرر فتكون الاباحة هى الاصل باعتبار غناه سبحانه وجوده والحرمة لعوارض فلم تثبت فبقى على الاباحة ووجه القول بالحظر ان الاشياء كلها مملوكة لله تعالى على الحقيقة والتصرف فى ملك الغير لا يثبت الا باباحة المالك فلما لم تثبت الاباحة بقى على الحظر لقيام سببه وهو ملك الغير ووجه القول بالتوقف ان الحرمة والاباحة لاتثبت الا بالشرع فقبل وروده لا يتصور ثبوت واحدة منهما فلا يحكم فيها بحظر ولا اباحة
قال عبد القاهر البغدادى وتفسير الوقف عندهم ان من فعل شيأ قبل ورود الشرع لم يستحق بفعله من الله تعالى ثوابا ولا عقابا { قل هى } اى الزينة والطيبات كما فى التفسير الفارسى { للذين آمنوا } اى مستقرة لهم { فى الحياة الدنيا } متعلق بآمنوا او بالاستقرار الذى تعلق به للذين والمقصود الاصلى من خلق الطيبات تقوية المكلفين على طاعة الله تعالى لا تقويتهم على الكفر والعصيان فهى مختصة لاصالة للمؤمنين والكفار تبع لهم فى ذلك قطعا لمعذرتهم ولذا لم يقل هى للذين آمنوا ولغيرهم فى الدنيا { خالصة يوم القيامة } لا يشاركهم فيها غيرهم وان اشترك فيها المؤمنون والكفار فى الدنيا وانتصابها على الحال من المنوى فى قوله للذين آمنوا ويوم القيامة متعلق بخالصة
والاشارة فى الآية من يمنعكم عن طلب كمالات اخرجها الله تعالى من غيب الغيب لخواص عباده من الانبياء والاولياء ومن حرم عليكم نيل هذه الكرامات والمقامات فمن تصدى لطلبها وسعى لها سعيا فهى مباحة له من غير تأخير ولا قصور واضافة الزينة الى الله لانه اخرجها من خزائن الطاقه وحقائق اعطافه فزين الابدان بالشرائع وآثارها وزين النفوس بالآداب واقدارها وزين القلوب بالشواهد وانوارها وزين الارواح بالمعارف واسرارها وزين الاسرار بالطوالع واثمارها بل زين الظواهر بآثار التوفيق وزين البواطن بانوار التحقيق بل زين الظواهر بآثار التوفيق وزين البواطن بانوار الشهود بل زين الظواهر بآثار الجود وزين البواطن بانوار الوجود والطيبات من الرزق وان ارزاق النفوس بحكم افضاله وارزاق القلوب بموجب اقباله والطيبات من الرزق على الحقيقة ما لم يكن مشوبا بحقوق النفس وحظوظها ويكون خالصا من مواهبه وحقوقه قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا اى هذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادات فى الدنيا مشوبة بشوائب الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية خالصة يوم القيامة من هذه الآفات والكدورات كما قال(4/136)
{ ونزعنا ما فى صدورهم من غل } { كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } اى كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الاحكام لقوم يعلمون ما فى تضاعيفها من المعانى الرائقة(4/137)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{ قل انما حرم ربى الفواحش } اى ما تفاحش قبحه من الذنوب وتزايد وهى الكبائر { ما ظهر منها وما بطن } بدل من الفواحش اى جهرها وسرها كالكفر والنفاق وغيرهما { والاثم } اى ما يوجب الاثم وهو يعم الصغائر والكبائر { والبغى } اى الظلم او الكبر افرده بالذكر مع دخوله فى الاثم للمبالغة فى الزجر عنه { بغير الحق } متعلق بالبغى مؤكد له لان البغى لا يكون بالحق { وان تشركوا بالله } معطوف على مفعول حرم اى وحرم عليكم اشراككم به تعالى { ما لم ينزل به } اى باشراكه وعبادته { سلطانا } اى حجة وبرهانا وهو تهكم بالمشركين لانه اذا لم يجز انزال البرهان بالاشراك كان ذكر ذلك تهكما بهم واستهزاء ومعلوم انه لا برهان عليه حتى ينزل { وان تقولوا على الله ما لا تفعلون } بالالحاد فى صفاته والافتراء عليه كقولهم والله امرنا بها
وفى التأويلات النجمية الفواحش ما يقطع على العبد طريق الرب ويمنعه عن السلوك ففاحشة العوام ما ظهر منها ارتكاب المناهى وما بطن خطورها بالبال وفاحشة الخواص ما ظهر منها ما لانفسهم نصيب فيه ولو بذرة وما بطن الصبر عن المحبوب ولو بلحظة وفاحشة الاخص ما ظهر منها ترك ادب من الآداب او التعلق بسبب من الاسباب وما بطن منها الركون الى شئ من الدارين والالتفات الى غير الله من العالمين والاثم هو الاعراض عن الله ولو طرفة عين والبغى هو حب غير الله فانه وضع فى غير موضعه وان تشركوا بالله يعنى وان تستعينوا بغير الله ما لم ينزل به سلطانا اى ما لم يكن لكم به حجة ورخصة من الشريعة المنزلة وان تقولوا على الله ما لا تعلمون اى وان تحكموا بفتوى النفس وهواها او تقولوا بنظر العقل على الله ما لا تعلمون حقيقته وفيه معنى آخر وان تقولوا فى معرفة الله وبيان احوال السائرين وشرح المقامات واثبات الكرامات ما أنتم عنه غافلون ولستم به عارفين انتهى ثم هدد الله المشركين المكذبين للرسل بقوله { ولكل امة } من الامم المهلكة { اجل } حد معين من الزمان مضروب لمهلكهم { فاذا جاء اجلهم } الضمير لكل امة خاصة حيث لم يقل آجالهم اى اذا جاءها اجلها الخاص بها والوقت المعين لنزول عذاب الاستئصال عليها { لا يستأخرون } عن ذلك الاجل { ساعة } اى شيأ قليلا من الزمان فانها مثل فى غاية القلة منه اى لا يتأخرون اصلا وصيغة الاستفعال للاشعار بعجزهم وحرمانهم من ذلك مع طلبهم له { ولا يستقدمون } اى لا يتقدمون عليه
اجل جون فردا آيدت بيش وبس ... بيش وبس نكذار دست يكنفس
روى ان بعض الملوك كان متنسكا ثم رجع ومال الى الدنيا ورياسة الملك وبنى دارا وشيدها وأمر بها ففرشت ونجدت واتخذ مائدة ووضع طعاما ودعا الناس فجعلوا يدخلون عليه ويأكلون ويشربون وينظرون الى بنائه ويتعجبون من ذلك ويدعون له وينصرفون فمكث بذلك اياما ثم جلس هو ونفر من خاصة اصحابه فقال قد ترون سرورى بدارى هذه وقد حدثت نفسى ان اتخذ لكل واحد من اولادى مثلها فاقيموا عندى اياما استأنس بحديثكم واشاوركم فيما اريد من هذا البناء فاقاموا عنده اياما يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبنى وكيف يصنع ويرتب ذلك فبينما هم ذات ليلة فى لهوهم اذ سمعوا قائلا من اقصى الدار يقول(4/138)
يا ايها البانى الناسى لميتته ... لا تأمنن فان الموت مكتوب
هذى الخلائق ان سروا وان فرحوا ... فالموت حتف لدى الآمال منصوب
لاتبنين ديارا لست تسكنها ... وارجع النسك كما يغفر الحوب
ففزع لذلك وفزع اصحابه فزعا شديدا وراعهم فقال هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال فهل تجدون ما اجد قالوا وما تجد قال مسكة على فؤادى وما اراها الا علة الموت فقالوا كلا بل البقاء والعافية فبكى ثم امر بالشراب فاهريق وبالملاهى فاخرجت او قال فكسرت وتاب الى الله سبحانه ولم يزل يقول الموت الموت حتى خرجت نفسه رحمه الله : قال السعدى
خواجه دربند نقش ايوانست ... خانه از باى بست ويرانست
وقال :
آنكه قرارش نكرفتى وخواب ... تاكل ونسرين نفشاندى نخست
كردش كيتى كل رويش بريخت ... خاربنان بر سرخاكش برست
والاشارة { ولكل امة اجل } اى لكل قوم من السائرين الى الله والى الجنة والى النار مدة معلومة ومهلة موقتة { فاذا جاء اجلهم } مدتهم كما قدر الله فى الازل { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } هذا وعد للاولياء استمالة لقلوبهم ووعيد للاعداء سياسة لنفوسهم كذا فى التأويلات النجمية(4/139)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{ يا بنى آدم } خطاب لكافة الناس { اما } اصله ان ما ضمت كلمة ما الى ان الشرطية تأكيدا لما فيها من معنى الشرط { يأتينكم رسل } كائنون { منكم } اى من جنسكم فهو صفة لرسل { يقصون عليكم آياتى } صفة اخرى لرسل اى يبينون لكم احكامى وشرائعى ومقتضى الظاهر كلمة اذا بدل ان لكون الاتيان محقق الوقوع فى علم الله تعالى لكنه سيق المعلوم مساق المشكوك للتنبيه على ان ارسال الرسل امر جائز لا واجب عقلا حتى لا يقدر على عدم ارساله ولا واجب شرعا حتى يأثم بترك ارساله لانه لا يجب على الله شئ لا عقلا ولا شرعا لكن مقتضى الحكمة ارسال الرسل لما فيه من الحكم والمصالح { فمن } شرطية بالفارسية [ يس هركه ] { اتقى } منكم التكذيب { واصلح } عمله واطاع رسوله الذى يقص آياته { فلا خوف عليهم } اى لا يخافون ما يلحق العصاة فى المستقبل { ولا هم يحزنون } على ما فاتهم فى الدنيا لاستغراقهم فى الاستلذاذ بما اعد للمتقين فى دار الكرامة والرضوان(4/140)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{ والذين كذبوا } منكم { بآياتنا } يعنى [ تكذيب رسل كردند ] { واستكبروا } [ وكبر آورند وتعظم كردند يعنى شركسى نمودند ] { عنها } [ ازايمان بدلائل وحدت ما ] { اولئك اصحاب النار } [ ملازمان آتش اند ] { هم فيها خالدون } [ باقى اند ببقاء ابدى ](4/141)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{ فمن اظلم } اى فمن اعظم ظلما اى لا احد { ممن افترى على الله كذبا } اى ممن تقول عليه ما لم يقل ويدخل فى التقول عليه اثبات الشريك والصاحبة والولد { او كذب بآياته } اى كذب ما قاله وقد جعل الله الكذب عليه والتكذيب بآياته مساويا فى الاثم حيث قال { اولئك } الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب { ينالهم } [ برسد بديشان ] { نصيبهم } كائنا { من الكتاب } اى مما كتب لهم من الارزاق والاعمار { حتى اذا جاءتهم رسلنا } اى ملك الموت واعوانه { يتوفونهم } اى حال كونهم متوفين لارواحهم قابضين لها وحتى وان كانت هى التى يبتدأ بها الكلام لكنها غاية لما قبلها من الفعل اى ينالهم نصيبهم من الكتاب الى ان تأتيهم ملائكة الموت فاذا جاءتهم { قالوا } توبيخا لهم { اينما كنتم تدعون من دون الله } اى اين الآلهة التى كنتم تعبدونها فى الدنيا . وما وصلت باين فى خط المصحف وحقها الفصل لانها موصولة { قالوا } اى الكفار { ضلوا عنا } اى غابوا عنا اى لا ندرى مكانهم { وشهدوا على انفسهم } عطف على قالوا اى اعترفوا على انفسهم { انهم كانوا } اى فى الدنيا { كافرين } اى عابدين لمن لا يستحق العبادة اصلا حيث شاهدوا مآله وضلاله ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى { والله ربنا ما كنا مشركين } لاحتمال بذلك من طوائف مختلفة او فى اوقات مختلفة
وفى الارشاد ولعله قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفى كما ينبئ عنه قوله عليه السلام « من مات فقد قامت قيامته » والا فهذا السؤال والجواب وما يترتب عليهما من الامر بدخول النار وما جرى بين اهلها من التلاعن والتقاول انما يكون بعد البعث لا محالة(4/142)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
{ قال } الله تعالى لهم يوم القيامة او احد الملائكة { ادخلوا فى امم } اى كائنين فى جملة امم مصاحبين لهم { قد خلت } اى مضت { من قبلكم من الجن والانس } يعنى كفار الامم الماضية من النوعين { فى النار } متعلق بقوله ادخلوا وانما قدم الجن على الانس لتقدمهم عليهم فى الخلقة وذلك ان الله تعالى لما خلق الجن فمنهم مؤمن ومنهم كافر فلما استولى اهل الكفر منهم على اهل الايمان حتى استأصلوهم بعث الله اليهم جندا من الملائكة كان رئيسهم ابليس فسلطهم الله عليهم حتى اهلكوا جميعهم ثم خلق الله آدم بعدهم فخلق منه ذريته فمنهم كافر كقابيل ومنهم مؤمن كهابيل اذ كان فى كل زمان منهم امة كافرة مستحقة لدخول النار وامة مؤمنة مستحقة لدخول الجنة حتى الآن الى انقراض العالم كما قال عليه السلام « لا تقوم الساعة وفى الارض من يقول الله الله » { لكما دخلت امة } من الامم السابقة واللاحقة اى فى النار { لعنت اختها } التى ضلت بالاقتداء بها فلعنت المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والمجوس المجوس وعلى هذا القياس ويلعن الاتباع القادة يقولون لعنكم الله انتم غررتمونا فالمراد الخت فى الدين والملة ولم يقل اخاها لانه اراد الامة والجماعة { حتى اذا اداركوا فيها جميعا } غاية لما قبلها . والمعنى انهم يدخلونها فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا الى انتهاء تداركهم وتلاحقهم فى النار واجتماعهم فيها واصل اداركوا تداركوا ادغمت التاء فى الدال فاجتلبت همزة الوصل { قالت اخراهم } اى دخولا وهم الاتباع واخرى ههنا بمعنى آخرة مؤنث آخر مقابل اول لا مؤنث آخر بمعنى غير كقوله تعالى { وزر اخرى } { لأولاهم } اى لاجل اولاهم اذا الخطاب مع الله تعالى { ربنا هؤلاء اضلونا } اى سنوا لنا الضلال عن الهدى بالقاء الشبهة علينا فاقتدينا بهم { فآتهم عذابا ضعفا } اى مضاعفا { من النار } لانهم ضلوا واضلوا { قال } الله { لكل } من الاولين والآخرين { ضعف } اما القادة فبكفرهم وتضليلهم واما الاتباع فبكفرهم وتقليدهم فليس المراد تضعيف ما يستحق كل واحد من العذاب لانه ظلم بل تضعيفه عذاب الضلال بان يضم اليه عذاب الاضلال والتقليد { ولكن لا تعلمون } ما لكم وما لكل فريق من العذاب(4/143)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{ وقالت اولاهم } اى مخاطبين { لاخراهم } حين سمعوا جواب الله لهم { فما كان لكم علينا من فضل } من حيث الاجتناب عن الكفر والضلال فكيف تطمعون ان يكون عذابكم اخف من عذابنا ويكون عذابنا ضعف عذابكم والحال انا ما ألجأناكم على الكفر بل كفرتم لكون الكفر موافقا لهواكم { فذوقوا العذاب } المعهود المضاعف وهو قول القادة على سبيل التشفى { بما كنتم تكسبون } [ بسبب آنكه بوديدكه كسب مى كرديد از كفر اكنون احوالهُ عذاب بديكرى ميكنيد ]
جمله داننداين اكرتونكروى ... هرجه مى كاريش روزى بدروى
واعلم ان الكفار اهل الانكار اعرضوا عن ارشاد الاخبار واكتسبوا سننا سيئة وذهلوا عن السنن الحسنة التى سنتها الانبياء العظام والاولياء الكرام ثم آل امرهم الى الاعتراف بجرائمهم وضلالهم حين لا ينفع الاقرار
فعلى العاقل تدارك الحال قبل حلول الآجال وفى الحديث « جددوا ايمانكم » والمراد الانتقال من مرتبة الى مرتبة فان اصل الايمان قد تم بالاول ولكن الايمان على ثمانى عشرة مرتبة فالعناية من الله تعالى : وفى المثنوى
تازه كن ايمان نه ازقول زبان ... اى هوارا تازه كرده درنهان
تاهواتازه است وايمان نيست ... كين هواجز قفل آن دروازه نيست
فالله تعالى دعا الخلق الى الايمان بواسطة الانبياء عليهم السلام فمن اجاب اهتدى الى طريق الجنة ومن لم يجب سقط فى النار
قيل انما خلق الله النار لغلبة شفقته وموالاته كرجل يضيف الناس ويقول من جاء الى ضيافتى اكرمته ومن لم يجئ ليس عيه شئ ويقول مضيف آخر من جاء الىّ اكرمته ومن لم يجئ ضربته وحبسته ليبين غاية كرمه وهو آكد واتم على الكرام الاول
قال بعضهم نار جهنم خير من وجه وشر من وجه كنار نمرود شر فى اعينهم وبرد وسلام على ابراهيم كالسوط فى يد الحاكم السوط خير للطاغى وشر للمطيع فمن اراد ان يسلم من عذاب النار فعليه بطريق الاخيار
وكان المولى جلال الدين قدس سره يعظ يرما لاهل قرامان ويحكى ان من كان عاصيا ومات قبل التوبة من العصيان فانه يدخل النار بعدله تعالى فبعد احتراقه بقدر خطاه يخرجه الله تعالى منها ويعتقه ويدخله الجنة فقال شخص كان فى ذلك المجلس ليت هذا حصل قبل ان يهدم عرض المرء وينكسر فادع الله تعالى ايها المولى حتى يشرفنا بالجنة قبل انكسار الاعراض نسأل الله تعالى ان يعاملنا بلطفه وكرمه انه ولى الهداية والتوفيق(4/144)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{ ان الذين كذبوا بآياتنا } وهى الحجج الدالة على اصول الدين من التوحيد ونبوة الانبياء والبعث والجزاء { واستكبروا عنها } اى تعظموا وترفعوا عن الايمان بها والعمل بمقتضاها وهم الكفار { لا تفتح } التشديد لكثرة الابواب { لهم ابواب السماء } اى لا تقبل ادعيتهم ولا اعمالهم اولا تعرج اليها ارواحهم كما هو شأن أدعية المؤمنين واعمالهم وارواحهم وفى الحديث « ان روح المؤمن يعرج بها الى السماء فيستفتح لها فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التى كانت فى الجسد الطيب الى ان تنتهى الى السماء السابعة ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعى ذميمة فيهوى بها الى سجين » وهو مقر ابليس الأبالسة تحت الارض السابعة فالارواح كلها سعيدها وشقيها متصلة باجسادها فتعذب الارواح وتتألم الاجساد منه كالشمس فى السماء ونورها فى الارض
واعلم ان ارواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والارض بعضها فى الهواء وبعضها فى افنية القبور الى سبعة ايام الى سنة الى غير ذلك من الزمان حتى تصعد وتتخلص بدعوات الاحياء وامداد الحسنات وتصل الى المقر السماوى الدنيوى { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط } اى حتى يدخل ما هو مثل فى عظم الجرم وهو البعير فى ما هو مثل فى ضيق المسلك وهو ثقب الابرة وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه « هو كارى موقوف محالست محالست »
والعرب اذا ارادت تأكيد النفى علقته بما يستحيل كونه كما قال الشعر
اذا شاب الغراب اتيت اهّلى ... وصار القار كاللبن الحليب
والجمل زوج الناقة وانما يسمى جملا اذا اربع اى اذا دخل فى السنة السابعة فانه يقال له فى السنة السابعة رباع وللانثى رباعية بالتخفيف . والخياط ما يخاط به فم الخياط بالفارسية [ سوراخ سوزن ] وقرئ الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وهو الحبل الغليظ من القنب او حبل السفينة التى يقال له القلس وهى حبال مجموعة مفتولة { وكذلك } اى مثل ذلك الجزاء الفظيع وهو الحرمان من الجنة { نجزى المجرمين } اى جنس المجرمين فدخلوا فى زمرتهم دخولا اوليا(4/145)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{ لهم من جهنم مهاد } من جهنم حال من مهاد ومعناه فراش من النار يضطجعون ويقعدون فيه { ومن فوقهم مهاد } من جهنم حال من مهاد ومعناه فراش من النار يضطجعون ويقعدون فيه { ومن فوقهم غواش } اى اغطية جمع غاشية وهو ما يغشى الشئ ويستره ومعنى الآية الاخبار عن احاطة النار بهم من كل جانب حيث كانت غطاء لهم ووطاء وفى الحديث « الكافر يكسى لوحين من نار فى قبره » { وكذلك } اى مثل ذلك الجزاء الشديد وهو التعذيب بالنار { نجزى الظالمين } ولما كان التعذيب المؤبد بنار جهنم اشد العقوبات دل ذكر الظلم معه على انه اعظم الاجرام
واعلم ان فوت النعيم ايسر من مقاساة الجحيم والمصيبة العظمى هى الخلود
وذكر عند الحسن البصرى ان آخر من خرج من النار رجل يقال له هناد عذب الف عام ينادى يا حنان ويا منان فبكى الحسن وقال ليتنى كنت هنادا فتعجبوا منه فقال ويحكم أليس يوما يخرج
والاشارة { ان الذين كذبوا بآياتنا } وهى السنن الحسنة المنزلة على الانبياء وما اظهره الله تعالى على يد الاولياء من الكرامات والعلوم اللدنية فانكروها { واستكبروا عنها } اى تكبروا عن قبولها والايمان بها { لا تفتح لهم ابواب السماء } اى ابواب سماء القلوب الى الحضرة { ولا يدخلون الجنة } اى جنة القربة والوصلة { حتى يلج الجمل } اى جمل النفس المتكبرة { فى سم الخياط } وهو مدخل الطريقة التى بها تربى النفوس الامارة وتزكى لتصير مطمئنة فتستحق بها خطاب ارجعى الى ربك . فالمعنى ان النفس المتكبرة لما صارت كالجمل لتكبرها لا تصلح لدخول جنة الحقيقة الا بعد تزكيتها باحكام الشريعة وآداب الطريقة حتى تصير بالتربية فى ازالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله تعالى ادق من الشعر بالف مرة فيلج فى سم خياط الفناء فيدخل الجنة جنة البقاء فافهم جدا { وكذلك نجزى المجرمين } الذى اجرموا على انفسهم الضعيفة اللطيفة حتى صارت من الاوزار كالجمل بان نجل { لهم من جهنم } المجاهدة والرياضة فراشا وهو قوله { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } يعنى من مخالفة النفس وقمع الهوى يكون فراشهم ولحافهم حتى تحيط بهم فتذيبهم وتحرق منهم انانيتهم مع اثقال اوزارهم ليستحقوا دخول الجنة { وكذل نجزى الظالمين } يعنى بهذه الطريقة تضع عنهم اوزارهم ونرد مظالمهم فى الدنيا ليردوا القيامة مستعدين لدخول الجنة ومن لم نجزه فى الدنيا بهذه الطريقة فنجزه فى الآخرة كما قال { ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر } فى الآخرة { لعلهم يرجعون } فيه كذا فى التأويلات النجمية فالمجاهدة وسلوك طريق التصفية من دأب الاخيار
ذكر عن ابراهيم ابن ادهم انه لما اراد ان يدخل البادية اتاه الشيطان فخوفه ان هذه بادية مهلكة ولا زاد معك ولا مركب فعزم على نفسه رحمه الله ان يقطع البادية على تجرده ذلك وان لا يقطعها حتى يصلى تحت كل ميل من اميالها الف ركعة وقام بما عزم عليه وبقى فى البادية اثنتى عشرة سنة حتى ان الرشيد حج فى بعض تلك السنين فرآه تحت ميل يصلى فقيل له هذا ابراهيم بن ادهم فأتاه فقال كيف نجدك يا ابا اسحق فانشد ابراهيم بن ادهم يقول
نرفع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاء بدنياه لما يتوقع
قال الحافظ :
دع التكاسل تغنم فقد جرى مثل ... كه زاد رهروان جستيست وجالا كى(4/146)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
{ والذين آمنوا } بالآيات { وعملوا الصالحات } اى الاعمال الصالحات التى شرعت بالآيات وهى ما اريد به وجه الله تعالى { لا نكلف نفسا الا وسعها } اى طاقتها وقدرتها هو اعتراض بين المبتدأ والخبر للدلالة على ان استحقاق الخلود فى النعيم المقيم بسبب اتصافهم بالايمان والعمل الصالح على حسب ما تسعه طاقتهم وان لم يبذلوا مجهودهم فيه { اولئك اصحاب الجنة } [ ملازمان بهشت اند ] { هم فيها خالدون } حال من اصحاب الجنة(4/147)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{ ونزعنا } النزع قلع الشئ عن مكانه { ما فى صدورهم } قلوبهم { من غل } وهو الحقد الكامن والبغض المختفى فى الصدور اى تخرج من قلوبهم اسباب الحقد الذى كان لبعضهم فى حق بعض فى الدنيا فان ذلك الحقد انما نشأ من التعلق بالدنيا وما فيها وبانقطاع تلك العلاقة انتهى ما يتفرع عليه من الحقد ومن جملة اسبابه ايضا ان الشيطان كان يلقى الوساوس الى قلوب بنى آدم فى الدنيا وقد انقطع ذلك فى الآخرة بسبب ان الشيطان لما استغرق فى عذاب النيران لم يتفرغ لالقاء الوسوسة فى قلب الانسان ويجوز ان يكون المراد نطهر قلوبهم من الغل نفسه حتى لا يكون بينهم الا التواد يعنى لا يحسد بعض اهل الجنة بعضا اذا رآه ارفع درجة منه ولا يغتم بسبب حرمانه من الدرجات الرفيعة العالية
قال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت هذه الآية فى ابى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار بن ياسر وسلمان وابى ذر ينزع الله فى الآخرة ما كان فى قلوبهم من غش بعضهم لبعض فى الدنيا من العداوة والقتل الذى كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والامر الذى اختلفوا فيه فيدخلون اخوانا على سرر متقابلين
باك وصافى شو وازجاه طبيعت بدرآى ... كه صفا بى لدهد آب تراب آلو ده
{ تجرى من تحتهم } اى من تحت شجرهم وغرفهم { الانهار } زيادة فى لذتهم وسرورهم { وقالوا } اى اهل الجنة اذا رأوا منازلهم { الحمد لله الذى هدينا } بفضله { لهذا } اى لدين وعمل جزاؤه هذا { وما كنا لنهتدى } اى لهذا الاعلى { لولا ان هدانا الله } ووفقنا له
كر بدرقه لطف تو ننمايد راه ... ازراه تو هيجكس نكردد آكاه
آنكه كه بره رسند وبايد رفتن ... توفيق رفيق نشد واو يلاه
روى عن السدى انه قال فى هذه الآية ان اهل الجنة اذا سبقوا الى الجنة وجدوا عند بابها شجرة فى اصل ساقها عينان فشربوا من احداهما فينزغ ما فى صدورهم من غل وهو الشراب الطهور واغتسلوا من الاخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعده ابدا والشعث انتشار شعر الرأس والاشعث مغبر الرأس ويقال شحب جسمه يشحب بالضم اذا تغير وشربوا واغتسلوا ويبشرهم خزنة الجنة قبل ان يدخلوها بان يقولوا لهم { ان تلكم الجنة التى اورثتموها بما كنتم تعملون } فاذا دخلوها واستقروا فى منازلهم منها قالوا الحمد لله الآية
واعلم ان الغل ظلمة الصفات البشرية وكدورتها وطهارة القلوب بنور الايمان والارواح بماء العرفان والاسرار بشراب طهور تجلى صفات الجمال وليس فى صدور اهل الحقيقة من غل وغش اصلا لا فى الدنيا ولا فى العقبى { لقد جاءت رسل ربنا } جواب قسم مقدر اى والله لقد جاؤا { بالحق } فالباء للتعدية او لقد جاؤا ملتبسين بالحق فهى للملابسة يقوله اهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا واستقروا فيه اظهارا لكمال نشاطهم وسرورهم(4/148)
قال الحدادى شهادة منهم بتبليغ الرسل للحق اليهم اى جاؤا بالصدق فصدقناهم { ونودوا ان تلكم الجنة } يعنى ان الملائكة ينادونهم حين رأى المؤمنون الجنة من بعيد بان يقولوا لهم ان تلك التى رأيتموها هى الجنة التى وعدتم بها فى الدنيا فان مفسرة او مخففة وتلك مبتدأ اشير به الى ما رأوه من بعيد والجنة خبره واللام فيها للعهد { اورثتموها } اى اعطيتموها والجملة حال من الجنة { بما كنتم تعملون } فى الدنيا من الاعمال الصالحة اى بسبب اعمالكم
فان قيل هذه الآية تدل على ان العبد يدخل الجنة بعمله وقد قال عليه السلام « لن يدخل الجنة احدكم بعمله وانما تدخلونها برحمة الله تعالى وفضله » فما وجه التوفيق بينهما
اجيب بان العمل لا يوجب دخول النة لذاته وانما يوجبه من حيث انه تعالى وعد للعاملين ان يتفضل بها بمحض رحمته وكمال فضله واحسانه ولما كان الوعد بالتفضل فى حق العاملين بمقابلة عملهم كان العمل بمنزلة السبب المؤدى اليها فلذلك قيل اورثتموها باعمالكم كذا فى حواشى ابن الشيخ وفى الخبر انه يقال لهم يوم القيامة « جوزوا الصراط بعفوى وادخلوا الجنة برحمتى واقتسموها باعمالكم » وهى جنة الاعمال وهى التى ينزل الناس فيها باعمالهم فمن كان افضل من غيره فى وجوه التفاضل كان له من الجنة اكثر سواء كان الفاضل بهذه الحالة دون المفضول او لم يكن فما من عمل الا وله جنة يقع التفاضل فيها بين اصحابها ورد فى الحديث الصحيح عن النبى عليه السلام انه قال لبلال يا بلال « بم سبقتنى الى الجنة فما وطئت منها موضعا الا سمعت خشخشتك » فقال يا رسول الله ما أحدثت قط الا توضأت وما توضأت الا صليت ركعتين فقال عليه السلام « بهما » فعلمنا انها كانت مخصوصة بهذا العمل فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه الا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها
والتفاضل على مراتب . فمنها بالسن ولكن فى الطاعة والاسلام فيفضل الكبير السن على الصغير السن اذا كانا على مرتبة واحدة من العمل . ومنها بالزمان فان العمل فى رمضان وفى يوم الجمعة وفى ليلة القدر وفى عشر ذى الحجة وفى عاشوراء اعظم من سائر الزمان . ومنها بالمكان فالصلاة فى المسجد الحرام افضل منها فى مسجد المدينة وهى من الصلاة فى المسجد الاقصى وهى منها فى سائر المساجد . ومنهما بالاحوال فان الصلاة بالجماعة افضل من صلاة الشخص وحده .(4/149)
ومنها بنفس الاعمال فان الصلاة افضل من اماطة الاذى ومنها فى العمل الواحد فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة وكذا من اهدى هدية لشريف من اهل البيت افضل ممن اهدى لغيره او احسن اليه ومن الناس من يجمع فى الزمن الواحد اعمالا كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما يبتغى فى زمان صومه وصدقته بل فى زمان صلاته فى زمان ذكره فى زمان نيته من فعل وترك فيؤجر فى الزمن الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس له ذلك
ومن الجنات جنة اختصاص الهى وهى التى يدخلها الاطفال الذين لم يبلغوا حد العمل وحده من اول ما يولد اى يستهل صارخا الى انقضاء ستة اعوام ويعطى الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء . ومن اهلها المجانين الذين ما عقلوا . ومن اهلها اهل التوحيد العلمى . ومن اهلها اهل الفترات ومن لم يصل اليهم دعوة رسول
ومن الجنات جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين وهى الاماكن التى كانت معينة لاهل النار لو دخلوها وفى الحديث « كل من اهل النار يرى منزله فى الجنة فيقولون لو هدانا الله فيكون عليهم حسرة وكل من اهل الجنة يرى منزله فى النار فيقولون لولا ان الله هدانا »
واعلم ان الجنة صورية ومعنوية صورية محسوسة مؤجلة ومعنوية معقولة معجلة واهلها اهل الفناء فى الله والبقاء بالله : قال الحافظ
جنت نقدست اين جا عشرت وعيش وحضور ... زانكه درجنت خدا بربنده نتويسد كناه
اللهم شرفنا بالجنان انك انت المنان(4/150)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
{ ونادى اصحاب الجنة اصحاب النار } سرورا بحالهم وشماتة باصحاب النار وتحسيرا لهم لا لمجرد الاخبار بحالهم والاستخبار عن حال مخاطبهم ووجه تيسر المناداة والمكالمة بين اهل الجنة واهل النار مع ان بعد ما بين الجنة والنار لا يعلم مقداره الا الله تعالى اذ كل درجة من درجات الجنان يقابلها دركة من دركات النيران فأى درجة فيها العامل بسبب عمله يستحق تارك ذلك العمل بسبب تركه اياه دركة من دركاة الجحيم فيكون اهل الدرجة مشرفا على اهل الدركة التى تقابلها كما قال تعالى { فاطلع فرآه فى سواء الجحيم } فامكن لهم تقريع اهل النار وتحسيرهم بقولهم { ان } تفسيرية للمنادى له لان النداء فى معنى القول او مخففة { قد وجدنا ما وعدنا ربنا } من الثواب والكرامة { حقا } بالفارسية [ راست ودرست ] { فهل وجدتم ما وعد ربكم } من العذاب . والوعد يستعمل فى الخير والشر { حقا } حذف المفعول من الفعل الثانى حيث لم يقل ما وعدكم كما قال ما وعدنا اسقاطا لهم عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد { قالوا نعم } اى وجدناه حقا فاعترفوا فى وقت لا ينفعهم الاعتراف ولذا قيل
كنون بايد اى خفته بيدار بود ... جو مرك اندر آرد زخوابت جه سود
توبيش از عقوبت در عفو كوب ... كه سودى ندارد فغان زير جوب
{ فأذن } [ بس آواز دهد ] { مؤذن } [ آواز دهنده ] وهو ملك ينادى من قبل الله تعالى نداء يسمعه كل واحد من اهل الجنة واهل النار . وقيل هو صاحب الصور اى اسرافيل عليه السلام { بينهم } منصوب باذن اى اوقع ذلك الاذان بين الفريقين اى فى وسطهم { ان } تفسيرية لان التأذين فى معنى القول او مخففة { لعنة الله } استقرت { على الظالمين } اى على الكافرين دون المؤمنين لان الظلم اذا ذكر مطلقا يصرف الى الكمال وكمال الظلم هو الشرك وهو اخبار . وقيل هو ابتداء لعن منه عليهم(4/151)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{ الذين يصدون } يعرضون فهو لازم لان جعله متعديا بمعنى يمنعون الناس محوج الى تقدير المفعول ولا يصار اليه من غير ضرورة { عن سبيل الله } اى عن الدين الذى هو طريق الله الى جنته . والسبيل الطريق وما وضح منه كذا فى القاموس { ويبغونها عوجا } اى يبغون لها عوجا بان يصفوها بالزيغ والميل عن الحق وهى ابعد شئ منهما { وهم بالآخرة كافرون } جاحدون بالبعث بعد الموت فلما كان الظالمين بمعنى الكافرين كانت الاوصاف الجارية عليه من قبيل الصفات المؤكدة فان الظالم وصف فى الآية بثلاث صفات مختصة بالكفار . الاولى كونهم صادين معرضين عن سبيل الله . والثانية كونهم طالبين امالة سبيل الله ودينه الحق وتغييره الى الباطل بالقاء الشكوك والشبهات فى دلائل حقيته . والثالثة كونهم منكرين للآخرة مختصين بهذا الوصف وكل واحدة من هذه الصفات الثلاث مقررة لظلمهم بمعنى الكفر
والاشارة { ونادى اصحاب الجنة } اى ارباب المحبة { اصحاب النار } يعنى نار القطيعة { ان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } اى فيما قال « ألا من طلبنى وجدنى » { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } اى فيما قال « ومن يطلب غيرى لم يجدنى » { قالوا نعم } فاجابوهم بلى وجدناه حقا { فأذن مؤذن } العزة والعظمة بينهم { ان لعنة الله على الظالمين } الذين وضعوا استعداد الطلب فى غير موضع مطلبه وصرفوه فى غير مصرفه { الذين يصدون } اى وهم الذين يصدون القلب والروح { عن سبيل الله } وطلبه { ويبغونها عوجا } اى يصرفون وجوههم الى الدنيا وما فيها { وهم بالآخرة كافرون } اى وهم ينكرون على اهل المحبة فيما يطلبون مما تأخر من حسهم وهم يطلبون ما يدركون بالخواس الظاهرة دون ما فى الآخرة كذا فى التأويلات النجمية فالناس على مراتب بحسب اقرارهم وانكارهم وسلوكهم وقعودهم : وفى المثنوى
كودكان كرجه بيك مكتب درند ... در سبق هريك زيك بالا تريد
خود ملائك نيز ناهمتا بدند ... زين سبب بر آسمان صف صف شدند
فعلى السالك الاجتهاد فى طلب الحق الى ظهور كنز الحقيقة فان المطلب الاعلى عند من يميز النقد الجيد من التبهرج والزيوف
وعن ذى النون رضى الله عنه قال اوحى الله سبحانه الى موسى عليه السلام يا موسى كن كالطير الوحدانى يأكل من رؤس الاشجار ويشرب الماء القراح او قال من الانهار اذا جنه الليل اوى الى كهف من الكهوف استئناسا بى واستيحاشا ممن عصانى يا موسى انى آليت على نفسى ان لا اتم لمدعى عملا ولأقطعن امل من امل غيرى ولأقصمنّ من استند الى سواى ولاطيلن وحشة من انس بغيرى ولاعرضن عمن احب حبيبا سواىً يا موسى ان لى عبادا ان ناجونى اصغيت اليهم وان نادونى ا قبلت عليهم وان اقبلوا على ادنيتهم وان دنوا منى قربتهم وان تقربوا منى كفيتهم وان والونى واليتهم وان صافونى صافيتهم وان عملوا الى جازيتهم انا مدبر امرهم كفيتهم وان والونى واليتهم وان صافونى صافيتهم وان عملوا الى جازيتهم انا مدبر امرهم وسائس قلوبهم ومتولى احوالهم لم اجعل لقلوبهم راحة فى شئ الا فى ذكرى فهؤلاء سقامهم شفاء وعلى قلوبهم ضياء لا يستأنسون الا بى ولا يحطون رحال قلوبهم الا عندى ولا يستقربهم قرار فى الايواه الى الىّ(4/152)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{ وبينهما } اى بين الفريقين او بين الجنة والنار { حجاب } كسور المدينة حتى لا يقدر اهل النار ان يخرجوا الى الجنة ولئلا يتأذى اهل الجنة بالنار ولا يتنعم اهل النار بنعيم الجنة لان الحجاب المضروب بينهما يمنع وصول اثر احداهما الى الاخرى لانه قد جاء ان الحور العين لو نظرت واحدة منهن الى الدنيا نظرة لامتلأت الدنيا من ضوئها وعطرها وجاء فى وصف النار ان شرارة منها لو وقعت فى الدنيا لاحرقتها
قال الحدادى فان قيل كيف يصح هذا التأويل فى الحجاب بين الجنة والنار ومعلوم ان الجنة فى السماء والنار فى الارض قيل لم يبين الله حال الحجاب المذكور فى الآية ولا قدر المسافة فلا يمتنع ان يكون بين الجنة والنار حجاب وان بعدت المسافة { وعلى الاعراف } اى اعراف ذلك الحجاب اى اعاليه وهو السور المضروب بينها قيل هو جبل احد يوضع هناك جمع عرف وهو كل عال مرتفع ومنه عرف الديك والفرس سمى عرفا لانه بسبب ارتفاعه يكون اعرف مما انخفض منه { رجال } طائفة من المؤمنين تساوت حسناتهم وسيآتهم فهم ينظرون الى النار وينظرون الى الجنة وما لهم رجحان بما يدخلهم احدى الدارين فاذا دعوا الى السجود وهو الذى يبقى يوم القيامة من التكليف يسجدون فيرجح ميزان حسناتهم فيدخلون الجنة وهو احد الاقوال فى تعيين اصحاب الاعراف وسيجيء الباقى { يعرفون } صفة رجال { كلا } اى كل فريق ن اصحاب الجنة واصحاب النار { بسيماهم } اى بسبب علاماتهم التى اعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده وهذا فى العرصات قبل دخول الجنة والنار فان المعرفة بعد الدخول تحصل بالمشاهدة والاحساس ولا يحتاج الى الاستدلال بسيماهم واما النداء والصرف والاتيان فبعد الدخول { ونادوا } اى الرجال وهو صفة ثانية لرجال عدل الى لفظ الماضى تنزيلا للنداء منزلة الواقع { اصحاب الجنة ان } تفسيرية او محققة { سلام عليكم } يعنى اذا نظروا اليهم سلموا عليهم سلام التحية والاكرام وبشروهم بالسلامة من جميع المكاره والآفات { لم يدخلوها } حال من فاعل نادوا اى نادوا حال كونهم لم يدخلوها { وهم يطمعون } اى والحال انهم طامعون فى دخولها حال من فاعل يدخلوها اى نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين فى دخولها مترقبين له اى لم يدخلوها وهم فى وقت عدم الدخول طامعون وسبب طمعهم انهم من اهل لا اله الا الله ولا يرونها فى ميزانهم ويعلمون ان الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة ولو جيئ بذرة لاحدى الكفتين لرجحت بها لانها فى غاية الاعتدال فيطمعون فى كرم الله وعدله وانه لا بد ان يكون لكلمة لا اله الا الله عناية بصاحبها فيظهر لها اثر عليهم فيقفون هناك حتى يقضى الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة برحمته وهم آخر من يدخل الجنة واذا اراد الله ان يعافيهم انطلق بهم الى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتى تصلح الوانهم وفى نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ثم يؤتى بهم فيدخلون الجنة ويسمون مساكين اهل الجنة : قال الحافظ
هست اميدكم على رغم عدو روز جزا ... فيض عفوش ننهد باركنه دوشم(4/153)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{ واذا صرفت ابصارهم تلقاء اصحاب النار } اى الى جهنم وفى عدم الترعض لتعلق انظارهم باصحاب الجنة والتعبير عن تعلق ابصارهم باصحاب النار بالصرف اشعار بان التعلق الاول بطريق الرغبة والميل والثانى بخلافه
وفى تفسير الزاهدى ان الملك يصرف ابصارهم اليهم بامر الله تعالى { قالوا } متعوذين بالله تعالى من سوء حالهم { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } اى فى النار اى يدعون بذلك خوفا من الله تعالى لاجل معاصيهم
والقول الثانى فى تعيين اصحاب الاعراف انهم الانبياء اجلسهم الله على اعالى ذلك السور تمييزا لهم عن سائر اهل القيامة ليكونوا مشرفين على اله الجنة واهل النار مطلعين على احوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم شاهدين على اممهم وعلى هذا فقوله { لم يدخلوها وهم يطمعون } حال من مفعول نادوا وهو اصحاب الجنة لان طمع دخول الجنة لا يليق باشراف اهل الموقف اى نادى اشراف اهل الموقف وهم على الاعراف اصحاب الجنة حال كون اصحابها لم يدخلوها وهم طامعون فى دخولها وكذا التقدير فى صائر الوجوه الآتية المرادة بها اهل الدرجات العالية
والقول الثالث هم الشهداء الذين يميزون من بين اهل الموقف بالاستحقاق لمزيد التعظيم والاجلاس فى اعالى السور المضروب ليشاهدوا حكم الله تعالى فى اهل الموقف بمقتضى فضله وعدله
والرابع هم افاضل المؤمنين فرغوا من شغل انفسهم وتفرغوا لمطالعة احوال الناس وفى الحديث « اذا جمع الخلائق يوم القيامة نادى مناد اين اهل الفضل فيقوم اناس وهم يسيرون فينطلقون سراعا الى الجنة فيقولون نحن اهل الفضل فيقال لهم ما كان فضلكم فيقولون كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا سيئ الينا غفرنا واذا جهل حلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين »
والخامس قوم صالحون فقهاء علماء وذلك لمزيتهم على غيرهم بشرف الفقه والعلم
والسادس هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس باعمالهم وهم فى كل امة
والسابع هم العباس وحمزة وعلى بن ابى طالب وجعفر ذو الجناحين رضى الله عنهم يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه
والثامن انهم ملائكة موكولون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل ادخالهم الجنة والنار عبر عنهم باسم الرجال لكونهم يرون فى صورة الرجال كما عبر به عن الجن فى قوله تعالى { وانه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن } لكونهم فى صورة الرجال يقولون حين اشرفوا على اهل النار ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين لانهم مكلفون كبنى آدم فلا ينكر ان يدعوا الله لانفسهم بالامن
والتاسع هم الشهداء الذين خرجوا الى الغزو وغزوا فى سبيل الله بغير اذن آبائهم فقتلوا شهداء فاعتقلوا من النار بان قتلوا فى سبيل الله واحتبسوا عن الجنة بعصيانهم آباءهم(4/154)
والعاشر قوم رضى عنهم آباؤهم دون امهاتهم او امهاتهم دون آبائهم
والحادى عشر انهم اولاد الزنى
والثانى عشر اولاد المشركين
والثالث عشر هم الذين ماتوا فى الفترة ولم يبدلوا دينهم وزمان الفترة هو الزمان الذى بين عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما
والرابع عشر هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب فى الدنيا فوقفوا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع فى مقابلة صغائرهم
والخامس عشر هم الذين ذكرهم الله فى القرآن اصحاب الذنوب العظام من اهل القبلة روى عن بعض الصالحين انه قال اخذتنى ذات ليلة سنة فنمت فرأيت فى منامى كأن القيامة قد قامت وكأن الناس يحاسبون فقوم يمضى بهم الى الجنة وقوم يمضى بهم الى النار قال فاتيت الى الجنة فناديت يا اهل الجنة بماذا تلتم سكنى الجنان فى محل الرضوان فقالوا لى بطاعة الرحمن ومخالفة الشيطان ثم اتيت الى باب النار فناديت يا اهل النار بماذا نلتم النار قالوا بطاعة الشيطان ومخالفة الرحمن قال فنظرت فاذا بقوم موقوفون بين الجنة والنار فقلت ما بالكم موقوفن بين الجنة والنار فقالوا لنا ذنوب جلت وحسنات قلت فالسيآت منعتنا من دخول الجنة والحسنات منعتنا من دخول النار وانشدوا
نحن قوم لنا ذنوب كبار ... منعتنا من الوصول اليه
تركتنا مذبذبين حيارى ... أمسكتنا عن القدوم عليه
هذا ما تيسر لى جمعه من الاقوال والله تعالى اعلم بحقيقة الحال
والاشارة ان بين اهل النار واهل الجنة حجابا وهو من اوصاف البشرية والاخلاق الذميمة النفسانية فلا يرى اهل النار اهل الجنة من وراء ذلك الحجاب وبين اهل الجنة واهل الله وهم اصحاب الاعراف حجابا وهو من الاوصاف الخلقية والاخلاق الحميدة الروحانية فلا يرى اهل الجنة اهل الله من وراء ذلك الحجاب كما قال الله تعالى { وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } يعنى اصحاب الاعراف يعرفون اهل الجنة والنار بما يتوسمون فى سيماهم من آثار نور القلب وظلمته وسيمت الاعراف اعرافا لانها مواطن اهل المعرفة وانما سمى الله اهل المعرفة رجالا لانهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال فى النساء ولا يتصرف فيهم شئ منه كقوله { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } وحيث ما ذكر الله الخواص ذكرهم برجال كقوله { رجال صدقوا } وكقوله { فيه رجال يحبون ان يتطهروا } لان وجه الامتياز بين الخواص والعوام بالرجولية فى طلب الحق وعلو الهمة فان اصحاب الاعراف بعلو هممهم ترقوا عن حضيض البشرية ودركات النيران وصعدوا على ذروة الروحانية ودرجات الجنان وما التفتوا الى نعيم الدارين وما ركنوا الى كمالات المنزلين حتى عبروا عن المكونات واقاموا على الاعراف وهى مرتبة فوق الجنان فى حظائر القدس عند الرحمن وهم مشرفون على اهل الجنة والنار فلما رأوا اهل الجنة وانهم فى شغل فاكهون(4/155)
{ و } قد شغلوا بنعيميها عن المولى { نادوا اصحاب الجنة ان سلام عليكم } يعنى هنيئا لكم ما انتم فيه من النعيم المقيم والحور والقصور ثم اخبر عن همة اصحاب الاعراف فقال { لم يدخلوها وهم يطمعون } اى شاهدوا نعيم الجنة ودرجاتها ولم يركنوا الى شئ منها فعبروا عليها ولم يدخلوها وهم على الاعراف يطمعون فى الوصول الى الله والدخول فى الجنة التى اضافها الله تعالى الى نفسه بقوله { وادخلى جنتى } { واذا صرفت ابصارهم تلقاء اصحاب النار } ابتلاء ليريهم انه تعالى من أية دركة خلصهم وبأية كرامة خصهم فيعرفوا قدر ما انعم الله عليهم به ومن هذا القبيل يكون ما سنح لارباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما ابتلاهم بشئ من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والانس مع الله فى الخلوات ففى اداء حق الشكر ورؤية النعمة { قالوا } مع المنعم { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } اى بعد ان خلصتنا من اوصافهم واخلاقهم ودركاتهم ومما هم فيه لا تجعلنا مرة اخرى من جهتهم ولا تدخلنا فى زمرتهم كذا فى التأويلات النجمية(4/156)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{ ونادى اصحاب الاعراف } وهم الذى علت درجاتهم من الانبياء واشراف اهل الموقف وهو الانسب بما بعد الآية اذ قولهم ادخلوا الجنة لا يليق بالمقصرين فى العمل { رجالا } من رؤساء الكفار حين رأوهم فيما بين اصحاب النار وهم ابو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وعاص بن وائل واضرابهم { يعرفونهم بسيماهم } اى علاماتهم الدالة على سوء حالهم حينئذ وعلى رياستهم فى الدنيا والباء سببية { قالوا } بدل من نادى اى قال اصحاب الاعراف وهم على السور مخاطبين لرؤساء الكفار توبيخا وشماتة { ما اغنى عنكم } ما استفهامية للتقريع او نافية ومعناه على الثانية [ دفع نكرد عذاب ازشما ] { جميعكم } اى اتباعكم واشياعكم او جمعكم للمال { وما كنتم تستكبرون } ما مصدرية اى واستكباركم المستمر على الخلق [ يعنى استكبار شما مانع عذاب نشد ](4/157)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
{ أهؤلاء الذين اقسمتم لا ينالهم الله برحمة } هو من تمام قول اصحاب الاعراف للرجال الذين هم رؤساء الكفرة فيكون فى محل النصب بالقول المتقدم
والاشارة الى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرة يحتقرونهم فى الدنيا ويحلفون صريحا انهم لا يدخلون الجنة قوله { لا ينالهم الله برحمة } جواب اقسمتم ومعناه بالفارسية [ اين كروه آنا نندكه دردنياسو كند ميخورديدكه الته خداى هركز بديشان نرساند بخشايش خودرا ] { ادخلوا الجنة } اى فالتفت اصحاب الاعراف الى فقراء المسلمين متل بلال وصهيب وسلمان وخباب وامثالهم وقالوا لهم ادخلوا الجنة على رغم انوف رؤساء الكفار { لا خوف عليكم } حين يخاف اهل النار { ولا انتم تحزنون } حين يحزن اهل النار
وفى الآية ذم المال والاستكبار والافتخار بكثرة الخدم والاعوان والانصار
نه منعم بمال از كسى بهترست ... خرارجل اطلس بيوشد خرست
بدين عقل وهمت نخوانم كست ... وكرميرود صد غلام ازبست
تكبر كند مرد حشمت برست ... نداند كه حشمت بحلم اندرست
جو منعم كند سفله را روز كار ... نهد بر دل تنك درويش بار
جوبام بلندش بود خود برست ... كند بول وخاشاك بر بام بست
واعلم ان حب المال والاستكبار من اخلاق النفس فلا بد للسالك من تزكيتها وكان من دعاء النبى عليه السلام « اللهم حسن خلقى وخلقى » وقد مدحه الله بقوله { وانك لعلى خلق عظيم } وكان عليه السلام يجالس الفقراء والمساكين ويواكلهم وكان يمر على الصبيان ويسلم عليهم واتى رجل فارتعد من هيبته فقال « هون عليك فلست بملك انما انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » وكان يجلس مختلطا باصحابه كأنه احدهم فيأتى الغريب فلا يدرى أيهم هو حتى يسأل وكان لا يدعوه احد الا قال لبيك وكل ذلك من تواضعه صلى الله عليه وسلم
قال ذو النون المصرى علامة السعادة حب الصالحين والدنو منهم وتلاوة القرآن وسهر الليل ومجالسة العلماء ورقة القلب
والاشارة ان المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر فى بعض الاوقات يقولون لاهل المحبة والمعرفة وارباب الطلب من دناءة هممهم ان احدا منكم لا ينال درجة الوصول ومرتبة الوصال ويقسمون على ذلك ثم يقول الله لاصحاب الاعراف { ادخلوا الجنة } المضافة الىّ فى حظائر القدس وعالم الجبروت { لا خوف عليكم } من الخروج منها { ولا انتم تحزنون } على ما فاتكم من نعيم الجنة اذ تفرغتم لشهود جمالنا ووجود وصالنا
واعلم ان اهل النار يرون اهل الله وهم اصحاب الاعراف بالصورة ما داموا فى مواطن الكونين فاذا دخلوا جنة الحقيقة المضافة الى الله فى سرادقات العزة وعالم الجبروت انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقربين فافهم جدا
وقد حكى عن بابا جعفر الابهرى انه دخل على بابا طاهر الهمذانى فقال اين كنت فانى حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ثم قال بابا طاهر صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلا مع الاخص فما رأيتنى(4/158)
فعلى السالك ان لا ينقطع عنهم وعن اعتقادهم وفى الحديث « لكل شئ مفتاح ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء الصبرهم جلساء الله يوم القيامة »
حب درويشان كليدجنت است ... دشمن ايشان سزاى لعنت است
لمثنوى فى حق حسن الظن بالفقراء :
كر كدايان طامعند وزشت خو ... درشكم خوران تو صاحب دل بجو
درتك دربا كهر ياسنكهاست ... فخرها اندرميان ننكهاست
ه صلى الله عليه وسلم « اللهم احينى مسكينا وامتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين » وحقيقة المسكين من لا شئ له غير الله تعلاى وهو اهل الله واصحاب الاعراف(4/159)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{ ونادى اصحاب النار اصحاب الجنة } بعد الاستقرار فى الدارين { ان } مفسرة او مخففة كما سبق غير مرة { افيضوا علينا } اى صبوا { من الماء } اى ماء الجنة حتى يطفئ عنا حر ما نجد من العطش وذلك انهم لما بقوا فيها جياعا عطاشا قالو ياربنا ان لنا قرابات فى الجنة فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيؤذن لهم فى ذلك فينظرون الى قراباتهم فى الجنة والى ما هم فيه من انواع النعيم فيعرفونهم ولا يعرفهم اهل الجنة لسواد وجوههم فينادون قراباتهم من اهل الجنة بعد اخبارهم بقرابتهم ويقولون افيضوا علينا من الماء { او مما رزقكم الله } من سائر ليلائم الافاضة فان الاصل فيها ان تستعمل فى المائعات من المشروبات او من الاطعمة فنأكلها لعلها قد تدفع عنا الجوع على ان الافاضة عبارة عن الاعطاء بكثرة
قال ابو حيان الصحيح تضمين افيضوا معنى القوا وهؤلاء القائلون كانوا فى الدنيا عبيد البطون حريصين على الطعام والشراب حتى ماتوا على ما عاشوا فيه فحشروا على ما ماتوا عليه وان اهل الجنة لما اطالوا الجوع والعطش فى الدنيا وانما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم فى الجنة بشهوات النفس
وفى الآية بيان ان الانسان لا يستغنى عن الطعام والشراب وان كان فى العذاب
قال ابو الجوزاء سألت ابن عباس رضى الله عنهما أى الصدقة افضل قال الماء ارأيت اهل النار لما استغاثوا باهل الجنة قالوا افيضوا علينا من الماء
وعن سعد بن عبادة انه قال يا رسول الله ان ام سعد ماتت فأى صدقة افضل قال عليه السلام « الماء » فحفر بئرا فقال عليه السلام « هذه لام سعد » يقول الفقير فى الحديث دلالة على نفع الصدقة فى الاموات كما ذهب اليه اهل السنة وتخصيص الماء اما لان ارض الحجاز احوج شئ اليه فيكون اكثر ثوابا واما لان جهنم بيت الحرارة واندفاعها بضدها وهى البرودة التى من اوصاف الماء فان كل شئ يقابل بنقيضه والله اعلم { قالوا } روى انه لا يؤذن لاهل الجنة فى الجواب مقدار اربعين سنة ثم يؤذن لهم فى جوابهم فيقولون { ان الله حرمهما على الكافرين } اى منع طعام الجنة وشرابها عنهم منع المحرم عن المكلف فلا سبيل الى ذلك قطعا وانما جعل شراب الكافرين الحميم الذى يصهر به ما فى بطونهم والجلود وطعامهم الضريع والزقوم(4/160)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{ الذين اتخذوا دينهم } الذى امروا بالتدين به وهو دين الاسلام { لهوا ولعبا } ملعبة يتلاعبون به يحرمون ما شاؤا ويحلون ما شاؤا ولا يتبعون امر الله تعالى وانما يتبعون اهواءهم التى زينها الشيطان لهم
وقيل كان دينهم دين اسماعيل عليه السلام فغيروه وتدينوا بما شاؤا او صرفوا همتهم فيما لا ينبغى ان تصرف اليه الهمم وطلبوا ان يفرحوا بما لا ينبغى ان يطلب
وفى التفسير الفارسى { دينهم } [ عيد خودرا { لهوا ولعبا } مشغول وبازيجه ايشان درعيد خود بحو الى كعبه مى آمدند ودوست ميزدند وبازيجه ميكردند ] انتهى ويرخص اللعب فى يوم العيد بالسلام والركض اى التسابق بالافراس والارجل وغير ذلك مما هو مباح مشروع وكانوا يضربون فى القرن الاول بالدف ولكن لم يكن فيه جلاجل فما يفعلونه فى هذا الزمان وقت العيد والختان وعند اجتماع الاخوان من ضرب المزمار وضرب الدف الى فيه جلاجل ونحوها هو آلة اللهو ليس بمرخص وقولهم ان فى ديننا فسخة انما هو بالنسبة الى الامور المرخصة ألا يرى ان المزاج مباح اذا كان بما لا يخالف الشرع { وغرتهم الحياة الدنيا } بزخارفها العاجلة وطول الامل ولذلك كانوا يستهزئون بالمسلمين كما روى فى الخبر ان ابا جهل بعث الى النبى عليه السلام رجلا يستهزئ به ان اطعمنى من عنب جنتك او شيأ من الفواكه فقال ابو بكر رضى الله عنه ان الله حرمهما على الكافرين فعلى العاقل ان لا يغتر بالدنيا غدارة مكارة
درديدهُ اعتبار خوابيست ... بر رهكذر اجل سرابيست
مشغول مشو بسرخ وزردوش ... انديشه مكن زكرم وسردش
سرمايه آفتست زنهار ... خودرا زفريب او نكهدار
{ فاليوم } اى يوم القيامة والفاء فصيحة { ننساهم } نفعل بهم ما يفعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتداد بهم وتركهم فى النار كليا شبه معاملته تعالى مع الكفار بمعاملة من نسى عبده من الخير ولم يلتفت اليه والا فالله تعالى منزه عن حقيقة النسيان { كما نسوا لقاء يومهم هذا } فى محل النصب على انه نعت لمصدر محذوف اى ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء يومهم هذا فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له يعنى انه وان لم يصح وصفهم بنسيانه حقيقة لان النسيان يكون بعده المعرفة وهم لم يكونوا معترفين بلقاء يوم القيامة ومصدقين به لكنه شبه عدم اخطارهم لقاء الله تعالى ببالهم وعدم مبالاتهم به بحال من عرف شيأ ونسبه ومثل هذه الاستعارات كثير فى القرآن لان تفهيم المعانى الواقعة فى عالم الغيب انما يكون بان يعبر عنها بما يماثلها من عالم الشهادة { وما كانوا بآياتنا يجحدون } عطف على ما نسوا اى وكما كانوا منكرين بانها من عند الله انكارا مستمرا فما مصدرية ويظهر ان الكاف فى كما للتعليل فان التشبيه غير ظاهر فى ما كانوا الا باعتبار لازمه وهو الترك(4/161)