لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{ لا جناح عليكم } المراد من الجناح فى هذه الآية وجوب المهر اى لا تبعة من مهر { ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن } اى غير ماسين لهن ومجامعين
قال ابن الشيخ الظاهر ان كلمة ما مصدرية ظرفية والزمان محذوف تقديره مدة عدم المسيس { أو تفرضوا لهن فريضة } كلمة او بمعنى الا ان كقولك لالزمنك او تعطينى حقى اى الا ان تفرضوا لهن عند العقد مهرا والمعنى انه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر اصلا اذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال الا فى تسمية المهر فان عليه حينئذ نصف المسمى وفى حال عدم تسميته عليه المتعة لانصف مثل المهر واما اذا كان بعد المساس فعليه فى صورة التسمية تمام المسمى وفى صورة عدمها تمام مهر المثل { ومتعوهن } عطف على مقدر اى فطلقوهن ومتعوهن اى اعطوهن ما يتبلغن وينتفعن به والحكمة فى ايجاب المتعة جبر لما اوحشها الزوج بالطلاق وهو درع وهو ما يستر البدن وملحفة وهو ما يستر المرأة عند خروجها من البيت وخمار وهو ما يستر الرأس على حسب الحال كما يفصح عنه قوله تعالى { على الموسع } يقال اوسع الرجل اذا اتسع حاله فصار ذا سعة وغنى اى الذى له سعة { قدره } امكانه وطاقته { وعلى المقتر } يقال اقتر الرجل اذا افتقر وصار ذا قترة . والقترة الغبار وهو قليل من التراب اى على المقل الضيق الحال { قدره } فالمتعة معتبرة بحاله لا بحالها لا تنقص عن خمسة دراهم ولا تزاد على نصف مهر المثل لان المسمى اقوى من مهر المثل والمتعة لا تزاد على نصف المسمى فلان لا تزيد على نصف مهر المثل اولى . والقدر والقدر لغتان وذهب جماعة الى ان الساكن مصدر والمتحرك اسم كالعد والعدد والمد والمدد والقدر بالتسكين الوسع يقال هو ينفق على قدره اى على وسعه وبالتحريك المقدار { متاعا } اسم لمصدر الفعل المذكور من قبيل قوله تعالى { انبتكم من الارض نباتا } اى تمتيعا ملتبسا { بالمعروف } اى بالوجه الذى يستحسنه الشرع والمروءة { حقا } صفة متاعا اى متاعا واجبا { على المحسنين } اى الذين يحسنون الى انفسهم بالمسارعة الى الامتثال قال ابن التمجيد اعلم ان للمطلقة اربع حالات . الاولى ان تكون غير ممسوسة ولم يسم لها مهر . والثانية ان تكون ممسوسة وسمى لها . والثالثة ان تكون ممسوسة ولم يسم لها . والرابعة ان تكون غير ممسوسة وسمى لها ورفع الجناح بمعنى نفر المهر انما هو فى الصورة الاولى لا فى البواقى من الصور الثلاث فان فيها وجوب المهر ولم يجب فى الصورة الاولى مهر لا بعضا ولا كلا اما عدم وجوب البعض فلان مهر المثل لا ينصف واما عدم وجوب الكل فلكونها غير مدخول بها ولكن لها المتعة لقوله تعالى { ومتعوهن } فانه فى حق من جرى ذكرهن وهى المطلقات الغير الممسوسة التى لم يفرض لهن فريضة اذ لو فرضت لكان لهن تمام المهر لا المتعة(2/10)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{ وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } اى وان طلقتموهن من قبل المسيس حال كونكم مسمين لهن عند النكاح مهرا { فنصف ما فرضتم } اى فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر وان مات احدهما قبل الدخول فيجب عليه كله لان الموت كالدخول فى تقرير المسمى كذلك فى ايجاب مهر المثل اذا لم يكن فى العقد مسمى { الا ان يعفون } استثناء من اعم الاحوال اى فلهن نصف المفروض معينا فى كل حال الا فى حال عفوهن اى المطلقات فانه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه { أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح } اى يترك الزوج المالك لعقده وحله ما يعود اليه من نصف المهر الذى ساقه اليها كملا على ما هو المعتاد تكرما فان ترك حقه عليها عفو بلا شبهة فالمراد بقوله الذى بيده عقدة النكاح الزوج لا الولى والمراد بعفوه ان يعطيها الصداق كاملا النصف الواجب عليه والنصف الساقط العائد اليه بالتنصيف وتسمية الزيادة على الحق عفوا لما كان الغالب عندهم ان يسوق الزوج اليها كل المهر عند التزوج فاذا طلقها قبل الدخول فقد استحق ان يطالبها بنصف ما ساق اليها فاذا ترك المطالبة فقد عفا عنها { وان تعفوا اقرب للتقوى } واللام فى التقوى تدل على علة قرب العفو تقديره العفو اقرب من اجل التقوى اذ الاخذ كأنه عوض من غير معوض عنه او ترك المروءة عند ذلك ترك للتقوى وفى الحديث « كفى بالمرء من الشح ان يقول آخذ حقى لا اترك منه شيأ » وفى حديث الاصمعى اتى اعرابى قوما فقال لهم هذا فى الحق او فيما هو خير منه قالوا وما خير من الحق قال التفضل والتغافل افضل من اخذ الحق كله كذا فى المقاصد الحسنة للسخاوى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ليس المراد منه النهى عن النسيان لان ذلك ليس فى الوسع بل المراد منه الترك والمعنى لا تتركوا الفضل والافضال فيما بينكم باعطاء الرجل تمام الصداق وترك المرأة نصيبها حثهما جميعا على الحسان والافضال وقوله بينكم منصوب بلا تنسوا : قال السعدى قدس سره
كسى نيك بيند بهر دوسراى ... كه نيكى رساند بخلق خداى
{ ان الله بما تعملون بصير } فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والاحسان . والبصر فى حقه تعالى عبارة عن الوصف الذى به ينكشف كمال نعوت المبصرات وذلك اوضح واجلى مما يفهم من ادراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات . والحظ الدينى للعبد من البصر امران . احدهما ان يعلم انه خلق له البصر لينظر الى الآيات وعجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظره الا عبرة قيل لعيسى عليه السلام هل احد من الخلق مثلك فقال من كان نظره عبرة وصمته فكرة وكلامه ذكرا فهو مثلى .(2/11)
والثانى ان يعلم انه بمرأى من الله ومسمع فلا يستهين بنظره اليه واطلاعه عليه ومن اخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله والمراقبة احدى ثمرات الايمان بهذه الصفة فمن قارف معصية وهو يعلم ان الله يراه فما اجسره واخسره ومن ظن انه لا يراه فما اكفره كذا فى شرح الاسماء الحسنى للامام الغزالى
ثم الاشارة فى الآيات ان مفارقة الاشكال من الاصدقاء والعيال لمصلحة دنيوية { لا جناح عليكم } فيها فكيف يكون جناح ان فارقتموهم لمصلحة دينية بل انتم مأمورون بمفارقتهم لزيارة بيت الله فكيف لزيارة الله فان الواجب فى زيارة بيت الله مفارقة الاهالى والاوطان وفى زيارة الله مفارقة الارواح والابدان دع نفسك وتعال قل الله ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون وقوله تعالى { ومتعوهن } اشارة الى ان من له من الطلاب واهل الارادة مال فليمتع به اقرباءه واحباءه حين فارقهم فى طلب الحق سبحانه ليزيل عنهم بحلاوة المال مرارة الفراق فان الفطام عن المألوف شديد ولا ينفق المال عليهم بقدر قربهم فى القرابة وبعدهم بل يقسم بينهم على فرائض الله كالميراث فانه قد مات عنهم بالحقيقة وفى قوله تعالى { وان تعفوا اقرب للتقوى } اشارة الى ان الوصول الى تقوى الله حق تقاته انما هو بترك ما سوى الله والتجاوز عنه فان المواصلة الى الخالق على قدر المفارقة عن المخلوق والتقرب الى الله بقدر التبعد عما سواه وفى قوله تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ههنا فى الدنيا فان حلول الجنة ودخولها هناك لا يكون الا من فضله كقوله تعالى { الذى احلنا دار المقامة من فضله } { ان الله بما تعملون } فى وجدان الفضل وفقدانه { بصير } كذا فى التأويلات النجمية وانما يوجب للعبد الالتفات للخلائق فقدان النور الكاشف للخلائق والا فلو اشرق نور اليقين الهادى الى العلم بان الآخرة خير من الدنيا وان ما عند الله خير وابقى لرأيت الآخرة اقرب من ان يرحل اليها ولرأيت محاسن الدنيا وقد ظهرت كسفه الفناء عليها لان الآتى قطعا كالموجود فى الحال لا سيما ومباديه ظاهرة من تغير الاحوال وانتقال الاهلين والاموال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان النور اذا دخل القلب انفسخ وانشرح » قيل يا رسول الله وهل له من علامة يعرف بها قال « التجافى عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله » انتهى اللهم اجعلنا ممن استعد للقائك وتهيأ للوصول لنوال وصالك(2/12)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
{ حافظوا على الصلوات } بالاداء لوقتها والمداومة عليها والمراد بالصلوات المكتوبات الخمس فى كل يوم وليلة ثبت عددها بغيرها من الآيات والاحاديث المتواترة وباشارة فى هذه الآية وهو ذكر الوسطى وهى ما اكتنفه عددان متساويان واقل ذلك خمسة لا يقال ان الثلاث بهذه الصفة لانا نقول الثلاث لا يكتنفها عددان فان الذى قبلها واحد والذى بعدها واحد وهو ليس بعدد فان العدد ما اذا اجتمع طرفاه صارا ضعفه وليس له طرفا فانه ليس قبله شىء { و } حافظوا على { الصلوة الوسطى } اى المتوسطة بينها على ان تكون الوسطى صفة مشتبهة او الفضلى منها على ان تكون افعل تفضيل تأنيث الاوسط واوسط الشىء خيره واعدله وهى صلاة العصر لانها بين صلاتى ليل وصلاتى نها ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الاحزاب « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا » وفضلها لكثرة اشتغال الناس فى وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر اهله وماله » اى ليكن من فوتها حذرا كما يحذر من ذهاب اهله وماله ثم فى حديث يوم الاحزاب حجة على من قال الصلاة الوسطى غير العصر وعلى من قال انها مبهمة ابهمها الله تعالى تحريضا للخلق على محافظتها كساعة الاجابة يوم الجمعة
فان قيل ما روت عائشة رضى الله عنها انه عليه الصلاة والسلام قال « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » يدل على ان الوسطى غير العصر
قلت يحتمل ان يكون الوسطى لقبا والعصر اسما فذكرها باسمها كذا فى شرح المشارق لابن الملك { وقوموا لله } اى فى الصلاة { قانتين } حال من فاعل قوموا اى ذاكرين له فى القيام لان القنوت هو الذكر فيه او خاشعين روى انهم كانوا اذا قام احدهم الى الصلاة هاب الرحمن ان يمد بصره او يلتفت او يقلب الحصى او يحدث نفسه بشىء من امور الدنيا الا ناسيا حتى ينصرف(2/13)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{ فان خفتم } اى ان كان بكم خوف من عدو او غيره { فرجالا } منصوب على الحال وعامله محذوف تقديره فصلوا راجلين والرجال جمع راجل مثل صحاب وصاحب { أو ركبانا } اى راكبين وهو جمع راكب مثل فرسان وفارس . ومذهب ابى حنيفة انهم لا يصلون فى حال المشى والمسايفة ما لم يمكن الوقوف وعند امكان الوقوف يصلى واقعا والدليل عليه قوله تعالى { فان خفتم } الآية { فاذا امنتم } وزال خوفكم { فاذكروا الله } اى فصلوا صلاة الا من عبر عنها بالذكر لانه معظم اركانها { كما علمكم } اى ذكرا كائنا كتعليمه اياكم { ما لم تكونوا تعلمون } من كيفية الصلاة والمراد بالتشبيه ان تكون الصلاة المؤداة موافقة لما علمه الله وايرادها بذلك العنوان لتذكير النعمة او اشكروا لله شكرا يوازى تعليمه اياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والاحكام التى من جملتها كيفية اقامة الصلاة حالتى الخوف والامن
واعلم ان الصلاة بمنزلة الضيافة قد هيأها الله للموحدين فى كل يوم خمس مرات فكما فى الضيافة تجتمع الألوان من الاطعمة ولكل طعام لذة ولون فكذلك فيها اركان وافعال مختلفة لكل فعل لذة وتكفير للذنوب
وعن كعب الاحبار انه قال قال الله لموسى فى مناجاته [ يا موسى اربع ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة الظهر اعطيهم فى اول ركعة منها المغفرة وفى الثانية اثقل موازينهم وفى الثالثة اوكل بهم الملائكة يسبحون ويستغفرون لهم لا يبقى ملك فى السماء ولا فى الارض الا ويستغفر لهم ومن استغفرت له الملائكة لم اعذبه ابدا وفى الرابعة افتح لهم ابواب السماء وتنظر اليهم الحور العين . يا موسى اربع ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة العصر ما يسألون منى حاجة الا قضيت لهم . يا موسى ثلاث ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة المغرب افتح لهم ابواب السماء . يا موسى اربع ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة العشاء خير لهم من الدنيا وما فيها ويخرجون من الدنيا كيوم ولدتهم امهاتهم ]
ثم اعلم انه لا يرخص لمن سمع الاذان ترك الجماعة فانها سنة مؤكدة غاية التأكيد بحيث لو تركها اهل ناحية وجب قتالهم بالسلاح لانها من شعائر الاسلام ولو تركها احد منهم بغير عذر شرعى يجب عليه التعزيز ولا تقبل شهادته ويأثم الجيران والامام والمؤذن بالسكوت عنه
وفى غنية الفتاوى من حضر المسجد الجامع لكثرة جماعة فى الصلاة فمسجد محلته افضل قل اهل مسجده او كثر لان لمسجده حقا عليه لا يعارضه كثرة الجماعة ولا زيادة تقوى غيره او علمه ويبادر الصف الاول على محاذاة الامام وروى عن النبى عليه السلام انه قال « يكتب للذى خلف الامام بحدائه مائة صلاة وللذى فى الجانب الايمن خمس وسبعون صلاة وللذى فى جانب الايسر خمسون صلاة وللذى فى سائر الصفوف خمس وعشرون صلاة »(2/14)
كذا فى القنية ولا يتخطى رقاب الناس الى الصف الاول اذا وجد فيه فرجة ويتلاصقون بحيث يكونون محاذين بالاعناق والمناكب قال عليه السلام « رصوا صفوفكم وقاربوا بينها تقارب اشباحكم وحاذوا بالاعناق فوالذى نفسى بيده انى لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كانه الحذف » الخلل بفتح الخاء المعجمة الفرجة والحذف بفتحتى الحاء المهملة والذال المعجمة الغنم السود الصغار الحجازية كذا فى التنوير . والكلام فى اداء الصلاة بالحضور والتوجه التام : قال بعضهم
محراب ابروى تواكر قبله ام نبود ... كى برفلك برند ملائك نمازمن
يحكى ان الشيخ ابا العباس الجوالقى كان فى بداية حاله يعمل الجوالق ويبيع فباع يوما جوالقا بنسيئة ونسى المشترى فلما قام الى الصلاة تفكر فى ذلك ثم لما سلم قال لتلميذه وقعت لى خاطرة فى الصلاة انى الى أى شخص بعت الجوالق الفلانى فقال تلميذه يا استاذ انت فى اداء الصلاة او تحصيل الجوالق فأثر هذا القول فى الشيخ فلبس جوالقا وترك الدنيا واشتغل بالرياضة الى ان وصل الى ما وصل
مردان بسعى ورنج بجايى رسيده اند ... توبى هنر كجارسى از نفس برورى
والاشارة ان الله تعالى اشار فى حفظ الصلاة بصيغة المبالغة التى بين الاثنين وقال { حافظوا على الصلوات } يعنى محافظة الصلاة بينى وبينكم كما قال « قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل » فمعناه انى حافظكم بقدرة التوفيق والاجابة والقبول والاثابة عليها فحافظوا انتم على الصلاة بالصدق والاخلاص والحضور والخضوع والمناجاة بالتذلل والانكسار والاستعانة والاستهداء والسكون والوقار والهيبة والتعظيم وحفظ القلوب بدوام الشهود فأنما هى الصلاة الوسطى لان القلب الذى فى وسط الانسان هو واسطة بين الروح والجسد ولهذا يسمى القلب فالاشارة فى تخصيص المحافظة على الصلاة هى صلاة القلب بدوام الشهود فان البدن ساعة يحفظ صورة اركان الصلاة وهيئتها وساعة يخرج منها فلا سبيل الى حفظ صورتها بنعت الدوام ولا الى حفظ معانيها بوصف الحضور والشهود وانما هو من شأن القلب كقوله تعالى { ان فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد } وانه من نعت ارباب القلوب انهم فى صلاتهم دائمون كذا فى التأويلات النجمية
فليسارع السالكون الى حرم الحضور قبل الموت والقبور فان الصلاة بالفتور غير مقبولة عند الله الغيور ولا بد من الاعراض عن الكائنات ليتجلى نور الذات والا فمن يستحضر عمرا وينادى زيدا فلا اجابة له ابدا : قال الشيخ سعدى الشيرازى قدس سره
آنكه جون بسته ديدش همه مغز ... بوست بربوست بود همجو بياز
بارسايان روى در مخلوق ... بشت بر قبله ميكنند نماز
ومن الله التوفيق(2/15)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{ والذين يتوفون منكم } اى يموتون يسمى المشارف الى الوفاة متوفيا تسمية للشىء باسم ما يؤول اليه وقرينة المجاز امتناع الوصية بعد الوفاة { ويذرون ازواجا } اى يدعون نساء من بعدهم { وصية لازواجهم } اى يوصون وصية لهن والجملة خبر الذين { متاعا } اى يوصون متاعا { الى الحول } او متعوهن تمتيعا الى الحول { غير اخراج } بدل من قوله متاعا بدل اشتمال لتحقق الملابسة بين تمتيعهن حولا وبين عدم اخراجهن من بيوتهن كأنه قيل يوصون لازواجهم متاعا اى لا يخرجن من مساكنهن حولا او حال من ازواجهم اى غير مخرجات والمعنى يجب على الذين يتوفون ان يوصوا قبل الاحتضار لازواجهم بان يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى
نزلت الآية فى رجل من الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر الى المدينة وله اولاد ومعه ابواه وامرأته ومات فانزل الله هذه الآية فاعطى النبى عليه السلام والديه واولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيأ وامرهم ان ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا وكان عدة الوفاة فى ابتداء الاسلام حولا وكان يحرم على الوارث اخراجها من البيت قبل تمام الحلول وكان نفقتها وسكناها واجبة فى مال زوجها ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث فان خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها وكان على الرجل ان يوصى بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع عند عدم الولد وولد الابن والثمن عند وجودهما وسقطت السكنى ايضا عند ابى حنيفة ونسخ عدة الحول باربعة اشهر وعشر فانه وان كان متقدما فى التلاوة متأخر فى النزول { فان خرجن } من منزل الازواج باختيارهن { فلا جناح عليكم } ايها الائمة والحكام { فيما فعلن فى انفسهن من معروف } لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب وهذا يدل على انه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وانما كانت مخيرة بين الملازمة واخذ النفقة وبين الخروج وتركه { والله عزيز } غالب على امره يعاقب من خالفه { حكيم } يراعى فى احكامه مصالح عباده(2/16)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{ وللمطلقات } سواء كن مدخولا بهن ام لا { متاع } اى مطلق المتعة الشاملة للمستحبة والواجبة فان كانت المطلقة مفوضة غير مدخول بها وجبت لها المتعة وان كانت غيرها يستحب لها فلفظ التمتع المدلول عليه بمتعوهن فى الآية السالفة يحمل على الواجب فلا منافاة بين الآيتين { بالمعروف } اى متاع ملتبس بالمعروف شرعا وعادة { حقا على المتقين } اى مما ينبغى على من كان متقيا فليس بواجب ولكن من شروط التقوى التبرع بهذا تطييبا لقلبها وازالة للضغن(2/17)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{ كذلك } اشارة الى ما سبق من احكام الطلاق والعدة اى مثل ذلك البيان الواضح { يبين الله لكم آياته } الدالة على احكامه التى شرعها لعباده
قال القاضى وعد بانه سيبين لعباده من الدلائل والاحكام ما يحتاجون اليه معاشا ومعادا { لعلكم تعقلون } لكى تفهموا ما فيها فتستعملوا العقل فيها وتعملوا بموجبها :
كشتئ بى لنكر آمد مردشر ... كه زباد كزنيابد اوحذر
لنكر عقلست عاقل را امان ... لنكرى در يوزه كن ازعاقلان
والاشارة ان المطلقة لما ابتليت بالفراق جبراً لله تعالى كسر قلبها بالمتعة يشير بهذا الى ان المريد الصادق لو ابتلى فى اوان طلبه بفراق الاعزة والاقرباء وهجران الاحبة والاصدقاء والخروج من مال الدنيا وجاهها والهجرة من الاوطان وسكانها والتنقل فى البلاد لصحبة خواص العباد ومقاساة الشدائد فى طلب الفوائد فالله تعالى يبذل له احسانه ويزيل عنه احزانه ويجبر كسر قلبه بمتعة « انا عند المنكسرة قلوبهم من اجلى » فيكون للطالب الملهوف متاع بالمعروف من نيل المعروف كذلك يظهر الله لكم آياته اصناف الطافه واوصاف اعطافه لعلكم تعقلون بانوار الطافه كمالات اوصافه كذا فى التأويلات النجمية
فالعاقل لا ينظر الى الدنيا واعراضها بل يعبر عن منافعها واغراضها ويقاسى الشدائد فى طريق الحق الى ان يصل الى الذات المطلق يحكى عن شقيقى البلخى انه لم يجد طعاما ثلاثة ايام وكان مشتغلا بالعبادة فلما ضعف عن العبادة رفع يده الى السماء وقال يا رب اطعمنى فلما فرغ من الدعاء التفت فرأى شخصا ينظر اليه فلما التفت اليه سلم عليه وقال يا شيخ تعال معى فقام شقيق وذهب معه فادخله ذلك الرجل فى بيت فرأى فيه الواحا موضوعة عليها الوان الاطعمة وعند الخوان غلمان وجوارى فاكل والرجل قائم فلما فرغ اراد ان يخرج شقيق من ذلك البيت فقال له الرجل الى اين يا شيخ فقال الى المسجد فقال ما اسمك قال شقيق فقال يا شقيق اعلم ان هذه الدار دارك والعبيد عبيدك وانا عبدك كنت عبدا لابيك بعثنى الى التجارة فرجعت الآن وقد توفى ابوك فالدار وما فيها لك قال شقيق ان كان العبيد لى فهم احرار لوجه الله وان كانت الاموال لى وهبتها لكم فاقتسموها بينكم فانى لا اريد شيأ يمنعنى عن العبادة : قال السعدى
تعلق حجابست وبى حاصلى ... جوبيوندها بكسلى واصلى
والدنيا علاقة خصوصا هذا الزمان زمان الفتنة والشرور فالراقد فيه خير من اليقظان حكى ان سليمان عليه السلام اتى بشراب الجنة فقيل له لو شربت هذا لا تموت فتشاور مع حشمه الا القنفذ قالوا باجمعهم اشرب ثم ارسل الفرس والبازى الى القنفذ يدعوانه فلم يجبهما ثم ارسل اليه الكلب فاجابه فقال له سليمان لم لم تجب الفرس والبازى قال انهما جافيان لان الفرس يعدو بالعدو كما يعدو صاحبه والبازى يطيع غير صاحبه كما يطيع صاحبه واما الكلب فانه ذو وفاء حتى انه لو طرده صاحبه من الدار يرجع اليه ثانيا فقال له ءأشرب هذا الشراب قال لا تشرب لانه يطول عمرك فى السجن فالموت فى العز خير من العيش فى السجن(2/18)
بهمه حال اسيرى كه زبندى برهد ... بهترش دان زاميريكه كرفتار آيد
فقال له سليمان احسنت وامر باهراقة فى البحر فعذب ماء ذلك البحر
تزود من الدنيا فانك راحل ... وبادر فان الموت لا شك نازل
وان امرأ قد عاش سبعين حجة ... ولم يتزوج للمعاد لجاهل
ودنياك ظل فاترك الحرص بعدما ... علمت فان الظل لا بد زائل
قال السعدى قدس سره
كه اندر نعمتى مغرور غافل ... كهى ازتنك دستى خسته وريش
جودر سرا وضرا حالت اينست ... ندانم كى بحق بروازى ازخويش
اللهم احفظنا من الموانع(2/19)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{ ألم تر الى الذين خرجوا من ديارهم } جمع دار اى منازلهم وهذا الخطاب وان كان بحسب الظاهر متوجها الى النبى عليه السلام الا انه من حيث المعنى متوجه الى جميع من سمع بقصتهم من اهل الكتاب وارباب التواريخ فمقتضى الظاهر ان يقال ألم تسمع قصتهم الا انه نزل سماعهم اياها منزلة رؤيتهم تنبيها على ظهورها واشتهارها عندهم فخوطبوا بألم تر وهو تعجيب من حال هؤلاء وتقرير اى حمل على الاقرار بما دخله النفى
قال الامام الواحدى ومعنى الرؤية ههنا رؤية القلب وهى بمعنى العلم انتهى فتعدية الرؤية بالى مع انها ادراك قلبى لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك اليهم
قال العلماء كل ما وقع فى القرآن ألم تر ولم يعاينه النبى عليه السلام فهو بهذا المعنى
وفى التيسير وتحقيقه اعلم ذلك
وفى الكواشى معناه الوجوب لان همزة الاستفهام اذا دخلت على النفى او على الاستفهام صار تقريرا او ايجابا والمعنى قد علمت خبر الذين خرجوا الآية
قال ابن التمجيد فى حواشيه لفظ ألم تر قد يخاطب به من تقدم علمه بالقصة وقد يخاطب به من لم يتقدم علمه بها فانه قد يقول الرجل للآخر ألم تر الى فلان أى شىء قال يريد تعريفه ابتداء فالمخاطبون به ههنا اما من سمعها وعلمها قبل الخطاب به من اهل التواريخ فذكرهم وعجبهم واما من لم يسمعها فعرفهم وعجبهم وقيل الخطاب عام لكل من يتأتى منه الرؤية دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث ينبغى لكل احد ان يعلمها او يبصرها ويتعجب منها { وهم الوف } جمع الف الذى هو من جملة اسماء العدد واختلفوا فى عدد مبلغهم والوجه من حيث اللفظ ان يكون عددهم ازيد من عشرة آلاف لان الالوف جمع الكثرة فلا يقال فى عشرة آلاف فما دونها الوف { حذر الموت } مفعول له اى خرجوا من ديارهم خوفا من الموت { فقال لهم الله } على لسان ملك وانما اسند اليه تعالى تخويفا وتهويلا لان قول القادر القهار والملك الجبار له شأن { موتوا } التقدير فماتوا لاقتضاء قوله ثم احياهم ذلك التقدير لان الاحياء يستدعى سبق الموت { ثم احياهم } اى اعادهم احياء ليستوفوا بقية اعمارهم وليعلموا ان لا فرار من القدر
قال ابن العربى عقوبة لهم ثم احياهم وميتة العقوبة بعدها حياة للاعتبار وميتة الاجل لا حياة بعدها
وعن الحسن ايضا ماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم الى بقية أجالهم
وقصة هؤلاء ما ذكره اكثر اهل التفسير انهم كانوا قوما من بنى اسرائيل بقرية من قرى واسط يقال لها داوودان وقع بها الطاعون فذهب اشرافهم واغنياؤهم واقام سفلتهم وفقراءهم فهلك اكثر من بقى فى القرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا اصحابنا كانوا احزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن الى ارض لا وباء بها فوقع الطاعون من العام القابل فهرب عامة اهلها فخرجوا حتى نزلوا واديا افيح بين جبلين فلما نزلوا المكان الذى يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من اسفل الوادى وملك آخر من اعلاه ان موتوا فماتوا جميعا من غير علة بامر الله ومشيئته وماتت دوابهم كموت رجل واحد فاتت عليهم ثمانية ايام حتى انتفخوا واروحت اجسادهم اى انتنت فخرج اليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فاحدقوا حولهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها فاتت على ذلك مدة وقد بليت اجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبى يقال له حزقيل بن يوزى ثالث خلفاء بنى اسرآئيل بعد موسى عليه السلام وذلك ان القيم بعد موسى بامر بنى اسرائيل كان يوشع بن نون ثم كالب بن يوحنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لان امه كانت عجوزا فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله لها(2/20)
وقال الحسن هو ذو الكفل وسمى حزقيل ذا الكفل لانه كفل سبعين نبيا وانجاهم من القتل وقال لهم اذهبوا فانى ان قتلت كان خيرا لكم من ان تقتلوا جميعا فلما جاء اليهود وسألوا ذا الكفل عن الانبياء السبعين قال انهم ذهبوا ولا ادرى اين هم ومنع الله تعالى ذا الكفل من اليهود بفضله وكرمه فلما مر حزقيل على اولئك الموتى وقف عليهم لكثرة ما يرى فجعل يتفكر فيهم متعجبا فاوحى الله اليه أتريد ان اريك آية قال نعم فقال الله ناد ايتها العظام ان الله يأمرك ان تجتمعى فاجتمعت من اعلى الوادى وادناه حتى التزق بعضها ببعض فصارت اجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم اوحى الله اليه ناد ايتها الارواح ان الله يأمرك ان تقومى فقاموا وبعثوا احياء يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا انت فبقيت فيهم بقايا من ريح النتن حتى انه بقى فى اولاد ذلك السبط من اليهود الى اليوم ثم انهم رجعوا الى بلادهم وقومهم وعاشوا دهرا سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التى ثبتت لهم وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض لاسباب الشهادة وحثهم على التوكل والاستسلام وان الموت حيث لم يكن منه بد ولم ينفع منه المفر فاولى ان يكون فى سبيل الله { ان الله لذو فضل } عظيم { على الناس } قاطبة اما اولئك فقد احياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى واما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم الى مسلك الاعتبار والاستبصار { ولكن اكثر الناس لا يشكرون } فضله كما ينبغى لعجز بعضهم وكفر بعضهم(2/21)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
{ وقاتلوا } الخطاب لهذه الامة وهو معطوف على مقدر تقديره فاطيعوا وقاتلوا { فى سبيل الله } لاعلاء دينه متيقنين ان الفرار من الموت غير مخلص وان القدر واقع فلا تحرموا من احد الحظين اما النصر والثواب واما الموت فى سبيل الله الملك الوهاب { واعلموا ان الله سميع } يسمع مقالة السابقين الى الجهاد من ترغيب الغير فيه ومقالة المتخلفين عنه من تنفير الغير { عليم } بما يضمرونه فى انفسهم يعلم ان خلف المتخلف لأى غرض وان جهاد المجاهد لأى سبب وانه لاجل الدين او الدنيا وهو من وراء الجزاء ثم ان قوله تعالى { ألم تروا } رد لتقبيح حال هؤلاء الذين خرجوا وقد جعل الله جزاء خروجهم الموت والخيبة فى رجائهم الخلاص وكل ذلك يدل على كراهية الفرار فثبت بهذه الآية فضيلة القرار وفائدته وفى الحديث « الفار من الطاعون كالفار من الزحف » وهذا الحديث يدل على ان النهى عن الخروج للتحريم وانه من الكبائر
قيل ان عبد الملك هرب من الطاعون فركب ليلا واخرج غلاما معه فكان ينام على دابته فقال للغلام حدثنى فقال من انا حتى احدثك فقال على حال حدث حديثا سمعته فقال بلغنى ان ثعلبا كان يخدم اسدا ليحميه ويمنعه مما يريده فكان يحميه فرأى الثعلب عقابا فلجأ الى الاسد فاقعده على ظهره فانقض العقاب واختلسه فصاح الثعلب يا ابا الحارث اغثنى واذكر عهدك لى فقال انما اقدر على منعك من اهل الارض فاما اهل السماء فلا سبيل اليهم فقال عبد الملك وعظتنى واحسنت وانصرف ورضى بالقضاء قال السعدى قدس سره
قضا كشتى آنجا كه خواهد برد ... وكر ناخدا جامه برثن درد
در آبى كه بيدا نباشد كنار ... غرور شناور نيايد بكار
واعلم ان ما كان من القضاء حتما مقضيا لا ينفعه شىء كما قال عليه السلام « الحذر لا ينفع من القدر » واما المعلق فتنفعه الصدقة وامثالها كما قال عليه السلام « الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان فى الاعمار » قال بعض المحققين ان المقدرات على ضربين ضرب يختص بالكليات وضرب يختص بالجزئيات التفصيلية فالكليات المختصة بالانسان ما اخبر النبى عليه الصلاة والسلام انها محصورة فى اربعة اشياء العمر والرزق والاجل والسعادة او الشقاوة وهى لا تقبل التغير فالدعاء فيها لا يفيد كصلة الرحم الا بطريق الفرض بمعنى ان لصلة الرحم مثلا من الاثر فى الخير ما لو امكن ان يبسط فى رزق الواصل ويؤخر فى اجله بها لكان ذلك ويجوز فرض المحال اذا تعلق بذلك حكمة قال تعالى { قل ان كان للرحمن ولد فانا اول العابدين } واما الجزئيات ولوازمها التفصيلية فقد يكون ظهور بعضها وحصوله للانسان متوقفا على اسباب وشروط ربما كان الدعاء او الكسب والسعى والتعمد من جملتها بمعنى انه لم يقدر حصوله بدون ذلك الشرط حكى ان قصارا مر على عيسى عليه السلام مع جماعة من الحواريين فقال لهم عيسى احضروا جنازة هذا الرجل وقت الظهر فلم يمت فنزل جبريل فقال ألم تخبرنى بموت هذا القصار فقال نعم ولكن تصدق بعد ذلك بثلاثة ارغفة فنجا من الموت وقد سبق منا فى الجزء الاول عند قوله تعالى(2/22)
{ فانزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } ما يتعلق بالطاعون والفرار منه فليرجع اليه
قال الامام القشيرى فى قوله تعالى { وقاتلوا فى سبيل الله } الآية يعنى ان مسكم ألم فتصاعد منكم أنين فاعلموا ان الله سميع بأنينكم عليم باحوالكم والآية توجب عليهم تسهيل ما يقاسونه من الالم قال قائلهم
اذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت ان اشكوا اليك وتسمع
انتهى كلامه قدس سره اللهم اجعلنا من الذين يفرون الى جنابك ويميلون(2/23)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{ من } استفهام للتحريض على التصدق مبتدأ { ذا } اشارة الى المقرض خبر المبتدأ اى من هذا { الذى } صفة ذا او بدل منه { يقرض الله } اصل القرض القطع سمى به لان المعطى يقرضه اى يقطعه من ماله فيدفعه اليه ليرجع اليه مثله من الثواب واقراض الله مثل لتقديم العمل الذى يطلب به ثوابه { قرضا } مصدر ليقرض بمعنى اقراض كقوله تعالى { انبتكم من الارض نباتا } اى اقراضا { حسنا } اى مقرونا بالاخلاص وطيب النفس ويجوز ان يكون القرض بمعنى المقرض اى بمعنى المفعول على انه مفعول ثان ليقرض وحسنه ان يكون حلالا صافيا عن شوب حق الغير به
وقيل القرض الحسن المجاهدة والانفاق فى سبيل الله ومن انواع القرض قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر { فيضاعفه له } منصوب باضمار ان عطفا على المصدر المفهوم من يقرض الله فى المعنى فيكون مصدرا معطوفا على مصدر تقديره من ذا الذى يكون منه اقراض فمضاعفة من الله او منصوب على جواب الاستفهام فى المعنى لان الاستفهام وان وقع عن المقرض لفظا فهو عن الاقراض معنى كأنه قال أيقرض الله احد فيضاعفه واصل التضعيف ان يزاد على الشىء مثله او امثاله { اضعافا } جمع ضعف حال من الهاء فى يضاعفه { كثيرة } هذا قطع للاوهام عن مبلغ الحساب اى لا يعلم قدرها الا الله
وقيل الواحد سبعمائة وحكمة تضعيف الحسنات لئلا يفلس العبد اذا اجتمع عليه الخصماء فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من اصل حسناته لان التضعيف فضل من الله تعالى واصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة
وذكر الامام البيهقى ان التضعيفات فضل من الله تعالى لا يتعلق بها العباد كمالا يتعلق بالصوم بل يدخرها الحق للعبد فضلا منه سبحانه فاذا دخل الجنة اثابه بها : قال السعدى
نكو كارى از مردم نيك رأى ... يكى را بده مى نويسد خداى
كرم كن كه فردا كه ديوان نهند ... منازل بمقدار احسان تهند
ولما حثهم على الاخراج سهل عليهم الاقراض واخبر انهم لا يمكنهم ذلك الا بتوفيقه فقال { والله يقبض } يقتر على بعض { ويبسط } يوسع على بعض او يقتر تارة ويوسع اخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح واذا علم العبد ذلك هان عليه الاعطاء لان الله تعالى هو الرزاق وهو الذى وسع عليه فهو يسأل منه ما اعطاه ولانه يخلفه عليه فى الدنيا ويثيبه عليه فى العقبى فكأن الله تعالى يقول اذا علمتم ان الله هو القابض والباسط وان ما عندكم انما هو من بسطه واعطائه فلا تبخلوا عليه فاقرضوه وانفقوا مما وسع عليكم واعطاكم ولا تعكسوا بان تبخوا لئلا يعاملكم مثل معاملتكم فى التعكيس بان يقبض بعد ما بسط .(2/24)
ولعل تأخير البسط عند القبض فى الذكر للايماء الى انه يعقبه فى الوجود تسلية للفقراء
قال الامام الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى القابض الباسط هو الذى يقبض الارواح من الاشباح عند الممات ويبسط الارواح فى الاجساد عند الحياة ويقبض الصدقات من الاغنياء ويبسط الارزاق للضعفاء يبسط الرزق على الاغنياء حتى لا تبقى فاقة ويقبضه من الفقراء حتى لا تبقى طاقة ويقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله ويبسطها لما يقرب اليها من بره ولطفه وجماله والقابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم واوتى جوامع الكلم فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله ونعمائه وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من اعدائه كما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة حيث ذكرهم ان الله يقول لآدم يوم القيامة ابعث بعث النار فيقول كم فيقول من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة فلما اصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روح قلوبهم وبسطها فذكر انهم فى سائر الامم كشامة سوداء فى مسك ثور ابيض انتهى قال القشيرى فى رسالته القبض والبسط حالتان بقدر ترقى العبد عن حال الخوف والرجاء والقبض للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف { واليه ترجعون } فيجازيكم على ما قدمتم من الاعمال خير وشرا على الجود بالجنة وعلى البخل بالنار وهو وعد ووعيد او هو تنبيه على ان الغنى لمفارق ماله بالموت فليبادر على الانفاق قبل الفوت
واجتمع جماعة من الاغنياء والفقراء فقال غنى ان الله تعالى رفع درجاتنا حتى استقرض منا وقال فقير بل رفع درجاتنا حتى استقرض لنا والواحد قد يستقرض من غير الحبيب ولك ان لا تستقرض الا لاجل الحبيب وقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودرعه عند يهودى بشعير اخذه لقوت عياله . انظر ممن استدان ولمن استدان وفى الحديث « يقول الله تعالى يوم القيامة ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال رب كيف اطعمك وانت رب العزة قال استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه أما علمت انك لو اطعمته لوجدت ذلك عندى » فالقرض لا يقع عند المحتاج فكأنه ذكر نفسه ونزل وصفه منزلة المحتاج كقوله مرضت فلم تعدنى جعت فلم تطعمنى شفقة وتلطيفا للفقير والمريض وهذا من باب التنزلات الرحمانية عند المحققين لتكميل محبة العبد وجذبه الى حظرة اهل الشهود من عباده اذ جذبة من جذبات الحق توازى عمل الثقلين وذلك اذا شاهد العبد الفقير جلوة جمال الرحمن فى اطوار تنزلاته فى المشاهد الاعيانية : وفى المثنوى(2/25)
روى خو بان زانيه زيبا شود ... روى احسان از كدا ييدا شود
جون كدا آيينه جودست هان ... دم بود بر روى آيينه زيان
بس از ين فرمود حق در والضحى ... بانك كم زن اى محمد بر كدا
فالله تعالى من كمال فضله وكرمه مع عباده خلق انفسهم وملكهم الاموال ثم اشترى منهم انفسهم واموالهم ثم ردها اليهم بالعارية ثم اكرمهم فيها بالاستقراض منهم ثم بشر باضعاف كثيرة عليها فالعبد الصادق لا يطلب الا على قدر همته ولا يريد العوض مما اعطاه الا ذاته تعالى فيعطيه الله ما هو مطلوبه على قدر همته ويضاعف له مع مطلوبه ما اخفى لهم من قرة اعين اضعافا كثيرة على قدر كرمه فمن يكون له متاع الدنيا باسره قليلا فانظر ما يكون له كثيرا اللهم متعنا بما الهمت قلوب اوليائك واجعلنا من الذين قصروا اعينهم على استطلاع انوار لقائك(2/26)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{ ألم تر } اى ألم ينته علمك { الى } قصة { الملأ } اى قد علمت خبرهم باعلامى اياك فتعجب . الملأ جماعة يجتمعون للتشاور سموا بذلك لانهم اشراف يملأون العيون مهابة والمجالسة بهاءة لا واحد له من لفظه كالقوم { من بنى اسرائيل } من للتبعيض حال من الملأ اى كائنين بعض بنى اسرائيل وهم اولاد يعقوب { من } ابتدائية متعلقة بما تعلق به الجار الاول { بعد } وفاة { موسى اذ قالوا } منصوب بالمضاف المقدر فى الملأ اى ألم تر الى قصة الملأ او حديثهم حين قالوا لان الذوات لا يتعجب منها وانما يتعجب من احوالها { لنبى لهم } اشمويل وهو الاشهر الاظهر { ابعث لنا ملكا } اى اقم وانصب لنا سلطانا يتقدمنا ويحكم علينا فى تدبير الحرب ونطيع لامره { نقاتل } معه وهو بالجزم على الجواب { فى سبيل الله } طلبوا من نبيهم ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التى كان يجهزها ومن امرهم بطاعته وامتثال اوامره وروى انه امر الناس اذا سافروا ان يجعلوا احدهم اميرا عليهم { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم النبى حينئذ فقيل قال { هل عسيتم } قاربتم { ان كتب عليكم القتال } مع الملك شرط معترض بين عسى وخبره وهو قوله { ان لا تقاتلوا } معه
قال فى الكشاف والمعنى هل قاربتم ان لا تقاتلوا يعنى هل الامر كما اتوقعه انكم لا تقاتلون اراد ان يقول عسيتم ان لا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فادخل هل مستفهما عما هو متوقع عنده وانه صائب فى توقعه كقوله تعالى { هل اتى على الانسان } معناه التقرير { قالوا وما } مبتدأ وهو استفهام انكارى خبره قوله { لنا } فى { ان لا نقاتل فى سبيل الله } اى أى سبب وغرض لنا فى ترك القتال { وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا } اى والحال انه قد عرض لنا ما يوجب القتال ايجابا قويا من الاخراج من الديار والاوطان والاغتراب عن الاهل والاولاد وافراد الابناء بالذكر لمزيد تقوية اسباب القتال قال بعضهم وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا جلاء واسرار ومثله يذكر اتباعا نحو وزججن الحواجب والعيونا وكان سبب مسألتهم نبيهم ذلك انه لما مات موسى عليه السلام خلف بعده فى بنى اسرائيل يوشع يقيم فيهم التوراة وامر الله حتى قبضه الله ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه الله ثم عظمت الاحداث فى بنى اسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الاوثان فبعث الله اليهم ألياس نبيا فدعاهم الى الله وكانت الانبياء من بنى اسرائيل بعد موسى يبعثون اليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ثم خلف بعد ألياس أليسع وكان فيهم ما شاء الله حتى قبضه الله وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلنانا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة اولاد عمليق بن عاد فظهروا على بنى اسرائيل وغلبوا على كثير من ارضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم واسروا من ابناء ملوكهم اربعمائة واربعين غلاما وضربوا عليهم الجزية واخذوا توراتهم ولقى بنوا اسرائيل منهم بلاء شديدا ولم يكن لهم نبى يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم الا امرأة حبلى فحبسوها فى بيت رهبة ان تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بنى اسرائيل فى ولدها وجعلت المرأة تدعو الله ان يزرقها غلاما فولدت غلاما فسمته اشمويل تقول سمع الله دعائى وهو بالعبرانية اسماعيل والسين تصير شينا فى لغة عبران فكبر الغلام فاسلموه لتعلم التوراة فى بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام اتاه جبريل عليه السلام وهو نائم الى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه احدا فدعاه بلحن الشيخ يا اشمويل فقال الغلام مسرعا الى الشيخ فقال يا ابتاه دعوتنى فكره الشيخ ان يقول لا لئلا يتفزع الغلام فقال يا بنى ارجع فنم فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام دعوتنى فقال ارجع فنم فان دعوتك الثالثة فلا تجبنى فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له اذهب الى قومك فبلغهم رسالة ربك فان الله قد بعثك فيهم نبيا فلما اتاهم كذبوه وقالوا له استعجلت بالنبوة ولم تأن لك وقالوا ان كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله آية نبوتك وانما كان قوام امر بنى اسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لانبيائهم فكان الملك هو الذى يشير بالجموع والنبى يقيم امره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من عند ربه { فلما كتب عليهم القتال } بعد سؤال النبى ذلك وبعث الملك { تولوا } اى اعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا امر الله ولكن لا فى ابتداء الامر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته وانما ذكر الله ههنا مآل امرهم اجمالا اظهارا لما بين قولهم وفعلهم من التنافى والتباين { الا قليلا منهم } وهم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد اهل بدر { والله عليم بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم بالتولى عن القتال وترك الجهاد وتنافى اقوالهم وافعالهم(2/27)
والاشارة ان القوم لما اظهروا خلاف ما اضمروا وزعموا غير ما كتموا عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما افلحوا عند الامتحان اذ عجزوا عن البرهان وعند الامتحان يكرم الرجل او يهان : قال الحافظد
خود بود كرمحك تجربه آمد بميان ... تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
وهذه حال المدعين من اهل السلوك وغيرهم قال اهل الحقيقة عللوا القتال بما يرجع الى حظوظهم فخذلوا ولو قالوا كيف لا نقاتل وقد عصوا الله وخربوا بلاد الله وقهروا عباد الله واطفأوا نور الله لنصروا .(2/28)
وافادت الآية ان خواص الله فيهم قليلة قال تعالى { وقليل من عبادى الشكور } وهذا فى كل زمان لكن الشىء العزيز القليل اعلى بهاء من الكثير الذليل : قال السعدى قدس سره
خاك مشرق شنيده ام كه كنند ... بجهل سال كاسه جينى
صد بروزى كنند در بغداد ... لا جرم قيمتش همى بينى
وانما كان اهل الحق اقل مع ان الجن والانس انما خلقوا لاجل العبادة كما قال تعالى { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } لان المقصود العظم هو الانسان الكامل وقد حصل او لان المهديين وان قلوا بالعدد لكنهم كثيرون بالفضل والشرف كما قيل قليل اذا عدوا كثير اذا شدوا اى اظهروا الشدة . وقد روى عن ابن مسعود رضى الله عنه السواد الاعظم هو الواحد على الحق والحكمة لا تقتضى اتفاق الكل على الاخلاص والاقبال الكلى على الله فان ذلك مما يخل بامر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا بل تقتضى ظهور ما اضيف اليه كل من اليدين فللواحدة المضاف اليها عموم السعداء الرحمة والجنان وللاخرى القهر والغضب ولوازمهما فلا بد من الغضب لتكميل مرتبة قبضة الشمال فانه وان كان كلتا يديه يمينا مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الاخرى
فعلى العاقل ان يحترز من اسباب الغضب ويجتهد فى نيل كرم الرب قال على كرم الله وجه [ من ظن انه بدون الجهد يصل فهو متمن ومن ظن انه بذل الجهد فهو متعن ] اللهم افض علينا من سجال فضلك وكرمك واوصلنا اليك بك يا ارحم الراحمين(2/29)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{ وقال لهم نبيهم } وذلك ان اشمويل لما سأل الله تعالى ان يبعث لهم ملكا اتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له ان صاحبكم الذى يكون ملكا طوله طول هذه العصا وانظر القرن الذى فيه الدهن فاذا دخل عليك رجل ونش الدهن الذى فى القرن فهو ملك بنى اسرائيل فدهن به رأسه ولمك عليهم قال وهب ضلت حمر لابى طالوت فارسله وغلاما له فى طلبها فمرا ببيت اشمويل فقال الغلام لو دخلنا على هذا النبى فسألنا عن الحمر ليرشدنا ويدعو لنا بحاجتنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر اذ نش الدهن الذى فى القرن فقام اشمويل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فقال لطالوت قرب رأسك فقربه فدهنه بدهن القدس ثم قال له انت ملك بنى اسرائيل الذى امرنى الله ان املكه عليهم قال بأى آية قال بآية انك ترجع وقد وجد ابوك حمره فكان كذلك ثم قال اشمويل لنبى اسرائيل { ان الله قد بعث لكم طالوت } اسم اعجمى ممتنع من الصرف لتعريفه وعجمته { ملكا } حال منه اى فاطيعوه وقاتلوا عدوكم معه { قالوا } متعجبين من ذلك ومنكرين قيل انهم كفروا بتكذيبهم نبيهم وقيل كانوا مؤمنين لكن تعجبوا وتعرفوا وجه الحكمة فى تمليكه كما قال الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } { أنى يكون له الملك علينا } من أين يكون له ذلك ويستأهل { ونحن احق بالملك منه } اولى بالرياسة عليه منه بالرياسة علينا { ولم يؤت سعة من المال } اى لم يعط ثروة وكثرة من المال فيشرف بالمال اذا فاته الحسب يعنى كيف يتملك علينا والحال انه لا يستحق التملك لوجود من هو احق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال ولا بد للملك من مال يقتصد به . وسبب هذا الاستبعاد ان النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من اسباط بنى اسرائيل وهو سبط لاود بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون وسبط المملكة سبط يهودا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان ولم يكن طالوت من احد هذين السبطين بل هو من ولد بنيامين بن يعقوب وكانوا عملوا ذنبا عظيما ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا فغضب الله عليهم ونزع الملك والثروة منهم وكانوا يسمونه سبط الاثم وكان طالوت يتحرف بحرفة دنية كان رجلا دباغا يعمل الادم فقيرا او سقاء او مكاريا { قال } لهم نبيهم ردا عليهم { ان الله اصطفاه عليكم } اى اختاره فان لم يكن له نسب ومال فله فضيلة اخرى وهو قوله { وزاده بسطة } اى سعة وامتداد { فى العلم } المتعلق بالملك او به وبالديانات ايضا { والجسم } بطول القامة وعظم التركيب لان الانسان يكون اعظم فى النفوس بالعلم وأهيب فى القلوب بالجسم وكان اطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى ان الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره رد عليهم ذلك اولا بان ملاك الامر هو اصطفاء الله وقد اختاره عليكم وهو اعلم بالمصالح منكم وثانيا بان العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة امور السياسة وجسامة البدن ليعظم خطره فى القلوب ويقدر على مقاومة الاعداء ومكابدة الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر { والله يؤتى ملكه من يشاء } لما انه مالك الملك والملكوت فعال لما يريد فله ان يؤتيه من يشاء من عباده { والله واسع } يوسع على الفقير ويغنيه { عليم } بمن يليق بالملك ممن لا يليق به
وفى التأويلات النجمية انما حرم بنوا اسرائيل من الملك لانهم كانوا معجبين بانفسهم متكبرين على طالوت ناظرين اليه بنظر الحقارة من عجبهم قالوا ونحن احق بالملك منه ومن تكبرهم عليه قالوا أنى يكون له الملك علينا ومن تحقيرهم اياه قالوا ولم يؤت سعة من المال فلما تكبروا وضعهم الله وحرموا من الملك : قال السعدى قدس سره(2/30)
يكى قطره باران زابرى جكيد ... خجل شد جوبهناى دريا بديد
كه جايى كه درياست من كيستم ... كر اوهست حقا كه من نيستم
جو خودرا بجشم حقارت بديد ... صدف در كنارش بجان بروريد
سبهرش بجابى رسانيد كار ... كه شد نامور لؤلؤى شاهوار
بلندى ازان يافت كويست شد ... درنيستى كوفت تاهست شد
ومن بلاغات الزمخشرى كم يحدث بين الخبيثين ابن لا يعابن والفرث والدم يخرج من بينهما اللبن يعنى حدوثا كثيرا يحدث بين الزوجين الخبيثين ابن طيب لا يعاب بين الناس ولا يذكر بقبيح وهذا غير مستبعد لان اللبن يخرج من بين السرجين والدم وهما مع كونهما مستقذرين لا يؤثران فى اللبن بشىء من طعمهما ولونهما بل يحدث اللبن من بينهما لطيفا نظيفا سائغا للشاربين . قالوا يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغى احدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله . قيل اذا اكلت البهيمة العلف فاستقر فى كرشها وهو من الحيوان بمنزلة المعدة من الانسان طبخته فكان اسفله فرثا واوسطه مادة اللبن واعلاه مادة الدم والكبد مسلطة على هذه الاصناف الثلاثة تقسمها فتجرى الدم فى العروق واللبن فى الضروع وتبقى الفرث فى الكرش فسبحان الله ما اعظم قدرته وألطف حكمته لمن تأمل والانسان له استعداد الصلاح والفساد فتارة يظهر فى الاولاد الصلاح المبطون فى الآباء وتارة يكون الامر بالعكس وامر الايجاد يدور على الاظهار والابطان فانظر الى آدم وابنيه قابيل وهابيل ثم وثم الى انتهاء الزمان . والحاصل ان طالوت ولو كان اخس الناس عند بنى اسرائيل لكنه عظيم شريف عند الله لما ان النظر الآلهى اذا تعلق بحجر يجعله جوهرا وبشوك يجعله وردا وريحانا فلا معترض لحكمه ولا راد لقضائه فالوضيع من وضعه الله وان وان كان قد رفعه الناس والرفيع من رفعه الله وان كان قد وضعه الناس . والعاقل اذا تأمل امثال هذا يجد من نفسه الانصاف والسكوت وتفويض الامر الى الحى الذى لا يموت والله يقول الحق وهو يهدى السبيل(2/31)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{ وقال لهم نبيهم } طلبوا علامة من نبيهم على كون طالوت ملكا عليهم فقالوا ما آية ملكه فقال { ان آية ملكه } اى علامة سلطنته { ان يأتيكم التابوت } من التوب وهو الرجوع وسمى تابوتا لانه ظرف توضع فيه الاشياء وتودع فلا يزال يرجع اليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع اليه فيما يحتاج اليه من مودعاته والمراد به صندوق التوراة وكان قد رفعه الله بعد وفاة موسى عليه السلام سخطا على بنى اسرائيل لما لما عصوا واعتدوا فلما طلب القوم من نبيهم آية تدله على ملك طالوت قال لهم ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت من السماء والملائكة يحفظونه فاتاهم كما وصف والقوم ينظرون اليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضى الله عنهما . وقال ارباب الاخبار ان الله تعالى انزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه تماثيل الانبياء عليهم السلام من اولاده وكان من عود الشمشار ونحوا من ثلاثة اذرع فى ذراعين فكان عند آدم عليه السلام الى ان توفى فتوارثه اولاده واحد بعد واحد الى ان وصل الى يعقوب عليه السلام ثم بقى فى ايدى بنى اسرائيل الى ان وصل الى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه وكان اذا قاتل قدمه فكانت تسكن اليه نفوس بنى اسرائيل وكان عنده الى ان توفى ثم تداولته ايدى بنى اسرائيل وكانوا اذا اختلفوا فى شىء تحاكموا اليه فيكلمهم ويحكم بينهم وكانوا اذا حضروا القتال يقدمونه بين ايديهم ويستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ثم يقاتلون العدو فاذا سمعوا فى التابوت صيحة استيقنوا النصر فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه فى موضع البول والغائط فلما اراد الله ان يملك طالوت سلط الله عليهم البلاء حتى ان كل من بال عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلم الكفار ان ذلك سبب استهانتهم بالتابوت فاخرجوه وجعلوه على عجلة وعقلوها على ثورين فاقبل الثوران يسيران وقد وكل الله بهما اربعة من الملائكة يسوقونهما حتى اتيا منزل طالوت فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال لهم النبى ان آية ملكه انكم تجدون التابوت فى داره فلما وجدوه عنده ايقنوا بملكه فالاتيان على هذا مجاز لانه اتى به ولم يأت هو بنفسه فنسب الاتيان اليه توسعا كما يقال ربحت التجارة وعلى الوجه الاول حقيقة { فيه } اى فى اتيان التابوت { سكينة من ربهم } اى سكون لكم وطمأنينة كائنة من ربكم او الضمير للتابوت
قال بعض المحققين السكينة تطلق على ثلاثة اشياء بالاشتراك اللفظى . اولها ما اعطى بنوا اسرائيل فى التابوت كما قال تعالى { ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم } قال المفسرون هى ريح ساكنة طيبة تخلع قلب العدو بصوتها رعبا اذا التقى الصفان وهى معجزة لانبيائهم وكرامة لملوكهم .(2/32)
والثانية شىء من لطائف صنع الحق يلقى على لسان المحدث الحكمة كما يلقى الملك الوحى على قلوب الانبياء مع ترويح الاسرار وكشف السر . والثالثة هى التى انزلت على قلب النبى عليه السلام وقلوب المؤمنين وهى شىء يجمع نورا وقوة وروحا يسكن اليه الخائف ويتسلى به الحزين كما قال تعالى { فانزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } وقال بعضهم التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والاخلاص وذكر الله الذى تطمئن اليه القلوب واتيانه تصيير قلبه مقر العلم والوقار بعد ان لم يكن كذلك { وبقية } كائنة { مما } من للتبعيض { ترك آل موسى وآل هرون } هما رضاض الالواح وعصا موسى من آس الجنة وثيابه ونعلاه وعمامة هارون وشىء من التوراة وخاتم سليمان وقفيز من المن وهو الترنجبين الذى كان ينزل على بنى اسرائيل ويأكلونه فى ارض التيه . وآلهما انفسهما والآل مقحم او انباؤهما او اتباعهما { تحمله الملائكة } حال من التابوت اى ان آية ملكه اتيانه حال كونه محمولا للملائكة او استئناف كأنه قيل كيف يأتى فقيل تحمله الملائكة ثم ان التابوت لم تحمله الملائكة فى الروايتين بل نزل من السماء الى الارض بنفسه والملائكة كانوا يحفظونه فى الرواية الاولى واتى به على العجلة وعلى الثورين بسوق الملائكة على الرواية الاخيرة وانما اضيف الحمل فى القولين جميعا الى الملائكة لان من حفظ شيأ فى الطريق جاز ان يوصف بانه حمل ذلك الشىء وان لم يحمله بل كان الحامل غيره كما يقول القائل حملت الامتعة الى زيد اذا حفظها فى الطريق وان كان الحامل غيره { ان فى ذلك } يحتمل ان يكون من تمام كلام النبى وان يكون ابتداء خطاب من الله اى فى رد التابوت ايها الفريق { لآية } عظيمة { لكم } دالة على ملك طالوت وصدق قول نبيكم فى ان الله جعله ملكا فانه امر مناقض للعادة { ان كنتم مؤمنين } مصدقين بالله فصدقوا بتمليكه عليكم
وفى الآية اشارة الى ان آية ملك الخلافة للعبد ان يظفر بتابوت قلب فيه سكينة من ربه وهى الطمأنينة بالايمان والانس مع الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون وهى عصا الذكر كلمة لا اله الا الله وهى كلمة التقوى وهى الحية التى اذا فتحت فاها تلقف سحرة صفات فرعون النفس فعصا ذكر الله فى تابوت القلوب وقد اودعها الله بين اصبعى جماله وجلاله كما قال عليه السلام « قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن » فبصفة الجلال يلهمها فجورها وبصفة الاكرام يلهمها تقواها كما قال تعالى(2/33)
{ فالهمها فجورها وتقواها } ولم يستودعها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا فشتان بين امة سكينتهم فيما للاعداء عليه تسلط وبين امة سكينتهم فيما ليس للاولياء ولا للانبياء عليه ولاية وان كان فى ذلك التابوت بعض التوراة موضوعا ففى تابوت قلوب هذه الامة جميع القرآن محفوظ وان كان فى تابوتهم بيوت فيها صور الانبياء ففى تابوت قلوبهم خلوات ليس فيها معهم غير الله كما قال « لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن » فاذا تيسر لطالوت روح الانسان ان يؤتى تابوت القلب الربانى فسلم ملك الخلافة وسرير السلطنة واستوثق عليه جميع اسباط الصفات الانسانى فلا يركن الى الدنيا الغدارة المكارة بل يتهجر منها ويتبرز لقتال جالوت النفس الامارة وهذا لا يتيسر الا بفضل الله واخذ الطريقة والتمسك بالحقيقة
ره اينست روى از طريقت متاب ... بنه كام وكامى كه خواهى بياب
ومن اراد ان يزداد سكينة فليصل الى المعرفة فان المعرفة الآلهية توجب السكينة فى القلب كما ان القلب يوجب السكون وسئل ابو يزيد عن المعرفة فقال { ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة } اى غيروا حالها عما هى عليه وكذلك اذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة اخرجت منها كل صفة رديئة . وقيل لابى يزيد بم وجدت هذه المعرفة فقال ببطن جائع وبدن عار : قال السعدى قدس سره
باندازه خور زاد اكر مردمى ... جنين برشكم آدمى يا خمى
تدارند تن بروران آكهى ... كه بر معده باشدز حكمت تهى
اللهم احفظنا من الموانع فى طريق الوصول اليك آمين آمين(2/34)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{ فلما فصل طالوت بالجنود } الاصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة اللازم كانفصل والمعنى انفصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة . والجنود جمع جند وهو الجيش الاشداء مأخوذ من الجند وهى الارض الشديدة وكل صنف من الخلق جند على حدة روى انهم لما رأوا التابوت لم يشكوا فى النصر فتسارعوا الى الجهاد فقال طالوت لا يخرج معى شيخ ولا مريض ولا رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا ابتغى الا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع اليه ممن اختاره ثمانون الفا وكان الوقت قيظا اى شديد الحر وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء وسألوا ان يجرى الله لهم نهرا { قال } اى طالوت باخبار من النبى اشمويل { ان الله مبتليكم بنهر } اى معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه وذلك الاختبار ليظهره عند طالوت من كان مخلصا فى نيته من غيره ليميزهم من العسكر لان من لا يريد القتال اذا خالط عسكرا يدخل الضعف فى العسكر فينهزمون بشؤمه
آنكه جنك آرد بخون خويش بازى ميكند ... روز ميدان آنكه بكريزد بخون لشكرى
فميز بينهما كالذهب والفضة فيهما الخبث فميز الخالص من غيره بالنار { فمن شرب منه } اى ابتدأ شربه من ماء النهر بان كرع وهو تناول الماء بفيه من موضعه من غير ان يشرب بكفيه ولا بآناء { فليس منى } اى من جملتى واشياعى المؤمنين فمن للتبعيض دخلت على نفس المتكلم للاشعار بان اصحابه لقوة اختصاصهم واتصالهم به كأنهم بعضه او ليس بمتحد معى فمن اتصالية كما فى قوله تعالى { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } اى بعضهم متصل بالبعض الآخر ومتحد معه { ومن لم يطعمه } الطعم هنا بمعنى الذوق وهو التناول من الشىء تناولا قليلا يقال طعم الشىء اذا ذاقه مأكولا او مشروبا { فانه منى } اى من اهل دينى { الا من اغترف غرفة بيده } استثناء من قوله فمن شرب واعتراض الجملة الثانية وهو ومن لم يطعمه للعناية بها لان عدم الذوق منه رأسا عزيمة والاغتراف رخصة وبيان حال الاخذ بالعزيمة اهم من بيان الاخذ بالرخصة . والغرفة بالضم اسم للقدر الحاصل فى الكف بالاغتراف والغرف اخذ ماء بآلة كالكف وهو فى الاصل القطع والغرفة التى هى العلية قطعة من البناء والباء متعلقة باغترف
قال ابن عباس رضى الله عنهما كانت الغرفة الواحدة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها
قال الامام وهذا يحتمل وجهين . احدهما انه كان مأذونا له ان يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة او جرة بحيث كان المأخوذ فى المرة الواحدة يكيفه ودوابه وخدمه ويحمل باقيه .(2/35)
وثانيهما انه كان يأخذ القليل فيجعل الله فيه البركة حتى يكفى كل هؤلاء فيكون معجزة لنبى ذلك الزمان كما انه تعالى يروى الخلق الكثير من الماء القليل فى زمن محمد صلى الله عليه وسلم { فشربوا منه } اى فانتهوا الى النهر وابتلوا به وكرعوا فيه كروعا مثل الدواب ولم يقنعوا بالاغتراف فضلا عن ان لا يذوقوا منه شيأ { الا قليلا منهم } وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على عدد اهل بدر فانهم اغترفوا فشربوا بالاكف ورووا واما الذين خالفوا فشربوا كرعا فازدادوا عطشا واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فعرف طالوت الموافق من المخالف فخلف الاشداء
نه بى حكم شرع آب خوردن خطاست ... وكر خون بفتوى بريزى رواست
ولما ردوا بالخلاف فى صفة شرب ماء اصله حلال لكن على صفة مخصوصة وهلكوا بعد الرد فما حال من تناول الحرام المحض فى الطعام والشراب كيف يقبل ويسلم . ثم انه لا خلاف بين المفسرين فى ان الذين عصوا رجعوا الى بلدهم والصحيح انهم لم يجاوزوا النهر وانما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى { فلما جاوزه } اى النهر { هو } اى طالوت { والذين آمنوا } وهم القليل الذين اطاعوه ولم يخالفوه فيما ندبهم اليه . وفيه اشارة الى ان من عداهم بمعزل من الايمان { معه } اى مع طالوت متعلق بجاوز لا بآمنوا { قالوا } اى بعض من معه من المؤمنين القليلين لبعض آخر منهم وهم الذين يظنون الآية فالمؤمنون الذين جاوز النهر صاروا فريقين فريقا يحب الحياة وكيره الموت وكان الخوف والجزع غالبا على طبعه وفريقا كان شجاعا قوى القلب لا يبالى بالموت فى طاعة الله تعالى . والقسم الاول هم الذين قالوا { لا طاقة } قوة { لنا اليوم بجالوت وجنوده } اى بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن ان يكون لنا غلبة عليهم وذلك لما شاهدوا منهم من الكثرة والقوة وكانوا مائة الف مقاتل شاكى السلاح . والقسم الثانى هم الذين اجابوهم بقولهم كم من فئة الآية { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم مخاطبهم فقيل قال { الذين يظنون انهم ملاقوا } نصر { الله } العزيز وتأييده { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } اى كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة . والفئة اسم للجماعة من الناس قلت او كثرت { باذن الله } اى بحكمه وتيسيره فان دوران كافة الامور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وان قل عدده ولا يعز من خذله وان كثر اسبابه وعدده فنحن ايضا نغلب جالوت وجنوده { والله مع الصابرين } بالنصرة على العدو وبتوفيق الصبر عند الملاقاة
قال الراغب فى القصة ايماء ومثال للدنيا وابنائها وان من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا من تناول منها فوق ذلك ازداد عطشا ولهذا قيل الدنيا كالملح من ازداد منها عطش وفى الحديث(2/36)
« لو ان لابن آدم واديين من ذهب لابتغى اليهما ثالثا فلا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب » يعنى لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره الا من تاب فان الله يقبل التوبة من التائب عن حرصه المذموم وعن غيره من المذمات وههنا نكتة وهى ان فى ذكر ابن آدم دون الانسال تلويحا الى انه مخلوق من تراب ومن طبيعته القبض واليبس وازالته ممكنة بان يمطر الله عليه من غمام توفيقه فللعاقل ان لا يتعب نفسه فى جمع حطام الدنيا فان الرزق مقسوم اوحى الله الى داود
[ يا داود تريد واريد فان رضيت بما اريد كفيتك ما تريد وان لم ترض بما اريد اتعبك ثم لا يكون الا ما اريد ] فالناس مبتلون بنهر هو منهل الطبيعة الجسمانية فمن شرب منه مفرطا فى الرى منه بالحرص فليس من اهل الحقيقة لانه من اهل الطبيعة وعبدة الشهوات المشتغل بها عن الله الا من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن ومحبة الخلق على الاضطرار بمقدار القوام فانه من اولياء الله . والحاصل ان النهر هو الدنيا وزينتها ومن بقى على شطها واطمأن بها كثير ممن جاوزها ولم يلتفت اليها فان اهل الله اقل من القليل واهل الدنيا لا يحصى عددهم رزقنا الله واياكم القوة والقناعة ولم يفصلنا عن اهل السنة والجماعة روى انه عليه السلام قال فى وصيته لابى هريرة رضى الله عنه « عليك يا ابا هريرة بطريق اقوام اذا فزع الناس لم يفزعوا واذا طلب الناس الامان من النار لم يخافوا » قال ابو هريرة من هم يا رسول الله قال « قوم من امتى فى آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الانبياء اذا نظر اليهم الناس ظنوهم انبياء مما يرون من حالهم حتى اعرفهم انا فاقول امتى امتى فيعرف الخلائق انهم ليسوا انبياء فيمرون مثل البرق او الريح تغشى ابصارهم اهل الجمع من انوارهم » فقلت يا رسول الله مرنى بمثل عملهم لعلى الحق بهم فقال « يا ابا هريرة ركب القوم طريقا صعبا آثروا الجوع بعدما اشبعهم الله والعرى بعدما كساهم الله والعطش بعدما ارواهم الله تركوا ذلك رجاء ما عند الله تركوا الحلال مخافة حسابه صحبوا الدنيا بابدانهم ولم يشتغلوا بشىء منها عجبت الملائكة والانبياء من طاعتهم لربهم طوبى لهم وددت ان الله جمع بينى وبينهم » ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً اليهم ثم قال عليه السلام « اذا اراد الله باهل الارض عذابا فنظر اليهم صرف العذاب عنهم فعليك يا ابا هريرة بطريقهم » قال الشيخ العطار قدس الله سره
درراه تومر دانند ازخويش نهان مانده ... بى جسم وجهت كشته بى نام ونشان مانده
تنشان بشريعت هم دلشان بحقيقت هم ... هم دل شده وهم جان نه اين ونه آن مانده
عليهم سلام الله ورحمته وبركاته اللهم اجعلنا من اللاحقين بهم آمين آمين(2/37)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
{ ولما برزوا } اى ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا الى براز اى فضاء من الارض فى موطن الحرب { لجالوت وجنوده } وشاهدوا ما عليهم من العدد وايقنوا انهم غير مطيقين لهم عادة { قالوا } اى جميعا عند تقوى قلوب الفريق الاول منهم بقول الفريق الثانى متضرعين الى الله تعالى مستعينين به { ربنا } فى ندائهم بقولهم ربنا اعتراف منهم بالعبودية وطلب لاصلاحهم لان لفظ الرب يشعر بذلك دون غيره { أفرغ علينا } افراغ الاناء اخلاؤه مما فيه اى صب علينا وهو استعارة عن الاكمال والاكثار أتوا بلفظة على طلبا لان يكون الصبر مستعليا عليهم وشاملا لهم كالظرف للمظروف { صبرا } على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الضيقة { وثبت اقدامنا } وهب لنا ما نثبت به فى مداحض القتال ومزال النزال من قوة القلوب والقاء الرعب فى قلوب العدو ونحو ذلك من الاسباب فالمراد بثبات القدم كمال القوة والرسوخ عند المقارنة وعدم التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرر فى حيز واحد { وانصرنا على القوم الكافرين } بقهرهم وهزمهم ولقد راعوا فى الدعاء ترتيبا بليغا حيث قدموا سؤال افراغ الصبر على قلوبهم الذى هو ملاك الامر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر على العدو الذى هو الغاية القصوى(2/38)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{ فهزموهم } اى كسروهم بلا مكث { باذن الله } اى بنصره وتأييده اجابة لدعائهم { وقتل داود جالوت } كان جالوت الجبار رأس العمالقة وملكهم وكان من اولاد عمليق بن عاد وكان من اشد الناس واقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد وكان ظله ميلا لطول قامته وكان ايشى ابو داود عليه السلام فى جملة من عبر النهر مع طالوت وكان معه سبعة من ابنائه وكان داود اصغرهم يرعى الغنم فاوحى الى نبى العسكر وهو اشمويل ان داود بن ايشى هو الذى يقتل جالوت فطلبه من الله فجاء به فقال النبى اشمويل لقد جعل الله تعالى قتل جالوت على يدك فاخرج معنا الى محاربته فخرج معهم فمر داود عليه السلام فى الطريق بحجر فناداه يا داود احملنى فانى حجر هارون الذى قتل بى ملك كذا فحمله فى مخلاته ثم بحجر آخر فقال له احملنى فانىحجر موسى الذى قتل بى كذا وكذا فحمهل فى مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال له احملنى فان حجر الذى تقتل بى جالوت فوضعه فى مخلاته وكان من عادته رمى القذافة وكان لا يرمى بقذافته شيأ من الذئب والاسد والنمر الا صرعه واهلكه فما تصاف العسكران للقتال برز جالوت الجبار الى البراز وسأل من يخرج اليه فلم يخرج اليه احد فقال يا بنى اسرائيل لو كنتم على حق لبارزنى بعضكم فقال داود لاخوته من يخرج الى هذا الاقلف فسكتوا فالتمس منه طالوت ان يخرج اليه ووعده ان يزوجه ابنته ويعطيه نصف ملكه ويجرى له خاتمه فيه لما توجه داود نحوه اعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس فسار قريبا ثم انصرف الى الملك فقال من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال ما شأنك فقال ان الله تعالى ان لم ينصرنى لم يغن عنى هذا السلاح شيأ فدعنى اقاتل كما اريد قال نعم فاخذ داود مخلاته فتقلدها واخذ المقلاع ومضى نحو جالوت روى انه لما نظر جالوت الى داود قذف فى قلبه الرعب فقال يا فتى ارجع فانى ارحمك ان اقتلك قال داود بل انا اقتلك قال ائتنى بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب قال نعم انت شر من الكلب قال جالوت لا جرم لاقسمن لحمك بين سباع الارض وطير السماء قال داود بل يقسم الله لحمك فقال باسم اله ابراهيم واخرج حجرا ثم اخرج الآخر وقال باسم اله اسحق ثم اخرج الثالث وقال باسم اله يعقوب فوضع الاحجار الثلاثة فى مقلاعه فصارت كلها حجرا واحدا ودور المقلاع ورمى به فسخر الله له الريح حتى اصاب الحجر انف البيضة وخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا وهزم الله الجيش وخرّ جالوت قتيلا فاخذ داود يجره حتى القاه بين يدى طالوت ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا الى المدينة سالمين فزوجه طالوت ابنته واجرى خاتمه فى نصف مملكته فمال الناس الى داود واحبوه واكثروا ذكره فحسده طالوت واراد قتله فتنبه له داود وهرب منه فسلط طالوت عليه العيون وطلبه اشد الطلب فلم يقدر عليه وانطلق داود الى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه دهرا طويلا فاخذ العلماء والعباد ينهون طالوت فى شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه احد عن قتل داود الا قتله فاكثر فى قتل العلماء الناصحين فلم يكن يقدر على عالم فى بنى اسرائيل يطيق قتله الا قتله ثم ندم على ما فعله من المعاصى والمنكرات واقبل على البكاء ليلا ونهارا حتى رحمه الناس وكان كل ليلة يخرج الى القبور فيبكى وينادى حم الله عبدا يعلم ان لى توبة الا اخبرنى بها فلما اكثر التضرع والالحاح عليهم رق له بعض خواصه فقال له ان دللتك ايها الملك لعلك ان تقتله فقال لا والله بل اكرمه اتم الاكرام وانقاد الى حكمه واخذ مواثيق الملك وعهوده على ذلك فذهب به الى باب امرأة تعلم اسم الله الاعظم فلما لقيها قبل الارض بين يديها وسألها هل من توبة فقالت لا والله لا اعلم لك من توبة ولكن هل تعلم مكان قبر نبى فانطلق بها الى قبر اشمويل فصلت ودعت ثم نادت صاحب القبر فخرج اشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر اليهم سألهم وقال مالكم أقامت القيامة قالت لا ولكن طالوت يسأل هل له من توبة قال اشمويل يا طالوت ما فعلت بعدى قال لم ادع من الشر شيأ الا فعلته وجئت لطلب التوبة قال كم لك من الولد قال عشرة رجال قال لا اعلم لك من التوبة الا ان تتخلى من ملكك وتخرج انت وولدك فى سبيل الله ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل انت فتقتل آخرهم ثم رجع اشمويل الى القبر وسقط ميتا ورجع طالوت ففعل ما امر به حتى قتل فجاء قاتله الى داود ليبشره وقال قتلت عدوك فقال داود ما انت بالذى تحيى بعده فضرب عنقه فكان ملك طالوت الى ان قتل اربعين سنة واتى بنوا اسرائيل بداود واعطوه خزائن طالوت وملكوه على انفسهم وملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة { وآتاه الله الملك } اى ملك بنى اسرائيل فى مشارق الارض المقدسة ومغاربها ولم يجتمعوا قبل داود على ملك { والحكمة } اى النبوة ولم يجتمع فى بنى اسرائيل الملك والنبوة قبله الا له بل كان الملك فى سبط والنبوة فى سبط آخر وانزل عليه الزبور اربعمائة وعشرين سورة وهو اول من تكلم باما بعد وهو فصل الخطاب الذى اوتيه داود عليه السلام { وعلمه مما يشاء } اى مما يشاء الله تعليمه اياه من صنعة الدروع بألانة الحديد وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل الا من عمل يده ومنطق الطير وتسبيح الجبال وكلام الحكل والنمل والصوت الطيب والالحان الطيبة فلم يعط الله احدا مثل صوته وكان اذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ باعناقها وتطلبه الطير مصيخة له ويركد الماء الجارى وتسكن الريح { ولولا دفع الله } المصدر مضاف الى فاعله اى صرفه { الناس } مفعول الدفع { بعضهم } الذين يباشرون الشر والفساد وهو بدل من الناس بدل البعض من كل { ببعض } آخر منهم بردهم عما هم عليه بما قدر الله من القتل كما فى القصة المحكية وغيره وهو متعلق بالمصدر { لفسدت الارض } وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الارض ويصلحها(2/39)
وقيل لولا دفع الله بالمؤمنين والابرار عن الكفار والفجار لهلكت الارض ومن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة اهل بيت جيرانه البلاء » ثم قرأ { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } ثم ان فيه تنبيها على فضيلة الملك وانه لولاه لما انتظم امر العالم . ولهذا قيل الدين والملك توأمان ففى ارتفاع احدهما ارتفاع الآخر لان الدين اساس والملك حارس ومالا اس له فمهدوم ومالا حارس له فضائع والناس قد لا ينقادون للرسل تحت الرياسة مع ظهور الحجج فاحتيج الى المجاهدة باللسان والسيف وذلك يكون من الانبياء ومن يتابعهم ثم لهم آجال مضروبة عندها فوجب ان يكون لهم خلفاء بعدهم من كل عصر فى اقامة الدين والجهاد فهذا دفع الله الناس بعضهم ببعض . وتفصيله ان دفع الله الناس بعضهم ببعض على وجهين دفع ظاهر ودفع خفى . فالظاهر ما كان بالسواس الاربعة الانبياء والملوك والحكماء المعنيي بقوله { ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا } والوعاظ . فسلطان الانبياء عليه السلام على الكافة خاصهم وعامهم ظاهرهم وباطنهم وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون البواطن كما قيل نحن ملوك ابدانهم لا ملوك اديانهم وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة وسلطان الوعاظ بواطن العامة . واما الدفع الخفى فسلطان العقل يدفع عن كثير من القبائح وهو السبب فى التزام سلطان الظاهر { ولكن الله ذو فضل } عظيم لا يقادر قدره { على العالمين } كافة يعنى لكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الارض وتنتظم به مصالح العامة وتنصلح احوال الامم . ففضله تعالى يعم العوالم كلها اما فى عالم الدنيا فبهداية طريق الرشد والصلاح واما فى الآخرة فبالجنات والدرجات والنجاة والفلاح ومن جملة فضله تعالى على العالمين دفع البليات عن بعض عباده بلا واسطة كالانبياء وكمل الاولياء ومن اقتفى اثرهم من اهل اليقين(2/40)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{ تلك } اشارة الى ما سلف من حديث الالوف وتمليك طالوت واتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داود جالوت { آيات الله } المنزلة من عنه { نتلوها عليك } اى بواسطة جبريل { بالحق } حال من مفعول نتلوها اى ملتبسة بالوجه المطابق الذى لا يشك فيه اهل الكتاب وارباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما فى كتبهم { وانك لمن المرسلين } اى من جملة الذين ارسلوا الى الامم لتبليغ رسالتنا واجراء اوامرنا واحكامنا عليهم والا لما اخبرت بتلك الآيات من غير تعرف ولا استماع والتأكيد لرد قول الكفار لست رسولا قال بعضهم
ألا اى احمد مرسل شودهر مشكل ازتوحل ... كنم وصف ترا مجمل تويى سلطان هرمولى
شريعت ازتوروشن طريقت هم مبرهن شد ... حقيقت خود معين شد زهى سلطان بى همتا
والاشارة ان المجاهد مع جالوت النفس الامارة لا يقوم بحوله وقوته حتى يرجع الى ربه مستعينا { ربنا افرغ علينا صبرا } على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك { وثبت اقدامنا } فى التسليم عند الشدة والرخاء وهجوم احكام القضاء فى السراء والضراء { وانصرنا على القوم الكافرين } وهم اعداؤنا فى الدين عموما والنفس الامارة التى هى اعدى عدونا بين جنبينا خصوصا اذا كان الالتجاء عن صدق الرجاء برب الارض والسماء يكون مقرونا باجابة الدعاء والظفر على الاعداء { فهزموهم باذن الله } بنصرة الله فانه الذى صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده { وقتل داود } القلب { جالوت } النفس اذا اخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون الى العقبى وحجر تعلقه الى نفسه بالهوى حتى صارت الثلاثة حجرا واحدا وهو الالتفات الى غير المولى فوضعه فى مقلاع التسليم والرضى فرمى به جالوت النفس وسخر الله له ريح العناية حتى اصاب انف بيضة هواها فاخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها واخلاقها وهزم الله باقى جيشها وهو الشياطين واحزابها { وآتاه الله الملك والحكمة } يعنى آتى داود القلب ملك الخلافة وحكمة الالهامات الربانية { وعلمه مما يشاء } من حقائق القرآن واسراره واشاراته { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } يعنى ارباب الطلب بالمشايخ الواصلين { لفسدت الارض } ارض استعدادهم المخلوقة فى احسن التقويم لتشمير كمالات الدين القويم عن استيلاء جالوت النفس وجنود صفاتها فى تخريب بلاد الارواح بتبديل اخلاقها وتكدير صفاء ذواتها وترديدها الى جحيم صفات البهائم والانعام واسفل دركاتها { ولكن الله ذو فضل على العالمين } يعنى من كمال فضله ورحمته يحرك سلسلة طلب الطالبين ويلهم اسرارهم بارادة المشايخ الكاملين ويوفقهم للتمسك بذيول تربيتهم والتسليم تحت تصرفاتهم فى تنقيتهم ويثبتهم بالصبر والسكون على الرياضات والمجاهدات فى حال تزكيتهم ويشير الى المشايخ بقبولهم والاقبال عليهم ويقويهم على شدائد المخالفات فلو لم تكن هذه الالطاف من الله ما تيسر لهم تزكية نفوسهم ابدا فهذه اشارة لا تتحقق الا لاهل الخير ولهذا خص الله حبيبه بتحقيقها وتحققها بقوله { تلك آيات الله } يعنى فى ضمن هذه الآيات حقائق ودقائق { نتلوها عليك } اى نجلوها لديك { بالحق } اى بالحقيقة كما هى { وانك لمن المرسلين } الذين عبروا على هذه المقامات وشاهدوا هذه الاحوال والكرامات كذا فى التأويلات النجمية(2/41)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{ تلك الرسل } اشارة الى الجماعة الذين من جملتهم النبى عليه الصلاة والسلام فاللام فى الرسل للاستغراق { فضلنا بعضهم على بعض } بان خصصناه بمنقبة ليست لغيره
واعلم ان الانبياء كلهم متساوون فى النبوة لان النبوة شىء واحد لا تفاضل فيها وانما التفاضل باعتبار الدرجات . بلغ بعضهم منصب الخلة كابراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يحصل ذلك لغيره . وجمع لداود بين الملك والنبوة وطيب النعمة ولم يحصل هذا لغيره . وسخر لسليمان الجن والانس والطير والريح ولم يحصل هذا لابيه داود . وخص محمدا عليه وعليهم السلام بكونه مبعوثا الى الجن والانس وبكون شرعه ناسخا لجميع الشرائع المتقدمة . ومنهم من دعا امته بالفعل الى توحيد الافعال وبالقوة الى الصفات والذات ومنهم من دعا بالفعل الى الصفات ايضا وبالقوة الى الذات . ومنهم من دعا الى الذات ايضا بالفعل وهو ابراهيم عليه السلام فانه قطب التوحيد اذ الانبياء كانوا يدعون الى المبدأ والمعاد والى الذات الاحدية الموصوفة ببعض الصفات الآلهية الا ابراهيم عليه السلام فانه دعا الى الذات الآلهية الاحدية ولذا امر الله نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم باتباعه بقوله « ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا » فهو من اتباع ابراهيم باعتبار الجمع دون التفصيل اذ لا متمم لتفاصيل الصفات الا هو ولذلك لم يكن غيره خاتما فالانبياء وان كانوا متفاوتين فى درجات الدعوة بحسب مشارب الامم الا ان كلهم واصلون فانون فى الله باقون بالله لان الولاية قبل النبوة حيث ان آخر درجات الولاية اول مقامات النبوة فهى تبتنى على الولاية ومعنى الولاية الفناء فى الله والبقاء بالله فالنبى لا يكون الا واصلا محرزا جميع مراتب التوحيد من الافعال والصفات والذات { منهم من كلم الله } اى فضله الله بان كلمه بغير واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام فهو كليمه بمعنى مكالمه
واختلفوا فى الكلام الذى سمعه موسى وغيره من الله تعالى هل هو الكلام القديم الازلى الذى ليس من جنس الحروف والاصوات . قال الاشعرى واتباعه المسموع هو ذلك الكلام الازلى قالوا كما انه لم تمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف . وقيل سماع ذلك الكلام محال وانما المسموع هو الحروف والصوت { ورفع بعضهم درجات } اى على درجات فانتصابه على نزع الخافض وذلك بان فضله على غيره من وجوه متعددة او بمراتب متباعدة والظاهر انه اراد محمدا صلى الله عليه وسلم لانه هو المفضل عليهم حيث اوتى ما لم يؤته احد من الآيات المتكاثرة المرتقية الى ثلاثة آلاف آية واكثر ولو لم يؤت الا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما اوتى الانبياء لانه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات .(2/42)
وفى الحديث « فضلت على الانبياء بست اوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب واحلت لى الغنائم وجعلت لى الارض مسجدا وطهورا وارسلت الى الخلق كافة وختم بى النبيون »
قال فى التأويلات النجمية اعلم ان فضل كل صاحب فضل يكون على قدر استعلاء ضوء نوره لان الرفعة فى الدرجات على قدر رفعة الاستعلاء كما قال تعالى { والذين اوتوا العلم درجات } فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلما ازداد العلم زادت الدرجة فناهيك عن هذا المعنى قول النبى عليه السلام فيما يخبر عن المعراج انه رأى آدم فى السماء الدنيا ويحيى وعيسى فى السماء الثانية ويوسف فى السماء الثالثة وادريس فى السماء الرابعة وهارون فى السماء الخامسة وموسى فى السماء السادسة وابراهيم فى السماء السابعة وعبر النبى عليه السلام حتى رفع الى سدرة المنتهى ومن ثم الى قاب قوسين او ادنى فهذه الرفعة فى الدرجة فى القرب الى الحضرة كانت له على قدر قوة ذلك النور فى استعلاء ضوئه وعلى قدر غلبات انوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الانبياء بعضهم فوق بعض فلما غلب نور الوحدانية على ظلمة انسانية النبى عليه السلام اضمحلت وتلاشت وفنيت ظلمة وجوده بسطوات تجلى صفات الجمال والجلال فكل نبى بقدر بقية ظلمة وجوده بقى فى مكان من اماكن السموات فانه صلى الله تعالى عليه وسلم ما بقى فى مكان ولا فى الامكان لانه كان فانيا عن ظلمة وجوده باقيا بنور وجوده ولهذا سماه الله نورا وقال { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } فالنور هو محمد عليه السلام والكتاب هو القرآن فافهم واغتنم فانك لا تجد هذه المعانى الا ههنا انتهى كلام التأويلات النجمية { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من احياء الموتى وشفاء المرضى وابراء الاكمه والابرص وخلق الطير من الطين والخبار بالمغيبات والانجيل وجعل معجزاته سبب تفضيله مع ان ايتاء البينات غير مختص بعيسى عليه الصلاة والسلام لانها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره وخص عيسى عليه السلام بالتعيين مع انه غير مختص بايتاء البينات تقبيحا لافراط اليهود فى تحقيره حيث انكروا نبوته مع ما ظهر على يده من البينات القاطعة الدالة عليها ولافراط النصارى فى تعظيمه حيث اخرجوه عن مرتبة الرسالة { وايدناه } اى قويناه { بروح القدس } اى الروح المطهرة التى نفحها الله فيه فأبانه بها من غيره ممن خلق من اجتماع نطفتى الذكر والانثى لانه عليه السلام لم تضمه اصلاب الفحول ولم يشتمل عليه ارحام الطوامث . فالقدس بمعنى المقدس من قبيل رجل صدق او القدس هو الله وروحه جبريل والاضافة للتشريف والمعنى اعانه بجبريل فى اول امره وفى وسطه وفى آخره اما فى الاول من امره فلقوله(2/43)
{ فنفخنا فيه من روحنا } واما فى وسطه فلان جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الاعداء واما فى آخر الامر فحين ارادت اليهود قتله اعانه جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الاعداء واما فى آخر الامر فحين ارادت اليهود قتله اعانه جبريل ورفعه الى السماء { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } اى من بعد الرسل من الامم المختلفة اى لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بان جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق { من } متعلقة باقتتل { بعد ما جاءتهم } من جهة اولئك الرسل { البينات } المعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على حقيقة الحق الموجبة لاتباعهم الزاجرة عن الاعراض عن سننهم المؤدى الى القتال { ولكن اختلفوا } اى لكن لم يشأ عدم اقتتالهم لانهم اختلفوا اختلافا فاحشا { فمنهم من آمن } اى بما جاءت به اولئك الرسل من البينات وعملوا به { ومنهم من كفر } بذلك كفرا لا ارعواء له فاقتضت الحكمة عدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب اقتضاء احوالهم { ولو شاء الله } عدم اقتتالهم بعد هذه المرة ايضا من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة { ما اقتتلوا } وما نبض منهم عرق التطاول والتعاون لما ان الكل تحت ملكوته { ولكن الله يفعل ما يريد } اى من الامور الوجودية والعدمية التى من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فان الترك ايضا من جملة الافعال اى يفعل ما يريد حسبما يريد من غير ان يوجبه عليه موجب او يمنعه منه مانع . وفيه دليل بين على ان الحوادث تابعة لمشيئته تعالى خيرا كان او شرا ايمانا كان او كفرا وهذا نذير على المعتزلة
قال الامام الغزالى قدس سره المتعالى فى شرح اسمى الضار والنافع هو الذى يصدر منه الخير والشر والنفع والضر وكل ذلك منسوب الى الله تعالى اما بواسطة الملائكة والانس والجمادات او بغير واسطة فلا تظنن ان السم يقتل ويضر بنفسه وان الطعام يشبع وينفع بنفسه وان الملك او الانسان او الشيطان او شيأ من المخلوقات من فلك الكواكب او غيرها يقدر على خير او شر بنفسه او نفع او ضر بل كل ذلك اسباب مسخرة لا يصدر منها الا ما سخرت له وجملة ذلك بالاضافة الى القدرة الازلية كالقلم بالاضافة الى الكاتب فى اعتقاد العامى وكما ان السلطان اذا وقع لكرامة او عقوبة لم يضر ذلك ولا نفعه من القلم بل من الذى القلم مسخر له فكذلك سائر الوسائط والاسباب وانما قلنا فى اعتقاد العامى لان الجاهل هو الذى يرى القلم مسخرا للكاتب والعارف يعلم انه مسخر فى يده لله تعالى وهو الذى الكاتب مسخر له فانه مهما خلق الكاتب وخلق له القدرة وسلط عليه الداعية الجازمة التى لا تردد فيها صدر منه حركة الاصبع والقلم لا محالة شاء ام ابى بل لا يمكنه ان لا يشاء فاذا الكاتب بقلم الانسان ويده هو الله تعالى واذا عرفت هذا فى الحيوان المختار فهو فى الجمادات اظهر
قال صاحب روضة الاخيار المؤثر هو الله تعالى والكواكب اسباب عادية الشمس مظهر اسم الحى والزهرة للمريد وعطارد للمسقط والقمر للقابل ولذا كان بيت العزة فى ملكه والمريخ للقادر والمشترى للعليم وزحل للجواد واصول الاسماء اربعة هى الحياة والعلم والقدرة والارادة واسرافيل مظهر الحياة والاقساط مندرج فيها وجبريل مظهر العلم والقول وباعتبار الاول هو روح القدس وبالثانى الروح الامين ولذا كان حامل الوحى وميكائيل مظهر الارادة والجود مندرج فيها ولذا كان ملك الارزاق وعزرائيل مظهر القدرة ولذا يقهر الجبابرة ويذلهم بالموت والفناء(2/44)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
{ يا ايها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم } من تبعيضية اى شيأ مما رزقناكموه والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الانفاق والمراد به الانفاق الواجب اى الزكاة بدلالة ما بعده من الوعيد والاكثر على ان الامر يتناول الواجب والمندوب { من } لابتداء الغاية { قبل ان يأتى يوم } يوم الحساب والجزاء { لا بيع فيه } يتدارك به المقصر تقصيره وهو فى التقدير جواب هل فيه بيع ولهذا رفع . والبيع استبدال المال بالثمن { ولا خلة } حتى يسامحكم اخلاؤكم بما تصنعون . والخلة المودة والصداقة فكأنها تتخلل الاعضاء اى تدخل خلالها ووسطها والخليل الصديق لمداخلته اياك والخلة تنقطع يوم القيامة بين الاخلاء الا بين المتقين لقوله تعالى { الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين } { ولا شفاعة } حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم فى حط ما فى ذممكم والشفاعة المنفية يوم القيامة هى التى يستقل فيها الشفيع ويأتى بها وان لم يؤذن له فيها فان الدلائل قائمة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين بعد ان يؤذن لهم فيها وهى لمن مات لا يشرك بالله شيأ { والكافرون } اى والتاركون للزكاة وايثاره عليه للتغليط والتهديد كما قال فى آخر آية الحج { ومن كفر } مكان ومن ولم يحج وللايذان بان ترك الزكاة من صفات الكفار قال تعالى { فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة } { هم الظالمون } اى الذين ظلموا انفسهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المال فى غير موضعه وصرفوه الى غير وجهه
زكات اكر ندهى اززت زداده وى ... علاج كى كنمت كاخر الدواء الكى
قال الراغب حث المؤمنين على الانفاق مما رزقهم من النعماء النفسية والبدنية الجارحية وان كان الظاهر فى التعارف انفاق المال ولكن قد يراد به بذل النفس والبدن فى مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء والآخرة دار ثواب وجزاء بين ان لا سبيل للانسان الى تحصيل ما ينتفع به فى الآخرة فابتلى بذكر هذه الثلاثة لانها اسباب اجتلاب المنافع المفضية اليها . احدها المعاوضة واعظمها المبايعة . والثانى ما تناوله بالمودة وهو المسمى بالصلات والهدايا . والثالث ما يصل اليه بمعاونة الغير وذلك هو الشفاعة . ولما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاثا عدالة بين الانسان ونفسه وعدالة بينه وبين الناس وعدالة بينه وبين الله . فكذلك الظلم له مراتب ثلاث واعظم العدالة ما بين العبد وبين الله وهو الايمان واعظم الظلم ما يقابله وهو الكفر ولذلك قال { والكافرون هم الظالمون } اى هم المستحقون لاطلاق هذا الوصف عليهم بلا مشوبة . فليسارع العبد الى تقوية الايمان بالانفاق والاحسان حكى انه كان عابد من الشيوخ اراده الشيطان فلم يستطع منه شيأ فقال له الشيطان ألا تسألنى عما اضل به بنى آدم قال بلى قال فاخبرنى ما اوثق شىء فى نفسك ان تضلهم به قال الشيخ والحدة والسكر فان الرجل اذا كان شحيحا قللنا ماله فى عينيه ورغبناه فى اموال الناس وان كان حديدا ادرناه بيننا كما تتداور الصبيان الكرة فلو كان يحيى الموتى بدعائه لم نيأس منه واذا سكر اقتدناه الى كل شهوة كما تقاد العنز باذنها كذا فى آكام المرجان
وعن محمد بن اسماعيل البخارى يقول بلغنا ان الله اوحى الى جبريل عليه الصلاة والسلام فقال يا جبريل لو انا بعثتك الى الدنيا وجعلتك من اهلها ما الذى عملت من الطاعات فيها فقال جبريل انت اعلم بشأنى منى ولكنى كنت اعمل ثلاثة اشياء .(2/45)
اولها كنت اعين صاحب العيال فى النفقة على عيالة . والثانى كنت استر عيوب الخلق وذنوبهم حتى لا يعلم احد من خلقك عيوب عبادك وذنوبهم غيرك . والثالث اسقى العطشان وارويه من الماء كذا فى روضة العلماء : قال السعدى قدس سره
جو خودرا قوى حال بينى وخوش ... بشكرانه بار ضعيفان بكش
اكر خود همين صورتى جون طلسم ... بميرى واسمت بميرد جو جسم
اكر برورانى درخت كرم ... برنيك نامى خورى لا جرم
اللهم اجعلنا من المنفقين والمستغفرين(2/46)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{ الله } هذا الاسم اعظم الاسماء التسعة والتسعين لانه دال على الذات الجامعة لصفات الآلهية كلها حتى لا يشذ منها شىء وسائر الاسماء لا تدل آحادها الا على آحاد المعانى من علم او قدرة او فعل وغيره ولانه اخص الاسماء اذ لا يطلقه احد على غيره لا حقيقة ولا مجازا وسائر الاسماء قد يسمى بها غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيرها وينبغى ان يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله واعنى به ان يكون مستغرق القلب والهمة فى الله تعالى لا يرى غيره ولا يلتفت الى سواه ولا يرجو ولا يخاف الا اياه وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الاسم انه الموجود الحقيقى الحق وكل ما سواه فان وهالك وباطل الا به فيرى نفسه اول هالك وباطل كما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حث قال « أصدق بيت قالته العرب قول لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل » وهذه الكلمة فوائد ليست فى غيرها فان كل كلمة اذا اسقطت منها حرفا يختل المعنى بخلاف هذه فانك ان حذت الالف يصير لله قال تعالى { لله ما فى السموات والارض } وان حذفت اللام الاولى ايضا يبقى له قال تعالى { له ملك السموات والارض } وان حذفت اللام الثانية ايضا يبقى الهاء وهو ضمير راجع الى الله تعالى قال تعالى { هو الله الذى لا اله الا هو } وللاسماء تأثير بليغ خصوصا للفظة الجلالة
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره لما جاء المولى علاء الدين الخلوتى ببروسة صعد المنبر فى الجامع الكبير للوعظ وقد اجتمع جمع كثير منتظرين لكلامه فقال مرة واحدة « يا الله » فحصل للجماعة حالة رقصوا وكادوا لا يرجعون عن البكاء والفزع وحكى انه لما مات سلطان العصر عزم جماعة الرجال على قتل الوزير فجاء بيت الشيخ وفاء فى القسطنطنية واستغاث منه فادخله الشيخ الى بيته فهجموا جميعا الى بيت الشيخ فخرج الشيخ وقال مرة واحدة « يا الله » فهربوا جميعا فانظر انهم اذا ذكروا الله تظهر آثار عجيبة ونحن اذا ذكرنا ذلك الاسم بعينه لا يظهر له اثر وذلك لانهم زكوا انفسهم وبدلوا اخلاقهم واما نحن فليس فينا هذا ولا القابلية لذلك وانما الفيض من الله تعالى : قال الحافظ
فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد ... ديكران هم بكنند انجه مسيحا ميكند
{ لا اله الا هو } الجملة خبر للمبتدأ وهو الجلالة والمعنى انه المستحق للعبادة لا غير وحكى ان تسبيح قطب الاقطاب « يا هو ويا من هو ويا من لا اله الا هو » فاذا قال ذلك بطريق الحال يقدر على التصرفات
وللتوحيد ثلاث مراتب .(2/47)
توحيد المبتدئين لا اله الا الله . وتوحيد المتوسطين لا اله الا انت لانهم فى مقام الشهود فمقتضاه الخطاب . واما الكمل فيسمعون التوحيد من الموحد وهو لا اله الا انا لانهم فى مقام الفناء الكلى فلا يصدر منهم شىء اصلا
قال ابن الشيخ فى حواشى سورة الاخلاص لفظ هو اشارة الى مقام المقربين وهم الذين نظروا الى ماهيات الاشياء وحقائقها من حيث هى هى فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله لان الحق هو الذى لذاته يجب وجوده واما ما عداه فممكن والممكن اذا نظر اليه من حيث هو هو كان معدوما فهؤلاء لم يروا موجودا سوى الحق سبحانه وكلمة هو وان كانت للاشارة المطلق ومفتقرة فى تعين المراد بها الى سبق الذكر باحد الوجوه او الى ان يعقبها ما يفسرها الا انهم يشيرون الى الحق سبحانه ولا يفتقرون فى تلك الاشارة الى ما يميز الذات المرادة عن غيرها لان الافتقار الى المميز انما يحصل حيث وقع الابهام بان يتعدد ما يصلح لان يشار اليه وقد بينا انهم لا يشاهدون بعيون عقولهم الا الواحد فقط فلهذا السبب كانه لفظة هو كافية فى حصول العرفان التام لهؤلاء انتهى كلامه وانما ذكرته ههنا ليكون حجة على من انكر على جماعة الصوفية فى كلمة هو ذاهبا الى انها ضمير ولا فائدة فى الذكر به وقد سبق منى عند قوله تعالى { وآلهكم اله واحد لا اله الا هو } ما ينفك فى هذا المقام قال شيخى وسندى الذى بمنزلة روحى فى جسدى الذكر ب « لا اله الا الله » افضل من الذكر بكلمة « الله الله » و « هو هو » عند العلماء بالله لانها جامعة بين النفى والاثبات وحاوية لزيادة العلم والمعرفة فمن نفى بلا اله عين الخلق حكما لا علما فقد اثبت كون الحق حكما وعلما وافادنى ايضا اذ قلت لا اله الا الله فشاهد بالشهود الحقانى فناء افعال الخلق وصفاتهم وذواتهم فى افعال الحق وصفاته وذاته وهذا مقتضى الجمع والاحدية . وتلك الكلمة فى الحقيقة اشارة الى هذه المرتبة واذا قلت محمد رسول الله فشاهد بالشهود الحقانى ايضا بقاء افعالهم وصفاتهم وذواتهم بافعاله تعالى وصفاته وذاته وهذا مقتضى الفرق والواحدية . وتلك الكلمة ايضا اشارة الى هذه المرتبة فاذا كان توحيد العبد على هذه المشاهدة فلا جرم ان توحيده يكون توحيدا حقيقا حقانيا لا رسما نفسانيا : قال المولى الجامى قدس سره
كرجه « لا » داشت تيركئ عدم ... دارد « الا » فروع نور قدم
كرجه « لا » بود كان كفر وجحود ... هست « الا » كليد كنج شهود
جون كند « لا » بساط كثرت طى ... دهد « الا » زجام وحدت مى
آن رهاند زنقش بيش وكمت ... وين رساند بوحدت قدمت
تانسازى حجاب كثرت دور ... ندهد افتاب وحدت نور
دائم آن آفتاب تابانست ... ازحجاب تو ازتو بنهانست
كربرون آيى ازحجاب تويى ... مرتفع كردد ازميانه دويى
در زمين زمان وكون مكان ... همه او بينى آشكار ونهان(2/48)
اللهم اوصلنا الى الجمع والعين واليقين { الحى } خبر ثان . وهو فى اللغة من له الحياة وهى صفة تخالف الموت والجمادية وتقتضى الحس والحركة الارادية واشرف ما يوصف به الانسان الحياة الابدية فى دار الكرامة واذا وصف البارى عز شأنه بها وقيل انه حى كان معناه الدائم الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء فهو الموصوف بالحياة الازلية الابدية
قال الامام الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى « الحى » هو الفعال الدراك حتى ان من لا فعل له اصلا ولا ادراك فهو ميت واقل درجات الادراك ان يشعر المدرك بنفسه فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت فالحى الكامل المطلق هو الذى تندرج جميع المدركات تحت ادراكه وجميع الموجودات تحت فعله حتى لا يشد عن علمه مدرك ولا عن فعله مفعول وذلك هو الله تعالى فهو الحى المطلق وكل حى سواه فحياته بقدر ادراكه وفعله وكل ذلك محصور فى قوله { القيوم } قام بالامر اذا دبره مبالغة القائم فانه تعالى دائم القيام على كل شىء بتدبير امره فى انشائه وتزريقه وتبليغه الى كماله اللائق به وحفظه
قال الامام الغزالى اعلم ان الاشياء تنقسم الى ما يفتقر الى محل كالاعراض والاوصاف فيقال فيها انها ليست قائمة بنفسها والى ما يحتاج الى محل فيقال انه قائم بنفسه كالجواهر الا ان الجوهر وان قام بنفسه مستغنيا عن محل يقوم به فليس مستغنيا عن امور لا بد منها لوجوده وتكون شرطا فى وجوده فلا يكون قائما بنفسه لانه محتاج فى قوامه الى وجود غيره وان لم يحتج الى محل فان كان فى الوجود موجود يكفى ذاته بذاته ولا قوام له بغيره ولا شرط فى دوام وجوده وجود غيره فهو القائم بنفسه مطلقا فان كان مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور للاشياء وجود ولا دوام وجود الا به فهو القيوم لان قوامه بذاته وقوام كل شىء به وليس ذلك الا الله تعالى ومدخل العبد فى هذا الوصف بقدر استغنائه عما سوى الله تعالى انتهى كلام الغزالى
قيل الحى القيوم اسم الله الاعظم . وكان عيسى عليه الصلاة والسلام اذا اراد ان يحيى الموتى يدعو بهذا الدعاء يا حى يا قيوم ويقال دعاء اهل البحر اذا خافوا الغرق يا حى يا قيوم وعن على بن ابى طالب رضى الله عنه لما كان يوم بدر جئت انظر ما يصنع النبى صلى الله عليه وسلم فاذا هو ساجد يقول يا حى يا قيوم فترددت مرات وهو على حاله لا يزيد على ذلك الى ان فتح الله له وهذا يدل على عظمة هذا الاسم
وفى التأويلات النجمية انما اشير فى معنى الاسم الاعظم الى هذين الاسمين وهما الحى والقيوم لان اسمه الحى مشتمل على جميع اسمائه وصفاته فان من لوازم الحى ان يكون قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا .(2/49)
واسمه القيوم مشتمل على افتقار جميع المخلوقات اليه فاذا تجلى الله لعبد بهاتين الصفتين فالعبد يكاشف عند تجلى صفة الحى معانى جميع اسمائه وصفاته ويشاهد عند تجلى صفة القيوم فناء جميع المخلوقات اذا كان قيامها بقيومية الحق لا بانفسهم فلما جاء الحق زهق الباطل فلا يرى فى الوجود الا الحى القيوم اذا سلب الحى جميع اسماء الله وسلب القيوم قيام المخلوقات فترتفع الاثنينية بينهما واذا فنى التعدد وبقيت الوحدة فيصيران اسما اعظم للمتجلى له فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الانسانية فقد ذكره باسمه الاعظم الذى اذا دعى به اجاب واذا سئل به اعطى فاما الذاكر عند غيبه فكل اسم دعاه لا يكون الاسم الاعظم بالنسبة الى حال غيبه وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الاعظم كما سئل ابو يزيد البسطامى قدس سره عن الاسم الاعظم فقال الاسم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فاذا كنت كذلك فاذكره بأى اسم شئت انتهى ما فى التأويلات
واعلم ان الاسم الاعظم عبارة عن الحقيقة المحمدية فمن عرفها عرفه وهى صورة الاسم الجامع الالهى وهو ربها ومنه الفيض فاعرف تفز بالحظ الاوفى { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة ثقلة من النعاس وفتور يعترى المزاج قبل النوم وليست بداخلة فى حد النوم والنعاس اول النوم والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأسا وتقديم السنة عليه مع ان قياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود الخارجى فان الموجود منهما اولا هو السنة ثم يعترى بعدها النوم وتوسيط كلمة لا للتنصيص على شمول النفى لكل منهما والمراد بيان انتفاء اعتراء شىء منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه وانما عبر عن عدم الاعتراء والعروض بعدم الاخذ لمراعاة الواقع اذ عروض السنة والنوم لمعروضهما انما يكون بطريق الاخذ والاستيلاء والجملة نفى للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما فان من اخذه نعاس او نوم كان مؤوف الحياة قاصرا فى الحفظ والتدبير والمعنى لا يعتريه ما يعترى المخلوقين من السهو والغفلة والملال والفترة فى حفظ ما هو قائم بحفظه ولا يعرض له عوارض التعب المحوجة الى الاستراحة فيستريح بالنوم والسنة لان النوم اخو الموت والموت ضد الحياة وهو الحى الحقيقى فلا يلحقه ضد الحياة فكما انه موصوف بصفات الكمال فهو منزه عن جميع صفات النقصان روى ان موسى عليه السلام سأل الملائكة وكان ذلك فى نومه أينام ربنا فاوحى الله تعالى اليهم ان يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام ثم قال خذ بيدك قارورتين مملوءتين فاخذهما فاخذه النوم فزالتا وانكسرتا ثم اوحى الله اليه انى امسك السموات والارض بقدرتى فلو اخذنى نوم او نعاس لزالتا كذا فى الكشاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/50)
« ان الله لا ينام ولا ينبغى له ان ينام » قال ابن الملك هذا بيان لاستحالة وقوع النوم منه لانه عجز والله تعالى يتعالى عنه انتهى وحظ العبد من هذا الوصف ان يترك النوم فان الله تعالى وان رخص للعباد فى المنام بل هو فضل منه تعالى لكن كثرة المنام بطالة وان الله تعالى لا يحب البطال
قال ابو يزيد البسطامى قدس سره لم يفتح لى شىء الا بعد ان جعلت الليالى اياما : قال السعدى قدس سره
سر آنكه ببالين نهد هو شمند ... كه خوابش بقهر آورد در كمند
قيل كان رجل له تلميذان اختلفا فيما بينهما فقال احدهما النوم خير لان الانسان لا يعصى فى تلك الحالة وقال الآخر اليقظة خير لانه يعرف الله فى تلك الحالة فتحاكما الى ذلك الشيخ فقال الشيخ اما انت الذى قلت بتفضيل اليقظة فالحياة خير لك وقيل اشترى رجل مملوكة فلما دخل الليل قال افرشى الفراش فقالت المملوكة يا مولاى ألك مولى قال نعم قالت ينام مولاك قال لا فقالت ألا تستحيى ان تنام ومولاك لم ينم : ومن الابيات التى كان يذكرها بلال الحبشى رضى الله عنه وقت السحر
يا ذا الذى استغرق فى نومه ... ما نوم عبد ربه لا ينام
أهل تقول اننى مذنب ... مشتغل الليل بطيب المنام
{ له ما فى السموات وما فى الارض } تقرير لقيوميته تعالى واحتجاج به على تفرده فى الالوهية لانه تعالى خلقهما بما فيهما والمشاركة انما تقع فيما فيهما ومن يكن له ما فيهما فمحال مشاركته فكل من فيهما وما فيهما ملكه ليس لاحد معه فيه شركة ولا لاحد عليه سلطان فلا يجوز ان يعبد غيره كما ليس لعبد احدكم ان يخدم غيره الا باذنه والمراد بما فيهما ما هو اعم من اجزائهما الداخلة فيهما ومن الامور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فهو ابلغ من ان يقال له السموات والارض وما فيهن لان قوله وما فيهن بعد ذكر السموات والارض انما يتناول الامور الخارجة المتمكنة فيهن اذ لو اريد به ما يعم الامور الداخلة فيهما والخارجة عنهما لاغنى ذكره عن ذكرهما { من ذا الذى يشفع عنده الا باذنه } من مبتدأ وذا خبره .(2/51)
والذى صفة ذا او بدل منه ولفظ من وان كان استفهاما فمعناه النفى ولذلك دخلت الا فى قوله { الا باذنه } و { عنده } فيه وجهان . احدهما انه متعلق بيشفع . والثانى انه متعلق بمحذوف فى موضع الحال من الضمير فى يشفع اى لا احد يشفع مستقرا عنده الا باذنه وقوى هذا الوجه بانه اذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريب منه فشفاعة غيره ابعد والا باذنه متعلق بمحذوف لانه حال من فاعل يشفع فهو استثناء مفرغ والباء للمصاحبة والمعنى لا احد يشفع عنده فى حال من الاحوال الا فى حال كونه مأذونا له او لا احد يشفع عنده بامر من الامور الا باذنه والباء للاستعانة كما فى ضرب بسيفه فيكون الجار والمجرور فى موضع المفعول به وكان المشركون يقولون اصنامنا شركاء الله تعالى وهم شفعاؤنا عنده فوحد الله نفسه بالنفى والاثبات ليكون المعنى فى ثبوت التوحيد ونفى الشرك اى ليس لاحد ان يشفع لاحد عند الا باذنه وقد اخبر انه لا يأذن فى الشفاعة للكفار وهو رد على المعتزلة فى انهم لا يرون الشفاعة اصلا والله تعالى اثبتها للبعض بقوله { الا باذنه }
وفى التأويلات النجمية هذا الاستثناء راجع الى النبى عليه الصلاة والسلام لان الله قد وعد له المقام المحمود وهو الشفاعة فالمعنى من ذا الذى يشفع عنده يوم القيامة الا عبده محمد فانه مأذون موعود ويعينه الانبياء بالشفاعة انتهى
غم نخورد آنكه شفيعش تويى ... بايه ده قدر رفعيش وتويى
حاصلى ارنيست ز طاعت مرا ... هست اميدى بشفاعت مرا
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « اتانى آت من عند ربى فخيرنى بين ان يدخل نصف امتى الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة » روى ان الانبياء عليهم السلام يعينون نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة فيأتى الناس اليه فيقول انا لها وهو المقام المحمود الذى وعده الله به يوم القيامة فيأتى ويسجد ويحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى اياها فى ذلك الوقت لم يكن يعلمها قبل ذلك ثم يشفع الى ربه ان يفتح باب الشفاعة للخلق فيفتح ذلك الباب فيأذن فى الشفاعة للملائكة والرسل والانبياء والمؤمنين فهذا يكون سيد الناس يوم القيامة فانه شفع عند الله ان يشفع الملائكة والرسل ومع هذا تأدب صلى الله عليه وسلم وقال « انا سيد الناس » ولم يقل سيد الخلائق فيدخل الملائكة فى ذلك مع ظهور سلطانه فى ذلك اليوم على الجميع وذلك انه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع له بين مقامات الانبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم ولم يكن ظهر له على الملائكة ما ظهر لآدم عليهم من اختصاصه بعلم الاسماء كلها فاذا كان فى ذلك اليوم افتقر اليه الجميع من الملائكة والناس من آدم فمن دونه فى فتح باب الشفاعة واظهار ماله من الجاه عند الله اذ كان القهر الآلهى والجبروت الاعظم قد اخرس الجميع فدل على عظيم قدره عليه السلام حيث اقدم مع هذه الصفة الغضبية الآلهية على مناجاة الحق فيما سأله فيه فاجابه الحق سبحانه كذا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى عليه رحمة البارى(2/52)
واعلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اول من يفتح باب الشفاعة فيشفع فى الخلق ثم الانبياء ثم الاولياء ثم المؤمنون وآخر من يشفع هو ارحم الراحمين فان الرحمن ما شفع عند المنتقم فى اهل البلاء الا بعد شفاعة الشافعين الذين لم تظهر شفاعتهم الا بعد شفاعة خاتم الرسل اياهم ليشفعوا ومعنى شفاعة الله سبحانه هو انه اذا لم يبق فى النار مؤمن شرعى اصلا يخرج الله منها قوما علموا التوحيد بالادلة العقلية ولم يشركوا بالله شيأ ولا آمنوا ايمانا شرعيا ولم يعملوا خيرا قط من حيث ما اتبعوا فيه نبيا من الانبياء فلم يكن عندهم ذرة من ايمان فيخرجهم ارحم الراحمين فاعرف هذا فانه من الغرائب افاده لى شيخى العلامة افادة كشفية وصادفته ايضا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى اللهم اغفر وارحم وانت ارحم الراحمين { يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم } استئناف آخر لبيان احاطة علمه باحوال خلقه المستلزم لعلمه بمن يستحق الشفاعة ومن لا يستحقها اى يعلم ما كان قبلهم من امور الدنيا وما يكون بعدهم من امر الآخرة او ما بين ايديهم يعنى الآخرة لانهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لانهم يخلفونها وراء ظهورهم او ما بين ايديهم من السماء الى الرض وما خلفهم يريد ما فى السموات او ما بين ايديهم بعد انقضاء آجالهم وما خلفهم اى ما كان قبل ان يخلقهم او ما فعلوه من خير وشر وقدموه وما يفعلونه بعد ذلك والمقصود بهذا الكلام بيان انه عالم باحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب . والضمير لما فى السموات وما فى الارض لان فيهم العقلاء فغلب من يعقل على غيره او لما دل عليه من ذا من الملائكة والانبياء فيكون للعقلاء خاصة { ولا يحيطون } اى لا يدركون يعنى من الملائكة والانبياء وغيرهم { بشىء من علمه } اى من معلوماته { الا بما شاء } ان يعلموه وان يطلعهم عليه كاخبار الرسل فلا يظهر على غيبه احد الا من ارتضى من رسول وانما فسرنا العلم بالمعلوم لان علمه تعالى الذى هو صفة قائمة بذاته المقدسة لا يتبعض فجعلناه بمعنى المعلوم ليصح دخول التبعيض والاستثناء عليه
وفى التأويلات النجمية { يعلم } محمد عليه السلام { ما بين ايديهم } من الامور الاوليات قبل خلق الله الخلائق كقوله(2/53)
« اول ما خلق الله نورى » { وما خلفهم } من اهوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الانبياء وقولهم نفسى نفسى وحوالة الخلق بعضهم الى بعض حتى بالاضطرار يرجعون الى النبى عليه السلام لاختصاصه بالشفاعة { ولا يحيطون بشىء من علمه } يحتمل ان تكون الهاء كناية عنه عليه السلام يعنى هو شاهد على احوالهم يعلم ما بين ايديهم من سيرهم ومعاملاتهم وقصصهم وما خلفهم من امور الآخرة واحوال اهل الجنة والنار وهم لا يعلمون شيأ من معلوماته { الا بما شاء } ان يخبرهم عن ذلك انتهى
قال شيخنا العلامة ابقاه الله بالسلامة فى الرسالة الرحمانية فى بيان الكلمة العرفانية علم الاولياء من علم الانبياء بمنزلة قطرة من سبعة ابحر وعلم الانبياء من علم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بهذه المنزلة وعلم نبينا من علم الحق سبحانه بهذه المنزلة انتهى وفى القصيدة البردية
وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر او رشفا من الديم
وواقفون لديه عند حدهم ... من نقطة العلم او من شكلة الحكم
حاصله ان علوم الكائنات وان كثرت بالنسبة الى علم الله عز وجل بمنزلة نقطة او شكلة ومشربها بحر روحانية محمد صلى الله عليه وسلم فكل رسول ونبى وولى أخذون بقدر القابلية والاستعداد مما لديه وليس لاحد ان يعدوه او يتقدم عليه . قوله النقطة فعلة من نقطت الكتاب نقطا ومعناها الحاصل . والشكلة بالفتح فعلة من شكلت الكتاب قيدته بالاعراب { وسع كرسيه السموات والارض } الكرسى ما يجلس عليه من الشىء المركب من خشبات موضوعة بعضها فوق بعض ولا يفضل على مقعد القاعد وكأنه منسوب الى الكرس الذى هو الملبد وهو ما يجعل فيه اللبدة اى لم يضق كرسيه عن السموات والارض لبسطته وسعته وما هو الا تصوير لعظمته وتمثيل مجرد ولا كرسى فى الحقيقة ولا قاعد . وتقريره انه تعالى خاطب الخلق فى تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه فى ملوكهم وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وامر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر فى الحجر الاسود انه يمين الله تعالى فى ارضه ثم جعله موضعا للتقبيل كما يقبل الناس ايدى ملوكهم وكذلك ما ذكر فى محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء فوضع الميزان وعلى هذا القياس اثبت لنفسه عرشا فقال { الرحمن على العرش استوى } ثم اثبت لنفسه كرسيا فقال { وسع كرسيه السموات والارض } والحاصل ان كل ما جاء من الالفاظ الموهمة للتشبيه فى العرش والكرسى فقد ورد مثلها بل اقوى منها فى الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ولما توافقت الامة ههنا على ان المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بانه تعالى منزه عن ان يكون فى الكعبة ما يوهمه تلك الالفاظ فكذا الكلام فى العرش والكرسى .(2/54)
والمعتمد كما قال الامام ان الكرسى جسم بين يديى العرش محيط بالسموات السبع لان الارض كرة والسماء الدنيا محيطة بها احاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب والثانية محيطة بالدنيا وهكذا الى ان يكون العرش محيطا بالكل قال صلى الله عليه وسلم « ما السموات السبع والارضون السبع من الكرسى الا كحلقة فى فلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة » ولعله الفلك الثامن وهو المشهور بفلك البروج
قال مقاتل كل قائمة من الكرسى طولها مثل السموات السبع والارضين السبع وهو بين يدى العرش ويحمل الكرسى اربعة املاك لكل ملك اربعة وجوه واقدامهم فى الصخرة التى تحت الارض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام . ملك على صورة سيد البشر آدم عليه الصلاة والسلام وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة الى السنة . وملك على صورة سيد الانعام وهو الثور وهو يسأل للانعام الرزق من السنة الى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل . وملك على صورة سيد السباع وهو الاسد يسأل للسباع الرزق من السنة الى السنة . وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل للطير الرزق من السنة الى السنة
وفى التأويلات النجمية اما القول فى معنى الكرسى فاعلم ان مقتضى الدين والديانة ان لا يؤول المسلم شيأ من الاعيان مما نطق به القرآن والاحاديث بالمعانى الا بصورها كما جاء وفسرها النبى عليه الصلاة والسلام والصحابة وعلماء السلف الصالح اللهم الا ان يكون محققا خصصه الله بكشف الحقائق والمعانى والاسرار واشارات التنزيل وتحقيق التأويل فاذا كوشف بمعنى خاص او اشارة وتحقيق يقدر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الاعيان مثل الجنة والنار والميزان والصراط وفى الجنة من الحور والقصور والانهار والاشجار والثمار وغيرها من العرش والكرسى والشمس والقمر والليل والنهار ولا يؤول شيأ منها على مجرد المعنى ويبطل صورته بل يثبت تلك الاعيان كما جاء ويفهم منها حقائق معانيها فان الله تعالى ما خلق شيأ فى عالم الصورة الا وله نظير فى عالم المعنى وما خلق شيأ فى عالم المعنى وهو الآخرة الا وله حقيقة فى عالم الحق وهو غيب الغيب فافهم جدا وما خلق فى العالمين شيأ الا وله مثال وانموذج فى عالم الانسان فاذا عرفت هذا فاعلم ان مثال العرش فى عالم الانسان قبله اذ هو محل استواء الروح عليه ومثال الكرسى سر الانسان والعجب كل العجب ان العرش مع نسبته الى استواء الرحمانية قيل هو كحلقة ملقاة بين السماء والارض بالنسبة الى وسعة قلب المؤمن انتهى ما فى التأويلات : وفى المثنوى
كفت بيغمبر كه حق فرموده است ... من نكنجم هيج در بالا وبست
در زمين و آسمان و عرش نيز ... من نكنجم اين يقين دان اى عزيز
دردل مؤمن بكنجم اى عجب ... كرمرا جويى دران دلها طلب
خود بزركى عرش باشد بس مديد ... ليلك صورت كيست جون معنى رسيد(2/55)
{ ولا يؤده } يقال آده الشىء يأوده اذا اثقله ولحقه منه مشقة مأخوذ من الاود بفتح الواو وهو العود ويعرض ذلك بالثقل اى لا يثقله ولا يشق عليه تعالى { حفظهما } اى حفظ السموات والارض اذ القريب والبعيد عنده سواء والقليل والكثير سواء وكيف يتعب فى خلق الذرة وكل الكون عنده سواء فلا من القليل له تيسر ولا من الكثير عليه تعسر انما امره اذا اراد شيأ ان يقول له كن فيكون وانما لم يتعرض لذكر ما فيهما لان حفظهما مستتبع لحفظه { وهو العلى } اى المتعالى بذاته عن الاشباه والانداد { العظيم } الذى يستحقر بالنسبة اليه كل ما سواه . فالمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لانه تعالى منزه عن التحيز وكذا عظمته انما هى بالمهابة والقهر والكبرياء ويمنع ان يكون بحسب المقدار والحجم لتعالى شأنه من ان يكون من جنس الجواهر والاجسام . والعظيم من العباد الانبياء والاولياء والعلماء الذين اذا عرف العاقل شيأ من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدره وصار متشوقا بالهيبة قلبه حتى لا يبقى فيه متسع فالنبى عليه السلام عظيم فى حق امته والشيخ عظيم فى حق مريده والاستاذ فى حق تلميذه اذ يقصر عقله عن الاحاطة بكنه صفاته فان ساواه أو جاوزه لم يكن عظيما بالاضافة اليه . وهذه الآية الكريمة منطوية كما ترى على امهات المسائل الآلهية المتعلقة بالذات العلية والصفات الحلية فانها ناطقة بانه تعالى موجود متفرد بالآلهية متصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجد لغيره لما ان القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ من التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الاشباح ولا يعتريه ما يعترى النفوس والارواح مالك الملك والملكوت ومبدع الاصول والفروع ذو البطش الشديد لا يشفع عنده الا من اذن له فهو العالم وحده بجميع الاشياء جليها وخفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه ان يملك ويقدر عليه ولا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن متعال عما تناله الاوهام عظيم لا تحدق به الافهام ولذلك قال عليه السلام « ان اعظم آية فى القرآن ية الكرسى من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيآته الى الغد من تلك الساعة » يعنى انما صارت آية الكرسى اعظم الآيات لعظم مقتضاها فان الشىء انما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته وآية الكرسى اقتضت التوحيد فى خمسين حرفا وسورة الاخلاص فى خمسة عشر حرفا(2/56)
قال الامام فى الاتقان اشتملت آية الكرسى على ما لم تشتمل عليه آية فى اسماء الله تعالى وذلك انها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا فى بعضها ومستكنا فى بعض وهى الله هو الحى القيوم وضمير لا تأخذه وله وعنده وباذنه ويعلم وعلمه وشاء وكرسيه ويأوده وضمير حفظهما المستتر الذى هو فاعل المصدر وهو العلى العظيم ويكفى فى استحقاقها السيادة ان فيها الحى القيوم وهو الاسم الاعظم كما ورد به الخبر عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وتذاكر الصحابة افضل ما فى القرآن فقال لهم على اين انتم عن آية الكرسى ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا على سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الايام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسى » وعن على كرم الله وجهه عن النبى عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما قرئت هذه الآية فى دار الا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة اربعين ليلة يا على علمها ولدك واهلك وجيرانك فما نزلت آية اعظم منها » وعن على ايضا سمعت نبيكم على اعواد المنبر وهو يقول « من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت ولا يواظب عليها الا صديق او عابد ومن قرأها اذا اخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والابيات حوله » عن محمد بن ابى بن كعب عن ابيه ان اباه اخبره انه كان له جرن فيه خضر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فاذا هو بدابة تشبه الغلام المحتلم قال فسلمت فرددت عليها السلام وقلت من انت جن ام انس قالت جن قلت ناولينى يدك فناولتنى يدها فاذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلقة الجن قالت لقد علمت الجن ما فيهم اشد منى قلت ما حملك على ما صنعت قالت بلغنى انك رجل تحب الصدقة فاحببنا ان نصيب من طعمك فقال لها ابىّ فما الذى يجيرنا منكم قالت هذه الآية التى فى سورة البقرة الله لا اله الا هو الحى القيوم من قالها حين يصبح اجير منا حتى يمسى ومن قالها حين يمسى اجير منا حتى يصبح فلما اصبح أتى النبى عليه السلام فاخبره فقال النبى عليه السلام « صدق الخبيث » وروى ان رجلا أتى شجرة او نخلة فسمع فيها حركة فتكلم فلم يجب فقرأ آية الكرسى فنزل اليه شيطان فقال ان لنا مريضا فبم نداويه قال بالذى انزلتنى به من الشجرة(2/57)
وخرج زيد بن ثابت الى حائط له فسمع فيه جلبة فقال ما هذا قال رجل من الجان اصابتنا السنة فاردنا ان نصيب من ثماركم أفتطيبونها قال نعم فقال له زيد بن ثابت ألا تخبرنى ما الذى يعيذنا منكم قال آية الكرسى
وبالجملة ان آية الكرسى من اعظم ما ينتصر به على الجن فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة ان لها تأثيرا عظيما فى طرد الشياطين عن نفس الانسان وعن المصروع وعمن تعينه الشياطين مثل اهل الشهوة والطرب وارباب سماع المكاء والتصدية واهل الظلم والغضب اذا قرئت عليهم بصدق كما فى آكام المرجان فى احكام الجان
دل بر دردرا دوا قرآن ... جان مجروح را شفا قرآن
هرجه ويى زنص قرآن جو ... كه بود كنج علمها قرآن
وانما قال اذا قرئت عليهم بصدق لانه هو العمدة والصادق يبيض وجهه والكاذب يسود ألا ترى الى الصبح الصادق والكاذب كيف اعقب الاول شمس منير دون الثانى : قال فى المثنوى
هست تسبيحت بخار آب وكل ... مرغ جنت شد زنفخ صدق دل
وكل ما وقع بطريق الحال وجد عنده التأثير بخلاف ما وقع بطريق القال فقط ولذا ترى اكثر الناس محرومين وان دعوا بالاسم الاعظم اللهم آت نفسى تقواها وزكها انت خير من زكاها آمين(2/58)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{ لا اكراه فى الدين } قال بعضهم نزلت هذه الآية فى المجوس واهل الكتاب من اليهود والنصارى انه تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الاسلام ليس كمشركى العرب فانه لا يقبل منهم الا السيف او الاسلام ولا تقبل منهم الجزية ان اسلموا فيها والا قتلوا قال الله تعالى { تقاتلونهم او يسلمون } والمعنى لا اجبار فى الدين لان من حق العاقل ان لا يحتاج الى التكليف والالزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم لوضوح الحجة { قد تبين الرشد } هو لفظ جامع لكل خير والمراد ههنا الايمان الذى هو الرشد الموصل الى السعادة الابدية لتقدم ذكر الدين { من الغى } اى من الكفر الذى هو المؤدى الى الشقاوة السرمدية
قال الراغب الغى كالجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد والغى اعتبارا بالافعال ولهذا قيل زوال الجهل بالعلم وزوال الغى بالرشد { فمن يكفر بالطاغوت } هو كل ما عبد من دون الله مما هو مذموم فى نفسه ومتمرد كالانس والجن والشياطين وغيرهم فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام والكفر به عبارة عن الكفر باستحقاقه العبادة { ويؤمن بالله } بالتوحيد وتصديق الرسل لان الكفر بالانبياء والكتب يمنع حقيقة الايمان بالله لان الايمان بالله حقيقة يستلزم الايمان باوامره ونواهيه وشرائعه المعلومة بالدلائل التى اقامها الله لعباده وتقديم الكفر بالطاغوت على الايمان به تعالى لتوقفه عليه فان التخلية بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة { فقد استمسك بالعروة الوثقى } اى بالغ فى التمسك بالحلقة الوكيدة . وعروة الجسم الكبير الثقيل الموضع الذى يتعلق به من يأخذ ذلك الجسم ويحمله . والوثقى فعلى للتفضيل تأنيث الاوثق كفضلى تأنيث الافضل { لا انفصام لها } اى لا انقطاع وهو استئناف لبيان قوة دلائل الحق بحيث لا يعتريها شىء من الشبه والشكوك فان العروة الوثقى استعارة المحسوس للمعقول لان من اراد امساك هذا الدين نعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الاسلام اقوى الدلائل واوضحها وصفها الله بانها العروة الوثقى
قال المولى ابو السعود الكلام تمثيل مبنى على تشبيه الهيئة المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذى لا يحتمل النقيض اصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة فى المفردات { والله سميع } بالاقوال { عليم } بالعزائم والعقائد يعلم غيها ورشدها وباطلها وحقها ويجرى كلا على وفق عمله وقوله وعقده وهو ابلغ وعد ووعيد
واعلم ان حقيقة الايمان كونه متعلقا بالله على وجه الشهود والعيان ومجازه كونه متعلقا به على وجه الرسم والبيان او بالطاغوت وحقيقة الكفر كونه متعلقا بالطاغوت ومجازه كونه متعلقا بوحدة الله او بنعمته فان الكفر ثلاثة اقسام كفر النعمة وكفر الوحدة وكفر الطاغوت وافراد الانسان ثلاثة اقسام ايضا اصحاب الميمنة وهم ارباب الجمال ومظاهره واصحاب المشأمة وهم ارباب الجلال ومظاهره والمقربون وهم اصحاب الكمال ومظاهره وقلوب الفريق الاول فى ايدى سدنة الجمال الآلهى من الملائكة المقربين وقلوب الفريق الثانى فى ايدى سدنة الجلال الآلهى من الشياطين المتمردين يستعملونها فى سبيل الشرور وقلوب الفريق الثالث فى يد الله المتعال يد الله فوق ايدى سدنة الجمال والجلال يقلبها كيف يشاء بين التجليات العاليات والعلوم والمعارف الآلهيات ولما تعلق ايمان هذه الفرق بالله على وجه الشهود والعيان وتعلق كفرهم بالطاغوت جليا او خفيا كان ايمانهم وكفرهم حقيقيين وجاوزوا من عالم المجاز الى عالم الحقيقة واما الفريق الثانى فقد تعلق ايمانهم بالطاغوت مطلقا او خفيا وكفرهم بالوحدة والنعمة فكان ايمانهم وكفرهم مجازيين لكن ايمانهم مردود ككفرهم لانه لم يتعلق بالله اصلا بل كان كله مقصورا على الطاغوت ولذا لم يتجاوزوا من عالم المجاز اصلا ولم يصلوا الى قرب عالم الحقيقة جدا فضلا عن وصولهم الى عالم الحقيقة قطعا واما الفريق الاول فلما تعلق ايمانهم بالله على وجه الرسم والبيان لا بالطاغوت الجلى جدا ولم يتعلق ايمانهم به على وجه الشهود ولم يتعلق ايمانهم به على الاخلاص حين تعلق به على وجه الرسم والبيان لتعلقه ايضا بالطاغوت الخفى وتعلق كفرهم بالطاغوت الجلى فقط لا بالطاغوت لا بالطاغوت الخفى كان ايمانهم وكفرهم مجازيين ايضا لكن ايمانهم لم يكن ككفرهم مردودا بل كان مقبولا من وجه لعدم تعلقه بالطاغوت الجلى اصلا فان غلب تعلقه بالله على تعلقه بالطاغوت الخفى عند خاتمته فيدخل فى الفلاح ثم فى الآخرة ان تداركه الفضل الآلهى فبها ونعمت فيغفر والا فيدخل الجحيم ويعذب بكفره الخفى ثم يخرج لعدم كفره بالله جليا ويدخل النعيم لايمانه بالله جليا وكفره بالطاغوت وهم ايضا لم يصلوا الى عالم الحقيقة بل انما وصلوا الى قربه ولذا جاوزوا الجحيم ودخلوا النعيم فى قرب عالم الحقيقة ولذا كانوا بالنسبة الى نفس الحقيقة موطنين فى عالم المجاز والفرقة لا فى عالم الحقيقة والوصلة واما الفريق الثانى فهم مخلدون فى النار ابدا لايمانهم بالطاغوت مطلقا وكفرهم بالله كذلك ثم سعادة الفريق الثالث على ما هو المنصوص فى القرآن قطعية الثبوت فى آخر النفس وشقاوة الفريق الثانى وسعادة الفريق الاول ليست قطعية الثبوت بل محتملة الثبوت فى آخر النفس بالنظر الى الافراد لجواز التبدل والتغير فى عاقبة الامر الدنيوى بالنظر الى افرادهم هذا ما التقطته من الكتاب المسمى باللائحات البرقيات لشيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة(2/59)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{ الله ولى الذين آمنوا } اى محبهم ومعينهم او متولى امورهم لا يكلهم الى غيره . فالولى قد يكون باعتبار المحبة والنصرة فيقال للمحب ولى لانه يقرب من حبيبه بالنصرة والمعونة لا يفارقه وقد يكون باعتبار التدبير والامر والنهى فيقال لاصحاب الولاية ولى لانهم يقربون القوم بان يدبروا امروهم ويراعوا مصالحهم ومهماتهم والمعنى الله ولى الذين اراد ايمانهم وثبت فى علمه انهم يؤمنون فى الجملة مآلا او حالا وانما اخرج عن ظاهره لان اخراج المؤمن بالفعل من الظلمات تحصيل الحاصل { يخرجهم من الظلمات } التى هى اعم من ظلمات الكفر والمعاصى وظلمات الشبه والشكوك بل مما فى بعض مراتب العلوم الاستدلالية من نوع ضعف وخفاء بالقياس الى مراتبها القوية الجلية بل مما فى جميع مراتبها بالنظر الى مرتبة العيان { الى النور } الذى يعم نور الايمان ونور الايقان بمراتبه ونور العيان اى يخرج بهدايته وتوفيقه كل واحد منهم من الظلمة التى وقع فيها الى ما يقابلها من النور . وجمع الظلمات لان فنون الضلالة متعددة والكفر ملل وافرد النور لان الاسلام دين واجد ويسمى الكفر ظلمة لالتباس طريقه ويسمى الاسلام نورا لوضوح طريقه { والذين كفروا } اى الذين ثبت فى علمه كفرهم { اولياؤهم الطاغوت } اى الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق من الكهنة وقادة الشر وان حمل على الاصنام التى هى جمادات فالمعنى لا يكون على الموالاة الحقيقية التى هى المصادقة او تولى الامر بل يكون على ان الكفار يتولونهم اى يعتقدونهم ويتوجهون اليهم . والطاغوت تذكر وتؤنث وتوحد وتجمع { يخرجونهم } بالوساوس وغيرها من طريق الاضلال والاغواء { من النور } اى الايمان الفطرى الذى جبلوا عليه كافة { الى الظلمات } اى ظلمات الكفر وفساد الاستعداد والانهماك فى الشهوات او من نور اليقينيات الى ظلمات الشكوك والشبهات واسناد الاخراج الى الطاغوت مجاز لكونها سببا له وذلك لا ينافى كون المخرج حقيقة هو الله تعالى فالآية لا تصلح ان تكون متمسكا للمعتزلة فيما ذهبوا اليه من ان الكفر ونحوه مما لا يكون اصلح للعبد ليس من الله تعالى بناء على انه اضاف الكفر الى الطاغوت لا الى نفسه { اولئك } اشارة الى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما يتبعه من القبائح { اصحاب النار } اى ملابسوها وملازموها بسبب مالهم من الجرائم { هم فيها خالدون } ماكثون ابدا ولم يقل بعد قوله { يخرجهم من الظلمات الى النور } اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون تعظيما لشأن المؤمنين لان البيان اللفظى لا يفى بما اعد لهم فى دار الثواب
واعلم ان مراتب المؤمنين فى الايمان متفاوتة وهم ثلاث طوائف . عوام المؤمنين . وخواصهم . وخواص الخواص فالعوام يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضلالة الى نور الايمان والهداية كقوله تعالى(2/60)
{ والذين اهتدوا زادهم هدى } والخواص يخرجهم من ظلمات الصفات النفسانية والجمسانية الى نور الروحانية الربانية كقوله تعالى { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكرالله } واطمئنان القلب بالذكر لم يكن الا بعد تصفيته عن الصفات النفسانية وتحليته بالصفات الروحانية وخواص الخواص يخرجهم من ظلمات حدوث الحلقة الروحانية بافنائهم عن وجودهم الى نور تجلى صفة القدم لهم ليبقيهم به كقوله تعالى { انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } الآية نسبهم الى الفتوة لما خاطروا بارواحهم فى طلب الحق وآمنوا بالله وكفروا بطاغوت دقيانوس فلما تقربوا الى الله بقدم الفتوة تقرب اليهم بمزيد العناية فاخرجهم من ظلمات النفسانية الى نور الروحانية فلما تنورت انفسهم بانوار ارواحهم اطمأنت الى ذكر الله وآنست به واستوحشت عن محبة اهل الدنيا وما فيها فاحبوا الخلاء كما كان حال النبى عليه الصلاة والسلام فى بدء الامر قالت عائشة رضى الله عنها اول ما بدئ به عليه الصلاة والسلام كان حبب اليه الخلاء ولعمرى هذا دأب كل طالب محق مريد صادق كذا فى التأويلات النجمية
قال الفخر الرازى بطريق الاعتراض ان جمعا من الصوفية يقولون الاشتغال بغير الله حجاب عن معرفة الله والانبياء عليهم الصلاة والسلام لا يدعون الخلق الا الى الطاعات والتكاليف فهم يشغلون الخلق بغير الله ويمنعونهم عن الاشتغال بالله فوجب ان لا يكون ذلك حقا وصدقا انتهى كلامه
يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة هذا الاعتراض ليس بشىء فان الطاعات والتكاليف وسائل الى معرفة الله الملك اللطيف فالدعوة ليست الا الى معرفة الله حقيقة ألا يرى الى تفسير ابن عباس رضى الله عنهما عند قوله تعالى { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } بقوله ليعرفون وانما عدل عنه الى ليعبدون مع انه خلاف مقتضى الظاهر حينئذ اشعارا بان المعرفة المقبولة هى التى تحصل بطريق العبادة فالاشتغال بغير الله وبغير عبادته حجاب أىّ حجاب ولذلك كان بدء حال السلف الخلاء والانقطاع عن الناس اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واهتماما فى رفع الحجاب الحاصل بالاختلاط : وفى المثنوى
آدمى راهست درهر كار دست ... ليك ازو مقصود اين خدمت بدست
ما خلقت الجن والانس اين بخوان ... جز عبادت نيست مقصود ازجهان
ناجلا باشد مران آبينه را ... كه صفا آيد زطاعت سينه را(2/61)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{ ألم تر } اى ألم ينته علمك الذى يضاهى العيان فى الايقان وحقيقته اعلم باخبارنا فانه مفيد لليقين { الى الذى } اى الى قصة الملك الذى { حاج } اى جادل وخاصم وقابل بالحجة { ابراهيم } فى معارضة ربوبيته { فى ربه } وفى التعرض لعنوان الربوبية مع ان الاضافة الى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وايذان بتأييده فى المحاجة والذى حاج هو نمرود ابن كنعان بن سام بن نوح وهو اول من وضع التاج على رأسه وتجبر وادعى الربوبية { ان آتاه الله الملك } اى لان آتاه فهو مفعول له لقوله حاج . وله معنيان . احدهما انه من باب العكس فى الكلام بمعنى انه وضع المحاجة موضع الشكر اذ كان من حقه ان يشكر فى مقابلة ايتاء الملك ولكنه عكس ما هو الحق الواجب عليه كما تقول عادانى فلان لانى احسنت اليه تريد انه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لاجل الاحسان . والثانى ان ايتاء الملك حمله على ذلك لانه اورثه الكبر والبطر فنشأ عنهما المحاجة والمعنى اعطاه كثرة المال واتساع الحال وملك جميع الدنيا على الكمال
قال مجاهد لم يملك الدنيا باسرها الا اربعة مسلمان وكافران فالمسلمان سليمان وذو القرنين والكافران نمرود وبخت نصر وهو شداد بن عاد الذى بنى ارم فى بعض صحارى عدن . ثم هو حجة على من منع ايتاء الله الملك للكافر وهم المعتزلة لان مذهبهم وجوب رعاية الاصلح للعبد على الله وايتاء الله الملك للكافر تسليط له على المؤمنين وذلك ليس باصلح لحال المؤمن قلنا انما ملكه امتحانا له ولعباده { اذ قال ابراهيم } ظرف لحاج { ربى الذى يحيى ويميت } روى انه عليه السلام لما كسر الاصنام سجنه ثم اخرجه ليحرقه فقال من ربك الذى تدعونا اليه قال { ربى الذى يحيى ويميت } اى يخلق الحياة والممات فى الاجساد وجواب ابراهيم فى غاية الصحة لانه لا سبيل الى معرفة الله الا بمعرفة صفاته وافعاله التى لا يشاركه فيها احد من القادرين والاحياء والاماتة من هذا القبيل { قال } كأنه قيل كيف حاجه فى هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال { انا احيى واميت } روى انه دعا برجلين قد حبسهما فقتل احدهما واطلق الآخر فقال قد احييت هذا وامت هذا فجعل ترك القتل احياء وكان هذا تلبيسا منه { قال ابراهيم } كأنه قيل فماذا قال ابراهيم لمن فى هذه الرتبة فى المحاجة وبماذا افحمه فقيل قال { فان الله } جواب شرط مقدر تقديره قال ابراهيم اذا ادعيت الاحياء والاماتة واتيت بمعارضة مموهو ولم تعلم معنى الاحياء فالحجة ان الله { يأتى بالشمس من المشرق } تحريكا قسريا حسبما تقتضيه مشيئته والباء للتعدية { فائت بها من المغرب } تسييرا طبيعيا فانه اهون ان كنت قادرا على مثل مقدوراته تعالى ولم يلتفت عليه السلام الى ابطاله مقالة اللعين ايذانا بان بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفى على احد وان التصدى بابطالها من قبيل السعى فى تحصيل الحاصل واتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالا للتمويهوالتلبيس فهو عدول عن مثال الى مثال آخر لايضاح كلامه وليس انتقالا من دليل الى دليل آخر لان ذلك غير محمود فى باب المناظرة { فبهت الذى كفر } اى صار مبهوتا ومتحيرا مدهوشا وايراد الكفر فى حيز الصلة للاشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفرا
قال فى اسئلة الحكم الحكمة فى طلوع شمس قرب القيامة من مغربها ان ابراهيم عليه الصلاة والسلام قال لنمرود { ان الله يأتى بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب فبهت الذى كفر } وان السحرة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك وانه غير كائن فيطلعها الحق يوما من المغرب ليرى المنكرين قدرته وان الشمس فى ملكه ان شاء اطلعها من المشرق او المغرب { والله لا يهدى القوم الظالمين } اى الذين ظلموا انفسهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب اعراضهم عن قبول الهداية الى مناهج الاستدلال اى عن قبول الدلائل القطعية الدالة على الحق دلالة واضحة بالغة فى الوضوح والقوة الى حيث جعل الخصم مبهوتا متحيرا فمن ظلم نفسه بالامتناع عن قبول مثل هذه الدلائل لا يجعله الله مهتديا بها لان المعتبر فى دار التكليف ان يهتدى وقت اختيارهم الكفر والظلم اى لا يخلق فيهم فعل الهداية وهم يختارون فعل الضلال ويحتمل انه لا يهدى طريق الجنة فى الآخرة من كفر بالله فى الدنيا روى ان النمرود لما عتا عتوا كبيرا والقى ابراهيم فى النار بعد هذه المحاجة سلط الله على قومه البعوض فاكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق الا العظام والنمرود كما هو لم يصبه شىء فبعث الله بعوضة فدخلت فى منخره فمكث اربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق فعذبه الله اربعمائة سنة كما ملك اربعمائة سنة وهو الذى بنى صرحا الى السماء ببابل فاتى الله بنياهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم : قال الشيخ العطار قدس سره(2/62)
سوى او خصمى كه تير انداخته ... بشه كارش كفايت ساخته
والاشارة ان الله تعالى اعطى النمرود ملكا ما اعطى لاحد قبله ادعى الربوبية ما ادعى بها احد قبله وذلك ان الله اعطى الانسان حسن استعداد لطلب الكمال فمن حسن استعداده فى الطلب وغاية لطافته فى الجوهر دائم الحركة فى طلب الكمال فحيثما توجه الكمال اخذ فى السير فيها الى اقصى مراتبها فى العلوى والسفلى فان وكل الى نفسه فى طلب الكمال فينظر بنظر الحواس الخمس الى المحسوسات وهى الدنيا فلا يتصور الا الدنيا فلا يتصور الكمال الا فيها فيأخذ فى السير لطلب الكمال وهذا السير موافق لسيره الطبيعى لانه خلق من تراب والتراب سفلى الطبع فيميل الى السفليات طبعا والدنيا هى السفل فيسير فيها بقدمى الطبع وطلب الكمال ففى البداية يرى الكمال فى جمع المال فيجمعه ثم يرى الكمال فى الجاه فيصرف المال فى طلب الجاه ثم يرى الكمال فى المناصب والحكم ثم يرى فى الامارة والسلطنة فيسير فيها ما لم يكن مانع الى ان يملك الدنيا باسرها كما كان حال النمرود ثم لا يسكن جوهر الانسان فى طلب الكمال بل كلما ازداد استغناؤه ازداد حرصه وكلما ازداد حرصه ازداد طلبه الى ان لا يبقى شىء من السفليات دون ان يملكه ثم يقصد العلويات والى الآن كان ينازع ملوك الارض والآن ينازع ملك الملوك ومالك الملك فى السموات والارض فيدعى الربوبية كالنمرود فانه كان سبب طغيانه استغناؤه قال تعالى(2/63)
{ ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى } فاذا كمل استغناؤه كمل طغيانه حتى يكفر بالنعمة فهذا كله عند فساد جوهره لما وكل الى نفسه واذا اصلح جوهره بالتربية ولم يكله الى نفسه هدى الى جهة الكمال المستعد له كقوله { اهدكم سبيل الرشاد } فصاحب التربية وهو النبى او خليفته وهو الشيخ المرشد يربيه وتربيته فى تبرئته مما سوى الله الى ان بلغ حد كماله فى طلب الكمال وهو افناء الوجود فى وجود الموجود ليكون مفقودا عن وجوده موجودا بموجده فلما كان يقول عند فساد الجوهر وابطال حسن الاستعداد بالكمال انا احيى واميت فيقول عند صلاح الجوهر وصرف حسن الاستعداد فى طلب الكمال ما فى الوجود سوى الله فالمجد يدق بمطرقة لا اله الا الله دماغ نمرود النفس الى ان يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده ووجود كل موجود سوى الله والله لا يهدى القوم المشركين الى عالم التوحيد والشرك ظلم عظيم فالبشرك ضل من ضل فزل عن الصراط المستقيم كذا فى التأويلات النجمية
فعلى العاقل ان يتخلص من الشرك الخفى ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ولا يغتر بالمال والمنال بل يرجع الى الله الملك المتعال
وقد وجدت صخرة عظيمة وعليها اسطر قديمة . فرحك بشىء من الدنيا دليل على بعدك من الله . وسكونك الى ما فى يدك دليل على قلة ثقتت بالله . ورجوعك الى الناس فى حال الشدة دليل على انك لم تعرف الله انتهى : قال السعدى قدس سره
شنيدم كه جمشيد فرخ سرشت ... بسر جشمة بر بسنكى نوشت
برين جشمه جون مابسى دم زدند ... برفتند جون جشم برهم زدند
كرفتيم علام بمردى وزور ... وليكن نبرديم باخود بكور
برفتند وهركس درود آنجه كشت ... نماند بجز نام نيكو وزشت
اللهم اجعلنا من الذين طال عمرهم وحسن عملهم وقصر املهم وكمل عقلهم(2/64)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{ أو كالذى مر على قرية } عطف على قوله ألم تر وتقديره اورأيت مثل الذى فعل كذا اى ما رأيت مثله فتعجب منه وتخصيصه بحرف التشبيه لان المنكر للاحياء كثير والجاهل بكيفيته اكثر من ان يحصى بخلاف مدعى الربوبية . والمار هو عزير بن شرخيا والقرية بيت المقدس على الاشهر الاظهر واشتقاقها من القرى وهو الجمع روى ان بنى اسرائيل لما بالغوا فى تعاطى الشر والفساد سلط الله عليهم بخت نصر البابلى فسار اليهم فى ستمائة الف راية حتى وطئ الشام وخرب بيت المقدس وجعل بنى اسرائيل اثلاثا ثلثا منهم قتلهم وثلثا منهم اقرهم بالشام وثلثا منهم سباهم وكانوا مائة الف غلام يافع وغير يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فاصاب كل ملك منهم اربعة غلمة وكان عزير من جملتهم فلما نجاه الله منهم بعد حين مر بحماره على بيت المقدس فرآه على افظع مرأى واوحش منظر وذلك قوله { وهى خاوية على عروشها } اى خالية عن اهلها وساقطة على سقوفها بان سقطت العروش ثم الحيطان سقطت عليها من خوت المرأة وخويت خوى اى خلا جوفها عند الولادة وخوت الدار خواء بالمد وخوى البيت خوى بالقصر اى سقط والعرش سقف البيت ويستعمل فى كل ما هيئ ليستظل به { قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها } اى يعمر الله تعالى هذه القرية بعد خرابها على هذا الوجه اذ ليس المراد بالقرية اهلها بل نفسها بدليل قوله { وهى خاوية على عروشها } لم يقله على سبيل الشك فى القدرة بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة { فاماته الله } اى جعله ميتا { مائة عام } روى انه لما دخل القرية نزل تحت ظل شجرة وهو على حمار فربط حماره وطاف فى القرية ولم ير بها احدا فقال ما قال وكانت اشجارها قد اثمرت فتناول من فواكهها التين والعنب وشرب من عصير العنب ونام فاماته الله فى منامه وهو شاب وكان معه شىء من التين والعنب والعصير وكانت هذه الاماتة عبرة لا انقضاء مدة كاماتة الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف وامات حماره ايضا ثم اعمى الله عن جسده وجسد حماره ابصار الانس والسباع والطير فلما مضى من موته سبعون سنة وجه الله ملكا عظيما من ملوك فارس يقال له يوشك الى بيت المقدس ليعمره ومعه الف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة الف عامل فجعلوا يعمرون واهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله من بقى من بنى اسرائيل وردهم الى بيت المقدس وتراجع اليه من تفرق منهم فى الاكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثروا وكانوا كاحسن ما كانوا فلما تمت المائة من موت العزير احياه الله تعالى وذلك قوله تعالى { ثم بعثه } من بعثت الناقة اذا اقمتها من مكانها ويوم القيامة يسمى يوم البعث لانهم يبعثون من قبورهم وانما ق ثم بعثه ولم يقل ثم احياه لانه قوله ثم بعثه يدل على انه عاد كما كان اولا حيا عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال فى المعارف الآلهية ولو قال ثم احياه لم تحصل هذه الفوائد { قال } كأنه قيل فماذا قال بعد بعثه فقيل قال الله تعالى او ملك مأمور من قبله تعالى { كم } يوما او وقتا { لبثت } يا عزير ليظهر له عجزه عن الاحاطة بشئونه تعالى وان احياءه ليس بعد مدة يسيرة ربما يتوهم انه هين فى الجملة بل مدة طويلة وتنحسم به مادة استبعاده بالمرة ويطلع فى تضاعيفه على امر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى وهو ابقاء الغذاء المتسارع الى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهرا طويلا من غير تغير ما { قال لبثت يوما او بعض يوم } كقول الظان قاله بناء على التقريب والتخمين او استقصار المدة لبثه { قال } ما لبثت ذلك المقدار { بل لبثت مائة عام } يعنى كنت ميتا هذه المدة { فانظر } لتعاين امرا آخر من دلائل قدرتنا { الى طعامك وشرابك لم يتسنه } اى لم يتغير فى هذه المدة المتطاولة مع تداعيه الى الفساد روى انه وجد تينه وعنبه كما جنى وعصيره كما عصر والجملة المنفية حال بغير واو من الطعام والشراب لان المضارع المنفى اذا وقع حالا يجوز ان يكون بالواو وبدونها وافراد الضمير مع ان الظاهر ان يقال لم يستنها او لم تسنيا لان المذكور قبله شيآن الطعام والشراب لجريانهما مجرى الواحد كالغذاء .(2/65)
والهاء فى لم يتسنه ان كانت اصلية فهو من السنة التى اصلها سنهة وان كانت هاء سكت فهو من السنة التى اصلها سنوة واستعمال لم يتسنه فى معنى لم يتغير من قبيل استعمال اللفظ فى لازم معناه لان المعنى الاصلى لقولنا تسنه او تسنى مرت عليه السنون والاعوام ويلزمه التغيير { وانظر الى حمارك } كيف نخرت عظامه وتفرقت وتقطعت اوصاله وتمزقت ليتبين لك ما ذكر من لبثك المديد وتطمئن به نفسك { ولنجعلك آية } كائنة { للناس } الواو استئنافية واللام متعلقة بمحذوف والتقدير فعلنا ذلك اى احياءك واحياء حمارك وحفظ ما معك من الطعام والشراب لنجعلك آية للناس الموجودين فى هذا القرن بان يشاهدوك وانت من اهل القرون الخالية ويأخذوا منك ما طوى عنهم منذ احقاب من علم التوراة { وانظر الى العظام } تكرير الامر مع ان المراد عظام الحمار ايضا لما ان المأمور به اولا هو النظر اليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللبث المديد وثانيا هو النظر اليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها اى وانظر الى عظام الحمار لتشاهد كيفية الاحياء فى غيرك بعد ما شاهدت نفسه فى نفسك { كيف ننشزها } يقال انشزته فنشز اى رفعته فارتفع اى نرفع بعضها من الارض الى بعض ونردها الى اماكنها من الجسد فتركبها تركيبا لائقا بها .(2/66)
والجملة حال من العظام والعامل فيها انظر تقديره انظر الى العظام محياة او بدل من العظام على حذف المضاف والتقدير انظر الى حال العظام { ثم نكسوها لحما } اى نسترها به كما يستر الجسد باللباس وانما وحد اللحم مع جمع العظام لان العظام متفرقة متعددة صورة واللحم متصل متحد مشاهدة ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح لما انها مما لا تقتضى الحكمة بيانه روى انه سمع صوتا من السماء ايتها العظام البالية المتفرقة ان الله يأمرك ان ينضم بعضك الى بعض كما كان وتكتسى لحما وجلدا فالتصق كل عظم بآخر على الوجه الذى كان عليه اولا وارتبط بعضها ببعض بالاعصاب والعروق ثم انبسط اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد ثم نفخ فيه الروح فاذا هو قائم ينهق { فلما تبين له } اى ظهر له احياء الميت عيانا { قال اعلم ان الله على كل شىء } من الاشياء التى من جملتها ما شاهده فى نفسه وفى غيره من تعاجيب الآثار { قدير } لا يستعصى عليه امر من الامور روى انه ركب حماره واتى محلته وانكره الناس وانكر الناس وانكر المنازل فانطلق على وهم منه حتى اتى منزله فاذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد ادركت زمن عزير فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير قالت نعم واين ذكرى عزير وقد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديدا قال فانى عزير قالت سبحان الله أنى يكون ذلك قال قد أماتنى الله مائة عام ثم بعثنى قالت ان عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة فادع الله لى برد بصرى حتى اراك فدعا ربه ومسح بين عينيها فصحتا فاخذ بيدها فقال قومى باذن الله فقامت صحيحة كأنها نشطت من عقال فنظرت اليه فقالت اشهد انك عزير فانطلقت الى محلة بنى اسرائيل وهم فى انديتهم وكان فى المجلس ابن العزير قد بلغ مائة وثمانى عشرة سنة وبنوا بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت انظروا فانى بدعائه رجعت الى هذه الحالة فنهض الناس فاقبلوا اليه فقال ابنه كان لأبى شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فاذا هو كذلك وقد كان قتل بخت نصر بيت المقدس من قراء التوراة اربعين الف رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا احد يعرف التوراة فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير ان يخرم منها حرفا اى ينقص ويقطع فقال رجل من اولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصر حدثنى ابى عن جدى انه دفن التوراة يوم سبينا فى خابية فى كرم فان أريتمونى كرم جدى اخرجتها لكم فذهبوا الى كرم جده ففتشوه فوجدوها فعارضوها بما املى عليهم عزير عليه السلام عن ظهر القلب فما اختلفا فى حرف واحد فعند ذلك قالوا عزير ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وفى القصة تنبه على ان الداعى اذا راعى آداب الدعاء اجيب سريعا من غير مشقة تلحقه واذا ترك الادب لحقته المشقة وابطأت الاجابة فان ابراهيم عليه السلام لما قال(2/67)
{ رب ارنى كيف تحيى الموتى } وبدأ بالثناء ثم سأل احياء الموتى اراه اله ذلك فى غيره فانه اراه فى طيره وعجل له ذلك على فوره وعزير قال { أنى يحيى هذه الله بعد موتها } فأرى ذلك فى نفسه بعد مائة عام مضت على موته : قال السعدى
نبايد سخن مفت ناساخته ... نشايد بريدن نينداخته
والاشارة فى تحقيق الآية ان قوما انكروا حشر الاجساد مع انهم اعتقدوا واقروا بحشر الارواح وقالوا الارواح كان تعلقها بالاجساد لاستكمالها فى عالم المحسوس كالصبى يبعث الى المكتب ليتعلم الادب فلما حصل مقصوده من التعلم بقدر استعداده وحرج من المكتب ودخل محفل اهل الفضل وصاحبهم سنين كثيرة واستفاد منهم انواع العلوم التى لم توجد فى المكتب الا انه استفاد العلوم من الفضلاء بقوة ادبه الذى تعلمه فى المكتب وصار فاضلا فى العلوم فما حاجته بعد ان كبر شأنه وعظم قدره الى ان يرجع الى المكتب وحالة صباه فكذا الارواح لما خرجت من سجن الاشباح واتصلت بالارواح المقدسة بقوة علوم الجزئيات التى حصلتها من عالم الحس واستفادت من الارواح العلوية علم الكليات التى لم توجد فى عالم الحس فما حاجتها الى ان ترجع الى سجن الاجساد فكانت نفوسهم تسول لهم هذه التسويلات والشيطان يوسوسهم بمثل هذه الشبهات فالله سبحانه من كمال فضله ورحمته على عباده المخلصين امات عزيرا مائة سنة وحماره معه ثم احياهما جميعا ليستدل به العقلاء على ان الله مهما يحيى عزير الروح يحيى معه حمار جسده فلا يشك العاقل بتسويل النفس ووسوسة الشيطان وشبهات الفلسفى فى حشر الاجساد فكما ان عزير الروح يكون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر يكون حمار جسده فى الجنة فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلى صفحات الجمال والجلال عن ساقى وسقاهم ربهم شربا طهورا والحمار الجسد مشرب من انهار الجنات وحياض رياض ولكم فيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وقد علم كل اناس مشربهم
شربنا واهرقنا على الارض جرعة ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
كذا فى التأويلات النجمية(2/68)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{ واذ قال ابراهيم } اى اذكر وقت قوله وذكر الوقت يوجب ذكر ما وقع فى ذلك الوقت من الحوادث بالطريق البرهانى { رب } كلمة استعطاف قدمت بين الدعاء مبالغة فى استدعاء الاجابة { ارنى كيف تحيى الموتى } اى بصرنى كيفية احيائك للموتى بان تحييها وانا انظر اليها انما سأل ذلك ليصير علمه عيانا وقد شرفه الله بعين اليقين بل بحق اليقين الذى هو اعلى المقامات . والفرق ان علم اليقين هو المستفاد من الاخبار . وعين اليقين هو المعاينة لامرية فيه قال تعالى فى حق الكفار { ثم لترونها عين اليقين } فلما دخلوا النار وباشروا عذابها قال تعالى { فنزل من حميم وتصلية حجيم ان هذا لهو حق اليقين } { قال } ربه { أولم تؤمن } اى ألم تعلم يقينا ولم تؤمن بانى قادر على الاحياء باعادة التركيب والحياة قاله عز وعلا مع علمه بانه اعرف الناس بالايمان يظهر ايمانه لكل سامع بقوله بلى فيعلم السامعون غرضه من هذا القول وهو الوصول الى العيان { قال } ابراهيم { بلى } علمت وآمنت بذلك { ولكن } سألت ما سألت { ليطمئن قلبى } اى ليسكن ويحصل طمأنينته بالمعاينة فان عين اليقين يوجب الطمأنينة لا علمه
فان قلت ما معنى قول على رضى الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا قلت ما ازددت يقينا بالايمان بها وكان اذ رأى الآخرة ابصر بها من الفضائل والهيآت ما لم يحط به قبل ذلك وكذلك ابراهيم لما رأى كيفية الاحياء وقف على ما لم يقف عليه قبل { قال } ربه ان اردت ذلك { فخذ اربعة من الطير } طاووسا وديكا وغرابا وحمامة ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام وانما خص الطير لانه اقرب الى الانسان واجمع لخواص الحيوان { فصرهن } من صاره يصوره وبكسر الصاد من صاره يصيره والمعنى واحد اى املهن واضممهن واجمعهن { اليك } لتتأملها وتعرف اشكالها مفصلة حتى تعلم بعد الاحياء ان جزأ من اجزائها لم ينتقل من موضعه الاول اصلا روى انه امر بان يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق اجزاءها ولحومها ويمسك رؤسها ثم امر بان يجعل اجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى { ثم اجعل على كل جبل } من الجبال التى بحضرتك وكانت سبعة او اربعة فجزأها اربعة اجزاء فقال تعالى ضع على كل جبل { منهن } اى من كل الطيور { جزأ ثم ادعهن } قل لهن تعالين باذن الله تعالى { يأتينك سعيا } اى ساعيات مسرعات طيرانا او مشيا ففعل كما امره فجعل كل جزء يطير الى آخر حتى صارت جثثا ثم اقبلن فانضمت كل جثة الى رأسها فعادت كل واحدة الى ما كانت عليه من الهيئة وجعل ابراهيم ينظر ويتعجب { واعلم ان الله عزيز } غالب على امره لا يعجزه شىء عما يريده { حكيم } ذو حكمة بالغة فى افاعيله فليس بناء افعاله على الاسباب العادية لعجزه عن ايجادها بطريق آخر خارق للعادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح
قال القشيرى طلب ابراهيم عليه السلام بهذه حياة قلبه فاشير اليه بذبح الطيور وفى الطيور الاربعة اربعة معان هى فى النفس فى الطاووس زينة .(2/69)
وفى الغراب امل . وفى الديك شهوة . والبط حرص فاشار الى انه ما لم يذبح نفسه بالمجاهدة لم يحى قلبه بالمشاهدة : وفى المثنوى
حرص بط يكتاست اين نيجاه تاست ... حرص شهوت مار ومنصب ازدهاست
حرص بط از شهوت حلقست وفرج ... در رياست بيست جند انست درج
صد خرونده كنجد اندر كرد خوان ... دو رياست در نكنجد درجهان
كاغ كاغ ونعره زاغ سياه ... دائما باشد بدنيا عمر خواه
همجو ابليس از خداى باك فرد ... تا قيامت عمرتن در خواست كرد
عمرو مرك اين هردو باحق خوش بود ... بى خدا آب حيات آتش بود
عمر خوش در قرب جان بروردنست ... همر زاغ از بهر سركين خوردنست
قال فى التأويلات النجمية الطيور الاربعة هى الصفات الاربع التى تولدت من العناصر الاربعة التى خمرت طينة الانسان منها وهى التراب والماء والنار والهواء فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان فمن التراب وقرينه الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان حيث وجد احدهما وجد قرينه ومن النار وقرينها الهواء تولد الغضب والشهوة وهما قرينان يوجدان معا ولكل واحدة من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن اليها كحواء وآدم ويتولد منها صفات اخرى فالحرص زوجه الحسد والبخل زوجه الحقد والغضب زوجه الكبر وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هى كالمعشوقة بين الصفات فيتعلق بها كل صفة ولها منها متولدات يطول شرحها فهى الابواب السبعة للدركات السبع من جهنم منها يدخل الخلق جهنم التى لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم يعنى من الخلق فمن كان الغالب عليه صفة منها فيدخل النار من ذلك الباب فامر الله خليله بذبح هذه الصفات وهى الطيور الاربعة طاووس البخل فلو لم يزين المال فى نظر البخيل كما زين الطاووس بألوانه ما بخل به وغراب الحرص وهو من حرصه اكثر فى الطلب وديك الشهوة وهو بها معروف ونسر الغضب ونسبته اليه لتصريفه فى الطيران فوق الطيور وهذه صفة المغضب فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقى له باب يدخل منه النار فلما القى فيها بالمنجنيق قهرا صارت النار عليه بردا وسلاما
والاشارة بتقطيعها بالمبالغة ونتف ريشها وتفريق اجزائها وتخليط ريشها ودمائها ولحومها بعضها ببعض اشارة الى محو آثار الصفات الاربع المذكورة وهدم قواعدها على يدى ابراهيم الروح بامر الشرع ونائب الحق وهو الشيخ
والامر بتقسيم اجزائها وجعلها على كل جبل جزأ فالجبال الاربعة هى النفوس التى جبل الانسان عليها .(2/70)
اولها النفس النامية وتسمى النفس النباتية . وثانيها النفس الامارة وتسمى الروح الحيوانى . وثالثها قوة الشيطنة وتسمى الروح الطبيعى . ورابعها قوة الملكية وهو الروح الانسانى فطيور الصفات لما ذبحت وقطعت وخلطت اجزاء بعضها بعض ووضع على كل جبل روح ونفس وقوة منها جزء بامر الشرع تكون بمثابة اشجار وزروع تجعل عليها الترب المخلوطة بالزبل والقاذورات باستصواب دهقان ذى بصارة فى الدهقنة بمقدار معلوم ووقت معلوم ثم يسقيها بالماء ليتقوى الزرع بقوة الترب والزبل وتتصرف النفس النامية النباتية فى الترب المخلوطة الميتة فتحييها باذن الله تعالى كقوله تعالى { فانظر الى آثار رحمة الله كيف يحيى الارض بعد موتها } فكذلك الصفات الاربع وهى الحرص والبخل والشهوة والغضب مهما كانت كل واحدة منها على حالها غالبة على الجوهر الروحانى تكدر صفاءه وتمنعه من الرجوع الى مقامه الاصلى ووطنه الحقيقى فاذا كسرت سطوتها ووهنت قوتها واميتت شعلتها ومحيت آثار طباعها بامر الشرع وخلطت اجزاؤها المتفرقة بعضها ببعض ثم قسمت باربعة اجزاء وجعل كل جزء منها على جبل قوة او نفس او روح فيتقوى كل واحد من هؤلاء بتقويتها ويتربى بتربيتها فيتصرف فيها الروح الانسانى فيحييها ويبدل تلك الظلمات التى هى من خصائص تلك الصفات المذمومة بنور هو من خصائص الروح الانسانى والملكى فتكون تلك الصفات ميتة عن اوصافها حية باخلاق الروحانيات انتهى كلام التأويلات(2/71)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{ مثل } نفقات { الذين ينفقون اموالهم فى سبيل الله } اى فى وجوه الخيرات من الواجب كالزكاة والنفل وقدر فى الكلام حذف لان الذين ينفقون لا يشبهون الحبة لانه لا يشبه الحيوان بالجماد بل نفقاتهم تشبه الحبة { كمثل حبة } لزراع زرعها فى ارض عامرة والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات واكثر اطلاقه على البر { انبتت } اىخرجت واسناد الانبات الى الحبة مجاز { سبع سنابل } اى ساقات تشعب منها سبع شعب لكل واحدة منها سنبلة { فى كل سنبلة مائة حبة } كما يشاهد ذلك فى الذرة والدخن فى الاراضى المغلة بل اكثر من ذلك { والله يضاعف } تلك المضاعفة الى ما شاء الله تعالى { لمن يشاء } ان يضاعف له بفضله وعلى حسب حال المنفق من اخلاصه وتعبه ولذلك تفاوتت مراتب الاعمال فى مقادير الثواب { والله واسع } لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة { عليم } بنية المنفق ومقدار انفاقه وكيفية تحصيل ما انفقه . فمثل المتصدق كمثل الزارع اذا كان حاذقا فى عمله وكان البذر جيدا وكانت الارض عامرة يكون الزرع اكثر . فكذلك المتصدق اذا كان صالحا والمال طيبا ووضع فى موضعه يكون الثواب اكثر كما روى فى الحديث عن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبى عليه السلام « انه قال من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله الا الطيب فان الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى احدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل » وانما ذكر النبى عليه السلام التربية فى الصدقة وان كان غيرها من العبادات يزيد ايضا بقبوله اشارة الى ان الصدقة فريضة كانت او نافلة احوج الى تربية الله لثبوت النقيصة فيها بسبب حب الطبع الاموال وفى الحديث « صدقة المؤمن تدفع عن صاحبها آفات الدنيا وفتنة القبر وعذاب يوم القيامة » وفى الحديث « السخاوة شجرة اصلها فى الجنة واغصانها متدليات فى دار الدنيا فمن تعلق بغصن منها يسوقه الى الجنة والبخل شجرة اصلها فى النار واغصانها متدليات فى دار الدنيا فمن تعلق بغصن منها يسوقه الى النار » وفى الحديث « الساعى على الارملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله » اى الكاسب لتحصيل مؤنتهما كالمجاهد لان القيام بمصالحهما انما يكون بصبر عظيم وجهاد نفس لئيم فيكون ثوابه عظيما : وفى بستان الشيخ السعدى قدس سره
يكى از بزركان اهل تميز ... حكايت كند زابن عبد العزيز
كه بودش نكينى در انكشترى ... فرومانده ازقيمتش مشترى
بشب كفتى آن جرم كيتى فروز ... درى بود در روشنايى جوروز
قضارا در آمد يكى خشك سال ... كه شد بدر سيماى مردم هلال
جو درمردم آرام وقوت نديد ... خود آسوده بودن مروت نديد
جو بيند كسى زهر دركام خلق ... كيش بكذرد آب شيرين بحلق
بفرمود بفروختندش بسيم ... كه رحم آمدش بر فقير ويتيم
بيك هفته نقدش بتاراج داد ... بدرويش ومسكين ومحتاج داد
فتادند دروى ملامت كنان ... كه ديكر بدستت نيايد جنان
شنيدم كه ميكفت باران دمع ... فروميدويدش بعارض جوشمع
كه زشتست بيرايه بر شهريار ... دل شهرى از ن توانى فكار
مراشايد انكشترى بى تكين ... نشايد دل خلق اندوهكين
خنك آنكه آسايش مرد وزن ... كزيند بر آسايش خويشتن
نكردند رغبت هنر بروران ... بشادئ خويش از غم ديكران(2/72)
واعلم ان الاعمال بالنيات فان قلت ما معنى قوله عليه السلام « نية المؤمن خير من عمله » قلت مورد الحديث ان عثمان رضى الله تعالى عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم انه وعد بثواب عظيم على حفر بئر فنوى ان يحفرها فسبق اليه كافر فحفرها فقال عليه السلام « نية المؤمن خير من عمله » اى عمل الكافر والجواب الثانى ان النية المجردة من المؤمن خير من عمله المجرد عن النية لانه اذا فعل فعل الخير بغير نية يكون عمله مع النية خيرا من ذلك لكن قال بعضهم ليس فى بعض الاعمال اجر بغير نية كالصلاة لا تجوز بغير نية ولا يحتاج بعض الاعمال الى النية كقراءة القرآن والاذكار
ثم اعلم ان الانفاق على مراتب . انفاق العامة بالمال فاجرهم الجنة . وانفاق الخواص اصلاح الحال بتزكية النفس وتصفية القلب فاجرهم يوم القيامة النظر الى وجه الله تعالى فينبغى للمؤمن ان يزكى نفسه ويصفى قلبه من حب المال بالانفاق فى سبيل الله الملك المتعال حتى ينال الشرف فى الجنان ويحترز عن البخل حتى لا يكون عند الله تعالى من الخاسرين(2/73)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{ الذين ينفقون اموالهم فى سبيل الله } اى يضعونها فى مواضعها { ثم } لاظهار علو رتبة المعطوف { لا يتبعون ما انفقوا } العائد محذوف اى ما انفقوه { منا } وهو ان يعتد على من احسن اليه باحسانه ويريه انه اوجب بذلك عليه حقا اى لا يمنون عليهم بما تصدقوا بان يقول المتصدق المانّ اصطنعتك كذا خيرا واحسنت اليك كثيرا { ولا اذى } وهو ان يتطاول عليه بسبب انعامه عليه اى لا يؤذيه بان يقول المتصدق المؤذى انى قد اعطيتك فما شكرت او الى كم تأتينى وتؤذينى او كم تسأل ألا تستحيى او انت ابدا تجيئنى بالابرام فرج الله عنى منك وباعد ما بينى وبينك { لهم اجرهم عند ربهم } ثوابهم فى الآخرة وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بان ترتب الاجر على ما ذكر من الانفاق وترك المن والاذى امر بين لا يحتاج الى التصريح بالسببية { ولا خوف عليهم } مما يستقبلهم من العذاب { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا من امور الدنيا روى ان الحسن بن على رضى الله عنهما اشتهى طعاما فباع قميص فاطمة بستة دراهم فسأله سائل فاعطاها ثم لقى رجلا يبيع ناقة فاشتراها باجل وباعها من آخر فاراد ان يدفع الثمن الى بائعها فلم يجده فحكى القضية الى النبى عليه السلام فقال اما السائل فرضوان واما البائع فيمكائيل واما المشترى فجبرائيل فنزل قوله تعالى { الذين ينفقون اموالهم } الآية
قال بعض اهل التفسير نزلت هذه الآية والتى قبلها فى عثمان وعبد الرحمن رضى الله عنهما . اما عثمان فجهز جيش العسرة فى غزوة تبوك بالف بعير باقتابها والف دينار فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول « يا رب رضيت عنه فارض عنه » واما عبد الرحمن بن عوف فتصدق بنصف ماله اربعة آلاف دينار فقال عندى ثمانية آلاف فامسكت منها لنفسى وعيالى اربعة آلاف واربعة آلاف اقرضتها ربى فقال عليه السلام « بارك الله لك فيما امسكت وفيما اعطيت » فهذه حال عثمان وعبد الرحمن رضى الله عنهما حيث تصدقا ولم يخطر ببالهما شىء من المن والاذى . قال بعضهم المن يشبه بالنفاق والاذى يشبه بالرياء . ثم قال بعضهم اذا فعل ذلك فلا اجر له وعليه وزر فيما منّ وآذى على الفقير
قال وهب فلا اجر له ولا وزر له . وقال بعضهم له اجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن
واعلم ان الله تعالى نهى عباده ان يمنوا على احد بالمعروف مع انه تعالى قد من على عباده كما قال { بل الله يمن عليكم } وذلك لان الله تعالى تام الملك والقدرة وملكه وقدرته ليس بغيره والعبد وان كان فيه خصال الخير فتلك خصاله من الله ولم يكن ذلك بقوة العبد فالعبد ناقص والناقص لا يجوز له ان يمن على احد او يمدح نفسه والمن ينقص قدر النعمة ويكدرها لان الفقير الآخذ منكسر القلب لاجل حاجته الى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطى فاذا اضاف المعطى الى ذلك اظهار ذلك الانعام زاد ذلك فى انكسار قلبه فيكون فى حكم المضرب به بعد ان نفعه وفى حكم المسيئ اليه بعد ان احسن اليه : قال الحسين الكاشفى قدس سره(2/74)
آنجه كه بدهى جودهنده خداست ... منت بيهوده نهادن خطاست
هرجه دهى مى ده ومنت منه ... وآنجه بشيمان شوى آن هم مده
وقال السعدى قدس سره
جو انعام كردى مشوخود برست ... كه من سرورم ديكران زيردست
جوبينى دعا كوى دولت هزار ... خداوندرا شكر نعمت كذار
كه جشم ازتودارند مردم بسى ... نه توجشم دارى بدست كسى
قيل ان ابراهيم عليه السلام كان له خمسة آلاف قطيع من الغنم وعليها كلاب المواشى باطواق الذهب فتمثل له ملك فى صورة البشر وهو ينظر اغنامه فى البيداء فقال الملك [ سبوح قدوس رب الملائكة والروح ] فقال ابراهيم عليه السلام كرر ذكر ربى ولك نصف ما ترى من اموالى فكرر الملك فنادى ثانيا كرر تسبيح ربى ولك جميع ما ترى من مالى فتعجب الملائكة فقالوا جدير ان يتخذك الله خليلا ويجعل لك فى الملل والنحل ذكرا جميلا : وفى المثنوى
قرض ده زين دولت اندر اقرضوا ... تاكه صد دولت به بينى بيش رو
اندكى زين شرب كم كن بهر خويش ... تاكه حوض كوثرى يابى به بيش
وفى نوابغ الكلم « صنوان من منح سائله ومن ومن منع نائله وضن »
واعلم ان الناس على ثلاث طبقات . الاولى الاقوياء وهم الذين انفقوا جميع ما ملكوا وهؤلاء صدقوا فيما عاهدوا الله عليه من الحب كما فعل ابو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه . والثانية المتوسطون وهم الذين لم يقدروا على اخلاء اليد عن المال دفعة ولكن امسكوه لا للتنعم بل للانفاق عند ظهور محتاج اليه وقنعوا فى حق انفسهم بما يقويهم على العبادة والثالثة الضعفاء وهم المقتصرون على اداء الزكاة الواجبة اللهم اجعلنا من المتجردين عن عيرك والقانعين بك عما سواك(2/75)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{ قول معروف } رد جميل وهو ان يرد السائل بطريق جميل حسن تقبله القلوب والطباع ولا تنكره { ومغفرة } اى ستر لما وقع من السائل الالحاف فى المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه { خير من صدقة يتبعها اذى } لان من جمع بين نفع الفقير واضراره حرم الثواب فان قالوا أى خير فى الصدقة التى فيها اذى حتى يقال هذا خير منه قلنا يعنى عندكم كذلك وهو كقوله تعالى { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } اى عندكم ذلك خير لكن اعلموا ان هذا خير لكم فى الدنيا والآخرة مما تعدونه انتم خيرا { والله غنى } عما عندكم من الصدقة لا يحوج الفقراء الى تحمل مؤونة المن والاذى ويرزقهم من جهة اخرى { حليم } لا يعاجل اصحاب المن والاذى بالعقوبة لا انهم لا يستحقونها بسببهما . وفيه من السخط والوعيد لهم ما لا يخفى
قال فى مجالس حضرة الهدائى قدس سره وانما كان الرد الجميل خيرا من صدقة المان والمؤذى لان القول الحسن وان كان بالرد يفرح قلب السائل ويروح روحه ونفع الصدقة لجسده وسراية السرور لقلبه بالتبعية من تصور النفع فاذا قارن ما ينفع الجسد بما يؤذى الروح يكدر النفع حينئذ ولا ريب ان ما يروح الروح خير مما ينفع الجسد لان الروحانية اوقع فى النفوس واشرف
قال الشعبى من لم ير نفسه الى ثواب الصدقة احوج من الفقير الى صدقته فقد ابطل صدقته . وبالغ السلف فى الصدقة والتحرز فيها عن الريا فانه غالب على النفس وهو مهلك ينقلب فى القلب اذا وضع الانسان فى قبره فى صورة حية اى يؤلم ايلام الحية والبخل ينقلب فى صورة عقرب والمقصود فى كل انفاق الخلاص من رذيلة البخل فاذا امتزج به الرياء كان كانه جعل العقرب غذاء الحية فتخلص من العقرب ولكن زاد فى قوة الحية اذ كل صفة من الصفات المهلكة فى القلب انما غذاؤها وقوتها فى اجابتها الى مقتضاها . ثم ان الصدقة لا تنحصر فى المال بل تجرى فى كل معروف فالكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والاعانة فى حاجة واحد وعيادة مريض وتشييع جنازة وتطييب قلب مسلم كل ذلك صدقة
كر خير كنى مراد يابى ... در هر دوجهان كشاد يابى
احسان كن وبهر توئه خويش ... زادى بفرست توازين ييش
واعلم ان الدنيا وملكها لا اعتداد لها حكى عن بعض الملوك انه حبست الريح فى بطنه حتى قرب الى الهلاك فقال كل من يزيل عنى هذا البلاء اعطيته ملكى فسمعه شخص من اهل الله فجاء ومسح يده على بطنه فخرجت منه ريح منتنة وتعافى الملك من ساعته فقال يا سيدى اجلس على سرير المملكة انا عزلت نفسى فقال الرجل لا حاجة الى متاع قيمته ضرطة منتنة ولكن انت اتعظ من هذا فالشىء الذى اغتررت به قيمته هذا(2/76)
وعن الحسن قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على اصحابه فقال « هل منكم من يريد ان يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيرا . ألا انه من رغب فى الدنيا وطال امله فيها اعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر امله اعطاه الله تعالى علما بغير تعلم وهدى بغير هداية . ألا انه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك الا بالقتل والتجبر ولا الغنى الا بالفخر والبخل ولا المحبة الا باتباع الهوى . ألا فمن ادرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك الا وجه الله تعالى اعطاه الله تعالى ثواب خمسين صديقا » وفى المثنوى
كوزه جشم حريصان برنشد ... تاصدف قانع نشد بردر نشد(2/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى } فان من فعل ذلك لا اجر له فى صدقته وعليه وزر منه على الفقير ووزر ايذائه وقد سبق معنى المن والاذى والمراد بابطال الصدقة احباط اجرها لان الصدقة لما وقعت وتقدمت لم يمكن ان يراد بابطالها نفسها بل المراد احباط اجرها وثوابها لان الاجر لم يحصل بعد فيصح ابطاله بما يأتيه من المن والاذى { كالذى } المراد المنافق لان الكافر معلن كفره غير مراء والكاف فى محل النصب على انه صفة لمصدر محذوف اى لا تبطلوها ابطالا كابطال المنافق الذى { ينفق ماله رئاء الناس } اى لاجل رئائهم يعنى ليقال انه كريم { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لا يريد بانفاقه رضى الله ولا ثواب الآخرة . ورئائ من راآى نحو قاتل قتالا ومعنى المفاعلة ههنا مبنى على ان المرائى فى الانفاق يراعى ان تراه الناس فيحمدوه { فمثله } اى حالته العجيبة { كمثل صفوان } اى حجر صاف املس وهو واحد وجمع فمن جعله جمعا فواحده صفوانة ومن جعله واحدا فجمعه صفى { عليه تراب } اى يسير منه { فأصابه وابل } اى مطر شديد الوقع كبير القطر { فتركه صلدا } املس ليس عليه شىء من الغبار { لا يقدرون } كأنه قيل فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل لا يقدرون { على شىء مما كسبوا } اى لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا قطعا كقوله تعالى { فجعلناه هباء منثورا } يقال فلان لا يقدر على درهم اى لا يجده ولا يملكه
فان قلت كيف قال لا يقدرون بعد قوله كالذى ينفق قلت اراد بالذى ينفق الجنس او الفريق الذى ينق ولان من والذى يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق فجمع الضمير باعتبار المعنى ولما ذكر تعالى بطلان امر الصدقة بالمن والاذى ذكر لكيفية ابطال اجرها بهما مثلين فمثله اولا بمن ينفق ماله رئاء الناس وهو مع ذلك كافر بالله واليوم الآخر فان بطلان اجر ما انفقه هذا الكافر اظهر من بطلان اجر من يتبعها بالمن والاذى ثم مثله ثانيا بالصفوان الذى وقع عليه تراب وغبار ثم اصابه المطر فازال ذلك الغبار عنه حتى صار كانه ما كان عليه تراب وغبار اصلا فالكافر كالصفوان والتراب مثل ذلك الانفاق والوابل كالكفر الذى يحبط عمل الكافر وكالمن والاذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق فكما ان الوابل ازال التراب الذى وقع على الصفوان فكذا المن والاذى يجب ان يكونا مبطلين لاجر الانفاق بعد حصوله وذلك صريح فى القول بالاحباط والتكفير كما ذهب اليه المعتزلة القائلون بان الاعمال الصالحة توجب الثواب وان الكبائر تحبط ذلك الثواب واما اصحابنا القائلون بان الثواب تفضل محض فانهم قالوا ليس المراد بقوله لا تبطلوا النهى عن ازالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد النهى عن ان يأتى بهذا العمل باطلا(2/78)
وبيانه ان المن والاذى يخرجانه من ان يترتب عليه الاجر الموعود لان العمل انما يؤدى الى الاجر الموعود اذاتىبه العامل تعبدا وطاعة وابتغاء لما عند الله تعالى من الاجر والرضوان وعملا بقوله تعالى { وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً واعظم اجرا } وبقوله تعالى { ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة } فمن كان حامله على العمل ابتغاء ما عند الله مما وعده للمخلصين فقد جرى على سنن المبادلة التى وقعت بين العمل والثواب الذى وعده الله تعالى لمن اخلص عمله لله تعالى فلما كانت معاملته فى الحقيقة مع الله تعالى لم يبق وجه لان يمن على الفقير الذى تصدق عليه ولا لان يؤذيه بان يقول له مثلا خذه بارك الله لك فيه ومن من عليه او آذاه فقد اعرض عن جهة المبادلة مع الله ومال الى جهة التبرع على الفقير من غير ابتغاء وجه الله واتى بعمله من الابتداء على نعت البطلان فيكون محروما من البدل الذى وعده الله لمن اقرض الله قرضا حسنا اذ لم يقع عمله على وجه الاقراض { والله لا يهدى القوم الكافرين } الى الخير والرشاد . وفيه تعريض بان كلا من الرئاء والمن والاذى من خصائص الكفار ولا بد للمؤمنين ان يجتنبوها روى عن بعض العلماء انه قال مثل من يعمل الطاعة للرئاء والسمعة كمثل رجل خرج الى السوق وملأ كيسه حصى فيقول الناس ما املأ كيس هذا الرجل ولا منفعة له سوى مقالة الناس فلو اراد ان يشترى به شيأ لا يعطى به شيأ . وقد بالغ السلف فى اخفاء صدقتهم عن اعين الناس حتى طلب بعضهم فقيرا اعمى لئلا يعلم احد من المتصدق . وبعضهم ربط فى ثوب الفقير نائما . وبعضهم القى فى طريق الفقير ليأخذها وبذلك يتخلص من الرئاء : وفى المثنوى
كفت بيغمبر بيك صاحب ريا ... صل انك لم تصل يا فتى
از بارى جاره اين خوفها ... آمد اندر هر نمازى اهدنا
كين نمازم را مياميز اى خدا ... با نماز ضالين و اهل ريا
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم « ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك الاصغر » قالوا يا رسول الله وما الشرك الاصغر قال « الرياء يقول الله لهم يوم يجازى العباد باعمالهم اذهبوا الى الذى كنتم تراؤون لهم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء » وقال صلى الله عليه وسلم « ان الله تعالى اذا كان يوم القيامة ينزل الى العباد ليقضى بينهم وكل امة جاثية فاول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل فى سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم اعلمك ما انزلت على رسولى قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت اقرأ آناء الليل واطراف النهار فيقول الله تعالى كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل اردت ان يقال فلان قارئ فقد قيل ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم اوسع عليك حتى لم ادعك تحتاج الى احد قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك قال كنت اصل الرحم واتصدق فيقول الله كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل اردت ان يقال فلان جواد فقد قيل ذلك ويؤتى بالذى قتل فى سبيل الله فيقول له فيماذا قتلت فيقول يا رب امرت بالجهاد فى سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل اردت ان يقال فلان جرىء فقد قيل ذلك »(2/79)
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اولئك الثلاثة اول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة » قال السعدى
طريقت همينست كاهل يقين ... نكو كار بودند وتقصير بين
بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت
همان به كر آبستن كوهرى ... كه همجون صدف سر بخوددربرى
وكر آوازه خواهى در اقليم فاش ... برون حله كن كودرون حشو باش
اكرمسك خالص ندارى مكوى ... وكرهست خود قاش كردد ببوى
جه زنار مع درميانت جه دلق ... كه در بوشى از بهر بندار خلق
والاشارة فى الآية ان المعاملات اذا كانت مشوبة بالاغراض ففيها نوع من الاعراض ومن اعرض عن الحق فقد اقبل على الباطل ومن اقبل على الباطل فقد ابطل حقوقه فى الاعمال فماذا بعد الحق الا الضلال وقد نهينا عن ابطال اعمال البر بالاعراض عن طلب الحق والاقبال على الباطل بقوله { لا تبطلوا صدقاتكم } وهى من اعمال البر بالمن اى اذا مننت بها على الفقير فقد اعرضت عن طلب الحق لان قصدك فى الصدقة لو كان طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منة الفقير حيث كان سبب وصولك الى الحق ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « لولا الفقراء لهلك الاغنياء » معناه لم يجدوا وسيلة الى الحق وقد فسر بعضهم قوله عليه السلام « اليد العليا خير من اليد السفلى » بان اليد العليا هى يد الفقير والسفلى يد الغنى تعطى السفلى وتأخذ العليا . والاذى هو الاقبال على الباطل لان كل شىء غير الحق فهو باطل فمن عمل عملا لله ثم يشوبه بغرض فى الدارين فقد ابطل عمله بان يكون لله فافهم جدا كذا فى التأويلات النجمية : وفى المثنوى
عاشقا نرا شادمانى و غم اوست ... دست مزد واجرت خدمت هم اوست
غير معشوق ار تما شائى بود ... عشق نبود هرزه سودايى بود
عشق آن شعله است كوجون بر فروخت ... هرجه جز معشوق باقى جمله سوخت
فالعشق الآلهى والحب الرحمانى اذا استولى على قلب العبد يقطع عنه عرق الشركة فى الاموال والاولاد والانفس . والخدمة بالاجرة لا تناسب الرجولية فان من علم ان مولاه كريم يقطع قلبه عن ملاحظة الاجرة وتجىء اجرته اليه من ذلك الكريم على الكمال : قال الحافظ
تو بندكى جو كدايان بشرط مزد مكن ... كه خواجه خود روش بنده برورى داند
اللهم اقطع رجاءنا عن غيرك واجعلنا من الذين لا يطلبون منك الا ذاتك(2/80)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ ومثل } نفقات { الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضاة الله } اى لطلب رضاه { وتثبيتا من انفسهم } اى جعل بعض انفسهم ثابتا على الايمان والطاعة ليزول عنها رذيلة البخل وحب المال وامساكه والامتناع عن انفاقه فان النفس وان كانت مجبولة على حب المال واستثقال الطاعات البدنية الا انها ما عودتها تتعود : قال صاحب البردة
والنفس كالطفل ان تهمله شب على ... حب الرضاع وان تفطمه ينفطم
فمتى اهملتها فقد تمرنت واعتادت الكسل والبطالة والبخل وامساك المال عن صرفه الى وجوه الطاعات ومقتضيات الايمان وحيث كلفتها وحملتها على مشاق العبادات البدنية والمالية تنقاد لك وتتزكى عن عاداتها الجبلية . فمن تبعيضية كما فى قولهم « هز من عطفه وحرك من نشاطه »
فان قلت كيف يكون المال بعضا من النفس حتى تكون الطاعة ببذلهطاعة لبعض النفس وتثبيتا لها على الثمرة الايمانية قلت ان النفس لشدة تعلقها بالمال كأنه بعض منها فالمال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها : وفى المثنوى
آن درم دادن سخى را لايق است ... جان سبردن خود سخاى عاشق است
نان دهى از بهر حق نانت دهند ... جان دهى ازبهر حق جانت دهند
آن فتوت بخش هر بى علت است ... باكبازى خارج ازهر ملت است
در شريعت مال هركس مال اوست ... در طريقت ملك ما مملوك دوست
ويجوز ان يكون التثبيت بمعنى جعل الشىء صادقا محققا ثابتا والمعنى تصديقا للاسلام ناشئا من اصل انفسهم وتحقيقا للجزاء فان الانفاق امارة ان الاسلام ناشىء من اصل النفس وصميم القلب . فمن لابتداء الغاية كما فى قوله تعالى { حسدا من عند انفسهم } ولعل تحقيق الجزاء عبارة عن الايقان بان العمل الصالح مما يثيب الله ويجازى عليه احسن الجزاء { كمثل جنة } بستان كائن { بربوة } مكان مرتفع مأمون من ان يصطلمه البرد اى يفسده للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له فان اشجار الربا تكون احسن منظرا وازكى ثمرا واما الاراضى المنخفضة فقلما تسلم ثمارها من البرد لكثافة هوائها بركود الرياح . وقال بعضهم ان البستان اذا وقع فى موضع مرتفع من الارض لا تنفعه الانهار وتضر به الرياح كثيرا فلا يحسن ريعه الا اذا كان على الارض المستوية التى لا تكون ربوة ولا وهدة فالمراد من الربوة حينئذ كون الارض لينة جيدة بحيث اذا نزل المطر عليها انتفخت وربت ونمت فان الارض اذا كانت بهذه الصفة يكثر ريعها وتكمل اشجارها ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى { وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فان المراد من ربوها ما ذكر { اصابها وابل } اى وصل اليها مطر كبير القطر شديد الوقع { فآتت } اى عطت صاحبها او اهلها { اكلها } ثمرتها وغلتها وهو بضمتين الشىء المأكول .(2/81)
ويجوز ان يكون آتت بمعنى اخرجت فيتعدى الى مفعول واحد هو اكلها { ضعفين } اى مثلى ما كانت تثمر فى سائر الاوقات وذلك بسبب ما اصابها من الوابل
قال ابن عباس حملت فى سنة من الريع ما يحمل غيرها فى سنتين والمراد بالضعف المثل كما اريد بالزوج الواحد فى قوله تعالى { من كل زوجين اثنين } ومن فسره باربعة امثال ما كانت تثمر حمل الضعف على اصل معناه وهو مثلا الشىء فيكون ضعفين اربعة امثال { فان لم يصبها وابل فطل } اى فطل وهو المطر الصغير القطر يكفيها لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها . والطل اذا دام عمل عمل الوابل وجاز الابتداء بالنكرة لوقوعها فى جواب الشرط وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة ومن كلامهم ان ذهب العير فعير فى الرباط والمعنى تشبيه نفقات هؤلاء الذين ينفقون بسبب ما يحملهم عليه من الابتغاء والتثبيت زاكية عند الله لا تضيع بحال وان كانت تلك النفقات تتفاوت فى زكائها بحسب تفاوت ما ينضم اليها من احوالهم التى هى الابتغاء والتثبيت الناشىء من ينبوع الصدق والاخلاص اليها بحال جنة نامية زاكية بسببى الربوة والوابل او الطل والجامع النمو المرتب على السبب المؤدى اليه . ويجوز ان يكون التشبيه من قبيل المفرق بان يشبه زلفاهم من الله تعالى وحسن حالهم عنده بثمرة الجنة ووجه التشبيه الزيادة ويشبه نفقتهم الكثيرة والقليلة بالقوى المطر والضعيف منه من حيث ان كل واحد منهما سبب لزيادة فى الجملة لان النفقتين تزيد ان حسن حالهم كما ان المطرين يزيدان ثمرة الجنة { والله بما تعملون بصير } من عمل الاخلاص والرياء لا يخفى عليه شىء وهو ترغيب فى الاخلاص مع تحذير عن الرياء ونحوه فعلى العاقل ان يعبد الله تعالى على الاخلاص ويكون دائما فى رجاء الخلاص عن الطاغوت الخفى وهو الشرك الخفى فان الخلاص يبتنى على الاخلاص : قال السعدى قدس سره
همينست بندت اكر بشنوى ... كه كر خاركارى سمن ندروى
يعنى من زرع الشوك لم يحصد الازهار والنبات ولا يثمر شجرة وبالكأس التى تسقى تشرب عصمنا الله واياكم من ضياع العلم وكساده واختلال الاعتقاد وفساده . وخالص الاعمال هو الذى تعمله لله لا تحب ان يحمدك عليه احد واذا قارن العمل بالاخلاص يكون كنحاس طرح فيه الاكسير وجسد نفخ فيه الروح ولذا يضاعف ثوابه
وعن على ابن ابى طالب رضى الله عنه عن النبى عليه السلام « ان الصدقة اذا خرجت من يد صاحبها قبل ان تدخل فى يد السائل تتكلم بخمس كلمات اولاها تقول كنت قليلة فكثرتنى وكنت صغيرة فكبرتنى وكنت عدوا فاحببتنى وكنت فانيا فابقيتنى وكنت محروسا الآن صرت حارسك »(2/82)
وعن مكحول الشامى اذا تصدق المؤمن بصدقة رضى الله عنه ونادت جهنم يا رب ائذن لى بالسجود شكرا لك قد اعتقت واحدا من امة محمد من عذابى لانى استحيى من محمد ان اعذب احدا من امته ولا بد لى من طاعتك
ولفظ الصدقة اربعة احرف كل منها اشارة الى معنى . اما الصاد فالصدّ اى الصدقة تصد وتمنع عن صاحبها مكروه الدنيا والآخرة . واما الدال فدليل لانها تدل صاحبها الى الجنة . واما القاف فقربه الى الله تعالى . واما الهاء فهداية الله تعالى : قال بعضهم
زان ييش كه دست ساقىء دهر ... در جام مرارت افكند زهر
ازسر بنه اين كلاه ودستار ... جهدى بكن و دلى بدست آر
كين سرهمه سال باكله نيست ... وين روى هميشه همجومه نيست
فمن ساعده المال فلينفق فى سبيل الله الملك المتعال وليشكر على غنى ومدد فلا يقطع رجاء احد وفى الحديث « من قطع رجاء من التجأ اليه قطع الله رجاءه » روى ان بعض العلماء لما رأى هذا الحديث بكى بكاء شديدا وتحير فى رعاية فحواه فقام وذهب الى واحد من الصلحاء ليستفسر معنى هذا الحديث ويدفع شبهته فلما دخل عليه رأى ذلك الرجل الصالح يأخذ بيده خبزا ويؤكله الكلب من يده فسلم فرد عليه السلام ولم يقم له كما كان يفعله قبل فلما اكل الكلب الخبز بالتمام قام له ولاطفه وقال معتذرا خذ العذر منى حيث لم اقم امتثالا لقول النبى عليه السلام « من قطع رجاء » الحديث وهذا الكلب رجا منى اكل الخبز ولم اقم خشية ان اقطع رجاءه فلما سمع هذا الكلام زاد تحيرا ولم يستفسر فتعجب من كرامته وقوته فى باب الولاية
واعلم ان ثمرات الاخلاص فى طلب الحق ومرضاته تكون ضعفين بالنسبة الى من ينفق فان حظه يكون من نعيم الجنة فحسب والمخلص فى طلب الحق يكون له ضعف من قربة الحق وذولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وضعف من نعيم الجنة اوفى واوفر من ضعف طالب الجنة ونعيمها باضعاف مضاعفة اللهم اهدنا اليك(2/83)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{ أيود احدكم } الهمزة لانكار الوقوع كما فى قوله أاضرب ابى لا لانكار الواقع كما فى قوله أتضرب اباك اى ما كان ينبغى ان يود رجل منكم { ان تكون له جنة } كائنة { من نخيل واعناب } والجنة تطلق على الاشجار الملتفة المتكاثفة وهو الانسب بقوله تعالى { تجرى من تحتها الانهار } اذ على كونها بمعنى الارض المشتملة على الاشجار الملتفة لا بد من تقدير مضاف اى من تحت اشجارها { له فيها من كل الثمرات } الظرف الول خبر والثانى حال والثالث مبتدأ اى صفة للمبتدأ قائمة مقامه اى له رزق من كل الثمرات كما فى قوله تعالى { وما منا الا له مقام معلوم } اى وما منا احد الا له الخ وليس المراد بالثمرات العموم بل انما هو التكثير كما فى قوله تعالى { واوتيت من كل شىء } فان قلت كيف قال { جنة من نخيل واعناب } ثم قال { له فيها من كل الثمرات } قلت النخيل والاعناب لما كانا اكرم الشجر واكثرها نفعا خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وان كانت محتوية على سائر الاشجار تغليبا لهما على غيرهما ثم اردفهما ذكر كل الثمرات { و } الحال انه قد { اصابه الكبر } اى كبر السن الذى هو مظنة شدة الحاجة الى منافعها ومئنة كمال العجز عن تدارك اسباب المعاش { وله ذرية ضعفاء } اى اصابه الكبر والحال ان له ذرية صغارا لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادى المعاش { فاصابها } اى تلك الجنة { اعصار } اى ريح عاصفة تستدير فى الارض ثم تنعكس منها ساطعة الى السماء على هيئة العمود { فيه نار } شديدة { فاحترقت } فصارت نعمها الى الذهاب واصلها الى الخراب فبقى الرجل متحيرا لا يجد ما يعود به عليها ولا قوة له ان يغرس مثلها ولا خير فى ذريته من الاعانة لكونهم ضعفاء عاجزين عن ان يعينوه وهذا كما ترى تمثيل لحال من يفعل الافعال الحسنة ويضم اليها ما يحبطها كرياء وايذاء فى الحسرة والاسف اذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته اليها ووجدها محبطة بحال من هذا شأنه واشبههم به من جال بسره فى عالم الملكوت وترقى بفكره الى جنات الجبروت ثم نكص على عقبيه الى عالم الزور والتفت الى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا : قال الحافظ
زاهد ايمن مشو از بازئ غيرت زنهار ... كه ره از صومعه تا ديرمغان اين همه نيست
{ كذلك } اى مثل ذلك البيان الواضح الذى بين فيما مر من الجهاد والانفاق فى سبيل الله وقصة ابراهيم وعزير وغير ذلك لكم ايها الفريق { يبين الله لكم الآيات } اى الدلالات الواضحة فى تحقيق التوحيد وتصديق الدين { لعلكم تتفكرون } كى تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العبر وتعملوا بموجبها(2/84)
قال القشيرى هذه آيات ذكرها الله على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق والمنفق فى سبيل الله والمنفق فى الباطل هؤلاء يحصل لهم الخلف والشرف وهؤلاء يحصل لهم السرف والتلف وهؤلاء ضل سعيهم وهؤلاء شكر سعيهم وهؤلاء تزكو اعمالهم وهؤلاء حبطت اعمالهم وخسرت اموالهم وختمت بالسوء احوالهم وتضاعف عليهم وبالهم وثقل ومثل هؤلاء كالذى انبت زرعا زكا اصله ونما فضله وعلا فرعه وكثر نفعه ومثل هؤلاء كالذى خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاقت على كبر سنه غلته وتواترت من كل وجه محنته هل يستويان مثلا وهل يتقاربان شبها انتهى
فلا بد من اخلاص الاعمال فان الثمرات تبتنى على الاصل
وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه انه قال حين بعث الى اليمن يا رسو الله اوصنى قال « اخلص دينك يكفك العمل القليل »
وعلاج الرياء على ضربين . احدهما قطع عروقه واستئصال اصوله وذلك بازالة اسبابه وتحصيل ضده واصل اسبابه حب الدنيا واللذة العاجلة وترجيحها على الآخرة . والثانى دفع ما يخطر من الرياء فى الحال ودفع ما يعرض منه فى اثناء العبادة فعليك فى اول كل عبادة ان تفتش قلبك وتخرج منه خواطر الرياء وتقره على الاخلاص وتعزم عليه الى ان تتم لكن الشيطان لا يتركك بل يعارضك بخطرات الرياء وهى ثلاث مرتبة العلم باطلاع الخلق او رجاؤه ثم الرغبة فى حمدهم وحصول المنزلة عندهم ثم قبول النفس له والركون اليه وعقد الضمير على تحقيقه فعليك رد كل منها : قال السعدى قدس سره
قيامت كسى بينى اندر بهشت ... كه معنى طلب كرد ودعوى بهشت
كنهكار انديشناك از خداى ... بسى بهتر ازعابد خود نماى
وفى التاتارخانية لو افتتح الصلاة خالصا لله تعالى ثم دخل فى قلبه الرياء فهو على ما افتح والرياء انه لو خلا عن الناس لا يصلى ولو كان مع الناس يصلى فاما لو صلى مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب اصل الصلاة دون الاحسان ولا يدخل الرياء فى الصوم روى عن ابى ذر الغفارى رضى الله عنه البارى انه قال رسو الله صلى الله عليه وسلم « يا ابا ذر جدد السفينة فان البحر عميق واكثر الزاد فان السفر بعيد واقل من الحمولة فان الطريق مخوف واخلص العمل فان الناقد بصير » والمراد من تجديد السفينة تحقيق الايمان وتكرير التوحيد ومن البحر هو جهنم قال تعالى { ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } والمراد بالسفر سفر الآخرة والقيامة قال تعالى { فى يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون } وزاد النعيم الطاعات وزاد الجحيم السيآت والمراد بالحمولة الذنوب والخطايا واريد باقلالها نفيها رأس وانما كان طريق الآخرة مخوفا لان الزبانية يأخذون اصحاب الحمل الثقيل من الطريق وليس هناك احد يعين على حمل احد وينصره وان كان من اقربائه قال تعالى(2/85)
{ وان تدع مثقلة الى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى } والمراد بالناقد هو الله تعالى وهو طيب لا يقبل الا الطيب الخالص عن الشرك والرياء قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا } اى خالصا لوجهه تعالى { ولا يشرك بعبادة ربه احدا } وفى الحديث قال الله تعالى « انا غنى عن الشركاء فمن عمل لى وأشرك فيه غيرى فأنى برىء منه » وذكر عن وهب بن منبه انه قال امر الله تعالى ابليس ان يأتى محمدا عليه السلام ويجيبه عن كل ما يسأله فجاءه على صورة شيخ وبيده عكازة فقال له « من أنت » قال انا ابليس قال « لماذا جئت » قال امرنى ربى ان آتيك واجيبك واخبرك عن كل ما تسألنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فكم اعداؤك من امتى » قال خمسة عشر . انت اولهم . وامام عادل . وغنى متواضع . وتاجر صدوق . وعالم متخشع . ومؤمن ناصح . ومؤمن رحيم القلب . وثابت على التوبة . ومتورع عن الحرام . ومؤمن مديم على الطهارة . ومؤمن كثير الصدقة . ومؤن حسن الخلق مع الناس . ومؤمن ينفع الناس . وحامل القرآن المديم عليه . وقائم الليل والناس نيام قال عليه السلام « فكم رفقاؤك من امتى » قال عشرة . سلطان جائر . وغنى متكبر . وتاجر خائن . وشارب الخمر . والقتات . وصاحب الرياء . وآكل الربا . وآكل ما اليتيم . ومانع الزكاة . والذى يطيل الامل وفى الحديث « ما منكم من احد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبين الله ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر اشأم منه فلا يرى الا ما قدم من عمله وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا الله ولو بشق تمرة »
قال شيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة قيل لى فى قلبى احسن اخلاق المرء فى معاملته مع الحق التسليم والرضى واحسن اخلاقه فى معاملته مع الخلق العفو والسخاء : قال السعدى
غم وشادمان نماند و ليك ... جزاى عمل ماند و نام نيك
كرم باى دارد نه ديهيم وتخت ... بده كز تواين مانداى نيكبخت
مكن تكيه برملك وجاه وحشم ... كه بيش ازتو بودست وبعدازتوهم(2/86)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
الحمد لله الذى امر المؤمنين بالانفاق ليزكى به نفوسهم عن سفساف الاخلاق وهدى العارفين الى بذلك المال والروح ليفتح لهم ابواب الفتوح والصلاة على المتخلق باخلاق مولاه سيدنا محمد الذى جاء بالشفاعة لمن يهواه وعلى آله واصحابه ممن اثر الله على ما سواه ووثق فى اجر الانفاق بربه الذى اعطاه وبعد فان العبد العليل سمى الذبيح اسماعيل الناصح البروسى ثم الاسكوبى اوصله الله الى غاية المقام الحى يقول لما ابتليت بالنصح والعظه أهتممت فى باب الموعظه فكنت التقط من التفاسير وانظم فى سلك التحرير ما به ينحل عقد الآيات القرآنيه والبينات الفرقانيه من غير تعرض لوجوه المعانى مما يحتمله المبانى قصدا الى التكلم بقدر عقول الناس وتصديا للاختصا الحامل على الاستئناس واضم الى كل آية ما يناسبها من الترغيب والترهيب وبعض من التأويل الذى لا يخفى على كل لبيب حتى انتهيت من سورة البقرة الى ما ها هنا من آيات الانفاق بعون الله الملك الخلاق فجعلت اول هذه الآية معنونا ليكون هذا النظم مع ما يضم اليه مدونا مقطوعا عما قبله من الآيات مجموعا بلطائف العظات ومن الله استمد ان يمهلنى الى ان آخذ بهذا المنوال القرآن العظيم واقضى هذا الوطر الجسيم واتضرع ان يجعله منتفعا به وذخر اليوم والمعاد ونعم المسؤل والمراد
{ يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم } اى من حلال ما كسبتم او جياده لقوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وفسر صاحب الكشاف الطيبات بالجياد حيث قال من طيبات ما كسبتم من جياد مكسوباتكم
ذكر بعض الافاضل انه انما فسر الطيب بالجيد دون الحلال لان الحل استفيد من الامر فان الانفاق من الحرام لا يؤمر به ولان قوله تعالى بعده { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } والخبيث هو الرديئ المستخبث يدل على ان المعنى انفقوا مما يستطاب من اكسابكم { ومما } اى ومن طيبات ما { اخرجنا لكم من الارض } من الحبوب والثمار والمعادن { ولا تيمموا } اى لا تقصدوا { الخبيث } اى الرديئ الخسيس . والخبيث نقيض الطيب ولهما جميعا ثلاث معان الطيب الحلال والخبيث الحرام والطيب الطاهر والخبيث النجس والطيب ما يستطيبه الطبع والخبيث ما يستخبثه { منه تنفقون } الجار متعلق بتنفقون والضمير للخبيث والتقديم للتخصيص والجملة حال من فاعل تيمموا اى لا تقصدوا الخبيث قاصرين الانفاق عليه والتخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من انفاق الخبيث خاصة لا تسويغ انفاقه مع الطيب عن ابن عباس رضى الله عنهما انهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه { ولستم بآخذيه } حال من واو تنفقون اى تنفقون والحال انكم لا تأخذون الخبيث فى معاملاتكم فى وقت من الاوقات او بوجه من الوجوه { الا ان تغمضوا فيه } اى الا وقت اغماضكم فيه او الا باغماضكم يعنى لو كان لكم على رجل حق فجاء برديئ ماله بدل حقكم الطيب لا تأخذونه الا فى حال الاغماض والتساهل مخافة فوت حقكم او لاحتياجكم اليه من قولك اغمض فلان عن بعض حقه اذا غض بصره ويقال للبائع اغمض اى لا تستقص كأنك لا تبصر { واعلموا ان الله غنى } عن انفاقكم وانما يأمركم به لمنفعتكم .(2/87)
وفى الامر بان يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من اعطاء الخبيث وايذان بان ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى فان اعطاء مثله انما يكون عادة عند اعتقاد المعطى ان الآخذ محتاج الى ما يعطيه بل مضطر اليه { حميد } مستحق للحمد على نعمه العظام
واعلم ان المتصدق كالزارع والزارع اذا كان له اعتقاد بحصول الثمرة يبالغ فى الزراعة وجودة البذر لتحققه ان جودة البذر مؤثرة فى جودة الثمرة وكثرتها فكذلك المتصدق اذا ازداد ايمانه بالله والبعث والثواب والعقاب يزيد فى الصدقة وجودتها لتحققه ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجرا عظيما والعبد كما اعطى الله احب ما عنده فان الله يجازيه باحب ما عنده كما قال تعالى { هل جزاء الاحسان الا الاحسان } ودلت الآية على جواز الكسب وان احسن وجوه التعيش هو التجارة والزراعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان اطيب ما اكله الرجل من كسبه وان ولده من كسبه » وكذلك اطيب الصدقات ما كانت من عمل اليد
بقنطار زر بخش كردن زكنج ... نباشد جو قيراط از دست رنج
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ا يكسب عبد مالا حراما فيتصدق منه فيقبل منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره الا كان زاده الى النار ان الله تعالى لا يمحوا السيىء بالسيىء ولكن يمحو السيىء بالحسن ان الخبيث لا يمحو الخبيث » ووجوه الانفقا والصدقة كثيرة قال صلى الله عليه وسلم « ما من مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا فيأكل منه انسان أو طير أو بهيمة الا كانت له صدقة » روى ان النبى صلى الله عليه وسلم حث اصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان ابو امامة الباهلى جالسا بين يدى النبى عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « انك تحرك شفتيك فماذا تقول » قال انى ارى الناس يتصدقون وليس معى شىء اتصدق به فأقول فى نفسى سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر فقال صلى الله عليه وسلم « هؤلاء الكلمات خير لك من مد ذهبا تتصدق به على المساكين »(2/88)
فعلى العاقل ان يواظب على الاذكار فى الليل والنهار ويتصدق على الفقراء والمساكين بخلوص النية واليقين فى كل حين
كرامت جوانمردى ونان دهيست ... مقالات بيهوده طبل تهيست
وجلس الاسكندر يوما مجلسا عاما فلم يسأل فيه حاجة فقال والله ما اعد هذا اليوم من ملكى قيل ولم ايها الملك قال لانه لا توجد لذة الملك الا باسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكافأة المحسنين
قال السرى السقطى قدس سره فى وصف الصوفية اكلهم اكل المرضى ونومهم نوم العرضى ومن تخليهم عن الاملاك ومفارقتهم اياها سموا فقراء فالصوفى ما لم يبذل ماله وروحه فى طلب الله فهو صاحب دنيا والدنيا مانعة عن الوصول فعليك بالايثار وكمال الافتقار(2/89)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{ الشيطان يعدكم الفقر } الوعد هو الاخبار بما سيكون من جهة المخبر مترتبا على شىء من زمان او غيره يستعمل فى الشر استعماله فى الخير قال الله تعالى { النار وعدها الله الذين كفروا } والمعنى ان الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل امسك مالك فانك اذا تصدقت به افتقرت { ويأمركم بالفحشاء } اى بالخصلة الفحشاء اى ويغريكم على البخل ومنع الصدقات اغراء الآمر المأمور على فعل المأمور به والعرب تسمى البخيل فاحشا { والله يعدكم } اى فى الانفاق { مغفرة } لذنوبكم اى مغفرة كائنة { منه } عز وجل { وفضلا } كائنا منه تعالى اى خلفا مما انفقتم زائدا عليه فى الدنيا وثوابا فى العقبى وفيه تكذيب للشيطان { والله واسع } قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة واخلاف ما تنفقونه { عليم } مبالغ فى العلم فيعلم انفاقكم فلا يكاد يضيع اجركم(2/90)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{ يؤتى الحكمة } اى مواعظ القرآن ومعنى ايتائها تبيينها والتوفيق للعلم والعمل بها اى يبينها ويوفق للعمل بها { من يشاء } من عباده اى يؤتيها ايه بموجب سعة فضلة واحاطة علمه كما آتاكم ما بينه فى ضمن الآى من الحكم البالغة التى عليها يدور فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا الى العمل بها . والموصول مفعول اول ليؤتى قدم عليه الثانى للعناية به { ومن يؤت الحكمة } اى يعط العلم والعمل { فقد اوتى خيرا كثيرا } اى أى خير كثير فانه قد حيز له خير الدارين { وما يذكر } اى وما يتعظ بما اوتى من الحكمة { الا اولوا الالباب } اى العقول الخالصة من شوائب الوهم والركون الى متابعة الهوى . فالمراد منهم الحكماء العلام العمال ولا يتناول كل مكلف وان كان ذا عقل لان من لا يغلب عقله على هواه فلا ينتفع به فكأنه لا عقل له قيل من اعطى علم القرآن ينبغى ان لا يتواضع لاهل الدنيا لاجل دنياهم لان ما اعطيه خير كثير والدنيا متاع قليل ولقوله عليه السلام « القرآن غنى لا غنى بعده »
والاشارة أن الشيطان فقير يعد بالفقر ظاهرا فهو يأمر بالفحشاء حقيقة . والفحشاء اسم جامع لكل سوء لان عدته بالفقر تتضمن معانى الفحشاء وهى البخل والحرص واليأس من الحق والشك فى مواعيد الحق للخلق بالرزق والخلف للمنفق ومضاعفة الحسنات وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه وتكذيب قول الحق ونسيان فضله وكرمه وكفران النعمة والاعراض عن الحق والاقبال على الخلق وانقطاع الرجاء من الله تعالى وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وايثار الحظوظ الدنيوية وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل حطيئة وبزر كل بلية فمن فتح على نفسه باب وسوسته فسوف يبتلى بهذه الآفات ومن سد هذا الباب فان الله يكرمه بانواع الكرامات ورفعة الدرجات والله واسع عليم يؤتى من اجتنب عن وساوسه الحكمة وهى من مواهبه ترد على قلوب الانبياء والاولياء عند تجلى صفات الجلال والجمال وفناء اوصاف الخلقية بشواهد صفات الخالقية فيكاشف الاسرار بحقائق معان اورثتها تلك الانوار سرا بسر واضمارا باضمار . فحقيقة الحكمة نور من انوار صفات الحق يؤيد الله به عقل من يشاء من عباده فهذه ليست مما تدرك بالعقول والبراهين العقلية والنقلية واما المعقولات فهى مشتركة بين اهل الدين واهل الكفر فالمعقول ما يحكم العقل عليه ببرهان عقلى وهذا ميسر لكل عاقل بالدراية وعالم بالقراءة فمن صفى عقله عن شوب الوهم والخيال فيدرك عقله المعقول بالبرهان دراية عقلية ومن لم يصف العقل عن هذه الآفات فهو يدرك المعقول قراءة بتفهيم استاذ مرشد فاما الحكمة فليست من هذا القبيل وما يذكر الا اولوا الالباب وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول الانسانية بل سعوا فى طلب لبها بمتابعة الانبياء عليهم السلام فاخرجوهم من ظلمات قشور العقول الانسانية الى نور لب المواهب الربانية فتحقق لهم ان من لم يجعل الله له نورا فما له من نور فانتبه ايها المغرور المفتون بدار الغرور فلا يغرنك بالله الغرور قال من قال(2/91)
نكر تاقضا از كجاسير كرد ... كه كورى بودتكيه بر غيركرد
فغان ازبديها كه درنفس ماست ... كه ترسم شود ظن ابليس راست
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاب الليل والنهار أرأيتم ما انفق منذ خلق السماء والارض فانه لم يغض ما فى يمينه » قال « وعرشه على الماء وبيده الاخرى القبض يرفع ويخفض » فالمؤمن يتخلق باخلاق الله ويجود على الفقراء ويدفع ما وسوس اليه الشيطان من خوف الفقر فان الله بيده مفاتيح الارزاق وهو المعطى على الاطلاق(2/92)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
{ وما } كلمة شرط وهى للعموم { انفقتم من نفقة } اى أى نفقة كانت فى حق او باطل فى سر أو علانية قليلة او كثيرة { او نذرتم } النذر عقد الضمير على شىء والتزامه وهو فى الشرع التزام بر له نظيرفى الشرع ولهذا لو نذر سجدة مفردة لا يصح الا ان تكون للتلاوة عند ابى حنيفة واصحابه { من نذر } أى نذر كان فى طاعة او معصية بشرط او بغير شرط متعلق بالمال او بالافعال كالصلاة والصيام ونحوهما { فان الله يعلمه } الضمير عائد الى ما اى فانه تعالى يجازيكم عليه البتة ان خيرا فخير وان شرا فشر فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد { وما للظالمين } بالانفاق والنذر فى المعاصى او بمنع الصدقات وعدم الوفاء بالنذور او بانفاق الخبيث او بالرياء والمن والاذى وغير ذلك مما ينتظمه معنى الظلم الذى هو عبارة عن وضع الشىء فى غير موضعه الذى يحق ان يوضع فيه { من انصار } اى اعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابه لا شفاعة ولا مدافعة وايراد صيغة الجمع لمقابلة الظالمين اى ومالظالم من الظالمين من نصير من الانصار(2/93)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{ ان تبدوا الصدقات فنعما هى } اى ان تظهروا الصدقات فنعم شىء ابداؤها بعد ان لم يكن رياء وسمعة { وان تخفوها } اى تعطوها خفية { وتؤتوها الفقراء } ولعل التصريح بايتائها الفقراء مع انه واجب فى الابداء ايضا لما ان الاخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فان الغنى ربما يدعى الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس { فهو خير لكم } اى فالاخفاء خير لكم من الابداء وكل متقبل اذا صلحت النية وهذا فى التطوع ومن لم يعرف بالمال واما فى الواجب فالبعكس ليقتدى به كالصلاة المكتوبة فى الجماعة افضل والنافلة فى البيت ولنفى التهمة وسوء الظن حتى اذا كان المزكى ممن لا يعرف باليسار كان اخفاؤه افضل خوف الظلمة عن ابن عباس رضى الله عنهما صدقة السر فى التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها افضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا { و } الله { يكفر عنكم من سيآتكم } من تبعيضية اى شيأ من سيآتكم لانه يمحو بعض الذنوب بالتصدق فى السر والعلانية او زائدة على رأى الاخفش فالمعنى يمحو عنكم جميع ذنوبكم { والله بما تعملون } من الاسرار والاعلان { خبير } فهو ترغيب فى الاسرار
ذكر الامام فى ان الاسرار والاخفاء فى صدقة التطوع افضل وجوها الاول انها ابعد من الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم « لا يقبل من مسمع ولا مرائى ولا منان » والمتحدث فى صدقة لا شك انه يطلب السمعة والمعطى فى ملأ من الناس يطلب الرياء فالاخفاء والسكوت هو المخلص منهما . وقد بالغ قوم فى صدقة الاخفاء واجتهدوا ان لا يعرفهم احد فكان بعضهم يلقيها فى يد اعمى وبعضهم يلقيها فى طريق الفقير فى موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطى وبعضهم كان يشدها فى ثوب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل على يد غيره وثانيها انه اذا اخفى صدقته لم يحصل له من الناس شهرة وتمدح وتعظيم فكان ذلك اشق على النفس فوجب ان يكون اكثر ثوابا وثالثها قوله صلى الله عليه وسلم « افضل الصدقة جهد المقل الى فقير فى سر » وقال ايضا « ان العبد يعمل عملا ان فى السر والعلانية وكتب فى الرياء » وفى الحديث « سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل الا ظله امام عدل وشاب نشأ فى عبادة الله تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد اذا خرج منه حتى يعود اليه ورجلان تحابا فى الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال انى اخاف الله ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه »(2/94)
وقال صلى الله عليه وسلم « صدقة السر تطفئ غضب الرب »
واما الوجه فى جواز اظهار الصدقة فهو ان الانسان اذا علم انه اذا اظهرها صار فى ذلك سببا لاقتداء الخلق به فالاظهار افضل
قال محمد بن على الحكيم الترمذى ان الانسان اذا اتى بعمله وهو يخفيه عن الخلق وفى نفسه شهوة ان يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يردد عليه رؤية الخلق والقلب ينكر ذلك ويدفعه فهذا الانسان فى محاربة الشيطان فضوعف العمل فى السر سبعين ضعفا على العلانية ثم ان تقرب العبد الى الله انما يكون بفرض اوجبه الله عليه او بنفل اوجبه العبد على نفسه
فعلى كلا التقديرين الله عليم بهما فيجازى العبد بهما كما قال فى حديث ربانى « لن يتقرب الى المتقربون بمثل ما افترضت عليهم ولا يزال العبد يتقر الىّ بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا فبى يسمع وبى يبصر وبى ينطق وبى يبطش » ولكن الشأن اخلاص العمل لله من غير شوبه بعلة دنيوية او اخروية فانها شرك والشرك ظلم عظيم فلا بد من الاجتناب
جو رويى بخدمت نهى بر زمين ... خدارا ثناكوى وخودرا مبين
فاخفاء الصدقة اشارى فى الحقيقة الى تخليصها من شوب الحظوظ النفسانية لتكون خالصة لله فصاحبها يكون فى ظل الله كما قال عليه السلام « المرء يكون فى ظل صدقته يوم القيامة » يعنى ان كانت صدقته لله فيكون فى ظل الله وان كانت صدقته للجنة فيكون فى ظل الجنة وان كانت صدقته للهوى فيكون فى ظل هاوية فافهم جدا
رطب ناورد جوب خرزهره بار ... جه تخم افكنى بر همان جشم دار(2/95)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{ ليس عليك هداهم } اى لا يجب عليك يا محمد ان تجعلهم مهديين الى الاتيان بما امروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من القبائح المعدودة وانما الواجب عليك الارشاد الى الخير والحث عليه والنهى عن الشر والردع عنه بما اوحى اليك من الآيات والذكر الحكيم والخطاب خاص والمراد عام يتناول كل اهل الاسلام { ولكن الله يهدى } هداية خاصة موصلة الى المطلوب حتما { من يشاء } هدايته الى ذلك ممن يتذكر بما ذكر ويتبع ويختار الخير فهدى التوفيق على الله وهدى البيان على النبى صلى الله عليه وسلم
وقيل لما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله عليه وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كى تحملهم الحاجة على الدخول فى الاسلام فنزلت اى ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لاجل دخولهم فى الاسلام وفيه ايماء الى ان الكفر لا يمنع صدقة التطوع واختلف فى الواجب فجوزه ابو حنيفة واباه غيره { وما تنفقوا من خير } اى أى شىء تتصدقوا كائن من مال { فلانفسكم } اى فهو لانفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا على من اعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث او فنفعه الدينى لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدين من فقراء المشركين
وعن بعض العلماء لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك { وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله } استثناء من اعم العلل او اعم الاحوال اى ليست نفقتكم لشىء من الاشياء الا لابتغاء وجه الله او ليست فى حال من الاحوال الا حال ابتغاء وجه الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذى لا يوجه مثله الى الله { وما تنفقوا } اى أى شىء تنفقوا { من خير } فى اهل الذمة وغيرهم { يوف اليكم } اى يوفر لكم اجره وثوابه اضعافا مضاعفة فلا عذر لكم فى ان ترغبوا عن انفاقه على احسن الوجوه واجملها { وانتم لا تظلمون } اى لا تنقصون شيأ مما وعدتم من الثواب المضاعف(2/96)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{ للفقراء } اى اجعلوا ما تنفقونه للفقراء { الذين احصروا فى سبيل الله } اى حبسوا نفوسهم فى طاعته من الغزو والجهاد { لا يستطيعون } لاشتغالهم به { ضربا فى الارض } اى ذهابا فيها وسيرا فى البلاد للكسب والتجارة وقيل هم اصحاب الصفة وهم نحو من اربعمائة رجل من مهاجرى قريش لم يكن لهم مساكن فى المدينة ولا عشائر فكانوا فى صفة المسجد وهى سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون فى كل سرية بعثها رسول الله فكان من عنده فضل اتاهم به اذا امسى وعن ابن عباس رضى الله عنهما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على اصاحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال « ابشروا يا اصحاب الصفة فمن لقى الله من امتى على النعت الذى انتم عليه راضيا بما فيه فانه من رفقائى » { يحسبهم الجاهل } اى يظنهم الجاهل بحالهم وشأنهم { اغنياء من التعفف } اى من اجل تعففهم عن المسألة وهو ترك الطلب ومنع النفس عن المراد بالتكلف استحياء { تعرفهم } اى تعرف فقرهم واضطرارهم { بسيماهم } اى بما تعاين منهم من الضعف ورثاثة الحال . والسيما والسيمياء العلامة التى تعرف بها الشىء { لا يسألون الناس الحافا } مفعول له ففيه نفى السؤال والالحاف جميعا اى لا يسألون الناس اصلا فيكون الحافا والالحاف الالزام والالحاح وهو ان يلازم السائل المسئول حتى يعطيه ويجوز السؤال عند الحاجة والاثم مرفوع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لان يأخذ احدكم حبله فيذهب فيأتى بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من ان يسأل الناس اشياءهم اعطوه او منعوه » وعن النبى صلى الله عليه وسلم « ان الله يحب الحى الحليم المتعفف ويبغض البذى السائل الملحف » { وما تنفقوا من خير فان الله به عليم } فيجازيكم بذلك احسن جزآء فهو ترغيب فى التصدق لا سيما على هؤلاء ثم زاد التحريض عليه بقوله(2/97)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{ الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } اى يعمون الاوقات والاحوال بالخير والصدقة فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال وقيل نزلت فى شأن الصديق رضى الله عنه حين تصدق باربعين الف دينار عشرة آلاف منها بالليل وعشرة بالنهار وعشرة سرا وعشرة علانية { فلهم اجرهم } اى ثوابهم حاضر { عند ربهم ولا خوف عليهم } من مكروه آت { ولا هم يحزنون } من محبوب فات
واعلم ان الانفاق على سادة اختاروا الفقر على الغنى محبة لله واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفة فانه صلى الله عليه وسلم كان يقول « لى حرفتان الفقر والجهاد » وهم احق بها واولى والعبد اذا انفق من كل معاملة فيها خير من المال او الجاه او خدمة النفس او اعزاز او اكرام او اعظام او ارادة بالقلب حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقا واجلالا لا استخفافا واذلالا فان الله به عليم فان تقرب اليه فى الانفاق بشبر يتقرب هو اليه فى المجازاة بذراع وان تقرب بذراع يتقرب اليه بباع فلا نهاية لفضله ولا غاية لكرمه فطوبى لمن ترك الدنيا بطيب القلب واختار الله على كل شىء ومن كان لله كان الله له
روى ان حسن ستة اشياء فى ستة العلم والعدل والسخاوة والتوبة والصبر والحياء . العلم فى العمل . والعدل فى السلطان . والسخاوة فى الاغنياء . والتوبة فى الشباب . والصبر فى الفقر . والحياء فى النساء . العلم بلا عمل كبيت بلا سقف والسلطان بلا عدل كبئر بلا ماء . والغنى بلا سخاوة كسحاب بلا مطر . والشباب بلا توبة كشجر بلا ثمر . والفقر بلا صبر كقنديل بلا ضياء . والنساء بلا حياء كطعام بلا ملح
فعلى الغنى ان يمطر من سحاب غنى بركات الدين والدنيا ويتسبب لاحياء قلوب ماتت بالفقر والاحتياج فان الله لا يضيع اجر المحسنين
بسنديده رأيى كه بخشيد وخورد ... جهان ازبى خويشتن كرد كرد
يعنى ان الذى له رأى صائب هو الذى تنعم بماله وانعم وجمع الدنيا لاجله لا لغيره فان من جمع مالا ولم يأكل منه ولم يعط فهو جامع لغيره فى الحقيقة اذ هو لوارثه بعده(2/98)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{ الذين يأكلون الربوا } اى يأخذونه وعبر عنه بالاكل لانه معظم المقصود من المال ولشيوعه فى المطعومات والربا فضل فى الكيل والوزن خال عن العوض عند ابى حنيفة واصحابه ويجرى فى الاشياء الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح وكتب بالواو تنبيها على اصله لانه من ربا يربو وزيدت الالف تشبيها بواو الجمع { لا يقومون } اى من قبورهم اذا بعثوا { الا كما يقوم } اى الا قياما مثل قيام { الذى يتخبطه } اى يضربه ويصرعه { الشيطان من المس } اى الجنون متعلق بلا يقومون يعنى لا يقومون من المس الذى بهم الا كقيام المصروع المختل اى فاسد العقل ويكون ذلك سيماهم يعرفون به عند اهل الموقف وقيل الذين يخرجون من الاجداث يوفضون الا اكلة الربا فانهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لانهم اكلوا الربا فارباه الله تعالى فى بطونهم حتى اثقلهم فلا يقدرون على الايفاض { ذلك } اى العذاب النازل بهم { بانهم قالوا } اى بسبب قولهم { انما البيع مثل الربوا } فنظموا الربا والبيع فى سلك واحد لافضائهما الى الربح فاستحلوه استحلاله وقالوا يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين وحق الكلام ان يقال انما الربا مثل البيع الا انه على المبالغة اى اعتقدوه حلا حتى ظنوا انه اصل او قالوا انما البيع مثل الربا فلم لا يحل فان الزيادة فى اوله كما هى فى آخره روى ان اهل الجاهلية كان احدهم اذا حل ماله على غريمه فطالبه به يقول الغريم لصاحب الاجل زدنى شيأ فى الاجل حتى ازيدك فى المال فيفعلان ذلك ويقولان سواء علينا الزيادة فى اول البيع بالربح او عند المحل لاجل التأخير فكذبهم الله وقال { واحل الله البيع وحرم الربوا } اى كيف يتماثلان والبيع محلل بتحليل الله والربا محرم بتحريم الله تعالى { فمن جاءه موعظة } اى فمن بلغه وعظ وزجر كالنهى عن الربا { من ربه فانتهىؤ اى فاتعظ بلا تراخ وتبع النهى { فله ما سلف } اى مضى من ذنبه فلا يؤاخذ به لانه اخذ قبل نزول التحريم وجعل ملكا له ولا يسترد منه { وامره الى الله } يجازيه على انتهائه ان كان عن قبول الموعظة وصدق النية . وقيل يحكم فى شأنه يوم القيامة وليس من امره اليكم شىء فلا تطالبوه به { ومن عاد } الى الربا مستحلا بعد النهى كما استحل قبله { فاولئك } اشارة الى من باعتبار المعنى { اصحاب النار } اى ملازموها { هم فيها خالدون } ماكثون ابدا(2/99)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{ يمحق الله الربوا } المحق نقضان الشىء حالا بعد حال حتى يذهب كله كما فى محاق الشهر وهو حال آخذ الربا فان الله يذهب بركته ويهلك المال الذى يدخل فيه ولا ينتفع به ولده بعده { ويربى الصدقات } يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذى اخرجت منه الصدقة روى عنه صلى الله عليه وسلم « ان الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربى احدكم مهره » وعنه ايضا « ما نقصت زكاة من مال قط » { والله لا يحب } اى لا يرضى لان الحب مختص بالتوابين { كل كفار } مصر على تحليل المحرمات { أثيم } منهمك فى ارتكابها(2/100)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
{ ان الذين آمنوا } بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاءهم به { وعملوا الصالحات } اى الطاعات { واقاموا الصلوة وآتوا الزكوة } تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما فى الصالحات لانافتهما على سائر الاعمال الصالحة { لهم اجرهم } الموعود لهم حال كونه { عند ربهم ولا خوف عليهم } من مكروه آت { ولا هم يحزنون } من محبوب فات
واعلم ان آكل الربا لحرصه على الدنيا مثله كمثل من به جوع الكلب فيأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فكلما يقوم يصرعه ثقل بطنه فكذا حال اهل الربا يوم القيامة : ونعم ما قيل
توان بحلق فرو بردن استخوان درشت ... ولى شكم بدرد جون بكيردندار ناف
فالعاقل لا يأكل ما لا يتحمله فى الدنيا والآخرة فطوبى لمن يقتصد فى اخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على اخذها بغير حقها فهو ينجو من وبالها وهو مثل التاجر الذى يكسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدى حقه وان كان له حرص فى الطلب والجمع ولكن لما كان بامر الشرع وطريق الحل ولا يمنع ذا الحق حقه ما اضر به كما اضرّ بآكل الربا روى ان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وكسب البغى ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والواشمة والمستوشمة والمصور قال عليه السلام « الربا بضع وسبعون بابا ادناها كأتيان الرجل أمه » يعنى كالزنى بامه والعياذ بالله فمن سمع هذا القول العظيم فليبادر بالتوبة الى باب المولى الكريم ذلك لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد . ومن اقرض شيأ بشرط ان يرد عليه افضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا وكان لابى حنيفة رحمه الله على رجل الف درهم سود فرد عليه الف درهم بيض فقال ابو حنيفة لا اريد هذا الابيض بدل دراهمى فاخاف ان يكون هذا البياض ربا فرده واخذ مثل دراهمه
قال ابو بكر لقيت ابا حنيفة على باب رجل وكان يقرع الباب ثم يتنحى ويقوم فى الشمس فسألته عنه فقال ان لى على صاحبه دينا وقد نهى عن قرض جر منفعة فلا انتفع بظل حائطه
ويقرب منه ما روى عن ابى يزيد البسطامى قدس سره من انه اشترى من همذان حب القرطم ففضل منه شىء فلما رجع الى بسطام رأى فيه نملتين فرجع الى همذان ووضع النملتين فهذا هو الورع وكمال التقوى ومثل هذا لا يوجد فى هذا الزمان وان وجد فاقل من القليل واكثر الناس ولو كانوا صوفية لا يفرقون بين الحلال والحرام والشبهات ولذا ترى امر الدين صار مهملا وعاد غريبا هدانا الله واياكم الى سواء الطريق انه ولى التوفيق : قال جلال الدين الرومى
اى زخودت بى وقوف لاف ترا يوف يوف ... فضل نبخشد تراجبه ودستار وصوف(2/101)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{ يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله } اى قوا انفسكم عقابه { وذروا ما بقى من الربوا } اى واتركوا تركا كليا ما بقى لكم غير مقبوض من مال الربا على من عاملتموه به { ان كنتم مؤمنين } على الحقيقة فان ذلك مستلزم لامتثال ما امرتم به البتة روى انه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت(2/102)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{ فان لم تفعلوا } اى ما امرتم به من الاتقاء وترك البقاؤا اما مع انكار حرمته واما مع الاعتراف بها { فائذنوا } اى فاعلموا من اذن بالامر اذا علم به { بحرب } اى بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره كائن { من } عند { الله ورسوله } وحرب الله حرب ناره اى بعذاب من عنده وحرب رسوله نار حربه اى القتال والفتنة فلما نزلت قالت ثقيف لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله { وان تبتم } من الارتباء مع الايمان بحرمته بعدما سمعتموه من الوعيد { فلكم رؤس اموالكم } تأخذونها كملا { لا تظلمون } غرماءكم بأخذ الزيادة { ولا تظلمون } انتم من قبلهم بالمطل والنقص عن رأس المال هذا هو الحكم اذا تاب ومن لم يتب من المؤمنين واصر على عمل الربا فان لم يكن ذا شوكة عزر وحبس الى ان يتوب وان كان ذا شوكة حاربه الامام كما يحارب الباغية كما حارب ابو بكر رضى عنه مانع الزكاة وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الاذان او ترك دفن الموتى(2/103)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{ وان كان ذو عسرة } اى وان وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة وهى بالاعدام او كساد المتاع { فنظرة } اى فالحكم نظرة وهى من الانظار والامهال { الى ميسرة } اى الى يسار { وان تصدقوا } اى وتصدقكم باسقاط الدين كله عمن اعسر من الغرماء او بالتأخير والانظار { خير لكم } اى اكثر ثوابا { ان كنتم تعلمون } جوابه محذوف اى ان كنتم تعلمون انه خير لكم عملتموه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة » وقال صلى الله عليه وسلم « من انظر معسرا أو وضع له انجاه الله من كرب يوم القيامة » وفى القرض والادانة فضائل كثير روى ان امامة الباهلى رضى الله عنه رأى فى المنام على باب الجنة مكتوبا القرض بثمانية عشر أمثاله والصدقة بعشر امثالها فقال ولم هذا فاجيب بان الصدقة ربما وقعت فى يد غنى وان صاحب القرض لا يأتيك الا وهو محتاج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثلاث من جاء بهن يوم القيامة مع ايمان دخل من أى ابواب الجنة شاء وزوج من حور العين كم شاء من عفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة قل هو الله احد عشر مرات ومن ادان دينا لمن يطلب منه » فقال ابو بكر الصديق او احداهن يا رسول الله قال « او احداهن »
واعلم ان الاستدانة فى احوال ثلاث فى ضعف قوته فى سبيل الله وفى تكفين فقير مات عن قلة وفقر وفى نكاح يطلب به العفة عن فتنة العذوبة فيستدين متوكلا على الله فالله تعالى يفتح ابواب اسباب القضاء قال صلى الله عليه وسلم « من ادان دينا وهو ينوى قضاءه وكل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه » وكان جماعة من السلف يستقرضون من غير حاجة لهذا الخبر ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر اليه ولو قبل وقته وعن النبى صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام « الشهادة تكفر كل شىء الا الدين يا محمد » ثلاثا
فعلى العاقل ان يقضى ما عليه من الديون ويخاف من وبال سوء نيته يوم يبعثون وهذا حال من ادى الفرض فانه يهون عليه ان يؤدى القرض . واما المرتكب وتارك الفرائض فلا يبالى بالفرائض فكيف بالديون والاقراض ولذا قيل
وامش مده آنكه بى نمازست ... ور خود دهنش زفاقه بازست
كو فرض خدا نمى كذارد ... از قرض تو نيز غم ندارد
واحوال هذا الزمان مختلة كاخوانه فطوبى لمن تمسك بالقناعة فى زمانه . ومن شرط المؤمن الحقيقى اتقاؤه بالله فى ترك زيادات لا يحتاج اليها فى امر الدين بل تكون شاغلة له عن الترقى فى مراتب الدين كما قال عليه السلام « من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه »(2/104)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{ واتقوا يوما } نصب ظرفا تقديره واتقوا عذاب الله يوما او مفعولا به كقوله { فكيف تتقون ان كفرتم يوما } اى كيف تتقون هذا اليوم الذى هذا وصفه مع الكفر بالله { ترجعون فيه } على البناء للمفعول من الرجع اى تصيرون فيه { الى الله } لمحاسبة اعمالكم { ثم توفى كل نفس } من النفوس اى تعطى كملا { ما كسبت } اى جزاء ما عملت من خير او شر { وهم لا يظلمون } اى لا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون على عقابهم وهو حال من كل نفس تفيد ان المعاقبين وان كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين فى ذلك لما انه من قبل انفسهم وعن ابن عباس رضى الله عنهما هذه آخر آية نزلت ولقى رسول الله ربه بعدها بسبعة او تسعة ايام او احد وعشرين او احد وثمانين يوما او ثلاث ساعات وقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة فجعلت بين آية الدين وآية الربا تأكيدا للزجر عن الربا روى ان رسول صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وقبض يوم الاثنين وكان مريضا ثمانية عشر يوما يعوده الناس وكان آخر ما يقول صلى الله عليه وسلم « الصلاة وما ملكت ايمانكم الصلاة فانا لله وانا اليه راجعون » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من اصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بى فانها اعظم المصائب » وقال عليه السلام « من كان له فرطان من امتى ادخله الله بهما الجنة » فقالت له عائشة رضى الله عنها فمن كان له فرض من امتك قال « ومن كان له فرط يا موفقة » قالت فمن لم يكن له فرط من امتك قال « انا فرط لامتى لن يصابوا بمثلى » قال تعالى { وما ارسلناك الا رحمة للعالمين } فكانت حياته ومماته رحمة قال صلى الله عليه وسلم « اذا اراد الله بامة رحمة قبض نبيها قبلها فجعله سلفا وفرطا لها » ورثاه صلى الله عليه وسلم بعض الانصار فقال
الصبر يحمد فى المواطن كلها ... الا عليك فانه مذموم
واعلم ان الله تعالى جمع فى هذه الآية خلاصة ما انزله فى القرآن وجعلها خاتم الوحى والانزال كما انه جمع خلاصة ما انزل من الكتب على الانبياء فى القرآن وجعله خاتم الكتب كما ان النبى عليه السلام خاتم الانبياء عليهم السلام وقد جمع فيه اخلاق الانبياء
فاعلم ان خلاصة جميع الكتب المنزلة وفائدتها بالنسبة الى الانسان عائدة الى معنيين . احدهما نجاته من الدركات السفلى . وثانيهما فوزه بالدرجات العليا فنجاته فى خروجه عن الدركات السفلى وهى سبعة الكفر والشرك والجهل والمعاصى والاخلاق المذمومة وحجب الاوصاف وحجاب النفس وفوزه فى ترقيه على الدرجات العليا وهى ثمانية المعرفة لله والتوحيد لله والعلم والطاعات والاخلاق الحميدة وجذبات الحق والفناء عن انانيته والبقاء بهويته فهذه الآية تشير الى مجموعها اجمالا قوله تعالى { واتقوا } هى لفظة شاملة لما يتعلق بالسعى الانسانى من هذه المعانى لان حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك اليه دليله قول النبى عليه السلام(2/105)
« جماع التقوى قول الله تعالى ان الله يأمر بالعدل والاحسان » الآية فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدركات السفلى والترقى على الدرجات العليا . فتقوى العوام الخروج عن الكفر بالمعرفة وعن الشرك بالتوحيد وعن الجهل بالعلم وعن المعاصى بالطاعات وعن الاخلاق المذمومة بالاخلاق المحمودة وههنا ينتهى سير العوام لان نهاية كسب الانسان وغاية جهد المجتهدين فى اقامة شرائط جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا . فمن ههنا تقوى الخواص المجذوبين بجذبات لنهديهم سبلنا فتخرجهم الجذبة من حجب اوصافهم الى درجة تجلى صفات الحق فههنا ينقضى سلوك الخواص فيستظلون بظل سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فينتفعون من مواهب اذ يغشى السدرة ما يغشى . واما تقوى خواص الخواص فبجذبة رفرف العناية بجذب ما زاغ البصر وما طغى من سدرة منتهى الاوصاف الى قاب قوسين نهاية حجب النفس وبداية انوار القدس فهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه فالبتقوى الحقيقية يجد الايمان الحقيقى فمعنى { واتقوا } جاهدوا فينا بجهدكم وطاقتكم { يوما } يعنى ليوم فيه لنهدينكم بجذبات العناية { ترجعون فيه الى الله } اشار بلفظ الرجوع اليه ليعلم ان الشروع كان منه هدانا الله واياكم الى مقام الجمع واليقين وشرفنا بلطائف التحقيق والتمكين انه نصير ومعين يصيب برحمته من يشاء من عباده الصالحين(2/106)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{ يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين } اى اذا داين بعضكم بعضا وعامله نسيئة معطيا وآخذا كما تقول بايعته اذا بعته او باعك وفائدة ذكر الدين دفع توهم كون التداين بمعنى المجازاة والتنبيه على تنوعه الى الحال والمؤجل وانه الباعث على الكتب وتعيين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالامر وهو فاكتبوه { الى اجل } متعلق بتداينتم { مسمى } بالايام او الاشهر او السنة وغيرها مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بالحاصد والدياس وقدوم الحاج مما لا يرفعها { فاكتبوه } اى الدين باجله لانه اوثق وادفع للنزاع والجمهور على استحبابه { وليكتب بينكم كاتب } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين لمن يتولاها اثر الامر بها اجمالا وقوله بينكم للايذان بان الكاتب ينبغى ان يتوسط بين المتداينين ويكتب كلامهما ولا يكتفى بكلام احدهما { بالعدل } اى كاتب كائن بالعدل اى وليكن المتصدى للكتابة من شأنه ان يكتب بالتسوية من غير ميل الى احد الجانبين لا يزيد ولا ينقص وهو امر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين يجئ كتابه موثقا به معدلا بالشرع { ولا يأب كاتب } اى لا يمتنع احد من الكتاب { ان يكتب } كتاب الدين { كما علمه الله } على طريقة ما علمه الله من كتب الوثائق { فليكتب } تلك الكتابة المعلمة امر بها بعد النهى عن ابائها تأكيدا لها { وليملل الذى عليه الحق } الاملال هو الاملاء وهو القاء المعنى على الكاتب للكتابة اى ليكن المملل اى مورد المعنى على الكاتب من عليه الحق اى الدين لانه المشهود عليه فلا بد ان يكون هو المقر { وليتق الله ربه } جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة فى التحذير اى وليتق المملى دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى { ولا يبخس منه } اى من الحق الذى يمليه على الكاتب { شيأ } فانه هو الذى يتوقع منه البخس خاصة . واما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس وانما شدد فى تكليف المملى حيث جمع فيه بين الامر بالاتقاء والنهى عن البخس لما فيه من الدواعى الى المنهى عنه فان الانسان مجبول على دفع الضرر عن نفسه وتخفيف ما فى ذمته { فان كان الذى عليه الحق سفيها } ناقص العقل مبذرا مجازفا { او ضعيفا } صبيا او شيخا مختلا { او لا يستطيع ان يمل هو } اى غير مستطيع للاملاء بنفسه لخرس او عى او جهل او غير ذلك من العوارض { فليملل وليه } اى الذى يلى امره ويقوم مقامه من قيم او وكيل او مترجم { بالعدل } اى من غير نقص ولا زيادة { واستشهدوا شهيدين } اى اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما من المداينة وتسميتهما شهيدين لتنزيل المشارف منزلة الكائن { من رجالكم } متعلق باستشهدوا اى من اهل دينكم يعنى من الاحرار البالغين المسلمين اذ الكلام فى معملاتهم فان خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة واما اذا كانت المداينة بين الكفرة او كان من عليه الحق كافرا فيجوز استشهاد الكافر عندنا { فان لم يكونا } اى الشهيدان جميعا على طريقة نفى الشمول لا شمول النفى { رجلين } اما لاعوازهما او لسبب آخر من الاسباب { فرجل وامرأتان } اى فليشهد رجل وامرأتان وشهادة النساء مع الرجال فى الاموال جائزة بالاجماع دون الحدود والقصاص فلا بد فيهما من الرجال { ممن ترضون } متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان اى كائنون مرضيين عندكم وتخصيصهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره فى كل شهيد لقلة اتصاف النساء به { من الشهداء } متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف الراجع الى الموصول اى ممن ترضونهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتكم بهم وادراج النساء فى الشهداء بطريق التغليب { ان تضل احداهما } اى فى النساء والعلة فى الحقيقة هى التذكير ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته كما فى قولك اعددت السلاح ان يجيئ عدو فادفعه فالاعداد للدفع لا لمجيئ العدو لكن قدم عليه المجيئ لانه سببه كأنه قيل لاجل ان تذكر احداهما الاخرى ان ضلت الشهادة بأن نسيت ثم حث الشهداء على اقامة الشهادة بقوله { ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا } لاداء الشهادة او لتحملها وما مزيدة { ولا تسأموا } اى لا تملوا من كثرة مدايناتكم { ان تكتبوه } اى من ان تكتبوا الدين او الحق او الكتاب { صغيرا او كبيرا } حال من الضمير اى حال كونه صغيرا او كبيرا اى قليلا او كثيرا او مجملا او مفصلا { الى اجله } متعلق بمحذوف وقع حالا من الهاء فى تكتبوه اى مستقرا فى الذمة الى وقت حلوله الذى اقر به المديون { ذلكم } اى كتب الحق الى اجله ايها المؤمنون { اقسط } اى اعدل { عند الله } اى فى حكمه تعالى { واقوم للشهادة } اى اثبت لها واعون على اقامتها { وادنى ان لا ترتابوا } اى اقرب الى انتفاء ريبكم فى جنس الدين وقدره واجله وشهوده ونحو ذلك { الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } استثناء منقطع من الامر بالكتابة اى لكن وقت كون تداينكم او تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد { فليس عليكم جناح ان لا تكتبوا } اى فلا بأس بان لا تكتبوها لبعده عن التنازع والنسيان { واشهدوا اذا تبايعتم } اى هذا التبايع او مطلقا لانه احوط .(2/107)
والاوامر الواردة فى الآية الكريمة للندب عند الجمهور { ولا يضار } يحتمل البناء على الفاعل وعلى المفعول فعلى الاول نهى للكاتب عن ترك الاجابة الى ما يطلب منه وعن التحريف والزيادة والنقصان اى لا يمتنع { كاتب } عن الكتابة المقصودة { ولا شهيد } اى ولا يمتنع الشاهد عن اقامة الشهادة المعلومة وعلى الثانى النهى عن الضرار بالكاتب والشاهد اى لا يوصل احد مضرة للكاتب والشهيد اذا كانا مشغولين بما يهمهما ويوجد غيرهما فلا يضاران بابطال شغلهما وقد يكون اضرار الكاتب والشهيد بان لا يعطى حقهما من الجعل فيكون النهى عن ذلك { وان تفعلوا } ما نهيتم عنه من الضرار { فانه } اى فعلكم ذلك { فسوق بكم } اى خروج عن الطاعة ملتبس بكم { واتقوا الله } فى مخالفة اوامره ونواهيه التى من جملتها نهيه عن المضارة { ويعلمكم الله } احكامه المتضمنة لمصالحكم { والله بكل شىء عليم } فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك
ثم هذه الآية اطول آية فى القرآن وابسطها شرحا وابينها وابلغها وجوها يعلم بذلك ان مراعاة حقوق الخلق واجبة والاحتياط على الاموال التى بها امور الدين والدنيا لازم فمن سعى بالحق فقد نجا ولا فقد غوى(2/108)
كسى راكه سعى قدم بيشتر ... بدركاه حق منزلش بيشتر
والله تعالى من كمال رحمته على عباده علمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم لئلا يجرى من بعضهم على بعض حيف ولئلا يتخاصموا ويتنازعوا فيحقد بعضهم على بعض فامر بتحصين الحقوق بالكتابة والاشهاد وامر الشهود بالتحمل ثم بالاقامة وامر الكاتب ان يكتب كما علمه الله بالعدل وراعى فى ذلك دقائق كثيرة كما ذكرها
فيشير بهذه المعانى الى ثلاثة احوال . اولها حال الله تعالى مع عباده فيظهر من آثار الطافه معهم انه تعالى كيف يرفق بهم ويعلمهم كيفية معاملاتهم الدنيوية حتى لا يكونوا فى خسران من امر دنياهم ولا يكون فيما بينهم عداوة وخصومة تؤدى الى تنغيص عيشهم فى الدنيا وعقوبة فى الآخرة فيستدلوا بها على ان تكاليف الشرع التى امروا بها ايضا من كمال مرحمته استعملهم بها ليفيض بها عليهم سجال نعمه كقوله تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } الآية . وثانيها حال العباد مع الله ليعلموا برعاية هذه الدقائق للامور الدنيوية الفانية ان للامور الاخروية الباقية فيما بينهم وبين الله ايضا دقائق كثيرة والعباد بها محاسبون وعلى مثقال ذرة من خيرها مثابون وعلى مثقال ذرة من شرها معاقبون وانها بالرعاية اولى واحرى من امور الدنيا وان الله تعالى كما امر العباد ان يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستهشدوا عليهم العدول وقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عبادة فى الميثاق فان الله تعالى اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة وعلى هذا عاهدهم واشهد الملائكة الكرام عليه ثم رقم فى الكتاب ان ياقوتة من الجنة وديعة وهى الحجر الاسود . وثالثها حال العباد فيما بينهم فليعتبر كل واحد منهم من ملاطفات الحق معهم وليتخلق باخلاق الحق فى مخالفتهم وليتوسل الى الله بحسن مرافقتهم وليحفظ حدود الله فى مخالفتهم وموافقتهم وليتمسك بعروة محبتهم فى الله وجذبتهم لله ونصحهم بالله ليحرز فى رفقتهم صراطا مستقيما ويفوز من زمرتهم فوزا عظيما ففى جميع الاحوال كونوا مع الله كما قال { واتقوا الله ويعلمكم الله } اى اتقوا فى الاحوال الثلاثة كما يعلمكم الله بالعبارات والاشارات { والله بكل شىء } تعملونه فى جميع الاحوال من الاقوال والافعال { عليم } يعلم مضمون ضمائركم ومكنون سرائركم فيجازيكم على حسن معاملتكم بقدر خلوصكم وصفاء نياتكم وصدق طوياتكم فطوبى لمن صفى قلبه عن سفساف الاخلاق وعزم الى عالم السر والاطلاق واحسن المعاملة مع الله فى جميع الحالات ووصل الى الدرجات العاليات(2/109)
حقائق سراييست آراسته ... هوا وهوس كرد برخاسته
نه بينى كه جايى كه برخاست كرد ... نه بيند نظر كرجه بيناست مرد
يعنى ان عالم الغيب كالبيت المزين والهوى كالنقع المثار فما دام لم يترك المرء هواه لا يرى ما يهواه فان الحجاب اذا توسط بين الرائى والمرئى يمنع من الرؤية فارفع الموانع من البين وتشرف بوصول العين(2/110)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{ وان كنتم على سفر } اى مسافرين اى متوجهين اليه ومقبلين { ولم تجدوا كاتبا } فى المداينة بان لا يحسن الكتابة او لا توجد الصحيفة او الدواة والقلم ولم يتعرض لحال الشاهد لما انه فى حكم الكاتب توثقا واعوازا { فرهان } جمع رهن اى فالتوثق رهن { مقبوضة } اى مسلمة الى المرتهن ولا بد من القبض حتى لو رهن ولم يسلم لا يجبر الراهن على التسليم وانما شرط السفر فى الارتهان مع ان الارتهان لا يختص به سفر دون حضر لان السفر لما كان مظنة عدم الكتب باعواز الكاتب والشاهد امر بالارتهان ليقوم مقامهما تأكيدا وتوثيقا لحفظ المال فالكلام خرج على الاعم الاغلب لا على سبيل الشرط وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه فى المدينة من يهودى بعشرين صاعا من شعير واخذه لاهله { فان امن بعضكم بعضا } اى بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به واستغنى بامانته عن الارتهان فلم يطلب منه الرهن { فليؤد الذى ائتمن } وهو المديون والائتمان الوثوق بامانة الرجل وانما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الاداء { أمانته } اى فليقض المطلوب الامين ما فى ذمته من الدين من غير رهن منه وسمى الدين امانة لتعلقه بالذمة كتعلق الامانة { وليتق الله ربه } فى رعاية حقوق الامانة واداء الدين من غير مطل { ولا تكتموا الشهادة } ايها الشهود اذا دعيتم الى الحاكم لادائها على وجهها { ومن يكتمها فانه آثم قلبه } فاعل آثم كأنه قيل فانه يأثم قلبه
فان قلت هلا اقتصر على قوله فانه آثم وما فائدة ذكر القلب والجملة هى الآثمة لا القلب وحده قلت كتمان الشهادة هو ان يضمرها ولا يتكلم بها فلما كان الاثم مقترفا بالقلب اسند اليه لان اسناد الفعل الى الجارحة التى يعمل بها ابلغ الاتراك تقول اذا اردت التوكيد هذا مما ابصرته عينى ومما سمعته اذنى ومما عرفه قلبى ولان القلب هو رأس الاعضاء والمضغة التى ان صلحت صلح الجسد كله وان فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل فقد تمكن الاثم فى اصل نفسه وملك اشرف مكان منه ولئلا يظن ان كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم ان القلب اصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه ولان افعال القلوب اعظم من افعال سائر الجوارح وهى لها كالاصول التى تتشعب منها ألا ترى ان اصل الحسنات والسيآت الايمان والكفر وهما من افعال القلوب فاذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بانه من معاظم الذنوب وعن ابن عباس رضى الله عنهما اكبر الكبائر الاشراك بالله لقوله تعالى فقد حرم الله عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة { والله بما تعملون عليم } فيجازيكم به ان خيرا فخير وان شرا فشر وكتمان الشهادة وشهادة الزور من الاعمال التى تجر صاحبها الى النار فانهما من علامات سنخ القلب قال تعالى { فانه آثم قلبه } والمراد سنخ القلب ونعوذ بالله من ذلك وهما اسهل وقوعا بين الناس والحوامل عليهما كثيرة كالعداوة وغيرها
واعلم ان اهل الدين طائفتان الواقفون والسائرون .(2/111)
فالواقف من لزم عتبة الصورة ولم يفتح له باب الى عالم المعنى فهو كالفرخ المحبوس فى قشر البيضة فيكون مشربه من عالم المعاملات البدنية فلا سبيل له الى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس فى سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام الكاتبين يكتبان عليه اعماله الظاهرة بالنقير والقطمير
والسائر من لم يقم ولم ينزل فى منزل فهو مسافر من عالم الصورة الى عالم المعنى ومن مضيق الاجساد الى متسع الارواح وهم صنفان صنف سيار وصنف طيار . فالسيار من يسير بقدم الشرع والعقل على جادة الطريقة . والطيار من يطير بجناحى العشق والهمة فى فضاء الحقيقة وفى رجله جلجلة الشريعة فالاشارة فى قوله { وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا } الى السيار الذى تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل فلم يجد له كاتبا يكتب عليه كما قال بعضهم ما كتب على صاحب الشمال منذ عشرين سنة وقال بعضهم كاشف لى صاحب اليمين وقال لى أمل على شيأ من معاملات قلبك لاكتبه فانى اريد ان اتقرب به الى الله قال فقلت له حسبك الفرائض فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق او يكون هاربا منه فيحبس ويقيد ويوكل عليه فاما الذى آناء الليل واطراف النهار يغدو ويروح فى طلب غريمه وما برح فى جريمه فلا يحتاج الى التوكيل والتقييد فقوله { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } اشارة الى السيار الذى له قلب فيرهنه عند الله تعالى فالرهان هى القلوب التى ليس فيها غير الله المقبوضة بين اصبعين من اصابع الرحمن فاما الطيار الذى هو عاشق مفقود القلب مسلوب العقل مجذوب السير فلا يطالب بالرهن فانه مبطوش ببطشه الشديد
مستهام ضاق مذهبه ... فى هوى من عز مطلبه
كل امر فى الهوى عجب ... وخلاصى منه اعجبه
فلم يوجد فى السموات والارض ولا فى الدنيا والآخرة امين يؤتمن لحمل اعباء امانته الا العاشق المسكين(2/112)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{ لله ما فى السموات وما فى الارض } من الامور الداخلة فى حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنة فيهما من اولى العلم وغيره ى كلها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا لا شركة لغيره فى شىء منها بوجه من الوجوه فلا تعبدوا احدا سواه ولا تعصوه فيما يأمركم وينهاكم { وان تبدوا } اى تظهروا { ما فى انفسكم } اى فى قلوبكم من السوء والعزم عليه وذلك بالقول او بالفعل { او تخفوه } اى تكتموه عن الناس ولا تظهروه باحد الوجهين ككتمان الشهادة وموالاة المشركين وغيرهما من المناهى ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس واحاديث النفس التى لا عقد ولا عزيمة فيها اذ التكليف بحسب الوسع ودفع ذلك مما ليس فى وسعه { يحاسبكم به الله } اى يجازيكم به يوم القيامة وهو حجة على منكرى الحساب من المعتزلة والروافض { فيغفر } اى فهو يغفر بفضله { لمن يشاء } ان يغفر له وان كان ذنبه كبيرا { ويعذب } بعدله { من يشاء } ان يعذبه وان كان ذنبه حقيرا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ويعذب الكفار لا محالة لانه لا يغفر الشرك وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه { والله على كل شىء قدير } فكمال قدرته تعالى على جميع الاشياء موجب لقدرته سبحانه على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب
قال فى التيسير دل ظاهر قوله او تخفوه على المؤاخذة بما يكون من القلب وجملته ان عزم الكفر كفر وحضرة الذنوب من غير عزم مغفورة وعزم الذنوب اذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور فاما الهم بالسيئة ثم يمتنع عنه بمانع لا باختياره وهو ثابت على ذلك فانه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله يعنى بالعزم على الزنى لا يعاقب عقوبة الزنى وهل يعاقب على الخاطر عقوبة عزم الزنى قيل هو معفو عنه لقوله صلى الله عليه وسلم « ان الله عفا لامتى عما حدثت به انفسها ما لم يعمل او يتكلم » واكثرهم على ان الحديث فى الحضرة دون العزمة وان المؤاخذة فى العزمة ثابتة وكذا قال الامام ابو منصور رحمه الله انتهى ما فى التيسير . وربما يكون للانسان شركة فى الاثم مثل القتل والزنى وغيرهما اذا رضى به من عامله واشتد حرصه على فعله وفى الحديث « من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها » وفى حديث آخر « من احب قوما على اعمالهم حشر فى زمرتهم » اى جماعتهم « وحوسب يوم القيامة بحسابهم وان لم يعمل باعمالهم » فعلى العاقل ان يرفع عن قلبه الخواطر الفاسدة ولا يجالس الجماعة الفاسقة كيلا يحشر فى زمرتهم(2/113)
كر نشيند فرشته باديو ... وحشت آموزد وخيانت وريو
ازبدان نيكويى نياموزى ... نه كند كرك بوستين دوزى
والاشارة فى الآية ان الله يطالب العباد بالاستدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة لئلا يغفلوا عن حفظ حركات الظاهر وضبط خطرات الباطن فيقعوا فى آفة ترك ادب من آداب العبودية فيهلكوا بسطوات الالوهية
واعلم ان الانسان مركب من عالمى الامر والخلق فله روح نورانى من عالم الامر وهو الملكوت الاعلى وله نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق ولكل واحدة منهما ميل الى عالمها فقصد الروح الى جوار رب العالمين وقربه وقصد النفس الى اسفل السافلين وغاية البعد عن الحق فبعث النبى صلى الله عليه وسلم ليزكى النفوس عن ظلمة اوصافها لتستحق بها جوار رب العالمين فتزكيتها فى اخفاء ظلمة اوصافها بابداء انوار اخلاق الروح عليها فى تحليتها بها فهذا مقام الاولياء مع الله يخرجهم من الظلمات الى النور وبعث الشيطان الى اوليائه وهم اعداء الله ليخرج ارواحهم من النور الروحانى الى الظلمات النفسانية باخفاء انوار اخلاقها فى ابداء ظلمات اخلاق النفس عليها لتستحق بها دركة اسفل السافلين . فمعنى الآية فى التحقيق { ان تبدوا ما فى انفسكم } مودع من ظلمات الاوصاف النفسانية فى الظاهر بمخالفات الشريعة وفى الباطن بموافقات الطبيعة { او تخفوه } بتصرفات الطريقة فى موافقات الشريعة ومخالفات الطبيعة { يحاسبكم به الله } بطهارة النفس لقبول انوار الروح واخلاقه او بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس واخلاقها { فيغفر لمن يشاء } فينور نفسه بانوار الروح وروحه بانوار الحق { ويعذب من يشاء } فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلى الكبير { والله على كل شىء } من اظهار اللطف والقهر على تركيب عالمى الخلق والامر { قدير } كذا فى تأويلات الكامل نجم الدين دايه قدس سره(2/114)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{ آمن الرسول } اى صدق النبى عليه السلام { بما انزل } اى بكل ما انزل { اليه من ربه } من آيات القرآن ايمانا تفصيليا متعلقا بجميع ما فيه من الشرائع والاحكام والقصص والمواعظ واحوال الرسل والكتب وغير ذلك من حيث انه منزل منه تعالى . والايمان بحقيقة احكامه وصدق اخباره ونحو ذلك من فروع الايمان به من الحيثية المذكورة ولم يرد به حدوث الايمان فيه بعد ان لم يكن كذلك لانه كان مؤمنا بالله وبوحدانيته قبل الرسالة منه ولا يجوز ان يوصف بغير ذلك لكن اراد به الايمان بالقرآن فانه قبل انزال القرآن اليه لم يكن عليه الايمان به وهو معنى قوله { ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان } اى ولا الايمان بالكتاب فانه قال { وما كنت ترجو ان يلقى اليك الكتاب } { والمؤمنون } اى الفريق المعروفون بهذا الاسم وهو مبتدأ { كل } مبتدأ ثان { آمن } خبره والجملة خبر للمبتدأ الاول والرابط بينهما الضمير الذى ناب منابه التنوين وتوحيد الضمير فى آمن مع رجوعه الى كل المؤمنين لما ان المراد بيان ايمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع وتغيير سبك النظم عما قبله لتأكيد الاشعار بما بين ايمانه صلى الله عليه وسلم المبنى على المشاهدة والعيان وبين ايمانهم الناشىء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والاختلاف الجلى كأنهما متخالفان من كل وجه حتى فى الهيئة الدالة عليهما اى كل واحد منهم آمن { بالله } وحده من غير شريك له فى الالوهية والمعبودية هذا ايمان اثبات وتوحيد { وملائكته } اى من حيث انهم عباد مكرمون له تعالى من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بانزال الكتب والقاء الوحى وهذا ايمان تصديق انهما من عند الله وتحليل ما احله وتحريم ما حرمه { وكتبه ورسله } اى من الحيثية المذكورة وهذا ايمان اتباع واطاعة ولم يذكر الايمان باليوم الآخر لاندراجه فى الايمان بكتبه . وهذا على تقدير ان يوقف على قوله تعالى من ربه ويجعل والمؤمنون كلاما ابتدائيا واختاره ابو السعود العمادى . ويجوز ان يكون قوله والمؤمنون معطوفا على الرسول فيوقف عليه والضمير الذى عوض عنه التنوين راجع الى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول فيوقف عليه والضمير الذى عوض عنه التنوين راجع الى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول والمؤمنون بما انزل اليه من ربه ثم فصل ذلك . وقيل كل واحد من الرسول والمؤمنون آمن بالله خلا انه قدم المؤمن به على المعطوف اعتناء بشأنه وايذانا باصالته صلى الله عليه وسلم فى الايمان به واختار الكواشى هذا الوجه حيث قال والاختيار الوقف على المؤمنون وهو حسن ليكون المؤمنون داخلين فيما دخل النبى صلى الله عليه وسلم فيه اى الايمان { لا نفرق } اى يقول الرسول والمؤمنون لا نميز { بين احد من رسله } بان نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما قال اليهود والنصارى .(2/115)
واحد ههنا بمعنى الجمع اى الآحاد فلذلك اضيف اليه بين لانه لا يضاف الا الى المتعدد والاحد وضع لنفى ما يذكر معه من العدد والواحد اسم لمفتتح العدد والواحد الذى لا نظير له والوحيد الذى لا نصير له { وقالوا } عطف على آمن وصيغة الجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الاوامر اثر حكاية ايمانهم { سمعنا } اى فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته { واطعنا } ما فيه من الاوامر والنواهى
قيل لما نزلت هذه الآية قال جبرائيل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم ان الله قد أثنى عليك وعلى امتك فسل تعط فقال الرسول عليه السلام { غفرانك ربنا } اى اغفر لنا غفرانك كما قال { فضرب الرقاب } اى فاضربوا او نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة او ما لا يخلو عنه البشر من التقصير فى مراعاة حقوقك وهذا الوجه اولى لئلا يتكرر الدعاء بقوله فى آخر السورة واغفر لنا وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما ان تقديم الوسيلة على المسئول ادعى الى الاجابة والقبول { واليك المصير } اى الرجوع بالموت والبعث لا الى غيرك
قال القاشانى { آمن الرسول بما انزل اليه من ربه } اى صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن ومجرد قراءة القرآن بغير علم لا يفيد
قال فى تفسير الحنفى مثاله ان السلطان اذا وهب لاحد من مماليكه امارة واعطاه رياسة او نيابة وكتب له توقيعا ان يطيعه اهل البلد كلها فاذا جاء الى البلد وقعد على المملكة واطاعه الخلق ثم ان السلطان كتب له كتابا وامر له فيه ان يبنى له قصرا او دارا واسعة حتى لو حضر السلطان وجاء الى تلك المدينة ينزل فى تلك الدار او القصر فوصل الكتاب اليه وهو لا يبنى ما امر به فى الكتاب لكنه يقرأه كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد ما امره به حاضرا هل يستحق ذلك الامير خلعه من السلطان او ثناء اولا بل ظاهره انه يستحق الضرب والشتم والحبس وكذلك القرآن انما هو مثل هو ذلك المنشور قد امر الله فيه لعبيده ان يعمروا أركان الدين كما قال لداود عليه السلام [ فرغ الى بيتا اسكنه ] وبين لهم بما يكون عمارة الدين فقال الله تعالى { اقيموا الصلوة وآتو الزكوة } { كتب عليكم الصيام } { ولله على الناس حج البيت } فصارت قراءة القرآن كقراءة منشور السلطان ولا تحصل الجنة بمجرد القرآن لانه قال { جزاء بما كانوا يعملون } كما قيل
« مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست نه ترتيل سوره مكتوب بتجويد » .
ثم فى قوله { غفرانك ربنا } اشارة الى ان من نتائج الايمان وآثار العبودية ان يرى العبد نفسه اهلا لكل شر ومولاه اهلا لكل خير .(2/116)
فينسب كل ما يستحسنه لسيده مستعملا حسن الادب معه فى كل اوقاته وذلك بان يحمده على ما دق وجل ويستغفره من تقصيره فى شكره له عليه ويتبرأ من حوله وقوته له فى ذلك كله وبحسب هذا يكون شعاره الحمد لله استغفر الله لا حول ولا قوة الا بالله فى جميع اوقاته وهو الذكر المنجى من عذاب الله فى الدنيا والآخرة المقرب للفتح لمن لازمه
واعلم انك لا تصل الى التحقيق الا بمراقبة الاوقات باحكامها من التوبة والاستغفار عند العصيان وشهود المنة فى الطاعة ووجود الرضى فى النية ووجود الشكر فى النعمة ولن تصل الى ذلك الا بتعلق قلبك بصلاح قلبك واتهام نفسك حتى فى خروج نفسك وتصل الى هذا باحد أربعة اوجه . نور يقذفه الله فى قلبك بلا واسطة . أو علم متسع فى عقل كامل . او فكرة سالمة من الشواغل . او صحبة شيخ او اخ هذه حاله
وقد قال الشيخ ابو مدين قدس سره الشيخ من هذبك باخلاقه وادبك باطراقه وانار باطنك باشراقه الشيخ من جمعك فى حضوره وحفظك فى مغيبه فاعمل ايها العبد على تخليص نفسك من عالم جسمك حتى تخرج عن دائرة رسمك وتصل الى تحقيق فهمك وعلمك
از هشتىء خويش تاتوغافل مشوى ... هر كز بمراد خويش واصل نشوى
از بحر ظهور تا بساحل نشوى ... در مذهب اهل عشق كامل نشوى(2/117)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ لا يكلف الله نفسا الا وسعها } اخبار من الله تعالى وليس من كلام المؤمنين روى انه لما نزل قوله تعالى { وان تبدوا ما انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله } الآية اشتد ذلك على اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم فاتوه عليه السلام ثم بركوا على الركب فقالوا اى رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق الصلاة والصيام والحج والجهاد وقد انزل اليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا » قالوا بل سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فقرأها القوم فانزل الله تعالى { آمن الرسول بما انزل اليه من ربه } الى قوله تعالى { غفرانك ربنا واليك المصير } فمسئولهم الغفران المعلق بمشيئته تعالى فى قوله تعالى { فيغفر لمن يشاء } ثم انزل الله تعالى { لا يكلف الله نفسا الا وسعها } تهوينا للخطب عليهم ببيان ان المراد بما فى انفسهم ما عزموا عليه من السوء خاصة لا ما يعم الخواطر التى لا يستطاع الاحتراز عنها والتكليف الزام ما فيه كلفة ومشقته والوسع ما يسع الانسان ولا يضيق عليه اى سنته ان لا يكلف نفسا من النفوس الا ما يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود فضلا منه تعالى ورحمة لهذه الامة كقوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه . اما الاول فلانه لو كان وقع لزم الكذب فى كلامه تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا . واما الثانى فلانه تعالى نفى مطلقا ولا يلزم منه نفى مقيد الذى هو الامتناع لان العام من حيث هو عام لا يدل على الخاص بوجه من الدلالات { لها } اى للنفس ثواب { ما كسبت } من الخير الذى كلفت فعله لا لغيرها استقلالا او اشتراكا ضرورة شمول كلمة ما لكل جزء من اجزاء مكسوبها { وعليها } لا على غيرها باحد الطريقين المذكورين عقاب { ما اكتسبت } من الشر الذى كلفت تركه وايراد الاكتساب فى جانب الشر لان الشر فيه اعتمال اى اجتهاد فى العمل فانه لما كان مشتهى النفس كان فيه جد وسعى بخلاف الخير وصيغة الافتعال للتكلف { ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا } شروع فى حكاية بقية دعواتهم اثر بيان سر التكليف اى يقولون ربنا لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الامور المؤدية الى النسيان او الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ونحوهما مما يدخل تحت التكليف ودل هذا على جواز المؤاخذة فى النسيان والخطأ فان التحرز عنهما فى الجملة ممكن ولولا جواز المؤاخذة فى النسيان والخطأ لم يكن للسؤال معنى وخفف الله عن هذه الامة فرفع عنها المؤاخذة وقال النبى صلى الله عليه وسلم(2/118)
« رفع عن امتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فدل انهم مخصوصون بهما وامم السالفة كانوا مؤاخذين فيهما { ربنا ولا تحمل علينا اصرا } عطف على ما قبله وتوسيط النداء بينهما لابراز مزيد الضراعة . والاصر العبىء الثقيل الذى يأصر صاحبه اى يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة { كما حملته على الذين من قبلنا } اى حملا مثل حملك اياه على من قبلنا وهو ما كلفه بنوا اسرائيل من قتل النفس فى توبة وقطع الاعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة وعدم التطهير بغير الماء وخمسين صلاة فى يوم وليلة وعدم جواز صلاتهم فى غير المسجد وحرمة اكل الصائم بعد النوم ومنع بعض الطيبات عنهم بالذنوب وكون الزكاة ربع مالهم وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح وغير ذلك من التشديدات وقد عصم الله عز وجل ورحم هذه الامة من امثال ذلك وانزل فى شأنهم { ويضع عنهم اصرهم والاغلال التى كانت عليهم } وقال صلى الله عليه وسلم « بعثت بالحنفية السهلة السمحة » وعن العقوبات التى عوقب بها الاولون من المسخ والخسف وغير ذلك قال صلى الله عليه وسلم « رفع عن امتى الخسف والمسخ والغرق » { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } عطف على ما قبله واستعفاء من العقوبات التى لا تطاق بعد الاستعفاء مما يؤدى اليها من التكاليف الشاقة التى لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا فى المحافظة عليها فيكون التعبير عن انزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدى اليها
قال فى التيسير اى لا تكلفنا ما يشق علينا الدوام عليه ولم يرد به عدم الطاقة اصلا فانه لا يكون فلا يسأل { واعف عنا } اى آثار ذنوبنا { واغفر لنا } واستر عيوبنا ولا تفضحنا على رؤس الاشهاد
قال فى التيسير وليس بتكرار . فان الاول تركه حتى لا يؤاخذ بجزائه لكن يذكر ذلك ويظهر والمؤمنون امروا ان يسألوا التجاوز عنها واخفاءها حتى لا يظهر حالهم لاحد فلا يفتضحوا به { وارحمنا } وتعطف بنا وتفضل علينا وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما ان التخلية سابقة على التحلية { أنت مولانا } سيدنا ونحن عبيدك او ناصرنا او متولى امورنا { فانصرنا على القوم الكافرين } اى اعنا عليهم وادفع عنا شرهم فان من حق المولى ان ينصر عبيده ومن يتولى امره على الاعداء والنصرة على الكفار تكون بالظفر وتكون بالحجة وتكون بالدفع وهو سؤال العصمة من الشياطين ايضا لانهم منهم روى انه لما اسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به الى سدرة المنتهى وهى فى السماء السادسةاليها ينتهى ما يعرج به من الارض فيقبض منها واليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال اذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب قال فاعطى رسول الله عليه السلام ثلاثا اعطى الصلوات الخمس واعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله شيأ من امته قال صلى الله عليه وسلم فى خبر المعراج قربنى الله وادنانى الى سند العرش ثم الهمنى الله ان قلت آمن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله كما فرقت اليهود والنصارى قال فما قالوا قلت قالوا سمعنا وعصينا والمؤمنون قالوا سمعنا واطعنا فقال صدقت فسل تعط فقلت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا قال قد رفعت عنك وعن امتك الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقلت ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا يعنى اليهود قال لك ذلك ولامتك قلت ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به قال قد فعلت قلت واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال قد فعلت
وعنه صلى الله عليه وسلم(2/119)
« انزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بالفى عام من قرأهما بعد العشاء الاخيرة اجزأتاه عن قيام الليل »
وعنه صلى الله عليه وسلم « من قرأ آيتين من آخر سورة البقرة كفتاه » اى عن قيام الليل او عن حساب يوم القيامة وهو حجة على من استكره ان يقول سورة البقرة وقال ينبغى ان يقال السورة التى تذكر فيها البقرة كما قال صلى الله عليه وسلم « السورة التى تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن » اى مصره الجامع « فتعلموها فان تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة » قيل وما البطلة قال عليه السلام « السحرة » اى لا تستطيع البطلة أن تسحر قارئها « ولا تقرأ فى دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » وكان معاذ اذا ختم سورة البقرة يقول آمين
عن ابى الاسلم الديلمى قلت لمعاذ بن جبل اخبرنى عن قصة الشيطان حين اخذته فقال جعلنى رسول الله عليه السلام على صدقة المسلمين فجعلت التمر فى غرفة فوجدت فيه نقصانا فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال هذا الشيطان يأخذه فدخلت الغرفة واغلقت الباب فجاءت ظلمة عظيمة فغشيت الباب ثم تصور فى صورة اخرى فدخل من شق الباب فشددت ازارى على فجعل يأكل من التمر فوثبت اليه فقبضته فالتفت يداى عليه فقلت يا عدو الله فقال خل عنى فانى كبير ذو عيال كثير وانا فقير من جن نصيبين وكانت لنا هذه القرية قبل ان يبعث صاحبكم فلما بعث اخرجنا منها فخل عنى فلن اعود اليك فخليت سبيله وجاء جبريل عليه السلام فاخبر رسول الله عليه السلام بما كان فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادانى مناديه وقال « ما فعل اسيرك » فأخبرته فقال « اما انه سيعود فعد » قال فدخلت الغرفة وأغلقت على الباب فجاء فدخل من شق الباب فجعل يأكل التمر فصنعت به كما صنعت فى المرة الاولى فقال خل عنى فانى لن اعود اليك فقلت يا عدو الله ألم تقل انك لن تعود قال فانى لن اعود وآية ذلك انه اذا قرأ احد منكم خاتمة البقرة لا يدخل احد منا فى بيته تلك الليلة(2/120)
الم (1)
{ الم } الالف اشارة الى الله واللام الى اللطيف والميم الى المجيد(2/121)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
{ الله } مبتدأ { لا اله الا هو } خبره اي هو المستحق للمعبودية لا غير { الحي القيوم } خبر آخر له اي الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء والدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه - روى - عنه صلى الله عليه وسلم « اسم الله الاعظم فى ثلاث سور البقرة لا اله الا هو الحى القيوم وفى آل عمران الم الله لا اله إلا هو الحى القيوم وفى طه وعنت الوجوه للحى القيوم » وهذا رد على من زعم ان عيسى عليه السلام كان ربا فانه روى ان وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكبا . فيهم اربعة عشر رجلا من اشرفهم . ثلاثة منهم اكابر اليهم يؤول امرهم . احدهم اميرهم وصاحب مشورتهم العاقب واسمه عبد المسيح . وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيد واسمه الابهمز وثالثهم حبرهم واسقفهم وصاحب مدارسهم ابو حارثة بن علقمة احد بنى بكر بن وائل وقد كان ملوك الروم شرفوه ومولوه واكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنوا له كنائس فلما خرجوا من نجران ركب ابو حارثة بغلته وكان اخوه كرز بن علمة الى جنبه فبينا بغلة ابى حارثة تسير اذ عثرت فقال كرز تعسا للابعد يريد به رسول الله عليه السلام فقال له ابو حارثة بل تعست امك فقال كرز ولم يا اخى قال انه والله النبي الذي كنا ننظر فقال له كرز فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا قال لان هؤلاء الملوك اعطونا اموالا كثيرة واكرمونا فلو آمنا به لاخذوها منا كلها فوقع ذلك في قلب كرز واصره الى ان اسلم فكان يحدث بذلك فأتوا المدينة ثم دخلا مسجد رسول الله عليه السلام بعد صلاة العصر عليهم ثياب خيرات من جنب واردية فاخرة يقول بعض من رآهم من اصحاب النبي عليه السلام ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام « دعوهم » فصلوا الى المشرق ثم تكلم اولئك الثلاثة مع رسول الله عليه السلام فقالوا تارة عيسى هو الله لانه كان يحي الموتى ويبرئ الاسقام ويخبرنا بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ونارة اخرى هو ابن الله اذ لم يكم له اب يعلم وتارة اخرى انه ثالث لقوله تعالى فعلنا وقلنا ولو كان واحد لقال فعلت وقلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « اسلموا » قالوا اسلمنا قبلك قال عليه السلام « كذبتم يمنعكم من الاسلام ادعاؤكم لله تعالى ولدا » قالوا ان لم يكن ولد لله فمن ابوه فقال عليه السلام « ألستم تعلمون انه لا يكون ولد الا ويشبه اباه »(2/122)
فقالوا بلى قال صلى الله عليه وسلم « ألستم تعملون ان ربنا حى لا يموت وان عيسى يأتي عليه الفناء » قالوا بلى قال عليه السلام « ألستم تعملون ان ربنا قيوم على كل شيء يحفظه ويرزقه » قالو بلى قال صلى الله عليه وسلم « فهل يملك عيسى من ذلك شيأ » قالوا لا فقال عليه السلام « ألستم تعملون ان الله تعالى لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا فى السماء » قالوا بلى قال عليه السلام « فهل يعلم عيسى شيأ من ذلك الا ما علم » قالوا لا قال صلى الله عليه وسلم « ألستم تعلمون ان ربنا صور عيسى فى الرحم كيف شاء وان ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث » قال بلى قال صلى الله عليه وسلم « ألستم تعلمون ان عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث » قالوا بلى قال صلى الله عليه وسلم « فكيف يكون هذا كما زعمتم » فسكتوا فابوا الا جحودا فانزل الله تعالى من اول السورة الى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليه السلام عليهم واجاب به عن شبههم وتحقيقا للحق الذى فيه يمترون(2/123)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{ نزل عليك الكتاب } اى القرآن عبر عنه باسم الجنس ايذانا بكمال تفوقه على بقية الافراد في حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بان يطلق عليه اسم الكتاب
فان قلت لم قيل نزل الكتاب وانزل التوراة والانجيل قلت لان التنزيل للتكثير والقرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة وذكر فى آخر الآة الانزال واراد به من اللوح المحفوظ الى سماء الدنيا جملة فى ليلة القدر في شهر رمضان والمراد هنا هو تنزيله الى الارض ففى القرآن جهتا الانزال والتنزيل { بالحق } ملتبسا ذلك الكتاب بالعدل فى احكامه او بالصدق فى اخباره التي من جملتها خبر التوحيد وما يليه اوفى وعده ووعيده { مصدقا لما بين يديه } اي فى حال كونه مصدقا للكتب قبله فى التوحيد والنبوات والاخبار وبعض الشرائع قبله { وانزل التوراة والانجيل } اسمان اعجميان الاول عبرى والثانى سريانى(2/124)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{ من قبل } اى انزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما السلام و\من قب تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الامر للمبالغة في البيان { هدى للناس } علة للانزال اى انزلهما لهداية الناس وفيه لف بدون النشر لعدم اللبس لان كون التوراة هدى للناس فى زمان موسى وكون الانجيل هدى لهم فى زمان عيسى معلوم فاختصر لذلك { وانزل الفرقان } اى جنس الكتب السماوية لان كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل او هو القرآن كرر ذكرة تعظيما لشانه واظهارا لفضله { ان الذين كفروا بآيات الله } اى بالقرآن ومعجزات النبي عليه السلام { لهم } بسبب كفرهم بها { عذاب شديد } لا يقادر قدره { والله عزيز } لا يغالب يفعل ويحكم ما يريد { ذز انتقام } عظيم لا يقدر على مثله منتقم(2/125)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
{ ان الله لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء } اى مدرك الاشياء كلها يعنى هو مطلع على كفر من كفر به وايمان من آمن به وعلى جميع اعمالهم فيجازيهم يوم القيامة(2/126)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{ هو الذى يصوركم فى الارحام كيف يشاء } اي يجعلكم على هيئة مخصوصة فى ارحام امهاتكم من ذكر وانثى واسود وأبيض وتام وناقص وطويل وقصير وحسن وقبيح وهو رد على الذين قالوا عيسى الله وابن الله لان من صور فى الرحم يمتنع ان يكون الها أو ولد الله لكونه مركبا وحالا فى المركب وفى عرض الفناء والزوال { لا اله الا هو } نزه نفسه ان يكون عيسى ابنا له { العزيز الحكيم } المتناهى في القدرة والحكمة فربكم يخلقكم على النمط البديع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان خلق احدكم يجمع في بطن امه اربعيم يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله اليه الملك باربع كلمات فيكتب رزقه وعمله واجله وشقى او سعيد » قال « وان احدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها وان احدكم ليعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها » وقال عليه السلام « يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم باربعين او بخمس واربعين ليلة فيقول يارب أشقى او سعيد فيكتبان فيقول اى رب أذكر أو انثى فيكتبان ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها لا ينقص ثم يقول الملك يارب ما اصنع بهذا الكتاب فيقول علقه في عنقه الى قضائى عليه فذلك قوله تعالى { وكل انسان ألزمناه طائره فى عنقه } » اى علمه من خير وشر صادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار اليه من وكر الغيب والقدر
قال القاضى المراد بكتبه هذه الاشياء اظهارها للملك والافقضاؤه تعالى سابق على ذلك وكل ميسر لما خلق له فعلى العاقل ان لا يتكاسل عن الاعمال في جميع الاحوال ولا يفوت ايام الفرصة والليال
خبردارى اى استخوانى قفس ... كه جان تومر غيست نامش نفس
جو مرغ ازقفس رفت وبكسس قيد ... دكر ره نكردد بسعى تو صيد
نكه دار فرصت كه عالم دميست ... دمى ييش دانا به از عالميست
والاشارة ان الله تعالى كما يصور الجنين بصورة الانسانية على نطفة سقطت في الرحم بتدبير الاربعينات فكذلك اذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجاله نطفة ارادة فى رحم قلب مريدد صادق والمرد يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهى بمثابة ملك الارحام ويضبط احوال ظاهرة وباطنة على وفق امر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة يلا يصدر منه حركة عنيفة او يجد رايحة غريبة يلزم منها سقوط النطفة وفسادها ويقعد بامر الشيخ وتدبيره فالله تعالى يصرف لاية الشيخ المؤيد بتأييد الحق بمرور كل اربعين عليه بشرائطها يحولها من حال الى حال وينقلها من مقام الى مقام الى ان يرجع الى حظائر القدس ورياض الانس التي منها صدر الى عالم الانس بقدم الاربعينات الاولى فلما وصل الى مقامة الاول ايضا بقدم الاربعينات كما جاءتم خلق الجنين فى رحم القلب وهو يجعل خليفة الله فى ارضه فيستحق الآن ان ينفخ فيه الروح المخصوص بابناء اوليائه وهو روح القدي الذى هو متولى القائه كقوله تعالى(2/127)
{ يلقى الروح من امره على من يشاء من عباده } وقال { كتب فى قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه } ولهذا الفائدة العظيمة والنعمة الجسيمة اهبط الارواح من اعلى عليين القرب الى اسفل سافلين كمال قال { اهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فاذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم اجمعون فاحفظه تفهم ان شاء الله تعالى كذا في تأويلات الشيخ الكامل نجم الدين الكبرى افاض الله علينا من سجال معارفه وحقائقه ولطائفه آمين(2/128)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{ هو الذى انزل عليك الكتاب } اى القرآم { منه } اى من الكتاب { آيات محكمات } اى قطيعة الدلالة على المعنى المراد محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه { هن ام الكتاب } اى اصل فيه وعمدة يرد اليها غيرها بالتاويل فالمراد بالكتاب كله والاضافة بمعنى فى { واخر } اى ومنه آيات اخر { متشابهات } اى محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض فى استحقاق الارادة بها لا يتضح الامر الا بالنظر الدقيق والتأمل الانيق فالتشابه فى الحقيقة وصف للمعنى وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بوصف المدلول
واعلم ان اللفظ اما ان لا يحتمل غير معنى واحد او يحتمل . والاول هو النص كقوله تعالى { والهكم اله واحد } والثاني اما ان تكون دلالته على مدلولية او مدلولاته متساوية اولا والاول هو المجمل كقوله تعالى { ثلاثة قروء } . واما الثاني فهو بالنسبة الى الراجح ظاهر كقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وبالنسبة الى المرجوح مؤول متشابه وهو كقوله تعالى { فاينما تولوا فثم وجه الله } قد رد الى قوله تعالى { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ثم أن الله تعالى جعل القرآن كله محكما في قوله { الر كتاب احكمت آياته } ومعناه ان كله حق لاريب فيه ومتقن لا تناقض فيه ومحفوظ من اعتراء الخلل او من النسخ . وجعله كله متشابها فى قوله { كتاب متشابهاً مثانى } ومعناه يشبه بعضه بعضا فى صحة المعنى وجزالة النظم وحقيقة المدلول وجعل بعضه محكما وبعضه متشابها فى هذه الآية وقد سبق وانما لم يجعل الله القرآن كله محكما لما فى المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه كابتلاء بنى اسرائيل بالنهر فى اتباع نبيهم ولان النظر فى المتشابه والاستدلال لكشف الحق يوجب عظم الاجر ونيل الدرجات عند الله { فاما الذين فى قولبهم زيغ } اى ميل عن الحق الى الاهواء الباطلة { فيتبعون ما تشابه منه } معرضين عن المحكمات اي يتعلون بظاهر المتشابه من الكتاب او بتاويل باطل الاتحريا للحق بعد الايمان بكونه من عند الله تعالى بل { ابتغاء الفتنة } اى طلب ان يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابة { وابتغاء تأويله } اى ى طلب ان يؤولوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال انهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل { وما يعلم تأويله } اى تأويل المتشابه { الا الله والراسخون فى العلم } اي لا يهتدى الى تأويله الحق الذى يجب ان يحمل عليه الا الله وعباده الذين رسخوا فى العلم اى ثبتوا فيه وتمكنوا اوفوضوا فيه لنص قاطع ومنهم من يقف على قوله { الا الله } ويبتدىء بقول { والراسخون فى العلم يقولون آمنا به } ويفسرون المتشابه بما أستاثر الله بعلمه وبمعرفة فيه من آياته كعدد الزبانية فى قوله(2/129)
{ عليها تسعة عشر } ومدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة والصوم وعدد الركعات فى الصلوات الخمس والاول هو الوجه فان الله تعالى لم ينزل شيأ من القرآن الا لينتفع به عباده ويدل به على معنى ارادة فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال وهل يجوز ان يقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه واذا جاز ان يعرفه مع قوله تعالى { وما يعلم تأويله الا الله } جاز ان يعرفه الربانيون من صحابته وان لم يكن لهم فضل على الجهال لانهم جميعا يقولون ذلك قالوا ولم يزل المفسرون الى يومنا هذا يفسرون ويؤولون كل آية ولم نرهم وققفوا عن شيء من القرآن فقالوا هذا متشابه لا يعلمه الا الله بل فسروا نحو جروف التهجى وغيرها { يقولون آمنا به } اى بالمتشابه والجملة على الاول استئناف موضح لحال الراسخين وعلى الثانى خبر لقوله والراسخون { كل } اى كل واحد من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما { وما يذكر } حق التذكر { الا اولوا الالباب } اى العقول الخالصة عن الركون الى الاهواء الزائغة وهو مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر واشارة الى ما به استعدوا للاهتداء الى تأويله من تجرد العقل عن غواشى الحس(2/130)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
{ ربنا لا تزغ قلوبنا } اى يقولون لا تمل قلوبنا عن نهج الحق الى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه { بعد اذ هديتنا } الى الحق والتأويل الصحيح او الى الايمان { وهب لنا من لدنك } اى من عندك { رحمة } واسعة تزلفنا اليك ونفوز لها عندك { انك انت الوهاب } واطلاق الوهاب ليتناول كل موهوب . وفيه دلالة على ان الهدى والضلال من قبله وانه متفضل بما ينعم به على عباده من غير ان يجب عليه شىء(2/131)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ ربنا انك جامع الناس } بعد الموت { ليوم } اى لجزاء يوم وسابه وهو يوم القيامة { لا ريب فيه { اى فى وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ومقصودهم بهذا عرض كمال افتقارهم الى الرحمة وانها المقصد الاسنى عندهم { ان الله لا يخلف الميعاد } الوعد يعنى الالوهية تنافى خلف الوعد فى البعث واستجابة الدعاء وهذا حال الراسخين فى الدعاء فانظر كيف لا يأمنون سوء اخاتمة واداهم الخوف والخشية الى الرجاء فاياك والزيغ عن الصراط المستقيم باتباع الهوى والشهوات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من قلب الا وهو بين اصبعين من اصابع الرحمن اذا شاء ان يقيمه اقامه واذا شاء ازاغه » يعنى قلب المؤمن الا وهو بين توفقيه وخذلانه وانما قال من اصابع الرحمن ولم يقل من اصابع الله اشعارا بانه هو المتكمن من قلوب العباد والمتصرف فيها كيف يشاء ولم يكلها الى احد من ملائكته رحمة منه وفضلا لئلا يطلع على سرائرهم غيره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « اللهم يا مقلب القلوب والابصار ثبت قلوبنا على دينك » والميزان بيد الرحمن يرفع قوما ويضع آخرين الى يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم « مثل القلب كريشة بارض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن » * قال الجنيد رحمه الله من اراد ان يسلم له دينه ويستريح فى بدنه وقلبه فليعتزل الناس فان هذا زمان وحشة والعاقل من اختار الوحدة قال عليه السلام لاصحابة « اين تنبت الحبة » قالوا فى الارض قال « فكذلك الحكمة انما تنبت فى قلب مثل الارض » فدفن حبة الفؤاد والوجود فى ارض الخمل مما يتيج ويتم متاجه جدا فما نبت ما لم يدفن لم يتم نتاجه وان ظهر نوره وانتاجه كالذى نبت فى حميل السيل
فعليك بتزكية النفس واصلاح الوجود كى تدرك نور الشهود وتقبل الى الاستقامة وتخلص من الزيغ والضلال فى جميع الاحوال وكم من زائغ قلبه وهو صورة مستقيم وكم من مستقيم فؤواده وهو فى الظاهر غير مستقيم : كما قيل
بس قامت خاشاك برجا باشد ... جون باد بر آنها برود ن باشد
و القلب هو محل النظر لا الصورة كما قال عليه السلام « ان الله لا ينظر الى صوركم بل الى قلوبكم واعمالكم » فأى فائدة فى القلب الزائغ عن الحق فنعوذ بالله منه(2/132)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
{ ان الذين كفروا لن تغنى عنهم } اى لن تنفعهم { اموالهم } التي يبذلونها فى جلب المنافع ودفع المضار قدم الاموال على الاولاد لانها اول عدة يفرغ اليها عند نزول الخطوب { ولا اولادهم } الذين بهم يتناصرون فى الامور المهمة وعليهم يعولون فى الخطوب الملمة وتوسيط حروف النفى لعرافة الاولاد فى كشف الكروب { من الله } اى عذابه تعالى { شيأ } اى شيأ ن الاغناء ومعناه لا يصرف عنهم كثرة الاموال والاولاد والتناصر بهما عذابه وكانوا يقولون نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين قال تعالى فى ردهم { وما أموالكم ولا اولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى الامن آمن وعمل صالحا } { واولئك } اى اولئك المتصفون بالكفر { هم وقود النار } حطب النار وحصبها الذى تسعر به(2/133)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{ كداب آل فرعون } الدأب مصدر دأب فى العمل اذا كدح فيه وتعب غلب استعماله فى معنى الشان والحال والعادة ومحل الكاف الرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف اى دأب هؤلاء فى الكفر وعدم النجاة من اخذ الله تعالى وعذابه كدأب آل فرعون { والذين من قبلهم } اى آل فرعون من الامم الكافرة كقوم نوح وثمود وقوم لوط وهو عطف على ما قبله { كذبوا بآياتنا } بيان وتفسير لدابهم الذى فعلوا على الستئناف المبنى على السؤال كأنه قيل كيف كان دابهم فقيل كذبوا بآياتنا اى بكتبنا ورسلنا { فأخذهم الله بذنوبهم } تفسير لدأبهم الذي فعل بهم ا فأخذهم الله تعالى وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا فداب هؤلاء الكفرة ايضا كدأبهم والذنب فى الاصل التلو والتابع وسميت الجريمة ذنبا لانها تتلو اى يتبع عقابها فاعلها { والله شديد العقاب } لمن كفر بالآيات والرسل(2/134)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{ قل للذين كفروا } المراد بهم اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان يهود المدينة لما شاهدوا غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يوم بدر قالوا والله انه النبي الامى الذى بشرنا به موسى وفى التوراة نعته وهموا باتباعه فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر الى وقعة له اخرى فلما كان يوم احد شكوا وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الى مدة فنقضوه وانطلق كعب بن الاشرف فى ستين راكبا الى اهل مكة فاجمعوا امرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { ستغلبون } البتة عن قريب فى الدنيا وقد صدق الله وعده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم وهو من اوضح شواهده النبوة { وتحشرون } اى فى الآخرة { الى جهنم } والحشر السوق والجمع اى يغلبون فى الدنيا ويساقون فى الآخرة مجموعين الى جهنم { وبئس المهاد } اى بئس الفراش والمقر جهنم(2/135)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{ قد كان لكم } جواب قسم محذوف وهو من تمام القول المأمور به اى والله قد كان لكم ايها اليهود المغتربون بعددهم وعددهم { آية } عظيمة دالة على صدق ما اقول لكم انكم ستغلبون { فى فئتين } اى جماعتين فان المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقيها ما لقيها فسيصيبكم ما يصيبكم { التقتا } اى تلاقيا بالقتال يوم بدر { فئة } خبر مبتدا محذوف اى احدهما فئة { تقاتل } تجاهد { فى سبيل الله } وهم لا كثرة فيهم ولا شوكة وهم اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { واخرى } اى وفئة اخرى { كافرة } بالله ورسوله { يرونهم } اى ترى الفئة الاخيرة الكافرة الفئة الاولى المؤمنة والجملة صفة للفئة الاخيرة { مثليهم } اى مثلى عدد الرائين قريبا من الف كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا راسهم عتبة من ربيعة بن عبد شمس وفيهم ابو سفيان وابو جهل وكان فيهم من الخيل والابل مائة فرس وسبعمائة بعير ومن اصناف الاسلحة عدد لا يحصى
وعن سعد بن اوس انه قال اسر المشركون رجلا من المسلمين فسالوه كم كنتم قال ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا ما كنا نراكم الا تضعفون علينا أو مثل عدد المرئيين اى ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا ثاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين على بن ابى طالب رضى الله تعالى عنه وصاحب راية الانصار اراهم الله عز وجل كذلك مع قلتهم ليهابوهم ويتجنبوا عن قتالهم مددا لهم منه سبحانه كما امدهم بالملائكة عليهم السلام
فان قلت فهذا مناقض لقوله فى سورة الانافل { ويقللكم فى اعينهم } قلت قللهم اولا فى اعينهم حتى اجترأوا عليهم فلما لاقوهم كثروا فى اعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير فى حالين متلفين وتقليلهم تارة وتكثيرهم اخرى ابلغ فى القدرة واظهار الآية { رأى العين } نصب على المصدر يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لالبس فيها معاينة كسائر المعاينات { والله يؤيد } اى يقوى { بنصره من يشاء } اى يريد من غير توسيط الاسباب العادية كما ايد الفئة المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القول المأمور به { ان فى ذلك } اشارة غلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرا المستتبعة لغلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكى السلاح { لعبرة } من العبور كالجلسة من الجلوس والمراد بها الاتعاظ فانه نوع من العبور اى لعبرة عظيمة كائنة { لاولى الابصار } لذوى العقول والبصائر
فعلى العاقل ان يعتبر بالآيات ولا يغتر بكثرة الاعداد من الاموال والاولاد وعدم اجتهاده لمعاده فان الله يمتعه قليلا ثم يضطره الى عذاب غليظ
واعلم ان المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الازلى بالشقاوة ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا فغلبات الهوى والنفس ترد الى اسفل سافلين الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه فى قعر جهنم وبئس المهاد فانه مهده فى معاشه والنار ناران نار الله ونار الجحيم فاما نار الله فهى نار حسرة القطيعة عن الله فيها يعذب قلوب المحجوبين عن الله كقوله تعالى(2/136)
{ نار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة } واما نار الجحيم فهى نار الشهوات والمعاملات على الغفلات من المخالفات فهى تحرق قشور الجلود كما قال تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب بما كانوا يعملون } ولا يتخلص من هذه النار الالب القلوب وان عذاب حرقة الجلد بالنسبة الى عذاب حرقة القلوب كنسيم الحياة وسموم الممات فلا بد من تزكية النفس فانها سبب للخلاص من عذاب الفرقة قيل لبعضهم بم يتخلص العبد من نفسه قال بربه انتهى فاذا اراد الله ان ينصر عبده على ما طلب منه امده بجنود الانوار فكلما اعترته ظلمة قام لها نور فاذهبها وقطع عنه مواد الظلم والأغيار فلم يبق للهوى مجال ولا للشهوة والاخلاق الذميمة مقال ولا قال فالنور جند القلب كما ان الظلمة جند النفس والمراد بالنور حقائق ما يستفاد من معانى الاسماء والصفات وبالظلمة معانى ما يستفاد من الهوى والعوائد الردئية قال تعالى { ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها } اى غيروا حالها عما هى عليه وكذلك اذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة اخرجت منها كل صفة ردئية وكستها كل خلق زكية فهذه الدولة انما تنال بترك الدنيا والعقبى فكيف يمتلىء بالأنوار قلب من خالط الاغيار واحب المال والاولاد ولم يخف من رب العباد * وقدم على الاستاذ ابى على الدقاق رحمه الله فقير وعليه مسح وقلنسوة فقال له بعض اصحابه بكم اشتريت هذا المسح على وجه المطايبة فقال اشتريته بالدنيا فطلب منى بالآخرة فلم ابعه
قال ابو بكر الوراق رحمه الله طوبى للفقراء فى الدنيا والآخرة فسألوه عنه فقال لا يطلب السلطان منه فى الدنيا الخراج ولا الجبار فى الآخرة الحساب
قناعت سر افرازد اى مرد هوش ... سرير طمع برنيايد زدوش
كر آزاداه برزمين خسب وبس ... مكن بهر ماى زمين بوس كس
حققنا الله واياكم بحقتئق التوحيد(2/137)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{ زين للناس } اي حسن لهم والمزين هو الله لقوله تعالى { زينا لهم اعمالهم } وذلك على جهة الامتحان او هو الشيطان لقوله تعالى { وزين لهم الشيطان أعمالهم } وذلك على جهة الوسوسة { حب الشهوات } اى محبة مرادات النفوس والشهورة نزوع النفس الى ما تريده وهى مصدر اريد به المفعول اى المشتهيات لان الاعيان التي ذكرها كلها مشتهيات وانما عبر عنها بالمصدر مبالغة فى كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات وانما عبر عنها بالمصدر مبالغة فى كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات والوجه ان يقصد تخسيسها فيسميها شهوات لان الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمة . قالوا خلق الله الملائكة عقولا بلا شهوة والبهائم ذت شهوات لا عقل وجعلهما فى الانسان فمن غلب علقله شهوته فهو افضل من الملائكة ومن غلب عليه شهوته فهو ارذل من البهائم { من النساء } حال من الشهواتاى حال كونها من طائفة النساء وانما بدأ بهن لعرافتهن فى معنى الشهوات فانهن حبائل الشيطان { والبنين } والفتنة بهم ان الرجل يحرص بسببهم على جمع المال من الحلال والحرام والنهم يمنعونه عن محافظة حدود الله . قيل اولادنا فتنة ان عاشوا فتنونا وان ماتوا احزنوانا وعدم التعرض للبنات لعدم الاطراد فى حبهن { والقناطير المقنطرة } جمع قنطار وهو امال الكثير اى الاموال الكثيرة المجتمعة وهو مائة الف دينار او ملىء مسك ثور او سبعون الفا او اربعون الف مثقال او ثمانون الفا او مائة رطل او الف ومائتا مثقال او الف دينار او مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم اودية النفس
وفى الكشاف المقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم الوف مؤلفة وبدر مبدرة { من الذهب والفضة } بيان للقناطير اى من هذين الجنسين وانما سمى الذهب ذهبا للاه يذهب ولا يبقى والفضة لانها تنفض اى تتفرق { والخيل } عطف على القناطير . والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحد فرس وهو مشتق من الخيلاء لاختيالها فى مشيتها او من التخيل فانها لم يتخيل فى عين صاحبها اعظم منها لتمكنها من قلبه { المسومة } اى المعلمة وهى التى جعلت فيها العلامة بالسيمة واللون او بالكى او المرعية من سامت السائمة اى رعت { والانعام } اى الابل والبقر والغنم جمع نعم { والحرث } اى الزرع قيل كل منهما فتنة للناس . اما النساء والبنون ففتنة للجميع . والذهب والفضة للتجار . والخيل فتنة للملوك . والانعام فتنة لاهل البوادى . والحرث فتنة لاهل الرساتيق { ذلك } اى ما ذكر من الاشياء المعهودة { متاع الحيوة الدنيا } اى ما يمتنع به فى الحياة الدنيا اياما قلائل فيفنى سريعا { والله عنده حسن المآب } اى حسن المرجع وهو الجنة
وفيه دلالة على انه ليس فيما عدد عاقبة حميدة وهذا تزهيد فى طيبات الدنيا الفانية وترغيب فيما عند الله من النعيم المقيم فعلى العاقل ان يأخذ من الدنيا قدر البلغة ولا يستكثر بالاستكثر بالاستكثار الذى يورط صاحبه فى المحظور ويورثه المحذور(2/138)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{ قل } يا محمد { اؤنبئكم بخير من ذلكم } الهمزة للتقرير اى اخبركم بما هو مما فصل من تلك المستلذات المزينة لكم { للذين } خبر مبتدأه قوله جنات { اتقوا } والمراد بالتقوى هو التبت الى الله تعالى والاعراض عما سواه كما ينبىء عنه النعوت الآتية { عند ربهم } نصب على الحالية من قوله { جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } حال مقدرة { وازواج مطهرة } اى زوجات مبرأة من العيوب الظاهرة كالحيض والامتخاط واتيان الخلاء ومن الباطنة كالحسد والغضب والنظر الى غير ازواجهن - روى عن النبى عليه السلام « شبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها » { ورضوان } اى رضوان وأى رضوان لا يقادر قدره كائن { من الله } قال الحكماء الجنات بما فيها اشارة الى الجنة الجسمانية والرضوان اشارة الى الجنة الروحانية واعلى المقامات الجنة الروحانية وهى عبارة عن تجلى نور جلال الله تعالى فى روح العبد واستعراق العبد فى معرفة الله ثم يصير فى اول هذه المقامات راضيا عن الله وفى آخرها مرضيا عند تعالى واليه الاشارة بقوله { راضية مرضية } { والله بصير بالعباد } وباعمالهم فيثيب ويعاقب حسبما يليق بها(2/139)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
{ الذين } كأنه قيل من اولئك المتقون الفائزون الكرامات السنية فقيل هم اذين { يقولون ربنا اننا آمنا } اى صدقنا بك وبنبيك وفى ترتيب الدعاء بقولهم { فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } على مجرد الايمان دلالة على كفايته فى استحقاق المغفرة والوقاية من النار(2/140)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{ الصابرين } نصب على المدخ باضمار اعنى والمراد بالصبر هو الصبر على مشاق الطاعات وعلى الباساء والضراء وحين البأس { والصادقين } فى اقوالهم ونياتهم وعزائمهم { والقانتين } اى المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات { والمنفقين } اموالهم فى سبيل الله { والمستغفرين بالاسحار } وتوسيط الواو بين الصفات المذكورة مؤذن بان كل صفة مستقلة بالمدح ومؤذن بان منهم صابر ومنهم صادق
ثم الصبر حبس النفس عن شهواتها المحظورة فى الشرع . وجميع اجناس الصبر ثلاثة . الصبر على الطاعة . والصبر على المعصية . والصبر على المكروه قال النبى صلى الله عليه وسلم « من صبر على مصيبة فله ثلاثمائة درجة وبين الدرجتين كما بين السماء والارض ومن صبر على الطاعة فله ستمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض ومن صبر على المعصية فله تسعمائة درجة بين الدرجتين كما بين العرش والكرسى »
والصدق يجرى فى القول وهو مجانبة الكذب وفى الفعل وهو اتيانه وترك الانصراف عنه قبل تمامه وفى النية وهو العزم عليه حتى يفعل
والانفاق يتناول الانفاق على نفسه واهله واقاربه وصلة رحمه وفى الجهاد وسائر وجوه البر
والاستغفار سؤال المغفرة من الله وتخصيص الاسحار بالاستغفار لان الدعاء فيها اقرب الى الاجابة اذ العبادة حينئذ اشق والنفس اصفى والروح اجمع لاسيما للمجتهدين
قال مجاهد فى قول يعقوب عليه السلام { سأستغفر لكم ربى } اخره الى وقت السحر فان الدعاء فيه مستجاب وقال ان الله تعالى لا يشغله صوت عن صوت لن الدعاء فى السحر دعوتى فى الخلوة وهى ابعد من الرياء والسمعة فكانت اقرب الى الاجابة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ينزل الله تعالى الى السماء الدنيا كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من ذا الذى يدعونى فاستجيب له من ذا الذى يسألنى فاعطيه من ذا الذى يستغفرنى فاغفر له » ومعنى ينزل محمول على نزول ملكه او على الاستعارة فمعناه الاقبال على الداعين بالطف والاجابة ولهذا قال الى السماء الدنيا اى القربى وفى هذا الكلام توبيخ لهم على غفلتهم فى الدعاء والسؤال منه والاستغفار
قال لقمان لابنه يا بنى لا تكونن اعجز من هذا الديك يصوت بالاسحار وانت نائم على فراشك
دلابر خيز وطاعت كن كه طاعت به زهر كارست ... سعادت آن كسى داردكه وقت صبح بيدارست
خروسان درسحر كويند قم يا ايها الغافل ... توازمستى نمى دانى كسى داندكه هيشاراست
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما اسرى بى الى السموات رأيت عجائب من عجائب الله تعالى فمن ذلك ان فى السماء الدنيا ديكا له زغب اخضر وريش ابيض وبياض ريشه كاشد بياض رأيته وزغبه تحت ريشه كاشد خضرة رأيتها فاذا رجلاه فى تخوم الارض السابعة السفلى واذا راسه عند عرش الرحمن ثانى عنقه تحت العرش له جناحان فى منكبيه اذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فاذا كان بعض الليل نشر جناية وخفق بهما وصرخ بالتسبيح لله يقول سبحان الملك القدوس الكريم »(2/141)
أو قال « الكبير المتعال لا اله الا هو الحى القيوم فاذا فعل ذلك سبحت ديكة الارض كلها وخفقت باجنحتها فاذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الارض كلها ثم اذا كان بعض الليل نشر جناحيه فجاوز بهما المشرق والمغرب وحفق بهما ثم صرخ بالتسبيح لله يقول سبحان الله العى العظيم سبحان العزيز القهار سبحان الله رب العرش الرفيع فاذا فعل ذلك سبحت ديكة الارض بمثل قوله وخفقت باجنحتها واخذت فى الصراخ واذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الارض بمثل قوله وخفقت باجنحها واخذت فى الصراخ واذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الارض ثم اذا هاج بنحو فعله فى السماء هاجت الديكة فى الارض يجاوبونه تسبيحا لله تعالى بنحو قوله » والمقصود من هذا ان التسبيح اذا كان من فعل اهل السماء والارض خصوصا الحيوانات العجم بل النباتات كما قال تعالى { وان من شىء الا يسبح بحمده } فان الانسان اولى بان يشتغل بالدعاء والتسبيح خصوصا فى الخلوات واوقات الاسحار
قال الامام القشيرى رحمه الله الصابرين على ما امر الله والصادقين فيما عاهدوا الله والقانتين بالاستقامة فى محبة الله والمنفقين فى سبيل الله والمستغفرين من جميع ما فعلوا لرؤية تقصيرهم(2/142)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{ شهد الله انه } بانه { لا اله الا هو } نزلت حين جاء رجلان من احبار الشام فقالا للنبى عليه السلام انت محمد قال « نعم » فقالا انت احمد قال « انا محمد واحمد » قالا اخبرنا عن اعظم الشهادة فى كتاب الله فاخبرهما اى اثبت الله بالحجة القطيعة واعلم بمصنوعاته الدالة على توحيده انه واحد لا شريك له فى خلقه الاشياء اذ لا يقدر احد ان ينشىء شيأ منها
قال ابن عباس خلق الله تعالى الارواح قبل الاجساد باربعة آلاف سنة وخلق الارزاق قبل الارواح باربعة آلاف سنة فشهد لنفسه قبل خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا ارض ولا بر ولا بحر فقال { شهد الله } الآية { والملائكة } عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنى مجازى شامل للاقرار والايمان بطريق عموم المجاز اى اقرت الملائكة بذلك بشهادة الشاهد فى البيان والكف { قائما بالقسط } نصب على الحال المؤكدة من هو دون من ذكر معه لأ من اللبس اذ القيام بالقسط من الصفات الخاصة به تعالى ومثله جاء زيد وهند راكبا جاز لا جل التذكير ولو قلت جاء زيد وعمرو راكبا للبس اى مقيما بالعدل فى قسمة الارزاق والآجال والاثابة والمعاقبة وما يأمر به عباده وينهاهم عنه من العدل والتسوية فيما بينهم ودفع الظلم عنهم { لا اله الا هو العزيز الحكيم } كرر المشهود له لتأكيد التوحيد ليوحدوه ولا يشركوا به شيأ لانه ينتقم ممن لا يوحده بما لا يقدر على مثله منتقم ويحكم ما يريد على جميع خلقه لا معقب لحكمه لغلبته عليهم { ان الدين عند الله الاسلام } جملة مستانفة مؤكدة للاولى اى لا الدين مرضيا لله تعالى سوى الاسلام الذى هو التوحيد والتشرع بالشريعة الشريفة وهو الدين الحق منذ بعث الله آدم عليه السلام وما سواه من الاديان فكلها باطلة
قال شيخنا العلامة فى بعض تحريراته المقصورد من انزال الكلام مطلق الدعوة الى الدين الحق والدين من زمن آدم الى نبينا عليهما الصلاة والسلام الاسلام كما قال تعالى { ان الدين عند الله الاسلام } وحقيقة دين الاسلام التوحيد وصورته الشرائع التى هى الشروط وهذا الدين م ذلك الزمان الى يوم القيامة واحد بحسب الحقيقة وسواء بين الكل ومختلف بحسب الصورة والشورط وهذا الاختلاف الصورى لا ينافى الاتحاد الاصلى والوحدة الحقيقة انتهى
وعن قتادة ان الاسلام شهادة ان لا اله الا الله والاقرار بما جاء من عند الله
وعن غالب القطان قال اتيت الكوفة فى تجارة فنزلت قريبا من الاعمش فكنت اختلف اليه فلما ككنت ذات ليلة اردت ان احدر الى البصرة قام من الليل متهجدا فمر بهذه الآية { شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم } قال الاعمش وانا اشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهى لى عند الله وديعة ان الدين عند الله الاسلام قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيأ فصليت معه وودعته ثم قلت آية سمعتك ترددها فما بلغك فيها قال والله لا احدثك بها الى سنة فلبثت على بابه من ذلك اليوم فاقمت سنة فلما مضت السنة قلت يا ابا محمد قد مضت السنة قال حدثنى ابو وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/143)
« يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله ان لعبدى هذا عندى عهدا وانا احق من وفى بالعهد ادخلوا عبدى الجنة » ويناسب هذا ما يقال عهدنا لله
عن ابى مسعود رضى الله عنه ان النبى صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه ذات يوم « أيعجز احدكم ان يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا » قالوا وكيف ذلك قال « يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انى اعهد اليك بانى اشهد ان لا اله الا انت وحدك لا شريك لك وان محمد عبدك ورسولك وانك ان تكلنى الى نفسى تقربنى من الشر وتباعدنى من الخير وانى لا اثق الا برحمتك فاجعل لى عهدا توفينيه يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد فاذا قال ذلك طبع عليه بطابع » اى ختم عليه بخاتم « ووضع تحت العرش فاذا كان يوم القيامة نادى مناد اين الذى لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة » فلا بد من الدعاء فى الصبح والمساء لله الذى هو خالق الارض والسماء ومن الاخلاص الذى هو ملاك الامر كله فى طاعة المرء وعمله
عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مزبوست
{ وما اختلف الذين اوتوا الكتاب } نزلت فى اليهود والنصارى حين تركوا الاسلام الذى جاء به النبى عليه السلام وانكروا نبوته { الا من بعد ما جاءهم العلم } استثناء مفرغ من اعم الاحوال او اعم الاوقات اى ما اختلفوا فى دين الله الاسلام ونبوة محمد عليه السلام فى حال من الاحوال او اعم الاوقات اى وما اختلفوا فى دين الله الاسلام ونبوة محمد عليه السلام فى حال من الاحوال او فى وقت من الاوقات الا بعد ان عملوا بانه الحق الذى لا محيد عنه او بعد ان عملوا حقيقة الامر وتمكنوا من اعلم بها بالحجج والآيات الباهرة وفيه من الدلالة على ترامى حالهم فى الصلاة ما لا مزيد عليه فان الاختلاف بعد حصول تلك المرتبة مما لا يصدر عن العاقل { بغيا بينهم } مفعول به لقوله اختلف اى حسدا كائنا بينهم وطلبا للرياسة لا شبهة وخفاء فى الامر وهو تشنيع اثر تشنيع { ومن يكفر بآيات الله } الناطقة بما ذكر من ان الدين عند الله الاسلام ولم يعمل بمقتضاها { فان الله سريع الحساب } قائم مقام جواب الشرط عله له اى ومن يكفر بآياته تعالى فانه يجاز به ويعاقبه عن قريب فانه سريع الحساب اى يأتى حسابه عن قريب او سريع فى محاسبة جميع الاخلائق لانه يحاسبهم فى اقل من لمحة بحيث يظن كل احد منهم انه اى الله يحاسب نفسه فقط(2/144)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ فان حاجوك } اى فى كون الدين عند الله الاسلام { فقل اسلمت وجهى } اى اخلصت نفسى وقلبى وهو القديم الذى ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندى وما جئت بشىء بديع حتى تجادلونى فيه { ومن اتبعن } عطف على المتصل فى اسملت وحسن ذلك لمكان الفصل الجارى مجرى التأكيد بالنفصل اى واسلم من اتبعنى وجوههم ايضا { وقل للذين اوتوا الكتاب } اى من اليهود والنصارى { والاميين } الذين لا كتاب لهم من مشركى العرب { أاسلمتم } وعملتم بقضيتها او انتم بعد على كفركم وهو استفهام بمعنى الامر اى اسلموا وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا الا سلكته فهل فهمتها { فان اسلموا } اى كما اسلمتم واخلصتم { فقد اهتدوا } اى فازوا بالحظ الاوفر ونحوا من مهاوى الضلال { وان تولوا } اى اعرضوا عن الاتباع وقبول الاسلام { فانما عليك البلاغ } قائم الجواب اى لم يضروك شيأ اذما عليك الا البلاغ اى التبليغ بالرسالة دون الهداي وقد فعلت على ابلغ وجه - روى - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على اهل الكتاب قالوا اسلمنا فقال صلى الله عليه ولسلم لليهود « أتشهدون ان عيسى عبد كلمة الله وعبده ورسوله » فقالوا معاذ الله وقال صلى الله عليه وسلم للنصارى « أتشهدون ان عيسى عبد الله ورسوله » فقالوا معاذ الله ان يكون عيسى عبدا وذلك قوله عز وجل وان تولوا { والله بصير بالعباد } عالم بجميع احوالهم وهو وعد ووعيد(2/145)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{ ان الذين يكفرون بآيات الله } أى آية كانت فيدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الاسلام { ويقتلون النبين بغير حق } هو اهل الكتاب قتل اولوهم الانبياء عليهم السلام وقتلوا اتباعهم وهو راضون بما فعلوا وكانوا حاولوا قتل النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لولا عصمهم الله وقد اشير اليه بصيغة الاستقبال قال فى سورة البقرة { بغير الحق } اى بغير الحد الذى حده الله واذن فيه والنكرة ههنا على معنى ان القتل يكون بوجوه من الحق فمعناه يقتلون بغير حق من تلك الحقوق { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } اى بالعدل { من الناس } عن ابى عبيدو بن الجراح رضى الله عنه قلت يا رسول الله أى الناس اشد عذابا يوم القيامة قال « رجل قتل نبيا او رجلا امر بمعروف أو نهى عن منكر » ثم قرأها ثم قال « يا ابا عبيدة قتلت بنوا اسرائيل ثلاثة واربعين نبيا من اول نهار فى ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى اسرائيل فامروا قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتولا جميعا من آخر النهار » { فبشرهم بعذاب اليم } اى وجيع دائم جعل لهم بدل البشارة وهو الاخبار السار الاخبار بالنار وهو كقول القائل تحية ضرب وجيع(2/146)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{ اولئك } المتصفون بتلك الصفات القبيحة { الذين حبطت اعمالهم فى الدنيا والآخرة } الذين بطلت اعمالهم التى ما عملوهن البر والحسنات ولم يبق لها اثر فى الدارين بل بفى لهم اللعنة والخزى فى الدنيا والعذاب الاليم فى الآخرة { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من بأس الله وعذابه فى اخدى الدارين وصبغة الجمع لرعاية ما وقع فى مقابلته لا لنفى تعدد الانصار من كل واحد منهم كما فى قوله تعالى { وما للظالمين من انصار } ففى الآية ذم لمن قتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المكنر فبئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالمعروف والناهين عن المنكر وبئس القوم قوم لا يقومون بالقسط بين الناس وبئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فعليك بالعدل والانصاف واياك الجور والظلم والاعتساف فاصدع باوامر الحق ونواهيه ولا تخف غير الله فيما انت فيه وانما عليك البلاغ
كرجة دانى نشنوند بكوى ... هرجه مى دانى ازنصيحت وبند
زود باشد كه خيره سر بينى ... بدو باى او فتاده اندر بند
دست بدست مى زند كه دريغ ... نشنيدم حديث دانشمند
ولا يسقط الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ابدا ولكنه لا ينفع الوعظ والزجر فى آخر الزمان حين تشتد القلوب قساوة وتكون الانفس مولعة بلذات الدنيا - روى - ان يهوديا قال لهارون الرشيد فى سيره مع عسكره اتق الله فلما سمع هارون قول اليهودى نزل عن فرسه وكذا العسكر نزلوا تعظيما لاسم الله العظيم . ومن اكبر الذنوب ان يقول الرجل لاخيه اتق الله فيقول فى جوابه عليك نفسك أانت تأمرنى بهذا ومن الله العظة والوفي الى سواء الطريق(2/147)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{ ألم تر } تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم او لكل من تتأتى منه الرؤية من حال اهل الكتاب وسوء صنيعهم اى ألم تنظر { الى الذين اوتوا نصيبا } حظا وافرا { من الكتاب } اى التوراة والمراد بما اوتوه منها ما بين لهم فيها من العلوم والاحكام التى من جملتها ما عملوه من نعوت النبى عليه السلام وحقية الاسلام { يدعون الى كتاب الله } الذى اتوا نصيبا منه وهو التوراة كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر اليهم فقيل يدعون الى كتاب الله فالجملة استئناف { ليحكم } ذلك الكتاب { بينهم } وفى الكتاب بيان الحكم فاضيف اليه الحم كما فى صفة القرآن بشيرا ونذيرا لان فيه بيان التبشير والانذار وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مدراس اليهود فدعاهم الى الايمان فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو على أى دين انت قال صلى الله عليه وسلم « على ملة ابراهيم » قال ان ابراهيم كانو يهوديا قال صلى الله عليه وسلم « ان بيننا وبينكم التوراة فهاتوها فابوا » وقال الكلبى نزلت الآية فى الرجم فخر رجل وامرأة من اهل خيبر وكانا فى شرف منهم وكان فى كتابهم الرجم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء رخصة عنده فحكم عليهم بالرجم فقالوا جرت علينا ليس عليهما الرجم فقال صلى الله عليه وسلم « بينى وبينكم التوراة » قالوا قد انصفتنا قال « فمن اعلمكم بالتوراة » قالوا ابن صوريا فأرسلوا اليه فدعا النبى عليه الصلاة والسلام بشيء من التوراة فيه الرجم دله على ذلك ابن سلام فقال له ( اقر فلما اتى على آية الرجم وضع كفه عليها ) وقام ابن سلام فرفع اصبعه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بان المحصن والمحصنة اذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وان كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما فى بطنها وامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك ورجعوا كفارا فانزل الله هذه الآية { ثم يتولى فريق منهم } استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع اليه ولم يصب به الكل لانه قال فى هذه السورة { من اهل الكتاب امة قائمة } وقال تعالى { امه يهدون بالحق وبه يعدلون } { وهم معرضون } بقلوبهم او اعتراض اى وهم قوم ديدنهم الاعراض عن الحق والاصرار على الباطل(2/148)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ ذلك } اى التولى والاعراض { بانهم } اى حاصل بسبب انهم { قالوا لن تمسنا النار } باقتراف الذنوب وركوب المعاصى { الا اياما معدودات } اربعين يوما وهى مدة الايام التى عبدوا فيها العجل ورسخ اعتقادهم على ذلك من قولهم ان آبائنا الانبياء يشفعون لنا او ان الله تعالى وعد يعقوب عليه السلام ان لا يعذب اولاده الا تحلة القسم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح
قال ابن عباس رضى الله عنهما زعمت اليهود انهم وجدوا فى التوراة ان ما بين طرفى جهنم وتهلك واصل الجحيم سقر وفيها شجرة الزقوم فاذا اقتحموا من باب جهنم وتبادروا فى العذاب حتى انتهوا الى شجرة الزقوم وملأوا البطون قال لهم خازن سقر زعمتم ان النار لن تمسكم الا اياما معدودات قد خلت اربعون سنة وانتم فى الابد(2/149)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{ فكيف } اى فكيف يصنعون وكيف يكون حالهم وهو استعظام لما اعد لهم وتهويل لهم وانهم يقعون فيما لا حيلة فى دفعه والمخلص منه وان ما حدثوا به انفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون { اذا جمعناهم ليوم } اى لجزاء يوم { لا ريب فيه } اى فى وقوعه ووقوع ما فيه - روى - ان اول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفرة راية اليهود فيفضحهم الله على رؤس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار { ووفيت كل نفس ما كسبت } اى جزاء ما كسبت من غير نقص اصلا كما يزعمون
وفيه دلالة على ان العبادة لا تحبط وان المؤمن لا يخلد فى النار لان توفيه جزاء ايمانه وعمله لا يكون فى النار ولا قبل دخولها فاذا هى بعد الخلاص منها { وهم } اى كل الناس المدلول عليهم بل نفس { لا يظلمون } بزيادة عذاب او بنقص ثواب بل يصيب كلا منهم مقدار ما كسبه فاله تعالى ليس من شأنه العظيم ان يظلم عباده ولو مقال ذرة فيجازى المؤمنين بايمانهم والكافرين بكفرهم
فعلى العاقل ان لا يقطع رجاءه من الله تعالى وان كانت ذنوبه مثل زبد البحر فالله تعالى عند حسن الظن العبد به - روى - انه اذا كان يوم القيامة وسكن اهل الجنة الجنةواهل النار النار اذا بصوت حزين ينادى من دال النار يا حنان يا منان ياذا الجلال والاكرا فيقول الله تعالى يا جبريل اخرج هذا العبد الذى فى النار قال فيخرجه اسود كفرخ الحمام قد تناثر لحمه وذاب جسمه فينادى يا جبريل لا توقفنى بين يدى الله فافزع فيؤتى به الى الله فيقول له عبدى أتذكر ذنب كذا وكذا فى سنة كذا وكذا فيقول نعم يا رب فيقول الله اذهبوا بعبدى الى النار فيكون من العبد التفات فيقول الله ردوا عبدى الىّ فيرد اليه فيقول له عبدى ما كان التفاتك وهو اعلم فيقول يا رب اذنبت ولم اقطع رجائى منك وحاسبتنى ولم اقطع رجائى منك وادخلتنى النار ولم اقطع رجائى منك واخرجتن منها اليك ولم اقطع رجائى منك ثم رددتنى اليها ولم اقطع رجائى منك فيقول الله تبارك وتعالى وعزتى وجلالى وارتفاعى فى علو مكانى لأكونن عند ظن عبدى بى ولأحققن رجاءه فى اذهبوا بعبدى الى الجنة
خدايا بعزت كه خوارم مكن ... بذل بزه شر مسارم مكن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ليس على اهل لا اله الا الله وحشة عند الموت ولا فى قبورهم ولا فى منشرهم كأننى باهل لا اله الا الله ينفضون التراب عن رؤسهم وهم يقولون الحمد لله الذى اذهب عنا الحزن »(2/150)
فالواجب على من كان مؤمنا وليس من اهل البدع ان يحمد الله على ما هداه وجعله مسلما من الامة الشريفة . ولذا قيل من علامات سوء العاقبة ان لا يشكر العبد على ما هدى به من الايمان والتوحيد . واهل الغرور فى الدنيا مخدوع بهم فى الآخرة فليس لهم عناية رحمانية وانما يقبل رجاء العبد اذا قارنه العمل والكاملون بعد ان بالغوا فى تزكية النفس ما زالوا يخافون من سوء العاقبة ويرجون حمة الله فكيف بنا ونحن متورطون فى آبار الاوزار لا توبة لنا ولا استغفار غير العناد والاصرار
قال الامام الهمام محمد الغزالى رحمه الله فى منهاج العابدين مقدمات التوبة ثلاث . احدها ذكر غاية قبح الذنوب . والثانية ذكر غاية عقوبة الله تعالى واليم سخطه وغضبه الذى لا طاقة لك به . والثالثة ذكر ضعفك وقلة حيلتك فان من لا يحتمل حر الشمس ولطمة شرطى وقرص نملة كيف يحتمل حر نار جهنم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال خلقت من النار فى دار الغضب والبوار نعوذ بالله نم سخطه وعذابه
مرامى ببايد جو طفلان كريست ... زشرم كناهان زطفلانة زيست
نكو كفت لقمان كه نازيستن ... به ازسالها بر خطا زيستن
هم ازبامداد آن در كلبه بست ... به ازسود وسرمايه دادن زيستن(2/151)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
{ قل اللهم } اصله يا الله فالميم عوض عن حرف النداء النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسم الجليل وشددت لقيامها مقام حرفين . وقيل اصله يا الله امنا بخير اى اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته { مالك الملك } اى مالك جنس الملك على الاطلاق ملكا حقيقا بحيث يتصرف فيه كيف يشاء له ايجاد واعداما واحياء واماتة وتعذيبا واثابة من غير مشارك ول ممانع وهو نداء ثان عند سيبويه فان الميم عنده تمنع الوصفية لانه ليس فى الاسماء الموصوفة شىء على حد اللهم { تؤتى الملك } بيان لبعض وجوه التصرف الذى يستدعيه مالكية الملك وتحقيق لاختصاصها به تعالى وكون مالكية الغير بطريق المجاز كما ينبىء عنه ايثار الايتاء الذى هو مجرد الاعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة { من يشاء } ايتاءه اياه { وتنزع الملك ممن تشاء } نزعه منه فالملك الاول حقيقى عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبيتهما الى صاحبهما مجازية { وتعز من تشاء } ان تعزه فى الدنيا او فى الآخرة او فى فيهما بالنصر والوفيق { وتذل من تشاء } ان تذله فى احداهما او فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة { بيدك الخير } وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص اى بقدرتك الخير كله لا بقدرة احد من غيرك تتصرف فيه قبضا وبسطا حسبما تقتضيه مشيئتك وتخصيص الخير بالذكر لان الكلام انما وقع فى الخير الذى يسوقه الى المؤمنين وهو الذى انكرته الكفرة فقال بيدك الخير تؤتيه اولياءك على رغم من اعدائك ولان كل افعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كأيتاء الملك ونزعه او لمراعاة الادب فان فى الخطاب بان الشر منك وبيدك ترك ادب وام كان الكل من الله تعالى - روى - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الاحزاب وقطع لكل عشرة من اهل المدينة اربعين ذراعا وجميع من وافى الخندق من القبائل عششرة آلاف واخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالقيل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء عليه السلام واخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها وبرق منها برق اضاء ما بين لابتيها كانه مصباح فى جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال « اضاءت لى منها قصور الحيرة كانها انياب الكلاب » ثم ضرب الثانية فقال « اضاءت لى منها القصور الحمر فى ارض الروم » ثم ضرب الثالثة فقال « اضاءت لى قصورة صنعاء واخبرنى جبريل عليه السلام ان امتى ظاهرة على الامم كلها فابشروا » فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وانتم انما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون ان تبرزوا فنزلت { انك على كل شىء قدير } من الاعزاز والاذلال(2/152)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{ تولج } اى تدخل { الليل فى النهار } بنقص الاول وزيادة الثانى حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات { وتولج النهر فى الليل } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات { وتخرج الحى من الميت } اى تظهر الحيوان من النطفة او الطير من البيضة او العالم من الجاهل او المؤمن من الكافر او النبات من الارض اليابسة { وتخرج الميت من الحى } وهذا عكس الأول { وترزق من تشاء بغير حساب } قال ابو العباس المقرى ورد لفظ الحساب فى القرآن على ثلاثة اوجه بمعنى التعب قال تعالى { ترزق من تشاء بغير حساب } وبمعنى العدد قال تعالى { انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب } وبمعنى المطالبة { فامنن او امسك بغير حساب } والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل ترزق او من مفعوله وفيه دلالة على ان من قدر على امثال هاتيك الافاعيل العظام المحيرة للعقول فقدرته على ان ينزع الملك من العجم ويذل ويؤتيه العرب ويعزهم اهون من كل هين
عن على رضى الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين من آل عمران شهد الله انه لا اله الا هو الى قوله تعالى ان الدين عند الله الاسلام وقل اللهم الى قوله تعالى بغير حساب معلقات ما بينهن وبين الله حجاب قلن يارب أتهبطنا الى ارضك والى من يعصيك قال الله عز وجل انى حلفت انه لا يقرأهن احد دبر كل صلاة الا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه واسطنته فى حظيرة القدس ونظرت اليه بعينى كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة ادناها المغفرة واعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم » وفى بعض الكتب « انا الله ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدى فان العباد اطاعونى جعلتهم لهم رحمة وان العباد عصونى جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا الى اعطفهم عليكم » وهو معنى قوله عليه السلام « كما تكونون يولى عليكم » معناه ان كنتم من اهل الطاعة يول عليكم اهل الرحمة وان كنتم من اهل المعصية يول عليكم اهل العقوبة
وجاء فى الخبر ان موسى عليه السلام قال فى مناجاته [ يا رب انت فى السماء ونحن فى الارض فما علامة سخطك من رضاك فاوحى الله اليه اذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاى واذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطى عليهم ]
قال الحجاج بن يوسف حين قيل له لم لا تعدل مثل عمر رضى الله عنه وانت قد ادركت خلافته أفلم ترعد له وصلاحه فقال فى جوابهم تبذوروا أتعمر لكم اى كونوا كأبى ذر فى الزهد والتقوى اعاملكم معاملة عمر فى العدل والانصاف(2/153)
وفيه اشارة الى ان الولاة انما يكونون على حسل اعمال الرعايا واحوالهم صلاحا وفسادا فعلى كل واحد من المسلمين التضرع لله تعالى والانابة اليه بالتوبة والاستغفار عند فشّو الظلم وشمول الجور ويظهر جور الوالى وعد له فى الضرع والزع والاشجار والاثمار والمكاسل والحرف يعنى يقل لين الضرع وتنزلع بركة الزرع وتنقص ثمار الاشجار وتكسد معاملة التجار واهل الحرف فى الامصار التي نلك فيها ذلك الملك الجائر بشؤم ظلمه وسوء فعله ويكون الامر على العكس اذا عدل ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب اليه طاووس ان اردت ان يكون عملك خيرا كله فاستعمل اهل الخير فقال كفى بها موعظة
بندم اكر بشنوى اى بادشاه ... درهمه دفتر به ازين بند نيست
جز بخر دمند مفرما عمل ... كرجه عمل كارخردمند نسيت
قال النبى صلى الله عليه وسلم « سيأتى زمان لامتى يكون امراؤهم على الجور وعلماؤهم على الطمع وعبادهم على الرياء وتجارهم على اكل الربا ونساؤهم على زينة الدنيا »(2/154)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء } نهوا عن موالاتهم لقرابة او صداقة جاهلية او جوار ونحوها من اسباب المصادقة والمعاشرة حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم الا لله تعالى او عن الاستعانة بهم فى الغزو وسائر الامور الدينية { من دون المؤمنين } فى موضع الحال اى متجاوزين المؤمنين اليم استقلالا او اشتراكا . وفيه اشارة الى انهم الاحقاء بالمولاة وان فى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكافرين اى استغناء فلا تؤثروهم عليهم فى الولاية { ومن يفعل ذلك } اى اتخاذهم اولياء { فليس من الله } اى من ولايته تعالى { فى شيء } يصح ان يطلق عليه اسم الولاية يعنى انه منسلخ من ولاية الله راسا وهذا امر معقول فان موالالة الولى ومولاة عده متنافيان : قال
تود عدوى ثم تزعم اننى ... صديقك ليس النوك عنك بعازب
النوك الحمق . والعازب البعيد والمعنى الصديق هو من يودك ويبغض عدوك . والاداء ايضا ثلاثة عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك
بشوى اى خرمند ازان دوست دست ... كه بادشمنانت بود هم نشست
{ الا ان تتقوا } استثناء من اعم الاوال كأنه قيل لا تتخذوهم اولياء ظاهرا وباطنا فى حال من الاحوال الا حال اتقائكم { منهم } اى من جهتهم { تقاة } اى اتقاء بان تغلب الكفار او يكون المؤمن بينهم فان اظهار المولاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من شق العصا واظهار ما فى الضمير كما قال عيسى عليه السلام [ كن واسطا وامش جانبا ] اى كم فيما بينهم صورة وتجنب عنهم سيرة [ ولا تخالطهم مخالطة الاوداء ولا تتيسر بسيرتهم ] وهذا رصة فلو صبر حتى قتل كان اجره عظيما { ويحذركم الله نفسه } اى يخوفكم الله ذاته المقدسة كقوله تعالى ( فاتقون . واخشون ) اى من سخطى وعقوبتى فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة اعدائه وهذا وعيد شديد { والى الله المصير } اى الى جزاء الله مرجع الخلق فيجزى كلا بعمله(2/155)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{ قل ان تخفوا ما فى صدوركم } من الضمائر التى من جملتها ولاية الكفرة { او تبدوه } فيما بينكم { يعلمه الله } فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم اليه { ويعلم ما فى السموات وما فى الارض } لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سركم وعلنكم وهو من باب ايراد العام بعد الخاص تأكيد له وتقريرا { والله على كل شىء قدير } فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه عنه ان لم نتتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى { ويحذركم الله نفسه } لان نفسه وهى ذاته المتميزة من شائر الذوات متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون المعلوم فهى متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدرو دون مقدور فهى قاردة على المقدورات كلها فكان حقها ان تحذر وتتقى فلا يجسر احد على قبيح ولا يقصر عن واجب فان ذلك مطلع عليه لا محالة والاحق به العذاب ولو علم بعض عبيد السلطان انه اراد الاطلاع على احواله مما يورد ويصدر ونصب عليه عيونا وبث من يتجسس عن بواطن اموره لاخذ حذره وتيقظ فى امره واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به فما بال من علم ان الله الذي يعلم السر واخفى مهيمن عليه وهو آمن اللهم انا نعوذبك من اغترارنا بسترك كذا فى الكشاف
فالعاقل يخاف من الله ويكون حبه وبغضه لله يوالى المؤمنين ويعادى الكافرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اربعة منهم ورجل لا يرى الكسب ويأكل من كسب الناس »
كر آنها كه ميكفتمى كردمى ... نكو سيرت بارسا بودمى
والحب فى الله والبغض فى الله باب عظيم واصل من اصول الايمان وخلق سنى والمحبة الصادقة لا تكون الا عند المصافاة فى الباطن وهى مبنية على اتفاق العقيدة والوجهة لان القلوب تتناسب فتتصافى فان لم يكن بينهما التوافق المعنوى واتفق بين اربابها المصالحة والمؤانسة بحسب المماثلة النوعية والالفة النفسية والجنسية و الصورية اعدت الرذائل صاحب الفضائل باستغراق النفس فتشابه وتخالق كما قيل
عن المر لا تسال وابصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى
وقال على رضى الله عنه
فلا تصحب اخا الجهل ... واياك واياه
فكم من جاهل اردى ... حليما حين اخاه
يقاس المرء بالمرء ... اذا ما هو ما شاه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
واذا كان الرجل مبتلى بصحبة الفجار فى سفره للحج او للغزاء لا يترك الطاعة بصحبتهم ولكن يكره بقلبه ولا يرضى به فلعل الفاسق يتوب ببركة كراهة قلبه - حكى - ان حاتما وشقيقا خرجا فى سفر فصحبهما شيخ فاسق وكان يضرب بالمعزف فى الطريق وارادوا ان يتفرقوا قال لهما ذلك الشيخ الفاسق اعذرنا فانا هذا شقيق وانا حاتم فتاب الرجل وكسر ذلك المعزف وجعل يتلمذ عندهما ويخدمهما فقال شقسق لحاتم كيف رأيت صبر الرجال(2/156)
نه آنكه بر در دعوى نشيد از خلقى ... كه كر خلاف كنندش بجنك برخيزد
وكر زكوة فرو غلطد آسيا سنكى ... نه عارفست كه از راه سنك برخيزد
وينبغى ان يعلم ام المؤمن كما يلزم له ان يقطع الموالاة عن الكفار كذلك يقطع ذلك عن الاقرباء الفجار كما قيل
جون نبود خويش را ديانت وتقوى ... قطع رحم بعتر از مودت قربى
فان قلت هذا مخالف للقرآن فانه ناطق بصلة الارحام مطلقا قلت هو موافق كما قال تعالى { وان جاهدك على ان تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما } فمن تسبب لشقاوتك يجب تقاطعك عنه وان كان ذا قرابتك
هزار خويش كه بيكانه از خذا باشد ... فداى يك تن بيكانه كاشنا باشد
فعليك بقطع التعلق من الاغيار وبالاقتداء بهدى الانبياء الاخيار قال خليل الله عليه السلام فانهم عد لى الا رب العالمين . ومن موالاة الكفار المواكلة معهم بغير عذر اقتضاها . ومن القول الشنيع ان يقال لهم جلبى كما يقول لهم سفهاء زماننا فان معنى جلبى منسوب الى جلب وجلب اسم الله تعالى وهم تارى دون نورى فكيف يصح نسبتهم الى الله والعياذ بالله(2/157)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{ يوم } منصوب بتود { تجد كل نفس } اى من النفوس المكلفة { ما عملت من خير محضر } عندها بامر الله تعالى { وما عملت من سوء } عطف على ما عملت والاحضار معتبر فيه ايضا الا انه خص بالذكر فى الخير للاشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون احضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية { تود } اى تحب وتتمنى يوم تجج صحائف اعمالها من الخير والشر او اجزيتها محضرة { لو ان بيها وبينه } اى بين النفس وبين ذلك اليوم وهو له او بين العمل السوء { امدا بعيدا } اى مسافة واسعة كما بين المشرق والمغرب ولم تحضر ذلك اليوم او لم تعمل ذلك السوء قط { ويحذركم الله نفسه } اى يقول الله اياكم ونفسى يعنى احذورا من سخطى وهو تكرير لما سبق ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه { والله رؤف بالعباد } يعنى ان تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لانهم اذا عرفوه حق المعرفة وحذروه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لانهم اذا عرفوه حق المعرفة وحذروه دعاهم ذلك الى طلب رضاه واجتناب سخطه فيحذرهم تحذير الوالد المشفق ولده عما يوبقه
قال القشيرى رحمه الله هذا للمستأنفين وقوله { ويحذركم الله نفسه } للعارفين اولئك اصحاب التخفيف والتسهيل وهؤلاء اصحاب التخويف والتهويل ونظيره بشر المذنبين وانذر الصديقين فالله تعالى يمهل ولا يهمل فيجب ان لا يغتر العبد بامهاله بل يتأهب ليوم حسابه وجزائه
درخير بازاست وطاعت وليك ... نه هر كس تواناست برفعل نيك
واعلم ما يعمله الانسان اويقوله ينتفش فى صحائف النفوس السماوية واذا تكرر صار ملكة راسخة لكنه مشغول عن تلك الهيآت الثابتة فى نفسه ونقوشها بالشواغل الحسية والوهمية والفكرية فاذا فارقت النفس الجسد وقامت قيامتها وجدت ما عملت من خير وشر محضرا لارتفاع الشواغل المانعة كقوله تعالى { احصاه الله ونسوه } فان كان شرا تتمنى البعد فيما بينها وما بين ذلك اليوم او ذلك العمل لتعذبها به فتصير تلك الهيآت صورتها ان كانت راسخة والاصورة تعذبها وتعذبت بحسبها ومن الله العصمة : قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره
هر خيالى كو كمد در دل وطن ... روز محشر صورتى خواهد شدن
سيرتى كان در وجدت غالب است ... هم برآن تصوير حشرت واجب است
فعلى العاقل تن يزكى نفسه عن الاخلاق الذميمة ويطهر لبه كى يجدها عند ره يوم احتياجه ويفوز بالسعادة قال ريول الله صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة اجوع ما كانوا قط واظمأ ما كانوا قط واعرى من كانوا قط وانصب ما كانوا قط فمن اطعم الله اطعمه ومن سقى الله سقاه ومن كسا الله كساه ومن عمل لله كفاه »(2/158)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « يا حنان يا منان ياذا الجلال والاكرام باعد بينى وبين خطيئتى كما باعدت بين المشرق والمغرب ونقنى من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس واغسلنى بماء الثلج والبرد سبحان الله وبحمده استغفر الله العظيم واتوب اليه » ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على اصحابه حوله فقال « ايها الناس لا تعجبوا بانفسكم وبكثرة اعمالكم وبقلة ذنوبكم ولا تعجبوا بامرىء حتى تعلموا بم يختم له » قال عليه السلام « فانما الاعمال بخواتيمها ولوان احدكم جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيا لتمنى الزيادة لهول ما يقدم عليه يوم القيامة »(2/159)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
{ قل ان كنتم تحبوت الله فاتبعونى } اثبت فيه الياء لانه اصل ولم يثبت فى فاتقون واطيعون لانه ختم آية ينوى بها الوقف { يحببكم الله } نزلت حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن الاشرف ومن تابعة الى الايمان فقالوا { نحن ابناء الله واحباؤه } فقال تعالى لنبيه عليه السلام قل لهم انى رسول الله ادعوكم اليه فان كنتم تحبونه فاتبعونى على دينه وامتثلوا امرى يحببكم الله ويرض عنكم . والمحبة ميل النفس الى الشىء لكمال ادركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها اليه والعبد اذا علم ان الكمال الحقيقى ليس الا لله وان كل ما يراه كمالا من نفسه او غيره فهو من الله وبالله والى الله لم يكن حبه الا لله وفى الله وذلك يقتضى ارادة طاعته . والرغبة فيما يقربه اليه فلذلك فسرت المحبة بارادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فى طاعته على مطاوعته { ويغفر لكم ذنوبكم } اى يكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جنات عزه ويبوئكم فى جوار قدسه . عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة او المشاكلة { والله غفور رحيم } اى لمن كان يتحبب للنصارى ويتبع عيسى ابن مريم فنزل قوله تعالى { قل اطيعوا الله والرسول } اى فى جميع الاوامر والنواهى فيدخل فى ذلك الطاعة فى اتباعه صلى الله عليه وسلم دخولا اوليا { فان تولوا } اما من تمام مقول القول فهى صيغة المضارع المخاطب بحذف احدى التاءين اى تتولوا وتعرضوا واما كلام منفرع مسوق من جهته تعالى فهى صيغة الماضى الغائب وفى ترك ذكر احتمال الا طاعة كما فى قوله تعالى { فان اسلموا } تلويح الى لانه غير محتمل عنهم { فانه الله لا يحب الكافرين } نفى المحبة كناية عن بغضه تعالى لهم وسخطه عليهم اى لا يرضى عنهم ولا يثنى عليهم
ودلت الآية على شرف النبى عليه السلام فانه جعل متابعته حبيبه وقارم طاعته بطاعته فمن ادعى محبة الله وخالف سنة نبيه فهو كذاب بنص كتال الله تعالى كما قيل
تعصى الاله وانت تظهر حبه ... هذا محال فى الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لاطعته ... ان المحب لمن يحب مطيع
قال الامام القشيرى رحمه الله قطع الله اطماع الكل ان يسلم لاحدهم نفسه الا مقتداهم سيد الاولين والآخرين
وقال القاشانى محبة النبى عليه السلام انما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا وسيرة وعقيدة ولا تتمشى دعوى المحبة الا بهذا فانه قطب المحبة ومظهرها وطريقته صلى الله ع ليه وسلم المحبة فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب واذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسره وقلبه ونفسه باطن النبى وسره وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة فلزم بهذه المناسبة ان يكون لهذا التابع قسط من محبة الله بقدر نصيبه من المتابعة فليقى الله محبته عليه ويسرى من روح النبى نور تلك المحبة ايضا الى قلبه اسرع ما يكون اذلولا محبة الله لم يكن محباله ثم نزل عن هذا المقام لانه اعز من الكبريت الاحمر ودعاهم الى ما هو اعم من مقام المحب وهو مقام الارادة فقال { قل اطيعوا الله والرسول } اى ان لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا متابعة حبيبى فلا اقل من ان تكونوا مريدين مطيعين لما امرتم به فان المريد يلزمه طاعة المراد وامتثال امره { فان تولوا } اى ان اعرضوا عن ذلك ايضا فهم كفار محجوبون انتهى وروى البخارى وعن عبد الله بن هشام انه كانه مع النبى صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال عمر يا رسو ل الله انت احب الى من كل شىء الا نفسى فقال عليه السلام(2/160)
« والذى نفس محمد بيده لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من نفسه » فقال عمر فانه الآن والله انت احب الى من نفسى فقال عليه السلام « الآن يا عمر صار ايمانك كاملا » وقال صلى الله عليه وسلم « كل امتى يدخلون الجنة الا من ابى » قالو من يأبى قال « من اطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد ابى » وعن جابر بن عبد الله انه قال جاءت ملائكة الى النبى صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا ان لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن اجاب الداعى دخل الدار واكل من المأدبة ومن لم يجب الداعى لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا او لوها له يفقهها فقالوا الدار الجنة والداعى محمد فمن اطاع محمدا فقد اطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس فبمتابعة النبى صلى الله عليه وسلم تحصل الجنة والقربة والوصلة - روى ان محمود الغازى دخل على الشيخ الربانى ابى الحسن الخرقانى قدس سره لزيارته وجلس ساعة ثم قال يا شيخ ما تقول فى حق ابى يزيد البسطامى قدس سره فقال الشيخ هو رجل من اتبعه اهتدى واتصل بسعادة لا تخفى فقال محمود وكيف ذلك وابو جهل رأى رسول الله عليه السلام ولم يخلص من الشقاوة فقال الشيخ فى جوابه ان ابا جهل ما رأى رسول الله عليه السلام ولم يخلث من الشقاوة فقال اشيخ فى جوابه ان ابا جهل كا رأى رسول الله انما رى محمد بن عبد الله حتى لو كان رأى رسول الله عليه السلام لخرج من الشقاوة ودخل فى السعادة ثم قال ومصداق ذلك قول الله تعالى(2/161)
{ وتراهم ينظرون اليك وهو لا يبصرون } فالنظر بعين الرأس لا يوجب هذه السعادة بل النظر بعين السرو والقلب والمتابعة التامة تورث ذلك . وامته صلى الله عليه وسلم من اتبعه ولا يتبعه الا من اعرض عن الدنيا فاته عليه السلام ما دعا الا الى الله واليوم الآخر وما صرف الا عن الدنيا عدلت عن سبيله واعرضت عن متابعته ولحقت بالذين قال الله تعالى فيهم { فاما من طغى وآثر الحيوة الدنيا فان الجحيم هى المأوى } ولو خرجت عن مكمن الغرور وانصفت من نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت انك من حين تمسى الى حين تصبح لا تسعى الا فى الحظوظ العاجلة ولا تتحرك الا برجل الدنا الفانية ثم تطمع فى ان تكون غدا من امته واتباعه ويحك ما ابعد ظننا وما افحش طمعنا قال الله تعالى { أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون }(2/162)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{ ان الله اصطفى آدم } الاصطفاء اخذ ماصفا من الشىء كالاستصفا اى اختار آدم بالنفس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية المستتبعة للرسالة فى نفس المصطفى كما فى كافة الرسل عليهم السلام او فيمن يلابسه وينشأ منه كما فى مريم او اصطفاه بان خلقه بيده فى احسن تقويم وبتعليم الاسماء واسجاد الملائك اياه واسكانه الجنة { و } اصطفى { نوحا } بما ذكر من الوجه الاول او اصطفاه بكونه اول من نسخ الشرائع اذ لم يكن قبل ذلك تزويج المحارم حرما وباطلة عمرة وجعل ذريته هم الباقين استجابة دعوته فى حق الكرة والمؤمنين وحمله على متن الماء { و } اصطفى { آل ابراهين } وهو اسماعيل واسحق والانبياء من اولادهما الذين ن جملتهم النبى صلى الله عليه وسلم ويفهم من اصطفائهم اصطفاء ابراهيم بطريق الاولوية { و } اصطفى { آل عمران } وهو عيسى وامه مريم ابنه عمران بن ماتان بن العادر بن ابى هود بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن اوشا بن اوموذر ابن ميشك بن خارقا بن يومانام بن غرزيا بن يوازان بن ساقط بن ايشا بن راجقيم بن سليمان بن داود عليهما السلام بن ايشا بن عويل بن سلمون لن ياعر لن ممشون لن عمياد بن دام بن حضروم بن فارض بن يهودا بن يعقوب عليه السلام . وقيل آل عمران هو موسى وهارون عليهما السلام ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام وبين العمرانين الف واثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه السلام بالاندراج فى آل ابراهيم والاول هو الاظهر بدليل تعقيبه بقصة مريم واصطفاء موسى وهارون عليهما السلام بالانتظام فى سلك آل ابراهيم انتظاما ظاهرا { على العالمين } جمع عالم وهو اسم لنوع من المخلوقين فيه علامة يمتازبها عن خلافه من الانواع كالملك والجن والانس يقال عالم البر وعالم البحر وعالم الارض وعالم السماء والمراد بالعالمين اهل زمان كل واحد منهم اى اصطفى كل واحد منهم على عالمى زمانه(2/163)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ ذرية } نصب على البدلية من الآلين . والذر بفتح الذال البث والتفريق وسمى نسل الثقلين ذرية لا الله تعالى قد بثهم فى الارض او لان الله اخرج نسل آدم عليه السلام من صلبه كهيئة الذر وهو جمع ذرة وهى اصغر النمل والذرء ايضا الخلق والله تعالى خلقهم واظهرهم من العدم الى الوجود { بعضها من بعض } فى محل النصب على انه صفته لذرية يعنى ان الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض قان آل ابراهيم اعنى اسماعيل واسحق متشعبان من اببراهين المتشعب من نوح المتشعب من آدم واولادهما الى آخر انبياء بينى اسرائيل والى خاتم الانبياء والمرسلين صلوات الله عليهم اجمعين متشعبون منهما وآل عمران وهو موسى وهارون من ذرية ابراهيم نوح وآدم وكذا عيسى وامه مريم عليهما السلام { والله سميع } لاقوال العباد { عليم } باعمالهم البادية والخافية فيصطفى من يبينهم لخدمته من يظهر استقامته قولا وفعلا على نهج قوله تعالى { الله اعلم حيث يجعل رسالته } ودلت الآية على صحة انكحه الكفار حيث ثبت نسب بعضهم من بعض بها قال صلى الله عليه وسلم « ولدت من نكاح لا من سفاح »
واعلم ان الاصطفاء اعم من المحبة والخلة فيشمل الانبياء كلهم لانهم خيرة الله وصفوته وتفاضل فيه مراتبهم كمال قال تعالى { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } فاخص المراتب هو المحبة المشار اليها بقوله { ورفع بعضهم درجات } فلذلك كان افضلهم حبيب الله محمدا عليه السلام ثم الخلة التى هى صفة ابراهيم عليه السلام واعمها الصفاء الذى هو صفة آدم صفى الله عليه السلام { ذرية بعضها من بعض } فى الدين والحقيقة اذ الولاة قسمان صورية ومعنوية فكل نبى يتبع نبيا آخر ف التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من اصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ فى زماننا هذا وكما قيل الآباء ثلاثة اب ولدك واب رباك واب علمك وكما ان وجود البدن فى الولادة الصورية يتولد فى رحم امه من نطفة ابي فكذلك وجود القلب فى الولادة الحقيقية يزهر فى رحم استعداد النفس من نفخة الشيخ والمعلم والى هذه الولادة اشار عيسى عليه السلام بقوله [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] ثم اعلم ان الولادة المعنوية اكثرها تتبع الصورية فى التناسل ولذلك كان الانبياء فى الظاهر ايضا نسلا واحدا ثمرة شجرة واحدة وسببه ان الروح فى الصفاء والكدورة يناسب المزاج فى القرب من الاعتدال الحقيقى وعدمه وقت التكون فلكل روح مزاج يناسبه ويخصه اذ الفيض يضل بحسب المناسبة وتتفاوت الارواح فى الازل بحسب صفوتها ومراتبها فى القرب والبعد عن الحضرة الحدية فتتفاوت الامزجة بحسبها فى الابد لتتصل بها والابدان المتناسلة بعضها من بعض متشابهة فى الامزجة على الاكثر اللهم الا لامر عارضة اتفاقية فكذلك الارواح المتصلة بها متقاربة فى الرتبة متناسبة فى الصفة وهذامما يقوى ان المهدى يكون من نسل محمد عليه السلام .(2/164)
والاغذية مؤثرة فى البدن . فمن كان غذائه حلالا طبيا وهيأت نفسه فاضلة نورانية ونياته صادقة حقانية جاء لد مؤمنا صديقا او وليا او نبيا . ومن كان غذائه حراما وهيآت نفسه خبيثى ظلمانية ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقا او كافرا او زنديقا اذا لنطفة التى يكون الولد منها مولدة من ذلك الغذاء مرباة فى تلك النفس فيناسبها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الولد سر ابيه » وكان صدق مريم ونبوة عيسى ببركة صدق نيتها(2/165)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
{ اذ } منصوب باذكر { قالت امرأة عمران } وهو امرأة عمران بن ماثان ام مريم البتول جدة عيسى عليه السلام وهى حتة بنت فاقوذا
فان قلت كان لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم اكبر من موسى وهارون ولعمران بن ماثانن مريم البتول فما ادراك ان عمران هذا هة ابو مريم البتول دون عمران ابى مريم التى هى اخت موسى وهارون قلت
كفى لكفالة زكريا دليلا على انه عمران ابو البتول لا زكريا بن اذن وعمران بن ماثان كان فى عصر واحد وقد تزوج زكريا بنته اسيشاع اخت مريم فكان يحى وعيسى عليهما السلام ابنى خالة - روى - انها كانت عاقر لم تلد الى ان عجزت فبينا هى فى ظل جرة بصرت بطائر يطعم فرخالة فتحركن نفسها للولد ومنته فقالت اللهم ان لك علىّ نذرا شكرا ان رزقتنى ولدا ان اتصدق له على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمة فحملت بمريم وهلم عمران وهى حامل وذلك قوله تعالى { رب انى نذرت لك } ةالنذر ما يوجبه الانسان على نفسه { ما فى بطنى } عبر عن الولد بما لا بهام امره وقصوره عن درجة العقلاء { محررا } اى معتقا لخدمة بيت المقدس لا يدنى عليه ولا استخدمه ولا اشغله بشىء او خالصا لله ولعبادته لا يعمل عمل الدنيا ولا يتزوج فيتفرغ لعمل الآخرة وكان هذالنذر مشروعا عندهم لان الامر فى دينهم ان الولد اذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الابوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد ولم يكم احد من الانبياء الا ومن نسله محرر لبيت المقدس ولم يكن يحرر الا الغلمان ولا تصح له الجارية لما يصيبها من الحيض والاذى فتحاتج الى الخروج ولكن حررت حنة ما فى بطنها مطلقا اما لانها بنت الامر على تقدير الذكروة او النها جعلت ذلك النذر وسيلة الى طلب الولد الذكر { فتقبل منى } اى ما نذرته والتقبل . اخذ الشىء على وجه الرضى وهذا فى الحقيقة استدعاء للولد اذ لا يتصور القبول بدون المقبول بل للولد الذكر لعدم قبول الانثى { انك انت السميع } لجميع المسموعات التى من جملتها تضرعى ودعائى { العليم } لكل المعلونا التى من زمرتها ما فى ضميرى لا غير(2/166)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{ فلما وضعتها } اى ولدت النسمة وهى انثى { قالت } حنة وكانت ترجو ان تكون غلاما { رب انى } التأكيد للرد على اعتقادها الباطل { وضعتها انثى } تحسرا على ما رأته من خيبة رجائها وعكس تقديرها والضمير المتصل عائد الى النسمة وانثى حال منه { والله اعلم بما وضعت } تعظيم من جهته تعغلى لموضوعها فانها بما تحسرت وتحزنت على ان ولدت انثى قال الله تعالى انها لا تعلم قدر هذا الموهوب والله وهو العالم بالشىء الذى وضعته وما علق به من العجائب وعظائم الامور فانه تعالى سيجعله وولدة آية للعالمين وهى جاهل بذلك لا تعلم به فلذلك تحسرت وتحزنت { وليس الذكر كالانثى } مقول لله ايضا مبين لتعظيم موضوعها ورفع منزلته . واللام فيهما للعهد اى ليس الذكر الذى كانت تطلبه وتتخيل فيه كمالا قصاراه ان يكون كواحد من السدنة كالانثى التى وهبت لها فان دائرة عملها وامنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الامور فهى افضل من مطلوبها وهى لا تعلم وهاتان الجملتان من مقول الله تعالى اعتراضان بين قول ام مريم { انى وضعتها انثى } وقولها { وانى سميتها مريم } وفائدتهما التسلية لنفس حنة والتعظيم لوضعها { وانى سميتها مريم } من مقول حنة عطف غعلى قولها { انى وضعتها } اى انى جعلت اسمها مريم فى لغتهم بمعنى العابدة وخادم الرب واظهار انها غير راجعة فى نيتها وان كان ما وضعته انثى وانها ان لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكم من العابدات فيه وظاهر هذا الكلام يدل على ان عمران كان قد مات قبل وضع حنة مريم ولا لما تولت الام تسمية المولود لان العادة ان التسمية يتولاها الآباء { وانى اعيذها بك } اى اجيرها بحفظك { وذريتها } عطف على الضمير المنصوب اى اولادها { من الشيطان الرجيم } اى المطرود . واصل الرجم الرمى بالحجارة وعن النبى صلى الله عليه وسلم « ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسه الا مريم وابنها » ومعناه ان الشيطان يطمع فى اغواء كل مولود بحيث يتأثر منه الا مريم وابنها فان الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة(2/167)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{ فتقبلها } اى اخذ مريم ورضى بها فى النذر مكان الذكر { ربها } مالكها ومبلغها الى كمالها اللائق { بقبول حسن } بوجه حسن يقبل به النذائر وهو قبول تلك الانثى مع انوثتها وصغرها فان المعتاد فى تلك الشريعة ان لا يجوز التحرير الا فى حق غلام عاقل قادر على خدمة المسجد وهنا لما علم تعالى تضرع حنة قبل بنته حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد { وانبتها نباتا حسنا } مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها مما يصلح فى جميع احوالها ثم ان الله تعالى ذكر قبولها منها وذلك لضعفها وصدق نيتها فى الابتداء وحيائها فى النتهاء وكان فى ذلك الزمان اربعة آلاف محرر لم يشتهر خبر احد منهم اشتهار خبرها وفيه تنبيه للبعد على ان يرى من نفسه التقصير بعد جهدها ليقبل الله عملها لاظهار افلاسها واضمار اخلاصها رزقنا الله واياكم
طريقت همينست كاهل يقين ... نكو كار بودند وتقصير بين
واعلم انه سبحانه قطع السائرين له وهم المريدون والواصلين اليه وهم المرادون عن رؤية اعمالهم وشهود احوالهم . اما السائرون فلأنهم لم يتحققوا الصدق مع الله فيها فانقطعوا اليه برؤية تقصيرهم . واما الواصلون فلأنه غيبهم شهوده عنها لانه الفعال وهو آلة مسخرة
ولما دخل الواسطى نيسابور سأل اصحاب الشيخ ابى عثمان المغربى بم يأمركم شيخكم قالوا كان يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير فيها فقال امركم بالمجوسية المحضة هلا آمركم بالغيبة عنها بشهود منشئها ومجريها
قال القشيرى وانما اراد الواسطى صيانتهم عن محل الاعجاب لا تعريجا فى اوطان التقصير او تجويزا للاخلال بادب من الآداب
قال النهر جورى من علامة من تولاه الله فى اعماله ان يشهد التقصير فى اخلاصه والغفلة فى اذكراه والنقصان فى صدته والفتور فى مجاهدته وقلة المراعاة فى فقره فتكون جميع احواله عنده غير مرضية ويزداد فقرا الى الله فى فقرة وسيره حتى يفنى عن كل ما دونه
قال الشيخ ابو العباس رضى الله عنه فى اشارة قوله تعالى { يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل } يولج المعصية فى الطاعة ويولج الطاعة فى المعصية يطيع العبد الطاعة فيعجب بها ويعتمد عليها ويستصغر من لم يفعلها ويطلب من الله العوض عليها فهذه حسنة احاطت بها سيئات ويذنب الذنب فيلجأ الى الله فيه ويستصغر نفسه ويستعظم من لم يفعله فهذه سيئة احاطت بها سيئات فايتهما الطاعة وايتهما المعصية فعى السالك ان يجتهد فى الطاعات ولا يغتر بالعبادات لعله يصل الى غاية فى روضات الجنات
جه زرها بخاك سيه در كنند ... كه باشد كه رزوى مسى زركنند
يعنى ان المشتغلين بتحصيل صنعة الكيمياء يجعلون دنانير كثيرة تحت التراب اى يبذلونها لتحصيلها ويفرقونها فى اسبابها كى يصير النحاس فى ايديهم ذهبا بحتا ويتشرفوا بوصولها(2/168)
زر ازبهر جيرى خريدن نكوست ... جه خواهى خريدن به ازوضل دوست
فالسعى فى الاعمال انما هو لطلب رضى الله ووصول جنابه وهو الذى يبذل فى طريقه المال والروح لينفتح باب الفتوح
قال الشيخ الشاذلى قدس سره فى لطائف المنن واعملوا ان الله اوع انوار الملكوت فى اصناف الطاعات فأى من فاته من الطاعات صنف او اغوزه من الموافقات جنس فقد فقد من النور بمقدار ذلك ولا تهملوا شيأ عن الطاعات ولا تستغنوا عن الاوراد بالواردات ولا ترضوا لانفسكم بما رضى به المردعون بحر الحقائق على ألسنتهم وخلوا انوارها من قلوبهم انتهى
فينبغى للعبد ان يواظب على اصناف الطاعات وينساها بعدما عملها كيلا يبطلها العجب لانه يقال حفظ الطاعة اشد من فعلها لان مثلها كمثل الزجاج يسرع اليه الكسر ولا يقبل الجبر وكذا الخيرات اذا ازيلت بالمخالفات { وكفلها زكريا } الفعل لله تعالى بمعنى وضمنها الله الى زكريا وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها قائما بتدابير امورها والكافل هو الذى ينفق على انسان ويهتم باصلاح مصالحة وفى الحديث « انا وكافل اليتيم كهاتين » وهو زكريا بن اذن بن مسلم بن صدون من اولاد سليمان عليه السلام ابن داود عليه السلام - روى - ان حنة حين ولدت مريم لفتها فى خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الاحبار ابناء هارون وهم فى بيت المقدس كالحجبة فى الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة اى خذوها فتنافسوا فيها لانها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فان بنى كاثان كانت رؤس بنى اسرائيل وملوكهم فقال لهم زكريا انا احق بها عندى خالتها فقالوا لا حتى نقرع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين الى نهر قيل هو نهر الاردن فالقوا فيه اقلامهم التى كانوا يكتبون بها الوحى على ان كل من ارتفع قلمه فهو الراجح فالقوا ثلاث مرات ففى كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت اقلامهم فتكفلها
قال الشيخ فى تفسيره وهو معنى قوله { فتقبلها ربها } الآية { كلما } اى كل وقت { دخل عليها } على مريم { زكريا } فاعلى دخل { المحراب } اى فى المحراب قيل بنى لها محرابا فى المسجد اى غرفة تصعد اليها بسلم او المحراب اشرف المجالس ومقدمها كانها وضعت فى اشراف موضع من بيت المقدس او كانت مساجدهم تسمى المحاريب - روى انها لا يدخل عليها الا هو وحده فاذا خرج غلق عليها سبعة ابواب فكلما دخل { وجد عندها رزقا } اى نوعا منه غير معتاد اذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها فى الصيف فاكهة الشتاء وفى الشتاء فاكهة الصيف ولم ترضع ثديا قط { قال } كأنه قيل فكاذا قال زكريا عليه السلام عند مشاهدة هذه الآية فقيل قال { يا مريم أنى لك هذا } اى من اين يجيء لك هذا الذى لا يشبه ارزاق الدنيا وهو آت فى غير حينه والابواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به اليك { قالت } مريم وهى صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب قيل تكلمت وهى صغيرة كما تكلم عليسى وهو فى المهد { هو من عند الله } فلا تعجب ولا تستبعد { ان الله يرزق من يشاء } ان يرزقه { بغير حساب } اى بغير تقدير لكثرته او بلا محاسبة او من حيث لا يحتسب وهو تعليل لكونه من عند الله اما من تمام كلامها فيكون فى محل النصب وما من كلامه عز وجل وفهو مستأنف(2/169)
وفى الآية دليل على جواز الكرامة للاولياء ومن انكرها جعل هذا ارهاصا وتأسيسا لرسالة عليه السلام
عن النبى صلى الله عليه وسلم انه جاع فى زمن قحط فاهدت له فاطمة رضى الله عنها رغيفين وبضعة لحم اثرته بها فرجع بها اليها وقال « هلمى يا بنية » فكشفت عن الطبق فاذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت انها نزلت من عند الله فقال لها صلى الله عليه وسلم « أنى لك هذا » فقالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال صلى الله عليه وسلم « الحمد لله الذى جعلك شبهة بسيدة بنى اسرائيل » ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والحسنين رضى الله عنهم وجمع اهل بيته عليه فاكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو فاوسعت فاطمة رضى الله عنها على جيرانها
وقد ظهر على السلف رضى الله عنهم من الصحابة والتابعين ثم على من بعدهم من الكرامات
قال سهل بن عبد الله رضى الله عنه اكبر الكرامات ان تبدل خلقا مذموما من اخلاقك
قال الشيخ ابو العباس رضى الله رحمه الله ليس من الشأن من تطوى له الارض فاذا هو بمكة وغيرها من البلدان انما الشأن من تطوى عنه اوصاف نفسه
وقيل لابى يزيد ان فلانا يمشى على الماء قال قال الحوت اعجب منه اذ هو شأنه فقيل له ان فلانا يمشى فى الهواء قال الطير اعجب ن ذلك اذ هو حاله تطوى له الارض كلها فى لحظة وهو فى لعنه الله فالطى الحقيقة ان تطوى مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة اقرب اليك منك لان الارض تطوى لك فاذا انت حيث شئت من البلاد لان هذا ربما جر الى الاغترار وذلك يؤدى للتلعق بالواحد القهار - وحكى - عن ابى عنوان الواسطى قال انكسرت السفينة وبقيت انا وامرأتى اياما على لوح وقد ولدت فى تلك الحالة صبية فصحات بى فقالت يقتلنى العطش فرفعت رأسى فاذا رجل فى الهواء جالس وفى يده سلسة من ذهب وفيها كوز من ياقوت احمر وقال هاك اشربا قال فاخذت الكوز وشربنا منه فاذا هو اطيل من المسك واحلى من العسل فقلت من انت يرحمك الله قال انا عبد لمولاك فقلت بم وصلت الى هذا فقال تركت هواى لمرضاته فاجلسنى فى الهواء ثم غاب عنى فلم اره وحج سفيان الثورى مع شيبان الراعى رضى الله عنهما فعرض لهما سبع فقال سفيان لشيان اما ترى هذا السبع فقال لا تخف واخذ شيبان ادنيه فعركهما فتبصبص وحرك ذنبه فقال سفيان ما هذه الشهرة فال لولا مخافة الشهرة لما وضعت زادى الاعلى ظهرى حتى آتى مكة(2/170)
توهم كردن از حكم داور مبيج ... كه كردن نه بيددزحكم توهيج
محالست جون دوست داردترا ... كه دردست دشمن كذارد ترا(2/171)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{ هنالك } اى حيث كان قاعدا عند مريم فى المحراب ولما رأى زكريا عليه السلام حال مريم فى كرامتها على الله ومنزلتها رغب فى ان يكون له من ايشاع ولد مثل ولد اختها حنة فى النجابة والكرامة على الله وان كانت عاقرا عجوزا فقد كانت اختها كذلك { دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك } اى اعطنى من محض قدرتك من غير وسط معتاد { ذرية طيبة } اى ولدا صالحا باركا تقيا رضيا مرضيا . والذرية النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والانثى والمراد ههنا ولد واحد . والطيب هو الذى تستطاب افعاله واخلاقه فلا يكون فيه امر سيتخبث ويعاب { انك سميع الدعاء } اى مجيبه كما فى قولهم سمع الله لمن حمده وهذا لان من لن يجب فكأنه لم يسمع
فان قيل ان زكريا كان عاملا ان فى قدرة الله ذلك قبل رؤية حال مريم فهلا سأل قبل ذلك
قلنا قد يزداد الانسان رغبة فى الشىء اذا عاينه وان كان عالما به قبله(2/172)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{ فنادته الملائكة } اى جبرائيل وحكم الواحد من الجنس قد ينسب الى الجنس نفسه نحو فلان يركب الخيل وانما يركب واحدا من افرادها ولما كان جبرائيل رئيسهم عبر عنه باسم الجماعة تعظيما له { وهو } حال من مفعول النداء اى والحال ان زكريا عليه السلام { قائم يصلى فى المحراب } اى فى المسجد او فى غرفة مريم { ان الله } مفعول ثان لنادته اى بان الله تعالى { يبشرك بيحيى } اى بولد اسمه يحى لانه حى به رحم امه ولانه تحى به المجالس من وعظة والتقدير بولادة ولد اسمه يحى فان التبشير لا يتعلق بالعايان { مصدقا بكلمة من الله } اى بعيسى عليه السلام . وانما سمى كلمة لانه وجد بكلمة كن من غير اب فشابه البديعيات التى هى عالن الامر وهو اول من آمن بعيسى وصدق بانه كلمة من الله وروح منه ويسمى روحا ايضا لانه تعالى احيى به من الضلالة كما يحيى الانسان بالروح
قال السدى لقيت ام يحيى ام عيسى فقالت يا مريم اشعرت بحبلى فقالت مريم وانا ايضا حبلى قالت فانى وجدت ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك فذلك قوله تعالى { مصدقا } الخ وكان يحيى اكبر من عيسى بستة اشهر ثم قتل يحيى قبل ان رفع عيسى الى السماء { وسيدا } عطف على مصدقا اى رئيسا يسود قومه ويفوقهم فى الشرف وكان فائقا للناس قاطبة فانه لم يلم بخطيئة ولم يهم بمعصية فيالها ما اسناها { وحصورا } اى مبالغا فى حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة - روى - انه مر فى صباه بصبيان فدعوه الى اللعب فقال ما للعب خلقت . والحصور الممتنع من النساء مع القدرة عليهن وقد تزوج مع ذلك ليكون اغض لبصره { ونبيا } اى يوحى اليع اذا بلغ هو مبلغه { من الصالحين } اى ناشءا منهم لانه كان ن اصلاب الانبياء عليهم السلام . والصلاح صفة تنتظم الخير كله والمراد به هنا ما فوق لصلاح الذى لابد منه فى منصب النبوة البتة من اقاصى مراتبه(2/173)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{ قال } عند نداء الملائكة ايها وبشارتهم له بالولد بالاستفهام متعجبا من حيث العادة ومسرورا بالولد { رب أنى يكون لى } اى كيف يحص لى { غلام } وفيه دلالة على انه خبر غلاما عند التبشير { وقد بلغنى الكبر } اى ادركنى كبر السن واثر فىّ
وفيه دلالة على ان كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للانسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعوم { وامرأتى عاقر } اى ذات عقر وعقيلم لا تلد { قال } اى الله { كذلك } اشارة الى مصدر يفعل فى قوله تعالى { الله يفعل ما يشاء } اى ما يشاء ان يفعله من تعاجيب الافاعيل الخارقة للعادات . فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف فى محل النصب على انها فى الاصل نعت لمصدر محذوف اى الله يفعل ما يشاء ان يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر(2/174)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{ قال رب اجعل لى آية } اى علامة تدل اى تحقق المسئول او وقوع الحبل وانما سألها لان العلوق امر خفى لا يوقف عليه فاراد ان يطلعه الله عليه ليلتقى تلك النعمة الجليلة منه حين حصولها بالشكر ولا يؤخره الى ان يظهر ظهورا معتاد { قال آيتك } اى علامة حدوث الولد { ان لا تكلم الناس } اى ان لا تقدر على تكليمهم { ثلاثة ايام } اى متوالية مع ليالها فان ذكر الليالى او الايام يقتضى دخول الاخرى فيها لغة وعرفا وانما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله وشكره قضاء لحق النعمة { الا رمزا } اى اشارة يبد او راس او نحوهما وسمى الرمز كلاما لانه يؤدى ما يؤدى الكلام ويفهم منه ما يفهم من الكلام فلهذا جاز الاستثناء المتصل منه ثم امره تعالى بذكره لعدم منعه عن ذكر الله فقال { واذكر ربك } اى فى ايام الحبسة شكرا لحصول التفضل والانعام { كثيرا } اى ذكر كثيرا { وسبح بالعشى } اى سبحه تعالى اى من الزوال الى الغروب { والابكار } من طلوع الفجر الى الضحى قال الامام فى قوله تعالى { واذكر ربك كثيرا } فيه قولان . احدهما انه تعالى امر بحبس لسانه عن امرو الدنيا الا رمزا فاما فى الذكر والتسبيح فقد كان لسانه جيدا وكان ذلك من المعجزات الباهرة . والقول الثانى ان المراد منه الذكر بالقلب وذلك لان المستغرقين فى بحار معرفة الله تعالى عادتهم فى اول الامر ان يواظبوا على الذكر اللسانى مدة فاذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكتوا باللسان وبقى الذكر بالقلب ولذلك قالوا من عرف الله كل لسانه فكان زكريا عليه السلام امر بالسكون باللسان والاستحضار معا فى الذكر والمعرفة واستدامتهما انتهى
واعلم ان الذكر على مراتب والذكر اللسانى بالنسبة الى الذكر القلبى تنزل - روى - ان عيسى عليه السلام حين ترقى الى اعلى مراتب الذكر جاءه ابليس فقال يا عيسى اذكر الله فتعجب عيسى من امره بالذكر مع ان جبلته على المنع منه ثم ظهر انه اراد ان يغويه وينزله من مرتبة الذكرالقلبى الى مرتبة الذكر اللسانى وذلك كان تنزلا بالنسبة الى مقامه عليه السلام
فعلى العاقل ان يداوم على الاذكار آناء الليل واطراف النهار فان الذكر يدفع هو النفس فاذا طرد ذلك من الباطن فلا سبيل للشيطان ايضا فى الظاهر فتعلق ابواب المنهيات بالكليات ويتصفى القلب ويتكدر
بيا بى بيفشان ازآيينه كرد ... كه صقيل نكيرد جو زنكار خورد
قال القشيرى فذكر اللسان به يصل العبد الى استدامة ذر القلب والتأثير للذكر فاذا كان العبد ذاكرا بلسانه وقلبه فهو الكامل فى وصفه فى حال سلوكه
قال سهل بن عبد الله رضى الله عنه ما من يوم الا والجليل سبحانه ينادى عبدى ما انصفتنى اذكرك وتنسانى وادعوك الىّ وتذهب الى غيرى واذهب عنك البلايا وانت معتكف على الخطايا يا ابن آدم ما تقول غدا اذا جئتنى(2/175)
وقال الحسين افتقدوا الحلاوى فى ثلاثة اشياء فى الصلاة والذكر والقراءة قان وجدتم ولا فاعملوا ان الباب مغلق
قيل اذا تمكن الذكر من القلب فان دنا منه الشيطان صرخ كما يصرخ الانسان اذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقول قد مسه الانس قال بعضهم وصف لى ذاكرا فى اجمة فأتيته فبينما هو جالس اذا سبع عظيم ضربه ضربة واستلب منه قطعة فغشى عليه وعلىّ فلما افقت قلت ما هذا فقال قيض الله هذا السبع لى فكلما داخلتنى فترة غضنى كما رايت اوصلنا الله واياكم الى مرتبة اليقين وشرفنا بمقام التمكين واذاقنا حلاوة الذكر فى كل حين وادخلنا الجنة المعنوية مع عباده الصالحين اجمعين(2/176)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{ واذ قالت الملائكة } اى اذكر وقت قول الملائكة وهو جبريل بدلالة قوله تعالى فى سورة مريم { فارسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } اى سوى الخلق لتستأنس به وانما جمع تعظيما له لانه كان رئيس الملائكة { يا مريم } وكلام جبريل معها لم يكن وحيا اليها فان الله يقول { وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحى اليهم } ولا نبوة فى النساء بالجماع . فكلمهما شفاها كرامة لها وكرامات الاولياء حق او اوهاصا لنبوة عيسى عليه السلام وهو من الرهص بالكسر وهو الصف الاسفل من الجدار وفى الاصطلاح ان يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم الحجر والكدر والرمى بالشهب وقصة الفيل وغير ذلك { ان الله اصطفيك } اولا حيث تقبلك من امك بقبلو حسن ولم يتقبل غيرك انى ورباك فى حجر زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية { وطهرك } من الكفر والمعصية ومن الافعال الذميمة والعادات القبيحة ومن مسيس الرجال ومن الحيض والنفاس قالوا كانت مريم لا تحيض ومن تهمة اليهود وكذبهم بانطاق الطفل { واصطفيك } آخر { على نساء العالمين } بان وهب لك عيسى عليه السلام من غير اب ولم يكن ذلك لاحد من النساء وجعلكما آية للعالمين(2/177)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ يا مريم اقنتى لربك } اى قونى فى الصلاة واطبلى القيام فيها له تعالى { واسجدى واركعى مع الراكعين } امرت بالصلاة بالجماعة بذكر اركانها القنوت وهو طول القيام والسجود والركوع مبالغة فى ايجاب رعايتها وايذانا بفضيلة كل منها واصالته . وتقدبم السجود على الركوع اما لكون الترتيب فى شريعتهم كذلك واما لكون السجود افضل اركان الصلاة واقصى مراتب الخضوع ولا يقتضى ذلك كون الترتيب الخارجى كذلك بل اللائق به الترقى من الادنى الى الاعلى واما ليقترن اركعى بالراكعين للاشعار بان من لا ركوع فى صلاتهم ليسوا مصلين قيل لما امرت بذلك قامت فى الصلاة حتى تورم قدماها وسالت دما وقيحا(2/178)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ ذلك } اى ما ذكرنا فى القصص من حديث حنة ومريم وعيسى وزكريا ويحيى { من انباء الغيب } اى من اخبار الغيب التى لا يوقف عليها الا بمشاهدة او قراءة كتاب او تعلم من عالم او بوحى من عند الله تعالى وانعدمت الثلاثة الاول فتعينت الرابعة وهو الوحى { نوحيه اليك } اى ننزله عليك دلالة على صحة نبوتك والزاما على من يحاجونك من الكفار . والوحى فى القرآن لمعان للارسال الى الانبياء قال تعالى { نوحى اليهم } وللالهام قال تعالى { واوحينا الى ام موسى } ولالقاء المعنى المراد قال تعالى { بان ربك اوحى لها } وللاشارة قال تعالى { فاوحى اليهم ان يسبحوه بكرة وعشيا } واصل ذلك كله الاعلام فى خفاء { وما كنت لديهم } اى عند الذين اختلفوا وتنازعوا فى تربية مريم وهو تقرير لكونه وحيا على طريقة التهكم بمنكريه اى انهم عالمون لا يشكون انك لم تقرأ كتابا ولم تصحب من علم تلك الانباء حتى تسمع منهم فلم يبق الا المشاهدة وهى منتفية بالضرورة فكأنهم ادعوا هذا المحال لكونه يلزم منانكارهم الوحى اى ان لم يكن بالوحى كما زعموا فلا بد من دعوى المشاهدة ولم تمكن قال ابن الشيخ فى حواشيه كأنه قيل ايها المنكرون لان اوحى اليه والمتهمون فى دعوى نبوته ليس لكم فى سبب الاتهام سوى احتمال المشاهدة والعيان وانه غاية السفاهة ونهاية الخذلان ومن اضل ممن عدل عن الاحتمال ادعى الى الضحك والاستهزاء والسخرية من حال هؤلاء انتهى { اذ يلقون اقلامهم } التى كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركا بها { ايهم يكفل مريم } متعلق بمحذوف دل عليه يلقون اقلامهم اى يلقونها ينظرون او ليعلموا ايهم يكفلها { وما كنت لديهم اذ يختصمون } اى فى شأنها تنافسا فى كفالتها وقد ذكر فيما سبق
فى الآية دلالة على فضيلة مريم حيث اصطفاها الله على نساء العالمين فان جميع ما ذكر من التربية الجسمانية الائقة بحال صغرها والتربية الروحانية المتعلقة بحال كبرها لم يتفق لغيرها من الاناث
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة قم آسية »
وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون » وهو يدل على ان هؤلاء الاربع افضل من سائر النساء
واعلم ان اهل الكمال من الرجال كثير ولم يكمل نم النساء غير هذه الاربع ومعنى الكمال التناهى فى الفضائل والبر والتقوى وحسن الخصائل والكمال فى شىء ما يكون حصوله للكامل اولى من غيره والنبوة ليست اولى للنساء لان مبناها على الظهور والدعوة وحالهن الاستتار ولا تكون النبوة فى حقهن كمالا بل الكمال فى حقهن الصديقية وهى قريب من النبوة والصديق من صدق فى جميع اقواله وافعاله واحواله فمن النساء كاملات عارفات واصلات الى مقام الرجال فهن رجال فى المعنى(2/179)
وسئل بعضهم عن الابدال فقال اربعون نفسا فقيل له لم لا تقول اربعون رجلا فقال لان فيهم نساء : قال بعضهم
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
ويناسب هذا ما حكى ان ام محمد والدة الشيخ ابى عبد الله بن اخفيف رحمهما الله تعالى كانت من العادات القانتات وكان ابنها ابو عبد الله يحيى العشر الاخيرة من رمضان ليدرك ليلة القدر ومن دابه الملازمة الى الصلاة فوق البيت وكانت والدته متوجهة الى الله فى البيت فليلة ان اخذت تظهر انواو ليلة القدر نادت ابنها ان يا محمد ان الذى تطلبه هو عندنا فتعال نزل الشيخ فرأى الانوار فخر الى قدم امه وكان يقول علمت قدر والدتى منذ شاهدت فهذه هى حال والدته فانظر كيف ارشدت ابنها وكيف تفوقت عليه فى الفضل والشرف مع كثرة رياضته واجتهاده ايضا فظهر ان من النساء من هى افضل من الرجال وذلك بالوصول الى جناب القدس وليس ذلك الا بحسن الاستعداد والهداية الخاصة من الله تعالى اسعدنا الله واياكم ونعو بالله من نساء زماننا حيث لا يرى فيهن من هى من اهل التقوى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « صنفان من اهل النار لم ارهما » يعنى فى عصره عليه السلام لطهارة ذلك العصر بل حدثا بعده « قوم معهم سياط » يعنى احدهم قوم فى ايديهم سياط جمع سوط « كأذناب البقر يضربون بها الناس » وهم الذين يضربون بها السارقين عراة او الطوافون على ابواب الظلمة كالكلاب يطردون الناس عنها بالضروب والسباب « ونساء » يعنى ثانيهما نساء « كاسيات » فى الحقيقة « عاريات » فى المعنى من لباس التقوى « مميلات » اى قلوب الرجال الى الفساد « مائلات » اى الى الرجال « رؤسهن كأسنمة البخت » يعنى يعظمن رؤسهن بالخمر والقلنسوة حتى تشبه اسنمة البخت « المائلة » من الميل لان اعلى السنام يميل لكثرة شحمه « لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » اى يوجد من مسيرة اربعين عاما(2/180)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{ اذ قالت الملائكة } بدل من واذ قالت الملائكة منصوب بناصبه والمراد بالملائكة جبريل وجمع نعظيما له وقد مر { يا مريم ان الله يبشرك } اى يفرحك { بكلمة } كائنة { منه } عز وجل واطلق على عليسى لفظ الكلمة بطريق اطلاق السبب على المسبب لان ظهوره وحدوثه هو الكلمة الصادرة منه تعالى وهى كن وحدوث كل مخلوق وان كان بسبب هذه الكلمة لكن السبب المتعارف للحدوث لما كان مفقودا فى حق عيسى عليه السلام كان اسناد حدوثه الى الكلمة اتم واكمل فجعل عليه السلام بهذا الاعتبار كأنه نفس الكلمو { اسمه } اى اسم المسمى بالكملة عبارة عن مذكر { المسيح } لقب من الالقاب المشرف والفاروق واصله مشيحا بالعبرانية واصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك { عيسى } بدل من المسيح معرب من ايشوع { ابن مريم } صفة لعيسى وتوجه الخطاب الى مريم يقتضى ان يقال عيسى ابنك الا انه قيل عيسى ابن مريم تنبيها على ان الابناء ينسبون الى الآباء الى الامهات فاعلمت بنسبته اليها انه يولد من غير اب فلا ينسب الا الى امه وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين
فان قلت لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة اشياء الاسم منها عيسى واما المسيح والابن فلقب وصفة قلت الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره فكانه قيل الذى يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة
وفى التيسر اللقب اذا عرف صار كالاسم { وجيها } حال من الكلمة وصح انتصاب الحال منالنكرة لكونها موصوفة والوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف { فى الدنيا } بالنبوة والتقدم على الناس { والآخرة } بالشفاعة وعلو الدرجة فى الجنة { ومن المقربين } اى عند ربه بارتفاعه الى السماء وصحبة الملائكة فيها(2/181)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{ ويكلم الناس فى المهد وكهلا } اى يكلمهم حال كونه طفل وكهلا كلام الانبياء عليهم السلام من غير تفاوت يعنى ان تكمله فى حال الطفولية والكهولة على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت بان يكون كلامه فى حال الطفولية مثل كلام الانبياء والحكماء لا شك انه من اعظم المعجزات * قال مجاهد قالت مريم اذا خلوت انا وعيسى حدثنى وحدثته فاذ شغلنى عنه انسان يسبح فى بطنى وانا اسمع وتكلمه معهم دليل على حدوثه لحدوث الاصوات والحروف - روى - انه لما بلغ عمره ثلاثين سنة ارسله الله الى بنى اسرائيل فمكث فى رسالته ثلاثين شهرا ثم رفع الى السماء او جاءه الوحى على راس ثلاثين سنة فمكث فى نبوته ثلاث سنين واشهرا ثم رفع
والكهل من تجاوز الثلاثين الى الاربعين وقارب الشيب من اكتهل النبت قارب اليبس فعلى هذا صح ان يقال انه بلغ سن الكهولة وكلم الناس فيه ثم رفع واما على قول ما يقول ان اول سن الكهولة اربعون سنة فلا بد ان يقال انه رفع شابا ولا يكلم الناس كهلا الا بعد ان ينزل من الشماء فى آخر الزمان فانه حينئذ يكلم الناس ويقتل الدجال { ومن الصالحين } هذه الاربعة احوال مقدرة من كلمة والمعنى يبشرك به موصوفا بهذه الصفات وذكر قوله ومن الصالحين بعدد ذكر الاوصاف المتقدمة دليل على انه لا رتبة اعظم من كون المرء صالحا لانه لا يكون المرء كذلك الا بان يكون فى جميع الافعال والتروك مواظبا على النهج الاصلح والطريق الاكمل ومعلوم ان ذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا فى افعال القلوب وفى افعال الجوارح(2/182)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
{ قالت } مريم متضرعة الى ربها { رب أنى يكون } اى كيف يكون اومن أين يكون { لى ولد } على وجه الاستبعاد العادى والتعجب مناستعظام قدرة اله فان البشرية تقتضى التعجب مما وقع على خلاف العادة اذ لم تجر عادة بان يولد ولد بلا اب { ولم يمسسنى بشر } آدمى وسمى بشرا لظهوره وهو كناية عن الجماع اى والحال انى على حالة منافية لولد { قال } اى الله عز وجل او جبريل عليه السلام { كذلك } اشارة الى مصدر يخلق فى قوله عز وجل { الله يخلق ما يشاء } ان يخلقه اى الله يخلق ما يشاء ان يخلقه خلقا مثل ذلك الخلق العجيب والاحداث البديع الذى هو خلق الولد من غير اب فالكاف فى محل النصب على انها فى الاصل نعت لمصدر محذوف { اذا قضى امرا } اى اراد شيأ واصل القضاء الاحكام اطلق على الارادة الالهية القطعية المتعلقة بوجود الشىء لايجابه اياه البتة { فانما يقول له كن فيكون } من غير ريث وهو تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتى المقدورات حسبما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما علم فيها من اطاعة المأمور المطيع للآمر القوى المطاع وبيان لانه تعالى كما يقدر على خلق الاشياء مدرجا باسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة الى شىء من الاسباب والمواد
قال ابن عباس رضى الله عنهما ان مريم رضى الله عنها كانت فى غرفة قد ضربت دونها سترا اذا هى برجل عليه ثياب بيض وهو جبريل تمثل لها بشرا سويا اى تام الخلق فلما رأته قالت اعوذ الرحمن منك ان كانت تقيا ثم نفخ فى جيب درعها حتى وصلت النفخة الى الرحم فاشتملت
قال وهب وكان معها ذو قرابة يقال له يوسف النجار وكان يوسف هذا يستعظم ذلك فاذا اراد ان يتهمها ذكر صلاحها واذا اراد ان يبئها رأى ما ظهر عليها فكان اول ما كلمها ان قال لها قد دخل فى صدرى شىء اردت كتمانه فغلبنى ذلك فرأيت الكلام اشقى لصدرى قالت قل قلا فحدثينى هل ينبت الزرع من غير بذر قالت نعم قال فهل انتب الزرع يوم خلقه من غير بذر والبذر يومئذ انما صار من الزرع الذى انتب الله من غير بذر ألم تعلم ان الله خلق آدم وحواء من غير انث ولا ذكر فلما قالت له ذلك وقع فى نفسه ان الذى بها شىء اكرمها الله به - روى - ان عيسى عليه السلام حفظ التوراة وهو فى بطن امه وكانت مريم تسمع عيسى وهو يدرس فى بطنها ثم لما شرف عالم الشهود اعطاه الله الزهادة فى الدنيا فانه كان يلبس الشعر ويتوسد الحجر ويستير القمر وكان له قدح يشرب فيه الماء ويتوضأ فيه فرأى رجلا يشرب بيده فقال لنفسه يا عيسى هذا ازهد منك فرمى القدح وكسره واستظل يوما فى ظل خيمة عجوز فكان قد لحقه حر شديد فخرجت العجوز فطردته فقام وهو يضحك فقال يا امة الله ما انت اقمتنى وانما اقامنى الذى لم يجعل لى نعيما فى الدنيا ولما رفع الى السماء وجد عنده ابة كان يرقع بها ثوبه فاقتضت الحكمة الآلهية نزوله فى السماء الرابعة وفيه اشارة الى ان السالك لا بد وان ينقطع عن كل ما سوى الله ويتجرد عن العوائق حتى يسير مع الملأ الاعلى ويطير الى مقام قاب قوسين او ادنى - وروى - ان موسى عليه السلام ناجى ربه فقال اللهم ارنى وليا من اوليائك فاوحى الله تعالى اليه ان اصعد الى جبل كذا وادخل زاوية كذا فى كهف كذا حتى ترى ولى ففعل فرأى فيه رلا ميتا توسد بلبنة وفوق عورته خرقة وليس فيه شيء غيره فقال اللهم سألتك ان ترينى وليك فأريتنى هذا فقا هذا هو ولي فوعزتى وجلالى لا ادخلة الجنة حتى احاسبه باللبنة والخرقة من اين وجدهما فحال اولياء الله الافتخار بالفقر وترك الدنيا والصبر على ما قدره الله(2/183)
صبر باشد مشتهاى زيركان ... هست حلوا آرزوى كودكان
هركه صبر آورد كردون برود ... هركه حلوا خورداوبس تررود
فالقوة الروحانية التى بها يصير الانسان كالملائكة انما تحصل بالصبر عن المشتهيات فانظر الى حال عيسى عليه السلام يكفك فى هذا اعتبار ومن الله التوفيق الى الاعراض عن حطام الدنيا وقطع التعلق من الدارين قطعا(2/184)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{ ويعلمه } كلام مستأنف اى ويعلم الله عيسى { الكتاب } اى الكتابة والخط بالقلم بالالهم والوحى وكان احسن الناس خطا فى زمانه { والحكمة } اى العلوم العقلية والشرعية وتهذيب الاخلاق لان كمال الانسان فى ان يعرف الحق لذاته والخير لاجل العمل به مجموعها هو المسمى بالحكمة { والتواة والانجيل } فيحفظهما عن ظهر القلب وهذا الكلام اعنى يعلمه الخ سيق تطيبا لقلب مريم وازاحة لما اهما من خوف اللائمة لما عملت انها تلد من غير زوج(2/185)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
{ و } يجعله { رسولا الى بنى اسرائيل } اى يكلمهم وقال بعض اليهود انه كان مبعوثا الى قوم مخصوصين وكان اول انبياء بنى اسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام { انى قد جئتكم } معمول لرسول لما فيه من معنى النطق اى رسولا ناطقا بأنى قد جئتكم ملتبسا { بآية } عظيمة كائنة { من ربكم } وهو ما ذكر بعده من خلق الطير وغيره { انى اخلق } بدل من انى قد جئتكم اى اقدر واشكل لانه قد ثبت ان العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والابداع فوجب ان يكون بمعنى التقدير والتسوية { لكم } اى لاجلكم بمعنى التحصيل لايمانكم ورفع تكذيبكم اياى { من الطين } شيأ { كهيئة الطير } اى مثل صورة الطير { فانفخ فيه } الضمير للكاف اى فى ذلك الشىء المماثل لهيئة الطير { فيكون طيرا } حيا طيارا كسائر الطيور { باذن الله } بامره تعالى اشار بذلك الى ان احياءه من الله تعالى لا منه لان الله هو الذى خلق الموت والحياة فهو يخلق الحياة فى ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل اظهار المعجزات - روى - ان عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة واظهر المعجرات طالبوه بخلق خفاش فاخذ طينا وصورة ثم نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء والارض
قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فاذا غاب عن اعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الخلق من فعل الله قيل انما طلبوا خلق الخفاش لانه اعجب من سائر الخلق ومن عجائبه انه لحم ودم يطير بغير ريس ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الحيوان من الطيور ويكون له الضرع ويخرج منه اللبن ولا يبصر فى ضوء النهار ولا فى ظلمة الليل وانما يرى ف ساعتين ساعة بعد غروب الشمس وساعة بعد طلوع الفجر قبل ان يسفر جدا ويضحك كما يضحك الانسان وله اسنان ويحيض كما تحيض المرأة ولما دل القرآن على ان عيسى عليه السلام انما تولد من نفخ جبريل فى مريم وجبريل روح محض وروحانى محض فلا جرم كانت نفخة عيسى سببا للحيان والروح { وابرىءر اى اشفى واصحح { الاكمة } اى الذى ولد اعمى قال الزمخشرى لم يوجد فى هذه الامة اكمه غير قتادة بن دعامة السدوسى صاحب التفسير { والابرص } وهو الذى به برص اى بياض فى الجلد يتطير به واذا استحكم فلا برء له ولا يزول بالعلاج ولم تكن العرب تنفر من شىء نفرتها منه . وانما خصها بالذكر للشفاء لانهما مما اعى الاطباء فى تداويهما وكانوا فى غاية الحذاقة فى زن عيسى عليه السلام وسألوا الاطباء عنهماز فقال جالينوس واصحابه اذا ولد اعمى لا يبرأ بالعلاج وكذا الابرص اذا كان بحال لو غرزت الابرة فيه لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج فرجعوا الى عيسى وجاؤا بالاكمه والابرص فمسح يده بعد الدعاء عليهما فابصر الاعمى وبرىء الابرص فآمن له البعض وجحد البعض وقال هذا سحر - روى - انه ابرأ فى يوم واحد خمسين الفا من المرضى من اطاق منهم اتاه ومن لم يطق اتاه عيسى عليه السلام { واحى الموتى باذن الله } فسألوا جالينوس عنه فقال الميت لا يحيى بالعلاج فان كان هو يحيى الموتى فهو نبى وليس بطبيب فطلبوا ان يحيى الموتى فاحيى اربعة انفس احيى العازر وكان صديقا له فارسل اخته الى عيسى ان اخاك العازر يموت فأنته فكان وبينه وبينه مسيرة ثلاثة ايام فأتاه هو واصحابه فوجوده قد مات منذ ثلاثة ايام فقال لاخته انطلقى لنا الى قبره فانطلقت معهم الى قبره وهو فى صخرة مطبقة فقال عيسى عليه السلام اللهم رب السموات السبع والارضين السبع انك ارسلتنى الى بنى اسرائيل ادعوهم الى دينك واخبرهم انى احيى الموتى فاحيى العازر فقام العازر ووكده يقطر فخرج من قبره وبقى وولده واحيى ابن عجوز مربه ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره ونزل عن اعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع الى اهلة فبقى وولد له واحيى ابنة العاشر الذى يأخذ العشور قيل له احيها وقد ماتت امس فدعا الله تعالى فعاشت وبقيت وولدلها فقالوا يحيى من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل اصابتهم سكتة فاحى لنا سام بن نوح فقال عليسى دلونى على قبره فخرج والقوم معه حتى انتهى الى قبره فدعا الله تعالى بالاسم الاعظم فخرج من قبره وقد شاب راسه فقال عيسى كيف شاب رأسك ولم يكن فى زمانط شيب قال يا روح الله لما دعوتنى سمعت صوتا يقول اجب روح الله ان مرارته لم تذهب عن حنجرتى وقد كان من وقت موته اكثر من اربعة آلاف سنة فقال للقوم صدقوه فانه نبى فآمن به بعضهم وكذبه آخرون ثم قال له مت قال بشرط ان يعيدنى الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل ثم طلبوا آية اخرى دالة على صدقه فقال { وانبئكم بما تأكلون } من انواع المآكل { وما تدخرون } اى وما تخبأون للغد { فى بيوتكم } فكان يخبر الرجل بما اكل قبل م بما يأكل بعد ويخبر الصبيان وهو فى المكتب بما يصنع اهلهم وبما يأكلون ويخبأون لهم وكان الصبى ينطلق الى اهله ويبكى عليهم حتى يعطوه ما خبأوا له ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر وجمعوهم فى بيت فجاء عيسى عليه السلام كذلك يكونون فاذاهم خنازير { ان فى ذلكر اى ما ذكر من الخوارقو الامور العظام { لآية } عظيمة { لكم } دالة على صحة رسالتى دلالة واضحة { ان كنتم مؤمنين } انتفعتم بها(2/186)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{ ومصدقا } اى قد جئتكم ملتبسا بآية الخ ومصدقا { لما بين يدى } اى لما تقدمنة { من التوراة } اى موافقا على ما كان قبلى { و } جئتكم { لا حل لكم } لان ارخص لكم { بعض الذى حرم عليكم } اى فى شريعة موسى عليه السلام من لحوم السمك ولحوم الابل والشحوم والثروب جمع ثرب وهو شحم رقيق يتصل بالامعاء ولحم كل ذى ظفر فاحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا اصطبة له وهى شوكة اللحائك التى يسوى السد او اللحمة { وجئتكم } ملتبسا { بآية من ربكم } ببرهان بين شاهد على صحة رسالتى { فاتقوا الله } فى عدم قبولها ومخالفة مدلولها { واطيعون } فيما آمركم له وانهاكم عنه بامر الله تعالى وتلك الآية هى قوله { ان الله ربى وربكم فاعبدوه } ولا تعصوه بالشرك { هذا } اى الايمان بالله ورسوله والطاعة { صراط مستقيم } طريق سوى يؤدى صاحبه الى الجنة وهو الحق الصريح الى اجمع عليه الرسل قاطبة فتكون آية بينة على انه عليه السلام من جملتهم فقوله { ان الله ربى وربكم } اشارة الى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذى غايته التوحيد وقال { فاعبدوه } اشارة الى استكمال القوة العلمية فانه يلازم الطاعة التى هى الاتيان بالاوامر والانتهاء عن المناهى ثم قرر ذلك بان بين ان الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم « قل آمنت ثم استقم » فالعلم والعمل هو الطريق من مبادى الاستقامة فعليك بالتمسك بالحجة القوية وسئل الجنيد كيف السبيل الى الانقطاع الى الله فقال بتوبة تزيل الاصرار وخوف يزيل التسويف ورجاء يبعث على مسالك العمل وذكر الله تعالى على اختلاف الاوقات واهانة النفس بقريها من الاجل وبعدها من الامل قيل له فبماذا يصل العبد الى هذا فقال بقلب مفرد فيه توحيد مجرد
وقال الحسن البصرى رضى الله عنه ما طلب رجل هذا الخير يعن الجنة الا اجتهد ونحل وذبل واستمروا ستقام حتى يلقى الله تعالى اما ترى الى قوله تعالى { ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } واعلم ان الاستقامة لا يطيقها الا الاكابر لانها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدى الله تعالى علىحقيقة الصدق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يكونن احدكم كالعبد السوء ان خاف عمل ولا كالاجير السوء ان لم يعط لم يعمل » قيل ولا يصح رفع الهمة عن الحظوظ جملة لان ذلك مكابرة مع الربوبية وانما المراد ان لا يطلب بالعمل فعلامة العبد الاديب ان يستمر على الطاعة فى باب مولاه ولا يظر الى شىء سواه لا الى الجنة ولا الى النار فاذا جرد عمله وتوحيده عن الاغراض فقد استقام واتخذ الصراط المستقيم مذهبا والارشاد الى هذا الطريق اما يفيد لمن كان له استعداد ازلى وقابلية اصلية فبالتربية يصير العبد قابل انوار الصفات الالهية ويخرج من الظلمات البشرية فعليك بخدمة الكاملين والاستقامة فى طريق اليقين(2/187)
زخود بهترى جوى وفرصت ... كه باجون خودى كم كنى روز كار
وفى الاتباع شرف عظيم قال تعالى مخاطبا لحبيبه عليه السلام { فبهداهم اقتده } وطاعة الرسول واتباعه من لوازم تقوى الله تعالى ألا ترى الى قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { فاتقوا الله واطيعون } فاذا داوم العبد الاتباع يصل الى الاستقامة فانها ليست مما يحصل فىول الامر قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره العزيز
سالها بايد كه اندر آفتاب ... لعل يابد نك ورخشانى وتاب(2/188)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{ فلما } الفاء فصيحة تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملاءكئة وخروجه من القوة الى الفعل كأنه قيل فحملته فولدته فكان كيت وكيت وقال ذيت وذيت { احس عيسى } احس استعارة للعمل اليقينى الذى لا شبهة فيه كالاحساس وهو وجدان الشىء بالحاسة كأنه قبل فلما علم { منهم الكفر } علما لا شبهة فيه كما يدرك بالحواس من الضروريات منهم الكفر اى بنى اسرائيل وارادوا قتله وانهم لا يزدادون على رؤية الآيات الا الاصرار على الجحود { قال } لخلص اصحابه مستنصرا على الكفار { من انصارى } الانصار جمع نصير { الى الله } متعلق بمحذوف وقع حالا من الياء اى من انصارى متوجها الى الله ملتجئا اليه ومن اعوانى على اقامة الدين { قال الحواريون } جمع حوارى يقال فلان حوارى فلان اى صفوته وخاصته وهم اثنا عشر بعضهم من الملوك وبعضهم من صيادى السمك وبعضهم من القاصرين وبعضهم من الصباغين والكل سموا بالحواريين لانهم كانوا انصار عيسى عليه السلام واعوانه والمخلصين فى محبته وطاعته { نحن انصار الله } اى انصار دينه ورسوله قال تعالى { ان تنصروا الله ينصركم } والله ينصر من ينصر دينه ورسله { آمنا بالله } استئناف جار مجرى العلة لما قبله فان الايمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن اوليائه والمحاربة مع اعدائه { واشهد بانا مسلمون } مخلصون فى الايمان منقادون لما تريد من امر نصرتك طلبوا منه عليه السلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم تشهد الرسل عليهم السلام لأممهم ايذانا بان مرمى غرضهم السعادة الاخروية(2/189)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
{ ربنا آمنا بما نزلت } من الانجيل على عيسى وهو تضرع الى الله تعالى وعرض لهم عليه تعالى بعد عرضها على الرسول مبالغة فى اظهار امرهم { واتبعنا الرسول } اى عيسى على دينه فى كل ما يأتى ويذر من امور الدين فيدخل فيه الاتباع فى النصرة دخولا اوليا { فاكتبنا مع الشاهدين } اى مع الذين يشهدون بوحدانيتك او مع الانبياء الذين ييشهدون لاتباعهم او مع امة محمد صلى الله عليه وسلم فانهم شهداء على الناس قاطبة وهو حال من مفعول اكتبنا
وفيه اشارة الى ان كتاب الابرار انما يكون فى السموات مع الملائكة قال تعالى { كلا ان كتاب الابرار لفى عليين } فاذا كتب الله ذكرهم مع الشهداء المؤمنين كان ذكرهم مشهورا فى المأ الاعلى وعند الملائكة المقربين(2/190)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{ ومكروا } اى الذين علم عيسى كفركهم من اليهود بان وكلوا به من يقتله غلية وهو ان يخدعه فيذهب به الى موضع فاذا صار اليه قتله { ومكر الله } بان رفع عيسى عليه السلام والقى شبهة على من قصد اغتياله حتى قتل { والله خير الماكرين } باقواهم مكرا وانفذهم كيدا واقدرهم على ايصال الضرر من حيث لا يحتسب - روى - ان ملك بنى اسرائيل لما قصد قتله عليه السلام امره ان يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة الى السماء وكساه الله الريش والبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة حول العرش وكان انسيا سماويا ارضيا ثم قال الملك لرجل خبيث منهم ادخل عليه فقتله فدخل البيت فالقى الله عز وجل شبهه عليه السلام فخرج يخبرهم انه ليس فى البيت فقتلوه وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فان كان هذا عيسى فاين صاحبنا وان كان صاحبنا فابن عيسى فوقع بينهم مقال عظيم ولما صلب المصلوب فأنزل الله عيسى عليه السلام فجاءهما فقال على من تبكيان قالتا عليك فقال ان الله رفعنى ولم يصبنى الا خير وان هذا شىء شبه لهم فلما كان بعد سبعة ايام قال الله لعيسى اهبط الى المجدلانية على موضع فى جبلها فانه لم يبك عليك احد بكاءها ولم يحزن احد حزنها ثم استجمع الحواريين فبثهم اى فاجعلهم متفرقين فى الارض دعاة الى الله فاهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريين فبثهم فى الارض دعاة ثم رفعه الله اليه وتلك الليلة هى الليلة التر تدخن فيها النصارى فلما اصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من ارسله عيسى اليهم فذلك قوله { ومكروا ةمكر الله والله خير الماكرين } والمكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة والمكر من الله استدراج العبد واخذه بغته من حيث لا يعلم فيها ايهالعبد خف من وجود احسان مولاكاليك ودوام اساءتك معه فى دوام الطفه بك وعطفه عليك ان يكون استدراجلك حتى تقف معها وتغتر لها وتفرح لما اوتيت فتؤخذ بغتة قال الله تعالى { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } قال سهل رضى الله عنه فى معنى هذه الآية نمدهم بالتهم وننسيهم الشكر عليها فاذا ركنوا الى انعمو وحجبوا عن المنعم اخذوا
وقال ابو العباس ابن عطاء يعنى كلما احدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وانسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة ومن جهل المريد بنفسه وبحق ربه ان يسيىء الادب باظهار دعوى او توريط فى بلو فتؤخر العقوبة عنه امهالا له فيظنه اهملال فيقول لو كان هذا سوء ادب لقطع الامداد واوجب الابعاد اعتبار بالظاهر من الامر نم غير تعريج على ما وراء ذلك وما ذاك الا لفقد نور بصيرته او ضعف نورها والا فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر حتى ربما ظن انه متوفر فى عين تقصير ولو لم يكن من قطع المدد الا منع المزيد لكان قطعا لان من لم يكن فى زيادة فهو فى نقصان قال عليه السلام(2/191)
« من استوى يوما فهو مغبون » ولو لم يكن من الابعاد الا ان يخليك وما تريد فيصرفك عنه بمرادك هذا والعياذ بالله مكر وخسران
وعن ابن حنبل انه كان يوصى بعض اصحابه فقال خف سطوة العدر وارج رقة الفضل ولا تأمن من مكره تعالى ولو ادخلك الجنة ففى الجنة وقع لابيك آدم ما وقع وقد يقطع باقوام فيها فيقال لهم كلوا واشربوا هنيأ بما اسلفتم فى الايام الحالية فقطعهم بالاكل والشرب عنه وأى مكر فوق هذا وأى خسران اعظم منه(2/192)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{ اذ قال الله } اى اذكر وقت قوله الله { يا عيسى انى متوفيك } اى مستوفى اجلك ومعناه انى عاصمك من ان يقتلك الكفار ومؤخرك الى اجل كتبته لك ومميتك ختف انفك لا قتلا بايديهم { ورافعك } الآن { الى } اى الى محل كرامتى ومقر ملائكتى وجعل ذلك رفعا اليه للتعظيم ومثله قوله { انى ذاهب الى ربى } وانما ذهب ابراهيم عليه السلام من العراق الى الشام وقد يسمى الحاج زوار الله والمجاورون جيران الله وكل ذلك للتفخيم فانه تعالى يمتنع كونه فى المكان { ومطهرك } اى مبعدك ومنحيك { من الذين كفروا } اى من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم
قيل سينزل عيسى عليه السلام من السماء على عهد الدجال حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية فيفيض المال حتى لا يقبله احد ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الاسلام ويقتل الدجال ويتزوج بعد قتله امرأة من العرب وتلد منه ثم يموت هو بعد ما يعيش اربعين سنة من نزوله فيصلى عليه المسلمون لانه سأل ربه ان يجعله ن هذه الامة فاستجار الله دعاءه { وجاعل الذين اتبعوك } وهم المسلمون لانهم متبعوه فى اصل الاسلام وان اختلف الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى { فوق الذين كفروا } وهم الذين مكروا به عليه السلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فان اهل السلام فوقه ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة { الى يوم القيامة } غاية للجعل لا على معنى ان الجعل ينتهى حينئذ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى ان المسلمين يعلونهم الى تلك الغاية فاما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد { ثم الى مرجعكم } اى رجوعكم بالبعث والضمير لعيسى عليه السلام وغيره من المتبعين له والكافرين له على تغيب المخاطب على الغائب فى ضمن الالتفات فانه ابلغ فى التبشير والانذار { فاحكم بينكم } يومئذ اثر رجوعكم الى { فيما كنتم فيه تختلفون } من امور الدين(2/193)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
{ فاما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا فى الدنيا } بالسيف والسبى واخذ الجزية وايصال الامراض والمصائب فانها من العقوبات فى حق الكافر ومنالمثوبات فى حق المؤمن لانها ابتلاء محض له { والآخرة } بعذاب النار { ومالهم من ناصرين } يخلصونهم من عذاب الله فى الدارين وصيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع اى ليس لواحد منهم ناصر واحد(2/194)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
{ واما الذين آمنوا } بما ارسلت به { وعملوا الصالحات } كما هو ديدن المؤمنين { فيوفيهم اجورهم } اى يعطيهم اجور اعمالهم كاملة ولعل الالتفات الى العيبة لليذان بما بين مصدرى التعذيب والاثابة من الاختلاف من حيث الجلا والجمال { والله لا يحب الظالمين { اى يبغضهم ولا يرضى عنهم(2/195)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
{ ذلك } اشارة الى ما سلف مننبأ عيسى عليه السلام وغيره { نتلوه عليك } اى نقرأه عليك يا محمد واسند تلاوته الى نفسه مع ان التالى هو الملك المأمور بها على طريق اسناد الفعل الى السبب الآمر وفيه تعظيم بليغ وتشريف عظيم للملك وانما حسن ذلك لان تلاوة جبريل لما كانت بامره تعالى من غير تفاوت اصلا اضيف ذلك اليه تعالى { من الآيات } حال من الضمير المنصوب اى من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لانها اخبار لا يعلمها الا قارىء الكتاب او من يوحى اليه فظاهر انك لا تكتب ولا تقرأ فبقى ان ذلك من الوحى { والذكر } اى القرآن { الحكيم } اى المشتمل على الحكم او المحكم الممنوع من تطرق الخلل اليه والاشاة ان الله تعالى قال لعيسى عليه الاسلام يا عيسى { انى متوفيك } عن الصفات النفسانية والاوصاف الحيوانية { ورافعك الى } بجذبات العناية فمن لم يصر فانيا عما سوى الله لا يكون له وصول الى مقام معرفة الله فعيسى لما رفع الى السماء صارت له حالة كحال الملائكة فى زوال الشهوات والغضب والاخلاق الذميمة
فعلى السالك ان ينهى نفسه عن الهوى ويتبع طريق الهدى ويعتبر بالآيات والذكر الحكيم كى يصل الى النعيم المقيم ويجتنب الظلم فان الله تعالى قال { والله لا يحب الظالمين } اى الذين يظلمون على أنفسهم بانقضاء العمر فى طلب غير الله
خلاف طريقت بود كاوليا ... تمنا كنند ازخدا جز خدا
فاهل الطريقة هم الذين يمحون نقش الغير عن صفحات القلب ويزكون نفوسهم عن الاوصاف المذمومة فانها مانعة من العروج الى سماء المعرفة وعلو الوصال : قال مولانا جلال الدين رومى قدس سره
آن يكى نحوى بكشتى درنشست ... روبكشتيبان نهاد آن خود برست
كفت هيج ازنخو حوادندى كفت لا ... كفت نيم عمر توشد درفنا
دل شكسته كشت كشتيبان زتاب ... ليك آندم كشت خواموش ازجواب
باد كشتى را بكر دابى فكند ... كفت كشتيبان بدان نحوى بلند
هيج دانى آشنا كردن بكو ... كفت نى اى خوش جواب خوب رو
كفت كل عمرت اى نحوى فناست ... زانك كشتى غرق اين كردا بهاست
محو مى بايد نه نحو انيجابدان ... كرتو محوى بيخطر درآب ران
آب درا مرده را بر سر نهد ... وربود زنده زدريا كى رهد
جون بمردى تو زاوصاف بشر ... بحر اسرارت نهد برفرق سر
فقد ظهر ان الذين يطلبون غير الله هم غرقى فى بحر الهوى والشهوات لا يقدرون على التصعد الى الاعلى واما الذين تخلصوا من قشر الوجود ووصلوا بالفناء عن ذواتهم الى عالم الشهوج فههم يطيرون باجنحة انوار حالهم مع الملائكة المقربين لتخلصهم من الاثقال الدنيوية والاشغلا القالبية والبدنية قال تعالى(2/196)
{ ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السموات والارض } اى بالتجرد عن الهيآت الجسمانيى والتعلقات البدنية { فانفذوا } لتنخرطوا فى سلك الارادة الملكوتية والنفوس الجبروتية وتصلوا الى الحضرة العلية { لا تنفذون الا بسلطان } اى بحجة بينة هى التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء فى الله تعالى قال عيسى عليه السلام [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] والولادة نوعان . اضطرارى يخلق الله تعالى ولا دخل فيه للكسب والاختيار وذلك ظاهر . واختيارى يحصل بالكسب وهو الذى اشار اليه عيسى عليه السلام وفقتا الله واياكم لما يجب ويرضى ويداوى بدواء افضاله هذه النفوس المرضى انه بكل شىء قدر وبتيسيره يسهل كل امر عسير(2/197)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
{ ان مثل عيسى } اى شانه البيدع المنظيم لغرابته فى سلك الامثال { عند الله } اى فى تقديره وحكمه { كمثل آدم } اى كحاله العجيبة التى لا يرتاب فيها مرتاب ولا ينازع فيها منازع { خلقه من تراب } تفسير للمثل لا محل له من الاعراب اى خلق قالب آدم من تراب
فان قيل الضمير فى خلقه راجع الى آدم وحين كان ترابا لم يكن آدم موجودا قلنا لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم قبل ذلك تسمية لما سيقغ بالواقع { ثم قال له كن } اى انشأ بشرا { فيكون } والمقتضى تن يقال فكان اى كان امره الله الا انه عدل الى المضارع حكاية للحال التى كان آدم عليها اى تصويرا لذلك الايجاد الكامل بصورة المشاه الذى يقع الآن - روى - ان وفد نجران قدموا المدينة وهو اربعة عشر رجلا من اشرافهم . منهم السيد وهو كبيرهم واسمه اهيبز والعاقب الذى بعده وهو صاحب رأيهم واسمه عبد المسيح . والثالث ابو حارثة ابن علقمة الاسقف وكان فى شرف وخطر عظيم وكان ملك الروم بنى له الكنائس وكان يبعث له بالكرامات فاقبلوا حتى قدموا على النبى عليه السلام فى مسجد المدينة بعد العصر عليهم ثياب حسان ولهم وجوه جسام فقاموا وصلوا واستقبلوا قبلتهم واراد اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ان يمنعوهم فقال صلى الله عليه وسلم « دعوهم » وقد كان نزل على النبى عليه السلام قبل قدومهم صدر آل عمران لمحاجتهم ثم انتهى ابو حارثة هذا وآخر معه الى النبى عليه السلام فقال لهما صلى الله عليه وسلم « اسلما » فقالا اسلمنا قبلك فقال صلى الله عليه وسلم « كذبتما يمنعكما عن الاسلام ثلاث عبادتكما الصليب واكلكما الخنزير وزعمكما ان لله ولدا » قال يا محمد فلم تشتم صاحبنا عيسى قال « وما اقول » قالوا تقول انه عبد قال « اجل هو عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى العذراء البتول » فغضبوا وقالوا هل رأيت انسانا من غير اب فحيث سلمت انه لا اب له من البشر وجب ان يكون هو الله فقال صلى الله عليه وسلم « ان آدم عليه السلام ما كان له اب ولا ام » وبم يلزم من ذلك كونه ابنا لله تعالى فكذا حال عيسى عليه السلام فالوجود من غير اب وام اخرف للعادة من الوجود من غير اب فشبه الغريب بالاغرب ليكون اقطع لشبهة الخصم اذا نظر فيما هو اغرب مما استغربه(2/198)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{ الحق } اى ما قصصنا عليك من نبأ عيسى وامه هو الحق كائنا { من ربك } لاقول النصارى انه ابن الله وقولهم ولدت مريم آلها ونحو ذلك { فلا تكن من الممترين } اى من الشاكين فى ذلك الخطاب للنبى عليه السلام عل طريقة الالهاب والتهييج لزيادة التثبيت لان النهى عن الشىء حقيقة يقتضى ان يتصور صدور المنهى عنه من المنهى ولا يتصور كونه عليه السالم شاكل فى صحة ما انزل عليه والمعنى دم على يقينك وعلى ما انت عليه من الاطمئنان على الحق والتنزه عن الشك فيه قال الامام ابو منصور رحمه الله العصمة لا تزيل المحنة ولا ترفع النهى(2/199)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{ فمن حاجك } اى من النصارى اذ هم المتصدون للمحاجة { فيه } اى فى شأن عيسى عليه السلام وامه زعما منهم انه ليس على الشأن المحكى { من بعد ما جاءك من العلم } اى ما يوجبه ايجابا قطعيا من الآيات البينات وسمعوا ذلك منك فلم يرعووا عماهم عليه من الضلال والغى { فقل } اى فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند وهو ان تدعوهم الى الملاعنة فقل لهم { تعالوا } التعالى فى الاصل التصاعد كأن الداعى فى علو والمدعو فى سفل فامره ان يتعالى اليه ثم صار ذلك لكل مدعو اين كان اى هلموا بالرأى والعزيمة لا بالابدان لانهم مقبلون وحاضرون عنده باجسادهم { ندع ابناءنا وابناءكم } اكتفى بهم عن ذكر البنات لظهور كونهم اعزمنهن . واما النساء فتلقهن من جهة اخرى { ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم } اى ليدع كل منا ومنكم نفسه واعزة اهله وألصقهم بقلبه الى المباهلة ويحملهم عليها { ثم نبتهل } اى نتباهل بان نلعن الكاذب ونقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } عطف على نبتهل مبين لمعناه - روى - انهم لما دعوا الى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر لما خلا بعضهم ببعض قالو لعبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفت يا معشر النصارى ان محمد نبى مرسل ولقد جاءكم بالفصل من امر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكم فان ابيتم الا الف دينكم والاقامة على ما انتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا الى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى وعلى خلفها رضى الله عنه وهو يقول « اذا انا دعوت فأمنوا » فقال اسقف نجران اى اعلمهم بامور دينهم وهو ابو حارثة يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو شاء الله تعالى ان يزيل جبلا من مكانه لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الارض نصرانى الى يوم القيامة فقالوا يا ابا القاسم راينا ان لا نباهلك وان تترك على دينك ونثبت على ديننا قال صلى الله عليه وسلم « فاذا ابيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين » فألوا فقال « فانى احاربكم » فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على ان لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدى اليك كل عاك الفى حلة الف فى صفر والف فى رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك وكتب لهم كتابا بذلك وقال « والذى نفسى بيده ان الهلاك قد تدلى على اهل نجران ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادى نارا ولاستأصل الله نجران واهله حتى الطير على رؤس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا »(2/200)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
{ ان هذا } اى ما قص من نبأ عيسى عليه السلام وامه { لهو القصص الحق } دون ما عداه من اكاذيب النصارى { وما من اله } ما اله { الا الله } صرح فيه بمن الاستغراقية تأكيد للرد على النصارى فى تثليثهم { وان الله لهو العزيز الحكيم } القادر على جميع المقدروات . الحكيم المحيط بالمعلومات لا احد يشاركه فى القدرة والحكمة ليشاركه فى الالوهية(2/201)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{ فان تولوا } اى اعرضوا عن قبول التوحيد والحق الذى قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج النيرة والبراهين الساطعة { فان الله عليم بالمفسدين } اى فاقطع كلامك علنهم وفوض امرهم الى الله فان الله عليم بفساد المفسدين مطلع على ما فى قلوبهم من الاغراض الفاسدة قادر على مجازاتهم
واعلم ان المباهلة الانبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله اياهم به وهو المؤثر باذن الله فى العالم العنصر فيكون انفعال العالم العنصرى منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيآت الواردة عليها كالغضب والخوف والسرور والفكر فى احوال المعشوق وغير ذلك من تحريك الاعضاء عند حدوث الارادات والعزائم وانفعال النفوس الملكية تاثيرها فى العالم عند التوجه الاتصالى تأثير ما يتصل به فينفعل اجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية فيه بما اراد ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام قبل المباهلية بالخوف واحجمت عن المباهلة فطبت الموادغة بالجزية كذا فى التأويلات القاشانية وكذا الحال الولى اذا دعا على انسان يكون له تأثير بالمرض او الموت او غير ذلك من البلايا - روى - ان الشاعر البساطى رأى يوما الشيخ كمال الدين الخجندى فى مجلس الشعراء
فقال از كجايى از كجايى اى لوند ... فقال الشيخ فى جوابه على الفور
از خجندم از خجندم از خجند ... ولكنه تأذى من سوء به ومعاملته معه هكذا
وحمله على سكره فقال الغالب ان هذا الشاب سكران فسمعه الباسطى وقال بالبداهة
اى ملحد خجندى ريش بزرك دارى ... كزغايت بزركى ده ريش ميتوان كفت
فلما سمعه التألم منه تألما شديدا فدعا عليه فى ذلك المجلس فمات من ساعته من تأثير نفسه الشريف فى حقه فليجانب العاقل اذية الصلحاء فان مكره يعود اليه دونهم قال تعالى { ولا يحيق المكر السىء الا باهله } : قيل ونعم ما قيل
ناى كند ناله بدين قول راست ... از بير بترس اى جوان
فحفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم سبب للترقى الى المطالب العالية وباعث للاحترام والاكرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما اكرم شاب شيخا لسنه الا قيض الله له من يكرمه عند سنه » قال المشايخ عقوق الاستاذين لاتوبة منه - ويحكى - عن ابى الحسن الهمذانى قال كنت ليلة عند جعفر الخالدى وكنت امرت فى بيتى ان يعلق لى طير فى التنور وكان قلبى معه فقال لى جعفر اقم عند ن الليلة فتعللت بشىء ورجعت الى منزلى فاخرج الطير من التنور ووضع بين يدى فدخل كلب من الباب وحمل الطير عند تغافل الحاضرين واتى بالجوذاب الذى تحته فتعلق به ذيل الخادمة فانصب فلما اصبحت دخلت على جعفر فحين وقع بصره على قال من لم يحفظ قلوب المشايخ يسلط عليه كلب يؤذيه قال الشيخ ابو على الدقاق قدس سره لما نفى اهل بلخ محمد بن الفضل من البلد دعا عليهم وقال اللهم امنعهم الصدق لم يخرج من بلخ بعده صديق عصمنا الله واياكم من المخالفة آمين(2/202)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{ قل يا اهل الكتاب } اى اليهود والنصارى { تعالوا } كان عليه السلام حريصا على ايمانهم فامره الله تعالى بان يعدل عن طريق المجادلة والاحتجاج الى نهج يشهد كل عقل سليم انه كلام مبنى على الانصاف وترك الجدال لا ميل فيه الى جانب حتى يكون فيه شائبة التعصب فهو كلام ثابت فى المركز نسبته الينا واليكم على سواء واعتدال فقال قل يا اهل الكتاب تعالوا اى هلموا والمراد تعيين ما دعوا اليه والتوجه الى النظر فيه وان لم يكن انتقالا منمكان الى مكان لان اصل اللفظ مأخوذ من التعالى حيث يدعى اليه { الى كلمة سواء بيننا وبينكم } لا يختلف فيها الرسل والكتب فبها انصاف من بعضنا لبعض ولا ميل فيها لاحد على صاحبه وهى { ان لا نعبد الا الله } اى نوحده بالعبادة ونخلص فيها { ولا نشرك به شيأ } ولا نجعل غيره شريكا فى استحقاق العبادة ولا نراه اهلا لان نعبدخ { ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله } بان نقول عزيز ابن الله والمسيح ابن الله ولا نطيع الاحبار فيما احدثوا من التحليل والتحريم لان كلا منهم بعضنا وبشر مثلنا وعن الفضيل لا ابالى اطعت مخلوقا فى معصية الخالق ام صليت لغير القبلة { فان تولوا } عما دعوتم اليه من التوحيد وترك الاشراك { فقولوا } اى قل لهم انت والمؤمنون { اشهد بانا مسلمون } اى لزمتكم الحجة فاعترفوا بانا مسلمون دونكم - روى - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الى قيصر « من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فانى ادعوك برعاية الاسلام اسلم تسلم » اى من السبى فى الدنيا ومن العذاب فى الآخرة « واسلم يؤتك الله اجرك مرتين وان توليت فان عليك اثم الاريسيين ويا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيأ » الى قوله ( فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ) وجاء فى الخبر الصحيح ان هرقل سأل عن حال النبى عليه السلام وعرفها ممن جاء بكتابه فقال لو كنت عنده لقبلت قدميه لمعرفته صدق النبى عليه السلام بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة لكن خاف من ذهاب الرياسة
ثم انه كتب جواب كتابه عليه السلام انا نشهد انك نبى ولكنا لا نستطيع ان نترك الدين القديم الذى اصطفاه الله لعيسى عليه السلام فعجب النبى عليه السلام فقال « لقد ثبت ملكهم الى يوم القيامة ابدا »
وكتب الى كسرى ملك فارس فمزق كتابه ورجع الرسول بعدما اراد قتله فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خرق الله ملكهم فلا ملك لهم ابدا فكان كذلك(2/203)
والاشارة فى الآية ان اصول الاديان كلها اخلاص العبودية كما قال تعالى { ان لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيأ } يعنى كما لا نعبد الا الله لا نطلب منه غيره { ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله } فى طلب الرزق ورؤية الامور من الوسائط { فان تولوا } يعنىى من اعرض عن هذا الاصل { فقولوا } انتم لهم { اشهدوا بانا مسلمون } مستسلمون لما دعانا الله اليه من التوحيد والاخلاص فى العبودية ونفى الشرك والسر فى الاشهاد على السلام ليشهد الكفار لهم يوم القيامة على الاسلام والتوحيد كما يشهد لهم المؤمنون كما قال النبى عليه السلام لابى سعيد الخدرى رضى الله عنه « انى اراك تحب الغنم والبادية فاذا كنت فى غنمك وباديتك فاذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فانه لا يسمع مدى الصوت المؤذن جن ولا انس ولا شىء الا شهد له يوم القيامة » فيكون شهادة الكفار لهم بالتوحيد يوم القيامة حجة على انفسهم . فالتوحيد هى العروة الوثقى واصل الاصول يهب من جانب الغيب لمن اخلصه قبول القبول
فعلى العاقل ان لا يخالف كتاب الله بالاعراض عن فحاويه وعدم التدبر فى معانيه بل يسلك سبيل العلم والاعمال ويتجنب الجهل والغى والضلال قبل ان يهال عليه التراب ويلف فى الاكفان من الاثواب : قال الفاضل عبد ارحمن الجامى قدس سره
بيش كسرى زخردمند حكيمان ميرفت ... سخن ازسخت ترين موج درين لجه غم
آن يكى كفت كه بيمارى واندوه دراز ... وان در كفت كه نادارى وبيريست بهم
سبومين كفت كه قرب اجل وسوء عمل ... عاقبت رفت بترجيح سوم حكم حكم
يعنى اجتمع يوما فى مجلس تنوشروان ثلاثة من الحكماء فانجر الكلام الى ان اشد الشدائد ما هو . فقال الحكين الرومى هو الشيخوخة مع الفقر . وقال الحكيم الهندى المرض وعلة البدن مع كثرة الغموم والهموم . وقال الحكيم بزرجمهر هو قرب الاجل وسوء العمل فاتفقوا على قوله رزقنا الله واياكم حلاوة الطاعات وايدنا بتوفيه قبل قدوم هاذم اللذات آمين(2/204)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
{ يا اهل الكتاب } من اليهود والنصارى { لم تحاجون } تجادلون { فى } ملة { ابراهيم } وشريعته تنازعت اليهود والنصارى فى ابراهيم عليه السلام وزعم كل واحد منهما انه عليه السلام وترافعا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت والمعنى لم تدعون انه عليه السلام كان منكم { وما انزلت التوراة } على موسى عليه السلام { والانجيل } على عيسى عليه السلام { الا من بعده } اى من بعد موته وانتم سميتم بالبهودية والنصرانية بعد نزل الكتاب { أفلا تعقلون } اى ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان مذهبكم فتجادلون بالجدال المحال لان بين ابراهيم وموسى الف سنة وبين موسى وعيسى الفى سنة فكيف يكون ابراهيم على دين لم يحدث الا بعد عهده بازمنة متطاولة(2/205)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{ ها انتم هؤلاء } جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بينت بجملة مستأنفة اشعارا بكمال غفلتهم اى انتم هؤلاء الحمقى حيث { حاججتم فيما لكم به علم } من التوراة والانجيل من نبوة محمد عليه السلام { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } فيما لا ذكر له فى كتابكم ولا علم لكم به من دين ابراهيم اذ لا ذكر لدينه عليه السلام فى احد الكتابين قطعا { والله يعلم } ما حاججتم فيه فيعلمنا { وانتم لا تعملون } اى محل النزاع(2/206)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
{ ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا } تصريح بما نطق به البرهان المقرر { ولكن كان حنيفا } اى مائلا عن العقائد الزائغة كلها { مسلما } اى منقادا لله تعالى وليس المراد انه كان على ملة الاسلام والا لاشترك الالزام { وما كان من المشركين } تعرض بانهم مشركون بقولهم عزيز ابن الله والمسيح ابن الله ورد لادعاء المشركين انهم على ملته عليه السلام(2/207)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
{ ان اولى الناس بابراهيم } اى ان احق الناس بدعواه انه على دين ابراهيم { للذين اتبعوه } فى زمانه { وهذا النبى } اى محمد المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لانه اتبعه { والذين آمنوا } بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم من هذه الامة لموافقتهم فى اكثر ما شرعه لهم على الاصالة { والله ولى المؤمنين } ينصرهم ويجازيهم الحسنى بايمانهم(2/208)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{ ودت طائفة من اهل الكتاب } اى احبت { لو } اى ان { يضلونكم } يصرفونكم عن دين الاسلام الى دين الكفر وانما قال طائفة لان من اهل الكتاب امة قائمة يتولن آيات الله { وما يضلون الا انفسهم } جملة حالية جيىء بها للدلالة على كمال رسوخ المخاطبين وثباتهم على ما هم عليه من الدين القويم اى وما يتخطاهم الاضلال ولا يعود وباله الا اليهم لما انه يضاعف به عذابهم { وما يشعرون } اى باختصاص وباله وضرره بهم
اعلم انه تعالى لما بين ان من طريقة اهل الكتاب العدول عن الحق والاعراض عن قبول الحجة بين انهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون فى اضلال من آمن بالرسول عليه السلام بالقاء الشبهات فعلى العاقل ان لا يضل عن الطريق القويم بالقاآت كل شيطان رجيم من ضلال الانس والجان اصلحهم الله الملك المنان وماذا بعد الحق الا الضلال قال ابن مسعود رضى الله عنه لما دنا فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعنا فى بيت عائشة رضى الله عنها ثم نظر الينا فدمعت عيناه وقال « مرحبا بكم حياكم الله رحمكم الله اوصيكم بتقوى الله وطاعته قددنا الفراق وحان المنقلب الى الله والى سدرة المنتهى والى جنة المأوى يغسلنى رجال اهل بيتى ويكفوننى فى ثيابى هذه ان شاؤا او فى حلة يمانية فاذا غسلتمونى وكفنتمونى ضعونى على سريرى فى بيتى هذا على شفير لحدى ثم اخرجوا عنى ساعة فاول من يصلى على حبييى جبريل عليه السلام ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم ملك الموت مع جنودهم ثم ادخلوا على فوجا فوجا صلوا على » فلما سمعوا فراقة صاحوا وبكوا وقالا يا رسول الله انت رسول ربنا وشمع جمعنا وسلطان امرنا اذا ذهبت عنا فالى من تراجع فى امورنا قال « تركتكم على المحجة البيضاء » اى على طريق الواسع الواضح ليلها كنهارها فى الوضوخ ولا يزيغ بعدها الى غيرها الا هالك « وتركت لكم واعظين ناطقا وصامتا فالناطق القرآن والصامت الموت فاذا اشكل عليكم امر فارجعوا الى القرآن والسنة واذا قسا قلبكم فلينوه بالاعتبار فى احوال الاموات »
جهان اى بسر جاويد نيست ... زدنيا وفادارى اميد نسيت
والناس فى الاعتقاد والعمل متفاوتون فمنهم من هو متين كالحصن الحصين لا يزول عما هو عليه وان اتفق الناس فى اضلاله وهو المرتبة القصوى فى باب الدين التى نالها الانبياء والاولياء والافراد من المؤمنين قال على كرم الله وجهه [ لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ] ولا يطرأ الشك فى المحسوس فكذا ما هو فى الحكمة . ومنهم من هو ضعيف لامتانة فيه تذروه رياح الهوى حيث شاءت بعد ان لم تساعد له العناية الازلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/209)
« الناس كمعادن الذهب ولفضة » يعنى ان الناس معادن الاعمال والاخلاق والاقوال ولكن يتفاوتون فيها كما تتفاوت معادن الذهب والفضة الى ان تنتهى الى الادنى فالادنى
قال فى شرح المصباح وفيه اشارة الى ان ما فى معادن الطباع من جواهر مكارم الاخلاق ينبغى ان تستخرج برياضة النفوس كما يستخرج الجواهر من المعادن بالمقاساة والتعب ولقد اجاد من قال
بقدر الكد تكتسب المعالى ... ومن طلب العلى سهر الليالى
تروم العز ثم تنام ليلا ... يغوص البحر من طلب اللآلى
فلا بد من الاجتهاد والاستمداد من الابدال والاوتاج لعل الله يسهل سلوك هذا الطريق ويخلص من خطر هذا البحر العميق
بارى كه آسمان وزمين سركشبد ازان ... مشكل بود بياورىء جسم وجان كشيد
همت قوى كن ازمدد رهروان عشق ... كان باررا بقوت همت توان كشيد(2/210)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{ يا اهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } اى بما نطقت به التوارة والنجيل ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وانتم تشهدون } اى والحال انكم تشهدون انها آيات الله(2/211)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{ يا اهل الكتاب لم تلبسون } اى تخلطون { الحق بالباطل } المراد بالحق كتاب الله الذى انزله على موسى وعيسى عليهما السلام . وبالباطل ما حرفوه وكتبوه بايديهم وبخلط احدهما بالآخر ابراز باطلهم فى صورة الحق بان يقولوا الكل من عند الله تعالى { وتكتمون الحق } اى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته { وانتم تعملون } انه حق ثابت فى كتابكم(2/212)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
{ وقالت طائفة من اهل الكتاب } وهم رؤساؤهم ومقتدرهم لا عقابهم { آمنوا بالذى } اى اظهروا الايمان بالقرآن الذى { انزل على الذين آمنوا } اى على المسلمين { وجه النهار } اى فى اوله لان اول النار هو اول ما ظهر منه كما ان الوجه اول ما يظهر من اعضاء الانسان عند الملاقاة { واكفروا آخره } اى اظهروا ما انتم علبه من الكفر به فى آخر النهار مرائين لهم انكم آمنتم به بادى الرأى من غير تأمل ثم تأملتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الاول فرجعتم عنه { لعلهم } اى المؤمنين { يرجعون } عما هم عليه من الايمان به كما رجعتم . والمراد بالطائفة كعب بن الاشرف ومالك ابن الصيف قالا لاصحابهما لما حولت القبلو آمنوا بما انزل عليهم من الصلاة الى الكعبة وصلوا اليها اول النهار ثم صلوا الى الصخرة آخرة لعلهم يقولون هو اعلم منا وقد رجعوا فيرجعون(2/213)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
{ ولا تؤمنوا } اى لا تقروا بتصديق قلبى { الا لمن تبع دينكم } اى لاهل دينكم لا لمن تبع محمد واسلم لما قالت الطائفة المتقدمة لاتباعهم اظهروا الايمان بالقرآن اول النهار كان من بقية كلامها لهم انكم لا تصدقوا بحقية الاسلام والقرآن بقلوبكم لكن لا تظهروه للمسلمين ولا تقروا بذلك الا لاهل دينكم { قل } يا محمد للرؤساء { ان الهدى هدى الله } يهدى به من يشاء الى الايمان ويثبته عليه فاذا كانت الهداية والتوفيق من الله فلا يضر كيدكم وحيلكم وهو اعتراض مقيد لكون كيدهم غير مجد لطائل { ان يؤتى احد مثل ما اوتيتم } علة بتقدير اللام لفعل محذوف اى قللتم ذلك القول ودبرتم الكيد لان يعطى احد مثل ما اعطيتم من فضل الكتاب والعلم لا لسىء آخر يعنى ما بكم من الحسد صار داعيالكم الى ان قلتم ما قلتم { او يحاجوكم } عطف على ان يؤتى وضمير الجمع عائد الى احد لانه فى معنى الجمع اى دبرتم ما دبرتم لذلك ولا يحاجوكم عند كفركم بما يؤتى احد من الكتاب مثل كتابكم { عند ربكم } يوم القيامة فيغلبوكم بالحجة فان من آتاه الله الوحى لا بد ان يحاج مخالفيه عند ربه { قل ان الفضل } اى الهدى والتوفيق وايتاء العلم والكتاب { بيد الله } اى بقدرته ومشيئته { يؤتيه من يشاء } من عباده { والله واسع } اى كامل القدرة { عليم } اى كامل العلم فلكمال القدرة يصح ان يتفضل على أى عبد يشاء بأى تفضل شاء ولكمال علمه لا يكون شىء من افعاله الا على وجه الحكمة والصواب(2/214)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{ يختص برحمته } اي يجعل رحمته مقصورة على { من يشاء والله ذو الفضل العظيم } كلاهما تذييل لما قبله مقر لمضمونه
والاشارة فى تحقيق الآيات ان الحسد وان كان مركوزا فى جبلة الانسان ولكن له اختصاص بعالم يتعلم العلم ليمارى به السفهاء ويباهى له العلماء ويجعله وسيلة لجمع المال وحصول الجاه والقبول عند ارباب الدنيا فيحسد على كل عالم آتاه الله كلمة فهو ينشرها ويفيد الخلق كما قال عليه السلام « لا حسد الا فى اثنين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكه فى حق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها » اى لا حسد كحسد الحاسد على هذين الرجلين وكان حسد احبار اليهود على النبى عليه السلام من هذا القبيل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ستة يدخلون النار قبل الحساب » قيل يا رسول الله من هم قال « الامراء من بعدى بالجور والعرب بالعصية والدهاقين بالكبر والتجار بالخيانة واهل الرستاق بالجهل واهل العلم بالحسد » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثلاث هن اصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن اياكم والكبر فان ابليس حمله الكبر على ان لا يسجد لآدم » قال المولى الجامى
لاف بى كبرى مزن كان ازنشان باى مور ... درشب تاريك برسنك سيه بنهان ترست
وزدرون كردن برون انرامكير آسان كزان ... كوه راكندن بسوزن اززمين آسان ترست
« واياكم والحرص فان آدم حمله الحرص على ان اكل من الشجرة » وقال ايضا
درهم دلى كه عزقناعت نهاد باى ... ازهرجه بود حرص وطمع را ببست دست
هرجاكه عرضه كرد قناعت متاع حويش ... بازار حرص ومعركو آزرا شكست
« واياكم والحسد فان ابنى أدم انما قتل احدهما صاحبه حسدا » قال الشيخ السعدى
توانم انكه نيازام اندرون كسى ... حسود راجه كنم كوز خود برنج درست
بميرتابرهى اى حسود كين رنجيست ... كه ازمشقت ان جزبمرك نتوان رست
وقال الاصمعى رأيت اعرابيا اتى عليه مائة وعشرون سنة فقلت ما طول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت وفى بعض الآثار ان فى السماء الخامسة ملكا يمر به عمل عبد له ضوء كضوء الشمس فيقول قف فانا ملك الحسد اضربوا به وجه صاحبه فانه حاسد . وقيل من علامات الحاسد ان يتملق اذا شهد ويغتاب اذا غاب ويشمت بالمصيبة اذا نزلت وانشدوا
واذا اراد اله نشر فضيلة طويت ... اتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
فالحسد من الاخلاق المذمومة للنفس فلا بد من ازالته عنها بكثرة التوحيد والاذكار ورؤية الآثار من الله الجبار فان تباين مقامات افراد الانسان فى العلم والعمل والخلق وسائر الصفات الفاضلة رحمة لهم ولم يكن ذلك الا بتقدير العزيز العليم فى الازل فالحاسد يسفه الحق سبحانه وانه انعم على من لا يستحق تعالى الله عما يقول الظالمون وقد ذم الله الحاسدين فى كتابه قال تعالى { ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } واما الغبطو فهة محمودة نسأل الله ان يحلينا بالصفات الشريفة والاخلاق اللطيفة ويخلينا من الرذائل النفسية آمين يا رب العالمين(2/215)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{ ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار } يقال امنته بكذا فالباء للاصاق بالامانة فان من ائتمن على شىء صار ذلك الشىء فى معنى الملصق به لقربه منه واتصاله بحفظه والمراد بالقنطار ههنا العدد الكثير { يؤده اليك } من غير جحد ونقص كعلد الله بن سلام استودعه قرشى الفا ومائتى اوقية ذهبا فادها اليه فاهل الامانة من اهل الكتاب هم الذين اسلموا { ومنهم من ان تأمنه بدينا } والمراد بالدينار ههنا العدد القليل { لا يؤده اليك } وهو كعب بن الاشرف استودعه رجل من قريش دينارا فلم يؤده وجحده فذمه تعالى فاهل الخيانة منهم هم الذين بقوا على اليهودية والنصرانية والمعنى ان فيهم من هو فى غاية الامانة حتى لو اؤتمن على الاموال الكثيرة ادى الامانة فيها ومنهم من هو فى غاية الخيانة حتى لو اؤتمن فى الشىء القليل فانه يخون { الم دمت عليه قائما } استثناء مفرغ من اعم الاحوال والاوقات اى لا يؤده اليك فى حال من الاحوال او فى وقت من الاوقات الا فى حال دوام قيامك او فى وقت قيامك على رأسه مبالغا فى مطالبته بالتقاضى واقامة البينة { ذلك } اى تركهم اداء الحقوق { بانهم } اى بسبب انهم { قالوا ليس علينا فى الاميين } اى فى شأن نم ليس من اهل الكتاب { سبيل } اى عتاب ومؤاخذة ونفى السبيل نفى المطالبة فان المطالب لا يتمكن من المطالبة الا اذا وجد السبيل الى المطلوب . والامى منسوب الى الام وسمى النبى عليه السلام اميا لانه كان لا يكتب وذلك لان الام اصل الشىء فمن لا يكتب فقد بقى على اصل حاله فى ان لا يكتب . وقيل لانه عليه السلام نسب الى مكة وهى ام القرى { ويقولن على الله الكذب } بادعئهم ان ذلك فى كتابهم { وهم يعلمون } انهم كاذبون مفترون على الله وذلك لانهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل فى التوراة فى حقهم حرمة فقد كذبوا فى ذلك على الله فان اداء الامانة واجب فى الاديان كلها وحبس مال الغير والاضرار به والخيانة اليه حرام(2/216)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
{ بلى } اثبات لما نفوه اى بلى عليهم فى الاميين سبيل { من اوفى بعهده } الضمير راجع الى من اى من أتم بعهد الوافى أو بعهد الله الذى عهده اليهم فى التوراة واخذ ميثاقهم عليه من الايمان بمحمد واداء الامانة { واتقى } اى الشرك والخيانة وجواب الشرط وهو من قوله { فان الله يحب المتقين } عن الغدر والخيانة ونقض العهد اى فان الله يحبه فقام عموم المتقين مقام الضمير الراجع من الجزاء الى من يعنى التقوى تعم وفاء ما عاهدوا الله عليه من الايمان بمحمد عليه السلام وبما جاء به مما يتعلق بتكميل القوة النظرية والعملية
ودلت الاية على تعظيم امر الوفاء بالعهد وذلك لان الطاعات مقصورة علىمرين التعظيم لامر الله تعالى والشفقة على خلق الله ولما امر الله به كان الوفاء به تعظيما لامر الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اربع من كن فيه منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها اذا ائتمن » اى جعل امينا ووضع عنده امانه « خان واذا حدث كذب واذا عاهد غدر » اى ترك الوفاء « واذا خاصم فجر » اى مال عن الحق قال صاحب التحفة وليس الغرض ان آية المنافق محصورة فيها بل كل من ابطن خلاف ما اظهر فهو من المنافقين فصدور العدد من حير الانام يكون باعتبار اقتضاء المقام والوفاء بالعهد كما يمكن ان يكون فى حق الغير يمكن ايضا فى حق النفس لان الوافى بعهد النفس هو الآتى بالطاعات والتارك للمحرمات لانه عند ذلك تفوز النفس لان الوافى بعهد النفس هو الآتى بالطاعات والتارك للمحرمات لانه عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب
فعلى العاقل ان يوفى بعهده فى السراء والضراء ويجتهد فى محافظته - حكى - ان شابا عقد مع الله عقدا ان لا ينظر الى شىء من مستحسنات الدنيا فمر يوما بسوق فراى منطقة مرصعة بالدر والجوهر فنظر اليها فاعجبته ثم مضى عنها وقد نظر اليه صاحبها فلما ذهب عنه افتقدها فلم يجدها فوثب مسرعا حتى تعلق بالشاب وقال يا عيار انت سارق منطقتى فحمله الى السلطان فلما نظر اليه قال ليس هذا من اهل السرقات فقال بل هو سارق منطقتى وصفتها كيت كيت فامر بتفتيشه فوجدوها على وسطه فقال له السلطان يا فتى أما تستحى تلبس لباس الاخيار وتعمل عمل الفجار فنظر الفتى الى المنطقة فقال مولاى الاقالة الاقالة الهى لا اعود الى مثلها فأمر السلطان ان يضرب فجر ليضربوه فاذاهم بصوت يسمع ولا يرىيقول دعوه ولا تضربوه انما اردنا تأديبه فوثب السلطان الى الفتى وقبله بين عينيه ثم قال اخبرنى عن قصتك فاخبره فتعجب من ذلك ثم قرأ(2/217)
{ والموفون بعهدهم اذا عاهدوا } فقال صاحب المنطقة سالتك باله ألا ما قبلتها منى واجعلنى فى حل فقال اليك عنى ليس هذا من صنعتك انما الصنع لصاحب الصنع ولا مؤثر فى الوجود غير الحق وليس فى الدار غيره ديار
جه خوش كفت بهلول فرخنده خوى ... جو بكذشت بر عارفى جنك جوى
كر اين مدعى دوست بشناختى ... به بيكار دشمن نبرداختى
كر از هستىء حق خبر داشتى ... همه خلق را نيست بنداشتى
فاذا وقفت على هذالخبر فقم فى تربية نفسك الى ان تصل الى الهوية المطلقة مميطا لثام الاثنينية مشاهدا وجود الحق فى كل شىء رزقنا الله واياكم مشاهدته(2/218)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{ ان الذين يشترون } اى يستبدولن ويأخذون { بعهد الله } اى بدل ما عاهدوا عليه من الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والوفاء بالامانات { وايمانهم } وبما حلفوا به من قولهم لنؤمنن به ولننصرنه { ثمنا قليلا } هو حطام الدنيا { اولئك } الموصوفون بتلك الصفات القبيحة { لاخلاق } لا نصيب { لهم فى الآخرة } ولا فى نعيمها { ولا يكلمهم الله } وهو كناية عن شدة غضبه وسخطه نعوذ بالله من ذلك { ولا ينظر اليهم يوم القيامة } وهو مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم { ولا يزكيهم } اى لا يثنى عليهم كما يثنى على اوليائه مثل ثناء المزكى للشاهد والتزكية من الله تعالى قد تكون على ألسنة الملائكة كقوله تعالى { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } وقد تكون بغير واسطة اما فى الدنيا فكقوله تعالى { التائبون العابدون } واما فى الآخرو فكقوله تعالى { سلام قولا من رب رحيم } { ولهم عذاب أليم } على ما فعلو من المعاصى
والآية نزلت فى اليهود الذين حرفوا التوارة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واخذوا الرشوة على ذلك { وان منهم } اى من اليهود المحرفين { لفريقا } ككعب بن الاشرف ومالك بن الصيف واضرا بهما { يلوون } من اللى وهو الفتل { ألسنتهم بالكتاب } اى يفتلونها بقراءته فيميلونها من المنزل الى المحرف { لتحسبوه } اى المحرف المدلول عليه يلوون { من الكتاب } اى من جملته { وما هو من الكتاب } حال من الضمير المنصوب اى والحال انه ليس منه فى نفس الامر وفى اعتقادهم ايضا { ويقولون } مع ما ذكر من اللى والتحريف على طريقة التصريح لا بالتوراة والتعريض { هو } اى المحرف { من عند الله } اى منزل من عند اله { وما هو من عند الله } اى والحال انه ليس من عنده تعالى فى اعتقادهم ايضا { ويقولن على الكذب وهم يعملون } انهم كاذبون ومفترون على الله وهو تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله تعالى والتعمد فيه
وعن ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الاشرف وغيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب
والاشارة فى الآيتين { ان الذين يشترون بعهد الله } الذى عاهدهم الله به يوم الميثاق فى التوحيد وطلب الوحدة { وايمانهم } التى يحلفون بها ههنا { ثمنا قليلا } من متاع الدنيا وزخارفها مما يلائم الحواس الخمس والصفات النفسانية { اولئك لاخلاق لهم فى الآخرة } الروحانية من نسيم روائح الاخلاق الربانية { ولا يكلمهم الله } تقريبا وتكريما وتفهيما { ولا ينظر اليهم يوم القيامة } بنظر العناية والرحمة فيرحمهم ويزكيهم عن الصفات التى بها يستحقون دركات جهنم { ولا يزكيهم } عن الصفات الذميمة التى هى وقدود النار بالنار الى الابد ولا يتخلصون منها ابدا { ولهم عذاب اليم } فيما لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم { وان منهم } اى من مدعى اهل المعرفة { لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } اى بكلمات اهل المعرفة { لتحسبوه } من المعرفة { ما هو من الكتاب } الذى كتب اله فى قلوب العارفين { ويقولون هو من عند الله } يعنى من العلم اللدنى { وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب } باظهار الدعاوى عند فقدان المعانى { وهم يعلمون } ولا يعملون انهم يقولون ما لا يفعلون : قال اسعدى قدس سره(2/219)
كرا جامه باكست وسيرت بليد ... در دور خش را نبايد كليد
يعنى يدخل جهنم من قبل ان يحاسب على ما فعله لان مآله الى النار والمحاسبة وان كانت نوعا من التعذيب الا ان عذاب جهنم اشد منها
اكر مردى ازمردىء خود مكوى ... نه هر شهسوارى بدر كوى
يعنى كل عابد لا يخلص ايمانه فى عاقبته بل من المتعيشين بالصلاح من يموت على الطلاح والعياذ بالله
كسى سر بزركى نباشد بجيز ... كدو سر بزركست وبى مغز نيز
ميفر از كردن بدستار وريش ... كه دستار ينبه است وسبلت حشيش
اى النبات اليابس . فيا ارباب الدعاوى ابن المعانى . ويا ارباب المعرفة ابن المحبة اين الطاعة - روى - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة المعراج نساء بيد كل واحدة منهن مقراض تقرض صدرها وتقطعه قطعة فسأل جبريل عليه السلام عنهن فقال هن اللاتى ولدن اولادا من الزنى مع وجود ازواجهن واولادهن قال الشيخ الصفى قدس سره ان الذين يعون المعرفة وتمكنهم فى مقام الارشاد ويراؤن جلبا لحطام الدنيا عذابهم اشد من عذاب هؤلاء النساء سبعين مرة فمن جعل اللقرآن وسيلةلجلب زخارف الدنيا اولى منه من يجلبها بالمعازف وآلات اللهو مثل اذا كان فى محل رفيع خبز لا تصل اليه اليد وليس هناك غير مصحف وطنبور فالاولى ان يجعل الطنبور تحت القدم للوصول دون المصحف وهكذا فيما نحن فيه : قيل
دين فروشى مايه كردن هست خسران مبين ... سود مند آنكس كه دينا صرف كرد ودين خربد
فلو نظرت الى شيوخ الزمان وجدت اكثرهم مدعين مالم يتحققوا به يضلون الناس باكاذيب ويروون اساليب ليس فيها اثر من المعانى والحقيقة
فعلى العاقل ان لا يغتر بزاهرهم ولا يخرج عن المنهاج مقتفيا بآثارهم بل يجتهد الى ان يميز بين الحق والباطل والعارف والجاهل وماذا بعد الحق الا الضلال عصمنا الله واياكم من الزيغ وسيآت الاعمال آمين يا متعال(2/220)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{ ما كان لبشر } بيان لافترائهم على الانبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجران ان عيسى عليه السلام امرنا ان نتخذه ربا حاشاه عليه السلام
وجاء رجل من المسلمين فقال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك فقال « معاذ الله ان تعبد غير الله او ان نأمر بعبادةغير الله » اى ما صح وما استقام لاحد سواء كان بشرا اولا وانما قيل لبسر اشعارا بعلة الحكم فان البشرية منافية للامر الذى اسنده الكفرة اليهم { ان يؤتيه الله الكتاب } الناطق بالحق الآمر بالتوحيد الناهى عن الاشراك كالتوارة والانجيل والقرآن { والحكم } اى الفهم والعلم { والنبوة } وايتاء الكتاب يستلزم ايتاء الحكم وهو الحكمة المعبر عنها باتقان العلم والعمل فلذك قدم الكتاب على الحكم لان المراد بالحكم هو العلم بالشريعة وفهم مقالد الكتاب واحكامه فان اهل اللغة والتفسير اتفقوا على ان هذا الحكم هوالعلم قال تعالى { وآتيناه الحكم صبيا } يعنى العلم والفهم . فالكتاب السماوى ينزل اولا ثم انه يحصل فى عقل النبى فهم ذلك الكتاب واسراره وبعدما حصل فهم الكتاب يبلغ النبى ذلك المفهوم الى الخلق وهو النبوة والاخبار فما احسن هذا الترتيب { ثم يقول } ذلك البشر بعدما شرفه تعالى بما ذكر من التشريفات وعرفه الحق واطلعه على شؤونه العالية { للناس كونوا عبادا } كائنين { لى من دون الله } من متعلق بلفظ عبادا لما فيه من معنى الفعل { ولكن } يقول لهم { كونوا ربانيين } الربانى منسوب الىلرب بزيادة الالف والنون كاللحيانى اذا وصف بطول اللحية ففيه دلالة على الكمال فى هذه الصفة واذا نسب الى اللحية من غير قصد المبالغة يقال لحوى فالربانى هو الكامل فى العلم والعمل الشديد التمسك بطاعة الله تعالى ودينه كما يقال رجل آلهى اذا كان مقبلا على معرفة الاله وطاعته { بما كنتم تعلمون الكتاب ولما كنتم تدرسون } اى بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته اى قراءته وتقديم التعليم على الدراسة لزيادة شرفه عليها(2/221)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{ ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا } بالنصب عطف على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد معنى النفى فى قوله تعالى { ما كان لبشر } ان يستنبئه اله تعالى ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين اربابا كما قال قريش والصابئون الملائكة بنات الله واليهود والنصارى عزيز ابن الله والمسيح ابن الله { أيأمركم بالكفر بعد اذ أنتم مسلمون } انكار لما نفى عن البشر والضمير له يعنى أيأمركم بعبادة الملائكة والسجدة للانبياء بعد كونكم مخلصين بالتوحيد لله فانه لو امركم بذلك لكفر ونزع منه النبوة والايمان ومن اتاه اللع الكتاب والحكم والنبوة يكون اعلم الناس وافضلهم فيمنعه ذلك من ادعاء الالوهية فانه تعالى لا يؤتى الوحى والكتاب الا نفوسا طاهرة وارواحا طيبة فلا يجمع بشر بين النبوة وبين دعاء الخلق الى عبادة غير الله واعلم ان العلم والدراسة جعلا سببا للربانية التى هى قوة التمسك بطاعة الله وكفى هو دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكدّ روحه فى جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة الى العمل فكان مثل غرس شجرة حسناء تؤنقه اى تعجبه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها فالعمل بغير العلم والعلم بغير العمل لا يثبت كل منهما بانفراده النسبة الى الرب فعلم ان العالم الذى لا يعمل بعلمه منقطع النسبة الا للتمسك بالعمل المبنى على العلم
قال على رضى الله عنه قصم ظهرى رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك لان العالم ينفر الناس عن العلم بتهتكه والجاهل يرغب الناس فى الجهل بتنسكه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع » فعلى المعلم والمتعلم ان يطلب بعلمه مرضاة الله وبعمله الربانية فمن اشتغل بالتعليم والتعلم لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله
والاشارة ان من دأب اهل الحقيقة تربية الاتباع والمريدين ليكونا ربانين متخلقين باخلاق الربانية العاملين بما يعملون من الكتاب وبما كانوا يدرسون من العلوم ولا يقنعون على دراستها ولا يفترون بمقالات اخذوها من افواه القوم وبعض مدعى هذا الشان الذين غلبت عليهم اهواؤهم وصفات بشريتهم يدعون الشيخوخة من رعونة النفس قبل اوانها ويخدعون الخلق بانواع الحيل ويستتبعون بعض الجهلة ويصيدونهم بكلمات بان يمنعوهم من صحبة اهل الحق ومشايخ الطريقة ويأمرهم بالتسليم والرضى فيما يعاملونهم ولا يعرفون غيرهم فيعبدونهم من دون الله كما هو دأب اكثر مشايخ زماننا هذا فانه ليس من دأب من يؤتى الكتاب والحكم والنبوة : قال السعدى فى ذم امثال هؤلاء المشايخ
دمام بشوند جون كر به روى ... طمع كرده در صيد موشان كوى
رياضت كش ازبهر نام وغرور ... كه طبل تهى را رود بانك دور
يعنى يصل صوت الطبل الى البعيد ويسمع من البعيد لكونه خاليا فكذلك امثالهم يشتهر ذكرهم بين الناس وليس ذلك الا لكونهم خالين عن الحقيقة اذ المرء الصادق فى طلبه والواصل الى ربه يحب الخمول والنفرة عن الخلق فشأنه اتجنب من كل شىء سوى الله دون تشهير نفسه وجلب المال من ايدى الناس بل من الناس من يرغب عنه وهو مرغوب
كسى راكه نزديك ظنت بداوست ... جه دانى كه صاحب ولا يت خود اوست
در معرفت بر كسانيست باز ... كه درهاست برروى ايشان فرار(2/222)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{ واذ اخذ الله ميثاق النبيين } قال قوم ان الله تعالى اخذ الميثاق من النبيين خاصة ان يصدق بعضهم بعضا واخذ العهد على كل نبى ان يؤمن بمن يأتى بعده من الانبياء وينصره ان ادركه وان لم يدركه ان يأمر قومه بالايمان به وبنصرته ان ادركوه فأخذ الميثاق من موسى ان يؤمن بعيسى ومن عيسى ان يؤمن بمحمد عليه السلام واذا كان هذا حكم الانبياء كان الامم بذلك اولى واحرى اى اذكر يا محمد وقت اخذ الله ميثاق الانبياء واممهم { لما آتيتكم } اللام موطئة لان اخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما مبتدأ موصولة وآتيتكم صلتها والعابد محذوف تقديره للذى آتيناكموه { من كتاب وحكمة } وهى بيان احكام الحلال والحرام والحدود حال من الموصول { ثم جاءكم رسول } عطف على الصلة والمعطوف على الصلة صلة فلا بد من الرابط فالتقدير رسول به { مصدق لما معكم } من الكتاب { لتؤمنن به ولتنصرنه } جواب قسم مقدر وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ اى والله لتصدقنه برسالته وتنصرنه على اعدائه لاظهار دين الحق
فان قيل ما وجه قوله تعالى { ثم جاءكم رسول } والرسول لا يجيىء الى النبيين وانما يجيىء الى الامم
والجواب ان حملنا قوله { واذ اخذ الله ميثاق النبيين } على اخذ ميثاق اممهم فقد اندفع الاشكال وان حملناه على اخذ ميثاق النبيين انفسهم كان معنى قوله { ثم جاءكم } اى جاء فى زمانك { قال } اى الله تعالى بعدما اخذ الميثاق { أاقررتم } اى بالايمان والنصر له والاستفهام للتقرير والتأكيد عليهم لاستحالة حقيقة الاستفهام فى حقه تعالى { واخذتم على ذلكم } الميثاق { اصرى } اى عقدى الذى عقدته عليكم والاصر الثقل الذى يلحق الانسان لاجل ما يلازمه من العلم والاصر ههنا العهد الثقيل لانه ثقل على صاحبه من حيث انه يمنع عن مخالفته اياه { قالوا اقررنا } بذلك او اكتفى به عن ذكر اخذهم الاصر { قال } سبحانه وتعالى { فاشهدوا } ايها الانبياء والامم باقرار بعضكم على بعض { وانا معكم من الشاهدين } اى وانا ايضا شاهد على اقراركم ذلك مصاحب لكم وادخال مع المخاطبين اما انهم المباشرون للشهادة حقيقة والمقصود منه التأكيد والتحذير من الرجوع اذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض(2/223)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
ى } اى اعرض عما ذكر { بعد ذلك } الميثاق والتوكيد بالقرار والشهادة { فاولئك هم الفاسقون } المتمردون الخالرجون عن الطاعة من الكفرة فان الفاسق من كل طائفة من كان متجاوزا عن الحد
قال فى التيسير والتولى لا يقع من الانبياء ولا يوصفون بالفسق لكن له وجهان . احدهما ان الميثاق كان على الانبياء واممهم على التبعية والتولى من الامم خاصة . والثانى ان العصمة لا تزيل المحنة انتهى وهذا الميثاق لما كان مذكورا فى كتبهم وهم كانوا عارفين لذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد عليه السلام فى النبوة فلم يبق لكفرهم سبب الا مجر العداوة والحسد فصاروا كابليس الذى دعاه الحسد الى الكفر فاعلمهم الله تعالى انهم متى كانوا طالبين دينا غير دين الله ومعبودا سوى الله بقوله تعالى(2/224)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{ أفغير دين الله يبغون } عطف على مقدر أى يتولون فيبغون غير دين الله ويطلبونه { وله اسلم } اى اخلص وانقاد { من فى السموات والارض } اى اهلها { طوعا } وهم الموحدون { وكرها } اى باباء وهم الجاهدون بما فيهم من آثار الصنع ودلائل الحدوث وتصريفهم كيف يشاء الى صحة ومرض وغنى وفقر وسرور وحزن وسائر الاحوال فلا يمكنهم دفع قضائه وقدره { واليه يرجعون } اى من فيهما والمراد ان من خالفه فى العاجل فسيكون مرجعه اليه الى حيث لا يملك الضر والنفع سواه وهذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق
فعلى العاقل ان يطيع ربه ولا يعصيه بنقص ما عهد اليه يوم الميثاق . فعهد الله مع الانبياء والاولياء والمؤمنين التوحيد واقامة الدين وعدم التفرق فيه وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق الى الطاعة وتخصيص العبادة بالله فالله تعالى لا يطلب من العبد الا الصدق فى العبودية والقيام بحقوق الربوبية
قال الشيخ الشاذلى قدس سره متى رزقك الله الطاعة والفناء به عنها فقد اسبغ عليك نعمه ظاهرة اذ أراح ظهرك من مخالفة امره . وباطنه اذ رزقك الاستسلام لقهره وهذا هو مطلب الحق منك قيل لابراهيم ابن ادهم قدس سره لو جلست لنا فى المسجد حتى نسمع منك شيأ فقال انى مشغول عنكم باربعة اشياء فلو تفرغت منها لجلست معكم قيل من هى يا ابا اسحق قال . اولها انى تذكرت حين اخذ الله الميثاق على آدم فقال هؤلاء الى الجنة ولا ابالى وهؤلاء الى النار ولا ابالى فلم ادر من أى الفريقين كنت . الثانىة انى تفكرت ان الولد اذا قضى الله سبحانه بخلقه فى بطن امه ونفخ فيه الروح فيقول الملك الموكل به يارب أشقى او سعيد فلم ادر كيف خرج جوابى فى ذلك الوقت . الثالث حين ينزل ملك الموت فاذا اراد ان يقبض الروح فيقول يا رب أقبضها مع الاسلام او مع الكفر فلا ادرى كيف يخرج جوابى فى ذلك الوقت . الرابع تفكرت فى قوله { وامتازوا اليوم ايها المجرمون } فلا ادرى من أى الفرين اكون ففى هذا شغل شغلنى عن الجلوس لكم والحديث معكم ففى هذا الاشارة الى ان العبد مع كونه مستسلما لقضاء الله لا بد وان يراعى وظيفة التكليف اذ الخير او الشر مقضى فى حقه ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » فليجاهد العاقل فى تزكية نفسه اولا ثم الوصية الى عباد الله ولا يكلف المرء الا بقدر وسعه والناس فى المراتب مختلفون فطوبى لمن وصل الى اعلى المطالب
بقذر حوصله خويش دانه جيند مرغ بصعوه نتوان داد طمعه شهباز ... وقيل للشيخ الصفى قدس سره اذا قطع الطالب المنازل فهل يبقى بعد ذلك مرتبة لم يصل اليها بعد قال بلى يبقى علم انه هل كان مقبر لا للرب تعالى اولا
وفى القشيرى ما حاصله ان الولى فى الحال يجوز ان يتغير حاله فى المآل ويجوز ان يكون من جملة كرامات الولى ان يعلم انه مأمون العاقبة عصمنا الله واياكم بحسن الخاتمة
همه عالم همى كويند هر آن ... كه يارب عاقبت محمود كردان(2/225)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{ قل آمنا بالله } امر للرسول صلى الله عليه وسلم بان يخبر عن نفسه بالايمان بما ذرك وجمع الضمير فى آمنا لاظهار حلالة قدرة صلى الله عليه وسلم ورفعة محله بامره بان يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك { وما انزل علينا } وهو القرآن والنزول كما يعدى بالى لانتهائه الى الرسل يعدى بعلى لانه من فوق { وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط } من الصحف . والاسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدو يعقوب عليه السلام وابناؤه الاثنا عشر وذراريهم فانهم حفدة ابراهيم عليه السلام { وما اوتى موسى وعيسى } من التوراة والانجيل وسائر المعجزات الظاهرة بايديهما وتخصيصهما بالذكر لما ان الكلام مع اليهود والنصارى { والنبيون } اى وما اوتى النبيون من المذكورين وغيرهم { منربهم } من الكتب والمعجزات { لا نفرق بين احد منهم } كداب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصحة كل منهم وبحقية ما انزل اليهم فى زماهم قال الامام فى تفسيره اختلف العلماء فى كيفية الايمان بالانبياء المتقدمين الذين نسخت شرائعهم وحقيقة الخلاف ان شرعه لما صار منسوخا فهل تصير نبوته منسوخة فمن قال ان نبوته منسوخة قال نؤمن بانهم كانوا انبياء ورسلا ولا نؤمن بانهم انبياء ورسل فى الحال ومن قال ان نسخ الشريعة لا يقتضى نسخ النبوة قال نؤمن بانهم انبياء ورسل فى الحال ون قال ان نسخ الشريعة لا يقتضى نسخ النبوة قال نؤمن بانهم انبياء ورسل فى الحال فتنبه لهذا الموضع { ونحن له مسلمون } اى منقادون على ان يكون الاسلام بمعنى الاستسلام وهو الانقياد او مخلصون له تعالى انفسنا لا نجعل له شريكا فيها على ان يكون من السلامة . وفيه تعريض بايمان اهل الكتاب فانه بمعزل عن ذلك(2/226)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
{ ومن يبتغ غير الاسلام } اى غير التوحيد والنقياد لحك الله تعالى كداب المشركين صريحا والمدعين للتوحيد مع اشراكهم كاهل الكتابين { دينا } ينتحل اليه وهو نصل علىنه مفعول ليبتغ وغير الاسلام حال منه لانه فى الالصل صفة له فلما قدم انتصب حالا { فلن يقبل } ذلك { منه } ابدا بل يرد اشدرد واقبحه { وهو فى الىخر ن الخاسرين } اى الواقعين فى الخسران بحرمان الثواب وحصول العقاب ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته فى الديا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة فى الدنيا فى تقرير ذلك الدين الباطل . والمعنى ان المعرض عن الاسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع فى الخسران بابطال الفطرو السليمة التى فطر الناس عليها
واعلم ان ظاهر الآية يدل على ان الايمان هو الاسلام اذ لو كان غير الاسلام لوجب ان لا يكون الايمان مقبولا لقوله تعالى { ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه } والجواب انه ينفى قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره(2/227)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{ كيف يهدى الله } الى الحق { قوما كفروا بعد ايمانهم } قيل هم عشرة رهط ارتدوا بعدما آمنوا ولحقوا بمكة وهو استبعاد لان يهدى قوما هم معاندون للحق مكابرون فيه غير خاضعين بان يخلق فيهم الاهتداء ويوفقهم لا كتساب الاهتادؤ وانما يخلق الاهتداء ويوفق على كسب ذلك ويقدر هم عليه اذا كانوا خاضعين متواضعين للحق راغبين فيه فالمراد من الهداية خلق الاهتداء وقد جرت سنة الله فى دار التكليف على ان كل فعل يقصد العبد الى تحصيله فان الله تعالى يحلقه عقب قصد العبد فكأنه تعالى قال كيق يخلق فيهم المعرفة والاهتداء وهو فصدوا تحصيل الكفر وارادوه { وشهدوا ان الرسول حق } اى صادق فيما يقول { وجاءهم البينات } اى الشاهد من القرآن على صدقه . قوله وشهدوا عطف على ايمانهم باعتبار انحلاله الى جملة فعليه فانه فى قوة ان يقال بعد ان آمنوا وبعد ان شهدوا وهو دليل على ان الاقرار باللسان خارج عن حقيقة الايمان ضرورة ان المعطوف مغاير للمعطوف عليه { والله لا يهدى القوم الظالمين } اى الذيمن زظلموا انفسهم بالاخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الايمان فكيف من جاء الحق وعرفه ثم اعرض عنه فان قيل ظاهر الآية يقتضى ان من كفر بعد اسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما لا يهديه الله وقد رأينا كثيرا من المرتدين اسلموا وهداهم وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم فالجواب ان معناه لا يهديهم ما داموا مقيمين على الرغبة فى الكفر وفى الثبات عليه ولا يقبلون على الاسلام واما اذا تحروا اصابة الحق والهتداء بالادلة المنصوبة فحينئذ يهديهم الله بخلق الاهتداء فيهم(2/228)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
{ اولئك } المذكورون باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة { جزاؤهم ان عليهم لعنة الله } وهم ابعاده من الجنة وانزال العقوبة والعذاب { والملائكة } ولعنهم بالقول كالناس { والناس اجمعين } والمراد بالناس المؤمنون لانه لو اريد به جميع الناس لزم ان يلعن كل واحد منهم جميع بنار على ان جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد فى نفسه انه ليس بمبطل ولا كافر فاذا لعن الكافر وكان هو فى علم الله كافرا فقد لعن نفسه وان كان لا يعلم ذلك(2/229)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
{ خالدين فيها } خالمن الضمير فى عليهم اى فى اللعنة والعقوبة ومعنى الخلود فى اللعن انهم يوم القيامة لا تزال تعلنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم فى النار ولا يخلو شىء من احوالهم من اللعنة { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } الانظار التأخير اى لا يجعل عذابهم اخف ولا يؤخر العقاب من وقت الى وقت فان العذاب الملحق بالكفار مضرة خالصة من شوائب المنافع دائمة غير منقطعة نعوذ بالله من ذلك وما يؤدى اليه(2/230)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{ الا الذين تابوا من بعد ذلك } اى من بعد الارتداد { واصلحوا } اى ما افسدوا { فان الله غفور رحيم } فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم وعطف قوله { واصلحوا } على قوله { الا الذين تابوا } يدل على ان التوبة وحدها وهى الندم على ما مضى من الارتداد والعزم على تركه فى المستقبل لا تكفى بالمعاملات وهذا الندم والتوبة انما يحصل لمن لم ترسخ فيه بهد هيئة استيلاء النفس الامارة على قلبه ولم تصر رينا وبقى فيه من وراء حجاب صفات النفس مسكةمن نور استعداده فيتدارركه الله برحمته وتوفيقه فيندم ويواظب على الرياضات من باب التزكية والتصفية - يحكى - عن السرى السقطى قدس سره انه قال قلت يوما عجبت من ضعيف عصى قويا فلما كان الغداة وصليت الغداة اذا انا بشاب قد وافى وخلفه ركبان على دواب بين يديه غلمان وهو راكب على دابة فنزل وقال ايكم السرى السقطى فاومأ جلسائى الى فسلم على وجلس وقال سمعتك تقول عجبت من ضعيف عصى قويا فما اردت به فقلت ما ضعيف اضعف من ابن آدم لا قوى أقوى من الله تعالى وقد تعرض ابن آدم مع ضعفه الى معصية الله قال فبكى ثم قال يا سرى هل يقبل ربك غريقا مثلى قلت ومن ينقذ الغرقى الا الله تعالى قال يا سرى ان على مظالم كثيرة كيف اصنع قال اذا صححت الانقطاع الى الله ارضى عنك الخصوم بلغنا عن النبى صلى الله عليه وسلم « اذا كان يوم القيامة واجتمع الخصوم على ولى الله تقول الملائكة لهم لا تروّعوا ولى الله فان الحق اليوم على الله فيهب الله لهم مقامات عالية بدل حقوقهم فيتجاوزون عن الولى » قال فيكى ثم قال صف لى الطريق الى الله فقلت ان كنت تريد طريق المقتصدين فعليك بالصيام والقيام وترك الآثام وان كنت تريد طريق الاولياء فاقطع العلائق واتصل بخدمة الخالق فعلى السالك ان يتوب من جميع الآثام ولا يشغل سره سوى مشاهدة الله العلام
بهشت تن اسانى آنكه خورى ... كه بردوزخ نيستى بكذرى
يعنى لا تصل الى الحضور الباقى والحياة الابدية الا بافناء وجودك فى وجود الحق وتبديل الاخلاق الذميمة بالاخلاق الحميدة فاذا جاوزت هذا الصراط الادق وصلت الى الجناب المطلق وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما انه قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عبدالله كن فى الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل » أى لا تركن اليها ولا تتخذها وطنا ولا نحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب فى غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذى يريد الذهاب الى اهله(2/231)
« وعد نفسك من اصحاب القبور » وفيه اشارة الى الفناء عن اضافة الوجود الى نفسه بل الوجود كله لله تعالى فالبدن للروح بمنزلة القبر للميت فكما ان الميت فى قبره يسلم لامر مولاه ولا يتعرض الى شىء اصلا كذلك ينبغى ان لا يتعرض العبد لشىء من الآفات البدنية والقلبية بل يدور حيث اوقفه الله من الفطرة الاصلية والشهود التام وقل من سلم من هذه الآفات الا ان العبد بالتوبة يتدراك ما فات فاياك ان ترخص لنفسك فى فعل شر فاذا قد فتحت بابه فاول الشر الخطرة كما ان اول السيل قطره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما بال اقوام يشرفون المسرفين ويستخفون بالعابدين ويعملون بالقرآن ما وافق اهواءهم وما خالف اهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض يسعون فيما يدرك من القدر المحتوم والرزق المقسوم والاجل المكتوب ول يسعوم فيما لا يدرك الا بالسعى من الاجر الموفور والسعى المشكور والتجارة التى لا تبور » فاذا وقفت على هذا جعلت سعيك للآخرة لا للدنيا بل لم تطلب من الله الا الله رزقنا الله واياكم ذلك آمين(2/232)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{ ان الذين } كاليهود { كفروا } بعيسى والانجيل { بعد ايمانهم } بموسى والتوراة { ثم ازدادا كفرا } حيث كفروا بمحمد عليه السلام والقرآن او كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالاصرار عليه والطعن فيه والصد عن الايمان ونقض الميثاق { لن تقبل توبتهم } لانهم لا يتبون الا عند اشرافهم على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا فى شأنهم وابرازا لحالهم فى صورة حال الآيسين من الرحمة او لان توبتهم لا تكون الا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا وذلك لم تدخل فيه الفاء { واولئك هم الضالون } على سيبل الكمال فهو من قبيل حصر الكمال والا فكل كافر ضال سوآء كفر بعد الايمان او كان كافرا فى الاصل ومن جملة كمالهم فى الضلال ثباتهم عليه وعدم كون الاهتداء متوقعا منهم(2/233)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
{ ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل } لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية دخلت الفاء ههنا ايذانا بسبية المبتدأ لخبره { من احدهم } فدية { ملء الارض ذهبا } تمييز اى ما يملؤها من شرقها الى غربها { ولو افتدى به } اى بملىء الارض ذهبا
فان قيل نفى قبول الافتداء يوهم ان الكافر يملك يوم القيامة من الذهب ما يفتدى به وهو لا يملك فيه تقيرا ولا قطميرا فضلا عن ان يملك ملىء الارض ذهبا
قلنا الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية من اعز الاشياء وكونه ملىء الارض كناية عن كونه فى غاية الكثرة والتقدير لو ان الكافر يوم القيامة قدر على أعز الاشياء بالغا الى غاية الكثرة وقدر على بذله لنيل اعز المطالب لا يقدر على ان يتوسل بذلك الى تخليص نفسه من عذاب الله تعالى المقصود بيان انهم آيسون من تخليص انفسهم من العقاب { اولئك } اشارة الى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات الشنيعة المذكورة { لهم عذاب اليم } اى مؤلم { وما لهم من ناصرين } فى دفع العذاب عنهم او فى تخفيفه ومن مزيدة للاستغراق وصيغة الجمع لمراعاة الضمير اى ليس لواحد منهم ناصر واحد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقول الله لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الارض من شىء أكنت تفدى به فيقول نعم فيقول اردت منك اهون من هذا وانت فى صلب آدم ان لا تشرك بى شيأ فابيت الا ان تشرك بى »
قال الامام اعلم ان الكاف على ثلاثة اقسام احدها الذى يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذى ذكره الله فى قوله { الا الذين تابوا واصلحوا فان الله غفور رحيم } وثانيها الذى يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهوالذى ذكره الله تعالى فى الآية المتقدمة وقال { لن تقبل توبتهم } وثالثها الذى يموت على الكفرمن غير توبة البتة وهو المذكور فى هذه الآية { ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار } الآية انتهى وهم الذين رسخت هيئة استيلاء النفوس الامارة على قلوبهم وتمكنت وصارت رينا وتناهوا فى الشر والغى وتمادوا فى العناد وابغى فلن يقبل من احدهم ملىء الارض اذا لا يقبل هناك الا الامور الورانية الباقية لان الآخرة هى عالم النور والبقاء فلا وقع ولا خطر وللامور الظلمانية الفانية وهل كان سبب كفرهم احتجابهم الا محبة هذه العوائق الفانية فكيف تكون فداءهم وسبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وهى بعينها سب هلاكهم وبعدهم وخسرانهم النفس والاعراض عن الحق
تراشهوت وكبر وحرص وحسد ... جوخون درركند وجوجان درجسد
يعنى كما ان الدم سارى فى العروق وجارى فيها وكذا الروح فى الجسد فكذلك هذه الصفات الذميمة محيطة بك(2/234)
كراين دشمنان تقويت يافتند ... سر ازحكم ورى توبر تافتند
هوا وهوس را نماند ستيز ... جوبينند سريجه عقل تيز
يعنى اذا كان المرء تابعا للشرع وقضية العقل يكون غالبا على هواه فلا تجادله الصفات السبعية الشيطانية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اخوف ما اخاف على امتى اتباع الهوى وطو الامل فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق واما طول الامل فينسى الآخرة »
قال ذو النون المصرى مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الاصابة مخالفة النفس والهوى ومخالفتها ترك شهواتها
قال جعفر بن نصير دفع الى الجنيد درهما فقال اشتربه التين الوزيرى فاشتريته فلما افطر اخذ واحدة ووضعها فى فيه ثم القاها وبكى وقال احمله فقلت له فى ذلك فقال هتف فى قلبى أما تستحى شهوة تركتها من اجله تعالى ثم تعود اليها
قال ابو سليمان الدارانى رحمه الله من احسن فى ليلة كوفى فى نهاره ومناحسن فى نهاره كوفى فى ليله ومنصدق فى ترك شهوة كفى مؤرنتها والله اكرم من ان يعذب قلبا ترك شهوة لاجله
واعلم ان النفس عين لطيفة هى معدن الاخلاق الذميمة مودعة بين جنبى الانسان اى جميع جسده وهى امارة بالسوء وهى مجبولة على صد الورحانية المخلوقة من الملكوت الاعلى فانهم يأمرون بالخير وينهون عن الشر وهى مخلوقة من الملكوت السفى كالشياطين وهم لا يأمرون الا بالشر ومنطبعهم التمرد والاباء والاستكبار ولهذا تأبى النفس من قبول اللموعظة وتظهر التمرد كما قال الشيخ فى قصيدة البردة
فان امارتى بالسوء ما اتعظت ... من جهلها بنذير الشيب والهرم
يعنى ان النفس الامارة بالسوء ما اقبلت الوعظ من نذير الشيب فتمادت فى غواية الجهل بعد الهرم وما كبحت عنان جماح الشهوة بايدى الندم وقد خلق الله النفس على صورة جهنم وخلق بحسب كل دركة فيها صفة لها وهى باب من جهنم يدخل فيها من هذا الباب الى دركة من دركاتها السبع وهى سبع صفات الكبر والحرص والشهوة والحسد والغضب والبخل والحقد فمن زكى نفسه عن هذه الصفات فقد عبر عن هذه الدركات السفلية ووصل الى درجات الجنان العلوية كما قال الله تعالى { قد افلح من زكاها } ومن لم يزك نفسه عن هذه الصفات بقى فى دركات جهنم خائبا خاسرا كما قال تعالى { وقد خاب من دساها } عصمنا الله واياكم من كيد النفس الامارة وشر الشيطان واصلح حالنا ما دامت الارواح فى الابدان آمين يا مستعان(2/235)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{ لن تنالوا البر } من ناله نيلا اذا اصابه اى لن تبلغوا ايها المؤمنون حقيقة البر الذى يتنافس فيه المتنافسون ولن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الابرار او لن تناولوا بر الله تعالى وهو ثوابه ورحمته ورضاه وجنته { حتى تنفقوا } اى فى سبيل الله رغبة فيما عنده { مما تحبون } اى بعض ما تهوونه ويعجبكم من كرائم اموالكم واحبها اليكم او ما يعمها وغيرها من الاعمال والمهجة على ان المراد بالانفاق مطلق البذل . وفيه من الايذان بعزة منال البر ما لا يخفى { وما تنفقوا من شىء } اى اى شىء تنفقوا طيب تحبونه او خبيث تكرهونه فمحل الجار والمجرور النصب على التمييز { فان الله به عليم } تعليل لجواب الشرط واقع موقعه اى فمجازيكم بحسبه جيدا كان او رديئا فانه تعالى عليم بكل شىء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شىء من ذاته وصفاته . وفيه من الترغيب فى انفاق الجيد والتحذير من انفاق الرديىء ما لا يخفى فالوصول الى المطلوب لا يحصل الا بالانفاق المحبوب ولذلك كان السلف اذا احبوا شيأ جعلوه لله ذخيرة ليوم يحتاجون اليه والانسان لا ينفق محبوبه الا اذا ايقن انه يتوصل بذلك الى وجدان محبوب اشرف من الاول فالانسان لا ينفق محبوبه فى الدنيا الا اذا تيقن بوجود الصانع العالم القادر وتيقن بالبعث والحساب والجزاء وان من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولزم منه ان الانسان لا يمكنه انفاق محبوبه فى الدنيا الا اذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة فى الدين فلا تقتضى الآية ان من انفق ما احب وصل الى الثواب العظيم وان لم يأت بسائر الطاعات روى انها لما نزلت جاء ابو طلحة فقال يا رسول الله ان احب اموالى الىّ بئر حاء وهو ضيعة له فى المدينة مستقبل مسجد النبى صلى الله عليه وسلم فضعها يا رسول الله حيث اراك الله فقال صلى الله عليه وسلم « بخ بخ ذاك مال رابح او رائج فانى ارى ان تجعلها فى الاقربين فقسمها فى اقاربه » وفيه دلالة على ان انفاق احب الاموال على اقرب الاقارب افضل وروى عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه انه كانت لزوجته جارية بارعة فى الجمال وكان عمر راغبا فيها وكان قد طلبها منها مرارا فلم تعطه اياها
ثم لما ولى الخلافة زينتها وارسلتهاليه فقالت وهبتكها يا امير المؤمنين فلتخدمك قال من اين ملكتها قالت جئت بها من بيت ابى عبد الملك ففتش عن تملكه اياها فقيل انه كان على فلان العامل ديون فلما توفى اخذت من تركته ففتش عن حال العامل واحضر ورثته وارضاهم جميعا باعطاء المال ثم توجه الى الجارية وكان يهواها هوى شديدا فقال انت حرة لوجه الله فقيل لم يا امير المؤمنين وقد ازجت عن امرها كل شبهة قال لست اذا ممن نهى النفس عن الهوى يحكى ان الربيع ضربه الفالج فكان السائل يقوم على بابه فيسأل فيقول الربيع اطعميه السكر فان الربيع يحب السكر يتأول قوله « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » وطال به وجعه فاشتهى لحم دجاج فكف نفسه اربعين يوما فابت فقال لزوجته قد اشتهيت لحم دجاج منذ اربعين يوما فكففت نفسى رجاء ان تكف فابت فقالت امرأته سبحان الله وأى شىء هذا تكف نفسك عنه وقد احله الله تعالى لك فارسلت امرأته الى السوق فاشترت له دجاجة بدرهمين ودانقين فذبحتها وشوتها وخبزت له خبزا وجعلت له اصباغا ثم جاءت بالخوان فوضعته بين يديه فقام سائل على الباب فقال تصدقوا على بارك الله فيكم فكف عن الاكل وقال لامرأته خذى هذا وادفعيه اليه فقالت له امرأته سبحان الله قال افعلى ما آمرك به قالت فاصنع ما هو خير له قال وما هو قالت نعطيه ثمن هذا وتأكل انت شهوتك قال قد احسنت ائتنى بثمنه فجاءت بثمنه فقال ضعيه على هذا وخذيه وادفعيه جميعا ففعلت(2/236)
باحسانى آسوده كردن دلى ... به ازالف ركعت بهر منزلى
وقيل فى هذا المعنى
دل بدست آوركه حج اكبرست ... از هزاران كعبه يك دل بهترست
كعبه بنياد خليل آزرست ... دل نظركاه جليل اكبرست
ويقال اذا كنت لا تصل الى البر الا بانفاق محبوبك فمتى تصل الى البار وانت تؤثر عليه حظوظك
قال القشيرى من اراد البر فلينفق بعض ما يحبه ومن اراد البار تعالى فلينفق جميع ما يحبه
قال نجم الدين الكبرى فى قوله تعالى { فان الله به عليم } فبقدر ما تكونون له يكون لكم كما قال ( من كان الله كان الله له فان الفراش ما نال من بر الشمع وهو شعلته حتى انفق مما احبه وهو نفسه )
قال القاشانى كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ولا يمكن التقرب اليه الا بالتبرى مما سواه فمن احب من دون الله شيأ فقد حجب به عن الله واشرك شركا خفيا لتعلق محبته بغير الله
تراهرجه مشغول دارد زدوست ... اكر راست خواهى دلارامت اوست
فلا يزول البعد ولا يحصل القرب الا ببذل المال والمهجة وقطع محبة غير الله وافناء النفس بالكلية عن صفاتها الرذيلة
اكر يارى از خويشتن دم مزن ... كه شركست بايار وباخويشتن(2/237)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{ كل الطعام } لما نزل قوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم } الآية وقوله { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر } الى قوله { ذلك جزيناهم ببغيهم } انكر اليهود وغاظهم ذلك وبرأوا ساحتهم من الظلم وجحدوا ما نطق به القرآن وقالوا لسنا باول من حرمت عليه تلك المطعومات وما هو الا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وابراهيم ومن بعده ولهم جرا حتى انتهى التحريم الينا وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغى والظلم والصد عن سبيل الله واكل الربا وما عدد من مساويهم التى كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم فقيل كل المطعومات او كل انواع الطعام والطعام المطلق البر والعرف يشهد لكل ما يطعم حتى الماء { كان حلا لبنى اسرائيل } اى حلالا لهم والمراد اكله اذ لا يوصف بنحو الحل والحرمة الا افعال المكلف لا الاعيان فشرب الخمر حرام بالذات ونفسها حرام بالعرض { الا ما حرم اسرائيل على نفسه } استثناء متصل من اسم كان اى كان كل المطعومات حلالا لبنى اسرائيل الا ما حرم اسرائيل اى يعقوب عليه السلام على نفسه وهو الابل وألبانها روى ان يعقوب عليه السلام كان نذر ان وهب الله له اثنى عشر ولدا واتى بيت المقدس صحيحا ان يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال له يا يعقوب انك رجل قوى فهل لك فى الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما انى لو شئت ان اصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لانك كنت نذرت ان اتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولد لك وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجا من ذلك الذبح ثم ان يعقوب عليه السلام لما قدم بيت المقدس اراد ذبح ولده ونسى قول الملك فاتاه الملك فقال انما غمزتك للمخرج وقد وفى نذرك فلا سبيل لك الى ولدك ثم انه حين ابتلى بذلك المرض لقى من ذلك بلاء وشدة وكان لا ينام الليل من الوجع فحلف لئن شفاه الله لا يأكل احب الطعام اليه فحرم لحوم الابل وألبانها اما حمية الدين او حمية النفس وتحريم الحلال على نفسه جائز للكل وفيه كفارة اليمين { من قبل ان تنزل التوراة } متعلق بقوله كان حلا ولا ضير فى توسيط الاستثناء بينهما المعنى ان المطعومات كانت حلالهم قبل نزول التوراة ثم حرمت بسبب بغيهم وظلمهم فكيف يكون ذلك حراما على نوح وابراهيم وغيرهما . وظاهر الآية يدل على ان الذى حرمه اسرائيل على نفسه قد حرمه الله على بنى اسرائيل وهو رد على اليهود فى دعواهم البراءة من الظلم وتبكيت لهم فى منع النسخ والطعن فى دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقته لابراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الابل وألبانها { قل فائتوا بالتوراة فاتلوها } امره عليه السلام بان يحاجهم بكتابهم الناطق بان تحريم ما حرم تحريم حادث مرتب على ظلمهم وبغيهم ويكلفهم اخراجه وتلاوته ليبكتهم ويلقمهم الحجر ويظهر كذبهم { ان كنتم صادقين } فائتوا بالتوراة فاتلوها فان صدقكم مما يدعوكم الى ذلك البتة روى انهم لم يجترئوا على اخراج التوراة فبهتوا وانقلبوا صاغرين وفى ذلك من الحجة النيرة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وجواز النسخ الذى يجحدونه ما لا يخفى(2/238)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
{ فمن افترى على الله الكذب } اى اختلق عليه سبحانه بزعمه انه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بنى اسرائيل ومن تقدمهم من الامم { من بعد ذلك } اى من بعد ما ذكر من امرهم باحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والالزام { فاولئك } المصرون على الافتراء بعد ان ظهرت حقيقة الحال وضاقت عليهم حيلة المحاجة والجدال { هم الظالمون } المفرطون فى الظلم والعدوان المبعدون فيهما { قل صدق الله } اى ظهر وثبت صدقه تعالى فيما انزل فى شان التحريم { فاتبعوا ملة ابراهيم } اى ملة الاسلام التى هى فى الاصل ملة ابراهيم عليه السلام فانكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون { حنيفا } حال من ابراهيم اى مائلا عن الاديان الزائغة كلها { وما كان من المشركين } اى فى امر من امور دينهم اصلا وفرعا وفيه تعريض باشراك اليهود وتصريح بانه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعا والغرض بيان ان النبى عليه السلام على دين ابراهيم فى الاصول لانه لا يدعو الا الى التوحيد والبراءة من كل معبود سواه سبحانه وتعالى
قال نجم الدين فى التأويلات الاشارة فى تحقيق الآيات ان الله تعالى خلق الخلق على ثلاثة اصناف . صنف منها الملك الروحانى العلوى اللطيف النورانى وجعل غذاءهم من جنسهم الذكر وخلقهم للعبادة . وصنف منها الحيوان الجسمانى السفلى الكثيف الظلمانى وجعل غداءهم من جنسهم الطعام وخلقهم للعبرة والخدمة . وصنف منها الانسان المركب من الملكى الروحانى والحيوانى الجسمانى وجعل غذاءهم من جنسهم لروحانيهم الذكر ولجسمانيهم الطعام وخلقهم للعبادة والمعرفة . فمنهم ظالم لنفسه وهو الذى غلبت حيوانيته على روحانيته فبالغ فى غذاء جسمانيته وقصر فى غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت حيوانيته اولئك كالانعام بل هم اضل
مرودربى هرجه دل خواهدت ... كه تمكين تن نورجان كاهدت
زدوران بسى نامرادى برى ... اكرهر جه باشد مرادت خورى
كند مردرا نفس اماره خوار ... اكرهو شمندى عزيزش مدار
دريغ آدمى زاده بر محل ... كه باشد جوانعام بل هم اضل
ومنهم مقتصد وهو الذى تساوت روحانيته وحيوانيته فغذى كل واحدة منهما غذاءها خلطوا عملا صالحا وآخر سيأ عسى الله ان يتوب عليهم . ومنهم سابق بالخيرات وهو الذى غلبت روحانيته على حيوانيته فبالغ فى غذاء روحانيته وهو الذكر وقصر فى غذاء حيوانيته وهو الطعام حتى ماتت نفسه واستوت قوى روحه اولئك هم خير البرية فكان كل الطعام حلالا لهم كما كان حلالا للحيوان الا ما حرم الانسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح { من قبل } ان ينزل عليه الوحى والالهام كما قيل المجاهدات تورث المشاهدات { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } بان يهتدى الى الحق من غير جهاد النفس { فاولئك هم الظالمون } الذين يضعون الشىء فى غير موضعه وقد قال تعالى(2/239)
{ وجاهدوا فى الله حق جهاده } { قل صدق الله } فيما قال لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون { فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا } وكان ملته انفاق المال على الضيفان وبذل الروح عند الامتحان وتسليم القربان وهذه ملة الخلة { وما كان من المشركين } الذين يتخذون مع الله خليلا آخر ويجعلون الشركة فى الخلة
اكر جز بحق ميرود جاده ات ... در آتش فشانند سجاده اث
فالاولياء هم الذين يحبون الله ومن يحبه الله فان محبة اهل الحق محبة الله وليس فيها شرك
قال الفضيل ابن عياض قدس سره يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم اما زهدك فى الدنيا فانما طلبت الراحة لنفسك فى الآخرة واما انقطاعك الىّ فانما طلبت العز لنفسك ولكن هل عاديت لى عدوا او واليت لى وليا فى الله فعلامة اتباع ملة ابراهيم هو الاطاعة للحق والتبرى من كل دين سوى الاسلام ومحبة الاولياء وعداوة الاعداء ولو كان المرء آتيا بجميع الطاعات وليس فى قلبه خلوص المحبة فانما يضرب حديدا باردا والله تعالى لا يحب القلب المشترك بمحبة غيره من شهوة او غيرها
قال محمد ابن حسان رحمه الله بينما انا ادور فى جبل لبنان اذ خرج على شاب قد احرتقه السموم والرياح فلما رآنى ولى هاربا فتبعته وقلت عظنى بكلمة انتفع بها قال احذره تعالى فانه غيور لا يحب ان يرى فى قلب عبد سواه
فعلى العاقل ان يجتهد فى سلوك هذا الطريق الى ان يصل الى منزل التحقيق ومن الله التوفيق فى كل امر خفى وجلى دقيق(2/240)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{ ان اول بيت } البيت ما يبيت فيه احد ثم استعمل فى المكان مطلقا { وضع للناس } روى انه لما حولت القبلة الى الكعبة طعن اليهود فى نبوته عليه السلام وقالوا ان بيت المقدس افضل من الكعبة واحق بالاستقبال لانه وضع قبل الكعبة وهو ارض المحشر ومهاجر الانبياء وقبلتهم والارض المقدسة التى بارك الله فيها للعالمين وفيها الجبل الذى كلم الله عليه موسى عليه السلام فتحويل القبلة منه الى الكعبة باطل فنزلت اى { ان اول بيت وضع } لعباد وجعل متعبدا لهم والواضع هو الله تعالى { للذى ببكة } خبر لان اى للبيت الذى فى بكة وهو علم للبلد الحرام من بكه اذا زحمه لازدحام الناس فيه ولانها تبك اعناق الجبابرة اى تدقها لم يقصدها جبار الا قصمه الله عز وجل
وما ورى ان الحجاج حبس عبد الله بن الزبير رضى الله عنه فى المسجد الحرام وضرب المنجنيق على ابى قبيس ورمى به داخل المسجد وقتل عبد الله فليس ذلك اضرارا بالبيت وقصدا بالسوء لان مقصود الحجاج كان اخذ عبد الله روى انه صلى الله عليه وسلم سئل عن اول بيت وضع للناس فقال « المسجد الحرام ثم بيت المقدس » وسئل كم بينهما فقال « اربعون سنة » روى ان الله وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور وامر الملائكة ان يطوفوا به ثم امر الملائكة الذين هم سكان الارض ان يبنوا فى الارض بيتا على مثاله فبنوا وامر من فى الارض ان يطوفوا به كما يطوف اهل السماء بالبيت المعمور ِ وروى ان الملائكة بنوه قبل خلق آدم بالفى عام فلما اهبط آدم الى الارض قالت له الملائكة طف حول هذا البيت فلقد طفنا حوله قبلك بالفى عام فطاف به ادم ومن بعده الى زمن نوح عليه السلام فلما اراد الله الطوفان حمل الى السماء الرابعة وهو البيت المعمور بحيال الكعبة يطوف به ملائكة السموات
وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه اول بيت بناه آدم فى الارض فنسبة بناء الكعبة الى ابراهيم على هذه الروايات ليس لانه عليه السلام بناها ابتداء بل لرفعه قواعدها واظهاره ما درس منها فان موضع الكعبة اندرس بعد الطوفان وبقى مختفيا الى ان بعث الله جبريل الى ابراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت وامره بعمارته ولما كان الآمر بالبناء هو الله والمبلغ والمهندس هو جبريل عليه السلام والبانى هو الخليل والتلميذ المعين له اسماعيل عليهما السلام . قيل ليس فى العالم بناء اشرف من الكعبة { مباركا } حال من المستكن فى الظرف لان التقدير للذى ببكة هو اى كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف به وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب { وهدى للعالمين } لانه قبلتهم ومتعبدهم ولان فيه آيات عجيبة دالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته كما قال(2/241)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{ فيه آيات بينات } واضحات كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الاعصار ومخالطة ضوارى السباع الطيور فى الحرم من غير تعرض لها وقهر الله تعالى لكل جبار قصده بسوء كاصحاب الفيل { مقام ابراهيم } اثر قدميه عليه السلام فى الصخرة التى كان عليه السلام يقوم عليها وقت رفع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه او عند غسل رأسه على ما روى انه عليه السلام جاء زائرا من الشام الى مكة فقالت له امرأة اسماعيل عليه السلام انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الايمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شقى رأسه ثم حولته الى شقه الايسر حتى غسلت الشق الآخر فبقى اثر قدميه عليه وهو بدل من آيات بدل البعض من الكل { ومن دخله } اى حرم البيت { كان آمنا } من التعرض له وذلك بدعوة ابراهيم عليه السلام { رب اجعل هذا البلد آمنا } وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ الى الحرم لم يطلب ولذلك قال ابو حنيفة رحمه الله من لزمه القتل فى الحل بقصاص او ردة او زنى فالتجأ الى الحرم لم يتعرض له الا انه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايغ حتى يضطر الى الخروج وهذا فى حق من جنى فى الحل ثم التجأ الى الحرم واما اذا اصاب الحد فى الحرم فيقام عليه فيه فمن سرق فيه قطع ومن قتل فيه قتل قال تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم } اباح لهم القتل عند المسجد الحرام اذا قاتلونا فعلى ذلك يقام الحد اذا اصاب وهو فيه واذا اصاب فى غيره ثم لجأ اليه لم يقم كما لا نقاتل اذا لم يقاتلونا او المعنى ومن دخله كان آمنا من النار . وفى الحديث « من مات فى احد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا » وعنه صلى الله عليه وسلم « الحجون والبقيع يؤخذ باطرافهما وينشران فى الجنة » وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود رضى الله عنه وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال « يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين الفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم فى سبعين الفا وجوههم كالقمر ليلة البدر » وعنه صلى الله عليه وسلم « من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتى عام » { ولله على الناس } وهم المؤمنون دون الكفار فانهم غير مخاطبين باداء الشرائع عندنا خلافا للشافعى اى استقر لله عليهم { حج البيت } اللام للعهد والحج بالفتح لغة اهل الحجاز والكسر لغة نجد واياما كان فهو القصد للزيارة على الوجه المخصوص المعهود يعنى انه حق واجب لله فى ذمم الناس ولا انفكاك لهم عن ادائه والخروج من عهدته { من استطاع اليه سبيلا } فى محل الجر على انه بدل من الناس بدل البعض مخصص لعمومه فالضمير العائد الى المبدل منه محذوف اى من استطاع منهم وقدر واطاق الى البيت سبيلا اى قدر على الذهاب اليه واراد به قدرة سلامة الآلات والاسباب فالزاد والراحلة من اسباب الوصول وهذه القدرة تتقدم على الفعل والاستطاعة التى هى شرط لوجوب الفعل هى الاستطاعة بهذا المعنى لا الاستطاعة التى هى شرط حصول الفعل وهى لا تكون الا مع الفعل لانها علة وجود الفعل وسببه فلا تكون الا معه فالاستطاعة الاولى شرط الوجوب والثانية شرط حصول الفعل { ومن كفر } وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا لتاركه اى من لم يحج مع القدرة عليه فقد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج { فان الله غنى عن العالمين } وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا اوليا اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/242)
« من لم يحبسه حاجة ظاهرة او مرض حابس او سلطان جائر ولم يحج فليمت ان شاء يهوديا او نصرانيا » وانما خص هذين لان اليهود والنصارى هم الذين لا يرون الحج ولا فضل الكعبة
واعلم انه لا يؤثر الاكثار من التردد الى تلك الآثار الا حبيب مختار روى عن على بن الموفق رحمه الله انه حج ستين حجة قال فلما كنت بعد ذلك فى الحجر افكر فى حالى وكثرة تردادى الى ذلك المكان ولا ادرى هل قبل حجى او لا نمت فرأيت قائلا يقول يا ابن الموفق هل تدعو الى بيتك الا من تحب فاستيقظت وقد سرى عنى . ففيه اشارة الى ان من لم يحج مع القدرة عليه فقد ترك عن الدعوة الى ضيافة الله تعالى ولا يترك عنها الا من لا استحقاق له بها . وفيه تقبيح لحاله حيث لم يجتهد فى تحصيل الاستعداد بل اقام على البغى والفساد واقتضت حكمة الله تعالى توقان النفس كل عام الى تلك الاماكن النفيسة والمعاهد المقدسة المحروسة لاجابة دعوة ابراهيم عليه السلام حيث قال { فاجعل افئدة من الناس تهوى اليهم } اى تحن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « افضل الاعمال ايمان بالله ورسوله ثم جهاد فى سبيله ثم حج مبرور » قيل مغفرة الذنوب بالحج ودخول الجنة به مترتب على كون الحج مبرورا . وانما يكون مبرورا باجتماع امرين . فيه الاول الاتيان فيه باعمال البر والبر هو الاحسان للناس واطعام الطعام وافشاء السلام .(2/243)
والثانى ما يكمل به الحج وهو اجتناب افعال الاثم فيه من الرفث والفسوق والمعاصى
قال ابو جعفر الباقر ما يعبأ من يؤم هذا البيت اذا لم يأت بثلاث ورع يحجره اى يمنعه عن محارم الله وحلم يكف به غضبه وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاث يحتاج اليها من يسافر خصوصا الى الحج فمن كملها فقد كمل حجه فعلى السالك ان يخالق الناس بخلق حسن
ازمن بكوى حاجئ مردم كزايرا ... كاوبوستين خلق بازار مى درد
حاجى تونيستى شترست ازبراى آنك ... بيجاره خار ميخورد وبارميبرد
قال بعض المشايخ علامة الحج المبرور ان يرجع زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة
قال نجم الدين الكبرى فى تأويلاته والاشارة ان الله تعالى جعل البيت والحج اليه واركان الحج والمناسك كليها اشارات الى اركان السلوك وشرائط السير الى الله وآدابه . فمن اركانه الاحرام وهو اشارة الى الخروج عن الرسوم وترك المألوف والتجرد عن الدنيا وما فيها والتطهر من الاخلاق وعقد احرام العبودية بصحة التوجه . ومنها الوقوف بعرفة وهو اشارة الى الوقوف بعرفات المعرفة والعكوف على عقبه جبل الرحمة بصدق الالتجاء وحسن العهد والوفا . ومنها الطواف وهو اشارة الى الخروج عن الاطوار البشرية السبعية بالاطواف السبعة حول كعبة الربوبية . ومنها السعى وهو اشارة الى السير بين صفا الصفات ومروة الذات . ومنها الحلق وهو اشارة الى محو آثار العبودية بموسى انوار الالهية وعلى هذا فقس المناسك كلها . والحج يشير الى عين الطلب والقصد الى الله بخلاف سائر اركان الاسلام فان كل ركن منه يشير الى طرف من استعداد الطلب فالله تعالى خاطب العباد بقوله { ولله على الناس حج البيت } وما قال فى شىء آخر من الاركان والواجبات ولله على الناس وفائدته ان المقصود المشار اليه من الحج هو الله وفى سائر العبادات المقصود هو النجاة والدرجات والقربات والمقامات والكرامات
والاستطاعة فى قوله { من استطاع اليه سبيلا } هى جذبة الحق التى توازى عمل الثقلين ولا يمكن السير الى الله والوصول اليه لا بها { ومن كفر } اى لا يؤمن بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الطاف الرب ولا يتقرب بجذبات الالوهية كما يشير اليها اركان الحج { فان الله غنى عن العالمين } بان يستكمل بهم وانما الاستكمال للعالمين به ولا غنى بهم عنه تعالى جعلنا الله واياكم من الكاملين والواصلين الى كعبة اليقين والتمكين(2/244)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
{ قل يا اهل الكتاب } هم اليهود والنصارى سموا بذلك فان الكتاب لا يختص بالمنزل فنسبوا الى ما كتبوا سواء كان من القاء الروح الامين او تلقاء النفس { لم تكفرون بآيات الله } توبيخ وانكار لا يكون لكفرهم بها سبب من الاسباب وتحقيق لما يوجب الاجتناب عنه بالكلية والمراد بآياته تعالى ما يعم الآيات القرآنية التى من جملتها ما تلى فى شأن الحج وغيره وما فى التوراة والانجيل من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم { والله شيهد على ما تعملون } حال من فاعل تكفرون والمعنى لاىّ سبب تكفرون بآياته عز وجل والحال انه تعالى مبالغ فى الاطلاع على جميع اعمالكم وفى مجازاتكم عليها ولا ريب فى ان ذلك يسد جميع انحاء ما تأتونه ويقطع اسبابه بالكلية(2/245)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{ قل يا اهل الكتاب لم تصدون } اى تصرفون { عن سبيل الله } اى دينه الحق الموصل الى السعادة الابدية وهو التوحيد وملة الاسلام { من آمن } مفعول تصدون كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من اراد الدخول فيه بجهدهم ويقولون ان صفته صلى الله عليه وسلم ليست فى كتابهم ولا تقدمت البشارة به عندهم { تبغونها } بحذف الجار وايصال الفعل الى الضمير اى تبغون لها لان البغى لا يتعدى الا الى مفعول يقال بغيت المال والضمير للسبيل وهو يذكر ويؤنث اى تطلبون سبيل الله التى هى اقوم السبل { عوجا } اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة بان تلبسوا على الناس حتى توهموهم ان فيها عوجا بقولكم ان شريعة موسى لا تنسخ وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصدون . والعوج بكسر العين وفتحها الميل والانحراف لكن المكسور يختص بالمعانى والمفتوح بالاعيان تقول فى دينه وكلامه عوج بالكسر وفى الجدار والقناة والشجر عوج بالفتح { وانتم شهداء } حال من فاعل تصدون باعتبار تقيده بالحال الاولى اى والحال انكم شهداء تشهدون بانها سبيل الله لا يحوم حولها شائبة اعوجاج وان الصد عنها اخلال { وما الله بغافل عما تعملون } اى من الصد عن سبيل وكتمان الشهادة لنبيه
ولما وبخ اهل الكتاب بصد المؤمنين نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين فقال(2/246)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{ يا ايها الذين آمنوا ان تطيعوا فريقا } طائفة وانما خص فريقا لان منهم من آمن { من الذين اوتوا الكتاب يردوكم بعد ايمانكم كافرين } قوله كافرين مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير
قال عكرمة نزلت فى شاس ابن قيس اليهودى رأى منتدى محتويا على زخام من اوس وخزرج فغاظه الفتهم فارسل شابا ينشدهم اشعار يوم بغاث وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيان المذكوران وكان الظفر فيه للاوس فنعر عرق الداء الدفين فتشاجروا فاخبر النبى عليه السلام فخرج يصلح ذات بينهم(2/247)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{ وكيف تكفرون } انكار وتعجب { وانتم تتلى عليكم آيات الله } اى القرآن { وفيكم رسوله } والمعنى من اين يتطرق اليكم الكفر والحال ان القرآن المعجز يتلى عليكم على لسان الرسول غضا طريا وبين اظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم فالعدول عن الايمان والدخول فى الكفر مع تحقق هذه الامور ابعد واعجب { ومن يعتصم بالله } اى ومن يتمسك بدينه الحق الذى بينه بآياته على لسان رسوله عليه السلام وهو الاسلام والتوحيد المعبر عنه فيما سبق بسبيل الله { فقد هدى } جواب الشرط . وقد لافادة معنى التحقق كأن الهدى حصل فهو يخبر عنه حاصلا ومعنى التوقع فيه ظاهر فان المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما ان قاصد الكريم متوقع للندا اى وفق وارشد { الى صراط مستقيم } موصل الى المطلوب
واعلم ان ظاهر الخطاب مع اهل الكتاب وباطنه مع العلماء السوء الذين يبيعون الدين بالدنيا ولا يعملون بما يعملون فهم الذين يكفرون بما جاء به القرآن من الزهد فى الدنيا والورع والتقوى ونهى النفس عن الهوى وايثار ما يفنى على ما يبقى والاعراض عن الخلق والتوجه الى الحق وبذل الوجود لنيل المقصود والله شهيد على ما تعملون حاضر معهم ناظر الى نياتهم فى اعمال الخير والشر فيجازيهم بها وهم يصرفون بحرصهم على الدنيا واتباعهم الهوى المؤمنين الذين يتبعونهم بحسن الظن ويحسبون ان اعمالهم واحوالهم على قاعدة الشريعة ومنهاج الطريقة عن سبيل الله وطريق الحق الذى امر الانبياء بدعوة الخلق اليه وهم يطلبون اعوجاج طريق الحق بالسير فى طريق الباطل وقد وصى الله المؤمنين بقوله { يا ايها الذين آمنوا } الآية حتى لا يرتدوا عن طريق الهداية بعد الايمان بالاتباع بسيرتهم وهواهم قال تعالى { ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } قال بعض المشايخ خير العلم ما كانت الخشية معه وذلك لان الخشية انما تنشأ عن العلم بصفات الحق فشاهد العلم الذى هو مطلوب الله الخشية وشاهد الخشية موافقة الامر . واما العلم الذى تكون معه الرغبة فى الدنيا والتملق لاربابها وصرف الهمة لاكتسابها والجمع والادخار والمباهاة والاستكثار وطول الامل ونسيان الآخرة فما ابعد من هذا العلم علمه من ان يكون من ورثة الانبياء وهل ينتقل الشىء الموروث الى الوارث الا بالصفة التى كان بها عند الموروث وما مثل من هذه الاوصاف اوصافه من العلماء الا كمثل الشمعة تضىء على غيرها وهى تحرق نفسها
ترك دنيا بمردم آموزند ... خويشتن سيم وغله اندوزند
عالمى راكه كفت باشد وبس ... جون بكوبد نكيرد اندركس
عالم آنكس بود كه بد نكند ... نه بكويد بخلق وخود نكند
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/248)
« يأتى على الناس زمان لا يبقى من الاسلام الا اسمه ولا من القرآن الا رسمه قلوبهم خربة من الهدى ومساجدهم عامرة بابدانهم شر من تظل السماء يومئذ علماؤهم منهم تخرج الفتنة واليهم تعود »
وعن فضيل بن عياض بلغنا ان الفسقة من العلماء ومن حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الاوثان
فعلى العاقل ان لا يغتر بظاهر حالهم بل ينظر الى وهن اعتقادهم وفساد بالهم فيعتبر كل الاعتبار ويتجنب من هذه سيرتهم ويسلك طريق الاخيار ويعتصم بالله بالانقطاع عما سواه ويتمسك بالتوحيد الحقيقى حتى يهتدى الى الصراط المستقيم فمن انقطع اليه بالفناء فى الوحدة كان صراطه صراط الله فلا يصده عنه احد ولا يضره شىء ولا يضله كيد عدوه وشره فان من كان مع الله كان الله معه فهو حافظه وناصره وهذا الاستمساك ليس من شأن كل السلاك لكن الله تعالى قادر على ان يأخذ بيد عبده ويوصله الى مراده واذا صح الطلب من العبد فلا يحرم الاجابة البتة فان من طلب وجدّ وجد ومن قرع باب ولج عصمنا الله واياكم من كيد الشيطان ومكر النفس الامارة بالسوء كل آن آمين يا مستعان(2/249)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{ يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله } الاتقاء افتعال من الوقاية وهى فرط الصيانة { حق تقاته } اى حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع فى القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم ونحوها فاتقوا الله ما استطعتم يريد بالغوا فى التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيأ { ولا تموتن الا وانتم مسلمون } اى مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لما سواه اصلا وهو استثناء مفرغ من اعم الاحوال اى لا تموتن على حال من الاحوال الا حال تحقق اسلامكم وثباتكم عليه فهو فى الصورة نهى عن موتهم على غير هذه الحالة والمراد دوامهم على الاسلام(2/250)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{ واعتصموا بحبل الله } اى بدين الاسلام او بكتابه فلفظ الحبل مستعار لاحد هذين المعنيين فان كل واحد منهما يشبه الحبل فى كونه سببا للنجاة من الردى والوصول الى المطلوب فان من سلك طريقا صعبا يخاف ان تزلق رجله فيه فاذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق امن من الخوف كذلك طريق السعادة الابدية ومرضاة الرب طريق زلق ودواعى الضلال عنها متكثرة زلق رجل اكثر الخلق فيها . فمن اعتصم بالقرآن العظيم وبقوانين الشرع القويم وبينات الرب الكريم فقد هدى الى صراط مستقيم وامن من الغواية المؤدية الى نار الجحيم كما يأمن المتمسك بالحبل من العذاب الاليم { جميعا } حال من فاعل اعتصموا اى مجتمعين فى الاعتصام { ولا تفرقوا } اى لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب { واذكروا نعمة الله عليكم } متعلق بنعمة { اذ كنتم } ظرف له اى اذكروا انعامه عليكم وقت كونكم { اعداء } فى الجاهلية بينكم الاحن والعداوة والحروب المتواصلة
وقيل هم الاوس والخزرج كانوا اخوين لاب وام فوقعت بين اولادهما العداوة والبغضاء وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة { فالف بين قلوبكم } بتوفيقكم للاسلام { فاصبحتم } اى فصرتم { بنعمته } التى هى ذلك التألف { اخوانا } خبر اصبحتم اى اخوانا متحابين مجتمعين على الاخوة فى الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحق { وكنتم على شفا حفرة من النار } شفا الحفرة وشفتها حرفها وجانبها اى كنتم مشرفين على الوقوع فى نار جهنم لكفركم اذ لو ادرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها تمثيل لحياتهم التى تتوقع بعد الوقوع فى النار بالقعود على حرفها مشرفين على الوقوع فيها { فانقذكم } اى خلصكم ونجاكم بان هداكم للاسلام { منها } اى الحفرة { كذلك } اشارة الى مصدر الفعل الذى بعده اى مثل ذلك التبيين الواضح { يبين الله لكم آياته } اى دلائله { لعلكم تهتدون } طلبا لثباتكم على الهدى وازديادكم فيه
والاشارة ان اهل الاعتصام طائفتان . احداهما اهل الصورة وهم المتعلقون بالاسباب لان مشربهم الاعمال . والثانية اهل المعنى وهم المنقطعون عن الاسباب لان مشربهم الاحوال فقال تعالى لهم { واعتصموا بالله هو مولاكم } اى مقصودكم . وقال للمتعلقين بالاسباب { واعتصموا بحبل الله جميعا } وهو كل سبب يتوسل به الى الله فالمعتصم بحبل الله هو المتقرب الى الله باعمال البر ووسائط القربة واذا وجد الاعتصام وجد عدم التفرق بخلاف عدم الاعتصام فانه سبب للتفرق فى الظاهر والباطن . فاما فى الظاهر فيلزم منه مفارقة الجماعة فاقتلوه كائنا من كان . واما فى الباطن فيظهر منه الاهواء المختلفة التى توجب تفرق الامة كما قال عليه السلام « ستفترق امتى اثنتين وسبعين فرقة الناجية منهم واحدة » قالوا يا رسول الله ومن الفرقة الناجية قال(2/251)
« من كانوا على ما انا عليه واصحابى »
واعلم انه تعالى امر المؤمنين اولا بالتقوى وثانيا بالاعتصام وثالثا بتذكر النعمة لان فعل الانسان لا بد وان يكون معللا اما بالرهبة واما بالرغبة والرهبة متقدمة على الرغبة لان دفع الضرر مقدم على جلب النفع كما ان التخلية قبل التحلية فقوله { اتقوا الله حق تقاته } اشارة الى التخفيف من عقاب الله ثم جعله سببا للامر بالتمسك بدين الله ثم اردفه بالرغبة وهى قوله تعالى { واذكروا نعمة الله عليكم } فعلى العاقل الانقياد لامر الله والطاعة لحكمه والاعتصام بحبله وعدم التفرق فى الدين والتقوى حق التقى من الله سبحانه قيل ونعم ما قيل
متقى را بود جهار نشان ... حفظ احكام شرع اول دان
ثانيا انجه دست رس باشد ... بر فقيران و بيكسان بخشد
عهدرا با وفا كند بيوند ... هرجه باشد ازان شود خرسند
وهذا معنى قول الشيخ النصر آبادى علامة المتقى اربعة . حفظ الحدود . وبذل المجهود . والوفاء بالعهود . والقناعة بالموجود
قال القشيرى رحمه الله حق التقوى ان يكون على وفق الامر لا يزيد من قبل نفسه ولا ينقص . وحى التقوى اولا اجتناب الزلة . ثم اجتناب الفضلة . ثم التوقى عن كل خلة . ثم التنقى عن كل علة فاذا اتقيت عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتقيت حق تقواك انتهى . فمن بقى فيه شىء من اثر الوجود فقد اشرك شركا خفيا ولم يصل الى حقيقة الشهود
حضورى كرهمى خواهى ازوغائب مشو حافظ ... متى ماتلق من تهوى دع الدنيا واهملها
قال ابو مدين رحمه الله شتان بين من همته الحور والقصور ومن همته رفع الستور ودوام الحضور فطوبى لمن سار اليه بالجذبات الالهية على قدم التحقيق وطار بتجلى الصفات الربانية وجناح التوفيق
قال سهل رضى الله عنه ليس للعبد الا مولاه واحسن احواله ان يرجع الى مولاه اذا عصى قال يا رب استر على فاذا ستر عليه قال يا رب تب على فاذا تاب قال يا رب وفقنى حتى اعمل فاذا عمل قال يا رب وفقنى حتى اخلص فاذا اخلص قال يا رب تقبل منى
فعلى العاقل ان يتمسك بهذا الحبل المتين(2/252)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{ ولتكن منكم } اى لتوجد منكم { امة يدعون الى الخير } جماعة داعية الى الخير اى الى ما فيه صلاح دينى ودنيوى فالدعاء الى الخير عام فى التكليف من الافعال والتروك ثم عطف عليه الخاص ايذانا بفضله فقال { ويأمرون بالمعروف } وهو ما استحسنه الشرع والعقل وهو الموافقة { وينهون عن المنكر } وهو ما استقبحه الشرع والعقل وهو المخالفة { واولئك } الموصوفون بتلك الصفات الكاملة والافراد فى كاف الخطاب لان المخاطب كل من يصلح للخطاب { هم المفلحون } اى هم الاخصاء بكمال الفلاح . وهم ضمير فصل يفيد اختصاص المسند بالمسند اليه ثم ان من فى قوله منكم للتبعيض وتوجيه الخطاب الى الكل مع اسناد الدعوة الى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وانها واجبة على الكل لكن بحيث ان اقامها البعض سقطت عن الباقين ولو اخل بها الكل اثموا جميعا لا بحيث يتحتم على الكل اقامتها ولانها من عظائم الامور وعزائمها التى لا يتولاها الا العلماء باحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية اقامتها فان الجاهل ربما نهى عن معروف وامر بمنكر وربما عرف الحكم فى مذهبه وجهله فى مذهب صاحبه فنهاه عن منكر وقد يفلظ فى موضع اللين ويلين فى موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده انكاره الا تماديا او على من الانكار عليه عبث كالانكار على اصحاب المآصر والجلادين واضرابهم . وقيل من للتبيين وكان ناقصة اى كونوا امة يدعون الآية ولا يقتضى ذلك كون الدعوة فرض عين فان الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطاب للعامة
عن النبى عليه السلام انه سئل وهو على المنبر من خير الناس قال « آمرهم بالمعروف وانهاهم عن المنكر واتقاهم لله واوصلهم للرحم » وقال عليه السلام « من امر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله فى ارضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه »
وعن حذيفة يأتى على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار احب اليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
وعن سفيان الثورى اذا كان الرجل محبا فى جيرانه محمودا عند اخوانه فاعلم انه مداهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مثل المداهن فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم فى اسفلها وصار بعضهم فى اعلاها فكان الذى فى اسفلها يمر بالماء على الذين فى اعلاها فتأذوا به فأخذ فاسا فجعل ينقر اسفل السفينة فأتوه فقالوا مالك قال تأذيتم بى ولا بد لى من الماء فان اخذوا على يديه انجوه وانجوا انفسهم وان تركوه اهلكوه واهلكو انفسهم » قال صلى الله عليه وسلم « ان الناس اذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعذابه »(2/253)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يحشر يوم القيامة ناس من امتى من قبورهم الى الله على صورة القردة والخنازير بما داهنوا اهل المعاصى وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون » فلا بد من توطين النفس على الصبر وتقليل العلائق وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « عذب اهل قرية فيها ثمانية عشر الفا عملهم عمل الانبياء عليهم السلام » قالوا يا رسول الله كيف قال « لم يكونوا يغضبون لله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر » ثم الامر بالمعروف تابع للمأمور به ان كان واجبا فواجب وان كان ندبا فندب
واما النهى عن المنكر فواجب كله لان جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح وطريق الوجوب السمع والعقل وعند البعض السمع وحده وشرط النهى بعد معرفة المنهى عنه ان لا يكون ما ينهى عنه واقعا لان الواقع لا يحسن النهى عنه وانما يحسن الذم عليه والنهى عن المعاودة الى مثله وان يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو ان يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر باعداد آلاته وان لا يغلب على ظنه ان انكر لحقته مضرة عظيمة
فان قلت كيف يباشر الانكار قلت يبدأ بالسهل فان لم ينفع ترقى الى الصعب لان الغرض كف المنكر قال تعالى { فأصلحوا بينهما } ثم قال { فقاتلوا } والمباشر كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه وقد اجمعوا ان من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الانكار لانه معلوم قبحه لكل احد
واما الانكار الذى بالقتال فالامام وخلفاؤه اولى لانهم اعلم بالسياسة ومعهم عدتها
فان قلت فمن يؤمر وينهى قلت كل مكلف وغير المكلف اذا هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين وينهى الصبيان عن المحرامات حتى لا يتعودوها كما يؤمرون بالصلاة ليمرنوا عليها والعاصى يجب عليه النهى عما ارتكبه اذ يجب عليه تركه والانكار لا يجب فلا يسقط بترك احدهما وجب شىء منهما قال النبى عليه السلام « ان الله ليؤيد هذا الدين باهل الفسوق » والتوبيخ فى قوله تعالى { أتأمرون الناس بالبر وتنسون انفسكم } انما هو على نسيان انفسهم لا على امرهم بالبر
وعن السلف مروا بالخير وان لم تفعلوا
وعن بعض الصحابة ان الرجل اذا لم يستطع الانكار على منكر رآه فليقل ثلاث مرات اللهم ان هذا منكر واذا فعل ذلك فقد فعل ما عليه
كرت نهى منكر بر آيد زدست ... نشايد جوبى دست وبايان نشست
جودست وزبانرا نماند مجال ... بهمت نمايند مردى رجال
يعنى اذا لم يستطع ان يغير المنكر بلسانه ويده فلينكره بقلبه فان الرجال يرون الرجولية بالهمة ويتضرعون الى الله فى دفع ما لا يقدرون على فدعه
والاشارة فى الآية ان الامة التى يدعون الى الخير بالافعال دون الاقوال هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه والذى يدل عليه ما روى اسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعته يقول(2/254)
« يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتزلق اقتابه فى النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع اهل النار عليه فيقولون اى فلان ما شأنك ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه » والداعى الى الخير فى الحقيقة شيوخ الطريقة فان من لم يعرف الله لم يعرف الخير اذا الخير المطلق هو الكمال المطلق الذى يكون للانسان بحسب النوع من معرفة الحق والوصول اليه والمعروف كل ما يقرب اليه والمنكر كل ما يبعد عنه فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة لم يكن له مقام الدعوة فغير المستقيم وان كان موحدا ربما امر بما هو معروف عنده منكر فى نفس الامر وربما نهى عما هو منكر عنده معروف فى نفس الامر كمن بلغ فى مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق فكثيرا ما يستحل محرما ويحرم حلالا فهم اهل الحجاب واهل الفلاح المطلق هم الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله فى ارضه اوصلنا الله واياكم الى معرفة حقيقة الحال وشرفنا بالوصول الى جنابه المتعال(2/255)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا } هم اهل الكتابين حيث تفرقت اليهود فرقا والنصارى فرقا { واختلفوا } باستخراج التأليفات الزائغة وكتم الآيات الناطقة وتحريفها بما اخلدوا اليه من حطام الدنيا الدنية
قال الامام تفرقوا بابدانهم بان صار كل واحد من اولئك الاحبار رئيسا فى بلد ثم اختلفوا بان صار كل واحد منهم يدعى انه على الحق وان صاحبه على الباطل . واقول انك اذا أنصفت علمت ان اكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة انتهى { من بعد ما جاءهم البينات } اى الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة { واولئك لهم عذاب عظيم } فى الآخرة بسبب تفرقهم فانه يدوم ولا ينقطع ولما امر الله هذه الامة بان يكونوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وذلك لا يتم الا اذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغلبين ولا تحصل هذه القدرة الا اذا حصلت الالفة والمحبة بين اهل الحق والدين فلا جرم حذرهم الله عن التفرقة والاختلاف لكيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف . فعلى المؤمنين ان لا يكونوا ناشئين بمقتضى طباعهم غير متابعين لامام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعهم على طريقة واحدة فان لم يكن لهم مقتدى وامام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته وتتفق كلمتهم فى الآخرة على محسوس اوضح من ظهوره فى الدنيا ممن دعا الى الله على بصيرة كالرسول واتباعه الذين الحقهم الله بدرجات الدنيا فى الدعاء اليه على بصيرة كلماتهم وعاداتهم واهوائهم لمحبته وطاعته كانوا مهملين منفرقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب ولهذا قال امير المؤمنين على رضى الله عنه لا بد للناس من امام بار او فاجر ولم يرسل نبى الله رجلين فصاعدا لشأن الاوامر احدهما على الآخر وامر الآخر بمتابعته وطاعته ليتحد الامر وينتظم والا وقع الهرج والمرج واضطرب امر الدين والدنيا واختل نظام المعاش والمعاد قال عليه السلام « من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة » وقال « يد الله مع الجماعة » فان الشيطان مع الفذ هو من الاثنين ابعد لا يرى ان الجمعية الانسانية اذا لم تنضبط برياسة القلب وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت الى الفساد والتفرق الموجب لخسار الدنيا والآخرة ولما نزل قوله تعالى { وان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا فقال « هذا سبيل الرشد » ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال « هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا اليه » فعلى العاقل ان يسلك الى صراط التوحيد ولوازمه وحقوقه ويجتنب عن سبل الشيطان واسباب الدخول فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/256)
« امرت ان اقاتل الناس » الى ان « وحسابهم على الله » اراد بقوله وحسابهم على الله انه لا يعلم انهم قالوها معتقدين لها فالمشرك لا قدم له على صراط التوحيد وله قدم على صراط الوجود والمعطل لا قدم له على صراط الوجود فالمشرك ما وحد الله هنا فهو من الموقف الى النار مع المعطلة ومن هو من اهل النار الا المنافقين فلا بد لهم ان ينظروا الى الجنة وما فيها من النعيم فيطمعون فذلك نصيبهم من الجنان ثم يصرفون الى النار وهذا من عدل الله فقوبلوا باعمالهم فالشرع هنا هو الصراط المستقيم ولا تزال فى كل ركعة من الصلاة نقول اهدنا الصراط المستقيم فهو احدّ من السيف وادق من الشعر وظهوره على علم وكشف
قال على كرم الله وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فمن تمسك بالشرع المتين والقرآن المبين واهتدى الى هذا الصراط المستقيم وتخلص من التفرق الموجب للعذاب الاليم فليس عليه حساب ولا صراط فى الآخرة بل هو مع الانبياء والاولياء فى النعيم المقيم ومن زلت قدمه عن الشرع فى الدنيا بارتكاب المحظورات زلت فى الآخرة ايضا اذ من كان فى الدنيا اعمى محجوبا غير واصل كان فى الآخرة ايضا كذلك والعياذ بالله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الزالون على الصراط كثير واكثر من يزل عنه النساء » وقال « رأيت النار واكثر اهلها النساء فانهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير فلو احسنت الى احداهن الدهر كله ثم اذا رأت منك شيأ قالت ما رأيت منك خيرا قط » فانظر كيف زلت اقدامهن عن الصراط فى الآخرة وما ذلك الا لكونها زالة عن صراط الشرع فى الدنيا بالاعتقاد والاعمال : ونعم ما قال الجامى
عقل زن ناقص است ودينش نيز ... هر كزش كامل اعتقاد مكن
كر بدست ازوى اعتبار مكير ... ورنكو بروى اعتماد مكن
فاذا وقفت على هذا التفصيل فاجتهد ايها العبد الذليل فى طريق المتابعة والموافقة للانبياء والكاملين وتمسك بذيل شيخ واصل الى اليقين لعله يجمع باذن الله شملك بعدما تبدد وصلك وتفرق حالك فان الطريق المجهول لا بد له من مرشد والا فالهلاك عصمنا الله واياكم من الخلاف والاختلاف واسلكنا طريق الاخيار من الاسلاف وثبتنا فيه الى آخر الآجال وحشرنا باهل الفضل والكمال(2/257)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } اى اذكروا ايها المؤمنون يوم تبيض وجوه كثيرة وتسود وجوه كثيرة . وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكمون الخوف فيه يقال لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه اى استبشر ولمن وصل اليه مكروه اغبر لونه وتبدلت صورته . فمعنى الآية ان المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فان كان ذلك من الحسنات استبشر بنعم الله وفضله واذا رأى الكافر اعماله القبيحة اشتد حزنه وغمه . وقيل بياض الوجه وسواده حقيقتان فيوسم اهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة واشراق البشرة وسعى النور بين يديه ويمينه واهل الباطل باضداد ذلك والحكمة فى ظهورهما فى الوجوه حقيقة ان السعيد يفرح بان يعلم قومه انه من اهل السعادة قال تعالى مخبر عنه { يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين } والشقى يغتم بعكس ذلك { فاما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم { أكفرتم بعد ايمانكم } الهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم والظاهر انهم اهل الكتابين وكفرهم بعد ايمانهم كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ايمانهم به قبل مبعثه عليه السلام او جميع الكفرة حيث كفروا بعد ما اقروا بالتوحيد يوم الميثاق { فذوقوا العذاب } المعهود الموصوف بالعظم { بما كنتم تكفرون } بالقرآن ومحمد عليه السلام { واما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله } اى الجنة والنعيم المقيم المخلد عبر عنها بالرحمة تنبيها على ان المؤمن وان استغرق عمره فى طاعة الله تعالى فانه لا يدخل الجنة الا برحمته تعالى { هم فيها خالدون } كانه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون ولا يظعنون عنها ولا يموتون
والاشارة ان الذين تبيض وجوههم يوم القيامة هم الذين ابيضت قلوبهم اليوم بنور الايمان والجمعية والوفاق مع الله والذين تسود وجوههم يومئذ هم الذين اسودت قلوبهم بالكفر والتفرق والاختلاف من الله وذلك لان الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله تعالى { يوم تبلى السرائر } اى يجعل ما فى الضمائر على الظواهر
زر اندود كانرا بآتش برند ... بديد آيد آنكه كه مس يازرند
{ فاما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم { أكفرتم بعد ايمانكم } وهم ارباب الطلب السائرون الى الله الذين انقطعوا فى بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على اعقابهم القهقرى { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } تسترون الحق بالباطل وتعرضون عن الحق فى طلب الباطل وكنتم معذبين بنار الهجران والقطيعة فى الدنيا ولكن ما كنتم تذوقون عذابها لان الناس نيام والنائم لا يذوق ألم الجراحات حتى ينتبه فاذا ماتوا انتبهوا فيذوقوا ألم جراحات الانقطاع والاعراض عن الله { واما الذين ابيضت وجوههم ف } هم { فى رحمة } الجمعية والوفاق مع { الله } فى الدنيا و { هم فيها خالدون } فى الآخرة لانه يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/258)
« يبعث كل عبد على ما مات عليه » وقال « من مات سكران فانه يعاين ملك الموت سكران ويعاين منكر ونكير سكران ويبعث يوم القيامة سكران الى خندق فى وسط جهنم يسمى السكران فيه فيه عين يجرى ماؤها دما لا يكون له طعام ولا شراب الا منه » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اخبرنى جبريل عليه السلام ان لا اله الا الله انس للمسلم عند موته وفى قبره وحين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم وينفضون عن رؤسهم التراب هذا يقول لا اله الا الله والحمد لله فيبيض وجهه وهذا ينادى يا حسرتا على ما فرطت فى جنب الله مسودة وجوههم » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « النياحة على الميت من امر الجاهلية وان النائحة اذا لم تتب قبل ان تموت فانها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار » وفى التنزيل { الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان } قال اهل التأويل كلهم يبعث كالمجنون عقوبة لهم وتمقيتا عند اهل الحشر فجعل الله هذه العلامة لاكلة الربا وذلك انه ارباه فى بطونهم فاثقلهم فهم اذا خرجو من قبورهم يقومون ويسقطون لعظم بطونهم وثقلها عليهم نسأل الله الستر فى الدنيا والآخرة وهو الموفق للصالحات من الاعمال والافعال(2/259)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{ تلك } اشارة الى الآيات المشتملة على تنعيم الابرار وتعذيب الكفار وهو مبتدأ { آيات الله } خبره { نتلوها } جملة حالية من الآيات { عليك } اى نقرأها عليك يا محمد بواسطة جبريل { بالحق } حال مؤكدة من فاعل نتلوها او من مفعوله اى ملتبسين او ملتبسة بالحق والعدل ليس فى حكمها شائبة جور بنقص ثواب المحسن او بزيادة عقاب المسيئ او بالعقاب من غير جرم بل كل ذلك موفى لهم حسب استحقاقهم باعمالهم بموجب الوعد والوعيد { وما الله يريد ظلما } اى شيأ من الظلم { للعالمين } لاحد من خلقه كيف والظلم تصرف فى ملك الغير وهو تعالى انما يتصرف فى ملك نفسه او انه وضع الشىء فى غير موضعه وذلك قد يكون بمنع حق المستحق منه وقد يكون بفعل ما منع منه ولا ينبغى له ان يفعله وكل ذلك لا يتصور فى حقه تعالى فيستحيل تصور الظلم من الله فانه لا حق لاحد فيظلم بمنعه ولا يمنع عن شىء فيظلم بفعله بل هو المالك على الاطلاق وافعاله محض حكمة وعدل(2/260)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{ ولله ما فى السموات وما فى الارض } اى له تعالى وحده من غير شركة اصلا ما فيهما من المخلوقات الفائتة للحصر ملكا وخلقا احياء واماتة اثابة وتعذيبا وايراد كلمة ما اما لتغليب غير العقلاء على العقلاء واما لتنزيلهم منزلة غيرهم اظهارا لحقارتهم فى مقام بيان عظمته تعالى { والى الله } اى الى حكمه وقضائه لا الى غيره شركه واستقلالا { ترجع الامور } اى امورهم فيجازى كلا منهم بما وعد له واوعده من غير دخل فى ذلك لاحد قط
فان قيل الرجوع اليه يكون بعد الذهاب عنه ولم يكن فلم قال ذلك قلنا كانت كالذاهبة بهلاكها ثم اعادتها لان فى الدنيا يملك بعض الخلق بالتدبير وفى القيامة يكون كل ذلك لله تعالى(2/261)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{ كنتم خير امة } كنتم من كان الناقصة التى تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق او لاحق ويحمل على الدوام او الانقطاع بحسب معونة المقام ودلالة القرائن فقولك كان زيد قائما محمول على الانقطاع وقوله تعالى { وكان الله غفورا رحيما } محمول على الدوام ومنه قوله تعالى { كنتم خير امة } { اخرجت للناس } صفة لامة اظهرت لاجلهم ومصلحتهم ونفعهم { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } جملة مستأنفة بين بها كونهم خير امة كأنه قيل السبب فى كونهم خير الامم هذه الخصال الحميدة والمقصود بيان علة تلك الخيرية كقولك زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم لان ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يشعر بالعلية { وتؤمنون بالله } اى ايمانا متعلقا بكل ما يجب ان يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء { ولو آمن اهل الكتاب لكان خيرا لهم } اى لو آمنوا كايمانكم لكان ذلك خيرا لهم مما هم عليه من الرياسة واستباع العوام ولازدادت رياستهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية مع الفوز بما وعدوه على الايمان من ايتاء الاجر مرتين { منهم المؤمنون } كأنه قيل هل منهم من آمن او كلهم على الكفر فقيل منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد الله بن سلام واصحابه { واكثرهم الفاسقون } المتمردون فى الكفر الخارجون عن الحدود(2/262)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{ لن يضروكم الا اذى } استثناء مفرغ من المصدر العام اى لن يضروكم ابدا ضررا ما الا ضرر اذى لا يبالى به من طعن وتهديد لا اثر له { وان يقاتلوكم } اى ان خرجوا الى قتالكم { يولوكم الادبار } مفعول ثان ليولوكم اى يجعلوا ظهورهم ما يليكم ويرجعوا الى ادبارهم منهزمين من غير ان ينالوا منكم شيأ من قتل او اسر { ثم لا ينصرون } عطف على الشرطية وثم للتراخى فى المرتبة اى لا ينصرون من جهة احد ولا يمنعون منكم قتلا واخذا وفيه تثبيت لمن آمن منهم فانهم كانوا يؤذونهم بالتهلى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم وبشارة لهم بانهم لا يقدرون على ان يتجاوزوا الاذى بالقول الى ضرب يعبأ به مع انه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وان عاقبة امرهم الخذلان والذل فلا ينهضون بجناح ولا ترجع اليهم قوة ونجاح كما كان من حال بنى قريظة والنضير وقينقاع ويهود خيبر(2/263)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا } اى فى أى مكان وأى زمان وجدوا فى دار الاسلام الزموا الذل اى هدر النفس والمال والاهل بحيث صار كشىء يضرب على الشىء فيحيط به { الا بحبل من الله وحبل من الناس } استثناء من اعم الاحوال اى ضربت عليهم الذلة ضرب القبة على من هى عليه فى جيع الاحوال الا حال كونهم معتصمين بذمة الله وذمة المسلمين واستعير الحبل للعهد لانه سبب للنجاة والفوز بالمراد . وعطف قوله { وحبل من الناس } على قوله { بحبل من الله } يقتضى المغايرة
قال الامام فى وجهه الامان الحاصل للذمى قسمان . احدهما الذى نص الله عليه وهو الامان الحاصل له باعطاء الجزية عن يد وقبوله اياها . والثانى الامان الذى فوض الى رأى الامام واجتهاده فيعطيهم الامان مجانا تارة وببدل زائد او ناقص اخرى على حسب اجتهاده فالاول هو المسمى بحبل الله والثانى هو المسمى بحبل المؤمنين فالامانان واقعان بمباشرة المسلمين الا انهما متغايران بالاعتبار { وباؤا بغضب من الله } اى رجعوا بغضب كائن منه تعالى مستوجبين له { وضربت عليهم المسكنة } اى زى الافتقار فهى محيطة بهم من جميع جوانبهم واليهود فى غالب الامر فقراء اما فى نفس الامر واما انهم يظهرون من انفسهم الفقر وان كانوا غنياء موسرين فى الواقع { ذلك } اشارة الى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بالغضب العظيم { بانهم كانوا يكفرون بآيات الله } اى ذلك الذى ذكر كائن بسبب كفرهم المستمر بآيات الله الناطقة بنبوة محمد عليه السلام وتحريفهم لها ولسائر الآيات القرآنية { ويقتلون الانبياء بغير حق } اى فى اعتقادهم ايضا وهؤلاء المتأخرون وان لم يصدر عنهم قتل الانبياء لكنهم كانوا راضين بفعل اسلافهم مصوبين لهم فى تلك الافعال القبيحة وطالبين للقتل لو ظفروا به فكانوا بذلك كأنهم فعلوه بانفسهم فلذا اسند القتل اليهم { ذلك } اشارة الى ما ذكر من الكفر والقتل { بما عصوا وكانوا يعتدون } اى كان بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى على الاستمرار فان الاصرار على الصغائر يفضى الى مباشرة الكبائر والاستمرار عليها يؤدى الى الكفر فان من توغل فى المعاصى والذنوب واستمر عليها لا جرم تتزايد ظلمات المعاصى على قلبه حالا فحالا ويضعف نور الايمان فى قلبه حالا فحالا ولم يزل الامر كذلك الى ان يبطل نور الايمان وتحصل ظلمة الكفر نعوذ بالله من ذلك واليه الاشارة بقوله تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } فقوله تعالى { ذلك بما عصوا } اشارة الى علة العلة ولهذا المعنى قال ارباب المعاملات من ابتلى بترك الادب وقع فى ترك السنن ومن ابتلى بترك السنن وقع فى ترك الفريضة ومن ابتلى بترك الفريضة وقع فى استحقار الشريعة ومن ابتلى بذلك وقع فى الكفر(2/264)
فعلى المؤمن ان لا يفتح باب المعصية على نفسه خوفا مما يؤدى اليه بل ويترك ايضا بعض ما ابيح له فى الشرح وذلك هو كمال التقوى قال عليه السلام « لا يبلغ العبد ان يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به البأس » وقال صلى الله عليه وسلم « لا يبلغ العبد ان يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به البأس » وقال صلى الله عليه وسلم « الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه » الحديث فمنع من الاقدام على الشبهات مخافة الوقوع فى المحرمات وذلك سد للذريعة والعارف متى قصد مخالفة امره تعالى يجد من قلبه استحياء منه تعالى فينتهى عما نوى وعزم ويجتهد فى عبادة ربه
قال الجنيد رحمه الله العبادة على رؤوس العارفين كالتيجان على رؤوس الملوك ورؤى فى يده سبحة فقيل له انت مع شرفك تأخذ فى يدك سبحه فقال طريق وصلنا به الى ما وصلنا لا نتركه ابدا
قال الشيخ ابو طالب رحمه الله مداومة الاوراد من اخلاق المؤمنين وطريق العابدين وهى مزيد الايمان وعلامة الايقان
قال الشيخ ابو الحسن رحمه الله سألت استاذى عن ورد المحققين فقال اسقاط الهوى ومحبة المولى ابت المحبة ان تستعمل محبا لغير محبوبه وقال الورد ردّ النفس بالحق عن الباطل فى عموم الاوقات فليواظب العبد على الاوراد والطاعات وليجانب المعاصى والسيآت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات يوم لاصحابه « استحيوا من الله حق الحياء » قالوا انا نستحيى يا رسول الله والحمد لله قال « ليس ذلك ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن اراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء »
مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتى قبله ديكر ست
قال بعض المشايخ لو ان رجلا عاش مائتى سنة ولا يعرف هذه الاربعة فليس شىء احق به من النار احدها معرفة الله تعالى فى السر والعلانية وان لا معطى ولا مانع غيره . والثانى معرفة عمل الله بان يعرف ان الله تعالى لا يقبل من العمل الا ما كان خالصا لرضى الله تعالى . والثالث معرفة نفسه بان يعرف ضعفه انه لا يستطيع ان يرد شيأ مما قضى الله عليه . والرابع معرفة عدو الله وعدو نفسه فيحاربه بالمعرفة حتى يكسره فان المعرفة سلاح العارف فمن كان عنده المعرفة الحقيقية كان غالبا على اعدائه الظاهرة والباطنة ووصل الى مراده والنفس عين العدو فعليك بالاحتراز من شره ومحاربته كل آن بالذكر والفكر والعمل الصالح عصمنا الله واياكم من الشرور(2/265)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{ ليسوا سواء } اى ليس اهل الكتاب جميعا مستوين متعادلين فى المساوى والقبائح والمراد بنفى المساواة نفى المشاركة فى اصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفى المساواة فى مراتب الاتصاف بها مع تحقق المشاركة فى اصل الاتصاف بها { من اهل الكتاب امة قائمة } كلام مستأنف لبيان عدم استوائهم وتمام الكلام يقتضى ان يقال ومنهم امة مذمومة الا انه اضمر بناء على ان ذكر احد الضدين يغنى عن الآخر اى من اهل الكتاب جماعة قائمة اى مستقيمة عادلة مناقمت العود فقام بمعنى استقاموا وهم الذين اسلموا منهم كعبد الله بن سلام وغيره
نزلت حين قالت احبار اليهود لعبد الله بن سلام وغيره من الذين اسلموا من اليهود ما آمن بمحمد الا شرارنا فلو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم او نزلت فى قوم يصلون صلاة الاوابين وهى اثنتا عشرة ركعة بعد صلاة المغرب { يتلون آيات الله } اى القرآن صفة اخرى لامة { آناء الليل } ظرف ليتلون اى فى ساعاته جمع أنى كعصا { وهم يسجدون } الجملة حال من فاعل يتلون اى يصلون اذ لا تلاوة فى السجود وقال عليه الصلاة والسلام « ألا انى نهيت ان اقرأ راكعا وساجدا » وتخصيص السجود بالذكر من سائر اركان الصلاة لكونه ادل على كمال الخضوع والمراد بصلاتهم التهجد اذ هو ادخل فى مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوة فانها فى المكتوبة وظيفة للامام واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح(2/266)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
{ يؤمنون بالله واليوم الآخر } على الوجه الذى نطق به الشرع تعريض بان ايمان اليهود به مع قولهم عزير ابن الله وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ليس من الايمان بهما فى شىء اصلا { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } تعريض بمداهنتهم فى الاحتساب بل بتعكيسهم فى الامر باضلال الناس وصدهم عن سبل الله فانه امر بالمنكر ونهى عن المعروف { ويسارعون فى الخيرات } المسارعة فى الخير فرط الرغبة فيه لان من رغب فى الامر سارع فى توليه والقيام به وآثر الفور على التراخى اى يبادرون مع كمال الرغبة فى فعل اصناف الخيرات اللازمة والمتعدية تعريض بتباطئ اليهود فيها بل بمبادرتهم الى الشر { واولئك } المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة بسبب اتصافهم بها { من الصالحين } اى من جملة من صلحت احوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه وثناءه(2/267)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{ وما يفعلوا من خير } كائنا ما كان مما ذكر او لم يذكر { فلن يكفروه } فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة وسمى منع الثواب ونقصه كفرانا مع انه لا يجوز ان يضاف الكفران الى الله تعالى اذ ليس لاحد عليه تعالى نعمة حتى يكفرها نظرا الى انه تعالى سمى ايصال الجزاء والثواب شكرا حيث قال { فان الله شاكر عليم } فلما جعل الشكران مجازا عن توفية الثواب جعل الكفران مجازا عن منعه وتعديته الى مفعولين وهما ما قام مقام الفاعل والهاء لتضمنه معنى الحرمان { والله عليم بالمتقين } بشارة لهم بجزيل الثواب واشعار بان التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وان الفائز عند الله هو اهل التقوى
والاشارة فى قوله { وما يفعلوا من خير } اى من خير يقربهم اليه فالله يشكره بتقربه اليهم اكثر من تقربهم اليه كما قال « من تقرب الىّ شبرا تقربت اليه باعا » وقال « انا جليس من ذكرنى وانيس من شكرنى ومطيع من اطاعنى » اى كما اطعمتمونى بتصفية الاستعداد والتوجه نحوى اطعتكم بافاضة الفيض على حسبه والاقبال اليكم { والله عليم بالمتقين } بالذين اتقوا ما يحجبهم عنه فتجلى لهم بقدر زوال الحجاب
قال ابو بكر الكتانى رأيت فى المنام شابا لم ار احسن منه فقلت من انت فقال التقوى قلت فاين تسكن قال فى كل قلب حزين ثم التفت الىّ فاذا امرأة سوداء اوحش ما يكون فقلت من انت فقالت الضحك فقلت اين تسكنين فقالت فى كل قلب فرح مرح قال فانتبهت واعتقدت ان لا اضحك الا غلبة فعلى السالك ان يتمسك بحبل التقوى ويأنس به فى الدنيا لعل الله يجعله انيسا له فى قبره وحشره فالتقوى من ديدن الصلحاء وهم الذين يسارعون الى الخيرات ما داموا فى الحياة
قال الشيخ ابو الحسن رحمه الله افضل ما يسأل العبد من الله خيرات الدين ففى خيرات الدين خيرات الآخرة وفى خيرات الآخرة خيرات الدنيا وفى خيرات الدنيا ظهور خصائص الاولياء وهى اربعة اوصاف العبودية ونعوت الربوبية والاشراف على ما كان ويكون والدخول على الله فى كل يوم سبعين مرة والخروج كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « انه ليغان على قلبى فاستغفر الله فى اليوم سبعين مرة » واستغفاره عليه الصلاة والسلام من نقص ما رقى عنه باعتبار ما ترقى اليه اذ ذلك الاستغفار من مقتضى البشرية التى لا يمكن دفعها ووجه الاستغفار منه عليه السلام التفريق بين حالين كان فيهما بالعبودية اذ لا يلحق النبى نقص بوجه ولا فتور بحال لثبوت عصمته ولكن حسنات الابرار سيآت المقربين فينبغى للانسان ان يأخذ على نفسه ان لا يضيع لحظة حتى يأخذها بالذكر والشكر ومتى رأى خللا رفعه بالاستغفار وذكر الله تعالى علم الايمان وبراءة من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/268)
« لما بعث الله يحيى بن زكريا عليهما السلام الى بنى اسرائيل امره ان يأمرهم بخمس خصال ويضرب لكل خصلة مثلا . امرهم ان يعبدوا الله ولا يشركوا به شيأ وضرب لهم مثل الشرك كرجل اشترى عبدا من ماله ثم اسكنه دارا وزوجه ودفع اليه مالا وامره ان يتجر فيه ويأكل منه ما يكفيه ويؤدى اليه فضل الربح فعمد العبد الى فضل فجعل يعطيه لعدو سيده ويعطى لسيده منه شيأ يسيرا فايكم يرضى بفعال هذا العبد . وامرهم بالصلاة وضرب لهم مثلا للصلاة كمثل رجل استأذن على ملك من الملوك فاذن له فدخل عليه فاقبل عليه الملك بوجهه ليستمع مقالته ويقضى حاجته فالتفت يمينا وشمالا ولم يهتم لقضاء حاجته فاعرض عنه الملك فلم يقض حاجته . وامرهم بالصيام وضرب لهم مثلا فقال مثل الصائم كمثل رجل لبس جبة للقتال واخذ سلاحه فلم يصل اليه عدوه ولم يعمل فيه سلاح عدوه . وامرهم بالصدقة وضرب لهم مثلا للمتصدق فقال مثل المتصدق كمثل رجل اسره عدوه فاشترى منهم نفسه بثمن معلوم فجعل يعمل فى بلادهم ويؤدى اليهم من كسبه القليل والكثير حتى يفتدى منهم نفسه فعتق وفك رقبته . وامرهم بذكر الله تعالى وضرب لهم مثلا للذكر فقال مثل الذكر كمثل قوم لهم حصن وبقربهم عدو لهم فدخلوا حصنهم واغلقوا بابه وحصنوا انفسهم من العدو » قال النبى صلى الله عليه وسلم « وانا آمركم بالخصال الخمس التى امر الله بها يحيى عليه السلام وآمركم بخمس اخرى امرنى الله بها عليكم بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد » فليسارع العبد الى الخيرات والحسنات وجميع الحالات ولا يتيسر ذلك الا لارباب الارادات واصحاب المجاهدات
نيايد نكوكارى از بدركان ... محالست دوزند كى از سكان
توان باك كردن ز زنك آينه ... وليكن نيايد ز سنك آينه
بكوشش نرويد كل از شاخ بيد ... نه زنكى بكرما به كردد سفيد(2/269)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
{ ان الذين كفروا } اى بما يجب ان يؤمن به { لن تغنى عنهم } اى لن تدفع عنهم { اموالهم ولا اولادهم من الله } اى من عذابه تعالى { شيأ } اى شيأ يسيرا منه او شيأ من الاغناء رد للكفار كافة حيث فاخروا بالاموال والاولاد قائلين نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين وكانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه بالفقر ويقولون لو كان محمد على الحق لما تركه ربه فى الفقر والشدة . وخص الاموال والاولاد بالذكر لان الانسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالاولاد فانفع الجمادات هو المال وانفع الحيوانات هو الولد فالكافر اذا لم ينتفع بهما فى الآخرة البتة دل ذلك على عدم انتفاعه بسائر الاشياء بالطريق الاولى { واولئك اصحاب النار } اى مصاحبوها على الدوام وملازموها { هم فيها خالدون } ابدا ولما بين ان اموال الكفار لا تغنى عنهم شيأ ثم انهم ربما انفقوا اموالهم فى وجوه الخيرات فيخطر ببال الانسان انهم ينتفعون بذلك فازال الله بهذه الآية تلك الشبهة وبين انهم لا ينتفعون بتلك الانفاقات وان كانوا قد قصدوا بها وجه الله فقال(2/270)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{ مثل ما ينفقون فى هذه الحيوة الدنيا } اى حال ما ينفقه الكفرة قربة او مفاخرة وسمعة وطلبا لحسن الذكر بين الناس وعداوة لاهل الاسلام كما انفق ابو سفيان واصحابه مالا كثيرا على الكفار يوم بدر واحد { كمثل ريح فيها صر } اى برد شديد مهلك فانه فى الاصل مصدر وان شاع اطلاقه على الريح البارد كالصرصر { اصابت حرث قوم } اى زرع قوم { ظلموا انفسهم } بالكفر والمعاصى فباؤا بغضب من الله وانما وصفوا بذلك لان الاهلاك عن سخط اشد وافظع { فاهلكته } عقوبة لهم ولم تدع منه اثرا ولا عثيرا والمراد تشبيه ما انفقوا فى ضياعه وذهابه بالكلية من غير ان يعود اليهم نفع مّا بحرث كفار ضربته صرّ فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة بوجه من الوجوه فهو من التشبيه المركب { وما ظلمهم الله } بما بين من ضياع ما انفقوا من الاموال { ولكن انفسهم يظلمون } لما انهم اضاعوها بانفاقها لا على ما ينبغى وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص
واعلم ان انفاق الكفار اما ان يكون لمنافع الدنيا او لمنافع الآخرة فان كان لمنافع الدنيا لم يبق منه اثر البتة فى الآخرة فى حق المسلم فضلا عن الكافر وان كان لمنافع الآخرة ولعلهم انفقوا اموالهم فى الخيرات ببناء الرباطات والقناطر والاحسان الى الضعفاء والايتام والارامل وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الانفاق خيرا كثيرا فاذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات وكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا فاصابه ريح فاحرقه ولا يبقى معه الا الحزن والاسف هذا اذا انفقوا الاموال فى وجوه الخيرات . اما اذا انفقوها فيما ظنوا انه من الخيرات لكنه كان من المعاصى مثل انفاق الاموال فى ايذاء الرسول وفى قتل المؤمنين وتخريب ديارهم فالذى قلنا فيه اشد واشد ونظير هذه الآية { وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } ويدخل فيه ما ينفقه بعض صاحبى الغرض لنفى رجل صالح من بلده او قتله او ايذائه ونعوذ بالله من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن اربع عن عمره فيم افناه وعن جسده فيم ابلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم انفقه » فليبادر العاقل الى الانفاق من ماله والاخلاص فى عمله قال عليه الصلاة والسلام « يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدى الله عز وجل فيقول الله تعالى للملائكة القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا الا خيرا فيقول وهو اعلم ان هذا كان لغيرى ولا اقبل اليوم من العمل الا ما ابتغى به وجهى »(2/271)
زعمرو اى بسر جشم اجرت مدار ... جو در خانه زيد باشى بكار
جه قدر آورد بنده حورديس ... كه ز ير قبا دارد اندام ييس
قال منصور بن عمار رحمه الله كان لى اخ فى الله يعتقدنى ويزورنى فى شدتى ورخائى وكان كثير العبادة والتهجد والبكاء ففقدته ايامام فقيل لى هو ضعيف مريض فاتيت بابه فطرقته فخرجت ابنته فدخلت فوجدته فى وسط الدار وهو مضطجع على فراشه وقد اسود وجهه وازرقت عيناه وغلظت شفتاه فقلت له يا اخى اكثر من قول لا اله الا الله ففتح عينيه ونظر الىّ شزرا ثم وثم حتى قلت له لئن لم تقلها لا غسلتك ولا كفتك ولا صليت عليك فقال يا اخى منصور هذه كلمة قد حيل بينى وبينها فقلت لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم فاين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام فقال يا اخى كل ذلك كان لغير وجه الله انما كنت افعل ذلك ليقال واذكر به واذا خلوت بنفسى غلقت الابواب وارخيت الستور وبارزت ربى بالمعاصى
ور آوازه خواهى در اقليم فاش ... برون حله كن درون حشو باش
فلا غرور للعاقل بكثرة الاعمال والاولاد والاموال اذا لم تكن نيته صحيحة فيما يجرى عليه من الاحوال فاين الذين آثروا العقبى بل المولى على كل ما سواه فوجدوا الفقر اعز من الغنى والذل الذ من العزة وبذلوا اموالهم وارواحهم فى سبيل الله لعمرى قوم عزيز الوجود وقليل ما هم وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } ثم قال « يقول ابن آدم مالى وهل لك من مالك الا ما اكلت فافنيت واو لبست فابليت او تصدقت فامضيت » قال عليه الصلاة والسلام « يا عائشة ان اردت اللحوق بى فليكفك من الدنيا كزاد الراكب واياك ومجالسة الاغنياء ولا تستخلقى ثوبا حتى ترقعيه » وقال عليه السلام « اللهم من احبنى فارزقه العفاف والكفاف ومن ابغضنى فاكثر ماله وولده » فقد وقفت ايها العبد على حقيقة الحال وان المال لا يغنى عن المرء شيأ فعليك بالقناعة وتقليل الدنيا ولا تغتر باصحاب الاموال والجاه
از بى ذكر وشوق حق مارا ... در دو عالم دل وز بانى بس
وز طعام ولباس اهل جهان ... كهنه دلقى ونيم نانى بس(2/272)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
{ يا ايها الذين آمنوا } نزلت فى قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهاهم الله عن ذلك بقوله { لا تتخذوا بطانة } بطانة الرجل صاحب وليجته من يعرف اسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب التى تلى بطنه كما شبه بالشعار قال عليه السلام « الابصار شعار والناس دثار » { من دونكم } اى من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا { لا يألونكم خبالا } يقال ألا فى الامر اذا قصر فيه ثم استعمل معدى الى مفعولين فى قولهم لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع اى لا امنعك نصحا والخبال الفساد اى لا يقصرون لكم فى الفساد بالمكر والخديعة ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر { ودوا ما عنتم } اى تمنوا عنتكم اى مشقتكم وشدة ضرركم فى امور دينكم ودنياكم فان عجزوا عن ذلك فحب ذلك وتمنيه غير زائل من قلوبهم { قد بدت البغضاء من افواههم } البغضاء شدة البغض اى قد ظهرت علامة العداوة فى كلامهم الخارج من افواههم لما انهم لا يتمالكون مع مبالغتهم فى ضبط انفسهم وتحاملهم عليها ان ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين { وما تخفى صدورهم اكبر } مما بدا لان بدوه ليس عن روية واختيار { قد بينا لكم الآيات } الدالة على وجوب الاخلاص فى الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين { ان كنتم تعقلون } ما بينا لكم فتعملون به والظاهر ان الجمل من قوله لا يألونكم الى هنا تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة(2/273)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{ ها انتم اولاء } اى انتم ايها المؤمنون اولاء المخطئون فى موالاتهم { تحبونهم ولا يحبونكم } لما بينكم من مخالفة الدين { وتؤمنون بالكتاب كله } اى بجنس الكتاب جميعا وهو حال من الضمير المفعول فى لا يحبونكم والمعنى لا يحبونكم والحال انكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بانهم فى باطلهم اصلب منكم فى حقكم { واذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقا { واذا خلوا } فكان بعضهم مكان بعض { عضوا عليكم الانامل من الغيظ } اى من اجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا الى التشفى سبيلا . والانامل جمع انملة بضم الميم وهو الطرف الاعلى من الاصبع . والغيظ شدة الغضب
قال الامام والمعنى انه اذا خلا بعضهم ببعض اظهروا شدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة الى عض الانامل كما يفعل ذلك احدنا اذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال فى الغضبان انه يعض يده غيظا وان لم يكن هناك عض وانما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم { قل موتوا بغيظكم } دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الاسلام واهله الى ان يهلكوا به او باشتداده الى ان يهلكهم فالمراد اللعن والطرد لا على وجه الايجاب والا لماتوا من ساعتهم { ان الله عليم بذات الصدور } اى قل لهم ان الله عليم بعداوة الصدور فيعلم ما فى صدوركم من البغضاء والحنق(2/274)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
{ ان تمسسكم حسنة } اى تصبكم ايها المؤمنون حسنة بظهوركم على عدو لكم وغنيمة تنالونها وتتابع الناس فى الدخول فى دينكم وخصب فى معاشكم { تسؤهم } اى تحزنهم حسدا الى ما نلتم من خير ومنفعة { وان تصبكم سيئة } مساءة باخفاق سرية لكم او اصابة عدو منكم او اختلاف يكون بينكم او جدب ونكبة { يفرحوا بها } يشمتون مما اصابكم من ضرر وشدة وذكر المس مع الحسنة والاصابة مع السيئة للايذان بان مدار مساءتهم ادنى مراتب اصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام اصابة السيئة { وان تصبروا } على عداوتهم او على مشاق التكاليف { وتتقوا } ما حرم الله عليكم ونهاكم عنه { لا يضركم كيدهم } مكرهم وحيلتهم التى دبروها لاجلكم . والكيد حيلة لظيفة تقرب وقوع المكيد به فيها { شيأ } نصب على المصدرية اى لا يضركم شيأ من الضرر بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولان المجد فى الامر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون جريئا على الخصم { ان الله بما يعملون } فى عداوتكم من الكيد { محيط } علما فيعاقبهم على ذلك . والاحاطة ادراك الشىء بكماله
فينبغى للمرء ان يجانب اعداء الله ويصبر على اذاهم فانه امتحان له من الله مع انهم لا يقدرون على غير القدح باللسان كما قال تعالى { لن يضروكم الا اذى } والطعن لم يتخلص منه الانبياء والاولياء فكيف انت يا رجل وكلنا ذلك الرجل
توروىزبر ستيدن حق مييج ... مهل تانكيرند خلقت بهيج
رهايى نيابدكس ازدست كس ... كرفتاررا جاره صبرست وبس
وفى قوله تعالى { لا تتخذوا بطانة من دونكم } اشارة الى ان الحامل لاسرار الرجل ينبغى ان يكون من جنسه معتمدا عليه مؤتمنا وربما يفشى الرجل سره الى من لم يجربه فى كل حاله فيفتضح عند الناس
ان الرجال صناديق مقفلة ... ومفاتيحها الا التجاريب
فلا تغتر بظاهر انسان حتى تعرف سريرته
قال الامام الغزالى ولا تعول على مودة من لم تختبره حق الخبرة بان تصحبه مدة فى دار أو موضع واحد فتجربه فى عزله وولايته وغناه وفقره او تسافر معه او تعامله فى الدينار والدرهم او تقع فى شدة فتحتاج اليه فان رضيته فى هذه الاحوال فاتخذه أبا لك ان كان كبيرا او ابنا ان كان صغيرا او اخا ان كان مثلا لك واذا بلغك من الاخوان غيبة او رأيت منهم شرا او اصابك منهم ما يسوءك فكل امرهم الى الله ولا تشغل نفسك بالمكافاة فيزيد الضرر ويضيع العمر لشغله
ومن بلاغات الزمخشرى ما قدع السفيه بمثل الاعراض وما اطلق عنانه بمثل العراض اى المعارضة : ونعم ما قيل
اصبر على مضض الحسو ... د فان صبرك قاتله
والنار تأكل نفسها ... ان لم تجد ما تأكله
فالمجاملة من سير الصالحين(2/275)
وكان ابراهيم بن ادهم فى جماعة من اصحابه فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم ويجتمعون بالليل فى موضع وهم صيام فكان يبطىء فى الرجوع من العلم فقالوا ليلة تعالوا بنا نجعل فطورنا دونه حتى يعود بعد هذا اسرع فأفطروا وناموا فلما رجع ابراهيم وجدهم نياما فقال مساكين لعلهم لم يكن لهم طعام فعمد الى شىء من الدقيق هناك فعجنه وأوقد النار وطرح الملة فانتبهوا وهو ينفخ فى النار واضعا محاسنه على التراب فقالوا له فى ذلك فقال قلت لعلكم لم تجدوا فطورا فنمتم فاحببت ان تستيقظوا والملة قد ادركت فقال بعضهم لبعض ابصروا أىّ شىء عملنا وما الذى به يعاملنا
بدى را بدى سهل باشد جزا ... اكر مردى احسن الى من اساء
قال ذو النون رحمه الله لا تصحب مع الله الا بالموافقة ولا مع الخلق الا بالمناصحة ولا مع النفس الا بالمخالفة ولا مع الشيطان الا بالعداوة فليسارع العبد الى تحصيل حسن الخلق وتوطين النفس على الصبر على المكاره حتى يفوز مع الفائزين
قال بعضهم كنت بمكة فرأيت فقير اطاف بالبيت واخرج من جيبه رقعة ونظر فيها ومر فلما كان بالغد فعل مثل ذلك فترقبته اياما وهو يفعل مثله فيوما من الايام طاف ونظر فى الرقعة وتباعد قليلا وسقط ميتا فأخرجت الرقعة من جيبه واذا فيها واصبرلحكم ربك فانك بأعيننا
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى وصيته لابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان استطعت ان تعمل لله بالرضى فى اليقين فافعل والا ففى الصبر على ما تكره خير كثير ومقاساة المجاهدات ومخالفة النفس وترك الشهوات واللذات والتزام الفقر والصبر على المكروهات من ديدن السلف الصالحين واهل النفس الامارة وان كان يبدو من فمه علامات البغض لأمثال هؤلاء الاخيار لكنه فى الحقيقة يعود ضرره الى نفسه والمرء بالصبر على ما جاء به من مكاره اعتراضه الفاسد يكون مأجورا ومثابا عند الله تعالى وتباين الناس بالصلاح والفساد وغير ذلك خير محض يعتبره العاقل ويزكى نفسه به في أيها الصلحاء ان الاشرار متسلطون على الاخيار بالطعن وقصد الاضرار ولكن المتقى فى حصن الله الملك الجبار(2/276)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{ واذ غدوت } اى اذكر لهم يا محمد وقت خروجك غدوة اى اول النهار الى احد ليتذكروا ما وقع فيه من الاحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلموا انهم ان لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة { من اهلك } من منزل عائشة رضى الله عنها فى المدينة وهذا نص على ان عائشة رضى الله عنها كانت اهلا للنبى صلى الله عليه وسلم قال تعالى { الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } فدل هذا على انها كانت مطهرة مبرأة من كل قبيح ألا يرى ان ولد نوح لما كان كافرا قال { انه ليس من اهلك } وكذا امرأة لوط { تبوىء المؤمنين } اى تنزلهم { مقاعد } كائنة ومهيئة { للقتال } او متعلق بقوله تبوىء اى لاجل القتال . والمقاعد جمع مقعد وهو اسم لمكان القعود عبر عن تلك الاماكن التى عينت لكل واحد من الصحابة ان يبيت فى ما عين له من تلك الاماكن اما بان يتسع فى استعمال القعود لمجرد المكان مع قطع النظر عن كونه مكان القعود كما فى قوله تعالى { فى مقعد صدق } واما لان كل مكان انما عين لصاحبه لان يقعد وينتظر فيه الى ان يجيئ العدو فيقوموا عند الحاجة الى المحاربة فسميت تلك الاماكن بالمقاعد لهذا الوجه روى ان المشركين نزلوا باحد يوم الاربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم اصحابه ودعا عبد الله بن ابى بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد الله واكثر الانصار يا رسول الله اقم بالمدينة ولا تخرج اليهم فوالله ما خرجنا منها الى عدو قط الا اصاب منا ولا دخلها علينا الا اصبنا منه فكيف وانت فينا فدعهم فان اقاموا اقاموا بشر محبس وان دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة وان رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم يا رسول الله اخرج بنا الى هؤلاء الاكلب لا يرون انا قد جبنا عنهم وقال عليه السلام « انى رأيت فى منامى بقرا مذبحة حولى » اى قطيعا منها « فاولتها خيرا ورأيت فى ذبان سيفى ثلما » اى كسرا « فاولته هزيمة ورأيت كأنى ادخلت يدى فى درع حصينة فاولتها المدينة فان رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم » فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر واكرمهم الله بالشهادة يوم احد اخرج بنا الى اعدائنا طلبا لسعادة الشهادة وطمعا فى الحسنى والزيادة فلم يزالوا به عليه الصلاة والسلام حتى دخل ولبس لامته اى درعه فلما رأوا ذلك ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحى يأتيه وقالوا اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال « ما ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل » وكان قد اقام المشركون باحد يوم الاربعاء والخميس فخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة وصلى على رجل من الانصار مات فيه فاصبح بالشعب من احد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فمشى على راحلته فجعل يصف اصحابه للقتال كانما يقوم بهم القدح ان رأى صدرا خارجا قال تأخر وكان نزوله فى عدوة الوادى اى طرفه وجانبه وجعل ظهره وعسكره الى احد وامر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم(2/277)
« انضحوا عنا بالنبل » اى ادفعوا العدو عنا بالسهم حتى لا يأتونا من ورائنا « ولا تبرحوا مكانكم فاذا عاينوكم وولوكم الادبار فلا تطلبوا المدبرين » ثم ان الرسول صلى الله عليه وسلم لما خالف رأى عبد الله بن ابى وكان من قدماء اهل المدينة ورئيس المنافقين شق عليه ذلك وقال اطاع الولدان وعصانى ثم قال لاصحابه ان محمدا انما يظفر بعدوه بكم وقد وعد اصحابه ان اعداءهم اذا عاينوهم انهزموا فاذا رأيتم اعداءهم فانهزموا فسيتبعونكم ويصير الامر على خلاف ما قاله محمد عليه الصلاة والسلام فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين وكان عليه السلام قد خرج فى الف رجل او تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا الشوط رجع ابن ابىّ بثلاثمائة وبقيت سبعمائة فقال لقومه يا قوم علام نقتل انفسنا وأولادنا فتبعهم ابو جابر السلمى وقال انشدكم الله فى نبيكم وانفسكم فقال عبد الله لو نعلم قتالا لاتبعناكم وكان الحيان من الانصار بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الاوس جناحى عسكر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فهما باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقواهم الله تعالى حتى هزموا المشركين فلما رأى المؤمنون انهزام القوم طمعوا ان تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين فتركوا الموضع الذى امرهم النبى عليه السلام بالثبات فيه ثم اشتغلوا بطلب الغنائم وخالفوا امر الرسول صلى الله عليه وسلم فاراد الله ان يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وليعلموا ان ظفرهم انما حصل يوم بدر ببركة طاعتهم لله ولرسوله ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين وكانوا ثلاثة آلاف رجل فحملوا على المؤمنين وتفرق العسكر عن رسول الله عليه السلام حتى بقى معه سبعة من الانصار ورجلان من قريش فلما قصد الكفار النبى عليه الصلاة والسلام شجوا رأسه وكسروا رباعيته وثبت معه عليه السلام يومئذ طلحة ووقاه بيده فشلت اصبعاه وصار مجروحا فى اربعة وعشرين موضعا ولما اصابه عليه السلام ما اصاب من الشجة وكسر الرباعية وغلب عليه الغشى احتمله طلحة ورجع القهقرى وكلما ادركه واحد من المشركين كان يضعه عليه السلام ويقاتله حتى اوصله الى الصحة وكان عليه السلام يقول(2/278)
« اوجب طلحة » ووقعت الصيحة فى العسكر ان محمد قد قتل وكان فى جملة الصحابة رجل من الانصار يكنى ابا سفيان نادى الانصار وقال هذا رسلو الله فرجع اليه المهاجرون والانصار فشمل عز الشهادة اثنين وسبعين من المؤمنين واختص بشرائف نعم الله وجلائل كرمه حمزة سيد الشهداء وهنيئا له ان مثل به اذ مثل به وكثر فيهم الجراح فقال عليه الصلاة والسلام « رحم الله رجلا ذب عن اخوانه وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى واعانهم الله حتى هزموا الكفار » ثم ان كل ذلك يؤكد قوله تعالى { وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيأ } وان المقبل من اعانه الله والمدبر من خذله الله ومن الله العصمة { والله سميع عليم } لما شاور النبى عليه السلام اصحابه فى ذلك الحرب وقال بعضهم اقم بالمدينة وقال آخرون اخرج اليهم وكان لكل احد غرض فى قوله فمن موافق ومن منافق قال تعالى انا سميع لما يقولون عليم بما يسرون(2/279)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{ اذ همت } بدل من اذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير . والهم تعلق الخاطر بماله قدر { طائفتان منكم } ايها المؤمنون وهما بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الاوس { ان تفشلا } اى بان تجبنا وتضعفا وترجعا لظنهما الصواب فيه . والفشل الضعف والظاهر ان همهما ليس بمعنى العزم والقصد المصمم وانما هو خطرات وحديث نفس كما لا تخلو النفس عند الشدائد من بعض الهلع ثم يردها صاحبها الى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه { والله وليهما } اى عاصمهما من اتباع تلك الخطرات والجملة اعتراض { وعلى الله } وحده دون ما عداه مطلقا استقلالا واشتراكا { فليتوكل المؤمنون } فى جميع امورهم فانه حسبهم وفيه اشعار بان وصف الايمان من دواعى التوكل وموجباته والتوكل الاعتماد على الغير واظهار العجز
قال الامام وفى الآية اشارة الى انه ينبغى ان يدفع الانسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله وان يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل
قال سهل بن عبد الله التسترى جملة العلوم ادنى باب من التعبد وجملة التعبد ادنى باب من الورع وجملة الورع ادنى باب من الزهد وجملة الزهد ادنى باب من التوكل
وقال ايضا علامة المتوكل ثلاث لا يسأل ولا يرد ولا يحبس
وكان ابراهيم الخواص رحمه الله مجردا فى التوكل وكان لا يفارقه ابرة وخيوط وركوة ومقراض فقيل له يا ابا اسحق لم تحمل هذا وانت ممتنع من كل شىء فقال مثل هذا لا ينقص التوكل لان لله علينا فرائض والفقير لا يكون عليه غير ثوب واحد فربما يتمزق ثوبه فاذا لم يكن معه ابرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته
قال ابو حمزة الخراسانى حججت سنة من السنين فبينما انا امشى فى الطريق اذ وقعت فى بئر فنازعتنى نفسى ان استغيث فقلت لا والله لا استغيث فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال احدهما للآخر تعالى حتى نسدّ رأس هذه البئر لئلا يقع فيها احد فاتوا بصب وطمسوا البئر فهممت ان اصيح ثم قلت فى نفسى اشكو الى من هو اقرب منهما فسكت فبينما انا بعد ساعة اذا انا بشىء قد جاء وكشف عن رأس البئر وادخل رجله وكأنه يقول لى تعلق بى فى هينمة له كنت اعرف ذلك منها فتعلقت به فاخرجنى فاذا هو سبع فمر وهتف بى هاتف يا ابا حمزة أليس هذا احسن نجيناك من التلف بالتلف فمشيت
قال بعضهم من وقع فى ميدان التفويض يزف اليه المراد كما تزف العروس الى اهلها
ولما زج بابراهيم عليه السلام فى المنجنيق واتاه جبريل فقال ألك حاجة قال اما اليك فلا واما الى الله فبلى قال سله قال حسبى من سؤالى علمه بحالى وقد قال نبينا عليه السلام(2/280)
« يقول الله تعالى فمن شغله ذكرى عن مسألتى اعطيته افضل ما اعطى السائلين » فعلى السالك ان يتوكل على الله ويفوض امره اليه فان كل ما قضى وقدر لا يرد البتة وان تعدت نفسك فى ذلك
قضا كشتى آنجا كه خواهد برد ... وكرنا خدا جامه برتن درد
يكفيك علم الله بحالك فاقطع نظرك عن الاسباب والفتح ليس الا من مفتح الابواب
مكن سعديا ديده بردست كس ... كه بخشنده بروردكارست وبس
اكر حق برستى زدرها بسست ... كه كروى بداند نخواند كسست(2/281)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{ ولقد نصركم الله ببدر } تذكير ببعض ما افادهم التوكل . وبدر بئر ماء بين مكة والمدينة حافرها رجل اسمه بدر فسمى به وكانت وقعة بدر فى السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة { وانتم اذلة } حال من الضمير جمع ذليل وانما قال اذلة ولم يقل ذلائل بجمع الكثرة ليدل على انهم على ذلتهم كانوا قليلا وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب وذلك انهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم الا فرس واحد للمقداد بن الاسود وهو اول من قاتل على فرس فى سبيل الله وتسعون بعيرا وست ادرع وثمانية سيوف وقلتهم انهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ستة وسبعون من المهاجرين وبقيتهم من الانصار وكان عدوهم فى حال كثرة زهاء الف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة وكان صاحب راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بن ابى طالب رضى الله عنه وصاحب راية الانصار سعد بن عبادة رضى الله عنه { فاتقوا الله } فى الثبات مع رسوله كما اتقيتم يومئذ { لعلكم تشكرون } اى راجين ان تشكروا بما ينعم به عليكم بتقواكم من النصرة(2/282)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
{ اذ تقول } ظرف لنصركم وقت قولك { للمؤمنين } حين اظهروا العجز عن المقاتلة { ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة } الكفاية سد الخلة والقيام بالامر . والامداد اعانة الجيش بالجيش والمعنى انكار عدم كفاية الامداد بذلك المقدار ونفيه وكلمة ان للاشعار بانهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرته { منزلين } اى حال كونهم نازلين من السماء باذنه تعالى . قيل امدهم الله اولا بالف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة وانما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويتقووا بنصر الله(2/283)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{ بلى } ايجاب لما بعد ان وتحقيق له اى بلى يكفيكم ذلك ثم وعدهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم فقال { ان تصبروا } على لقاء العدو ومناهضتهم { وتتقوا } معصية الله ومخالفة نبيه صلى الله عليه وسلم { ويأتوكم } اى ان يجيئكم المشركون { من فورهم هذا } اى من ساعتهم هذه { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } فى حال اتيانهم لا يتأخر نزولهم عن اتيانهم يريد ان الله يعجل نصرتكم ويسهل فتحكم ان صبرتم واتقيتم { مسومين } من التسويم الذى هو اظهار سيما الشىء اى معلمين انفسهم او خيلهم فى اذنابها ونواصيها بالصوف الابيض قال عليه السلام « لاصحابه تسوموا فان الملائكة قد تسومت » روى ان الملائكة كانوا بعمائم بيض الا جبريل عليه السلام فانه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام ونزلوا على الخيل البلق موافقة لفرس المقداد واكراما له(2/284)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
{ وما جعله الله } عطف على مقدر اى فامدكم به وما جعل الله ذلك الامداد بانزال الملائكة عيانا بشىء من الاشياء { الا بشرى لكم } بانكم تنصرون { ولتطمئن قلوبكم به } اى بالامداد وتسكن اليه من الخوف كما كانت السكينة لبنى اسرائيل { وما النصر الا } كائن { من عند الله } لا من العدة والعدد وهو تنبيه على انه لا حاجة فى نصرهم الى مدد وانما امدهم بشارة لهم وربطا على قلوبهم من حيث ان نظر العامة الى الاسباب اكثر فينبغى للمؤمن ان لا يركن الى شىء من ذلك فان ترتب النصر عليها ليس الا بطريق جرى العادة { العزيز } الذى لا يغالب فى حكمه وقضيته { الحكيم } الذى يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة(2/285)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
{ ليقطع } متعلق بنصركم اى نصركم الله يوم بدر ليهلك وينقص { طرفا من الذين كفروا } اى طائفة منهم بقتل واسر وقد وقع ذلك حيث قتل من رؤسائهم وصناديهم سبعون واسر سبعون { او يكبتهم } اى يخيزهم ويغيظهم بالهزيمة فان الكبت شدة غيظ او وهن يقع فى القلب من كبته بمعنى كبده اذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة واو للتنويع دون الترديد { فينقلبوا خائبين } غير ظافرين بمبتغاهم وينهزموا منقطعى الآمال . والخيبة هو الحرمان من المطلوب والفرق بينها وبين اليأس ان الخيبة لا تكون الا بعد التوقع واما اليأس فانه قد يكون بعد التوقع وقبله فنقيض اليأس الرجاء ونقيض الخيبة الظفر(2/286)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{ ليس لك من الامر شىء } اعتراض { او يتوب عليهم او يعذبهم } عطف على قوله او يكبتهم والمعنى ان الله مالك امرهم على الاطلاق فاما ان يهلكهم او يكبتهم او يتوب عليهم ان اسلموا او يعذبهم تعذيبا شديدا اخرويا ان اصروا وليس لك من امرهم شىء وانما انت عبد مأمور لانذارهم وجهادهم { فانهم ظالمون } قد استحقوا التعذيب بظلمهم(2/287)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
{ ولله ما فى السموات وما فى الارض } من الموجودات خلقا وملكا لا مدخل فيه لاحد اصلا فله الامر كله { يغفر لمن يشاء } ان يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح { ويعذب من يشاء } ان يعذبه وقدم المغفرة لسبق رحمته تعالى غضبه وهذا صريح فى نفى وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافى له { والله غفور رحيم } لعباده والمقصود بيان انه وان حسن كل ذلك منه الا ان جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والاحسان
فليبادر العاقل الى الاعمال التى يستوجب بها رحمة الله تعالى ولا ييأس من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون
اوحى الله تعالى الى داود عليه السلام [ يا داود بشر المذنبين وانذر الصديقين ] قال يارب فكيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين قال [ بشر المذنبين بانى لا يتعاظمنى ذنب الا اغفره وانذر الصديقين ان لا يعجبوا باعمالهم وانى لا اضع عدلى وحسابى على احد الا اهلكه ] وروى عن عمر رضى الله تعالى عنه انه دخل على النبى عليه السلام فوجده يبكى فقال ما يبكيك يا رسول الله قال « جاءنى جبريل فقال ان الله يستحيى ان يعذب احدا قد شاب فى الاسلام فكيف لا يستحيى من شاب فى الاسلام ان يعصى الله » فالواجب على الشيخ ان يعرف هذه الكرامة ويشكر الله ويستحيى منه ومن الكرام الكاتبين ويمتنع من المعاصى ويكون مقبلا على طاعة ربه فانه فى ساحل بحر المنون روى ان الحجاج لما اقام بالعراق يرهب ويفتك حتى استوثقت له الامور خرج عليه عبد الرحمن بن الاشعث باهل العراق فامده عبد الملك باهل الشام فكانوا شيعته واستمرت بينه وبين ابن الاشعث الوقائع حتى هزمه الحجاج بدير الجماجم بعد ثمانين وقعة فى ستة اشهر وكان مع ابن الاشعث اكثر من مائتى الف فلما هزموا قال الحجاج لاصحابه اتركوهم فليتبددوا ولا تتبعوهم ثم نادى مناديه من رجع فهو آمن ودخل الكوفة وجاء الناس من المنهزمين يبايعونه فكان يقول لمن جاء يبايعه اشهد على نفسك بالكفر وخروجك عن الجماعة ثم تب فان شهد والا قتله فاتاه رجل من خثعم فقال اشهد على نفسك بالكفر فقال ان كنت عبدت ربى ثمانين سنة ثم اشهد على نفسى بالكفر لئبس العبد انا والله ما بقى من عمرى الا ظمئ حمار واننى انتظر الموت صباحا ومساء فامر به فضرب عنقه وقدم بعده شيخ فقال الحجاج ما اظن الشيخ يشهد على نفسه بالكفر فقال يا حجاج اخادعى انت عن نفسى انا اعرف بها منك وانى لأكفر من فرعون وهامان فضحك الحجاج وخلى سبيله فانظر الى ضعف ايمانه كيف ارتكب هذا القبح بعد ما جاوز حد الشباب الذى ليس له بعده الا انتظار الموت صباحا ومساء من اقراره بالكفر مع غاية شيبه ومن لم تتداركه العناية الازلية لم يجىء منه شىء .(2/288)
فعلى السالك ان يطمئن قلبه بالايمان ويجتهد الى ان يصل الى قوة اليقين ومن قوة اليقين التوحيد وهو ان يرى الاشياء كلها من مسبب الاسباب ويرى الوسائط مسخرة لحكمه ولا ريب ان قوة اليقين بتصفية القلب عن كدورات النفس
جو باك آفريدت بهش باش باك ... كه ننكست ن باك رفتن بخاك
بيابى بيفشان از آيينه كرد ... كه صيقل نكيرد جو زنكار خورد
وجلاء القلب انما يحصل بذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة على النبى عليه السلام وخير الاذكار كلمة التوحيد وهى العروة الوثقى
قال ابراهيم الخواص قدس سره دواء القلب خمسة . تلاوة القرآن بالتدبر . وخلاء البطن . وقيام الليل . والتضرع الى الله تعالى عند السحر . ومجالسة الصالحين . فعليك بالمواظبة لهذه الخصال لعلك تصل الى التزكية ودرجة الكمال بعون الله الملك العزيز المتعال(2/289)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{ واتقوا النار التى اعدت للكافرين } بالتحرز عن متابعتهم وتعاطى ما يتعاطونه وفيه تنبيه على ان النار بالذات معدة للكفار وبالعرض للعصاة . وكان ابو حنيفة رحمه الله يقول هى اخوف آية فى القرآن حيث اوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين ان لم يتقوه فى اصناف محارمه(2/290)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
{ واطيعوا الله } فى كل ما امركم به ونهاكم عنه { والرسول } الذى يبلغكم اوامره ونواهيه { لعلكم ترحمون } راجين لرحمته ولعل وعسى فى امثال ذلك دليل عزة التوصل الى ما جعل خبرا له
قال القاشانى ولا يخفى على الفطن ما فيه من المبالغة فى التهديد على الربا حيث اتى بلعل فى فلاح من اتقاه واجتنبه لان تعليق امكان الفلاح ورجاءه بالاجتناب منه يستلزم امتناع الفلاح لهم اذا لم يجتنبوه ويتقوه مع ايمانهم . ثم اوعد عليه بالنار التى اعدت للكافرين مع كونهم مؤمنين فما اعظمها من مصيبة توجب عقاب الكفار للمؤمنين وما اشده من تغليظ عليه ثم امد التغليظ بالامر بطاعة الله رسوله تعريضا بان آكل الربا منهمك فى المعصية لا طاعة له ثم علق رجاء المؤمنين بطاعة الله ورسوله اشعارا بانه لا رجاء للرحمة مع هذا النوع من العصيان فهو يوجب اليأس من رحمته للمؤمنين لامتناعها لهم معه فانظر كيف درج التغليظ فى التهديد حتى الحقه بالكفار فى الجزاء والعقاب انتهى بعبارته
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لعن الله آكل الربا ومكله وشاهده وكاتبه والمحلل » والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال على الوجه الذى نهى الله عنه وهو قسمان ربا النسيئة وربا الفضل . اما ربا النسيئة فهو ما كان يتعارفه اهل الجاهلية ويتعاملون به وقد سبق آنفا . واما ربا الفضل اى اخذ الفضل عند مقابلة الجنس بالجنس نقدا فهو ان يباع منّ من الحنطة بمين منها وما اشبه ذلك وقد اتفق جمهور العلماء على تحريم الربا فى القسمين
واعلم ان الربا يؤدى الى الحرص على طلب الدنيا اضعافا مضاعفة الى ما لا يتناهى كما قال عليه الصلاة والسلام « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى اليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب » والحرص درك من دركات النيرات فلذا قال { واتقوا النار التى اعدت للكافرين }
قناعت كن اى نفس بد اند كى ... كه سلطان ودرويش بينى يكى
فالحرص على الدنيا وسعيها وجمعها مذموم منهى عنه والبذل والايثار وترك الدنيا والقناعة فيها محمود مأمور به يدل عليه قوله تعالى { يمحق الله الربوا ويربى الصدقات } فمن اخذ الربا لتكثير المال بلا احتياج كان كمن يقع على امه نعوذ بالله روى عن عبد الله بن سلام للربا اثنان وسبعون حوبا اصغرها كمن اتى امه فى الاسلام كذا فى تنبيه الغافلين . واذا اخذه بوجه شرعى مع الاحتياج يجوز فى الفتوى ولكن التقوى فوق امر الفتوى والحيلة الشرعية فيه ذكرها قاضيخان حيث قال رجل له على رجل عشرة دراهم فاراد ان يجعلها ثلاث عشر قالوا قالوا يشترى من المديون شيأ بتلك العشرة ويقبض المبيع ثم يبيعه من المديون بثلاثة عشر الى سنة فيقع التحرز عن الحرام ومثل هذا مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واذا احتاج الى الاستقراض فاستقرض من رجل فلم يعطه الا بالربا فالاثم على آخذ الربا دون معطيه لانه له فيه ضرورة وهذا اذا كان الآخذ غنيا كما عرفت فالمرء الصالح يتباعد عن مثل هذه المعاملات فان الربا يضر بايمان المؤمنين وهو وان كان زيادة فى الحال لكنه نقصان فى الحقيقة فان الفقراء الذين يشاهدون ان المرابى يأخذ اموالهم بسبب الربا يلعنونه ويدعون عليه وذلك يكون سببا لزوال الخير والبركة عنه فى نفسه وماله بل عما يتفرع من نقص عرضه وقدره وتوجه مذمة الناس اليه وسقوط عدالته وزوال امانته وفسق القلب وغلظته .(2/291)
وآخذ الربا لا يقبل الله منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلاة وقد ثبت فى الحديث « ان الاغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسائة عام » فاذا كان الغنى من الوجه الشرعى الحلال كذلك فام ظنك بالغنى من الوجه الحرام . فالانسان مع فقره وحاجته اذا توكل على الله واحسن الى عبيده فالله تعالى لا يتركه ضائعا جائعا فى لادنيا بل يزيد كل يوم فى جاهه وذكره الجميل ويميل قلوب الناس اليه . واما اذا كان بخلاف ذلك فيكون امره عسيرا فى الدنيا والآخرة والعمل السوء ينزع به الايمان عند الموت فيستحق به صاحبه الخلود فى النار كالكفار نعوذ بالله من ذلك
وروى ابو بكر الوراق عن ابى حنيفة رحمه الله اكثر ما ينزع الايمان لاجل الذنوب من العبد عند الموت واسرعها نزعا للايمان ظلم العباد فاتق ايها المؤمن من الله ولا تظلم عباد الله باخذ اموالهم من ايديهم بغير حق فانه حوب كبير عصمنا الله واياكم(2/292)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{ وسارعوا } اى بادروا واقبلوا الى { مغفرة } كائنة { من ربكم وجنة } الى ما يستحقان به كالاسلام والتوبة والاخلاص واداء الواجبات وترك المنهيات { عرضها السموات والارض } اى كعرضهما صفة لجنة وذكر العرض للمبالغة فى وضعها بالسعة على طريقة التمثيل فان العرض فى العادة ادنى من الطول { اعدت للمتقين } اى هيئت لهم صفة اخرى لجنة . وفيه دليل على ان الجنة مخلوقة الآن وانها خارجة عن هذا العالم . اما الاول فلدلالة لفظ الماضى . واما الثانى فلأن ما يكون عرضه كعرض جميع هذا العالم لا يكون داخلا فيه روى ان رسول هرقل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انك تدعو الى جنة عرضها السموات والارض فأين النار فقال عليه السلام « سبحان الله فأين الليل اذا جاء النهار » والمعنى والله اعلم اذا دار الفلك حصل النهار فى جانب من العالم والليل فى ضد ذلك الجانب فكذا الجنة فى جهة العلو والنار فى جهة السفل(2/293)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
{ الذين ينفقون } كل ما يصلح للانفاق وهو صفة مادحة للمتقين { فى السراء والضراء } اى فى حالتى الرخاء والشدة اى الغنى والفقر واليسر والعسر وفى الاحوال كلها اذ الانسان لا يخلو عن مسرة او مضرة اى لا يخلون فى حال ما بانفاق ما قدروا عليه من قليل او كثير { والكاظمين الغيظ } عطف على الموصول والكظم الحبس والغيظ توقد حرارة القلب من الغضب اى الممسكين عليه الكافين عن امضائه مع القدرة عليه { والعافين عن الناس } اى التاركين عقوبة من استحق مؤاخذته { والله يحب المحسنين } الذين عمت فواضلهم وتمت فضائلهم . ولامه يصلح للجنيس فيدخل تحته هؤلاء والعهد فتكون الاشارة اليهم
واعلم ان الاحسان الى الغير اما ان يكون بايصال النفع اليه او بدفع الضرر عنه . اما ايصال النفع اليه فهو المراد بقوله { الذين ينفقون فى السراء والضراء } ويدخل فيه انفاق العلم وذلك بان يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين . ويدخل فيه انفاق المال فى وجوه الخيرات والعبادات قال عليه الصلاة والسلام « السخى قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار » واما دفع الضرر عن الغير فهو اما فى الدنيا وهو ان لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة اخرى وهو المراد بكظم الغيظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من كظم غيظا وهو يقدر على انفاذه ملأ الله قلبا امنا وايمانا » واما فى الآخرة وهو ان يبرئ ذمته من التبعات والمطالبات فى الآخرة وهو المراد بقوله { والعافين عن الناس } روى انه ينادى مناد يوم القيامة اين الذين كانت اجورهم على الله فلا يقوم الا من عفا وعن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم « ان هؤلاء فى امتى قليل الا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا فى الامم التى مضت » فهذه الآية دالة على جميع جهات الاحسان الى الغير ولما كانت هذه الامور الثلاثة مشتركة فى كونها احسانا الى الغير ذكر ثوابها فقال { والله يحب المحسنين } فان محبة الله العبد اعظم درجات الثواب
قال الفضيل بن عياض الاحسان بعد الاحسان مكافأة والاساءة بعد الاساءة مجازاة والاحسان بعد الاساءة كرم وجود والاساءة بعد الاحسان لؤم وشؤم حكى ان خادما كان قائما على رأس الحسن بن على رضى الله عنهما وهو مع اضيافه فى المائدة فانحرفت قصعة كانت فى يد الخادم فسقط منها شىء على الحسن فقال { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } قال قد عفوت عنك فقال { والله يحب المحسنين } قال أنت حر لوجه الله وقد زوجتك فلانة فتاتى وعلىّ ما يصلحكما : قال الفاضل الجامى(2/294)
جوانمردا جوانمردى بياموز ... زمردان جهان مردى بياموز
جرون ازكين كين جويان نكه دار ... زبان از طعن بد كويان نكه دار
نكويى كن بآن كوباتوبد كرد ... كزان بدر خنه دراقبال خود كرد
جو آيين نكو كارى كنى ساز ... نكردد جزبتو آن نكويى باز
فعلى العاقل ان يسارع الى العمل بالحسنات من الاحسان وانواع الخيرات سريعا قبل الفوات لان فى التأخير آفات
كنون وقت تخمست اكربرورى ... كراميد دارى كه خرمن برى
يعنى ان كنت تأمل الجنة فاعبد ربك بانواع العبادات ما دمت فى الحياة فان الفرصة غنيمة والمتأخر عن السير الله مغبون قيل بياساقى كه فى التأخير آفات ومن اضاع عمره فى الهوى فلا يلحقه يوم القيامة الا الحسرة والندامة
بمايه توان اى بسر سود كرد ... جه سود آيد آنراكه سرمايه خورد
والله تعالى خلق الانسان لدخول الجنة ودرجاتها والنار ودركاتها ثم ارسل المرسلين مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار وحث بالاتقاء والحذر عن النار كما قال { واتقوا النار التى اعدت للكافرين } وحرض على المسارعة الى الجنة بقوله { وسارعوا الى مغفرة من ربكم } اى سارعوا بقدم التقوى الى مقام من مقامات قرب ربكم { وجنة عرضها السموات والارض } يعنى طولها فوق السموات والارض
والاشارة فيه ان الوصول اليها بعد العبور من ملك السموات والارض وهو المحسوسات التى تدركها الحواس الخمس والعبور عنها انما يكون بقدم التقوى الذى هو تزكية النفس عن الاخلاق الذميمة كما قال { اعدت للمتقين } فان قدم التقوى الذى يولج به فى عالم الملكوت هو التزكية ويدل عليه ما قال عيسى عليه الصلاة والسلام [ لن يلج ملكوت السموات والارض من لم يولد مرتين ] فالولادة الثانية هى الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها وولوج الملكوت وهو التحلية بالصفات الروحانية وقوله { اعدت للمتقين } اى هم مخصوصون بها ومراتبهم فى الدرجات العلى وهو بقدر تقوى النفوس وتزكيتها عصمنا الله واياكم من الشرور والاوزار وشرفنا بمقامات الابرار والاخيار(2/295)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{ والذين اذا فعلوا فاحشة } اى فعلة بالغة فى القبح كالزنى { او ظلموا انفسهم } بان اذنبوا أى ذنب كان مما يؤاخذ به الانسان او الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك { ذكروا الله } تذكروا حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء او وعيده { فاستغفروا لذنوبهم } بان يندموا على ما مضى مع العزم على ترك مثله فى السمتقبل واما مجرد الاستغفار باللسان فلا اثر له فى ازالة الذنب وانما هو حظ اللسان من الاستغفار وهو توبة الكذابين { ومن } استفهام انكارى اى لا { يغفر الذنوب } اى جنس الذنوب احد { الا الله } بدل من الضمير المستكن فى يغفر وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه تصويبا للتائبين وتطييبا لقلوبهم وبشارة لهم بوصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة واجلالا لهم واعلاء لقدرهم بانهم علموا ان لا مفزع للمذنبين الا فضله وكرمه وان من كرمه ان التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له وان العبد اذا التجأ اليه فى الاعتذار والتنصل باقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن الذنوب وان جلت فان عفوه اجل وكرمه اعظم وتحريضا للعباد على التوبة وبعثا عليها وعلى الرجاء وردعا عن اليأس والقنوط { ولم يصروا } عطف على فاستغفروا اى لم يقيموا { على ما فعلوا } من الذنوب فاحشة كانت او ظلما غير مستغفرين لقوله عليه السلام « ما صر من استغفر وان عاد فى اليوم سبعين مرة » و « لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار » اى الصغيرة مع الاصرار كبيرة { وهم يعلمون } حال من فاعل يصروا اى لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه وبالنهى عنه والوعيد عليه والتقييد بذلك لما انه قد يعذر من لا يعلم ذلك اذا لم يكن عن تقصير فى تحصيل العلم به(2/296)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
{ اولئك } اى اهل هذه الصفات { جزاؤهم } اى ثوابهم { مغفرة } كائنة { من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } اى لهم ذخر لا يبخس واجر لا يوكس وجنات لا تنقضى ولذات لا تمضى { ونعم اجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف اى ونعم اجر العاملين ذلك اى ما ذكر من المغفرة والجنات والتعبير عنهما بالاجر المشعر بانهما تستحقان بمقابلة العمل وان كان بطريق التفضل لمزيد الترغيب فى الطاعات والزجر عن المعاصى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك قال « ابن آدم انك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك ما كان منك . ابن آدم انك ان تلقنى بقراب الارض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد ان لا تشرك بى شيأ . ابن آدم انك ان تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرنى اغفر لك » قال ثابت البنانى بلغنى ان ابليس بكى حين نزلت هذه الآية وهى قوله { والذين } الآية وقال صلى الله عليه وسلم « ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم ويصلى ثم يستغفر الله الا غفر الله له » روى ان الله تعالى اوحى الى موسى عليه السلام [ ما اقل حياء من يطمع فى جنتى بغير عمل يا موسى كيف اجود برحمتى على من يبخل طاعتى ]
وعن شهر بن حوشب طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة
وعن رابعة البصرية انها كانت تنشد
ترجو النجاة ولم تسك مسالكها ... ان السفينة لا تجرى على اليبس
قال القشيرى رحمه الله اوحى الله سبحانه الى موسى عليه السلام [ قل للظلمة حتى لا يذكرونى فانى اوجبت ان اذكر من يذكرنى وذكرى للظلمة باللعنة ]
واعلم ان العمدة هى الايمان وذلك انما يحصل بالتوحيد المنافى للشرك وهو المؤدى الى التوبة والاستغفار ولكونه عمدة عد المؤمن الموحد من المتقين وصار سببا لدخول الجنة
فينبغى للعبد ان يصرف اختياره الى جانب الامتثال للامر والاجتناب عن النهى فالله تعالى خالقه وان كان التوفيق الى جانب العمل ايضا من عنايته تعالى
نخست او ارادت بدل درنهاد ... بس اين بنده برآستان سرنهاد
وفقنى الله واياكم الى ما يحب ويرضى ويداوى بلطفه وكرمه هذه القلوب المرضى فان بيده مفاتيح الاصلاح والفوز بالبغية والظفر بالفلاح
شنيدستم كه ابراهيم ادهم ... شبى بر تخت دولت خفت خرم
زسقف خودشنيد آوازبايى ... زجا برجست جون آشفته رايى
بتندى كفت او كين كيست بربام ... كه دارد بر سبهر قصر ما كام
جواب آمد كه اى شاه جهانكير ... شتركم كرده مرد مفلسم بير
زخنده كشت شه برجاى خودست ... كه بربام آدمى هركز شترجست
دكربار باسخ آمد كاى جوان بخت ... خدا جويى بود بر كوشه بام
جوبشنيد اين بيام ازهاتف غيب ... فراغت كرد از دنيا بلا ريب
رسيد از راه تجريدى بمنزل ... بس از ادبارشد مقبول ومقبل(2/297)
فالواجب على طالب الحق ان يحفظ الادب حتى يرتقى بذلك الى اعلا الرتب ألا ترى الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف كان يستغفر كل يوم سبعين مرة مع ان ذنبه كان مغفورا وبكمال ادبه وصل الى ما وصل حتى صار اتباعه سببا لمحبة الله تعالى كما قال تعالى { قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله } ومع ذلك كان خوفه واجلاله فى غاية الكمال وهكذا ينبغى لمن اقتدى به . ورتبة المحسن وان كانت اولى ولكن التدارك احسن من الاصرار فطوبى لمتدارك وصل الى الاحسان واجير نال الى المحبوبية عند الله الرحمن(2/298)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{ قد خلت من قبلكم سنن } اصل الخلو الانفراد والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل ايضا فى الزمان الماضى لان ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الامم الخالية والسنن الوقائع اى قد مضت من قبل زمانكم وقائع سنها الله فى الامم المكذبة اى وضعها طريقة يسلكها على وفق الحكمة فالمراد بسنن الله تعالى معاملات الله فى الامم المكذبة بالهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } { فسيروا فى الارض } اى ان شككتم فى ذلك فسيروا وليس المراد الامر بالمسافرة فى الارض بسير الاقدام لا محالة بل المقصود تعرف احوالهم فان حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ولعل اختيار لفظ سيروا مبنى على ان اثر المشاهدة اقوى من اثر السماع كما قيل ليس الخبر كالمعاينة وفى هذا المعنى قيل
ان آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا الى الآثار
{ فانظروا } بنظر العين والمشاهدة { كيف } خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة فى محل النصب بعد نزع الخافض لان الاصل استعماله بالجال { كان عاقبة المكذبين } رسلى واوليائى { هذا } اشارة الى ما سلف من قوله قد خلت الخ { بيان للناس } وهم المكذوبن اى ايضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فان الامر بالسير والنظر وان كان خاصا بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين ايضا على ان ينظروا الى عواقب ما قبلهم من اهل التكذيب ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارهم وان لم يكن الكلام مسوقا لهم والبيان هو الدلالة على الحق فى أى معنى كان بازالة ما فيه من الشبهة { وهدى } اى زيادة بصيرة وهو مختص بالدلالة والارشاد الى طريق الدين القويم والصراط المستقيم ليتدين به ويسلك { وموعظة } وهو الكلام الذى يفيد الزجر عما لا ينبغى فى الدين { للمتقين } اى لكم والاظهار للايذان بعلة الحكم فان مدار كونه هدى وموعظة لهم انما هو تقواهم
واعلم ان الامم الماضية خالفوا الانبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم اثر وبقى عليهم اللعن فى الدنيا والعقاب فى الآخرة فرغب الله تعالى امة محمد صلى الله عليه وسلم المصدقين فى تأمل احوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الانابة والاعراض عن الاغترار بالحظوظ الفانية واللذات المقتضية فان الدنيا لا تبقى مع المؤمن ولا مع الكافر فالمؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل فى الدنيا والثواب الجزيل فى العقبى والكافر بخلافه فاللائق ان يجتهد فيما هو خير وابقى ولا ينظر الى زخارف الدنيا . ثم فى هذا تسلية للمؤمنين فيما اصابهم يوم احد فان الكفار وان نالوا من المؤمنين بعض النيل لحكمة اقتضته فالعاقبة للمؤمنين قال تعالى(2/299)
{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون } و { ان الارض يرثها عبادى الصالحون } ولو كانت الغلبة كل مرة للمؤمنين لصار الايمان ضروريا وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة الآلهية . فعلى العاقل ان يفوض الامر الى الله ويعتبر بعين البصيرة فى الامور الخفية والجلية وقد قال الله تعالى { فاعتبروا يا اولى الابصار }
نرود مرغ سوى دانه فراز ... جون دكر مرغ بيند اندر بند
بندكير ازمصائب دكران ... تانكيرند ديكران زتو بند
والخوف من العاقبة من الصفات السنية للصلحاء روى انه يعذب الرجل فى النار الف سنة ثم يخرج منها الى الجنة قال الحسن البصرى رحمه الله يا ليتنى كنت ذلك الرجل وانما قال الحسن ذلك لانه يخاف عاقبة امره وهكذا كان الصالحون يخافون عاقبة امرهم وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر ان يقول « يا مقلب القلوب ثبت قلبى على طاعتك » قالت عائشة رضى الله عنها يا رسول الله انك لتكثر القول بهذا الدعاء فهل تخشى قال صلى الله عليه وسلم « ما يؤمننى يا عائشة وقلوب العباد بين اصبعين من اصابع الرحمن فاذا اراد ان يقلب قلبا قلبه »
قال السدى انى لأنظر فى المرآة كل يوم مرارا مخافة ان يكون قد اسود وجهى
والاشارة فى الآيتين ان الله خص السائرين الى الله بالمهاجرة عن الاوطان والمسافرة الى البلدان بمقارقة الخلان والاخدان ومصاحبة الاخوانغير الخوّان ليعتبروا من سنن اهل لسنن فقال تعالى { قد خلت من قبلكم سنن } اى امم لهم سنن { فسيروا } على سنن اهل السنة { فى الارض } فى ارض نفوسكم الحيوانية بالعبور عن اوصافها الدنية واخلاقها الردية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية وتتخلقوا بالاخلاق الربانية { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } اى كيف صار حاصل امر النفوس الكذبة بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية عند الوصول اليها { هذا بيان للناس } اى لاهل الغفلة والغيبة الناسين عهد الميثاق { وهدى وموعظة للمتقين } اى وعيان لاهل الهداية والشهود الذاكرين للعهود الذين اتعظوا بالتجارب والتقوى عما سوى الله تعالى
قال بعض العلماء يا مغرور امسك وقس يومك بامسك واتعظ بمن مضى من ابناء جنسك فانك بك قد خللت فى رسمك أين من اسخط مولاه بنيل ما يهواه أين من افنى عمره فى خطاياه فتذكر انت أيها الغافل مصارعهم وانظر مواضعهم هل نفعهم رفيق رافقوه او منعهم اما خلوا بخلالهم اما انفردوا باعمالهم فستصير فى مصيرهم فتدبر أمرك وستسكن فى مثل مساكنهم فاعمر قبرك يا مسرورا بمنزلة الرحب الانيق ستفارقه يا مشمئزا من التراب ستعانقه اعتبر بمن سبقك فانت لاحقه واذكر العهد الازلى فزك نفسك حياء من الله لعلك تصل الى ما تهواه من جنات وعيون ومقام كريم ووصال الصالحين وهل ترضى لنفسك يا مسكين ان تقف فى مقام الجهال المعتدين اما علمت انك غدا تدان كما تدين اصلح الله احوالنا وصحح اقوالنا وافعالنا واعطانا آمالنا وختمنا بالخير اذا بلغنا آجالنا(2/300)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{ ولا تهنوا } من الوهن وهو الضعف اى لا تضعفوا عن الجهاد بما اصابكم من الجراح يوم احد { ولا تحزنوا } على من قتل منكم وهى صيغة نهى ورد للتسكين والتصبير لا النهى عن الحزن { وانتم الاعلون } اى والحال انكم الاعلون الغالبون دون عدوكم فان مصير امرهم الى الدمار حسبما شاهدتم فى احوال اسلافهم لان الباطل يكون زهوقا واصله اعليون فكرهوا الجمع بين اخت الكسرة والضمة { ان كنتم مؤمنين } والجواب محذوف دل عليه المذكور اى ان كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فان الايمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة باعدائه ولا يتعلق بالنهى المذكور لان الجزاء لا يتقدم على الشرط لكونهما كالكلمة الواحدة { ان يمسسكم } اى يصبكم { قرح } فتحا وضما اى جراحة { فقد مس القوم } اى الكفار ببدر { قرح مثله } قيل قتل المسلمون من الكافرين ببدر سبعين واسروا سبعين وقتل الكافرون من المسلمين باحد سبعين واسروا سبعين والمعنى ان نالوا منكم يوم احد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فانتم اولى بان لا تضعفوا فانكم ترجون من الله ما لا يرجون { وتلك الايام } اشارة الى الايام الجارية فيما بين الامم الماضية والآتية كافة لا الى المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم احد بل هى داخلة فيها دخولا اوليا والمراد بها اوقات الظفر والغلبة { نداولها بين الناس } ونصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء اخرى كقول من قال
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسرّ
والمداولة نقل الشىء من واحد الى واحد وقالوا تداولته الايدى اى تناقلته واليس المراد من هذه المداولة ان الله تعالى تارة ينصر المؤمنين واخرى ينصر الكافرين وذلك لان نصره تعالى منصب شريف فلا يليق بالكفار بل المراد انه تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار واخرى على المؤمنين وانه لو شدد المحنة على الكفار فى جميع الاوقات وازالها عن المؤمنين فى جميع الاوقات لحصل العلم الضرورى والاضطرارى بان الايمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على اهل الايمان واخرى على اهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الاسلام فيعظم ثوابه عند الله ولان المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى فيكون اما تشديد المحنة عليه فى الدنيا ادبا له واما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من الله { وليعلم الله الذين آمنوا } عطف على علة محذوفة اى نداولها بينكم ليكون من المصالح مالا يعلم وهو اما من باب التمثيل اى ليعاملكم معاملة من يريد ان يعلم المخلصين الثابتين على الايمان من غيرهم او العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق اطلاق اسم السبب على المسبب اى ليميز الثابتين على الايمان من غيرهم او هو على حقيقة معتبرة من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث انه موجود بالفعل اذ هو الذى يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث انه موجود بالقوة فالمعنى ليعلم الله الذين آمنوا علما يتعلق به الجزاء { ويتخذ منكم شهداء } جمع شهيد اى ويكرم ناسا منكم بالشهادة وهم شهداء احد { والله لا يحب الظالمين } ونفى المحبة كناية عن البغض اى يبغض الذين يضمرون خلاف ما يظهرون او الكافرين وهو اعتراض .(2/301)
وفيه تنبيه على انه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وانما يغلبهم احيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين { وليمحص الله الذين آمنوا } عطف على يتخذ اى ليصفيهم ويطهرهم من الذنوب ان كانت الدولة عليهم { ويمحق الكافرين } ويهلكهم ان كانت عليهم . والمحق نقص الشىء قليلا قليلا والمراد بهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم احد واصروا على الكفر وقد محقهم الله عز وجل جميعا
قال القاشانى ومن فوائد الابتلاءخروج ما فى استعداداتهم من الكمالات الى الفعل كالصبر والشجاعة وقوة اليقين وقلة المبالاة بالنفس واستيلاء القلب عليها والتسليم لامر الله وامثالها
قال نجم الدين الكبرى { ولا تهنوا } يا سائرين الى الله فى السير اليه { ولا تحزنوا } على ما فاتكم من التنعمات الدنيوية والكرامات الاخروية { وانتم الاعلون } من اهل الدنيا والآخرة فى المقام عند ربكم { ان كنتم مؤمنين } مصدقين بهذه الاخبار تصديق الائتمار به { ان يمسسكم قرح } فى اثناء السير من المجاهدات وانواع البلاء والابتلاء { فقد مس القوم } من الانبياء والاولياء { قرح } من المحن { مثله وتلك الايام } وايام المحن والبلاء والابتلاء والامتحان { نداولها بين الناس } بين السائرين يوما نعمة ويوما نقمة ويوما منحة ويوما محنة { وليعلم الله الذين آمنوا } وليختبرهم الله بالامتحان ويجعلهم مستعدين لمقام الشهادة { ويتخذ منكم شهداء } يا مبتلين بالنعمة والنقمة فى اثناء السير ارباب الشهود والمشاهدة { والله لا يحب الظالمين } الذين يصرفون استعدادهم فى طلب غير الحق والسير اليه { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } يعنى ان كل غم وهم ومصيبة تصيب المؤمنين فى الله يكون تكفيرا لذنوبهم وتطهيرا لقلوبهم وتخليصا لارواحهم وتمحيصا لاسرارهم وما يصيب الكافرين من نعمة ودولة وحبور يكون سببا لكفرانهم ومزيدا لطغيانهم وعمى لقلوبهم وتمردا لنفوسهم ومحقا لارواحهم وسحقا لاسرارهم فاهل المحبة والمعرفة لا يخلون عن الابتلاء بقلة او ذلة او علة فان مقتضى الحكمة ذلك ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام « اشد البلاء على الانبياء ثم الاولياء ثم المثل فالامثل » حكى ان عيسى عليه السلام اجتاز جبلا فيه عابد يعبد الله عند عين من ماء لطهارته وشربه وبستان ينبت له الهندباء لقوته فسلم عليه المسيح فرد السلام عليه فقال له منذ كم انت ههنا تعبد الله قال منذ ثمانين سنة اسأل حاجة من الله فلم يقضها لى فقال عيسى وما هى قال ان يسكن قلبى ذرة من معرفته ومحبته فلا يفعل وانت نبيه فسل لى هذه الحاجة فتوضأ عيسى من العين وصلى ركعتين وسأل حاجته ثم مضى وبقى ما بقى فى سفره فلما رجع الى ذلك المكان رآه خاليا والعين غائرة والبستان خراب فقال يا رب سألتك له المعرفة والمحبة قبضت روحه فاوحى الله اليه يا عيسى أما علمت ان خراب الدنيا فى محبتى ومعرفتى ومن عرفنى واحبنى لا يسكن الا الىّ ولا يقر قرارا فان احببت ان تراه فاشرف عليه فى هذا الوادى فاشرف عليه فاذا هو جالس قد ذهل وتحير وخرج لسانه على صدره شاخصا ببصره نحو السماء فناداه عيسى والعابد لا يسمع فناداه وحركه فلم يشعر فاوحى الله الى عيسى فوعزتى وجلالى لو قطعته بالسيف ما شعر به لانى اسكنت قلبه معرفتى ومحبتى وهو اقل من ذرة ولو زدته ادنى شىء لطار بين السماء والارض وطاش فانظر الى اهل الله كيف تكون دنياهم خرابا لا يخلون من البلايا فاجتهد انت ايضا ايها العبد فى تصحيح الدين لعلك تصل مقام اليقين والتمكين والمجاهدة تورث المشاهدة(2/302)
جو يوسف كسى در صلاح وتميز ... بسى سال بايدكه كردد عزيز(2/303)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{ أم حسبتم } ام منقطعة والهمزة للانكار والاستبعاد والحسبان الظن والخطاب للذين انهزموا يوم احد اى بل أظننتم { ان تدخلوا الجنة } وتفوزوا بنعيمها { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للانكار فان رجاء الاجر بغير عمل بعيد ممن يعلم انه منوط به مستعبد عند العقول وعدم العلم كناية عن عدم المعلوم اى لما تجاهدوا لان وقوع الشىء يستلزم كونه معلوما لله ونفى اللازم يستلزم نفى الملزوم فنزل نفى العلم منزلة نفى الجهاد للتأكيد والمبالغة لان انتفاء اللازم برهان على انتفاء الملزوم وفيه اشعار بان علمه بالاشياء على ما هى عليه ضرورى يقول الرجل ما علم الله فى فلان خيرا يريد ما فيه خير حتى يعلمه ولما بمعنى لم الا ان فيه ضربا من التوقع فدل على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل تقول وعدنى ان يفعل كذا ولما يفعل اى لم يفعل وانا اتوقع فعله { ويعلم الصابرين } نصب باضمار ان والواو بمعنى الجمع والمعنى ام حسبتم ان تدخلوا الجنة والحال انه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر على الشدائد اى الجمع بينهما فلا ينبغى ان تحسبوا دخولها كما دخل الذين قتلوا وبذلوا مهجتهم وثبتوا على ألم الجراح والضرب من غير ان تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم ومن البعيد ان يصل الانسان الى السعادة والجنة مع عدم اعمال هذه الطاعة(2/304)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{ ولقد كنتم تمنون الموت } اى الحرب فانها من مبادى الموت او الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون ان يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخروج ثم ظهر منهم خلاف ذلك { من قبل ان تلقوه } اى من قبل ان تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته { فقد رأيتموه } اى ما تتمنونه من اسباب الموت او الموت بمشاهدة اسبابه { وانتم تنظرون } معاينين مشاهدين له حين قتل بين ايديكم من قتل من اخوانكم واقاربكم وشارفتم ان تقتلوا فلم فعلتم ما فعلتم وهو توبيخ لهم على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة بناء على ان فى تمنيها تمنى غلبة الكافر المسلم لان قصد متمنى الشهادة الى نيل كرامة الشهداء من غير ان يخطر بباله شىء غير ذلك فلا يستحق العتاب من تلك الجهة كما ان من يشرب دواء الطبيب النصرانى يقصد الى حصول المأمول من الشفاء ولا يخطر بباله ان فيه جر منفعة واحسانا الى عدو الله وتنفيقا لصناعته
واعلم ان حاصل الكلام ان حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة فبقدر ما يزداد احدهما ينتقص الآخر وذلك لان سعادة الدنيا لا تحصل الا باشتغال القلب بطلب الدنيا وسعادة الآخرة لا تحصل الا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله وهذان الامران مما لا يجتمعان فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد فى هذه الآية من اجتماعهما
وايضا حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى فليس كل من اقر بدين الله كان صادقا ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحرمات فان الحب هو الذى لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء فان بقى الحب عند تسلط اسباب البلاء ظهر ان ذلك الحب كان حقيقيا فلهذه الحكمة قال { ام حسبتم ان تدخلوا الجنة } بمجرد تصديقكم الرسول قبل ان يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة
قال القشيرى رحمه الله من ظن انه يصل الى محل عظيم دون مقاساة الشدائد القته امانيه فى مهواة الهلاك وان من عرف قدر سهل عليه بذل مجهوده قال الشاعر
وما جاد دهر بلذاته ... على من يضن بخلع العذار
فالدولة العظمى هى سعادة الآخرة فانها باقية ودولة الدنيا فانية كما قيل
جهان مثال جراغيست دركذركه باد ... غلام همت آنم كه دل بروننهاد
وسئل الشبلى عن نعت العارف فقال لسانه بذكر الله ناطق وقلبه بحجة الله صادق وسره بوعد الله واثق وروحه الى سبيل الله سابق وهو ابدا على الله عاشق فلا بد لان يكون المرء من العارفين من ترك الدعوى والاقبال الى المولى وبذل الروح فى طريقه حكى عن حاتم الاصم انه قال لقينا الترك وكان بيننا صولة فرمانى تركى بوهق فاقبلنى عن فرسى ونزل عن دابته وقعد على صدرى واخذ بلحيتى هذه الوافرة واخرج من خفه سكينا ليذبحنى قال فوحق سيدى ما كان قلبى عنده ولا عند سكينه وانا ساكت متحير اقول سيدى اسلمت نفسى اليك ان قضيت على ان يذبحنى هذا فعلى الرأس والعين اما انا لك وملكك فبينا انا اخاطب سيدى وهو قاعد على صدرى اذ رماه بعض المسلمين بسهم فما اخطأ حلقه فسقط عنى فقمت انا اليه فاخذت السكين من يده فذبحته بها فيا هؤلاء لتكن قلوبكم عند السيد حتى ترون من عجائب لطفه ما لا ترون من الآباء والامهات واعلموا ان من صبر واستسلم ظفر ومن فرّ اتبع فلم يتخلص ونعم العون الصبر عند الشدائد(2/305)
تحمل جو زهرت نمايد نخست ... ولى شهد كردد جو در طبع رست
زعلت مدار اى خردمند بيم ... جوداروى تلخت فرستد حكم
ثبتنا الله واياكم(2/306)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{ وما محمد } هو المستغرق لجميع المحامد لان الحمد لا يستوجبه الا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه الا المستولى على الامد فى الكمال واكرم الله نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله محمد واحمد { الا رسول } روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج الى الشعب من احد فى سبعمائة رجل جعل عبد الله بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين راجلا وقال « اقيموا باصل الجبل وادفعوا عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا ولا تنتقلوا من مكانكم حتى ارسل اليكم فلا نزال غالبين ما دمتم فى مكانكم » فجاء المشركون ودخلوا فى الحرب مع النبى عليه السلام واصحابه حتى حميت الحرب فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا وقال « من يأخذه بحقه » فأخذه ابو دجانة فقاتل فى نفر من المسلمين قتالا شديدا وقاتل على بن ابى طالب حتى التوى سيفه وقاتل سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه وكان النبى عليه السلام يقول لسعد « ارم فداك ابى وامى » فحمل هو واصحابه على المشركين فانزل الله نصره عليهم فهزموا المشركين فلما نظر الرماة الى قوم هاربين اقبلوا على النهب بترك مركزهم فقال لهم عبد الله بن جبير لا تبرحوا مكانمكم فقد عهد اليكم نبيكم فلم يلفتوا الى قوله فجاؤا لاجل الغنيمة فبقى عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتى فارس من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقى من الرماة ودخلوا خلف اقفية المسلمين فهزموهم ورمى ابن قميئة النبى عليه السلام بحجر فكسر رباعيته وشجه وفيه يقول حسان بن ثابت
ألم تر ان الله ارسل عبده ... ببرهانه والله اعلى وامجد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وتفرق عنه اصحابه وحمل ابن قميئة لقتل النبى عليه السلام فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية يومئذ فقتله ابن قميئة ورجع فظن انه كان قتل النبى عليه السلام فقال قتلت محمد وصرخ صارخ ألا ان محمدا قد قتل وكان ذلك ابليس فرجع اصحابه منهزمين متحيرين فاقبل انس بن النضر عم انس بن مالك الى عمر بن الخطاب رضى عنه وطلحة بن عبد الله فى رجال من المهاجرين والانصار فقال لهم ما يحبسكم قالوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون فى الحياة بعده موتوا كراما على ما مات عليه نبيكم ثم اقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل قال كعب بن مالك انا اول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران ينادى باعلى صوته(2/307)
« الىّ عباد الله الىّ عباد الله » فاجتمعوا اليه فلامهم رسول الله على هزيمتهم فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وامهاتنا اتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا له فولينا مدبرين فوبخهم الله تعالى بقوله { وما محمد الا رسول } كسائر الرسل { قد خلت من قبله الرسل } فسيخلوا كما خلوا وكما ان اتباعهم بقوا متمكسين بدينهم بعد خلوهم فعليكم ان تتمسكوا بدينه بعد خلوه لان الغرض من بعثة الرسول الرسالة والزام الحجة لا وجوده بين اظهر قومه { أفأن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم } انكار لارتدادهم وانقلابهم عن الدين بخلوه عليه السلام بموت او قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به { ومن ينقلب على عقبيه } بادباره عما كان يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من امر الجهاد وغيره { فلن يضر الله } بما فعل من الانقلاب { شيأ } اى شيأ من الضرر وانما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب والله منزه عن النفع والضرر { وسيجزى الله الشاكرين } اى الثابتين على دين الاسلام الذى هو اجل نعمة واعز معروف سموا بذلك لان الثبات عليه شكر له وايفاء لحقه وفيه ايماء الى كفران المنقلبين
ولما توفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش ومنهم من اقعد فلم يطق القيام ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام ومنهم من انكر موته بالكلية حتى غفل عمر رضى الله عنه عن هذه الآية الكريمة عند وفاته صلى الله عليه وسلم وقام فى الناس فقال ان رجالا من المنافقين يزعمون انه عليه السلام توفى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه اربعين ليلة ثم رجع والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأقطعن ايدى رجال وارجلهم يزعمونه ان رسول الله مات ولم يزل يكرر ذلك الى ان قام ابو بكر فحمد الله واثنى عليه ثم قال ايها الناس من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حى لا يموت ثم تلا { وما محمد الا رسول } قال الراوى والله لكأن الناس لم يعلموا ان هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول فكيف بقلوب المؤمنين ولما فقده الجذع الذى يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حن اليه وصاح كما يصيح الصبى فنزل اليه فاعتنقه فجعل يهدى كما يهدى الصبى الذى يسكن عند بكائه وقال « لو لم اعتنقه لحن الى يوم القيامة » ما امرّ عيش من فارق الاحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الالباب ولما نقل النبى عليه السلام جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة رضى الله عنها واكرب ابتاه فقال لها ليس على ابيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا ابتاه اجاب ربا دعاه يا ابتاه جنة الفردوس مأواه فلما دفن قالت فاطمة يا انس اطابت انفسكم ان تحثوا على نبيكم التراب وعاشت فاطمة بعد موته صلى الله عليه وسلم سته اشهر ثم ماتت(2/308)
جهان اى برادر نماند بكس ... دل اندرجهان آفرين بندوبس
فعلى العاقل ان يتدارك حاله قبل منيته حتى لا يفتضح عند رؤوس الخلائق يوم القيامة وكيف لا يسارع الى الاعمال الصالحة من يعلم ان يوم القيامة يوم يفزع فيه الانبياء والاولياء
دران روز كزفعل برسند وقول ... اولو العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه وحشت خورد انبيا ... توعذر كنه را جه دارى بيا
يعنى بأى عذر ترتكب الآثام ولا تبالى بحالك ثم ان الخلاص والفوز بالمرام فى الايمان التحقيقى
قال الشيخ نجم الدين الكبرى الاشارة فى الآية ان الايمان التقليدى لا اعتبار له فينقلب المقلد عن ايمانه عند عدم المقلد به فمن كان ايمانه بتقليد الوالدين او الاستاذ او اهل البلد ولما يدخل الايمان فى قلبه ولم ينشرح صدره بنور الاسلام فعند انقطاعه بالموت عن هذه الاسباب المقلدة يعجز عن جواب سؤال الملكين فى قولهما من ربك فيقول هاه لا ادرى واذ يقولان ما تقول فى هذا لارجل فيقول هاه لا ادرى كنت اقول فيه ما قال الناس فيقولان له لا دريت ولا تليت
ردانند كان بشنو امروز قول ... كه فردا نكيرت بيرسد بهول
غنيمت شمار اين كرامى نفس ... كه بيمرغ قيمت ندارد قفس
يعنى البدن ليس له قدر بدون الروح فلا بد ان يغتم العاقل انفاسه قبل ان يخرج الروح من قفصه(2/309)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{ وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله } استثناء مفرغ من اعم الاسباب اى وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الاسباب الا بمشئيته تعالى او الا باذنه لملك الموت فى قبض روحها والمعنى ان لكل نفس اجل مسمى فى علمه تعالى وقضائه لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون بالاحجام عن القتال والاقدام عليه . وفيه تحريض وتشجيع على القتال ووعد الرسول بالحفظ وتأخير الاجل ورد على المنافقين قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا قالمجاهد لا يموت بغير اجله والمتخلف عنه لا يسلم مع حضور اجله
بروز اجل نيزه جوشن درد ... ز بيراهن بى اجل نكذرد
{ كتابا } مصدر مؤكد لما قبله اذ المعنى كتب الموت كتابا { مؤجلا } موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعة وبعد تحقيق ان مدار الموت والحياة على محض مشيئة الله من غير ان يكون فيه مدخل لاحد اصلا اشير الى ان توفية ثمرات الاعمال دائرة على ارادتهم ليصرفوها عن الاعراض الدنية الى المطالب السنية فقيل { ومن يرد } اى بعمله { ثواب الدنيا نؤته منها } اى من ثوابها ما نشاء ان نؤتيه اياه . وفيه تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم احد { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } اى من ثوابها ما نشاء من الاصناف حسبما جرى به الوعد الكريم { وسنجزى الشاكرين } نعمة الاسلام الثابتين عليه الصارفين ما آتاهم الله من القوى والقدر الى ما خلقت هى لاجله من طاعة الله لا يلويهم عن ذلك صارف اصلا
ويدخل فى جنس الشاكرين المجاهدون المعهودون من الشهداء فى احد وغيرهم والآية وان وردت فى الجهاد خاصة لكنهاعامة فى جميع الاعمال وذلك لان المؤثر فى طلب الثواب والعقاب المقصود والدواعى لا ظواهر الاعمال فان من وضع الجبهة على الارض فى صلاة الظهر والشمس قدامه فان قصد بذلك السجود عبادة الله كان ذلك من اشرف دعائم الاسلام وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من اعظم دعائم الكفر
وروى ابو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام « ان الله تعالى يقول يوم القيامة لمن قتل فى سبيل الله فيماذا قتلت فيقول امرت بالجهاد فى سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل اردت ان يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ثم ان الله تعالى يأمر به الى النار » فالمقاتل فى سبيل الله تحقيقا هو الذى يقاتل لتكون كلمة الله هى العليا لا للذكر الجميل واراءة المكان واصابة الغنيمة
عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغز بوست
بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا درتوانى فروخت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/310)
« من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه شمله ولا يأتيه منها الا ما كتب له » وقال ايضا « انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه » فمن عمل شوقا الى الجنة فقد رأى نعمة الجنة فثوابه فى الآخرة ومن عمل شوقا الى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم فثوابه فى الدنيا لانه حاضر لا غيبة له قريب لا يبعد وهو معكم اينما كنتم وقال « ألا من طلبنى وجدنى ومن تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا »
خليلىّ هل ابصرتما او سمعتما ... باكرم من مولى تمشى الى عبد
اتى زائر من غير وعد وقال لى ... اجلك عن تعذيب قلبك بالوعد
فعلى السالك ان يهاجر الى الله ويجاهد من غير ان يخاف لومة لائم حتى يصل الى الله ويتخلص من الاضطرار
قال القاشانى فى تأويلاته من كان موقنا لسر القدر شاهدا لمعنى قوله تعالى { وما كان لنفس ان تموت الا باذن الله } كان من اشجع الناس حكى عن حاتم الاصم انه شهد مع شقيق البلخى بعض غزوات خراسان قال فلقينى شقيق وقد حمى الحرب فقال كيف تجد قلبك يا حاتم قلت كليلة الزفاف لا افرق بين الحالتين فوضع سلاحه وقال اما انا فهكذا ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى غطيطه وهذا غاية فى سكون القلب الى الله تعالى ووثوقه به انتهى فاذا صحح العبد باطنه يسهل الله عليه كل عسير ويسخر له كل ما يخاف منه حكى عن ابراهيم الرقى انه قال قصدت ابا الخير الخراسانى مسلما عليه فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستويا فقلت فى نفسى ضاعت سفرتى فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدنى السبع فعدت اليه وقلت ان الاسد قصدنى فخرج وصاح على الاسد وقال ألم اقل لك لا تتعرض لاضيافى فتنحى فتطهرت فلما رجعت قال اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الاسد واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الاسد
اوليا محبوب الله است دان ... كس نيازارد حبيبش درجها(2/311)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{ وكأين } اصله اى دخلت الكاف عليها فحدث فيها معنى التكثير فهى بمعنى كم الخبرية { من نبى } تمييز لها والغالب فى تمييزها ان يكون مجرورا بمن ولم يجىء فى التنزيل الا كذا وجره ممتنع لان آخره تنوين وهو لا يثبت مع الاضافة { قاتل معه ربيون كثير } خبر لقوله كأين لانها مبتدأ والفعل مسند الى ظاهره . والربى منسوب الى الرب كالربانى وكسر الراء من تغييرات النسب فان العرب اذا نسبت شيأ الى شىء غيرت كما قالوا بصرى فى النسبة الى بصرة او منسوب الى الربة وهى الجماعة والمعنى كثير من الانبياء قاتل معه لاعلاء كلمة الله واعزاز دينه علماء اتقياء او جماعات كثيرة { فما وهنوا } عطف على قاتل اى فما فتروا وما انكسرت همتهم { لما اصابهم } فى اثناء القتال وهو علة للمنفى دون النفى { فى سبيل الله } ان جعل الضميران لجميع الربيين فما فى ما اصابهم عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره اللاحقة للكل وان جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون فهى عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل اخوانهم والخوف والحزن وغير ذلك { وما ضعفوا } عن العدو او الجهاد او فى الدين { وما استكانوا } اى وما خضعوا للعدو . واصله استكن من السكون لان الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والالف لاشباع الفتحة . او استكون من الكون لانه يطلب ان يكون لم يخضع له وهذا تعريض بما اصابهم من الوهن والانكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والارجاف بقتل النبى عليه السلام وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين ارادوا ان يعتضدوا بابن ابى المنافق فى طلب الامان من ابى سفيان { والله يحب الصابرين } اى على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره فى سبيل الله فينصرهم ويعظم قدرهم(2/312)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{ وما كان قولهم } بالنصب خبرا لكان واسمها ان وما بعدها فى قوله تعالى { الا ان قالوا } والاستثناء مفرغ من اعم الاشياء اى ما كان قولا لهم عند لقاء العدو واقتحام مضايق الحرب واصابة ما اصابهم من فنون الشدائد والاهوال شىء من الاشياء الا ان قالوا { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } اى صغائرنا { واسرافنا فى امرنا } اى تجاوزنا الحد فى ارتكاب الكبائر اضافوا الذنوب والاسراف الى انفسهم مع كونهم ربانيين برآء من التفريط فى جنب الله هضما لها واستقصارا لهم واسنادا لما اصابهم الى اعمالهم وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الاهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم { وثبت اقدامنا } اى فى مواطن الحرب بالتقوى والتأييد من عندك او ثبتنا على دينك الحق { وانصرنا على القوم الكافرين } تقريبا له الى حيز القبول فان الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة اقرب الى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير ان يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل فى مواقف الحرب ومراصد الدين . وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى(2/313)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{ فآتاهم الله } بسبب دعائهم ذلك { ثواب الدنيا } اى النصر والغنيمة والعز والذكر الجميل { وحسن ثواب الآخرة } اى وثواب آخرة الحسن وهى الجنة والنعيم المخلد وتخصيص وصف الحسن به للايذان بفضله ومزيته وانه المعتد به عنده تعالى { والله يحب المحسنين } ومحبة الله للعبد عبارة عن رضاه عنه وارادة الخير به فهى مبدأ لكل سعادة
والاشارة ان الله تعالى لما زاد لخواص عباده كرامة التخلق باخلاقه ابتلاهم بقتال العدو وثبتهم عند الملاقاة فاستخرج من معادن ذواتهم جواهر صفاته المكنونة فيها المكرمة بها بنوا آدم والصبر والاحسان من صفات الله والله تعالى يحب صفاته ويحب من تخلق بصفاته ولهذا قال { والله يحب الصابرين } { والله يحب المحسنين
} قال الامام فى قوله تعالى { والله يحب المحسنين } فيه لطيفة دقيقة وهى ان هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا فى امرنا فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأنه تعالى يقول لهم اذا عرفت باساءتك وعجزك فانا اصفك بالاحسان واجعلك حبيبا لنفسى حتى يعلم انه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز
كنون بايدت عذر تقصير كفت ... نه جون نفس ناطق ز كفتن بخت
توبيش ازعقوبت درعفو كوب ... كه سودى ندارد فغان زير جوب
حكى ان آصف بن برخيا اذنب ذنبا يوما من الايام فأتى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فقال له ادع الله ان يغفر لى فدعا فغفر له ثم فعل ثانيا فغفر بدعائه ثانيا ثم وثم الى ان اوحى الله الى سليمان عليه السلام ان لا اجيب دعوتك فى حقه ان عاد بعد فلم يمكث ان فعل مرة اخرى فجاء الى سليمان عليه السلام لكى يدعو فاخبره بان الله لا يغفر له فرفع الرجل العصا وخرج الى الصحراء وضرب العصا الى الارض ورفع يده وقال يا رب انت انت وانا انا انت العائد بالمغفرة وانا العائد بالمعصية انا الضعيف المجرم وانت الغفور الرحيم ان لم تعصمنى من الذنوب فلأعودن ثم لأعودن كررها حتى غشىعليه فاوحى الله تعالى الى سليمان عليه السلام ان قل لابن خالتك ان عدت فأغفر لك ثم اغفر لك ثم اغفر لك ثم اغفر لك وانا الغفار
كنونت كه جشمست اشكى ببار ... زبان دردهانست عذرى بيار
فراشو جوينى در صلح باز ... كه ناكه درتوبه كردد فراز
مرو زير باركنه اى بسر ... كه حمال عاجز بوددر سفر
فلا يغرنك الشيطان بتزيين الدنيا عليك فانك تعلم فناءها
واوحى الله الى داود عليه السلام [ انى منزلك وذريتك الى دار بنيتها على اربعة اركان . احدها ان اخرب ما تعمرون . والثانى ان اقطع ما تصلون . والثالث ان اميت ما تلدون . والرابع ان افرق ما تجمعون ] ومن الله العصمة والتوفيق الى سواء الطريق(2/314)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
{ يا ايها الذين آمنوا } نزلت فى قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا الى دينكم واخوانكم ولو كان نبيا لما غلب وقتل فقال تعالى يا ايها المؤمنون { ان تطيعوا الذين كفروا } وهم المنافقون وصفوا بالكفر قصدا الى مزيد التنفير عنهم والتحذير من طاعتهم { يردوكم على اعقابكم } يدخلوكم فى دينهم اضاف الرد اليهم لدعائهم اليه والارتداد على العقب علم فى انتكاس الامر ومثل فى الحور بعد الكور { فتنقلبوا خاسرين } كرامة الدنيا وسعادة الآخرة اما الاولى فلان اشق الاشياء على العقلاء فى الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له واظهار الحاجة اليه واما الثانية فلانه يحرم من الثواب المؤيد ويقع فى العذاب المخلد(2/315)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{ بل الله مولاكم } اى ليسوا انصاركم حتى تطيعوهم بل الله ناصركم لا غيره فاطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم { وهو خير الناصرين } فخصوه بالطاعة والاستعانة(2/316)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
{ سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب } وهو ما قذف فى قلوبهم من الخوف يوم احد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ولهم القوة والغلبة . والرعب خوف يملأ القلب { بما اشركوا بالله } اى بسبب اشراكهم به تعالى فانه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم { ما لم ينزل به } اى باشراكه { سلطانا } اى حجة وبرهانا وما مفعول بوقوع اشركوا عليه اى آلهة ليس على اشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطانا واصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته وسلطان المدعى حجته وبها يقوى على دفع المبطل . وفيه ايذان بان المتبع فى الباب هو البرهان السماوى دون الآراء والاهواء الباطلة { ومأواهم } اى ما يأوون اليه فى الآخرة { النار } لا ملجأ لهم غيرها { وبئس مثوى الظالمين } والمخصوص بالذم حذوف اى النار وفى جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم نوع رمز الى خلودهم فيها فان المثوى مكان الاقامة المنبئة عن المكث واما المأوى فهو المكان الذى يأوى اليه الانسان
والاشارة ان الله تعالى هو الذى يلقى الرعب والامن والرغبة والرهبة وغير ذلك فى قلوب العباد كما قال عليه السلام « قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء » وقال « ما من قلب الا بين اصبعين من اصابع الرحمن ان شاء اقامه وان شاء ازاغه » فعلى العبد ان يتضرع الى الله ويسأل منه الغلبة على النفوس الكافرة خصوصا النفس الامارة فانه ان اتبع هواها واطاعها فى مشتهاها ترده الى اسفل سافلين البشرية فينقلب خاسرا
نمى تازد اين نفس سركش جنان ... كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان بر آيد بزور ... مصاف بلنكان نيايد زمور
قال الشيخ ابو على الروذبادى قدس سره دخلت الآفة من ثلاثة . سقم الطبيعة . وملازمة العادة . وفساد الصحبة . فقيل له ما سقم الطبيعة قال اكل الحرام . فقيل وما ملازمة العادة قال النظر والاستماع بالحرام والغيبة . فقيل فما فساد الصحية قال كلما هاج فى النفس شهوة تتبعها ومن لم يصحبه فى هذا الباب توفيق من ربه كان متروكا فى ظلمة نفسه ألا ترى الى قوله تعالى { بل الله مولاكم } اى يخرجكم من ظلمات البشرية الى انوار الربوبية فمن اتبع هواه وجعله مولى لنفسه فكيف يصاحبه الخروج من الظلمات وانما سببه ان ينقطع العبد الى مولاه الحقيقى ولا يعبد الا اياه حكى عن الاصمعى انه قال ان فتى جميلا خرج فى سفر له فوقع فى فلاة من الارض وصاحبته امرأة فعشقته فقالت ايها الفتى هل تحسن شيأ من الشعر قال نعم قالت قل فانشد
ولست من النساء وسن منى ... ولا ابغى الفجور الى الممات
فلا لا تطمعى فيما لدينا ... ولو قد طال سير فى الفلاة
فان الله يبصر فوق عرش ... ويغضب للفعال الموبقات(2/317)
قالت دعنا من شعرك هل تقرأ شيأ من القرآن قال نعم قالت قل فقرأ قول الله تعالى { الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } قالت دعنى من قراءتك هذه فرجعت وهى خائبة فانظر الى حال الفتى وتوقيه عن شهوته كيف صبر عن المعصية والله يحب الصابرين
جوان جست مى بايدكه از شهوت بيرهيزد ... كه بيرسست رغبت را خود آلت برنمى خيزد
ولذلك قال بعض المشايخ من لم يكن فى بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة وذلك لان الزهد بعد الاربعين بارد لا يثمر نفعا كثيرا ولا يغرنك هذا الخبر ويحملك على التكاسل فان المرء لا يصل الى حيث يسقط عنه الامر والنهى والغرض هو العبادة الى ان يأتى اليقين فالشبان والشيوخ فى باب التكليف متساوون وربما يتدارك فى الشيخوخة ما لا يتدارك فى الشباب : قال الحافظ الشيرازى
اى دل شباب رفت ونجيدى كلى زعمر ... بيرانه سربكن هنرى ننك ونام را(2/318)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{ ولقد صدقكم الله وعده } نصب على انه مفعول ثان لصدق صريحا او بنزع الجار اى فى وعده
نزلت حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم الى المدينة من اين اصابنا هذا وقد وعدنا الله بالنصر وهو ما وعدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من النصر حيث قال للرماة لا تبرحوا مكانكم فانا لا نزال غالبين ما دمتم فى هذا المكان وقد كان كذلك فان المشركين لما اقبلوا جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربون بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا وذلك قوله تعالى { اذ تحسونهم } اى تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه اذا ابطل حسه وذلك يكون بالقتل وهو ظرف لصدقكم { بإذنه } ملتبسين بمشيئته وتيسيره وتوفيقه حال من فاعل تحسونهم { حتى } ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية { اذا فشلتم } اى جبنتم وضعف رأيكم او ملتم الى الغنيمة فان الحرص من ضعف القلب { وتنازعتم فى الامر } اى فى امر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على اعقابهم قتلا وضربا فما موقفنا هذا وقال رئيسهم عبد الله بن جبير لا نخالف امر الرسول عليه الصلاة والسلام فثبت مكانه فى نفر دون العشرة من اصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى { وعصيتم من بعد ما اراكم ما تحبون } اى من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا امير الرماة ومن معه من اصحابه وقد سبق وقيد العصيان بما بعده تنبيها على عظم المعصية لانهم لما شاهدوا ان الله تعالى اكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم ان يمتنعوا عن المعصية وجواب اذا محذوف وهو منعكم نصره { منكم من يريد الدنيا } وهم الذى تركوا المركز واقبلوا على النهب قال ابن مسعود رضى الله عنه ما علمت ان احدا منا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذى ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة { ثم صرفكم عنهم } عطف على الجواب المحذوف كما اشير اليه اى ردكم عن الكفار وكفكم بالهزيمة بعد ان اظفركم عليهم فحالت الريح دبورا بعدما كانت صبا { ليبتليكم } اى يعاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان عندها { ولقد عفا عنكمؤ تفلا او لما علم من ندمكم على المخالفة { والله ذو فضل على المؤمنين } اى شأنه ان يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم فى جميع الاحوال اديل لهم او اديل عليهم اذ الابتلاء ايضا رحمة بحسب اقتضاء احوالهم(2/319)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{ اذ تصعدون } متعلق بصرفكم . والاصعاد الذهاب والابعاد فى الارض { ولا تلوون على احد } اى لا تلتفتون الى ما وراءكم ولا يقف واحد منك لواحد { والرسول يدعوكم } كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم الىّ عباد الله انا رسول الله من يكرّ فله الجنة امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وهو الانهزام وترك قتال الكفار لا استعانة بهم { فى اخراكم } فى ساقتكم وجماعتكم الاخرى والمعنى انه عليه السلام كان يدعوهم وهو واقف فى آخرهم لان القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه { فاثابكم } عطف على صرفكم اى فجازاكم الله بما صنعتم { غما } موصولا { بغم } من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والارجاف بقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم او غما بمقابلة غم اذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما اصابكم } اى لتتمرنوا على الصبر فى الشدائد وتعتادوا تجرع الغموم فلا تحزنوا على نفع فات او ضرّ آت { والله خبير بما تعملون } اى عالم باعمالكم وبما قصدتم بها
واعلم ان الصبر واليقين والتوكل على الله والاتقاء عن ميل الدنيا وزخارفها ومخالفة الرسول مستلزم لامداد النصر والظفر والفشل والتنازع والميل الى الدنيا وعصيان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موجب للابتلاء والصرف عن العدو فمن اراد النصرة على الاعداء الظاهرة والباطنة لا يسلك طريقا غير ما عينه الشارع ويرضى بالابتلاء ولا يغتم لآخرته بل يجد غم طلب الحق ألذ من نعيم الدنيا والآخرة ويصبر على مقاساة الشدائد فى باب الدين
صبر آرد آرزورانى شتاب ... صبر كن والله اعلم بالصواب
قال ذو النون قدس سره العزيز ان أدنى منازل المريد أن الله تعالى لو ادخله النار واحاط به عذابه مع هذه الارادة لم يزدد قلبه الا حبا له وانسا به وشوقا اليه وكانت الجنة عنده اصغر فى جنب ارادته من خردلة بين السماء والارض فعلى السالك ان يذيق نفسه مرارة الطاعة ويدخلها فى باب التسليم ليكون عند الله مما له قدر وسبق حكى عن على كرم الله وجهه انه قال قلت لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابى بكر الصديق رضى الله عنه يا خليفة رسول الله بم بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا سبقا فقال بخمسة اشياء . اولها وجدت الناص صنفين مريد الدنيا ومريد العقبى فكنت انا مريد المولى . والثانى مذ دخلت فى الاسلام ما شبعت من طعام الدنيا لان لذة معرفة الله شغلتنى عن لذائذ طعام الدنيا . والثالث مذ دخلت فى الاسلام ما رويت من شراب الدنيا لان محبة الله شغلتنى عن شراب الدنيا . والرابع كلما استقبلنى عملان عمل الدنيا وعمل الآخرة اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا .(2/320)
والخامس صحبت النبى صلى الله عليه وسلم فاحسنت صحبته اقول ولذلك لم ينفك عن ملازمة صحبته ساعة حتى دخل معه فى الغار وقاسى ولم يهم بمخالفته اصلا كما وقع ذلك من بعض الصحابة كما فى المنهزمين
كيست دانى صوفىء صافى زرنك تفرقه ... آنكه دارد روبيك رنكى درين كاخ دورنك
نكسلد سررشته سرش زجانان كربفرض ... روبرو كيرد زيك سوشير وديكر سوبلنك
اوحى الله الى ابراهيم عليه السلام ان يا ابراهيم انت خليلى وانا خليلك فانظر فى ان لا تشغل سرك بغيرى وانا انظر فى سرك فأراه مشتغلا بغيرى فتقطع خلتى منك لان الصادق فى دعوى خلتى من لو احرق بالنار لم يجعل سره الى غيرى اجلالا لحرمتى لان كل سر انفصل ساعة عن مشاهدتى لا يصلح لمحادثتى ونظرى ثم قال له اسلم قال اسلمت لرب العالمين ثم ابتلاه حين رمى بالمنجنيق فى النار ولم يجزع على ما اصابه بل فوض امره الى الله حتى شرفه الله بالخلة وجعل النار له بردا وسلاما فحسن الرضى على ما جاء من عند الله يوصل العبد الى المقامات العلية والحالات السنية والعمدة هو التوحيد وبه تسهل قوة اليقين والوصول الى مقام الولاية
وسئل يحيى بن معاذ عن صفة الولى فقال الصبر شعاره والشكر دثاره والقرآن معينه والحكمه علمه والتوكل صابونه والفقر منيته والتقوى مطيته والغربة ملازمته والحزن رفيقه والذكر جليسه والله تعالى انيسه
قوت روح اوليا ذكر حقست ... بيشه ايشان شكر مطلقست
كرخبردارى زاسرار خدا ... روبراه ذكر وطاعت حقيا(2/321)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ ثم انزل عليكم } عطف على قوله فاثابكم وانزل مجاز اى اعطى ووهب لكم ايها المؤمنون { من بعد الغم } المذكور { امنة } اى امنا نصب على المفعولية { نعاسا } بدل منها وهو الوسن
قال ابو طلحة رفعت رأسى يوم احد فجعلت لا ارى احدا من القوم الا وهو يميد تحت جحفته من النعاس وكنت ممن القى عليه النعاس يومئذ فكان السيف يسقط من يدى فآخذه ثم يسقط السوط فآخذه وفيه دلالة على ان من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبئ عنه قوله تعالى { يغشى طائفة منكم } وهم المهاجرون وعامة الانصار ولا يقدح ذلك فى عموم الانزال للكل والجملة فى محل النصب على انها صفة لنعاسا { وطائفة } مبتدأ وهم المنافقون { قد اهمتهم انفسهم } اى اوقعتهم فى الهموم والاحزان او ما بهم الا همّ انفسهم وقصد خلاصها { يظنون بالله } حال من ضمير اهمتهم { غير الحق } غير الظن الحق الذى يجب ان يظن به سبحانه { ظن الجاهلية } بدل منه وهو الظن المختص بالملة الجاهلية واهلها { يقولون } بدل من يظنون اى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد { هل لنا من الامر } اى من امر الله تعالى ووعده من النصر والظفر { من شىء } من نصيب قط { قل ان الامر كله لله } اى الغلبة بالآخرة لله تعالى ولاوليائه فان حزب الله هم الغالبون { يخفون فى انفسهم ما لا يبدون لك } حال من ضمير يقولون اى مظهرين انهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الانكار والتكذيب { يقولون } كأنه قيل أى شىء يخفون فقيل يحدثون انفسهم او يقول بعضهم لبعض فيما بينهم خفية { لو كان لنا من الامر شىء } كما وعد محمد صلى الله عليه وسلم من ان الغلبة لله ولاوليائه وان الامر كله لله { ما قتلنا ههنا } ما غلبنا او ما قتل من قتل منا فى هذه المعركة على ان النفى راجع الى نفس القتل لا الى وقوعه فيها فقط او لو كان لنا اختيار فى الخروج وتدبير لم نبرح كما كان رأى ابن ابى وغيره { قل } يا محمد تكذيبا لهم وابطالا لمعاملتهم { لو كنتم فى بيوتكم } اى لو لم تخرجوا الى احد وقعدتم بالمدينة كما تقولون { لبرز } اى لخرج { الذين كتب عليهم القتل } اى فى اللوح المحفوظ بسبب من الاسباب الداعية الى البروز { الى مضاجعهم } الى مصارعهم التى قدره الله تعالى فيها وقتلوا هناك البتة ولم تنفع العزيمة على الاقامة بالمدينة قطعا فان قضاء الله لا يرد وحكمه لا يعقب { وليبتلى ما فى صدوركم } علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها اخرى مطوية للايذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلى اى ليعاملكم معاملة من يبتلى ما فى صدروكم من الاخلاص والنفاق ويظهر ما فيها من السرائر { وليمحص ما فى قلوبكم } من مخفيات الامور ويكشفها او يخلصها من الوساوس { والله عليم بذات الصدور } اى السرائر والضمائر التى لا تكاد تفارق الصدور بل تلازمها وتصاحبها(2/322)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{ ان الذين تولوا } اعرضوا { منكم يوم التقى الجمعان } من المسلمين والكافرين وهم الذين انهزموا يوم احد { انما استزلهم الشيطان } اى انما كان سبب انهزامهم ان الشيطان طلب منهم الزلل ودعاهم اليه { ببعض ما كسبوا } من الذنوب والمعاصى التى هى مخالفة امر النبى عليه السلام وترك المركز والحرص على الغنيمة والحياة فحرموا التأييد وقوة القلب { ولقد عفا الله عنهم } لتوبتهم واعتذارهم { ان الله غفور } للذنوب { حليم } لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب والنكتة فيه ان الشيطان خلق من النار فالبشيطان ونار وسوسته استخرج من معدن الانسان حديد ما كسبوا من التولى ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم وهذا قوله عليه الصلاة والسلام « لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » ليعلم ان الله تعالى فى كل شىء من الخير والشر اسرار لا يبلغ كنهها الا هو ولا يحيطون بشىء من علمه الا بما شاء والشيطان لا يقدر على اغواء المخلصين من اهل اليقين والنورانيين وما لم يكن فى القلب ظلمة وشوب من الهوى بسبب ارتكاب الذنوب لم يكن له مجال للوسوسة قالسالكون الذين نجوا من ظلمات النفس لا يقدر الشيطان ان يقرب منهم فضلا عن وسوستهم قيل رأى الجنيد ابليس فى منامه عريانا فقال ألا تستحيى من الناس فقال هؤلاء ناس . الناس اقوام فى مسجد الشونيزية افنوا جسدى واحرقوا كبدى قال الجنيد فلما انتبهت غدوت الى المسجد فرأيت جماعة وضعوا رؤسهم على ركبهم متفكرين فلما رأونى قالوا لا يغرنك حديث الخبيث فاذا تنور القلب بنور المعرفة لا يحوم حوله بالوسوة الشيطان النارى
وعن ابى سعيد الخراز قدس سره قال رأيت ابليس فى المنام فاخذت عصاى لاضربه فقيل لى انه لا يفزع من هذا انما يخاف من نور يكون فى القلب
قال حجة الاسلام الغزالى فى الاحياء حكى ان ابليس بث جنوده فى وقت الصحابة فرجعوا اليه مخسورين فقال ما شأنكم قالوا ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيأ وقد اتعبونا فقال انكم لا تقدرون عليهم وقد صحبوا نبيهم وشهدوا نزول الوحى ولكن سيأتى بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا اليه منكسرين فقالوا ما رأينا اعجب من هؤلاء نصيب منهم الشىء بعد الشىء من الذنوب فاذا آن آخر النهار اخذوا فى الاستغفار فتبدل سيآتهم حسنات فقال انكم لن تنالوا من هؤلاء شيأ لصحة توحيدهم واتباعهم لسنة نبيهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن سيأتى بعد هؤلاء قوم تقر اعينكم بهم تلعبون لعبا وتقودونهم بازمة اهوائهم كيف شئتم لا يستغفرون فيغفر لهم فلا يتوبون فتبدل سيآتهم قال فجاء قوم بعد القرون الاولى فبث فيهم الاهواء وزين لهم البدع فاستحلوها واتخذوها دينا لا يستغفرون منها ولا يتوبون عنها فسلط ابليس عليهم الاعداء وقادوهم حيث شاؤا
نه ابليس درحق ماطعنه زد ... كزينان نيايد بجز كار بد
فغان ازبديها كه درنفس ماست ... كه ترسم شود ظن ابليس راست
جو ملعون بسند آمدش قهرما ... خدايش بر انداخت ازبهرما
كجا بر سر آريم ازين عاروننك ... كه با او بصلحيم وباحق بجنك
من بستان السعدى(2/323)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا ههنا { وقالوا لاخوانهم } لاجل اخوانهم وفى حقهم ومعنى الاخوة اتفاقهم نسبا او مذهبا وعقيدة { اذا ضربوا فى الارض } اى سافروا فيها وابعدوا للتجارة وسائر المهام فماتوا فى سفرهم { او كانوا } اى اخوانهم { غزّى } جمع غازى كعفى جمع عافى وسجد جمع ساجد اى اذا اخرجوا الى الغزو فقتلوا { لو كانوا عندنا } اى مقيمين بالمدينة { ما ماتوا } فى سفرهم { وما قتلوا } فى الغزو وليس المقصود بالنهى عدم مماثلتهم فى النطق بهذا القول بل فى الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه { ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم } متعلق بقالوا على ان اللام لام العاقبة كما فى قوله ربيته ليؤذننى وليست لام العلة والغرض لانهم لم يقولون لذلك وانما قالوه لتثبيط المؤمنين عن الجهاد والمعنى انهم قالوا ذلك القول واعتقدوه لغرض من اغراضهم فكان عاقبة ذلك القول ومصيره الى الحسرة وهى اشد الندامة التى تقطع القوة والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما على ذلك اصلا ووجه كون تكلم ذلك الكلام حسرة فى قلوبهم زاعمين ان من مات او قتل منهم انما مات او قتل بسبب تقصيرهم فى منع هؤلاء القتلى عن السفر والغزو ومن اعتقد ذلك لا شك انه تزداد حسرته وتلهفه واما المسلم الذى يعتقد ان الموت والحياة لا يكون الا بتقدير الله وقضائه لا يحصل فى قلبه هذ الحسرة { والله يحيى ويميت } رد لقولهم الباطل اى هو المؤثر فى الحياة والممات وحده من غير ان يكون للاقامة او للسفر مدخل فى ذلك فانه تعالى قد يحيى المسافر والغازى مع اقتحامهما لموارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لاسباب السلامة
اى بسا اسب تيزروكه بماند ... كه خرلنك جان بمنزل برد
بس كه درخاك تن درستان را ... دفن كردندو زحم خورده نمرد
{ والله بما تعملون بصير } فلا تكونوا مثل هؤلاء المنافقين(2/324)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{ ولئن قتلتم فى سبيل الله او متم } فى سبيله وانتم مؤمنون واللام هى الموطئة للقسم المحذوف وجوابه قوله تعالى { لمغفرة من الله ورحمة } وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده لكونه دالا عليه والمعنى ان السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الاجل اصلا ولئن وقع ذلك بامر الله تعالى لنفحة يسيرة من مغفرة ورحمة كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك { خير مما يجمعون } اى الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة اعمارهم
فان قيل كيف تكون المغفرة موصوفة بانها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون اصلا
قلنا ان الذى يجمعونه فى الدنيا قد يكون من باب الحلال الذى يعد خيرا وايضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم ان تلك الاموال خيرات فقيل المغفرة خير من هذه الاشياء التى تظنونها خيرات(2/325)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{ ولئن متم او قتلتم } اى على أى وجه اتفق هلاككم حسب تعلق الارادة الآلهية { لالى الله } اى الى المعبود بالحق العظيم الشان الواسع الرحمة الجزيل الاحسان { تحشرون } لا الى غيره فيوفى اجوركم ويجزل لكم عطاياكم
واعلم ان هذه الآيات على ترتيب انيق فانه قال فى الآية الاولى { لمغفرة من الله } وهى التجاوز عن السيآت وذلك اشارة الى من يعبد الله خوفا من عقابه ثم قال { ورحمة } وهى التفضل بالمثوبات وهو اشارة الى من يعبده ثوابه ثم قال فى آخر الآية { لالى الله تحشرون } وهو اشارة الى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية وهذا على المقامات : قال عبد الرحمن الجامى
جانا زدرتو دور نتوانم بود ... قانع ببهشت وحور نتوانم بود
سربر در توبحكم عشقم نه بمزد ... زين درجه كنم صبور نتوانم بود
فبين الحشر الى مغفرة الله والحشر الى الله فرق كثير روى ان عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مر باقوام نحفت ابدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال ماذا تطلبون فقالوا نخشى عذاب الله فقال هو اكرم من ان لا يخلصكم من عذابه ثم مر باقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسالهم فقالوا نطلب الجنة والرحمة فقال هو اكرم من ان يمنعكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم اكثر فسألهم فقالوا نعبده لانه الهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة فقال انتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون
كركند جاى بدل عشق جمال ازلت ... جشم اميد بحوران بهشتى ننهى
كى مسلم شودت عشق جمال ازلى ... تابر آفاق همه تهمت زشتى ننهى
حكى ان امرأة قالت لجماعة ما السخاء عندكم قالوا بذل المال قالت هو سخاء اهل الدنيا والعوام فما سخاء الخواص قالوا بذل المجهود فى الطاعة قالت ترجون الثواب قالوا نعم قالت تأخذون العشرة بواحد لقوله تعالى { فمن جاء بالحسنة فله عشر امثالها } فاين السخاء قالوا فما عندك قالت العمل لله لا للجنة ولا للنار ولا للثواب وخوف العقاب وذلك لا يمكن الا بالتجريد والتفريد والوصول الى حقيقة الوجود
فعلى السالك ان يعرض عن الدنيا والآخرة ويقبل على الله حتى يكشف عن وجهه الحجاب ويصل الى رب الارباب
قال الامام فى تفسيره الانسان اذا توجه الى الجهاد اعرض قلبه عن الدنيا واقبل على الآخرة فاذا مات فكأنه تخلص من العدو ووصل الى المحبوب واذا جلس فى بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق والقى فى دار الغربة ولا شك فى كمال سعادة الاول وكمال شقاوة الثانى انتهى فحشر الغافلين بالحجاب وحشر الواصلين باظهار الجناب فمن كان فى هذه الدنيا اعمى بحب المال والمنال كان فى الآخرة محجوبا عن مشاهدة الجمال(2/326)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{ فبما رحمة من الله لنت لهم } ما مزيدة للتأكيد اى فبرحمة عظيمة لهم كائنة من الله تعالى وهى ربطه على جأشه وتخصيصه بمكارم الاخلاق كنت لين الجانب لهم وعاملتهم بالرفق والتلطف بعدما كان منهم ما كان من مخالفة امرك واسلامك للعدو { ولو } لم تكن كذلك بل { كنت فظا } جافيا فى المعاشرة قولا وفعلا { غليظ القلب } قاسيه غير رقيق . فالفظ سيىء الخلق وغليظ القلب هو الذى لا يتأثر قلبه من شىء فقد لا يكون الانسان سيىء الخلق ولا يؤذى احدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم فظهر الفرق بينهما { لانفضوا من حولك } اى لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا اليك وتردوا فى مهاوى الردى { فاعف عنهم } فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم { واستغفر لهم } فيما يتعلق بحقوقه تعالى اتماما للشفقة عليهم واكمالا للبرّ بهم { وشاورهم فى الامر } اى ستخرج آراءهم واعلم ما عندهم فى امر الحرب اذ هو المعهود او فيه وفى امثاله مما تجرى فيه المشاورة عادة استظهارا بآرائهم وتطييبا لقلوبهم ورفعا لاقدارهم وتمهيدا لسنة المشاورة للامة { فاذا عزمت } اى عقيب المشاورة على شىء واطمأنت به نفسك { فتوكل على الله } فى امضاء امرك على ما هو ارشد واصلح فان ما هو اصلح لك لا يعلمه الا الله لا انت ولا من تشاور { ان الله يحب المتوكلين } عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم الى ما فيه خير لهم وصلاح والتوكل تفويض الامر الى الله والاعتماد على كفايته
قال الامام دلت الآية على انه ليس التوكل ان يهمل الانسان نفسه كما يقوله بعض الجهال والا لكان الامر بالمشاورة منافيا للامر بالتوكل بل التوكل هو ان يراعى الانسان الاسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحكمة
واعلم ان الله تعالى بين ان اصحاب النبى عليه الصلاة والسلام يتفرقون عنه لو كان فظا غليظا مع ان اتباعه دين وفراقه كفر فكيف يتوقع من يعامل الناس على خشونة اللفظ مع قسوة القلب ان ينقاد الناس كلهم له ويتابعوه ويطاوعوه فاللين فى القول انفذ فى القلوب واسرع الى الاجابة وادعى الى الطاعة ولذلك امر الله موسى وهارون به فقال { فقولا له قولا لينا }
بنرمى زدشمي توان كند بوست ... جو بادوست سختى كنى دشمن اوست
جو سندان كسى سخت رويى نبرد ... كه خايسك تأديب بر سر نخورد
قال الامام فى تفسيره اللين والرفق انما يجوز اذا لم يفض الى اهمال حق من حقوق الله فاما اذا ادى الى ذلك لم يجز قال الله تعالى { يا ايها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال للمؤمنين فى اقامة حد الزنى { ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله }(2/327)
والتحقيق ان طرفى الافراط والتفريط مذمومان والفضيلة فى الوسط فورود الامر بالتغليظ مرة واخرى بالنهى عنه انما كان لاجل ان يتباعد عن الافراط والتفريط فيبقى على الوسط الذى هو الصراط المستقيم ولهذا السر مدح الله تعالى الوسط فقال { وكذلك جعلناكم امة وسطا } قال عليه السلام « لا تكن مرّا فتعقى ولا حلوا فتسترط »
جو نرمى كنى خصم كردد دلير ... و كرخشم كيرى شوند ازتوسير
درشتى ونرمى بهم در بهست ... جورك زن كه جراح ومرهم نهست
واعلم ان المقصود من البعثة ان يبلغ الرسول تكليف الله الى الخلق وهذا المقصود لا يتم الا اذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه وهذا لا يتم الا اذا كان كريما رحيما يتجاوز عن ذنبهم ويعفو عن اساءتهم ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة فلهذه الاسباب وجب ان يكون الرسول متبرئا من سوء الخلق وحيث يكون كذلك وجب ان يكون غير غليظ القلب بل يكون كثير الميل الى اعانة الضعفاء كثير القيام باعانة الفقراء كثير التجاوز عن سيآتهم كثير الصفح عن زلاتهم فلهذا المعنى قال { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة وهكذا ينبغى ان يكون علماء الآخرة الوارثون والمشايخ فان الناس على دين متبوعهم فى الظاهر والباطن وقلما يوجد من يتصف بالاخلاق الحسنة من المشايخ والعلماء فى هذا الزمان الا من عصمه الله وهداه الى التمسك بالشريعة والتحقق بآداب الحقيقة وهذه الحال ليست الا لواحد بعد واحد روى انه خلا باحنف المضروب به المثل فى الحلم رجل فسبه سبا قبيحا فقام الاحنف وهو يتبعه فلما وصل الى قومه وقف وقال يا اخى ان كان قد بقى من قولك فضلة فقل الآن ولا يسمعك قومى فتؤذى فانظر الى خلق الاحنف كيف عامل مع الرجل وجامل وقال له رجل دلنى على المروة فقال عليك بالخلق الفسيح والكف عن القبيح
قال نجم الدين الكبرى فى تأويلاته كل لين يظهر فى قلوب المؤمنين بعضهم على بعض فهو رحمة الله ونتيجة لطفه مع عباده لا من خصوصية انفسهم فان النفس لامارة بالسوء وان كانت نفس الانبياء عليهم السلام انتهى
وفى هذا الكلام تنبيه على ان الانبياء وان كان سلوكهم من النفس المطمئنة الى الراضية والمرضية والصافية الى ان بلغوا مبلغ النبوة والرسالة لكن نفوسهم متصفة بالامارية كسائر الناس ولكن الله يعصمهم من مقتضاها فافهم فانه محل اعتبار وامعان(2/328)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{ ان ينصركم الله } النصر نوعان معونة ومنع اى ان يعنكم الله ويمنعكم من عدوكم كما فعل ذلك يوم بدر { فلا غالب لكم } فلا احد يغلبكم { وان يخذلكم } الخذلان القعود عن النصرة والاسلام للهلكة اى ان يترككم فلم ينصركم كما فعله يوم احد { فمن ذا الذى ينصركم } استفهام انكارى مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة بطريق المبالغة { من بعده } اى من بعد خذلانه وهذا تنبيه على ان الامر كله لله ولذا امر بالتوكل عليه فقال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا ان لا ناصر سواه وآمنوا به من قبل ومن التوكيل ان لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله تعالى ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعلمك شاهدا غيره
وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يدخل سبعون الفا من امتى الجنة بغير حساب » قيل يا رسول الله من هم قال « هم الذين لا يكتدون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون » فقال عكاشة بن محصن يا رسول الله ادع الله ان يجعلنى منهم قال « انت منهم » ثم قام آخر فقال يا رسو الله ادع الله ان يجعلنى منهم فقال « سبقك بها عكاشة » وقال صلى الله عليه وسلم « لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا »
وعن بعضهم قال كنت فى البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدّامى واحدا فسارعت حتى ادركته فاذا هو امرأة بيدها ركوة وعكازة تمشى على الرعدة فظننت انها اعيت فادخلت يدى فى جيبيى فاخرجت عشرين درهما فقلت خذى هذه وامكثى حتى تلحقك القافلة فتكترى بها ثم ائتنى الليلة حتى اصلح امرك فقالت بيدها هكذا فى الهواء فاذا فى كفها دنانير فقالت انت اخذت الدراهم من الجيب وانا اخذت الدراهم من الغيب : قال الحافظ الشيرازى
برو ازخانه كردون بدرونان ... مطلب كاين سيه كاسه در آخر بكشد مهمانرا
قال القشيرى حقيقة النصر ان ينصرك على نفسك فانها اعدى عدوك وهى ان يهدم عنك دواعى نتنها بعواصم رحمته حتى ينفض جنود الشهوات بهجوم وفور المنازلات فتبقى الولاية لله تعالى خالصة من رعونات الدواعى التى هى اوصاف البشرية وشهوات النفوس وان يخذلكم فالخذلان التخلية بينه وبين المعاصى فمن نصره قبض على يده عندا لهم بتعاطى المكروه ومن خذله القى حبله على غاربه ووكله الى سوء اختياره فيهيم على وجهه فى فيافى البعد فتارة يشرق غير محتشم وتارة يغرب غير محترم ومن سيبه الحق فلا آخذ ليده ولا جابر لكسره وعلى الله فليتوكل المؤمنون فى وجدان الامان من هذه الاخطار عند صدق الابتهال واسباب ثوب العفو على الاجرام عند خلوص الالتجاء بالتبرى من الحول والقوة ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
جهان آفرين كر نه يارى كند ... كجابنده برهيز كارى بود(2/329)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{ وما كان لنبى } اى وما صح لنبى من الانبياء عليهم السلام وما استقام له { ان يغلّ } اى يخون فى المغنم فان الغلول هو اخذ شىء من مال الغنيمة خفية وخيانة لكونها سببا للعار فى الدنيا وللنار فى العقبى تنافى منصب النبوة التى هى اعلى المناصب الانسانية والمراد اما تنزيه ساحة رسول الله عليه السلام عما ظن به الرماة يوم احد حتى تركوا المركز وافاضوا فى الغنيمة وقالوا نخشى ان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من اخذ شيأ فهو له ولا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم صلى الله عليه وسلم « ألم اعهد اليكم ان لا تتركوا المركز حتى يأتيكم امرى » فقالوا تركنا بقية اخواننا وقوفا فقال صلى الله عليه وسلم « بل ظننتم انا نغل ولا نقسم بينكم » واما المبالغة فى النهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى انه بعث طلائع فغنم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعدهم فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيأ فنزلت والمعنى ما كان لنبى ان يعطى قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه ان يقسم بين الكل بالسوية وعبر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول تغليظا وتقبيحا لصورة الامر { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة } اى يأت بالذى غل بعينه يحمله على عنقه فيفتضح به على رؤوس الاشهاد وهو كقوله عليه السلام « من غصب قدر شبر من الارض طوقه الله يوم القيامة من سبع ارضين » قال عليه السلام « من بعثناه على عمل فغل شيأ جاء يوم القيامة يحمله على عنقه » وقال صلى الله عليه وسلم « هدايا الولاة غلول » اى قبول الولاة الهدايا غلول لانه فى معنى الرشوة
وروى انه صلى الله عليه وسلم « قال ألا لا اعرفن احدكم يأتى ببعير له رغاء وببقر له خوار وشاة لها ثغاء فينادى يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيأ فقد بلغتك » وقيل لابى هريرة رضى الله عنه كيف يأتى بما غل وهو كثير كبير بان غل اموالا جمة فقال أرأيت من كان ضرسه مثل احد وفخذه مثل ودقان وساقه مثل جبل ومجلسه ما بين المدينة وريدان يحمل مثل هذا ويجوز ان يراد بما احتمل من وباله واثمه { ثم توفى كل نفس ما كسبت } اى تعطى وافيا جزاء ما كسبت خيرا او شرا كثيرا أو يسيرا او كان اللائق بما قبله ان يقال ثم يوفى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فانه اذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك اولى { وهم } اى كل الناس المدلول عليهم بكل نفس { لا يظلمون } بزيادة عقاب او بنقص ثواب(2/330)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{ أفمن اتبع رضوان الله } الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أمن اتقى فاتبع رضوان الله اى سعى فى تحصيله وانتحى نحوه حيثما كان يفعل الطاعات ويترك المنكرات كالنبى ومن يسير بسيرته { كمن باء } اى رجع { بسخط } غضب عظيم لا يقادر قدره كائن { من الله } بسبب معاصيه كالغال ومن تدين بدينه والمراد انهما لا يستويان { ومأواه } اى مأوى من باء بسخط من الله { جهنم وبئس المصير } والفرق بينه وبين المرجع ان المصير يجب ان يخالف الحالة الاولى ولا كذلك المرجع(2/331)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{ هم } راجع الى الموصولين باعتبار المعنى { درجات عند الله } اى طبقات مختلفة متفاوتة فى علمه وحكمه تعالى شبهوا فى تفاوت الاحوال وتباينها بالدرجات مبالغة وايذانا بأن بينهم تفاوتا ذاتيا كالدرجات ومراتب الخلق فى اعمال المعاصى والطاعات متفاوتة فوجب ان تتفاوت مراتبهم فى درجات العقاب والثواب لقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } والمعنى ذو درجات { والله بصير بما يعملون } من الاعمال ودرجاتها فمجازيهم بحسبها
واعلم ان الغلول من الكبائر والغال خائن ومن حاله ان يكون الغالب عليه النفس وهواها والانبياء منسلخون عن صفات البشرية متصفون بصفات الربوبية معصومون من الرذائل وصفات النفس ودواعى الشيطان قائمون بالله فلا يمكن صدور امثال ذلك منهم فالنبى فى جنة الصفات ومقام الرضوان والغال فى جحيم النفس وهاوية الهوى فلا يساوى حال الغال احوال الانبياء ولذلك قال { هم درجات عند الله }
فعلى العاقل ان يسارع الى تكميل الدرجات والوصول الى احسن الحالات
قالوا اهل الجنة اربعة اصناف . الرسل والانبياء . ثم الاولياء وهم اتباع الرسل على بصيرة وبينة من ربهم . ثم المؤمنون وهم المصدقون بهم عليهم السلام . ثم العلماء بتوحيد الله انه لا اله الا هو من حيث الادلة العقلية وهم المراد باولى العلم فى قوله تعالى { شهد الله } وفيهم يقول الله { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات } وهؤلاء الطوائف الاربع يتميزون فى جنات عدن عند رؤية الحق فى الكثيب الابيض وهم فيه على اربعة مقامات . طائفة منهم اصحاب منابر وهى الطبقة العليا الرسل والانبياء . والطائفة الثانية هم الاولياء ورثة الانبياء قولا وعملا وحالا وهم اصحاب الاسرة والعرش . والطبقة الثالثة العلماء بالله من طريق النظر البرهانى العقلى وهم اصحاب الكرسى . والطبقة الرابعة هم المؤمنون المقلدون فى توحيدهم ولهم المراتب وهم فى المحشر مقدمون على اصحاب النظر العقلى وهم فى الكثيب يتقدمون على المقلدين
قيامت كه نيكان باعلى رسند ... زقعر ثرا بر ثريا رسند
تراخود بماندسر ازننك بيش ... كه كردت برآيد عملهاى خويش
قيامت كه بازار مينونهند ... منازل باعمال نيكونهد
والخلق متفاوتون فى الاعمال وتفاضلهم على مراتب . فمنها بالسن ولكن فى الطاعة والاسلام فيفضل الكبير السن على الصغير السن اذا كانا على مرتبة واحدة من العمل . ومنها بالزمان فان العمل فى رمضان وفى يوم الجمعة وفى ليلة القدر وفى عشر ذى الحجة وفى عاشوراء اعظم من سائر الايام والازمان . ومنها بالمكان فالصلاة فى المسجد الحرام افضل منها فى مسجد المدينة وهى من الصلاة فى المسجد الاقصى وهى منها فى سائر المساجد . ومنها بالاحوال فان الصلاة بالجماعة افضل من صلاة الشخص وحده . ومنها بنفس الاعمال فان الصلاة افضل من اماطة الاذى .(2/332)
ومنها فى العمل الواحد فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة وكذا من اهدى هدية لشريف من اهل البيت افضل من ان يهدى لغيره واحسن اليه ومن الناس من يجمع فى الزمن الواحد اعمالا كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما ينبغى فى زمان صومه وصدقته بل فى زمان صلاته فى زمان ذكره فى زمان نيته من فعل وترك فيؤجر فى الزمان الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس كذلك
بضاعت بجندانكه آرى برى ... اكر مفلسى شر مسارى برى
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « ليس من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه يا ابن آدم انا خلق جديد وانا فيما تعمل عليك غدا شهيد فاعمل فىّ خيرا اشهد لك به غدا فانى لو قد مضيت لم ترنى ابدا ويقول الليل مثل ذلك » فاعمل يا اخى عمل من يعلم انه راجع الى الله وقادم عليه يجازى على الصغير والكبير والقليل والكثير وقد قال تعالى { والله بصير بما يعملون } فينبغى ان لا يغفل الانسان فى كل ساعاته(2/333)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{ لقد منّ الله على المؤمنين } جواب قسم محذوف اى والله لقد انعم الله على من آمن مع الرسول عليه السلام من قومه وتخصيصهم بالامتنان مع عموم نعمة البعثة للاسود والاحمر لزيادة انتفاعهم بها { اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم } اى من نسبهم او من جنسهم عربيا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله فى الصدق والامانة مفتخرين به وفى ذلك شرف عظيم لهم قال الله تعالى { وانه لذكر لك ولقومك } وقرىء من انفسهم اى اشرفهم فانه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من اشرف قبائل العرب وبطونها { يتلوا عليهم آياته } اى القرآن بعدما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحى { ويزكيهم } اى يطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والاعمال واوضار الاوزار { ويعلمهم الكتاب والحكمة } اى القرآن والسنة { وان كانوا من قبل } اى من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وتزكيته وتعليمه { لفى ضلال مبين } بين لا ريب فى كونه ضلالا . وان هى المخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية
واعلم ان الله تعالى ارسل محمدا الى اقوام عتاة اشراس فذلل منهم كل من عتا وعاس ونكس بمولده الاصنام على الرأس وانشق ايوان كسرى وسقطت منه اربع عشرة شرافة بعدد من سيملك من الناس وخمدت نار فارس وبحيرة ساوة غاضت على غير القياس واختاره مولاه وقدمه على الخلق فهو بمنزلة العين من الرأس وايام دولته كايام التشريق وليلات الاعراس فتعجبت قريش من غنى بالفضل بعد فقر الافلاس فرماهم القرآن بسهام الجدل لا عن اقواس أكان للناس عجبا ان اوحينا الى رجل منهم ان انذر الناس فهو رحمة عامة للانام وله خطر جليل عند الخواص والعوام وفيما خطب به ابو طالب فى تزويج خديجة رضى الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر ( الحمد لله الذى جعلنا من ذرية ابراهيم وزرع اسماعيل وضئضئ معدّ وعنصر مضر وجعلنا خضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم ابن اخى هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش الا رجح به وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل ) وعن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « قال لى جبريل يا محمد قلبت الارض مشارقها ومغاربها فلم اجد رجلا افضل من محمد ولم اجد بنى اب افضل من بنى هاشم آدم ومن دونه تحت اللواء » زانكه بهر اوست خلق ما سوا وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان قريشا كانت نورا بين يدى الله قبل ان يخلق آدم بالفى عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله آدم القى ذلك النور فى صلبه نور بهار عالم نور بهار آدم وذكر ان عبد المطلب جد النبى صلى الله عليه وسلم بينا هو نائم فى الحجر انتبه مذعورا قال العباس فتبعته وانا يومئذ غلام اعقل ما يقال فأتى كهنة قريش فقال رأيت كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهرى ولها اربعة اطراف طرف قد بلغ مشارق الارض وطرف قد بلغ مغاربها وطرف قد بلغ عنان السماء وطرف قد جاوز الثرى فبينا انا انظر عادت شجرة خضراء لها نور فبينا انا كذلك قام على شيخان فقلت لاحدهما من انت قال انا نوح نبى رب العالمين وقلت للآخر من انت قال ابراهيم خليل رب العالمين ثم انتبهت قالوا ان صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك نبى يؤمن به اهل السموات واهل الارض ودلت السلسلة على كثرة اتباعه وانصاره وقوتهم لتداخل حلق السلسلة ورجوعها شجرة تدل على ثبات امره وعلو ذكره وسيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح وستظهر به ملة ابراهيم والى هذا وقعت اشارة النبى عليه الصلاة والسلام يوم حنين حيث قال انا النبى لا كذب انا ابن عبد المطلب كأنه يقول انا ابن صاحب تلك الرؤيا مفتخرا بها لما فيها من علم نبوته وعلو كلمته ثم انه لا نهاية لاوصافه الشريفة واخلاقه الحميدة وانما الكلام فى ان يكون المرء ممتلئا بمحبته مقتفيا بآثار سنته حتى يكون من امته حقيقة والخدمة فى عتبة بابه من جهة الشريعة والطريقة من اقوى الوسائل الى الوصول حكى ان مريدا مدعيا قال ان شيخى يعرف مقامى فى هذه الطريقة واستحقاقى للخلافة والنصب فى مقام الارشاد فما له لا يجيزنى بالخلافة فسمع ذلك شيخه فاستخدمه اياما فاظهر ذلك الصوفى الكسل فى خدمته ولم يخدمه بالشوق والاجتهاد فرأى حاله الشيخ فقال منكرا لما ادعاه من لا يقدر على خدمة الخلق كيف يقدر على خدمة الخالق فانظر كيف جعل خدمة الخلق من اسباب خدمة الخالق والوصول اليه وهكذا من كان فى قلبه ميل الى وصول الحق فلا بد له ان يرجع اولا الى خدمة شريعة النبى صلى الله عليه وسلم وسننه حتى يحبه النبى عليه الصلاة والسلام فيحبه الله تعالى(2/334)
محالست سعدى كه راه صفا ... توان رفت جز دربى مصطفا
شرفنا الله واياكم برعاية سننه وآدابه والاقتفاء بآثار آله واصحابه انه المنان جزيل الاحسان واسع الغفران فى كل زمان(2/335)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{ أو لما اصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم أنى هذا } الواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضاف الى ما بعده وقد اصبتم فى محل الرفع على انه صفة لمصيبة والمراد بها ما اصابهم يوم احد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما اصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم واسر سبعين وأنى هذا مقول قلتم والمعنى أحين اصابكم من المشركين نصف ما قد اصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من اين اصابنا هذا فالهمزة للتقرير والتقريع على قولهم لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار يوم احد وادى ذلك الى ان قالوا من اين هذه المغلوبية للمشركين فكيف صاروا منصورين علينا مع رشكهم وكفرهم بالله ونحن ننصر رسول الله ودين الاسلام وهو استفهام على سبيل الانكار فامر الله تعالى رسوله عليه السلام بان يجيب عن سؤالهم الفاسد فقال { قل هو من عند انفسكم } اى هذا الانهزام انما حصل بشئوم عصيانكم حيث خالفتم الامر بترك المركز والحرص على الغنيمة { ان الله على كل شىء قدير } ومن جملته النصر عند الطاعة والخذلان عند المخالفة وحيث خرجتم عن الطاعة اصابكم منه تعالى ما اصابكم(2/336)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{ وما اصابكم يوم التقى الجمعان } اى جمعكم وجمع المشركين يريد يوم احد { فبإذن الله } اى فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار سماها اذنا لانها من لوازمه { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } اى وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر ايمان هؤلاء وكفر هؤلاء { وقيل لهم } عطف على نافقوا داخل معه فى هذه الصلة وهم عبد الله بن ابى واصحابه حيث انصرفوا يوم احد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لهم عبد الله بن حرام اذكركم الله ان تخذلوا نبيكم وقومكم ودعاهم الى القتال وذلك قوله تعالى { تعالوا قاتلوا فى سبيل الله او ادفعوا } عنا العدو بتكثير سوادنا ان لم تقاتلوا معنا فان كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه { قالوا } حين خيروا بين الخصلتين المذكورتين { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } اى لو نعلم ما يصح ان يسمى قتالا لاتعناكم فيه لكن ما انتم عليه ليس بقتال بل القاء النفس الى التهلكة او لو نحسن قتالا لاتبعناكم وانما قالوه دخلا واستهزاء { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان } ومعنى كون قربهم الى الكفر ازيد يومئذ من قربهم الى الايمان انهم كانوا قبل ذلك الوقت كاتمين للنفاق فكانوا فى الظاهر أبعد من الكفر فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمون صاروا اقرب للكفر فان كل واحد من انخذالهم برجوعهم عن معاونة المسلمين وكلامهم المحكى عنهم يدل على انهم ليسوا من المسلمين { يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم } يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالايمان وأضافة القول الى الافواه تأكيد وتصوير فان الكلام وان كان يطلق على السانى والنفسانى الا ان القول لا يطلق الا على ما يكون باللسان والفم فذكر الافواه بعده تأكيد كقوله تعالى { ولا طائر يطير بجناحيه } وتصوير لحقيقة القول بصورة فرده الصادر عن آلته التى هى الفرد { والله اعلم بما يكتمون } من النفاق وما يخلو به بعضهم الى بعض فانه يعلمه مفصلا بعلم واجب وانتم تعلمونه مجملا بامارات(2/337)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{ الذين قالوا } مرفوع على انه بدل من واو يكتمون { لاخوانهم } لاجل اخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم احد أو اخوانهم فى النسب وفى سكنى الدار فيندرج فيهم بعض الشهدآء { وقعدوا } حال من ضمير قالوا بتقدير قد اى قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذا { لو اطاعونا } اى فيما امرناهم ووافقونا فى ذلك { ما قتلوا } كما لم نقتل وفيه ايذان بأنهم امروهم بالانخذال حين انخذلوا واغووهم كما غووا { قل } تبكيتا لهم واظهارا لكذبهم { فادرأوا } اى ادفعوا { عن انفسكم الموت ان كنتم صادقين } جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله اى ان كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من انكم قادرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن انفسكم الموت الذى كتب عليكم معلقا بسبب خاص موقتا بوقت معين بدفع سببه فان اسباب الموت فى امكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وانفسكم اعز عليكم من اخوانكم وامرها اهم لديكم من امرهم والمعنى ان عدم قتلكم كان بسبب انه لم يكن مكتوبا لا بسبب انكم دفعتموه بالقعود مع كتابته عليكم فان ذلك مما لا سبيل اليه بل قد يكون القتال سببا للنجاة والقعود مؤديا الى الموت
زبيش خطر تاتوانى كريز ... وليكن مكن باقضا بنجه تبز
كرت زندكانى نبشتست دير ... نه مارت كز آيدنه شمشير وتير
واعلم ان الموت ليس له سن معلوم ولا اجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على اهبة من ذلك مستعدا لذلك وكان بعض الصالحين ينادى بالليل على سور المدينة الرحيل الرحيل فلما توفى فقد صوته امير تلك المدينة فسأل عنه فقيل انه مات فقال
ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى اناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظا متشمرا ... ذا أهبة لم تلهه الآمال
انه مر دانيال عليه السلام ببرية فسمع مناديا يا دانيال قف ساعة تر عجبا فلم ير شيأ ثم نادى الثانية قال فوقفت فاذا بيت يدعونى الى نفسه فدخلت فاذا سرير مرصع بالدر والياقوت فاذا النداء من السرير اصعد يا دانيال تر عجبا فارتقيت لاسرير فاذا فراش من ذهب مشحون بالمسك والعنبر فاذا عليه شاب ميت كأنه نائم واذا عليه من الحلى والحلل ما لا يوصف وفى يده اليسرى خاتم من ذهب وفوق رأسه تاج من ذهب وعلى منطقته سيف اشد خضرة من البقل فاذا النداء من السرير أن احمل هذا السيف واقرأ ما عليه قال فاذا مكتوب عليه هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن ارم وانى عشت الف عام وسبعمائة وافتضضت اثنى عشر الف جارية وبنيت اربعين الف مدينة وهزمت سبعين الف جيش وفى كل جيش قائد مع كل قائد اثنا عشر الف مقاتل وباعدت الحكيم وقربت السفيه وخرجت بالجور والعنف والحمق عن حد الانصاف وكان يحمل مفاتيح الخزائن اربعمائة بغل وكان يحمل الى خراج الدنيا فلم ينازعنى احد من اهل الدنيا فادعيت الربوبية فاصابنى الجوع حتى طلبت كفا من ذرة بالف قفيز من درّ فلم اقدر عليه فمت جوعا يا اهل الدنيا اذكروا امواتكم ذكرا كثيرا واعتبروا بى ولا تغرنكم الدنيا كما غرتنى فان اهلى لم يحملوا من وزرى شيأ(2/338)
فعلى العاقل ان لا يركن الى الدنيا ويتذكر مرجعه ويتجنب عن المنافقة والظلم والجور ويتصف بالاخلاص والعدل والاحسان فانه هو المفيد : قال ابن الكمال
برده دارى ميكند در طاق كسرى عنكبوت ... بوم نوبت ميزند بر قلعه افراسياب
تخم احسانراجه دارى برفشان اى بى خبر ... جونكه دانى دانه عمرت خورداين آسياب
جعلنا الله واياكم من المتيقظين الواصلين الى ذروة اليقين قبل حلول الاجل والحين(2/339)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{ ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله امواتا } المراد بهم شهداء احد وكانوا سبعين رجلا اربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمرو وعثمان بن شهاب وعبد الله بن جحش وباقيهم من الانصار
قال القاشانى الافصح الابلغ ان يجعل الخطاب فى { ولا تحسبن } لكل احد لانه امر خطير يجب ان يبشر به كل واحد لتتوفر دواعيهم الى الجهاد وليتيقنوا بحسن الجزاء وان كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد به نهى الامة وتنبيهم على حالهم والا فرسول الله اجل مرتبة من ذلك الحسبان { بل احياء } اى بل هم احياء { عند ربهم } خبر ثان للمبتدأ المقدر والعندية المكانية مستحيلة فتعين حملها على انهم مقربون منه تعالى قرب التكريم والتعظيم { يرزقون } من ثمار الجنة وتحفها وفيه تأكيد لكونهم احياء وتحقيق لمعنى حياتهم(2/340)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الابدية والزلفى من الله تعالى والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا { ويستبشرون } معطوف على قوله فرحين عطف الفعل على الاسم لكون الفعل فى تأويل الاسم كأنه قيل فرحين ومستبشرين وبناء استفعل ليس للطلب بل هو بمعنى المجرد نحو استغنى الله اى غنى وقد سمع بشر الرجل بكسر العين فيكون استبشر بمعناه وقيل هو مطاوع ابشر نحو أراحه فاستراح فان البشرى حصلت لهم بابشار الله تعالى واليه اشار الزمخشري فى الكشاف بقوله بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به والبيضاوى بقوله يسرون بالبشارة { بالذين لم يلحقوا بهم } اى باخوانهم الذين لم يقتلوا بعده فى سبيل الله فيلحقوا بهم { من خلفهم } متعلق بيلحقوا والمعنى انهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم { ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال اخوانهم لا بذواتهم وان هى المحففة اى يفرحون بما بشر لهم وبين من حيث حال اخوانهم الذين تركوهم وهو انهم اذا ماتوا او قتلوا يفوزون بحياة ابدية لا يدركها خوف وقوع محذور ولا حزن فوت مطلوب والخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل فى المستقبل والحزن يكون بسبب فوت المنافع التى كانت موجودة فى الماضى فبين الله انه لا خوف عليهم مما سيأتيهم من اهوال القيامة واحوالها ولا حزن لهم مما فاتهم من نعم الدنيا ولذاتها(2/341)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
{ يستبشرون بنعمة } كائنة { من الله } كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها وهى ثواب اعمالهم { وفضل } اى زيادة عظيمة كما فى قوله تعالى { للذين احسنوا الحسنى وزيادة } { وان الله لا يضيع اجر المؤمنين } كافة سواء كانوا شهداء او غيرهم وهو بفتح ان عطف على فضل منتظم معه فى سلك المستبشر به
قال الامام الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم من استبشارهم بسعادة انفسهم لان الاستبشار الاول فى الذكر هو باحوال الاخوان وهذا تنبيه من الله على ان فرح الانسان بصلاح حال اخوانه ومتعلقه يجب ان يكون اتم واكمل من فرحه وصلاح احوال نفسه
واعلم ان ظاهر الآية يدل على ان هؤلاء المقتولين وان فارقت ارواحهم من اجسادهم الا انهم احياء فى الحال . واختلف القائلون بحياتهم فى الحال انها للروح او للبدن ولا بد ههنا من تقديم مقدمة ليتضح بها المقام وهى ان الانسان المخصوص ليس عبارة عن مجموع هذه البنية المخصوصة بل هو شىء مغاير لها وذلك لان اجزاء هذه البنية فى الذوبان والانحلال والتبدل والتغير بالسمن وضده والصغر وخلافه والانسان المخصوص شىء واحد باق من اول عمره الى آخره والباقى مغاير للمتبدل فثبت ان الانسان مغاير لهذا البدن المخصوص ثم بعد هذا يحتمل ان يكون جسما مخصوصا ساريا فى هذه الجثة سريان النار فى الفحم والدهن فى السمسم وماء الورد فى الورد ويحتمل ان يكون جوهرا قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال فى الجسم وعلى كلا المذهبين لا يبعد ان ينفصل ذلك الشىء حيا عند موت البدن فيثاب ويعذب على حسب اعماله والدلائل العقلية والنقلية الدالة على بقاء النفوس بعد موت الاجساد كثيرة متعاضدة فوجب المصير اليه وبه تزول الشبهات الواردة على القول بثواب القبر كما فى هذه الآية وعلى القول بعذاب القبر كما فى قوله تعالى { اغرقوا فادخلوا نارا } اذا لم تمت النفوس بموت الابدان او قلنا بانه تعالى اماتها ثم اعاد الحياة اليها كما يدل عليه ما روى فى بعض الاخبار انه قال صلى الله عليه وسلم فى صفة الشهداء « ان ارواحهم فى اجواف طير خضر وانها ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح فى الجنة حيث شاءت وتأوى الى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مطعمهم ومسكنهم ومشربهم قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كى يرغبوا فى الجهاد فقال الله تعالى انا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا » فانزل الله هذه الآية
والذين اثبتوا هذه الحياة للاجساد اختلفوا .(2/342)
فقال بعضهم انه تعالى تصعد اجساء هؤلاء الشهداء الى السموات الى قناديل تحت العرش ويوصل انواع السعادات والكرامات اليها . ومنهم من قال يتركها فى الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها كذا فى تفسير الامام ولابن سينا رسالة فى علم النفس ولعمرى قد بلغ القصوى فى التحقيق فليطلبها من اراد
وفضائل الشهداء لا نهاية لها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الشهيد لا يجد ألم القتل الا كما يجد احدكم ألم القرصة وله سبع خصال يغفر له فى اول قطرة قطرت من دمه ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الاكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار لياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج بثلاث وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع فى سبعين من اقربائه » ويروى انه اذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى ادعوا الى خيرتى من خلقى فيقولون يا رب من هم فيقول الشهداء الذين بذلوا دماءهم واموالهم وانفسهم فيمرون على رب العزة وسيوفهم على اعناقهم فيدخلون مساكنهم فى الجنة وينصب يوم القيامة لواء الصدق لأبى بكر وكل صديق يكون تحت لوائه ولواء العدل لعمر وكل عادل يكون تحت لوائه ولواء السخاوة لعثمان وكل سخى يكون تحت لوائه ولواء الشهداء لعلى وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل وكل زاهد تحت لواء ابى ذر وكل فقير تحت لواء ابى الدرداء وكل مقرىء تحت لواء ابى بن كعب وكل مؤذن تحت لواء بلال وكل مقتول ظلما تحت لواء الحسين بن على رضى الله عنهما فذلك قوله تعالى { يوم ندعو كل اناس بامامهم } قيل ارواح الشهداء وان كانت فى عليين الا انها تزور قبورها كل جمعة على الدوام ولذلك يستحب زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة قال عليه السلام « ما من احد يمر بمقبر اخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه الا عرفه ورد عليه »
قال الجنيد قدس سره من كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فانه ينتقل من حياة الطبع الى حياة الاصل وهى الحياة الحقيقة واذا كان القتيل بسيف الشريعة حيا مرزوقا فكيف من قتل بسيف الصدق والحقيقة
هركز نميرد آنكه دلش زنده شد بعشق ... ثبتست بر جريده عالم دوام ما
قال القاشانى المقتول فى سبيل الله صنفان . مقتول بالجهاد الاصغر وبذلك النفس طلبا لرضى الله كما هو الظاهر . ومقتول بالجهاد الاكبر وكسر النفس وقتلها بسفرة الحب وقمع الهوى كما روى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انه قال عند رجوعه من بعض الغزو « رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر » وكلا الصنفين ليسوا باموات بل احياء عند ربهم بالحياة الحقيقة مجردين من دنس الطبائع مقربين فى حضرة القدس يرزقون فى الجنة الصورية كما يرزق الاحياء او من كليهما فان للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية ولكل منهما درجات على حسب المعارف والعلوم والمكاسب والاعمال .(2/343)
فالمعنوية جنة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها بحسب تفاضل المعارف والترقى فى الملكوت والجبروت والصورية جنة الافعال وتفاوت درجاتها بحسب تفاوت الاعمال والتدرج فى مراتب عالم الملك من السموات العلى والجنات المحتوية على جميع المنى وما روى من الحديث فى شهداء احد فالطير الخضر فيه اشارة الى الاجرام السماوية والقناديل هى الكواكب اى تعلقت بالنيرات من الاجرام السماوية لنزاهتها وانهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ثمارها الاحوال والكشوف والمعارف او الانهار والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية او الصورية فان كل ما وجد فى الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات موجود فى الآخرة فى عالم المثال وفى طبقات السماء الذ واصفى مما فى الدنيا يستبشرون بنعمة الامن من العقاب اللازم للنقص والتقصير والنجاة من الحزن على فوات نعمة الدنيا لحصول ما هو اشرف واصفى والذ وابقى من جنات الافعال وفضل هو زيادة جنات الصفات المشار اليها بالرضوان او نعمة جنة الصفات وفضل جنة الذوات وان اجر ايماهم من جنة الافعال لا يضيع مع ذلك انتهى كلامه فلا بد للسالك من بذل المال والبدن والروح حتى يحصل لهم انواع الفتوح
دلا طمع مبراز لطف بى نهايت دوست ... جولاف عشق زدى سربباز جابك وجست(2/344)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{ الذين استجابوا لله والرسول } اى اجابوا واطاعوا فيما امروا به ونهوا عنه كما فى قوله تعالى { فليستجيبوا } { من بعد ما اصابهم القرح } اى الجرح فى غزوة احد { للذين احسنوا منهم } يدخل تحته الاتيان بجميع المأمورات { واتقوا } يدخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات { اجر عظيم } ثواب عظيم وجملة قوله للذين خبر مقدم مبتدأه اجر عظيم والجملة فى محل الرفع خبر الذين استجابوا وكلمة من فى قوله منهم ليست للتبعيض لان الذين استجابوا لله والرسول كلهم قد احسنوا لا بعضهم بل هى لبيان الجنس ومحصل المعنى حينئذ الذين استجابوا لله والرسول لهم اجر عظيم الا انهم وصفوا بوصفى الاحسان والتقوى مدحا لهم وتعليلا لعظم اجرهم بحسن فعالهم لا تقييدا روى ان ابا سفيان واصحابه لما رجعوا من احد فبلغوا الروحاء وهو موضع بين مكة والمدينة ندموا وهموا بالرجوع حتى يستأصلوا ما بقى من المؤمنين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فندب اصحابه للخروج فى طلب ابى سفيان وقال لا يخرجن معنا الا من حضر يومنا بالامس اى وقعتنا والعرب تسمى الوقائع اياما وذكرهم بايام الله فخرج رسول الله عليه السلام اراءة من نفسه ومن اصحابه جلدا وقوة ومعه جماعة حتى بلغوا حمراء الاسد وهى من المدينة على ثمانية اميال وكان باصحابه القرح فتحاملوا على انفسهم اى حملوا المشقة على انفسهم كيلا يفوتهم الاجر والقى الله الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا فنزلت فهذه هى غزوة حمراء الاسد متصلة بغزوة احد واما غزوة بدر الصغرى فقد وقعت بعدها بسنة واليها الاشارة بقوله تعالى(2/345)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{ الذين قال لهم الناس } يعنى الركب استقبلوهم من عبد قيس او نعيم بن مسعود الاشجعى واطلاق الناس عليه لما انه من جنسهم وكلامه كلامهم يقال فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله سوى فرس فرد وغير ثوب واحد او لانه انضم اليه ناس من المدينة واذاعوا كلامه { ان الناس } يعنى ابا سفيان واصحابه { قد جمعوا لكم } اى اجتمعوا { فاخشوهم } روى ان ابا سفيان لما عزم على ان ينصرف من المدينة الى مكة نادى يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى لقابل نقتتل بها ان شئت فقال صلى الله عليه وسلم « ان شاء الله » فلما كان القابل خرج ابو سفيان فى اهل مكة حتى نزل مر الظهران فالقى الله فى قلبه الرعب وبدا له ان يرجع فمر به ركب من بنى عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب ان ثبطوا المسلمين او لقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال يا نعيم انى واعدت محمدا أن نلتقى بموسم بدر الا ان هذا العام عام جدب ولا يصلحنا الا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لى ان ارجع ولكن ان خرج محمد ولم اخرج زاده ذلك جراءة فاذهب الى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الابل وضمنها سهيل بن عمرو فجاء نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم ما هذا بالرأى اتوكم فى دياركم فلم يفلت منكم احد اى لم يتخلص الا شريد وهو الفار النافر المبعد أفترون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد فاثر هذا الكلام فى قلوب قوم منهم فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم قال « والذى نفسى بيده لاخرجن ولولم يخرج معى احد فخرج فى سبعين راكبا كلهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل » { فزادهم } القول { ايمانا } والمعنى لم يلتفتوا الى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله وازداد اطمئنانهم واظهروا حمية الاسلام واخلصوا النية عنده { وقالوا حسبنا الله } اى محسبنا وكافينا من احسبه اذا كفاه { ونعم الوكيل } اى الموكول اليه هو اى الله(2/346)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{ فانقلبوا بنعمة من الله } الفاء فصيحة اى خرجوا اليهم ووافوا الموعد فرجعوا من مقصدهم ملتبسين بنعمة عظيمة لا يقادر قدرها كائنة من الله تعالى وهى العافية والثبات على الايمان والزيادة فيه وحذر العدو منهم { وفضل } اى ربح فى التجارة عظيم { لم يمسسهم سوء } سالمين من السوء اى لم يصبهم اذى ولا مكروه روى انه صلى الله عليه وسلم وافى بجيشه بدرا الصغرى وكانت موضع سوق لبنى كنانة يجتمعون فيها كل عام ثمانية ايام ولم يلق صلى الله تعالى عليه وسلم واصحابه هناك احدا من المشركين واتوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا اريا وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا الى المدينة سالمين غانمين ورجع ابو سفيان الى مكة فسمى اهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا انما خرجتم لتشربوا { واتبعوا } فى كل ما اتوا من قول وفعل وهو عطف على انقلبوا { رضوان الله } الذى هو مناط الفوز بخير الدارين بجرأتهم وخروجهم { والله ذو فضل عظيم } حيث تفضل بالتثبيت وزيادة الايمان والتوفيق للمبادرة الى الجهاد والتصلب فى الدين واظهار الجرأة على العدو وحفظهم من كل ما يسوؤهم مع اصابة النفع الجليل . وفيه تحسير لمن تخلف عنهم واظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء وروى انهم قالوا هل يكون هذا غزوا فاعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم(2/347)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{ انما ذلكم } اى المثبط ايها المؤمنون وهو مبتدأ { الشيطان } خبره { يخوف اولياءه } المنافقين غلبة المشركين وقهرهم ليقعدوا عن قتالهم فهم المنافقون الذين فى قلوبهم مرض وقد تخلفوا عن رسول الله فى الخروج والمعنى ان تخويفه بالكفار انما يتعلق بالمنافقين الذين هم اولياؤه واما انتم ايها المؤمنون فاولياء الله وحزبه الغالبون لا يتعلق بكم تخويفه { فلا تخافوهم } اى الشيطان واولياء من ابى سفيان وغيره { وخافون } فى مخالفة امرى { ان كنتم مؤمنين } فان الايمان يقتضى ايثار خوف الله عز وجل على خوف غيره ويستدعى الامن من شر الشيطان واوليائه
والخوف على ثلاثة اقسام . خوف العام وهو من عقوبة الله . وخوف الخاص وهو من بعد الله . وخوف الاخص وهو من الله والى هذه المراتب اشار النبى عليه السلام بقوله « اعوذ بعفوك من عقابك واعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك »
فعلى السالك ان يفنى عن نفسه وصفاتها ولا يرى فى الكون وجودا غير وجوده فلا يخاف الا منه فانه هو القاهر فوق عباده وهو الكافى جميع الامور
قال نجم الدين الكبرى قدس سره آخر مقام الخلة ان يكبر على نفسه وجميع المكونات اربع تكبيرات ويتحقق له ان الله حسبه من كل شىء وهو نعم الوكيل عن نفسه وما سواه : قال الحافظ الشيرازى
من همان دمكه وضو ساختم ازجشمه عشق ... جار تكبير زدم يكسره برهر جه كه هست
يشير الى انه وقت قيامه بالعشق رأى وجود غير الله ميتا بمنزلة الجماد وقد قال كل شىء هلاك الا وجهه وصلاة الميت باربع تكبيرات لا غير وهذا هو الفناء عن نفسه وعن المكونات حققنا الله تعالى بحقيقة التوحيد
قال ابو يزيد كنت اثنتى عشرة سنة حدادا لنفسى وخمسين سنة مرآة قلبى وسنة انظر فيها فاذا فى وسطى زنار ظاهر فعملت فى قطعه اثنتى عشرة سنة ثم نظرت فاذا فى باطنى زنار فعملت فى قطعه خمس سنين انظر كيف اقطع فكشف لى فنظرت الى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم اربع تكبيرات
وقيل لابى يزيد البسطامى بعد وفاته كيف كان حالك مع منكر ونكير فقال لما قالا لى من ربك قلت لهما اسألا ربى فان قال هو عبدى يكفى ولا فلو قلت انا عبده مرارا لا يفيد بلا قبوله وحقيقة العبودية بالتبرى من جميع ما سوى الله ولو من صومه وصلاته وسائر عباداته روى ان ابا يزيد فى آخر عمره دخل محرابه وقال الهى لا أذكر صومى ولا صلاتى ولا غيرهما بل اقول افنيت عمرى فى الضلالة فالآن قطعت زنارى وجئت بابك بالاستسلام وهو الاسلام وهذا هو الانصفا من نفسه حقيقة(2/348)
قال الشيخ السعدى فى حق شيخه السهروردى
شبى دائم ازهول دروزخ تخفت ... بكوش آمدم صبحكا هى كه كفت
جه بودى كه دوزخ زمن برشدى ... مكر ديكرانرا رهايى بدى
فالعاقل لا يزكى نفسه ولا يراها محلا لكرامة الله بل يتواضع بحيث يرى اعماله السيئة كثيرة بالنسبة الى اعماله الصالحة بل ولا يرى فى نفسه الا العدم المحض
واعلم ان من شعار المسلمين وعادة المؤمنين ان يجاهدوا فى سبيل الله ولا يخافوا لومة اللائمين ألا يرى ان الله تعالى كيف مدح قوما حالهم كذلك بقوله { يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } فمن كان مع الله فهو يعصمه وينصره على اعدائه خصوصا عدو النفس الامارة
كسى رادانم اهل استقامت ... كه باشد برسر كوى ملامت
زاوصاف طبيعت باك مرده ... باطلاق هويت جان سبرده
برفته سايه وخرشيد مانده ... تمام ازكرد خوددا من فشانده
اوصلنا الله واياكم الى الخلوص واليقين والتمكين آمين(2/349)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{ ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر } اى يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه وهم المنافقون المتخلفون الذين يسارعون الى ما ابطنوه من الكفر مظاهرة للكفار وسعيا فى اطفاء نور الله { انهم لن يضروا الله شيأ } اى لن يضروا بذلك اولياء الله ودينه البتة شيأ من الضرر { يريد الله ان لا يجعل لهم حظا فى الآخرة } اى يريد الله بذلك ان لا يجعل لهم الآخرة نصيبا ما من الثواب ولذلك تركهم فى طغيانهم يعمهون الى ان يهلكوا على الكفر . وفى ذكر الارادة اشعار بان كفرهم بلغ النهاية حتى اراد ارحم الراحمين ان لا يكون لهم حظ من رحمته وان مسارعتهم الى الكفر لانه تعالى لم يرد لهم ان يكون لهم حظ فى الآخرة { ولهم } مع ذلك الحرمان الكلى بدل الثواب { عذاب عظيم } لا يقادر قدره(2/350)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
{ ان الذين اشتروا الكفر بالايمان } اى اخذوه بدلا منه رغبة فيما اخذوه واعراضا عما تركوه { لن يضروا الله شيأ ولهم عذاب اليم } ولما جرت العادة باغتباط المشترى بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالايلام مراعاة لذلك(2/351)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{ ولا يحسبن الذين كفروا } الموصول مع صلته فاعل لا يحسبن { انما } بما فى حيزها سادة مسد مفعوليه لتمام المقصود بها وهو تعلق الفعل القلبى بالنسبة بين المبتدأ والخبر وما مصدرية او موصولة حذف عائدها وكان حقها فى قياس علم الخط ان تكتب مفصولة ولكنها وقعت فى مصحف عثمان رضى الله تعالى متصلة فلا يخالف وتتبع سنة الامام فى خط المصاحف { نملى لهم } الاملاء الامهال واطالة المدة والملى مقصورا الدهر والملوان الليل والنهار لتعاقبهما اى ان املاءنا لهم او ان ما نمليه لهم { خير لانفسهم } من منعهم عن اراداتهم ومعنى التفضيل باعتبار زعمهم { انما } كافة حقها الاتصال { نملى لهم ليزدادوا اثما } اللام لام الارادة عند اهل السنة القائلين بانه تعالى فاعل الخير والشر مريد لهما فان الاملاء الذى هو اطالة العمر لا شك انه من افعاله تعالى وانه ليس بخير لهم لانهم يتوسلون به الى ازدياد الاثم والطغيان فهو تعالى لما امهلهم واطال عمرهم بارادته واكتسبوا بذلك مآثم من الكفر والطغيان كان خالقا لتلك المآثم ايضا ولا تخلق الا بالارادة فهو مريد لها كما انه مريد لاسبابها المؤدية اليها وليست لام العلة لان افعاله تعالى ليست معللة بالاغراض وعند المعتزلة لام العاقبة { ولهم عذاب مهين } اى يهانون به فى الآخرة قال عليه السلام « خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله »
ودلت الآية على ان اطالة عمر الكافر والفاسق وايصاله الى مراداته فى الدنيا ليس بخير بل هى نعمة فى الصورة ونقمة فى الحقيقة ألا يرى ان من اطعم انسانا خبيصا مسموما لا يعد ذلك نعمة عند الحقيقة لافضائه الى الهلاك والعقوبة فينبغى للعبد ان لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثرة امواله ولا اولاده
غره مشو بآن كه جهانت عزيز كرد ... اى بس عزيز راكه جهان كردزودخوار
مارست اين جهان وجها نجوى ماركير ... وزماركير مار برآرد كهى دمار
قال الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج « ان من نعمى على امتك انى قصرت اعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم واقللت اموالهم كيلا يشتد فى القيامة حسابهم واخرت زمانهم كيلا يطول فى القبور حبسهم » وقال ايضا « يا احمد لا تتزين بلين اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فان النفس مأوى كل شر وهى رفيق سوء كلما تجرها الى طاعة تجرك الى معصية وتخالفك فى الطاعة وتطيع لك فى المعصية وتطغى اذا شبعت وتتكبر اذا استغنت وتنسى اذا ذكرت وتغفل اذا امنت وهى قرينة للشيطان » وقيل مثل النفس كمثل النعامة تأكل الكثير واذا حملت عليها لا تطير واذا قيل انت طائر قالت انا بعير وهذه رجلى واذا حملت عليها شيأ قالت انا طائر وهذا جناحى فكثرة المال وكمال الاستغناء تغر النفس قال تعالى(2/352)
{ كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى }
مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتش قبله ديكرست
قال السعدى قدس سره
شنيده ام كه بقصاب كوسفندى كفت ... دران زمانكه بخنجر سرش زتن ببريد
جزاى هر بن خارى كه خورده ام ديدم ... كسى كه بهلوى جربم خوردجه خواهدديد
وعن عائشة رضى الله عنها انها قالت قلت يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الحجر من السغب فقال « يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربى ان يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لاجراها حيث شئت من الارض ولكنى اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها . يا عائشة ان الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد » قال عليه السلام « الدنيا والآخرة ضرتان فمن يطلب الجمع بينهما فهو ممكور ومن يدعى الجمع بينهما فهو مغرور » فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ الى الدرجات العلى فهو غريق فى الغفلة فالله تعالى يمهله فى طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوز فى طلبها حد الاحتياج اليها ويفتح ابواب المقاصد الدنيوية عليه ليستغنى بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانه
بناز ونعمت دنيا منه دل كه دل ... بر داشتن كاريست مشكل
فيا ايها الاخوان الذين مضوا قبلنا من الامم قد عاشوا طويلا وجمعوا كثيرا فتذكروا موتهم ومصارعهم تحت التراب وتأملوا كيف تبددت اجزاؤهم وكيف ارملوا نساءهم وايتموا اولادهم وضيعوا اموالهم وهلكت بعدهم صغراهم وكبارهم وانقطت آثارهم وديارهم فلم يرجع من كفر بنعمة الله الا الى العذاب والخسران ولم يصر الا الى دركات النيران فمن كانت غفلته كغفلتهم فسيصير الى ما صاروا اليه وان عاش طويلا فان الله يمهل ولا يهمل قال تعالى { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم الى عذاب غليظ } وما الحياة والتمتع بها الا قليل . فالدنيا ساعة فاجعلها طاعة لعلك تلحق بالجماعة من اهل الوصول وارباب القبول
وجميع الطاعات من اسباب الفلاح خصوصا الصلاة افضل العبادات واعلاها واشرف الطاعات واسناها . والصوم سبب الولوج فى ملكوت السموات وواسطة الخروج من رحم مضايق الجسمانيات المعبر عنه بالنشأة الثانية كما اشير اليه بقول عليسى عليه السلام [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء واليه يشير الحديث القدسى وهو قوله جل شانه « الصوم لى وانا اجزى به » يعنى انا جزاؤه ولهذا علق سبحانه نيل سعادة الرؤية بالجوع حيث قال فى مخاطبة عيسى عليه السلام [ تجوع ترانى ]
همى آيد ازحق ندا متصل ... تجوع ترانى تجرد تصل
رزقنا الله واياكم(2/353)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{ ما كان الله } مريدا { ليذر } لان يترك { المؤمنين } المخلصين { على ما انتم عليه } الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين فى عصره { حتى يميز الخبيث من الطيب } ماز الشىء يميزه ميزا عزله وافرزه والمعنى ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التى انتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض وانه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميز المنافق من المخلص بالوحى الى نبيه باحوالكم او بالجهاد او بالهجرة { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } اى وما كان الله ليؤتى احدكم علم الغيب فيطلع على ما فى القلوب من كفر وايمان { ولكن الله يجتبى } يصطفى { من رسله من يشاء } فيوحى اليه ويخبره ببعض المغيبات او ينصب له ما يدل عليها { فآمنوا بالله ورسله } بصفة الاخلاص او بان تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون الا ما علمهم الله ولا يعلمون الا ما اوحى اليهم { وان تؤمنوا } حق الايمان { وتتقوا } النفاق { فلكم } بمقابلة ذلك الايمان والتقوى { اجر عظيم } لا يبلغ كنهه وهذا الاجر على قدر عظم التقوى فان السير الى المقصد الاعلى والوصول الى منازل الاجتباء لا يتهيأ الا بقدمى التقى
قدم بايد اندر طريقت نه دم ... كه اصلى ندارد دم بى قدم
قال ابراهيم بن ادهم بت ليلة تحت صخرة بيت المقدس فلما كان بعض الليل نزل ملكان فقال احدهما لصاحبه من ههنا فقال الآخر ابراهيم بن ادهم فقال ذلك الذى حط الله درجة من درجاته فقال لم قال لانه اشترى بالبصرة التمر فوقعت تمرة على تمره من تمر البقال قال ابراهيم فمضيت الى البصرة واشتريت التمر من ذلك الرجل واوقعت تمرة على تمره ورجعت الى بيت المقدس وبت فى الصخرة فلما كان بعض الليل اذا انا بملكين قد نزلا من السماء فقال احدهما لصاحبه من ههنا فقال احدهما ذلك الذى رد التمرة الى مكانه فرفعت درجته فهذا هو التقوى على الحقيقة ومراعاة الحقوق على الوجه اللائق ولا يتيسر ذلك الا بالتوسل الى جناب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فان غيب الحقائق والاحوال لا ينكشف بلا واسطة الرسول واليه الاشارة بقوله تعالى { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن } الخ وكيف يترقى الى حقيقة التقوى وعالم الاطلاق من تقيد برأيه واختياره قال الله تعالى { وابتغوا اليه الوسيلة } فلا بد من متابعة النبى عليه السلام
حقا كه بى متابعت سيد رسل ... هر كز كسى بمنزل مقصود ره نيافت
ازهيج او بهيج درى ره نمى دهند ... انران كه زآستانه او روى دل بتافت
فالايمان بالله وبرسوله هو التصديق القلبى والارادة والتمسك بالشريعة والنجاة فيه لا فى غيره روى ان المؤمن اذا ورد النار بمقتضى قوله تعالى(2/354)
{ وان منكم الا واردها } يصير الله ثواب التوحيد سفينة والقرآن حبلها والصلاة شراعها ويكون المصطفى عليه السلام ملاحها والمؤمنون يجلسون عليها ويكبرون الله وتجرى السفينة على بحر نار جهنم بريح طيبة فيعبرون عنها سالمين . فيا اخى لا تضيع ايامك فان ايامك رأس مالك وانك ما دمت قابضا على رأس مالك فانك قادر على طلب الربح فاجتهد فى تحصيله بالتوغل فى الطاعات والعبادات واحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه قبل الموت والفوت فان الموتى يتمنون ان يؤذن لهم بان يصلوا ركعتين او يقولوا مرة لا اله الا الله او يسبحوا مرة فلا يؤذن لهم ويتعجبون من الاحياء كيف يضيعون ايامهم فى الغفلة
اكر مرده مسكين زبان داشتى ... بفرياد وزارى فغان داشتى
كه اى زنده هست امكان كفت ... لب زاذ كرجون مرده برهم مخفت
جومارا بغفلت بشد روز كار ... توبارى دمى جند فرصت شمار
قال عليه السلام « الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا » فتميز المنافق من المخلص كما يكون فى الدنيا بالاقوال والافعال وغيرهما كذلك يكون فى الآخرة ببياض وجه هذا وسواد وجه ذلك كما قال تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } فعلى العاقل ان يتحمل مشاق الطاعات والتكاليف والامتحانات الآلهية لعله يفوز بالمرام ويظفر بالبغية يوم يخيب المعرضون والمنافقون ويخسرون
خوش بود كر محك تجربه آيدبميان ... باسيه روى شود هر كه دروغش باشد
قال بعض الكبار وعند الامتحان يكرم الرجل او يهان عصمنا الله واياكم من المخالفة(2/355)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } الموصول فاعل لا يحسبن والمفعول الاول محذوف لدلالة يبخلون عليه اى ولا يحسبن البخلاء بخلهم { هو } ضمير فصل لا محل له من الاعراب { خيرا لهم } من انفاقهم مفعول ثان للفعل المذكور { بل هو } اى البخل { شر لهم } لاستجلاب العقاب عليهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة } بيان لقوله هو شر لهم اى سيلزمون وبال ما بخلوا به الزام الطوق اذ لا طوق ثمة فيكون من قبيل الاستعارة التمثيلية شبه لزوم وبال البخل واثمه بهم بلزوم طوق نحو الحمامة بها فى عدم زوال كل واحد منهما عن صاحبه فعبر عن لزوم الوبال بهم بالتطويق واشتق منه يطوقون كما يقال منة فلان طوق فى رقبة فلان وقيل هو على حقيقته وانهم يطوقون حية او طوقا من نار استدلالا بالحديث وسيجيئ { ولله } وحده لا لاحد غيره استقالا واشتراكا { ميراث السموات والارض } اى ما يتوارثه اهلهما من مال وغيره من الرسالات التى يتوارثها اهل السموات فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه فى سبيله او انه يورث منهم ما يمسكونه ولا نفقونه فى سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والندامة { والله بما تعملون } من المنع والاعطاء { خبير } فيجازيكم على ذلك
واعلم ان البخل عبارة عن امتناع اداء الواجب والامتناع عن التطرع لا يكون بخلا ولذلك قرن به الوعيد والذم والواجب كثير كالانفاق على النفس والاقارب الذين يلزمه مؤونتهم والصدقة على الغير حال المخمصة وفى حال الجهاد عند الاحتياج الى التقوية بالمال
ثم ان فى الآية اشارة الى ان البخل اكسير الشقاوة كما ان السخاء اكسير السعادة وذلك لان الله تعالى سمى المال فضله كما قال { من فضله } والفضل لاهل السعادة فباكسير البخل يصير الفضل قهرا والسعادة شقاوة كما قال { هو خيرا لهم بل هو شر لهم } يعنى باكسير البخل يجعون خيرية ما آتاهم الله من فضله شرا لهم ولو انهم طرحوا على ما هو فضله اكسير السخاء لجعلوه خيرا لهم فصيروه سعادة ولصاروا بها اهل الجنة ولن يلج الجنة الشحيح ثم عبر عن آفة حب الدنيا والمال بالطوق لانها تحيط بالقلب ومنها تنشأ معظم الصفات الذميمة مثل البخل والحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب وغير ذلك ولهذا قال النبى عليه السلام « حب الدنيا رأس كل خطيئة » فبمنع الزكاة يصير الروح الشريف العلوى النورانى محفوفا بهذه الصفات الخسيسة السفلية الظلمانية مطوقا بآفاتها وحجبها وعذابها يوم القيامة وبعد المفارقة فانه من مات فقد قامت قيامته
نه منعم بمال از كسى بهترست ... خررا جل اطلس بيوشد خرست
هنر بايد وفضل ودين وكمال ... كه كه آيد و كه رود جاه ومال
بسنديده رأيى كه بخشيد وخورد ... جهان ازبى خويشتن كرد كرد(2/356)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من آتاه الله ما لا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه » يعنى بشدقيه « ثم يقول انا مالك انا كنزك ثم تلا ولا يحبسن الذين يبخلون » الآية وفى رواية « يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها فى عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه الى قدمه وتنقر رأسه وتقول انا مالك » وقال صلى الله عليه وسلم « ما من رجل يكون له ابل او بقر او غنم لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة اعظم ما تكون واسمنه تطأه باخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت اخراها ردت عليه اولاها حتى يقضى بين الناس »
قال ابو حامد . مانع زكاة الابل يحمل بعيرا على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم . ومانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم . ومانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء وثقل يعدل الجبل العظيم والرغاء والخوار والثغاء كالرعد القاصف . ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله اعدالا قد ملئت من الجنس الذى كان يبخل به بر كان او شعيرا اثقل ما يكون ينادى تحته بالويل والثبور . ومانع زكاة المال يحمل شجاعا اقرع له زبيبتان وذنبه قد انساب فى منخريه واستدار بجيده وثقل على كاهله كأنه طوق بكل رحى فى الارض وكل واحد ينادى ما هذا فيقول الملائكة هذا ما بخلتم به فى الدنيا رغبة فيه وشحا عليه فمنع الزكاة سبب للعقاب فى العقبى كما ان ايتاءها سبب للثواب فى الاخرى وحصن لماله فى الدنيا قال صلى الله عليه وسلم « حصنوا اموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستقبلوا البلايا بالدعاء » قال عليه السلام « لا صلاة لمن لا زكاة له » روى ان موسى عليه السلام مرّ برجل وهو يصلى مع حضور وخشوع فقال يا رب ما احسن صلاته قال الله تعالى ( لو صلى فى كل يوم وليلة الف ركعة واعتق الف رقبة وصلى على الف جنازة وحج الف حجة وغزا الف غزوة لم ينفعه حتى يؤدى زكاة ماله ) وقال عليه الصلاة والسلام « ملعون مال لا يزكى كل عام وملعون بدن لا يبتلى فى كل اربعين ليلة ومن البلاء العثرة والنكبة والمرضة والخدشة واختلاج العين فما فوق ذلك » فاذا سمعت هذه الاخبار وقفت على وزر من وقف على الاصرار ولم يؤد زكاة ماله بطيبة النفس وصفاء البال الى ان يرجع فقيرا ميتا بعدما ساعدته الاحوال والاموال
بريشان كن امروز كنجينه جست ... كه فردا كليدش نه دردست تست
تو باخود ببر توشه خويشتن ... كه شفقت نيايد ز فرزند وزن
بخيل توانكر بدينار وسيم ... طلسمست بالاى كنجى مقيم
ازان سالها مى بماند زرش ... كه لرزد طلسمى جنين بر سرش
بسنك اجل ن كهان بشكنند ... بآسودكى كنج قسمت كنند
جو در زندكانى بدى باعيال ... كرت مرك خواهند از ايشان منال
تو غافل در انديشه سود مال ... كه سر مايه عمر شد بايمال
بكن سرمه غفلت از جشم باك ... كه فردا شوى سرمه درجشم خاك(2/357)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{ لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير ونحن اغنياء } قالته اليهود لما سمعوا قوله تعالى { من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا } وروى انه عليه الصلاة والسلام كتب مع ابى بكر رضى الله تعالى عنه الى يهود بنى قينقاع يدعوهم الى الاسلام والى اقام الصلاة وايتاء الزكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل ابو بكر رضى الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتعوا الى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له اشيع فقال ابو بكر لفنحاص اتق الله واسلم فوالله انك لتعلم ان محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة فآمن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال فنحاص يا ابا بكر تزعم ان ربنا يستقررض اموالنا وما يستقرض الا الفقير من الغنى فان كان ما تقول حقا فان الله اذا لفقير ونحن اغنياء وانه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما اعطانا الربا فغضب ابو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص الى النبى صلى الله عليه وسلم فشكاه وجحد ما قاله فنزلت ردا عليه وتصديقا لابى بكر والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضى الباقين بذلك والمعنى انه لم يخف عليه تعالى واعد له من العقاب كفاءه والتعبير عنه بالسماع للايذان بانه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بان يسمعه سامع { سنكتب ما قالوا } اى سنكتب ما قالوه من الخطة الشنعاء فى صحائف الحفظة او سنحفظه ونثبته فى علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب . والسين للتأكيد اى لن يفوتنا ابدا تدوينه واثباته لكونه فى غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر بالله تعالى واستهزاء بالقرآن العظيم والرسول الكريم عليه السلام { وقتلهم الانبياء } عطف عليه ايذانا بانهما فى العظم اخوان وتنبيها على انه ليس باول جريمة ارتكبوها بل لهم فيه سوابق وان من اجترأ على قتل الانبياء لم يبعد منه امثال هذه العظائم والمراد بقتلهم الانبياء رضاهم بفعل اسلافهم { بغير حق } متعلق بمحذوف وقع حالا من قتلهم اى كائنا بغير حق وجرم فى اعتقادهم ايضا كما هو فى نفس الامر { ونقول } عند الموت او عند الحشر او عند قراءة الكتاب { ذقوا عذاب الحريق } اى وننتقم منهم بعد الكتبة بان نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق كما اذقتم المرسلين الغصص { ذلك } اشارة الى العذاب المذكور { بما قدمت ايديكم } بسبب ما اقترفتموه من قتل الانبياء والتفوه بمثل تلك العظيمة وغيرها من المعاصى والتعبير عن الانفس بالايدى لان اكثر الاعمال يزوال بهن فجعل كل عمل كالواقع بالايدى على سبيل التغليب { وان الله ليس بظلام للعبيد } محله الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلى مقررة لمضمون ما قبلها اى والامر انه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفى الظلم مع ان تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة اهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم كما يعبر عن ترك الاثابة على الاعمال باضاعتها مع ان الاعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بابراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى صورة المبالغة فى الظلم
والاشارة فى تحقيق الآيتين ان العبد اذا غلبت عليه الصفات الذميمة واستولى عليه الهوى والشيطان ومات قلبه تكاملت الصفة الامارية لنفسه فما ينطق الا عن الهوى ان هو الا وحى يوحيه اليه الشيطان كقوله تعالى(2/358)
{ ان الشياطين ليوحون الى اوليائهم } والنفس اذا تكملت بالهوى تدعى الربوبية كما ادعى فرعون وقال انا ربكم الاعلى فيكون كلامها من صفات الربوبية وان من صفات الربوبية قوله { والله الغنى وانتم الفقراء } فاذا تم فساد حال النفس الامارة بالسوء اثبتت صفات الربوبية لنفسها وصفات العبودية لربها كقوله { لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير ونحن اغنياء } اثبتوا لنفسهم صفات الربوبية وهى الغنى واثبتوا لله صفة العبودية وهى الفقر { سنكتب ما قالوا } اى سنميت قلوبهم باقوالهم هذه كما امتناها بافعالهم { و } هى { قتلهم الانبياء بغير حق } يشير الى ان جزاء هذه الاقوال فى حق الله مثل جزاء هذه الافعال فى الانبياء عليهم الصلاة والسلام { ونقول ذوقوا عذاب } القلب الميت { الحريق } بنار القهر والقطيعة { ذلك بما قدمت ايديكم } اى بشؤم معاملاتكم القولية والفعلية على وفق الهوى والطبيعة وخلاف الرضى والشريعة { وان الله ليس بظلام للعبيد } بان يضع الشىء فى غير موضعه يعنى لا يجعل المصلح منهم مظهر صفة قهره ولا المفسد منهم مظهر صفة لطفه كما قال تعالى { الله اعلم حيث يجعل رسالته } وهذا كما يقال
ندهد هوشمند روشن رأى ... بفرومايه كارهاى خطير
بوريا باف اكرجه بافنده است ... نبرندش بكار كاه حرير
واذا كان للعبد حسن الاستعداد يتحول القهر فى حقه الى اللطف بشرط ان يجتهد ويبذل ما فى وسعه وطاقته وكم من مؤمن يصير فى مآله كافرا وكم من عكسه فاذا جاء حين السعادة انقلب الحال وكذا الشقاوة
قال بعض المشايخ العباد على قسمين فى اعمارهم فرب عمر اتسعت آماده وقلت امداده كاعمار بنى اسرائيل اذ كان الواحد منهم يعيش الالف ونحوها ولم يحصل على شىء مما تحصل لهذه الامة مع قصر اعمارها ورب عمر قليلة آماده كثيرة امداده كعمر من فتح عليه من هذه الامة فوصل الى عناية الله بلمحة(2/359)
فقد قال احمد بن ابى الحوارى رحمه الله قلت لابى سليمان الدارانى انى قد غبطت بنى اسرائيل قال بأى شىء قلت بثمانمائة سنة حتى يصيروا كالشنان البالية وكالحنايا وكالاوتار قال ما ظننت الا وقد جئت بشىء والله ما يريد الله منا ان ييبس جلودنا على عظامنا ولا يريد منا الا صدق النية فيما عنده هذا اذا صدق فى عشرة ايام نال ما ناله ذلك فى عمره الطويل فاذن من بورك له فى عمره ادرك فى يسير من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الاشارة لكثرته وعظمه ودقته ورفعته
وقد قال الشيخ الشاذلى رحمه الله فى كتاب تاج العروس من قصر عمره فليذكر بالاذكار الجامعة مثل سبحان الله عدد خلقه ونحو ذلك ويعنى بقصر العمر والله اعلم ان يكون رجوعه الى الله فى معترك المنايا ونحوها من الامراض المخوفة والاعراض المهولة واذا كان الامر على ما ذكر فالخذلان كل الخذلان ان تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه اليه بصدق النية حتى يفتح عليك بما لا تصل الهمم اليه وتقل عوائقك ثم لا ترحل اليه عن عوالم نفسك والاستئناس بيومك وامسك فقد جاء خصلتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ومعناه والله اعلم ان الصحيح ينبغى ان يكون مشغولا بدين او دنيا والا فهو مغبون فيهما عصمنا الله واياكم من الغبن والخذلان والخسران
مهل كه عمر به بيهوده بكذرد حافظ ... بكوش وحاصل عمر عزيزرا درياب
قيل الدنيا غنيمة الاكياس وغفلة الجهال(2/360)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
{ الذين } اى الذين { قالوا } وهم كعب بن الاشرف ومالك بن الصيف وحيى بن اخطب وفنحاس بن عازوراء ووهب بن يهودا { ان الله عهد الينا } اى امرنا فى التوراة واوصانا { ان لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فيكون دليلا على صدقه . والقربان كل ما يتقرب به العبد الى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح وهو فعلان من القربة
قال عطاء كانت بنوا اسرائيل يذبحون لله تعالى فيأخذون الثروب واطايب اللحم فيضعونها وسط البيت والسقف مكشوف فيقوم النبى عليه السلام فى البيت ويناجى ربه وبنوا اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لا دخان لها ولها دوىّ وهفيف حين تنزل من السماء فتأكل ذلك القربان اى تحيله الى طبعها بالاحراق فيكون ذلك علامة القبول واذا لم يقبل بقى على حاله وهذا من مفترياتهم واباطيلهم لان اكل القربان النار لم يوجب الايمان الا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء ولما كان محصل كلامهم الباطل ان عدم ايمانهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم اتيانه بما قالوا ولو تحقق الاتيان به لتحقق الايمان رد عليهم بقوله تعالى { قل } اى تبكيتا لهم واظهارا لكذبهم { قد جاءكم } اى جاء اسلافكم وآباءكم { رسل } كثيرة العدد كبيرة المقدار { من قبلى بالبينات } اى المعجزات الواضحة { وبالذى قلتم } بعينه من القربان الذى تأكله النار فقتلتموهم { فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين } اى فيما يدل عليه كلامكم من انكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فان زكريا ويحيى وغيرهما من الانبياء عليهم السلام قد جاؤكم بما قلتم فى معجزات اخر فما لكم لم تؤمنوا حتى اجترأتم على قتلهم(2/361)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{ فان كذبوك } شروع فى تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم { فقد كذب رسل من قبلك } تعليل لجواب الشرط اى فتسل واصبر فقد كذب الخ { جاؤا بالبينات } المعجزات الواضحات صفة لرسل { والزبر } جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته اذا حسنته او الزبر المواعظ والزواجر من زبرته اذا زجرته { والكتاب المنير } اى التوراة والانجيل والزبور . والكتاب فى عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والاحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين فى عامة المواقع . والمنير اى المضيىء البين بالامر والنهى
والاشارة ان الله تعالى كما قدر ان بعض الامم يغلبون بعض انبيائهم ويقتلونهم قبل الايمان او بعد الايمان بهم كذلك قدر ان بعض الصفات النفسانية يغلب على بعض الالهامات الربانية والواردات الرحمانية فيمحوها كما قال تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قبل انقيادها لها او بعدما انقادت لها ليقضى الله امرا كان مفعولا وبالجملة ان الروح يصير بمجاورة الصفات النفسانية كالنفس فى الدناءة فتصير الصفات الذميمة غالبة عليه كما تغلب على الالهامات فعلى السالك ان يتجنب عن مصاحبة المفسدين ومجاورة صفات النفس
نفس ازهم نفس بكيرد خوى ... بر حذر باش ازلقاى خبيث
باد جون بر فضاى بد كذرد ... بوى بدكيرد ازهواى خبيث
فطوبى لعبد طهر نفسه من الصفات الرذيلة والعناد والاصرار ورأى الحق حقا والباطل باطلا وانقطع عن ميل الدنيا واتباع الهوى وموافقة غير الله روى ان عيسى عليه السلام مر بقرية فاذا اهلها موتى فى الافنية والطرق فقال يا معشر الحواريين ان هؤلاء ماتوا على سخط ولو ماتوا على غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا روح الله وددنا انا علمنا خبرهم فسأل ربه فاوحى الله اليه اذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل اشرف على الموتى ثم نادى يا اهل القرية فاجابه مجيب لبيك يا روح الله فقال ما حالكم وما قصتكم قال بتنا فى عافية واصبحنا فى هاوية قال وكيف ذلك قال لحبنا الدنيا وطاعتنا اهل المعاصى قال وكيف كان حبكم الدنيا قال كحال حب الصبى لامه اذا اقبلت فرحنا واذا ادبرت حزنا قال فما بالك اصحابك لم يجيبونى قال لانهم ملجمون بلجام من نار بايدى ملائكة غلاظ شداد قال كيف اجبتنى من بينهم قال لانى كنت فيهم ولم اكن منهم فلما نزل بهم العذاب اصابنى فانا معلق على شفير جهنم لا ادرى أانجو منها ام اكبكب فيها
واعلم ان الانكار والتكذيب من حب الدنيا والميل اليها لان الانبياء والاولياء يدعون الى الجنة والمولى وحفت الجنة بالمكاره والانسان اذا رأى ما يكرهه يتنفر عنه ثم اذا اقدم على الاتيان به واكره يأخذ بالانكار قال الله تعالى { وعسى ان تكرهوا شيأ وهو خير لكم } وقد وصى الحكماء الآلهية ان لا يجالس المريد اهل الانكار بل لا يلتفت اليهم اصلا اذ للمجاورة تأثير عظيم كما قيل
عدوى البليد الى الجليد سريعة ... والجمر يوضع فى الرماد فيخمد
بابدان يار كشت همسر لوط ... خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزى جند ... بى مردم كرفت ومردم شد
قال مولانا جلال الدين قدس سره فى هذا المعنى
كرتوسنك وصخره ومرمر شوى ... جون بصاحب دل رسى كوهر شوى
ساقنا الله واياكم الى طريقة اوليائه ومجالسة احبائه آمين(2/362)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
{ كل نفس ذائقة الموت } اى تخرج وتنفك من البدن بادنى شىء من الموت فكنى بالذوق عن القلة وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب من حيث انه كناية عن ان هذه الدار بعدها دار اخرى يتميز فيها المحسن من المسيىء ويتوفر على كل احد ما يليق به من الجزاء وفى الحديث « لما خلق الله آدم اشتكت الارض الى ربها لما اخذ منها فوعدها ان يرد فيها ما اخذ منها فما من احد الا ويدفن فى التربة التى خلق منها » { وانما توفون اجوركم } اى تعطون جزاء اعمالكم خيرا كان او شرا تاما وافيا { يوم القيمة } اى يوم قيامكم من القبور وفى لفظ التوفية اشارة الى ان بعض اجورهم يصل اليهم قبله كما ينبىء عنه قوله عليه السلام « القبر روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران » { فمن زحزح عن النار } اى بعد عنها يومئذ ونجى . والزحزحة فى الاصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة { وادخل الجنة فقد فاز } بالنجاة ونيل المراد . والفوز الظفر بالبغية وعن النبى صلى الله عليه وسلم « من احب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتى الى الناس بما يحب ان يؤتى به اليه » { وما الحيوة الدنيا } اى لذاتها وزخارفها { الا متاع الغرور } شبهها بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن آثرها على الآخرة ومن آثر الآخرة عليها فهى له متاع بلاغ اى تبليغ الى الآخرة وايصال اليها فلذلك سماه الله خيرا حيث قال { وانه لحب الخير لشديد } فالعاقل لا يغتر بالدنيا فانها لين مسها قاتل سمها ظاهرها مطية السرور وباطنها مطية الشرور
ترا دنيا همى كويد شب وروز ... كه هان از صحبتم برهيز وبرهيز
مده خودرا فريب از رنك وبويم ... كه هست اني خنده من كريه آمين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقول الله اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون وان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها واقرأوا ان شئتم وظل ممدود ولموضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما عليها واقرأوا ان شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيا الا متاع الغرور »
بناز ونعمت دنيا منه دل ... كه دل برادشتن كاريست مشكل
فمن اتى بالطاعات واجتنب عن السيآت واعرض عن الدنيا ولذاتها فاز بالجنة ودرجاتها ومن عكس الامر عوقب بالحرمان فى دركات النيران روى ان جبريل عليه السلام جاء النبى صلى الله عليه وسلم متغير اللون فسأله النبى صلى الله عليه وسلم عن تغير لونه فقال جئتك وقد امر الله ان ينفخ فى نار جهنم فقال عليه السلام صف لى جهنم فقال لما خلق الله جهنم اوقد عليها الف سنة حتى احمرت ثم اوقد عليها الف سنة حتى اصفرت ثم اوقد عليها الف سنة حتى اسودت والذى بعثك بالحق نبيا لو ان جمرة منها وقعت لاحترقت اهل الدنيا ولو ان ثوبا من اثوابها علق بين السماء والارض لماتوا من نتن رائحته لها سبعة ابواب بعضها اسفل من بعض فقال صلى الله تعالى عليه وسلم من سكان هذه الابواب فقال الباب الاول فيه المنافقون واسمه الهاوية والباب الثانى فيه المشركون واسمه الجحيم والباب الثالث فيه الصابئون واسمه سقر والباب الرابع فيه ابليس واتباعه والمجوس واسمه لظى والباب الخامس فيه اليهود واسمه الحطمة والباب السادس فيه النصارى واسمه السعير والباب السابع فيه عصاة موحدين واسمه النار يدخلونها ثلاثة ايام فاخبر سلمان حال النبى عليه السلام لفاطمة فسألت النبى فاخبرها النبى عليه السلام فقالت فاطمة رضى الله عنها كيف يدخلونها فقال صلى الله عليه وسلم اما الرجال فباللحى واما النساء فبالذوائب ثم انهم يخرجون من النار بشفاعة النبى عليه السلام فتبين ان من زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وانزل الله على بعض انبيائه يا ابن آدم تشترى النار بثمن قال ولا تشترى الجنة بثمن رخيص قيل فى معناه ان فاسقا يتخذ ضيافة للفساق بمائة درهم او مائتين فيشترى النار ولو اتخذ ضيافة للفقراء بدرهم او درهمين يكون ثمن الجنة(2/363)
غم وشادمانى نماند وليك ... جزاى عمل ماند ونام نيك
كرم باى دارد نه ديهيم وتخت ... بده كز تو اين ماند اى نيكبخت
مكن تكيه برملك وجاه وحشم ... كه بيش ازتو بودست وبعد ازتوهم
واعلم ان البعد عن النار ودخول الجنة بالاجتناب عن المعاصى والمسارعة الى الطاعة وذلك بالهرب عن مقام النفس والدخول فى مقام القلب فان من دخل حرم القلب كان آمنا كما قال تعالى { ومن دخله كان آمنا } فمن وصل الى ذلك الحرم فقد خلص من انواع الألم فهو جنة عاجلة
قال بعضهم للعارف جنة عاجلة وهى جنة المعرفة
ثم ان اعظم اسباب دخول الجنة كلمة الاخلاص والتوحيد وفقنا الله واياكم
ثم اعلم ان النفوس على ثلاثة اقسام . قسم منها يموت ولا حشر له للبقاء كسائر الحيوانات . وقسم يموت فى الدنيا ويحشر فى الآخرة كنفوس الانسان والملائكة والجن والشاطين . وقسم منها يموت فى الدنيا ويحشر فى الدنيا والآخرة جميعا وهى نفوس خواص الانسان كما قال عليه الصلاة والسلام « المؤمن حى فى الدارين »(2/364)
على ان لها موتا معنويا فى الدنيا كما اشار اليه عليه السلام بقوله « موتوا قبل ان تموتوا » وهو الفناء فى الله بالله لله ولها حياة معنوية فى الدنيا كما قال تعالى { أومن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس } وهو البقاء بنور الله ففى قوله { كل نفس ذائقة الموت } اشارة الى ان كل نفس مستعدة للفناء فى الله فلا بد لها من موت فمن كان موته بالاسباب تكون حياته بالاسباب ومن كان فناؤه فى الله يكون بقاؤه بالله { وانما توفون اجوركم } على قدر تقواكم وفجوركم { فمن زحزح عن النار } اى عن نار القطيعة واخرج من جحيم الطبيعة على قدمى الشريعة والطريقة { وادخل الجنة } الحقيقية { فقد فاز فوزا عظيما وما الحيوة الدنيا } ونعيمها { الا متاع الغرور } أى متاع يغتر به المغرور والممكور(2/365)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{ لتبلون } اصل الابتلاء الاختبار اى تطلب الخبرة بحاله المختبر بتعريضه لامر يشق عليه غالبا ملابسة او مفارقة وذلك انما يتصور ممن لا وقوف له على عواقب الامور واما من جهة العليم الخبير فلا يكون الا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار احد الامرين او الامور قبل ان يرتب عليه شيأ هو من مباديه العادية . والجملة جواب قسم محذوف اى والله لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والاعمال الحنسة { فى اموالكم } بما يقع فيها من ضروب الآفات المؤدية الى الهلاك { وانفسكم } بالقتل والاسر والجراح وما يرد عليها من اصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ونحو ذلك { ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } اى من قبل ايتئاكم القرآن وهم اليهود والنصارى { ومن الذين اشركوا } من العرب كأبى جهل والوليد وابى سفيان وغيرهم { اذى كثيرا } من الطعن فى الدين الحنيف والقدح فى احكام الشرع الشريف وصد من اراد ان يؤمن وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف واصحابه من هجاء المؤمنين وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما لا خير فيه اخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا انفسهم على الصبر والاحتمال على المكروه ويستعدوا للقائها فان هجوم الاوجال مما يزلزل اقدام الرجال والاستعداد للكروب مما يهون الخطوب { وان تصبروا } على تلك الشدائد والبلوى عند ووردها وتقابلوها بحسن التقابل { وتتقوا } اى تتبتلوا الى الله تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه { فان ذلك } يعنى الصبر والتقوى { من عزم الامور } من معزوماتها التى تنافس فيها المتنافسون اى مما يجب ان يعزم عليه كل احد لما فيه من كمال المزية والشرف او مما عزم الله تعالى عليه وامر به وبالغ فيه يعنى ان ذلك عزمة من عزمات الله لا بد ان تصبروا وتتقوا
واعلم ان مقابلة الاساءة تفضى الى ازدياد الاساءة فامر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا وامر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة فالآية جامعة لآداب الدنيا والآخرة
فعلى العاقل ان يتخلق باخلاق الانبياء والاولياء ويتأدب بآدابهم فانهم كانوا يصبرون على الاذى ولا يقابلون السفيه بمثل مقابلته واذا مروا باللغو مروا كراما
بدى را بدى سهل باشد جزا ... كر مردى احسن الى من اساء
وقد مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { وانك لعلى خلق عظيم } قالت عائشة رضى الله عنها كان خلق النبيى صلى الله عليه وسلم القرآن يعنى تأدب بآداب القرآن قيل مدار عظم الخلق بذل المعروف وكف الأذى اى احتماله ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان موصوفا بها وقد انزل الله فى معروفه(2/366)
{ ولا تبسطها كل البسط } وتحمل الاذى انما يكون بصبر قوى وهو عليه السلام كان صبورا لتحمل الاذى اكثر من ان يحصى قال عليه السلام « صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن الى من اساء اليك » وما امر عليه السلام غيره بها الا بعد ان تخلق بها وامته لا بد ان تتبعه فى تحمل الاذى وغيرها لا تسمع بدون الحجة القوية والابتلاآت التى ترد من طرف الحق كلها لتصفية النفس وتوجيهها من الخلق الى الخالق ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « ما اوذى نبى مثل ما اوذيت » كأنه قال ما صفى نبى مثل ما صفيت وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله على المشركين فقال « انما بعثت رحمة ولم ابعث عذابا » فالابتلاء رحمة ونعمة : قال جلال الدين قدس سره
درد بشتمداد حق تامن زخواب ... بر جهم در نيم شب باسوز وتاب
تانخسبم جمله شب جون كاوميش ... دردها بخشيد حق از لطف خويش
والاشارة فى الآية { لتبلون فى اموالكم وانفسكم } بالجهاد الاصغر هل تجاهدون بها وتنفقونها فى سبيل الله وبالجهاد الاكبر اما الاموال فهل تؤثرون على انفسكم ولو كان بكم خصاصة واما الانفس فهل تجاهدون فى الله حق جهاده اولا { ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } يعنى اهل العلم الظاهر { ومن الذين اشركوا } اى اهل الرياء من القراء والزهاد { اذى كثيرا } بالغيبة والملامة والانكار والاعتراض { وان تصبروا } على جهاد النفس وبذل المال واذية الخلق { وتتقوا } بالله عما سواه { فان ذلك من عزم الامور } الذى هو من امور اولى العزم كما قال { فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل } ومن لم يحافظ على هذه الامور كان من المدعين
مشكل آيد خلق را تغيير خلق ... آنكه بالذات است كى زائل شود
اصل طبع است وهمه اخلاق فرع ... فرع لابد اصل را مائل شود
فظهر ان من لم يهد الله لا يهتدى الى مكارم الاخلاق وحسان الخصال وسنيات الاحوال(2/367)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{ واذ اخذ الله } اى اذكر يا محمد وقت اخذه تعالى { ميثاق الذين اوتوا الكتاب } وهم علماء اليهود والنصارى وذلك اخذ على لسان الانبياء عليهم السلام { لتبيننه } حكاية لما خوطبوا به والضمير للكتاب وهو جواب قسم ينبئ عنه اخذ الميثاق كأنه قيل لهم بالله لتبينه { للناس } وتظهرنّ جميع ما فيه من الاحكام والاخبار التى من جملتها امر نبوته صلى الله عليه وسلم وهو المقصود بالحكاية { ولا تكتمونه } عطف على الجواب وانما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا كما فى قولك والله لا يقوم زيد { فنبذوه } النبذ الرمى والابعاد اى طرحوا ما اخذ منهم من الميثاق الموثوق بفنون التأكيد والقوه { وراء ظهورهم } ولم يراعوه ولم يلتفتوا اليه اصلا فان نبذ الشىء وراء الظهر مثل فى الاستهانة به والاعراض عنه بالكلية كما ان جعله نصب العين علم فى كمال العناية { واشتروا به } اى بالكتاب الذى امروا ببيانه ونهوا عن كتمانه والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموا اى تركوا ما امروا به واخذوا بدله { ثمنا قليلا } اى شيأ تافها حقيرا من حطام الدنيا واعراضها وهو ما تناولوه من سفلتهم فلما كرهوا ان يؤمنوا فينقطع ذلك عنهم كتموا ما علموا من ذلك وامروهم ان يكذبوه { فبئس ما يشترون } ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفة والمخصوص بالذم محذوف اى بئس شيأ يشترونه ذلك الثمن وظاهر الآية وان دل على نزولها فى حق اليهود والنصارى الذين كانوا يخفون الحق ليتوسلوا بذلك الى وجدان شىء من الدنيا الا ان حكمهما يعم من كتم من المسلمين احكام القرآن الذى هو اشرف الكتب وانهم اشراف اهل الكتاب
قال صاحب الكشاف وكفى به دليلا على انه مأخوذ على العلماء ان يبينوا الحق للناس وما علموه وان لا يكتموا منه شيأ لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم او لجر منفعة من حطام الدنيا لنفسه مما لا دليل عليه ولا امارة أو لبخل بالعلم وغيرة ان ينسب الى غيرهم انتهى بعبارته فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيأ من هذه الامور دخل تحت وعيد الآية كذا فى تفسير الامام
فعلى المرء ان يحسن نيته حال الاضمار والاظهار ويطهر سريرته من لوث الاعراض والاوزار والانكار
زيان مى كند مرد تفسير دان ... كه علم وادب ميفروشد بنان
بدين اى رومايه دنى مخر ... جوخر بانجيل عيسى مخر
يعنى لا تشتر بالعلم والقرآن ما تربى به نفسك من شهواتك ولا تخف من الخلق فى اظهار الاحكام واصدع بما امرت به حكى ان الحجاج ارسل الى الحسن وقال ما الذى بلغنى عنك فقال ما كل الذى بلغك قلته ولا كل ما قلته بلغك قال انت الذى قلت ان النفاق كان مقموعا فاصبح قد تعمم وتقلد سيفا فقال نعم فقال وما الذى حملك على هذا ونحن نكرهه قال لان الله اخذ ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه(2/368)
قال قتادة مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب وكان يقول طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خبرا فوعاه قال صلى الله عليه وسلم « من كتم علما على اهله الجم بلجام من نار »
قال الفضيل رحمه الله لو ان اهل العلم اكرموا انفسهم وشحوا على دينهم واعزوا العلم وصانوه وانزلوه حيث انزله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعا وعز الاسلام واهله ولكنهم اذلوا انفسهم ولم يسألوا ما نقص من دينهم اذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما فى ايدى الناس فذلوا وهانوا على الناس
وعن الفضيل ايضا قال بلغنى ان الفسقة من العلماء ومن حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الاصنام فيقولون ربنا ما بالنا فيقول الله ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع فى خسران مبين ولا يخفى ان مداره على حب الدنيا ساقنا الله واياكم الى طريق القناعة حكى ان ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا وجعلوا قبور موتاهم على ابوابهم يقتاتون بنبات الارض ويشتغلون بالطاعة فارسل ذو القرنين الى رئيسهم فقال مالى حاجة الى صحبة ذى القرنين فجاء ذو القرنين فقال ما سبب قلة الذهب والفضة عندكم قال ليس للدنيا طالب عندنا لانها لا تشبع احدا فجعلنا القبور عندنا حتى لا ننسى الموت ثم اخذ قخف انسان وقال هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعية ويجمع حطام الدنيا فقبضه الله تعالى وبقى عليه السيآت ثم اخرج آخر وقال هذا ايضا رأس ملك عادل مشفق فقبضه واسكنه جنته ورفع درجته ثم وضع يده على رأس ذى القرنين وقال أى الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين وقال ان رغبت فى صحبتى شاطرتك مملكتى وسلمت اليك وزارتى فقال هيهات فقال ذو القرنين ولم قال لان الناس اعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم احبابى بسبب القناعة
نيرزد عسل جان من زخم نيش ... قناعت نكوتر بدوشاب خويش
كدايى كه هر خاطرش بند نيست ... به ازباد شاهى كه خرسند نيست
اكربادشا هست اكر بينه دوز ... جو خفتند كردد شب هردوروز(2/369)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{ لا تحسبن } يا محمد او الخطاب لكل احد ممن يصلح له { الذين يفرحوا بما اوتوا } اى بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق { ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا } من الوفاء بالميثاق واظهار الحق والاخبار بالصدق { فلا تحسبنهم } تأكيد لقوله لا تحسبن والمفعول الثانى له قوله { بمفازة من العذاب } اى ملتبسين بنجاة منه { ولهم عذاب اليم } بكفرهم وتدليسهم(2/370)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
{ ولله } اى خاصة { ملك السموات والارض } اى السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيف يشاء ويريد ايجادا واعداما احياء واماتة تعذيبا واثابة من غير ان يكون لغيره شائبة دخل فى شىء من ذلك بوجه من الوجوه وهو يملك امرهم ويعذبهم بما فعلوا لا يخرجون عن قبضة قدرته ولا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء { والله على كل شىء قدير } فيقدر على عقابهم وكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر روى انه عليه السلام سأل اليهود عن شىء مما فى بالتوراة فاخبروه بخلاف ما كان فيه واروه انهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فنزلت وقيل هم المنافقون كافة وهو الانسب بظاهر قوله تعالى { ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا } فانهم كانوا يفرحون بما فعلوه من اظهار الايمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون الى المسلمين بالايمان وهم عن فعله بالف منزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم فى الغاية القاصية من العداوة والاولى اجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتى بشىء من الحسنات فيفرح به فرح اعجاب ويود ان يمدحه الناس بما هو عار من الفضائل من يأتى بشىء من الحسنات فيفرح به فرع اعجاب ويود ان يمدحه بما هو عار من الفضائل وانواع البر وكون السبب خاصا لا يقدح فى عمومية حكم الآية
واعلم ان الفرح بمتاع الدنيا وحب مدح الناس من صفات ارباب النفس الامارة المغرورين بالحياة الدنيا وتمويهات الشيطان المحجوبين عن السعادات الاخروية والقربات المعنوية
قال الامام فى تفسيره وانت اذا انصفت عرفت ان احوال اكثر الخلق كذلك فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل فى تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم ثم يحبون ان يحمدوا بانهم من اهل العفاف والصدق والدين
اى برادر ازتو بهتر هيج كس نشناسدت ... زانجه هستى يك سرمو خويش را افزون منه
كرفزون از قد رتو بشناسدت تابخردى ... قدر خود شناس وباى ازحد خود بيرون منه
فعلى العاقل ان لا يتعدى طوره ولا يفرح بما ليس فيه فانه لا يغنى عنه شيأ
قال بعض المشايخ الناس يمدحونك لما يظنون فيك من الخير والصلاح اعتبارا بما يظهر من ستر الله عليك فكن انت ذاما لنفسك لما تعلمه منها من القبائح والمؤمن اذا مدح استحيى من الله ان يثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه واجهل الناس من يترك اليقين ما عنده من صفات نفسه التى لا شك فيها لظن ما عند الناس من صلاحية حاله
قال الحارث بن المحاسبى رحمه الله الراضى بالمدح بالباطل كمن يهزأ به ويقال ان العذرة التى تخرج من جوفك لها رائحة كرائحة المسك ويفرح بذلك ويرضى بالسخرية(2/371)
بحبل ستايش فراجه مشو ... جو حاتم اصم باش وعيبت شنو
يعنى لا تغتر بالمدح حتى لا تقع فى بئر الهلاك وكن كالشيخ حاتم الاصم صورة فان الخلق اذا ظنوك يتكلمون فى حقك ما لا ترضى به من القول لو سمعت فأذن تسمع عيوبك منهم وفى ذلك فائدة عظيمة لك لان المرء اذا عرف عيبه يجتهد فى قمعه والتحلى بالاوصاف الجميلة والعارف هو الذى يستوى قلبه فى المدح والذم لا ينقبض من الذم ولا ينبسط من المدح وكيف ينبسط بما يتحقق به مما يقوله الخلق من هو اعرف بحال نفسه وان انبسط فهو المغرور والمدعى هو الذى يرى نفسه صادقا فى الاحوال والمعاملات وكل الحالات كأنه لا يتعرض لشىء من الدنيا اصلا وحاله شاهدة عليه فى هذا الباب فان المرء له محك فى اقواله وافعاله واحواله قال عليه السلام « انما مثل صاحب الدنيا كمثل الماشى فى الماء » هل يستطيع الذى يمشى فى الماء ان لا تبل قدماه فمن هذا يعرف جهالة الذين يزعمون انهم يخوضون فى نعيم الدنيا بابدانهم وقلوبهم عنها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة الشيطان بل هم لو اخرجوا مما هم فيه لكانوا اعظم المتفجعين بفراقها فكما ان المشى فى الماء يقتضى بللا لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضى علاقة وظلمة فى القلب بل علاقة القلب مع الدنيا تمنع حلاوة العبادة
قال الشيخ ابو عبد الله القرشى رحمه الله شكا بعض الناس لرجل من الصالحين انه لا يعمل البر ولا يجد حلاوته فى القلب فقال لان عندك ابنة ابليس فى قلبك وهى الدنيا ولا بد للاب ان يزور ابنته فى بيتها وهو قلبك ولا يؤثر دخوله الا فسادا قال الله تعالى [ يا داود ان كنت تحبنى فاخرج حب الدنيا من قلبك فان حبى وحبها لا يجتمعان فى قلب ابدا ]
وروى ان عيسى عليه السلام قال لاصحابه لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم قالوا ومن الموتى قال الراغبون فى الدنيا المحبون لها
برمرد هشيار دنيا خسست ... كه هرمدتى جاى ديكر كسست
منه برجهان دل كه بيكانه ايست ... جو مطرب كه هروزدر خانه ايست
نه لايق بود عشق بادلبرى ... كه هر بامدادش بود شو هرى
عصمنا الله واياكم(2/372)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{ ان فى خلق السموات والارض } وذلك ان اهل مكة سألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ان يأتيهم بآية لصحة دعواهم لانه كان يدعوهم الى عبادة الله وحده فنزل { ان فى خلق السموات والارض } خلقين عظيمين ويقال فيما خلق الله فى السموات من الشمس والقمر والنجوم وما خلق الله فى الارض من الجبال والبحار والاشجار والوحوش والطيور { واختلاف الليل والنهار } يعنى ذهاب الليل ومجيئ النهار ويقال فى اختلاف لونيهما او فى تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة الينا قربا وبعدا بحسب الازمنة { لآيات لاولى الالباب } لعبرات كثيرة لذوى العقل الخالص من شوائب الاوهام والخيالات . واللب خالص العقل فان العقل له ظاهر وله لب ففى اول الامر يكون عقلا وفى حال كماله ونهاية امره يكون لبا(2/373)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } نعت لاولى الالباب اى يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين فان الانسان لا يخلو عن هذه الهيآت غالبا { ويتفكرون فى خلق السموات والارض } يعنى يعتبرون فى خلقهما . وانما خصص التفكر بالخلق لقوله عليه السلام « تفكروا فى الخلق ولا تتفكروا فى الخالق » وانما نهى عن التفكر فى الخالق لان معرفة حقيقته المخصوصة غير ممكنة للبشر فلا فائدة لهم فى التفكر فى ذات الخالق . ولما كان الانسان مركبا من النفس والبدن كانت العبودية بحسب النفس وبحسب البدن فاشار الى عبودية البدن بقوله { الذين يذكرون الله } الخ فان ذلك لا يتم الا باستعمال الجوارح والاعضاء واشار الى عبودية القلب والروح بقوله { ويتفكرون فى خلق السموات والارض }
وعن عطاء بن ابى رباح قال دخلت مع ابن عمر وعبيد الله بن عمر على عائشة رضى الله عنها فسلمت عليها فقالت من هؤلاء فقلت عبيد الله بن عمر فقالت مرحبا بك يا عبيد الله بن عمر مالك لا تزورنا فقال عبيد الله زر غبا تزدد حبا قال ابن عمر دعونا من هذا حدثينا باعجب ما رأيت من رسول الله عليه السلام فبكت بكاء شديدا فقالت كل امره عجيب اتانى فى ليلتى فدخل فى فراشى حتى الصق جلده بجلدى فقال « يا عائشة أتأذنين لى ان اتعبد لربى » فقلت والله انى لاحب قربك وهواك قد اذنت لك فقام الى قربة من ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى بلغ الدموع حقويه حتى اتكأ على شقه الايمن ووضع يده اليمنى تحت خده الايمن فبكى حتى ادرّت الدموع وبلغت الارض ثم اتاه بلال بعدما اذن للفجر فلما رآه يبكى قال لم تبكى يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال « يا بلال أفلا اكون عبدا شكورا ومالى لا ابكى وقد انزلت على الليلة ان فى خلق السموات والارض الى قوله فقنا عذاب النار ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها » وفى الحديث « تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة »
وفى التفضيل وجهان . احدهما ان التفكر يوصلك الى الله والعبادة توصلك الى ثواب الله والذى يوصلك الى الله خير مما يوصلك الى غير الله . والثانى ان التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح والقلب اشرف من الجوارح فكان عمل القلب اشرف من عمل الجوارح
ثم شرع فى تعليم الدعاء تنبيها على ان الدعاء انما يجدى ويستحق الاجابة اذا كان بعد تقديم الوسيلة وهى اقامة وظائف العبودية من الذكر والفكر فقال { ربنا } يعنى يتفكرون ويقولون ربنا { ما خلقت هذا }(2/374)
اى السموات والارض وتذكير الضمير لما انهما باعتبار تعلق الخلق بهما فى معنى المخلوق { باطلا } اى خلقا باطلا عبثا ضائعا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه اوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلة ومصالح عظيمة من جملتها ان يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم الى معرفة احوال المبدأ والمعاد حسبما افصحت عنه الرسل والكتب الآلهية { سبحانك } اى ننزهك عما لا يليق بك من الامور التى من جملتها خلق ما لا حكمة فيه { فقنا عذاب النار } اى من عذاب النار الذى هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك وفائدة الفاء هى الدلالة على ان علمهم بما لاجله خلقت السموات والارض حملهم على الاستعاذة
وفيه اشارة الى عظم ذكر الله واشارة الى ثلاث مراتب . اولاها الذكر باللسان وثانيتها التفكر بالقلب . وثالثتها المعرفة بالروح لان ذكر اللسان يوصل صاحبه الى ذكر القلب فهو التفكر فى قدرة الله وذكر القلب يوصل الى مقام الروح فيعرف فى ذلك حقائق الاشياء ويشاهد الحكم الآلهية فى خلق الله فيقول بعد المشاهدة { ربنا ما خلقت هذا باطلا } فينبغى للمؤمن ان يلازم ذكر الله بلسانه فى جميع الاحوال حتى يصل بسبب الذكر باللسان الى ذكر القلب ثم الى ذكر الروح ويحصل له اليقين والمعرفة ويخلص من ظلمة الجهل ويتنور بنور المعرفة
قال بعضهم معنى لا اله الا الله للعوام لا معبود الا الله . ومعناها للخواص لا محبوب ولا مقصود الا الله . ومعناها لأخص الخواص لا موجود الا الله فانه يكون فى تلك الحالة مستهلكا فى بحر الشهود فلا يشعر بشىء سوى الله ولا يرى موجودا
وفى تفسير الحنفى منقول فى التوحيد اربع مراتب وهو ينقسم الى لب والى لب اللب والى قشر والى قشر القشر . وتمثيل ذلك تقريبا الى الافهام الضعيفة بالجوز فى قشرتيه العليا والسفلى فان له قشرتين وله لب وللب دهن وهو لب اللب . فالمرتبة الاولى من التوحيد ان يقول الانسان باللسان لا اله الا الله وقلبه غافل عنه او منكر له كتوحيد المنافق . والثانية ان يصدق بمعناه قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد . والثالثة ان يشاهد ذلك بواسطة نور آلهى وذلك ان يرى الاشياء صادرة من الواحد القهار . والرابعة انه لا يرى فى الوجود الا وجودا وهو مشاهدة الصديقين وهو الفناء فى التوحيد بمعنى انه فنى عن رؤية نفسه . فالاول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه فى الدنيا من السيف والسنان . والثانى موحد بمعنى انه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال من التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقد على القلب ليس فيه انشراح وانفتاح ولكنها تحفظ صاحبها من العذاب فى الآخرة ان توفى عليها ولم يضعف بالمعاصى عقدتها ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة .(2/375)
والثالث موحد بمعنى انه لم يشاهد الا فاعلا واحدا اذا انكشف له لا فاعل بالحقيقة كما هى عليه لانه كلف قلبه ان يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فان ذلك رتبة العوام والمتكلمين اذ لا فرق بينهما فى الغاية القصوى فى التوحيد . فالاول كالقشرة العليا من الجوز . والثانى كالقشرة السفلى . والثالث كاللب . والرابع كالدهن المستخرج من اللب وكما ان القشرة العليا لا خير فيها بل ان اكل فهو مر المذاق وان نظر الى باطنه فهو كريه المنظر وان اخذ حطبا اطفأ النار واكثر الدخان وان ترك فى البيت ضيق المكان ولا يصلح الا ان يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى فكذلك التوحيد بمجرد اللسان عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة فى حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت والقشرة السفلى هى البدن فيصون من السيف وانما يتجرد عند الموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما ان القشرة السفلى ظاهرة النفع بالاضافة الى القشرة العليا فانه يصون اللب ويحرسه من الفساد عند الادخار واذا فصل امكن ان ينتفع به حطبا لكونه لا قدر له بالنسبة الى اللب فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالاضافة الى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالاضافة الى الكشف والمجاهدة التى تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه واشراق نور الحق فيه اذ ذلك الشرح { فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام } وكما ان اللب نفيس بالاضافة الى القشرة لانه المقصود لكن لا يخلو عن شوب بالنسبة الى الدهن كذلك هذا التوحيد لا يخلو عن ملاحظة الغير والالتفات الى الكثرة بالاضافة الى من لم ير سوى الواحد الحق انتهى ما فى الحنفى
واعلم ان الآية تدل على جواز ذكر الله تعالى قائما ولهذا قال المشايخ ولا بأس ان يقوموا ترويحا لقلوبهم ولا يتحركوا فى ذلك ولا يستظهروا بحال ليس عندهم منه حقيقة
والحاصل ان التوحيد اذا قرن بالآداب فليس له وضع مخصوص يجوز قائما وقاعدا ومضطجعا ولكن ورد فى الاحاديث ما يدل على استحباب الاخفاء فى ذكر الله وذكر شارح الكشاف ان هذا بحسب المقام والشيخ المرشد يأمر المبد برفع الصوت لتنقلع عن قلبه الخواطر الراسخة فيه كذا فى شرح المشارق ويوافقه ما ذكر فى المظهر حيث قال الذكر برفع الصوت جائز بل مستحب اذا لم يكن عن رياء ليغتنم الناس باظهار الدين ووصول بركة الذكر الى السامعين فى الدور والبيوت والحوانيت ويوافق الذاكر من سمع صوته ويشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته وبعض المشايخ اختار الاخفاء لانه ابعد عن الرياء وهذا يتعلق بالنية فمن كانت نيته صادقة فرفع صوته بقراءة القرآن والذكر اولى لما ذكرنا ومن خاف من نفسه الرياء فالاولى له اخفاء الذكر لئلا يقع فى الرياء انتهى قيل اذا كان وحده فان كان من الخواص فالاخفاء فى حقه اولى وان كان من العوام فالجهر فى حقه اولى واذا كانوا مجتمعين على الذكر فالاولى فى حقهم رفع الصوت بالذكر والقوة فانه اكثر تأثيرا فى رفع الحجب ومن حيث الثواب فلكل واحد ثواب ذكر نفسه وسماع ذكر رفقائه قال الله تعالى(2/376)
{ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة او اشد قسوة } شبه القلوب بالحجارة ومعلوم ان الحجر لا ينكسر الا بقوة فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد اشد من قوة ذكر شخص واحد كذا فى ذخرة العابدين : قال حسين الواعظ الملقب بالكاشفى
كفت وكوى عاشقان دركار رب ... جوشس عشقست نه ترك ادب
هركه كرد ازجام حق يك جرعه نوش ... نه ادب ماند درو نه عقل و هوش
والمقصود ان السالك اذا سلب اختياره عند التوحيد بغلبة الوجد فلا دخل لشىء من اوضاعه وحركاته فانه اذا ليس فى يده فلا يرد ما قيل
كار نادان كوته انديشست ... ياد كردن كسى كه دبيشست
فان الجهر وحركات الموحد بالنسبة الى مقامه وحاله ممدوحة جدا واما المتصلفون المتكلفون فحركاتهم وافعالهم من عند انفسهم وقد نهى المشايخ فى كتبهم عن امثال هؤلاء وافعالهم واقوالهم
فعلى العاقل ان يراعى الآداب والاطوار ولا ينفك لحظة عن ذكر الملك الغفار(2/377)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
{ ربنا انك من تدخل النار فقد اخزيته } غاية الاخزاء ونظيره قولهم « من ادرك مرعى الصمان فقد ادرك » اى المرعى الذى لا مرعى بعده والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه وفيه اشعار بان العذاب الروحانى افظع { وما للظالمين من انصار } اراد بهم المدخلين وجمع الانصار بالنظر الى جمع الظالمين اى وما لظالم من الظالمين نصير من الانصار والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر فليس فى الآية دلالة على نفى الشفاعة لانها هى الدفع بطريق اللين والمسألة فنفى النصرة لا يستلزم نفى الشفاعة(2/378)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{ ربنا اننا سمعنا مناديا ينادى للايمان } اوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه والمراد به الرسول عليه السلام فانه ينادى ويدعو الى الايمان حقيقة قال تعالى { ادع الى سبيل ربك } { ان آمنوا } اى آمنوا على انّ ان تفسيرية او بان آمنوا على انها مصدرية { بربكم } بمالككم ومتولى اموركم ومبلغكم الى الكمال { فآمنا } اى فامتثلنا بامره واجبنا نداءه { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } اى كبائرنا فان الايمان يجب ما قبله { وكفر عنا سيآتنا } اى صغائرنا فانها مكفرة عن مجتنب الكبائر { وتوفنا } اى اقبض ارواحنا { مع الابرار } اى مخصوصين بصحبتهم مغتنمين بجوارهم معدودين من زمرتهم فالمراد من المعية ليس المعية الزمانية لان ذلك محال ضرورة ان توفيهم انما هو على سبيل التعاقب بل المراد المعية فى الاتصاف بصفة الابرار حال التوفى
وفيه اشعار بانهم كانوا يحبون لقاء الله ومن احب لقاء الله احب الله لقاءه فمن جعل الله ممن آمن بداعى الايمان فقد اكرمه مع اوليائه فى الجنان فطوبى للذين يستمعون القول فيتبعون احسنه وطوبى لمن اتعظ بالموعظة الحسنة : قال الحافظ
نصيحت كوش كن جانا كه ازجان دوست تردارند ... جوانان سعاد تمند بند بيردانارا
قال الشيخ السعدى
بكوى آنجه دانى سخن سود مند ... وكر هيج كس را نيايد بسند
كه فردا بشيمان بر آرد خروش ... كه اوخ جراحق نكردم بكوش
قال ابو عامر الواعظ بينما انا جالس بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ جاءنى غلام واعطانى رقعة فاذ فيها اسعدك الله يا اخى ابا عامر بلغنى قدومك واشتقت الى رؤيتك فذهبت مع الغلام فوصلنا الى بيت فى خربة له باب من جريد النخل واذا فيه شيخ مقعد مستقبل القبلة محزون من الخشية قد ذهبت عيناه من البكاء فسلمت عليه فرد على السلام فقال يا ابا عامر لم يزل قلبى الى استماع موعظتك مشتاقا وبى داء قد اعيى الواعظين علاجه فقلت ايها الشيخ ارم ببصر قلبك فى ملكوت السماء وتنقل بحقيقة ايمانك الى جنة المأوى تر ما اعد الله فيها للاولياء ثم انظر فى نار لظى تر ما اعد الله للاشقياء فشتان ما بين الدارين وليس الفريقان على السواء فلما سمع قولى انّ وصاح صيحة ثم قال والله لقد وقع دواؤك على الداء زدنى رحمك الله فقلت ان الله عالم بسريرتك فيطلع عليك عند استتارك ومبارزتك فلما سمع صاح صيحة اعظم من الاولى فخر ميتا فعند ذلك خرجت جارية عليها مدرعة وخمار من صوف قد ذهب السجود بجبهتها فقالت احسنت يا مداوى قلوب العارفين ان هذا الشيخ كان والدى وهو مبتلى بالسقم منذ عشرين سنة وكان يتمناك من الله ويقول حضرت مجلس ابى عامر فاحيى قلبى وطر عنى غفلتى وان سمعته ثانية قتلنى فجزاك الله خيرا ثم اكبت على والدها وجعلت تقبل بين عينيه وتبكى فقلت لها يا أيتها الباكية ان اباك نحبه قد مضى وورد دار الجزاء فان كان محسنا فله الزلفى فان كان مسيئا فوارد دار من اساء فصاحت ثم ماتت فبقيت حزينا عليهما فرأيتهما فى المنام فى احسن مقام عليهما حلتان خضراوتان فسألت عن حاليهما فقال الشيخ(2/379)
انت شريكى فى الذى نلته ... فقم وشاهد يا ابا عامر
وكل من ايقظ ذا غفلة ... فنصف ما يعطاه للآمر
ثم قال قدمت على رب كريم غير غضبان فاسكننى الجنان وزوجنى من الحور الحسان فاحرص يا أبا عامر على كثرة الدعاء والاستغفار الى الله الملك الغفار وطلب المغفرة آناء الليل واطراف النهار من شيم الاخيار والابرار
واعلم ان من تنصح بكلمة فقد آمن بمنادى الحق على لسان عبده فنجا من نيرانه ووصل الى المغفرة والرحمة فى جنانه روى ان حدادا كان يمسك الحديد المحمى بيده فسئل عنه فقالت عشقت امرأة فراودتها وعرضت عليها مالا فقالت ان لى زوجا لا احتاج الى المال ثم مات زوجها فطلبت ان أتزوجها فامتنعت وقالت لا اريد اذلال اولادى ثم بعد زمان احتاجت فارسلت الى فقلت لا اعطيك شيأ حتى تعطينى مرادى فلما دخلت معها موضعا ارتعدت فقلت مالك فقالت اخاف الله السميع البصير فتركتها فقالت انجاك الله من النار فمن ذلك الوقت لا تحرقنى نار الدنيا وارجو من الله تعالى ان لا تحرقنى نار الآخرة فمن خشى الرحمن وذكر انه بمحضر من الله فهو لا يجترىء على الذنب والآثام فيسلم من عذاب النار ويتنعم فى دار السلام عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم « من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب » واما الدعاء فهو مخ العبادة وينفع فى الدنيا فيدفع الآفات واما فى الآخرة فان الله يعطيه هدايا على ايدى الملائكة ويقول ان هذه فى مقابلة دعائك فى الدنيا
از آستان حضرت حق سرجراكشم ... دولت درين سرا وكشايش درين درست
قال الحافظ
هركه خواهد كوبيا وهرجه خواهد كوبكو ... كبروناز وحاجب ودربان درين دركاه نيست
حقق الله رجاءنا وقبل دعاءنا واعطانا ما هو خير لنا فى الدنيا والآخرة(2/380)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{ ربنا وآتنا } اعطنا { ما وعدتنا على رسلك } على تصديق رسلك او على ألسنة رسلك من الثواب والكرامة { ولا تخزنا } لا تهنا { يوم القيمة } بان تعصمنا مما يقتضيه { انك لا تخلف الميعاد } اسم مصدر بمعنى الوعد وهذا الدعوات وما فى تضاعيفها من كمال الضراعة والابتهال ليست لخوفهم من اخلاف الميعاد بل لخوفهم ان لا يكونوا من جملة الموعودين لسوء عاقبة او قصور فى الامتثال فمرجعها الى الدعاء بالتثبيت او للمبالغة فى التبعد والخشوع . ثم قوله { ولا تخزنا يوم القيمة } شبيه بقوله { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فانه ربما ظن الانسان انه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ثم انه يوم القيامة يظهر له ان اعتقاده كان ضالا وعمله كان ذنبا فهناك تحصل الحجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد وذلك هو العذاب الروحانى وهو اشد من العذاب الجسمانى ومما يدل على هذا انه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين انهم طلبوا فى هذه الانواع الخمسة من الدعاء اشياء فاول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسمانى وهو قوله { فقنا عذاب النار } وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحانى وهو قوله { ولا تخزنا يوم القيمة } ذلك يدل على ما قلنا ولذلك قالوا الفرقة اشد من الحرقة : قال مولانا جلال الدين رومى قدس سره
جور دوران وهر آن رنجى كه هست ... سهلتز از بعد حق وغفلتست
كر جهاد وصوم سختست وخشن ... ليك اين بهتر زبعد اى ممتحن
فليسارع المؤمن الى الطاعات ليدخل فى زمرة من وعد الله لهم من الكرامات
عن جابر رضى الله عنه كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « ألا احدثكم بغرف الجنة » قلنا بلى يا رسول الله قال « ان فى الجنة غرفا يرى ظاهرها وفيها من النعيم واللذات ما لا عين رأت ولا اذن سمعت » قلت يا رسول الله لمن هذه الغرف قال « لمن افشى السلام واطعم الطعام وادام الصيام وصلى بالليل والناس نيام »
وعن ابى بكر الوراق رحمه الله طلبنا اربعة فوجدناها فى اربعة . وجدنا رضى الله فى طاعته . وسعة الرزق فى صلاة الضحى . وسلامة الدين فى حفظ اللسان . ونور القبر فى صلاة الليل . وعن ابن مسعود رضى الله عنه ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال « آخر من يدخل الجنة رجل يمشى مرة ويسقط اخرى وتأخذه النار فاذا جاوزها التفت اليها ويقول سبحان من نجانى منك قد اعطانى شيأ ما اعطاه لأحد من الاولين والآخرين فيرفع له شجرة عظيمة الظل فيشتاق الى ظلها فيقول اى رب ادننى منها ولا اسألك غيرها فيدنيه منها ويشرب من مائها ثم يرفع له شجرة اعظم من الاولى فيقول اى رب ادننى منها ويعاهد ان لا يسأل غيرها فيدنيه منها فيرفع له شجرة اعظم مما تقدم فيسأله ان يدنيه فاذا ادنى سمع اصوات اهل الجنة ويقول اى رب لو أوصلتها لا اسألك فيقول الله يا ابن آدم ما اغدرك كم تعاهد وتكذب أترضى ان اعطيك مثل الدنيا ومثلها فيقول أتستهزئ بى وانت رب العالمين » ثم ضحك ابن مسعود فقالوا مم تضحك فقال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا مم ضحك رسول الله قال من ضحك رب العالمين(2/381)
« فيقول الله لا استهزئ ولكنى على ما اشاء قدر » حكى ان عجوزا كافرة كانت تطعم الطير ذرة فى ايام الشتاء فرآها ذو النون المصرى فقال ان الله تعالى لا يقبل من عدو ثم رآها فى الكعبة قد اسلمت فقالت يا ذا النون انه اعطانى الاسلام بما رأيته
بى كرم آدمى نه از بشرست ... از شجر بلكه از حجر بترست
شجرى كان نمى دهد ثمرى ... معتبر نيست لائق تبراست
عصمنا الله تعالى واياكم من النار وادخلنا الجنة مع الاسخياء والابرار(2/382)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{ فاستجاب لهم ربهم } الى طلبتهم وهو اخص من اجاب فان اجاب معناه اعطاه الجواب وهو قد يكون بتحصيل المطلوب وبدونه واستجاب انما يقال لتحصيل المطلوب ويعدى بنفسه وباللام { انى } اى بانى { لا اضيع عمل عامل منكم } وهو ما حكى عنهم من المواظبة على ذكر الله تعالى فى جميع حالاتهم والتفكر فى مصنوعاته استدلالا واعتبارا والثناء على الله بالاعتراف بربوبيته وتنزيهه عن العبث وخلق الباطل والاشتغال بالدعاء وجعل هذه الاعمال سببا للاستجابة يدل على ان استجابة الدعاء مشروطة بهذه الشروط وبهذه الامور فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا لا جرم كان الشخص الذى يكون مجاب الدعاء عزيزا { من ذكر او انثى } بيان لعامل وتأكيد لعمومه وهذا يدل على انه لا تفاوت فى الاجابة وفى الثواب بين الذكر والانثى اذا كانا جميعا فى التمسك بالطاعة على التوبة والفضل فى باب الدين بالاعمال لا بسائر صفات العالمين لان كون بعضهم ذكرا او انثى او من نسب خسيس او شريف لا تأثير له فى هذا الباب { بعضكم من بعض } لان الذكر من الانثى والانثى من الذكر
قال الامام فيه وجوه احسنها ان يقال من بمعنى الكفا اى بعضكم كبعض فى الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية
قال القفال هذا من قولهم فلان منى اى على خلقى وسيرتى وهى معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال روت ام سلمة قالت يا رسول الله انى اسمع الله يذكر لارجال فى الهجرة ولا يذكر النساء فنزل قوله تعالى { انى لا اضيع } الى آخره اى كما ان بعضكم من بعض كذلك انتم فى ثواب العمل تثاب المرأة المعاملة كما يثاب الرجل العامل وبالعكس فلا اثيب بعضا واحرم آخر { فالذين هاجروا } تفصيل لاعمال العمال منهم وما اعد لهم من الثواب على المدح والتعظيم كأنه قال فالذين عملوا هذه الاعمال السنية الفائقة وهى المهاجرة من مبتدأ او طانهم فارّين الى الله بدينهم من دار الفتنة { واخرجوا من ديارهم } اى اضطروا الى الخروج من ديارهم التى ولدوا فيها ونشأوا بايذاء المشركين
قال الامام المراد من قوله { الذين هاجروا } الذين اختاروا المهاجرة من اوطانهم فى خدمة الرسول والمراد من الذين اخرجوا من ديارهم الذين الجأهم الكفار ولا شك ان رتبة الاولين افضل لانهم اختاروا خدمة الرسول وملازمته على الاختيار فكانوا افضل { واوذوا فى سبيلى } فى سبيل الحق ودين التوحيد بسبب ايمانهم بالله ومن اجله وهو متناول لكل اذية نالتهم من قبل المشركين { وقاتلوا } اى الكفار فى سبيل الله { وقتلوا } استشهدوا فى القتال { لأكفرن عنهم سيآتهم } اى والله لأمحوّن عنهم سيآتهم { ولأدخلنهم جنات جرى من تحتها الانهار ثوابا } الثواب فى الاصل اسم لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى الا انه قد يوضع موضع المصدر فهو مصدر مؤكد بمعنى اثابة لان تكفير السيآت وادخال الجنة فى معنى الاثابة اى لأثيبنهم بذلك اثابة { من عند الله } صفة له اى كائنة من عند الله قصد بتوصيفة به تعظيم شأنه فان السلطان العظيم الشان اذا قال لعبده ألبسك خلعة من عندى دل ذلك على كون تلك الخلعة فى غاية الشرف واكد كون ذلك الثواب فى غاية الشرف بقوله { والله عنده حسن الثواب } اى حسن الجزاء على الطاعات قادر عليه وهو نعيم الجنة الباقى لا كنعيم الدنيا الفانى(2/383)
نعيم آخرت باقيست اى دل ... خنك آنكس كه باشد عبد مقبل
ولا يخفى ان هذا الجزاء العظيم والاجر الجسيم للذين جمعوا بين المهاجة والاخراج من الاوطان والتأذى فى سبيل الله والقتال والمقتولية
فعلى السالك ان يهاجر من وطن النفس والعمل السيىء والخلق الذميم ويخرج من ديار الطبيعة الى عالم الحقيقة حتى يدخل مقام العندية الخاصة فان ثمرات المجاهدات المشاهدات والعمل الصالح يستدل به على حسن العاقبة روى ان صفوان بن سليم كان يجتهد فى العبادة والقيام وكان يبيت على السطح فى ايام الشتاء لئلا يستريح من البرد وفى الصيف ينزل الى بيته ليعذب نفسه بحر الهوآء وكان عادته ذلك الى ان مات فى سجدته ووصل الى رحمة الله وجنته فهذا هو الاجتهاد فعليك به فان احتالت نفسك عليك فى ذلك فحدثها باخبار السلف واحوالهم وحكاياتهم كى ترغب فى الطاعة والاجتهاد فان فى ذلك نفعا كليا وتأثيرا عظيما : قال الفاضل الجامى قدس سره
هجوم نفس وهوا كزسباه شيطانند ... جو زور بردل مرد خدا برست آرد
بجز جنود حكايات رهنمايا خود ... جه تاب آنكه بران رهزنان شكست آرد
فان قالت النفس انهم كانوا رجالا اقويا كيف يدانى بهم فى الطاعة من خلفهم فحدثها باخبار النساء كيف كن اناثا ومع ذلك لم يتخلفن عن مجاهدات الرجال حتى وصلن الى ما وصلوا اليه كرابعة العدوية وغيرها : قال بعضهم
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
قال الشيخ السعدى قدس سره
زنانى كى طاعت برغبت برند ... زمردان ن بارسا بكذرند
تراشرم نايد زمردىء خويش ... كه باشد زنانرا قبول ازتوبيش
قال الحسن البصرى رحمه الله يا عجبا لأقوام بلا زاد وقد نودوا بالرحيل وحبس اولهم لآخرهم وهم قعود يلعبون حكى ان ملك الموت دخل على بعض الصالحين ليقبض روحه فقال مرحبا انا والله منذ خمسين سنة أتأهب لك
ولما بلغ عبد الله بن المبارك النزع فتح عينه ثم ضحك فقال لمثل هذا فليعمل العاملون
قال بعض العلماء من اراد ان ينال الجنة فعليه ان يداوم على خمسة اشياء .(2/384)
الاول ان يمنع نفسه من المعاصى قال الله تعالى { ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هى المأوى } والثانى ان يرضى باليسير من الدنيا لانه روى فى الخبر « ان ثمن الجنة الطاعة وترك الدنيا » والثالث ان يكون حريصا على الطاعات ويتعلق بكل طاعة فلعل تلك الطاعة تكون سبب المغفرة ووجوب الجنة قال الله تعالى { وتلك الجنة التى اورثتموها بما كنتم تعملون } والرابع ان يحب الصالحين واهل الخير ويخالطهم ويجالسهم فان الصالح اذا غفر له يشفع لاخوانه واصحابه . والخامس ان يكثر الدعاء ويسأل الله تعالى ان يرزقه ويختم له بخير والحاصل انه لا بد للعاقل من التأهب لمعاده بتزكية النفس واصلاح القلب
قال القاشانى فى تأويلاته { انى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر } القلب من الاعمال القلبية كالاخلاص واليقين والمكاشفة { او انثى } النفس من الاعمال القالبية كالطاعات والمجاهدات والرياضيات { بعضكم من بعض } يجمعكم اصل واحد وحقيقة واحدة هى الروح اى بعضكم منشأ من بعد فلا اثيب بعضا واحرم آخر { فالذين هاجروا } من اوطان مألوفات النفس { واخرجوا من ديارهم } من ديار صفاتها او هاجروا من احوالهم التى التذوا بها واخرجوا من مقاماتهم التى يسكنون اليها { وأوذوا فى سبيلى } اى ابتلوا فى سلوك سبيل افعالى بالبلاء والمحن والشدائد والفتن ليتمرنوا بالصبر ويفوزوا بالتوكل او فى سلوك سبيل صفاتى بسطوات تجليات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا الى مقام الرضى { وقاتلوا } البقية بالجهاد فى { وقتلوا } فى الحب فى بالكلية { لأكفرن عنهم سيآتهم } كلها من صغائر ظهور افعالهم وصفاتهم وكبائر بقايا ذواتهم فى تلويثاتهم { ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار } الجنات الثلاث المذكورة { ثوابا من عند الله } اى عوضا عما اخذت منهم من الوجودات الثلاثة { والله عنده حسن الثواب } ولا يكون عند غيره الثواب المطلق الذى لا ثواب وراءه ولهذا قال والله لانه اسم الذات الجامع لجميع الصفات فلم يحسن ان يقع غيره من الرحمن او الرحيم او سائر الاسماء موقعه(2/385)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{ لا يغرنك } الخطاب للنبى عليه السلام لان العصمة لا تزيل النهى فانه لو زال النهى عنه بذلك لبطلت العصمة فان العصمة هى الحفظ من الخلاف واذا زال النهى لم يكن خلاف فلا تكون عصمة فالمراد تثبيته على ما هو عليه من عدم التفاته على الدنيا او الخطاب له والمراد امته كما يخاطب سيد القوم ومقدمهم والمراد به كلهم كأنه قيل لا يغرنكم { تقلب الذين كفروا فى البلاد } والنهى فى المعنى للمخاطب وانما جعل للتقلب تنزيلا للسبب وهو التقلب منزلة المسبب وهو اغترار المخاطب للمبالغة والمعنى لا تمدن عينيك ولا تستشرف نفسك الى ما هم عليه من سعة الرزق واصابة حظوظ الدنيا ولا تغتر بظاهر حالهم من التبسط فى الارض والتصرف فى البلاد يتكسبون ويتجرون ويتدهقنون روى ان بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين فى رخاء ولين عيش فيقولون ان اعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت(2/386)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{ متاع قليل } اى ذلك التقلب متاع قليل لا قدر له فى جنب ما اعد الله للمؤمنين قال عليه السلام « ما الدنيا فى الآخرة الا مثل ما يجعل احدكم اصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع » فاذا لا يجدى وجوده لواجديه ولا يضر فقدانه لفاقديه { ثم مأواهم } اى مصيرهم الذى يأوون اليه لا يبرحونه { جهنم } التى لا يوصف عذابها يعنى انه مع قلته سبب الوقوع فى نار جهنم ابد الآباد والنعمة القليلة اذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة { وبئس المهاد } اى بئس ما يمهدون لأنفسهم جهنم(2/387)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{ لكن الذين اتقوا ربهم } اى خافوه فلم يخالفوا مره ولا نهيه { لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } وجه الاستدراك انه تعالى لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم فى البلاد لاجل التجارة وجاز ان يتوهم متوهم ان قلة النفع من لوازم التقلب من حيث هو استدرك ان المتقين وان تقلبوا واصابوا ما اصابه الكفار او لم يصيبوا لهم مثوبات حسنى لا يقادر قدرها { نزلا من عند الله } حال من جنات لتخصصها بالوصف . والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما { وما عند الله } لكثرته ودوامه { خير للابرار } مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله
وعن ابن مسعود رضى الله عنه ما من نفس برة ولا فاجرة الا والموت خير لها ام البرة فان الله تعالى يقول { وما عند الله خير للابرار } واما الفاجرة فانه يقول { انما نملى لهم ليزدادوا اثما } وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه جئت فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مشربة وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شىء وتحت رأسه وسادة من ادم حشوها ليف وان عند رجليه قرظا مصبورا وعند رأسه اهب معلقة فرأيت اثر الحصير فى جنبه فبكيت فقال { ما يبكيك } فقلت يا رسول الله ان كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « أما ترضى ان يكون لهما الدنيا ولنا الآخرة »
ازبى ذكر وشوق حق مارا ... دردو عالم دل وزبانى بس
وزطعام ولباس اهل جهان ... كهنه دلقى ونيم نانى بس
ومما وجد فى خزائن الاسكندر مكتوبا بالذهب الاحمر حركات الافلاك لا تبقى على احد نعمة فاذا اعطى العبد مالا او جاها او رفعة فلتكن همته فى انتهاز الفرصة وتقليد المنن اعناق الرجال فان الدنيا والجاه والرفعةتزول اما ندم طويل او مدح جزيل فاكرموا من له حسب فى الاصل او قدم فى المروءة ولا يغرنكم تقلب الزمان باهله فان للدهر عثرات يجبر كما يكسر ويكسر كما يجبر والامر الى الله تعالى : قال جلال الدين الرومى قدس سره
جند كويى من بكيرم عالمى ... اين جهانرا بركنم ازخود همى
كرجهان بريرف كرددسر بسر ... تاب خور بكدازدش ازيك نظر
وعن الحسن قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على اصحابه فقال « هل منكم من يريد ان يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيرا . ألا انه من رغب فى الدنيا وطال امله فيها اعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر امله اعطاه الله تعالى علما بغير تعلم وهدى بغير هداية . ألا انه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك الا بالقتل والتجبر ولا الغنى الا بالفخر والبخل ولا المحبة الا باتباع الهوى . ألا فمن ادرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك الا وجه الله تعالى اعطاه تعالى ثواب خمسين صديقا »(2/388)
قال ابن عباس رضى الله عنهما يؤتى بالدنيا يوم القيامة فى صورة عجوز شمطاء زرقاء وانيابها بادية مشوهة خلقها وتشرف على الخلائق فيقال أتعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التى تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الارحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم تقذف فى جهنم فتنادى يا رب اين اتباعى واشياعى فيقول الله تعالى الحقوا بها اتباعها قال عليه السلام « يحشر اقوام يوم القيامة واعمالهم كجبال تهامة ويؤمر بهم الى النار » قالوا يا رسول الله مصلين قال « نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل فاذاعرض لهم شىء من الدنيا وثبوا عليه » قالت عائشة رضى الله عنها قلت يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الجر على بطنه من السغب فقال « يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربى ان يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لاجراها حيث شئت من الارض ولكنى اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة ان الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد » وروى انه عليه السلام عرض عليه عشار من النوق وهى الحوامل منها فاعرض عنها وغض بصره مع انها من احب الاموال اليهم وانفسها عندهم لانها كانت تجمع الظهر واللحم واللبن ولعظمتها فى قلوبهم قال الله عز وجل { واذا العشار عطلت } فلما لم يلتفت اليها قيل له يا رسول الله هذه انفس اموالنا فلم لا تنظر اليها قال « قد نهى الله عن ذلك » تلا قوله تعالى { ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به } الآية هذا معاملته مع الدنيا . وفى التوجه الى الآخرة ما كان يريد الا الرفيق الاعلى قال صلى الله عليه وسلم « انا حبيب الله ولا فخر وانا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم ومن دونه ولا فخر وانا اول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر » والمقصود ان فى الفقر والقناعة فضيلة وان الفقراء يدخلون الجنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاغنياء
اى قناعت توانكرم كردان ... كه وراى توهيج نعمت نيست
كنج صبر اختيار لقمانست ... هركرا صبر نيست حكمت نيست
فعلى العبد العاقل ان يجتنب عن الدنيا واخوانها ويرغب فى الآخرة وجنانها بل يترقى الى الوصول الى الله تعالى(2/389)
قال ابو يزيد البسطامى قدس سره فى عباد الله عبد لو اعطى الجنات بزينتها لهرب كما يهرب اهل النار من النار وهو الذى غلب عليه محبة الله فلا يميل الى غيره ومن ذلك المقام قال ابو يزيد غاب قلبى عنى ثمانين سنة فلما اردت ان آخذه قيل أتطلب غيرنا وحكى عن بعض الصالحين انه رأى فى المنام معروف الكرخى شاخصا بصره نحو العرش قد اشتغل عن الحور العين وقصور الجنة فسأل رضوان من هذا قال معروف الكرخى مات مشتاقا الى الله فاباح له ان ينظر اليه فمطمح نظر العارف الجنة المعنوية وهى جنة معرفة الله ووصوله التى هى خير من جنة الفردوس واعلى عليين فليسارع السالك الى وصول هذه الجنة ودخولها قبل ادراك منيته وانقضاء عمره ومجيئ اجله
حضورى كرهمى خواهى ازوغائب مشو حافظ ... متى ما تلق من تهوى دع الدنيا واهملها(2/390)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{ وان من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله } نزلت فى عبد الله بن سلام واصحابه وقيل فى اربعين من نجران واثنين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فاسلموا وقيل فى اصحمة النجاشى فانه لما مات نعاه جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى اليوم الذى مات فيه فقال صلى الله عليه وسلم لاصحابه « اخرجوا فصلوا على اخ لكم مات بغير ارضكم » فقالوا من هو قال « النجاشى » فخرج الى البقيع وكشف له الى ارض الحبشة فابصر سرير النجاشى فصلى عليه وكبر اربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا الى هذا يصلى على علج نصرانى حبشى لم يره قط وليس على دينه فانزل الله هذه الآية { وما انزل اليكم } من القرآن { وما انزل اليهم } من الكتابين { خاشعين لله } اى متواضعين له من خوف عذابه ورجاء ثوابه وهو حال من فاعل يؤمن لان من فى معنى الجمع { لا يشترون } لا يأخذون { بآيات الله } المكتوبة فى التوراة والانجيل من نعت النبى عليه السلام { ثمنا قليلا } اى عرضا يسيرا من حطام الدنيا خوفا على الرسالة كفعل من لم يسلم من احبارهم وكبارهم والجملة حال مما قبله { اولئك } اى اهل هذه الصفة { لهم اجرهم } اى المختص بهم الموعود لهم فى قوله تعالى { اولئك يؤتون اجرهم مرتين } { عند ربهم } نصب على الحالية من اجرهم والمراد به التشريف { ان الله سريع الحساب } لنفوذ علمه بجميع الاشياء فهو عالم بما يستحقه كل عامل من الاجر من غير حاجة الى تأمل ووعى صدر وكتب يد والمراد ان الاجر الموعود سريع الوصول اليهم فان سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء
والاشارة فى قوله تعالى { ان الله سريع الحساب } الى ان العلماء المتقين الذين يؤمنون بالواردات والالهامات والكشوف بارباب القلوب والخواطر الرحمانية وهم الحكماء الآلهية يعجل الله فى جزاء اعمالهم بحسب نياتهم لتبليغهم الى مقاماتهم فى القرب قبل وفاتهم ولا يؤجل الى ما بعد وفاتهم فان من كان فى هذه اعمى فهو فى الآخرة اعمى والانسان يموت كما يعيش ويبعث على ما مات عليه وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان جبريل عليه السلام جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد ان ربك يقرئك السلام وهو يقول مالى اراك مغموما حزينا قال عليه السلام « يا جبريل طال تفكرى فى امتى يوم القيامة » قال فى امر اهل الكفر ام فى اهل الاسلام فقال « يا جبريل فى امر اهل لا اله الا الله محمد رسول الله » فاخذ بيده حتى اقامه الى مقبرة بنى سلمة ثم ضرب بجناحه الايمن على قبر ميت فقال قم باذن الله فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول لا اله الا الله محمد رسول الله فقال جبريل عد الى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الايسر فقال قم باذن الله فخرج رجل مسود الوجه ازرق العينين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل عد الى مكانك فعاد كما كان ثم قال يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/391)
« تموتون كما تعيشون وتبعثون كما تموتون » فظهر ان الله سريع الحساب يوصل الى كل جزاء عمله . فاما الواصلون فهم فى الجنة المعنوية فى الدنيا يتنعمون . واما الغافلون فهم فى نار البعد والفراق ولكنهم لا يحسون الالم قبل وفاتهم فاذا ماتوا انقلب الحال من المعنى الى الحس عصمنا الله واياكم من نار البعد وعذاب السعير وشرفنا بنعيم وصاله ورؤية جماله المنير
كنون بايد اى خفته بيدار بود ... جومرك اندر آرد زخوابت جه سود
توباك آمدى بر حذر باش وباك ... كه ننكست ن باك رفتن بخاك
كنون بايد اين مرغ را باى بست ... نه آنكه كه سر رشته بردت زدست
وذكر ان ابراهيم بن ادهم رحمه اراد ان يدخل الحمام فمنعه الحمامى وقال لا تدخل الا باجرة فبكى ابراهيم وقال لا يؤذن لى ان ادخل بيت الشياطين محانا فكيف بالدخول الى بيت النبيين والصديقين مجانا فظهر ان من كان فى الدنيا غافلا فهو فى الآخرة مع الغافلين وحسابه فى الآخرة على مقدار عمله فمن لم يعمل صالحا كان هناك خاليا عن المثوبات
برفتندو هركس درود أنجه كشت ... نماند بجز نام نيكو وزشت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان فى الجنة حوراء يقال لها لعبة لو بصقت فى البحر بصقة لعذب البحر مكتوب على نحرها من احب ان يكون له مثلى فليعمل بطاعة ربى » ونعم ما قيل
بقدر الكد تكتسب المعالى ... ومن طلب العلى سهر الليالى
تروم العز ثم تنام ليلا ... يغوص البحر من طلب اللآلى
فلا بد من تدارك امر الآخرة
وتوفيت امرأة الفرزدق فخرج فى جنازتها وجوه اهل البصرة وخرج فيها الحسن البصرى فقال الحسن للفرزدق يا ابا فراس ما اعددت لهذا اليوم قال شهادة ان لا اله الا الله منذ ثمانين سنة فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها وانشد هذه الابيات
اخاف وراء القبر ان لم يعافنى ... اشد من القبر التهابا واضيقا
اذا جاءنى يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من اولاد آدم من مشى ... الى النار مغلول القلادة ازرقا
وعن انس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم ادخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم اجره من النار » فنسأل الله سبحانه ان يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة مع الابرار ويوفقنا للاعمال الصالحة المنجية ويجعلنا من الفرقة الناجية بحق النبى الذى به وصل من وصل الى الله عز وجل فى المشارق والمغارب وانتهى الى منازل المقاصد والمآرب(2/392)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{ يا ايها الذين آمنوا اصبروا } على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد كالمرض والفقر والقحط والخوف وغير ذلك من المشاق { وصابروا } وغالبوا اعداء الله فى الصبر على شدائد الحرب واعدى عدوكم فى الصبر على مخالفة الهوى . والمصابرة نوع خاص من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصا لشدته وصعوبته وكونه اكمل وافضل من الصبر على ما سواه والصبر هو حبس النفس عما لا يرضاه الله واوله التصبر وهو التكلف لذلك ثم المصابرة وهى معارضة ما يمنعه عن ذلك ثم الاصطبار والاعتبار والالتزام ثم الصبر وهو كماله وحصوله من غير كلفة { ورابطوا } ابدانكم وخيولكم فى الثغور مترصدين وانفسكم على الطاعة كما قال عليه السلام « ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات » قالوا بلى يا رسول الله قال « اسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط » { واتقوا الله لعلكم تفلحون } واتقوه بالتبرى مما سواه لكى تفلحوا غاية الفلاح او اتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتبة التى هى الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس فى رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة فعلم من هذا ان الصبر دون المصابرة والمصابرة دون المرابطة قيل
توكز سراى طبيعت نميروى بيرون ... كجا بكوى طريقت كذر توانى كرد
ولا بد من السلوك حتى يتجاوز العبد عن الاحوال والمقامات الى اقصى النهايات وحكى عن ابراهيم بن ادهم انه كان يسير الى بيت الله راجلا فاذا اعرابى على ناقة فقال يا شيخ الى اين فقال ابراهيم الى بيت الله قال كيف وانت راجل لا راحلة لك فقال ان لى مراكب كثيرة فقال ما هى قال اذا نزلت علىّ بلية ركبت مركب الصبر واذا نزلت علىّ نعمة ركبت مركب الشكر واذا نزل بى القضاء ركبت مركب الرضى واذا دعتنى النفس الى شىء علمت ان ما بقى من العمر اقل مما مضى فقال الاعرابى انت الراكب وانا الراجل سر فى بلاد الله فالاشتغال طول العمر بالمجاهدة لازم حتى تنقلع الاخلاق الذميمة من النفس وتتبدل بالاوصاف الشريفة من الصبر وغيره ومثل هذه المجاهدة هى المرابطة روى ان واحدا من الصلحاء كان يختم كل ليلة ويجتهد فى العبادة فقيل له انك تتعب نفسك وتوقعها فى المشقة فقال كم عمر الدنيا فقيل سبعة آلاف سنة فقال وكم مقدار يوم القيامة فقيل خمسون الف سنة فقال لو عمر المرء بعمر الدنيا لحق له ان يجتهد فى العبادة لهذا اليوم الطويل فانه اسهل بالنسبة اليه(2/393)
وكانت معاذة العدوية امرأة صالحة كانت اذا جاء النهار تقول هذا اليوم يوم موتى فتشتغل بالعبادة الى المساء فاذا جاء الليل تقول هذه الليلة ليلة موتى فتحييها الى الصباح الى ان ماتت على هذه النمط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته الا لحاجة » فهذا فى الجهاد الاصغر فكيف الحال فى الجهاد الاكبر يعنى ان المثوبات والدرجات اكثر فى حفظ النفس ومراقبتها وحبسها على الطاعات والعبادات
نكه دار فرصت كه عالم دميست ... دمى بيش دانابه ازعالميست
سراز جيب غفلت بر آور كنون ... كه فردا نمانى بخجلت نكون
قال الحافظ
داناكه زدتفرج اين جرخ حقه باز ... هنكامه بازجيد ودركفت وكوببست
قال ابو زيد البسطامى رحمه الله العارف من كان همه هما واحدا ولم ينتقل قلبه الى ما رأت عيناه وسمعت اذناه روى او زاهدا كان يجتهد فى العبادة فرآه رجل قد صار لباسه ذا وسخ فقال أيها العابد لم لا تغسل ثوبك قال العابد لانه ان غسلته يتوسخ ثانيا قال الرجل فاغسله مرة اخرى قال العابد ان الله لم يخلقنا لأن نغسل ثيابنا ويذهب عمرنا بهذا العمل بل للطاعة والعبادة : قال مولانا جلال الدين قدس سره
اول استعداد جنت بايدت ... تاز جنت زندكانى زايدت
تداركنا الله تعالى بلطفه
وجاء اعرابى الى النبى صلى الله عليه وسلم فقال انى اصوم شهر رمضان واصلى كل يوم خمس صلوات ولا ازيد على هذا لانى فقير ليس على زكاة ولا حج فاذا قامت القيامة ففى أى دار اكون انا فضحك النبى صلى الله وقال « اذا حفظت عينيك عن اثنين عن النظر الى المحرمات والنظر الى الخلق بعين الاحتقار وحفظت قلبك عن اثنين عن الغل والحسد وحفظت لسانك عن اثنين عن الكذب والغيبة تكون معى فى الجنة »(2/394)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
{ يا ايها الناس } خطاب عام يتناول الموجودين فى زمان الخطاب ومن بعدهم دون المنقرضين بدليل انهم ما كانوا متعبدين بشرعنا فلو كان عاما لجميع بنى آدم لزم ان يتعبدوا بشرعنا وهو محال { اتقوا ربكم } فى حفظ ما بينكم من الحقوق وما يجب وصله ومراعاته ولا تضيعوه ولا تقطعوا ما امرتم بوصله { الذى خلقكم } اى قدر خلقكم حالا بعد حال على اختلاف صوركم وألوانكم { من نفس واحدة } اى من اصل واحد وهو نفس آدم ابيكم وعقب الاتقاء بمنة الخلق كيلا يتقى الا الخالق وبين اتحاد الاب فان فى قطع التزاحم حضا على التراحم { وخلق منها } اى من تلك النفس يعنى من بعضها { زوجها } امكم حواء بالمد من ضلع من اضلاعه اليسرى روى ان الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام واسكنه الجنة القى عليه النوم فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من قصيراه فلما انتبه وجدها عنده فمال اليها وألفها لأنها كانت مخلوقة من جزء من اجزائه واخرت حواء فى الذكر وان كانت مقدمة فى الخلق لان الواو لا ترتيب فيها { وبث } اى فرق ونشر { منهما } من تلك النفس وزوجها المخلوقة بطريق التوالد والتناسل { رجالا كثيرا } تذكيره للحمل على الجمع والعدد { ونساء } اى بنين وبنات كثيرة . واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها اذ الحكمة تقتضى ان يكون اكثر . وترتيب الامر بالتقوى على هذه القصة لان المراد به تمهيد للامر بالتقوى فيما يتصل بحقوق اهل منزله وبنى جنسه على ما دلت عليه الآيات التى بعدها فكأنه قيل اتقوا ربكم الذى وصل بينكم حيث جعلكم صنوانا متفرعة من ارومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض من حقوق المواصلة التى بينكم فحافظوا عليها ولا تغفلوا عنها { واتقوا الله } اى لا تقطعوا فى الدين والنسب اغصانا تتشعب من جرثومة واحدة { الذى تساءلون به } فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض اسألك بالله { والارحام } اى يسأل بعضكم بعضا بالله فيقول بالله وبالرحم واناشدك الله والرحم افعل كذا على سبيل الاستعطاف وجرت عادة العرب على ان احدهم اذا استعطف غيره يقرن الرحم فى السؤال والمناشدة بالله ويستعطف به . فقوله والارحام بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا أو على الله اى اتقوا الله واتقوا الارحام فصلوها ولا تقطعوها وقد نبه سبحانه اذ قرن الارحام باسمه على ان صلتها بمكان منه وعنه صلى الله عليه وسلم « الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلنى وصله الله ومن قطعنى قطعه الله » وقال صلى الله عليه وسلم « ما من عمل حسنة اسرع ثوابا من صلة الرحم وما من عمل سيئة اسرع عقوبة من البغى »(2/395)
فينبغى للعباد مراعاة الحقوق لان الكل اخ لاب وام وهما آدم وحواء سيما المؤمنين لان فيهم قرابة الايمان والدين وكذا الحال فى قرابة الطين { ان الله كان عليكم رقيبا } الرقيب هو المراقب الذى يحفظ عليك جميع افعالك اى حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الافعال والاقوال وعلى ما فى ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم بذلك فبين الله تعالى انه يعلم السر واخفى وانه اذا كان كذلك فيجب ان يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتى ويذر
واعلم ان التقوى هى العمدة وهى سبب الكرامة العظمى فى الدنيا والعقبى حكى انه كان بالبصرة رجل معروف بالمسكى لانه كان يفوح منه رائحة المسك فسئل عنه فقال كنت من احسن الناس وجها وكان لى حياء فقيل لأبى لو أجلسته فى السوق لانبسط مع الناس فاجلسنى فى حانوت بزاز فجازت عجوز وطلبت متاعا فاخرجت لها ما طلبت فقالت لو توجهت معى لثمنه فمضيت معها حتى ادخلتنى فى قصر عظيم فيه قبة عظيم فاذا فيها جارية على سرير عليه فرش مذهبة فجذبتنى الى صدرها فقلت الله الله فقالت لا بأس فقلت انى حازق فدخلت الخلاء وتغوطت ومسحت به وجهى وبدنى فقيل انه مجنون فخلصت ورأيت الليلة رجلا قال لى اين انت من يوسف بن يعقوب ثم قال أتعرفنى قلت لا قال انا جبريل ثم مسح بيده على وجهى وبدنى فمن ذلك الوقت يفوح المسك على من رائحة جبريل عليه السلام وذلك ببركة التقوى
والتقوى فى عرف الشرع وقاية النفس عما يضرها فى الآخرة وعى على مراتب . الاولى التوقى عن العذاب المخلد بالتبرى من الشرك وعليه قوله تعالى { وألزمهم كلمة التقوى } والثانية التجنب عن كل اثم وهو المتعارف باسم التقوى وهو المعنى بقوله تعالى { ولو ان اهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا } والثالثة التنزه عن جميع ما يشغله وهو التقوى الحقيقى المطلوب بقوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } ومن هذا القبيل ما حكى عن ذى النون المصرى انه لما جاء اليه بعض الوزراء وطلب الهمة واظهر الخشية من السلطان قال له لو خشيت انا من الله كما تخشى انت من السلطان لكنت من جملة الصديقين
كرنبودى اميد راحت ورنج ... باى درويش بر فلك بودى
وروزير ازخدا بترسيدى ... همجنان كزملك ملك بودى
فينبغى للسالك ان يتقى ربه ويراقب الله فى جميع احواله كما قال تعالى { ان الله كان عليكم رقيبا } والمراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه وهذا اصل كل خير ولا يكاد يصل الى هذه الرتبة الا بعد فراغه من المحاسبة فاذا حاسب نفسه على ما سلف واصلح حاله فى الوقت ولازم طريق الحق واحسن ما بينه وبين الله من مراعاة القلب وحفظه مع الله الانفاس وراقب الله سبحانه فى عموم احواله فيعلم انه عليه رقيب ومن قلبه رقيب يعلم احواله ويرى افعاله ويسمع اقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة(2/396)
قال سليمان بن على لحميد الطويل عظنى قال لئن كنت عصيت الله خاليا وظنت انه يراك فقد اجترأت على امر عظيم ولئن كنت تظن انه لا يراك فقد كفرت لقوله تعالى { ان الله كان عليكم رقيبا }
وكان بعض الصالحين له تلامذة وكان يخص واحدا منهم باقباله عليه اكثر مما يقبل على غيره فقالوا له فى ذلك فقال ابين لكم فدفع لكل واحد من تلامذته طائرا وقال له اذبحه بحيث لا يراك احد ودفع الى هذا ايضا فمضوا ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طيره وجاء هذا بالطير حيا فقال له هلا ذبحته فقال امرتنى ان اذبحه بحيث لا يراه احد ولم اجد موضعا لا يراه احد فقال لهذا اخصه باقبالى عليه
جهان مرآت حسن شاهد ماست ... فشاهد وجهه فى كل ذرات(2/397)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{ وآتوا اليتامى اموالهم } اليتامى جمع يتيم وهو من الناس المنفرد عن الاب بموته ومن سائر الحيوانات عن الام وحق هذا الاسم ان يقع على الصغير والكبير لبقاء معنى الانفراد عن الاب الا انه غلب استعماله فى الصغير لاستغناء الكبير بنفسه عن الكافل فكأنه خرج عن معنى اليتم وهو الانفراد والمراد بايتاء اموالهم قطع المخاطبين اطماعهم الفارغة عنها وكف اكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل اليه سالمة لا الاعطاء بالفعل فانه مشروط بالبلوغ وايناس الرشد وانما عبر عما ذكر بالايتاء مجازا للايذان بانه ينبغى ان يكون مرادهم بذلك ايصالها اليهم لا مجرد ترك التعرض لها والمعنى ايها الاولياء والاوصياء احفظوا اموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها اليهم وقت استحقاقهم تسليمها اليهم { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } تبدل الشىء بالشىء واستبداله به اخذ الاول بدل الثانى بعد ان كان حاصلا له او فى شرف الحصول اى لا تستبدلوا الحلال المكتسب بالحرام المغتصب يعنى لا تستبدلوا مال اليتامى وهو حرام بالحلال وهو مالكم وما ابيح لكم من المكاسب ورزق الله المبعوث فى الارض فتأكلوه مكانه { ولا تأكلوا اموالهم الى اموالكم } المراد من الاكل التصرف لان اكل مال اليتيم كما يحرم فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الاموال محرمة والدليل عليه ان فى المال ما لا يصح ان يؤكل وانما ذكر الاكل لانه معظم ما يقع لاجله التصرف والى بمعنى مع قال تعالى { من انصارى الى الله } اى مع الله والاصح ان المعنى لا تأكلوها مضمومة الى اموالكم ولا تسووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام وقد خص من ذلك مقدار اجر المثل عند كون الولى فقيرا واذا اكل مال اليتيم وله مال كان ذلك اقبح ولذا ورد النهى عن اكله مع مال نفسه بعد ان قال ولا تتبدلوا الخ { انه } اى الاكل المفهوم من النهى { كان حوبا كبيرا } اى ذنبا عظيما عند الله فاجتنبوه روى ان رجلا من بنى غطفان كان معه مال كثير لابن اخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا الى النبى عليه السلام فنزلت هذه الآية فلما سمع العم قال اطعنا الله واطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع اليه ماله فقال النبى صلى الله عليه وسلم « من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره » يعنى جنته فلما قبض الفتى ماله انفقه فى سبيل الله فقال عليه السلام « ثبت الاجر وبقى الوزر » فقالوا كيف بقى الوزر فقال « ثبت الاجر للغلام وبقى الوزر على والده » قال الشيخ السعدى قدس سره(2/398)
از زر وسيم راحتى برسان ... خويشتن هم تمتعى بر كير
جونكه اين خانه از توخواهدماند ... خشتى ازسيم وخشتى از زركير
قال تعالى { وآتوا اليتامى اموالهم } تزكية من آفة الحرص والحسد والدناءة والخسة والطمع وتحلية بالامانة والديانة وسلامة الصدر وقال { ولا تأكلوا اموالهم الى اموالكم } تزكية من الجور والحيف والظلم وتحلية بالعدل والانصاف فان اجتماع هذه الرذائل { انه كان حوبا كبيرا } اى حجابا عظيما
فعلى العاقل ان يزكى نفسه من الاخلاق الرديئة ولا يطمع فى حق احد جل او قل بل يكون سخيا باذلا ماله على الارامل والايتام ويراعى حقوقهم بقدر الامكان
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال ست موبقات ليس لهن توبة . اكل مال اليتيم . وقذف المحصنة . والفرار من الزحف . والسحر . والشرك بالله . وقتل نبى من الانبياء . ويقال طوبى للبيت الذى فيه يتيم . وويل للبيت الذى فيه يتيم يعنى ويل لاهل البيت الذين لم يعرفوا حق اليتيم وطوبى لهم اذا عرفوا حقه
يكى خار باى يتيمى بكند ... بحواب اندرش ديدصدر خجند
كه ميكفت ودر روضاهامى حميد ... كزان خار بر من جه كلهادميد
وروى ان رجلا جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم فقال عندى يتيم مم اضربه قال « مما تضرب به ولدك » يعنى لا بأس ان تضربه للتأديب ضربا غير مبرح مثل ما يضرب الوالد ولده وروى عن الفضيل بن عياض انه قال رب لطمة انفع لليتيم من اكلة خبيص
قال الفقيه فى تنبيه الغافلين ان كان هذا يقدر ان يؤدبه بغير ضرب ينبغى له ان يفعل ذلك ولا يضربه فان ضرب اليتيم امر شديد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان اليتيم اذا ضرب اهتز عرش الرحمن لبكائه فيقول الله يا ملائكتى من ابكى الذى غيبت اباه فى التراب وهو اعلم به قال تقول الملائكة ربنا لا علم لنا قال فانى اشهدكم ان من ارضاه ارضه من عندى يوم القيامة »
جو بينى يتيمى سرافكند بيش ... مده بوسه برروى فرزند خويش
يتيم اربكريد كه بارش برد ... وكرخشم كيرد كه نازش خرد
ألا تانكريد كه عرش عظيم ... بلرزد همى جون بكريد يتيم
اكرسايه خودبرفت ازسرش ... تو درسايه خويشتن برورش
قال الله تعالى لداود النبى عليه السلام [ كن لليتيم كالاب الرحيم واعلم انك كما تزرع كذلك تحصد ]
واعلم ان المرأة الصالحة لزوجها كالملك المتوّج بالذهب كلما رآها قرت عينه والمرأة السوء لبعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير
كراخانه آباد وهمخوابه دوست ... خدارا برحمت نظر سوى اوست
دلارام باشد زن نيك خواه ... وليك اززن بدخدايا بناه
تهى باى رفتن به از كفش تنك ... بلاى سفر به كه درخانه جنك(2/399)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{ وان خفتم الا تقسطوا فى اليتامى } الاقساط العدل والمراد بالخوف العلم عبر عنه بذلك ايذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقى لان لاذى علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه والا لم يكن الامر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه وسبب النزول انهم كانوا يتزوجون من يحل لهم من اليتامى اللاتى يلونهن لكن لا لرغبة فيهن بل فى مالهن ويسيئون فى الصحبة والمعاشرة ويتربصون بهن ان يمتن فيرثوهن وقيل هى اليتيمة تكون فى حجر وليها فيرغب فى مالها وجمالها ويريد ان ينكحها بادنى من سنة نسائها فنهوا ان ينكحوهن الا ان يقسطوا لهن فى اكمال الصداق وامروا ان ينكحوا من سواهن من النساء والمعنى وان خفتم ان لا تعدلوا فى حق اليتامى اذا تزوجتهم بهن باساءة العشرة او بنقص الصداق { فانكحوا ما } موصولة او موصوفة اوثرت على من ذهابا بها الى الوصف اى نكاحا { طاب لكم من النساء } اى غير اليتامى بشهادة قرينة المقام اى فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الاجنبيات { مثنى وثلاث ورباع } حال من فاعل طاب اى فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا وثلاثا واربعا واربعا حسبما تريدون على معنى ان لكل واحد منهم ان يختار أى عدد شاء من الاعداد المذكورة لا ان بعضها لبعض منهم وبعضها لبعض آخر { فان خفتم ان لا تعدلوا } اى فيما بينهن ولو فى اقل الاعداد المذكورة كما خفتموه فى حق اليتامى او كما لم تعدلوا فيما فوق هذه الاعداد { فواحدة } فالزموا او فاختاروا واحدة وذروا الجمع بالكلية { او ما } ولم يقل من ايذانا بقصور رتبة الاماء عن رتبة العقلاء { ملكت ايمانكم } اى من السرارى بالغة ما بلغت من مراتب العدد وهو عطف على واحدة على ان اللزوم والاختيار فيه بطريق التسرى لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين فى الموضعين وانما سوى فى السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين السرارى من غير حصر فى عدد لقلة تبعيتهن وخفة مؤننهن وعدم وجوب القسم فيهن { ذلك } اشارة الى اختيار الواحدة { ادنى ان لا تعولوا } العول الميل من قولهم عال الميزان عولا اذا مال وعال فى الحكم جار والمراد ههنا الميل المحظور المقابل للعدل اى ما ذكر من اختيار الواحدة والتسرى اقرب بالنسبة الى ما عداهما من ان لا يميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله فى الاول وانتفاء حظره فى الثانى بخلاف اختيار العدد فى المهائر فان الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والحظر(2/400)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{ وآتوا النساء } اى اللاتى امر بنكاحهن { صدقاتهن } جمع صدقة وهى المهر { نحلة } فريضة من الله لانها مما فرضه الله فى النحلة اى الملة والشريعة والديانة فانتصابها على الحالية من الصدقات اى اعطوهن مهورهن حال كونها فريضة من الله او تدينا فانتصابها على انه مفعول له اى اعطوهن ديانة وشرعة او هبة وعطية من الله وتفضلا منه عليهن فانتصابها على الحالية منها ايضا او عطية من جهة الازواج من نحله اذا اعطاه اياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا والتعبير عن ايتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الازواج لافادة معنى الايتاء عن كمال الرضى وطيب الخاطر وانتصابها على المصدرية لان الايتاء والنحلة بمعنى الاعطاء كأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة اى اعطوهن مهورهن عن طيبة انفسكم فالخطاب للازواج وقيل للاولياء لانهم كانوا يأخذون مهور بناتهم وكانوا يقولون هنيئا لك النافجة لمن يولد له بنت يعنون تأخذ مهرها فتنفج به مالك اى تعظم { فان طبن لكم عن شىء منه } الضمير للصدقات وتذكيره لاجرآئه مجرى ذلك فانه قد يشار به الى المتعدد واللام متعلقة بالفعل وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافى والتجاوز ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشىء اى كائن من الصداق وفيه بعث لهن الى تقليل الموهوب { نفسا } تمييز والتوحيد لما ان المقصود بيان الجنس اى وهبن لكم شيأ من الصداق متجافيا عن نفوس هن طيبات غير خبيثات بما يضطرهن الى البذل من شكاية اخلاقكم وسوء معاشرتكم { فكلوه } اى فخذوا ذلك الشىء الذى طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا وتخصيص الاكل بالذكر لانه معظم وجوه التصرفات المالية { هنيئا مريئا } صفتان من هنأ الطعام ومرأ اذا كان سائغا لا تنغيض فيه ونصبهما على انهما صفتان للمصدر اى اكلا هنيئا مريئا وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة فى الاباحة وازالة التبعة روى ان ناسا كانوا يتأثمون ان يقبل احدهم من زوجته شيأ مما ساقه اليها فنزلت
وفى الآية دليل على وجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس ولذا قيل يجوز الرجوع بما وهبن ان خدعن من الازواج وبيان لجواز معروفها وترغيب فى حسن المعاشرة بينهما فان خير الناس خيرهم لاهله وانفعهم لعياله وفى الحديث « جهاد المرأة حسن التبعل » وكانت المرأة على عهد النبى عليه السلام تستقبل زوجها اذا دخل وتقول مرحبا بسيدى وسيد اهل بيتى وتقصد الى اخذ ردائه فتأخذه من عنقه وتعمد الى نعله فتخلعه فان رأته حزينا قالت ما يحزنك ان كان حزنك لآخرتك فزاد الله فيها وان كان لدنياك فكفاك الله فقال النبى صلى الله عليه وسلم « يا فلان اقرئها منى السلام واخبرها ان لها نصف اجر الشهيد »(2/401)
وعلامة الزوجة الصالحة عند اهل الحقيقة ان يكون حسنها مخافة الله وغناها القناعة وحليها العفة اى التكفف عن الشرور والمفاسد وعبادتها بعد الفرائض حسن الخدمة للزوج وهمتها الاستعداد للموت
اكر بارسا باشد وخوش سخن ... نكه درنكويى وزشتى مكن
زن خوب وخوش طبع كنجست ومار ... رها كن زن زشت ناساز كار
يعنى لا تلتفت الى امرأة ليس لها حسن ولا موافقة لك بحسن الخلق روى ان الاسكندر كان يوما عنده جمع من ندمائه فقال واحد منهم ان الله تعالى اعطى لك مملكة كثيرة وشوكة وافرة فاكثر من النساء حتى يكثر اولادك ويبقوا بعدك قال الاسكندر اولاد الرجال ليست ما ذكرت بل هى العادات الحسنة والسير المرضية والاخلاق الكريمة وليس مما يليق بالجرل الشجيع ان تغلب عليه النساء بعد ان غلب هو على اهالى الدنيا ونعم ما قيل يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام
جونيست بيش بدراين قدر يقين كه بسر ... زخيل بى خردانست ياخردمندان
بسست سيرت نيكو حكيم را فرزند ... زبون زن جه شود براميد فرزندان
قال الشيخ السعدى قدس سره فى البستان
جه نغز آمداين يك سخن زان دوتن ... كه سركشته بودنداز دست زن
يكى كفت كس را زان بد مباد ... دكر كفت زن درجهان خودمباد
زن نو كن اى دوست هر نوبهار ... كه تقويم بارين نيايد بكار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثلاثة من امتى يكونون فى جهنم كعمر الدنيا سبع مرات . اولهم متسمنون مهزولون . والثانى كاسون عارون . والثالث عالمون جاهلون » قيل من هؤلاء يا رسول الله قال « اما المتسمنون المهزولون فالنساء متسمنات باللحم مهزولات فى امور الدين واما الكاسون العارون فهن النساء كاسيات من الثياب عاريات من الحياء واما العالمون الجاهلون فهم اهل الدنيا التاجرون الكاسبون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون » فهؤلاء عالمون فى امور الدنيا جاهلون فى امور الآخرة لا يبالون من اين يجمعون المال وهم لا يشبعون من الحلال ولا يبالون من الحرام نعوذ بالله(2/402)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{ ولا تؤتوا } ايها الاولياء { السفهاء } اى المبذرين من الرجال والنساء والصبيان واليتامى { اموالكم } اضاف الاموال الى الاولياء تنزيلا لاختصاصها باصحابها منزلة اختصاصها بالاولياء فكان اموالهم عين اموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسى والنسبى مبالغة فى حملهم على المحافظة عليها وقد ايد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش اصحابها بجعلها مناطا لمعاش الاولياء بقوله { التى جعل الله لكم قياما } اى جعلها الله شيأ تقومون به وتنتعشون فلو ضيعتموه لضعتم ولما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام اطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة فكأنها من فرط قيامهم بها واحتياجهم اليها نفس قيامهم { وارزقوهم فيها واكسوهم } الرزق من الله العطية من غير حد ومن العباد اجراء موقت محدود اى اطعموهم منها ولم يقل منها لئلا يكون ذلك امرا بان يجعلوا بعض اموالهم رزقا لهم بل امرهم ان يجعلوا اموالهم مكانا لرزقهم بان يتجروا فيها ويثمروا فيجعلوا ارزاقهم من الارباح لا من اصول الاموال { وقولوا لهم قولا معروفا } كلاما لينا تطيب به نفوسهم
قال القفال القول المعروف هو انه ان كان المولى عليه صبيا فالولى يعرفه ان المال ماله وهو خازن له وانه اذا زال صباه فانه يرد المال اليه وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه فى ترك التبذير والاسراف وعرفه ان عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام واذا كان رشيدا فطلب ماله ومنعه الولى يأثم
وفى الآية تنبيه على عظم خطر المال وعظم نفعه
قال السلف المال سلاح المؤمن هيىء للفقر الذى يهلك دينه وكانوا يقولون اتجروا واكتسبوا فانكم فى زمان اذا احتاج احدكم كان اول ما يأكل دينه وربما راوأ رجلا فى جنازة فقالوا له اذهب الى دكانك
قال الامام وقد رغب الله فى حفظ المال فى آية المداينة حيث امر بالكتاب والشهادات والرهن والعقل ايضا يؤيد ذلك لان الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل الدنيا والآخرة ولا يكون فارغ البال الا بواسطة المال لانه به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار
شب براكنده خسبد آنكه بديد ... نبود وجه بامدادانش
مور كرد آورد بتابستان ... تافراغت بود زمستانش
فمن اراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا فى حقه من اعظم الاسباب المعينة على اكتساب سعادة الآخرة اما من ارادها لنفسها وعينها كانت من اعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة فخير المال ما كان متاع البلاغ ولا ينبغى للمرء ان يسرف فى المال الذى يبلغه الى الآخرة والجنة والقربة
جودخلت نيست خرج آهسته تركن ... كه ملاحان همى كويند سرودى
اكر باران بكوهستان نبارد ... بسالى دجله كردد خشك رودى
درخت اندر خزانها برفشاند ... زمستان لا جرم بى برك ماند(2/403)
والاشارة الى ان الله تعالى جعله المال قياما لمصالح دين العباد ودنياهم فالعاقل منهم من يجعله قياما لمصالح دينه ما امكنه ولمصالح دنياه بقدر حاجته الضرورية اليه والسفيه من جعله لمصالح دنياه ما امكنهوالمنهى عنه ان تؤتوا اليه اموالكم كائنا من كان ومن جملة السفهاء النفس التى هى اعدى عدوك وكل ما انفقه الرجل على نفسه بهواها ففيه مفاسد دينه ودنياه الا المستثنى منه كما اشار تعالى بقوله { وارزقوهم فيها } يعنى ما يسد به جوع النفس { واكسوهم } يعنى ما يستر عورتها فان ما زاد على هذا يكون اسرافا فى حق النفس والاسراف منهى عنه { وقولوا لهم قولا معروفا } فالقول المعروف مع النفس ان يقول اكلت رزق الله ونعمه فادى شكر نعمته بامتثال اوامره ونواهيه واذيبى طعامك بذكر الله كما قال عليه السلام « اذيبوا طعامكم بالصلاة والذكر » واقل ذلك ان يصلى ركعتين او يسبح مائة تسبيحة او يقرأ جزأ من القرآن عقيب كل اكلة وسببه انه اذا نام على الطعام من غير اذابته بالذكر والصلاة بعد اكله يقسو قلبه ونعوذ بالله من قسوة القلب ففى الاذابة رفع القسوة واداء الشكر
واعلم ان فى قوله تعالى { ولا تؤتوا السفهاء } الخ اشارة اخرى وهى ان اموال العلوم وكنوز المعارف لا تؤتى لغير اهلها من العوام ولا تذكر كما حكى ان بعض الكبار ذكر بعض الكرامات لولى فنقل ذلك بعض السامعين فى مجلس آخر وانكره رجل فلما رجع الى الاصل قال لا يباع الابل فى سوق الدجاج
دريغست باسفله كفت ازعلوم ... كه ضايع شود تخم درشوره بوم(2/404)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{ وابتلوا اليتامى } اى واختبروا ايها الاولياء والاوصياء من ليس من اليتامى بين السفه قبل البلوغ يتتبع احوالهم فى صلاح الدين والاهتداء الى ضبط المال وحسن التصرف فيه وجربوهم بما يليق بحالهم فان كانوا من اهل التجارة فبان تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعا وابتياعا وان كانوا ممن له ضياع واهل وخدم فبان تعطوا منه ما يصرفونه الى نفقة عبيدهم وخدمهم واجرائهم وسائر مصارفهم حتى يتبين لكم كيفية احوالهم { حتى اذا بلغوا النكاح } بان يحتلموا لانهم يصلحون عنده للنكاح { فان آنستم } اى شاهدتم وتبينتم { منهم رشدا } صلاحا فى دينهم واهتداء الى وجوه التصرفات من غير عجز وتبذير { فادفعوا اليهم اموالهم } من غير تأخير عن حد البلوغ
وظاهر الآية الكريمة ان من بلغ غير رشيد اما بالتبذير او بالعجز لا يدفع اليه ماله ابدا وبه اخذ ابو يوسف ومحمد
وقال ابو حنيفة ينتظر الى خمس وعشرين سنة لان البلوغ بالسن ثمانى عشرة فاذا زادت عليها بسبب سنين وهى مدة معتبرة فى تغيير احوال الانسان لما قال عليه السلام « مروهم بالصلاة لسبع » دفع اليه ماله اونس منه رشد او لم يونس { ولا تأكلوها اسرافا } بغير حق حال اى مسرفين وليس فيه اباحة القليل وتحريم الاسراف بل هو بيان انه اسراف { وبدارا } اى مبادرين ومسارعين الى انفاقهما مخافة { ان يكبروا } فتفرطون فى انفاقها وتقولون ننفق كما نشتهى قبل ان تكبر اليتامى رشدا فينتزعوها من ايدينا ويلزمنا تسليمها اليهم { ومن كان غنيا } من الاولياء والاوصياء { فليستعفف } فليتنزه عن اكلها وليمتنع وليقنع بما آتاه الله من الغنى والرزق اشفاقا على اليتيم وابقاء على ماله واستعفف ابلغ من عف كأنه يطلب زيادة العفة { ومن كان } من الاولياء والاوصياء { فقيرا فليأكل بالمعروف } اى بما عرف فى الشرع بقدر حاجته الضرورية واجرة سعيه وخدمته وفيه ما يدل على ان للوصى حقا لقيامه عليها { فاذا دفعتم اليهم اموالهم } بعد ما راعيتم الشرائط المذكورة { فأشهدوا عليهم } بانهم تسملوها وقبضوها وبرئت منها ذممكم لما ان ذلك ابلغ من التهمة وانفى للخصومة وادخل فى الامانة وبراءة الساحة وان لم يكن واجبا عند اصحابنا فان الوصى مصدق فى الدفع مع اليمين وقال مالك والشافعى لا يصدق فى دعواه الا بالبينة { وكفى بالله } الباء صلة { حسيبا } محاسبا وحافظ الأعمال خلقه فلا تخالفوا ما امرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم واعلموا ان اللائق للعاقل ان يحترز عن حق الغير خصوصا اليتيم فانه يجره الى نار الجحيم فأكل حقه من الكبائر ومن ابتلى بحق من حقوق العباد فعليه بالاستحلال قبل الانتقال الى دار السؤال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/405)
« من كانت عنده مظلمة لاخيه او شىء فليتحلله منه اليوم من قبل ان لا يكون دينار ولا درهم ان كان له عمل صالح اخذ منه بقدر مظلمة وان لم يكن له حسنات اخذ من سيآت صاحبه فحمل عليه ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال ارباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص وليسرّ ببعض الحسنات بينه وبين الله بكمال الاخلاص حيث لا يطلع عليه الا الله فعساه يقربه ذلك الى الله فينال به لطفه الذى ادخره لارباب الايمان فى دفع مظالم العباد عنهم بارضائه اياهم »
قال العلماء اذا زنى بامرأة ولها زوج فما لم يجعل ذلك الرجل فى حل لا يغفر له لان خصمه الآدمى فاذا تاب وجعله فى حل فان يغفر له ويكتفى بحل منه ولا يذكر الزنى ولكن يقول كل حق لك على فاجعلنى فى حل منه ومن كل خصومة بينى وبينك وهذا صلح بالمعلوم على المجهول وذلك جائز كرامة لهذه الامة لان الامم السالفة ما لم يذكروا الذنب لا يغفر لهم وكذا غصب اموال عباد الله واكلها وضربهم وشتمهم وقتلهم كلها من الحقوق التى يلزم فيها ارضاء الخصماء والتوبة والمبادرة الى الاعمال الصالحة والافعال الحسنة فاذا لم يتب العبد من امثال هذه ولم يرض خصماءه كان خاسرا خاليا عن العمل عند العرض الاكبر
نماند ستمكار بد روزكار ... بماند برو لعنت بايدار
جنان زى كه ذكرت بتحسين كند ... جو مردى نه بركور نفرين كنند
تبايد برسم بد آيين نهاد ... كه كويند لعنت بران كين نهاد
فينبغى للظالم ان يتوب من الظلم ويتحلل من المظلوم فى الدنيا فاذا لم يقدر عليه ينبغى ان يستغفر له ويدعو له فان يرجى ان يحلله بذلك
وعن فضيل بن عياض رحمه الله انه قال قراءة آية من كتاب الله والعمل بها احب الى من ختم القرآن الف الف مرة وادخال السرور على المؤمن وقضاء حاجته احب الى من عبادة العمر كله وترك الدنيا ورفضها احب الى من التعبد بعبادة اهل السموات والارض وترك دانق من حرام احب الى ما مائتى حجة من المال الحلال
وقال ابو القاسم الحكيم ثلاثة اشياء تنزع الايمان من العبد . اولها ترك الشكر على الاسلام . والثانى ترك الخوف على ذهاب الاسلام . والثالث الظلم على اهل الاسلام وعن ابى ميسرة قال اتى بسوط الى رجل فى قبره بعدما دفن يعنى جاءه منكر ونكير فقالا له انا ضارباك مائة سوط فقال الميت انا كنت كذا وكذا يتشفع حتى حطا عنه عشرا ثم لم يزل بهما حتى صارت الى ضربة واحدة فقالا له انا ضارباك ضربة واحدة فضرباه ضربة واحدة التهب القبر نارا فقال لم ضربتمانى قالا مررت برجل مظلوم فاستغاث بك فلم تغثه فهذا حال الذى لم يغث المظلوم فكيف يكون حال الظالم
واعلم ان الكبار يكفون انفسهم عن المشتبهات فضلا عن الحرام فان اللقمة الطيبة لها اثر عظيم فى اجابة الدعاء ولذا قال الشيخ نجم الدين الكبرى قدس سره اول شرائط اجابة الدعاء اصلاح الباطن بلقمة الحلال وآخر شرائطها الاخلاص وحضور القلب يعنى التوجه الاحدى اذ القلب الحاضر فى الحضرة شفيع له قال تعالى(2/406)
{ فادعوا الله مخلصين له الدين } فحركة الانسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب ولولة الواقف على الباب وصوت الحارس على السطح فعلى العاقل ان يحترز عن الحرام والمشتبهات كى يستجاب دعاؤه فى الخلوات(2/407)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
{ للرجال نصيب } روى ان اوس بن صامت الانصارى رضى الله عنه خلف زوجته ام كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فانهم ما كانوا يورثون النساء والاطفال ويقولون انما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة فجاءت ام كحة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد الفضيح فشكت اليه فقال « ارجعى حتى انظر ما يحدث الله » فنزلت هذه الآية فبعث اليهما لا تفرقا من مال اوس شيأ فان الله قد جعل لهن نصيبا ولم يبين حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ فأعطى ام كحة الثمن والبنات الثلثين والباقى لابنى العم والمعنى لذكور اولاد الميت حظ كائن { مما ترك الوالدان والاقربون } من ذوى القرابة للميت والمراد المتوارثون منهم دون المحجوبين عن الارث وهم الابوان والزوجان والابن والبنت { وللنساء } اى لجماعة الاناث { نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه او كثر } مما الاخيرة باعادة الجار بدل واليها يعود الضمير المجرور وهذا البدل مراد فى الجملة الاولى ايضا محذوف للتعويل على المذكور وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الاموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال وتحقيق ان لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق { نصيبا مفروضا } نصب على الاختصاص اى اعنى نصيبا مقطوعا مفروضا واجبا لهم وفيه دليل على ان الوارث لو اعرض عن نصيبه لم يسقط حقه(2/408)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{ واذا حضر القسمة } اى قسمة التركة والميراث { اولو القربى } للميت ممن لا يرث منه { واليتامى والمساكين } من الاجانب { فارزقوهم منه } اى اعطوهم شيأ من المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة او مما ترك الوالدان والاقربون وهو امر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب الطوائف المذكورة وتصدقا عليهم وكان المؤمنون يفعلون ذلك اذا اجتمعت الورثة وحضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بشىء من ورثة المتاع فحثهم الله على ذلك تأديبا من غير ان يكون فريضة فلو كان فريضية لضرب له حد ومقدار كما لغيره من الحقوق { وقولوا لهم قولا معروفا } وهو ان يدعوا لهم ويقولوا اخذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما اعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم وكل ما سكنت اليه النفس واحبته لحسنه شرعا او عقلا من قول او عمل فهو معروف وما انكرته لقبحه شرعا او عقلا فهو منكر وفى الحديث « كل معروف صدقة » وفى المثل اصنع المعروف والقه فى الماء فان لم يعرف السمك يعرفه من سمك السماء
تونيكى كن بآ ب اندارزاى شاه ... اكر ماهى نداند داند الله
حكى ان حية اتت رجلا صالحا فقالت اجرنى من عدوى اجارك الله ففتح لها رداءه فقالت يرانى فيه فان اردت المعروف فافتح فاك حتى ادخل فيه فقال اخشى ان تهلكينى قالت لا والله والله وسكان سمواته وارضه شاهدة على ذلك ففتح فاه فدخلت ثم عارضه رجل فى ذلك فانكر فلما اندفع خوفها قالت يا احمق اختر لنفسك كبدك او فؤادك فقال اين العهد واليمين قالت ما رأيت احمق منك اذ نسيت العداوة التى بينى وبين ابيك آدم وما الذى حملك على اصطناع المعروف مع غير اهله فقال مهلينى حتى آتى تحت هذا البل ثم توجه الى الله فظهر رجل حسن الوجه طيب الرائحة واعطاه ورقة خضراء وامره بالمضغ ففعل فلم يلبث الا خرج قطع الحية من الاسفل فخلصه الله تعالى من شرها ثم سأل من انت فقال انا المعروف وموضعى فى السماء الرابعة وانت لما دعوت الله ضجت الملائكة فى السموات السبع الى الله فانطلقت الى الجنة واخذت من شجرة طوبى ورقة بامر الله فاصنع المعروف فانه لا يضيع عند الله وان ضيعه المصطنع اليه
نكو كارى ازمردم نيك رأى ... يكى را بده مى نويسد خداى
ومما يكتب من الصدقة الكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والمعونة فى الحاجة وعيادة المرضي وتشييع الجنازة وتطييب قلب مسلم وغير ذلك
واعلم ان الرجال فى الحقيقة اقوياء الطلبة والسلام فلهم نصيب بقدر صدقهم فى الطلب ورجوليتهم فى الاجتهاد مما ترك المشايخ والاخوان فى الله والاعوان على الطلب وتركتهم بركنهم وسيرتهم فى الدين وانوار هممهم العلية ومواهب ولايتهم السنية والنساء ضعفاء القوم فلهم ايضا نصيب مفروض اى قدر معلوم على وفق صدق التجائهم اليه وجدهم فى الطلب وحسن استعدادهم لقبول فيض الولاية وهذا حال المجتهدين الذين هم ورثة المشايخ كما انهم ورثة الانبياء فاما المنتمون الى ولايتهم بالارادة وحسن الظن والمقتبسون من انوارهم والمقتفون على آثارهم والمشبهون بزيهم والمتبركون بهم على تفاوت درجاتهم فهم بمثابة اولى القربى واليتامى والمساكين اذا حضروا القسمة عند محافل صحبتهم ومجامع سماعهم ومجالس ذكرهم فانها مقاسم خيراتهم وبركاتهم فارزقوهم منه اى من مواهب ولايتهم وآثار هدايتهم واعطاف عنايتهم والطاف رعايتهم وقولوا لهم قولا معروفا فى التشويق وارشاد الطريق والحث على الطلب والتوجه الى الحق والاعراض عن الدنيا وتقرير هوانها على الله وخسارة اهلها وعزة اهل الله فى الدارين وكمال سعادتهم فى المنزلين فاذا وقفت على هذا فاجتهد حتى لا تحرم من ميراثه الحقيقة ونصيب المعرفة ونعم ما قيل(2/409)
ميراث بدر خواهى توعلم بدر آموز ... كين مال بدر خرح توآن كردبده روز
رزقنا الله واياكم ثمرات الاحوال وبلغنا الى تصفية الباطن واصلاح البال(2/410)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{ وليخش الذين } صفتهم وحالهم انهم { لو تركوا } اى لو شارفوا ان يتركوا { من خلفهم } اى بعد موتهم { ذرية ضعافا } اولادا عجزة لا غنى لهم وذلك عند احتضارهم { خافوا عليهم } اى الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم والفقر والتكفف والمراد بالذين هم الاوصياء امروا ان يخشوا الله فيخافوا على من فى حجورهم من اليتامى وليشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا وشفقتهم عليهم وان يقدروا ذلك فى انفسهم ويصوروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة { فليتقوا الله } فى زرارى غيرهم { وليقولوا قولا سديدا } اى وليقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الادب والترهيب ويدعوهم بيابنى ويا ولدى ولا يؤذوهم(2/411)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{ ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما } ظالمين او على وجه الظلم من اولياء السوء وقضاته وانما قيد به لانه اذا اكل منه بالمعروف عند الحاجة او بما قدر له به القاضى بقدر عمله فيه لم يعاقب عليه { انما يأكلون فى بطونهم } اى ملىء بطونهم يقال اكل فى بطنه اذا ملأه واسرف وفى معاه اذا اقتصد فيه { نارا } اى ما يجر الى النار ويؤدى اليها فكأنه نار فى الحقيقة { وسيصلون } اى سيدخلون يوم البعث { سعيرا } اى نارا مسعرة او هائلة مبهمة الوصف روى ان آكل مال اليتيم يبعث يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وانفه واذنيه وعينيه ويعرف الناس انه كان يأكل مال اليتيم فى الدنيا وروى انه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الامر على اليتامى فنزل قوله تعالى { وان تخالطوهم فاخوانكم فى الدين } الآية وفى الحديث قال النبى عليه السلام « رأيت ليلة اسرى بى قوما لهم مشافر كمشافر الابل احداهما قالصة على منخريه والاخرى على بطنه وخزنة جهنم يلقمونه جمر جهنم وصخرها فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما »
كى كز صرصر ظلمش دمادم ... جراغ عيش مظلومان بميرد
نمى ترسد ازين كايزد تعالى ... اكرجه ديركيرد سخت كيرد
وقد امر الله تعالى ان لا يؤذى اليتيم ويقال له القول السديد فكيف يكون حال من آذاه وغيره من المؤمنين واكل اموالهم بالغصب والظلم روى ان لجهنم جبابا يعنى مواضع كساحل البحر فيها حيات كالبخاتى وعقارب كالبغال الدلم فاذا استغاث اهل جهنم ان يخفف عنهم قيل لهم اخرجوا الى الساحل فيخرجون فتأخذ الحيات شفاههم ووجوههم ما شاء الله فيكشطن فيستغيثون فرارا منها الى النار فيسلط عليهم الجرب فيحك احدهم جلده حتى يبدو العظم فيقال يا فلان هل يؤذيك هذا فيقول نعم فيقال ذلك بما كنت تؤذى المؤمنين . فعلى المرء ان يجتنب عن الايذاء وايصال الالم الى الخلق فان الدعاء السوء من المظلومين يقبل البتة فى حق الظالم والمؤذى
خرابى كند مرد شمشيرزن ... نجندانكه دود دل طفل وزن
رياست بدست كسانى خطاست ... كه ازدست شان دستها برخداست
مكافات موذى بمالش مكن ... كه بيخش بر آورد بايد زبن
سر كرك بايد هم اول بريد ... نه جون كوسفندان مردم دريد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تقبلوا لى ستا اتقبل لكم الجنة اذاحدثتم فلا تكذبوا واذا وعدتم فلا تخلفوا واذا ائتمنتم فلا تخونوا وغضوا ابصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا ايديكم عن الحرام وادخلوا الجنة »(2/412)
وروى عن ابن المبارك انه قال ترك فلس من حرام افضل من مائة الف فلس يتصدق بها عنه
وعنه انه كان بالشام يكتب الحديث فانكسر قلمه فاستعار قلما فلما فرغ من الكتابة نسى فجعل القلم فى مقلمته فلما رجع الى مرو رأى القلم وعرفه فتجهز للخروج الى الشام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار فما ينفعكم الا بالورع »
قال ابراهيم بن ادهم رحمه الله الزهد ثلاثة اصناف . زهد فرض . وزهد فضل وزهد سلامة . فزهد الفرض هو الزهد فى الحرام . وزهد الفضل هو الزهد فى الحلال . وزهد السلامة هو الزهد فى الشبهات
وكان حسان بن ابى سنان لا ينام مضطجعا ولا يأكل سمينا ولا يشرب باردا ستين سنة فرؤى فى المنام بعد ما مات فقيل له ما فعل الله بك فقال خيرا غيرا انى محبوس عن الجنة بابرة استعرتها فلم اردها
ومر عيسى عليه السلام بمقبرة فنادى رجلا منهم فاحياه الله تعالى فقال من انت فقال كنت حمالا اثقل للناس فنقلت يوما لانسان حطبا فكسرت منه خلالا تخللت به فانا مطالب به منذ مت
خوف دارى اكر زقهر خدا ... نروى راه حرام دنيا(2/413)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{ يوصيكم الله } اى يأمركم ويعهد اليكم { فى اولادكم } اولاد كل واحد منكم اى فى شأن ميراثهم وهو اجمال تفصيله { للذكر مثل حظ الانثيين } والمعنى منهم فحذف للعلم به اى يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه { فان كن } اى الاولاد والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى { نساء } اى خلصا ليس معهن ذكر { فوق اثنتين } خبر ثان { فلهن ثلثا ما ترك } اى المتوفى المدول عليه بقرينة المقام وحكم البنتين كحكم ما فوقهما { وان كانت } اى المولودة { واحدة } اى امرأة واحدة ليس معها اخ ولا اخت { فلها النصف } مما ترك { ولابويه } اى لأبوى الميت { لكل واحد منهما السدس } كائنا ذلك السدس { مما ترك } المتوفى { ان كان له } اى للميت { ولد } او ولد ابن ذكرا كان او انثى واحدا او متعددا غير ان الأب فى صورة الانوثة بعد ما اخذ فرضه المذكور يأخذ ما بقى من ذوى الفروض بالعصوبة { فان لم يكن له ولد } ولا ولد ابن { وورثه ابواه } فحسب { فلأمه الثلث } مما ترك والباقى للأب هذا اذا لم يكن معهما احد الزوجين اما اذا كان معهما احد الزوجين فلأمه ثلث ما بقى من فرض احدهما لا ثلث الكل كما قاله ابن عباس رضى الله عنه فانه يفضى الى تفضيل الأم على الأب مع كونه اقوى منها فى الارث بدليل اضعافه عليها عند انفرادهما عن احد الزوجين وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع { فان كان له اخوة } اى عدد من الاخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانت من جهة الأبوين او من جهة احدهما وسواء كانوا ذكورا او اناثا او مختلطين وسواء كان لهم ميراث او محجوبين بالأب { فلامه السدس } واما السدس الذى حجبوها عنه فهو للأب عند وجوده ولهم عند عدمه وعليه الجمهور { من بعد وصية } متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها اى هذه الانصباء للورثة من بعد ما كان من وصية { يوصى بها } الميت وفائدة الوصف الترغيب فى الوصية والندب اليها { او دين } عطف على وصية الا انه غير مقيد بما قيدت به من الوصف بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة او الاقرار فى الصحة وانما قال بأو التى للاباحة دون الواو للدلالة على انهما متساويان فى الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين وقدم الوصية على الدين وهى متأخرة فى الحكم لانها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب اليها الجميع والدين انما يكون على الندور { آباؤكم وابناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } الخطاب للورثة اى اصولكم وفروعكم الذين يتوفون لا تدرون أيهم انفع لكم أمن يوصى ببعض ماله فيعرضكم لثواب الآخرة بتنفيذ وصيته أم من لا يوصى بشىء فيوفر عليكم عرض الدنيا يعنى الاول انفع ان كنتم تحكمون نظرا الى ظاهر الحال بانفعية الثانى وذلك لان ثواب الآخرة لتحقق وصوله الى صاحبه ودوام تمتعه به مع غاية قصر مدة ما بينهما من الحياة الدنيا اقرب واحضر وعرض الدنيا لسرعة نفاده وفنائه ابعد واقصى { فريضة من الله } اى فرض الله ذلك الميراث فرضا { ان الله كان عليما } بالخلق ومصالحهم { حكيما } فى كل ما قضى وقدر ودبر(2/414)
واعلم ان فى هذه الآية تنبيها على ان العبد ينبغى ان يجانب الميل الى جانبى الافراط والتفريط برأيه وعمله بل يستمسك بالعروة الوثقى التى هى العدالة فى الامور كلها وهو الميزان السوى فيما بين الضعيف والقوى وذلك لا يوجد الا بمراعاة امر الله تعالى والمحافظة على الاحكام المقضية الصادرة من العليم بعواقب الامور الحكيم الذى يضع كل شىء فى مرتبته فعليكم بالعدل الذى هو اقرب للتقوى والتجانب عن الجور بين العباد فى جميع الامور خصوصا فيما بين الاقارب فان لهم مزيد فضل على الاجانب ولمكانة صلة الرحم عند الله قرن الارحام باسمه الكريم فى قوله تعالى { واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام } فحافظوا على مراعاة حقوق اصولكم وفروعكم وآتوا كل ذى حق حقه فمن حقوق الوالدين على الولد ترك التأفيف والبر والتكلم بقول لطيف
وفى الخبر يسأل الولد عن الصلاة ثم عن حق الوالدين وتسأل المرأة عن الصلاة ثم عن حق زوجها ويسأل العبد عن الصلاة ثم عن حق المولى ثم ان الحق الوالدة اعظم من الوالد لكونها اكثر زحمة ورحمة روى ان رجلا قال يا رسول الله ان امى هرمت عندى فاطعمها بيدى واسقيها بيدى واوضيها واحملها على عاتقى فهل جازيت حقها قال « لا ولا واحدا من مائة » قال ولم يا رسول الله قال « لانها خدمتك فى وقت ضعفك مريدة حياتك وانت تخدمها مريدا مماتها ولكنك احسنت والله يثيبك على القليل كثيرا » وجاء رجل الى النبى عليه السلام ليستشيره فى الغزو فقال « ألك والدة » قال نعم قال عليه السلام « فالزمها فان الجنة تحت رجليها » ذكره فى الاحياء قيل فيه ونعم ما قيل
جنت كه سراى مادرانست ... زير قد مات مادرانست
روزى بكن اى خداى مارا ... جيزى كه رضاى مادرانست
ويطيع الوالدين فيما ابيح فى دين الاسلام وان كانا مشركين ويهجرهما ان امراه بشرك او معصية قال تعالى { وان جاهداك على ان تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما }
جون نبود خويش را ديانت وتقوى ... قطع رحم بهترازمودت قربى
قال بعضهم كل ما لا يؤمن من الهلاك مع الجهل فطلب علمه فرض عين سواء كان من الامور الاعتقادية كمعرفة الصانع وصفاته وصدق النبى عليه السلام فى اقواله وافعاله او من الاعمال الحسنة المتعلقة بالظاهر كالصلاة والصوم وغيرهما او بالباطن كحسن النية والاخلاص والتوكل وغيرها او من السيئة المتعلقة بالظاهر كشرب الخمر واكل الربا والنظر الى اجنبية بشهوة او بالباطن كالكبر والعجب والحسد وسائر الاخلاق الرديئة للنفس فان معرفة هذه الامور فرض عين يجب على المكلف طلبها ون لم يأذن له ابواه واما ما سواها من العلوم فقيل لا يجوز له الخروج لطلبه الا باذنهما(2/415)
وفى فتاوى قاضى خان رجل طلب العلم وخرج بغير اذن والديه فلا بأس به ولم يكن عقوقا قيل هذا اذا كان ملتحيا فاذا كان امرد صبيح الوجه فلأبويه ان يمنعاه
واما حق الولد على الوالد فكالتسمية باسم حسن كأسماء الانبياء والمضاف الى اسمه تعالى لان الانسان يدعى فى الآخرة باسمه واسم ابيه قال عليه السلام « انكم تدعون يوم القيام باسمائكم واسماء آبائكم فاحسنوا اسماءكم » ولذا قيل يستحب تغيير الاسماء القبيحة المكروهة فان النبى صلى الله عليه وسلم سمى المسمى بالعاصى مطيعا . وجاء رجل اسمه المضطجع فسماه المنبعث . ومن حقه عليه الختان وهو سنة . واختلفوا فى وقته قيل لا يختن حتى يبلغ لانه للطهارة ولا طهارة عليه حتى يبلغ وقيل اذا بلغ عشرا وقيل تسعا والاولى تأخير الختان الى ان يثغر الولد ويظهر سنه لما فيه من مخالفة اليهود لانهم يختنون فى اليوم السابع من الولادة . ومن حقه ان يرزقه بالحلال الطيب وان يعلمه علم الدين ويربيه بآداب السلف الصالحين : قال الشيخ سعدى قدس سره فى حق الاولاد
بخرجى درش زجر وتعليم كن ... به نيك وبدش وعده وبيم كن
بياموز برورده رادست رنج ... وكردست دارى جوقارون كنج
بيايان رسد كيسه سيم وزر ... نكردد تهى كيسه بيشه ور
وروى انس رضى الله عنه عن النبى عليه السلام قال يعق عنه فى اليوم السابع ويسمى ويماط عنه الاذى فاذا بلغ ست سنين ادب واذا بلغ سبع سنين عزل فراشه واذا بلغ عشر سنين ضرب على الصلاة واذا بلغ ست عشرة زوجه ابوه ثم اخذ بيده وقال قد ادبتك وعلمتك وانكحتك اعوذ بالله من فتنتك فى الدنيا وعذابك فى الآخرة . والحاصل انه ينبغى ان لا يعتمد الانسان على رأى نفسه بل يكل امره الى الله فانه اعلم وارحم
والاشارة فى الآيات ان المشايخ للمريدين بمثابة الآباء للاولاد فان الشيخ فى قومه كالنبى فى امته على ما قاله عليه السلام وقال صلى الله عليه وسلم « انا لكم كالوالد لولده » ففى قوله { يوصيكم الله } الآية اشارة الى وصايات المشايخ والمريدين ووراثتهم فى قرابة الدين لقوله تعالى { اولئك هم الوارثون } فكما ان الوراثة الدنيوية بوجهين بالسبب والنسب فكذلك الوراثة الدينية بهما .(2/416)
اما السبب فهو الارادة ولبس خرقتهم والتبرك بزيهم والتشبه بهم . واما النسب فهو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولايتهم ظاهرا وباطنا بصدق النية وصفاء الطوية مستسلما لاحكام التسليك والتربية ليتوالد السالك بالنشأة الثانية فان الولادة تنقسم على النشأة الاولى وهى ولادة جسمانية بان يتولد المرء من رحم الام الى عالم الشهادة وهو الملك والنشأة الثانية وهى ولادة روحانية بان يتولد السالك من رحم القلب الى عالم الغيب وهو الملكوت كما حكى النبى عليه السلام عن عيسى عليه السلام انه قال [ لن يلج ملكوت السموات والارض من لم يولد مرتين ] فالشيخ هو الاب الروحانى والمريدون المتولدون من صلب ولايته هم الاولاد الروحانيون وهم فيما بينهم اولوا الارحام بعضهم اولى ببعض فى كتاب الله كقوله تعالى { انما المؤمنون اخوة } وقال عليه السلام « الانبياء اخوة من علات امهاتهم شتى ودينهم واحد » ولهذا قال عليه السلام « كل حسب ونسب ينقطع الا حسبى ونسبى » لان نسبه كان بالدين كما سئل من النبى صلى الله عليه وسلم من آلك يا رسول الله قال « آلى كل مؤمن تقى » وانما يتوارث اهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والانوثة والاجتهاد وحسن الاستعداد وانما مواريثهم العلوم الدينية واللدنية كما قال صلى الله عليه وسلم « العلماء ورثة الانبياء وان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذ به فقد اخذ بحظ وافر » قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره
جون كزيدى بير نازك دل مباش ... سست وريزيده جو آب وكل مباش
جون كرفتى بيرهين تسليم شو ... همجو موسى زير حكم خضررو
كرتوسنك وصخره ومرمر شوى ... جون بصاحب دل رسى كوهر شوى
نار خندان باغ را خندان كند ... صحبت مردانت از مردان كند(2/417)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{ ولكم نصف ما ترك ازواجكم } من المال اذا متن وبقيتم بعدهن { ان لم يكن لهن ولد } اى ولد وارث من بطنها او من صلب بنيها او بنى بنيها وان سفل ذكرا كان او انثى واحدا كان او متعددا منكم او من غيركم والباقى لورثتهن من ذوى الفروض والعصبات او غيرهم او لبيت المال ان لم يكن لهن وارث آخر اصلا { فان كان لهن ولد } على نحو ما فصل { فلكم الربع مما تركن } اى تركت ازواجكم من المال والباقى لباقى الورثة { من بعد وصية } متعلق بكلتا الصورتين الا بما يليه وحده { يوصين بها او } من بعد قضاء { دين } سواء كان ثبوته بالبينة او بالاقرار { ولهن الربع مما تركتم } ان متم وبقين بعدكم { ان لم يكن لكم ولد } ذكر او انثى منهن او من غيرهن اوولد ابن والباقى لبقية وراثتكم من اصحاب الفروض والعصبات او ذوى الارحام او لبيت المال ان لم يكن لكم وارث آخر اصلا { فان كان لكم ولد } على التفصيل المذكور { فلهن الثمن مما تركتم } من المال والباقى للباقين { من بعد وصية توصون بها او دين } اى بعد اخراج الوصية وقضاء الدين هذا كله اذا لم يمنع مانع من الموانع الاربعة كقتل واختلاف دين ورق واختلاف دار { وان كان رجل } اى ذكر ميت { يورث } اى يورث منه من ورث لا من اورث صفة رجل { كلالة } خبر كان اى من لا ولد له ولا والد وهى فى الاصل مصدر بمعنى الكلال وهو الاعياء فى التكلم ونقصان القوة فيه فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد لضعفها بالنسبة الى القرابة من جهتهما { او امرأة } عطف على رجل مقيد بما قيد به اى ان كان الميت انثى يورث منها كلالة { وله } اى وللميت الموروث منه سواء كان رجلا او امرأة { اخ او اخت } كلاهما من الام بالاجماع لان حكم غيرهما سيبين فى آخر السورة { فلكل واحد منهما } اى اى من الاخ والاخت من الام { السدس } من غير تفضيل للذكر على الانثى لان الادلاء الى الميت بمحض الانوثة { فان كانوا } اى اولاد الام { اكثر } فى الوجود { من ذلك } اى من الاخ او الاخت المنفردين بواحد او اكثر { فهم شركاء فى الثلث } يقتسمونه بالسوية لا يزيد نصيب ذكرهم على انثاهم والباقى لبقية الورثة من اصحاب الفروض والعصبات { من بعد وصية يوصى بها او دين غير مضار } قوله غير مضار نصب حالا من فاعل يوصى المقدر المدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول اى يوصى الميت بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غير مدخل الضرر علىلورثة بما زاد على الثلث او تكون الوصية لقصد الاضرار بهم وبان يقر فى المرض بدين كاذبا { وصية من الله } اى يوصيكم الله وصية بها لا يجوز تغيرها قال عليه السلام « من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة » { والله عليم } بالمضار وغيره { حليم } لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بالامهال(2/418)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
{ تلك } اى الاحكام التى تقدمت فى امر اليتامى والوصايا والمواريث { حدود الله } شرائعه التى هى كالحدود المحدودة التى لا يجوز مجاوزتها { ومن يطع الله ورسوله } فى جميع الاوامر والنواهى التى من جملتها ما فصل ههنا { يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } صيغة الجمع اى خالدين بالنظر الى جمعية من بحسب المعنى { وذلك } اى هذا الثواب { الفوز العظيم } اى النجاة الوافرة يوم القيامة والظفر الذى لا ظفر وراءه(2/419)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
{ ومن يعص الله ورسوله } ولو فى بعض الاوامر والنواهى { ويتعد حدوده } شرائعه المحدودة فى جميع الاحكام { يدخله نارا } اى عظيمة هائلة لا يقادر قدرها { خالدا فيها وله عذاب مهين } اى وله غير عذاب الحريق الجسمانى عذاب آخر لا يعرف كنهه وهو العذاب الروحانى كما يؤذن به وصفه والجملة حالية وافرد خالدا فى اهل النار وجمع فى اهل الجنة لان فى الانفراد وحشة وعذابا للنفس وذلك انسب بحال اهل النار
اعلم ان الاطاعة سبب لنيل المطالب الدنيوية والاخروية ويرشدك على شرف الاطاعة ان كلب اصحاب الكهف لما تبعهم فى طاعة الله وعدله دخول الجنة
بابدان يار كشت همسرلوط ... خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزى جند ... بى مردم كرفت ومردم شد
فاذا كان من اتبع المطيعين كذلك فما ظنك بالمطيعين
قال حاتم الاصم قدس سره الزم خدمة مولاك تأتك الدنيا راغمة والآخرة راغبة
ومن كلامه من ادعى ثلاثا بغير ثلاث فهو كذاب من ادعى حب الجنة من غير انفاق ماله فهو كذاب . ومن ادعى محبة الله من غير ورع عن محارم الله فهو كذاب . ومن ادعى محبة النبى عليه السلام من غير محبة الفقراء فهو كذاب وكلما ازداد العبد فى عبادة الله وطاعته ازداد قربا منه وبعدا من كيد الشيطان
قال السرى سألت معروف الكرخى عن الطائعين لله بأى شىء قدروا على الطاعة قال بخروج الدنيا من قلوبهم ولو كانت فى قلوبهم ما صحت لهم سجدة : قال جلال الدين الرومى قدس سره
بند بكسل باش آزاد اى بسر ... جند باشى بند سيم وبند زر
هركه از ديدار برخوردار شد ... ان جهان درجشم اومردارشد
ذكر حق كن بانك غولا نرابسوز ... جشم تركس را ازين كركس بدوز
ومن اكرمه الله بمعرفة عظمته اضطر الى كمال طاعته حكى ان شابا من بنى اسرائيل رفض دنياه واعتزل الناس وجعل يتعبد فى بعض النواحى فخرج اليه رجلان من مشايخ قومه ليرداه الى منزله فقالا له يا من اخذت بامر شديد لا صبر عليه فقال لهما الشاب قيامى بين يدى الله اشد من هذا فقالا ان كل اقربائك مشتاق اليك فعبادتك فيهم افضل فقال الشاب ان الله تعالى اذا رضى عنى يرضى كل قريب وبعيد فقالا له انت شاب لا تعلم وانا جربنا هذا الامر وانا نخاف العجب فقال لهما الشاب من عرف نفسه لم يضره العجب فنظر احدهما الى صاحبه فقال له قم فان هذا الشاب وجد ريح الجنة ولا يقبل قولنا
وعن وهب بن منبه كان داود عليه السلام جعل نوبة عليه وعلى اهله واولاده ولا تمر ساعة من الليل الا وهو يصلى ويذكر ففي سره تحرك قلبه بالنظر الى طاعته وكان بين يديه نهر فانطق الله ضفدعا فقال والذى اكرمك بالنبوة انه منذ خلقنى الله تعالى وانا قائم على رجل ما استرحت مع انى لا ارجو الثواب ولا اخاف اعقاب فما عجبك فيه يا داود فعلم ان المحسن هو الذى يعلم انه مسيئ ولا يعجب بطاعته فلا بد للمؤمن من العمل الصالح ومن الصون عما يبطله من رؤيته وسائر الامراض الفاسدة ولذلك كان الكبار يختارون الوحدة(2/420)
قال الامام جعفر الصادق وكذا سفيان الثورى هذا زمان السكوت وملازمة البيوت فقيل لسفيان اذا لازمنا بيوتنا فمن اين يحصل لنا الرزق قال اتقوا الله فان الله يرزق المتقين من غير كسب كما قال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } قال جلال الدين الرومى
بردل خودكم نه انديشه معاش ... عيش كم نايد توبر دركاه باش(2/421)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
{ واللاتى } جمع التى { يأتين الفاحشة } الاتيان الفعل والمباشرة والفاحشة الفعلة القبيحة اريد بها الزنى لزيادة قبحه على كثير من القبائح اى اللاتى يفعلن الزنى كائنات { من نسائكم } اى من زوجاتكم { فاستشهدوا عليهن اربعة منكم } اى فاطلبوا ان يشهد عليهن باتيانها اربعة من رجال المؤمنين واحرارهم { فان شهدوا } عليهن بذلك { فأمسكوهن فى البيوت } فاحبسوهن فيها واجعلوها سجنا عليهن { حتى يتوفاهن الموت } اى يأخذهن الموت ويستوفى ارواحهن . وفيه تهويل للموت وابراز له فى صورة من يتولى قبض الارواح او يتوفاهن ملائكة الموت { او يجعل الله لهن سبيلا } اى طريقا يخرجن به من الحبس بان تنكح فانه مغن عن السفاح اى الزنى { واللذان } تثنية الذى { يأتيانها } اى الفاحشة { منكم } هما الزانى والزانية بطريق التغليب
قال السدى اريد بهما البكران منهما كما ينبىء عنه كون عقوبتهما اخف من الحبس المخلد وبذلك يندفع التكرار { فآذوهما } فوبخوهما وذموهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله وذلك بعد الثبوت { فان تابا } عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجر الاذية وقوارع التوبيخ { واصلحا } اى لعملهما وغير الحال { فاعرضوا عنهما } بقطع الاذية والتوبيخ فان التوبة والاصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب { ان الله كان توابا رحيما } مبالغا فى قبول التوبة { رحيما } واسع الرحمة
واعلم ان الرجل اذا زنى بامرأة وهما محصنان فحدهما الرجم لا غير وان كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير وان كان احدهما محصنا والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد والمحصن هو ان يكون عاقلا بالغا مسلما حرا دخل بامرأة بالغة عاقلة حرة مسلمة بنكاح صحيح فالرجم كان مشروعا فى التوراة ثم نسخ بآية الايذاء من القرآن ثم صار الإيذاء منسوخا بآية الحبس وآية الايذاء وان كانت متأخرة فى الترتيب والنظم الا انها سابقة على الاولى نزولا ثم صار الحبس منسوخا بحديث عبادة بن الصامت عن النبى صلى الله عليه وسلم « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة » ثم نسخ هذا كله بآية الجلد { الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وصار الحد هو الجلد فى كل زان وزانية ثم صار منسوخا بالرجم فى حق المحصن بحديث ماعز رضى الله عنه وبقى غير المحصن فى حكم الجلد وهو الترتيب فى الآيات والاحاديث وعليه استقر الحكم عندنا كذا فى تفسير التيسير
فالواجب على كل مسلم ان يتوب من الزنى وينهى الناس عن ذلك فان كل موضع ظهر فيه الزنى ابتلاهم الله بالطاعون ويزيد فقرهم
قال ابن مسعود رضى الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أى ذنب اعظم عند الله قال(2/422)
« ان تجعل لله ندا وهو خلقك » قلت ثم أى قال « ان تقتل ولدك خشية ان يأكل معك » قلت ثم أى قال « ان تزنى بحليلة جارك » واشد الزنا ما هو مصر عليه وهو الرجل الذى يطلق امرأته وهو يقيم معها بالحرام ولا يقر عند الناس مخافة ان يفتح فكيف لا يخاف فضيحة الآخرة يوم تبلى السرائر يعنى تظهرالاسرار فاحذر فضيحة ذلك اليوم واجتنب الزنى ولا تصر عليه فانه لا طاقة لك مع عذاب الله وتب الى فان الله كان يقبل التوبة عن عباده ان الله كان توابا رحيما : قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره
مركب توبه عجائب مركبست ... برفلك تازد بيك لحظه زبست
جون برآرند از بشيمانى انين ... عرش لرزد ازانين المذنبين
عمرا كربكذشت بيخش اين دم است ... آب توبه اش ده اكر اوبى نمست
بيخ عمرت رابده آب حيات ... تادرخت عمر كردد باثبات
جمله ماضيها ازين نيكو شوند ... زهر بارينه ازين كرد دجوقند
والاشارة فى تحقيق الآيتين ان { واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم } هى النفوس الامارة بالسوء والفاحشة ما حرمته من اعمال الظاهر وحرمته الطريقة من احوال الباطن وهى الركون الى غير الله قال عليه السلام « سعد غيور وانا اغير منه والله اغير منا ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » { فاستشهدوا عليهن } على النفوس باتيان الفاحشة { اربعة منكم } اى من خواص العناصر الاربعة التى انتم منها مركبون وهى التراب ومن خواصه الخسة والركاكة والذلة والطمع والمهانة واللؤم
والماء ومن خواصه اللين والعجز والكسل والانوثة والشره فى المأكل وفى المشرب
والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والحقد والعداوة والشهوة والزينة
والنار ومن خواصها التبختر والتكبر والفخر والصلف والحدة وسوء الخلق وغير ذلك مما يتعلق بالاخلاق الذميمة ورأسها حب الدنيا والرياسة واستيفاء لذاتها وشهواتها { فان شهدوا } اى ظهر بعض هذه الصفات من النفوس { فامسكوهن فى البيوت } فاحبسوهن فى سجن المنع عن التمتعات الدنيوية فان الدنيا سجن المؤمن واغلقوا عليهن ابواب الحواس الخمس { حتى يتوفاهن الموت } اى تموت النفس اذا انقطع عنها حظوظها دون حقوقها والى هذا اشار بقوله عليه السلام « موتوا قبل ان تموتوا » { او يجعل الله لهن سبيلا } بانفتاح روزنة القلوب الى عالم الغيوب فتهب منها الطاف الحق وجذبات الالوهية التى جذبة منها توازىعمل الثقلين { واللذان يأتيانها منكم } اى النفس والقالب يأتيان الفواحش فى ظاهر الافعال والاعمال والاعمال وباطن الاحوال والاخلاق { فآذوهما } ظاهرا بالحدود وباطنا بترك الحظوظ وكثرة الرياضات والمجاهدات { فان تابا } ظاهرا وباطنا { واصلحا } لذلك { فاعرضوا عنهما } باللطف بعد العنف وباليسر بعد العسر فان مع العسر يسرا { ان الله كان توابا } لمن تاب { رحيما } لمن اصلح من تفسير نجم الدين الرازى الكبرى(2/423)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{ انما التوبة على الله } اى ان قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه اذا قبل توبته { للذين يعملون السوء } اى المعصية صغيرة كانت او كبيرة . فقوله انما التوبة على الله مبتدأ وخبره ما بعده { بجهالة } اى يعملون ملتبسين بها اى جاهلين سفهاء فان ارتكاب الذنب مما يدعو اليه الجهل ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع من جهالته
وفى التيسير ليست هذه جهالة عدم العلم لانه ذنب لان ذلك عذر لكنها التغافل والتجاهل وترك التفكر فى العاقبة كفعل من يجهله ولا يعلمه { ثم يتوبون من قريب } اى من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت اى قبل ان يغرغروا وسماه قريبا لان امد الحياة الدنيا قريب قال تعالى { قل متاع الدنيا قليل } فعمر الدنيا قليل قريب الانقضاء فما ظنك بعمر فرد ومن تبعيضية اى يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ففى أى جزء تاب من اجزاء هذا الزمان فهو تائب { فاولئك يتوب الله عليهم } اى يقبل توبتهم { وكان الله عليما } بخلقه يعلم اخلاصهم فى التوبة { حكيما } فى صنعه والحكيم لا يعاقب التائب
فعلى المؤمن ان يتدارك الزلة بالتوبة والاستغفار ويسارع فى الرجوع الى الملك الغفار روى ان جبريل عليه السلام اتاه عند موته فقال يا محمد الرب يقرئك السلام ويقول من تاب قبل موته بجمعة قبلت توبته قال صلى الله عليه وسلم « الجمعة كثيرة » فذهب ثم رجع وقال قال الله تعالى من تاب قبل موته بساعة قبلت توبته فقال « الساعة كثيرة » فذهب ثم رجع وقال ان الله يقرئك السلام ويقول ان كان هذا كثيرا فلو بلغ روحه الحلق ولم يمكنه الاعتذار بلسانه واستحيى منى وندم بقلبه غفرت له ولا ابالى قال صلى الله عليه وسلم « ان الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر » اى لم يبلغ روحه الحلقوم وعند ذلك يعاين ما يصير اليه من رحمة او هوان ولا ينفع حينئذ توبة ولا ايمان قال تعالى { فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا } فالتوبة مبسوطة للعبد يعاين قابض الارواح وذلك عند غرغرته بالروح وانما يغرغر به اذا قطع الوتين فشخص من الصدر الى الحلقوم فعندها المعاينة وعندها حضور الموت فيجب على الانسان ان يتوب قبل المعاينة والغرغرة وهو معنى قوله تعالى { ثم يتوبون من قريب } وانما صحت منه التوبة فى هذا الوقت لان الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل : قال السعدى قدس سره
طريق بدست آر وصلحى بجوى ... شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه ياك لحظه صورت نبندد آمان ... جو بيمانه برشد بدور و زمان(2/424)
والتوبة فرض على المؤمنين ولها شروط اربعة . الندم بالقلب . وترك المعصية فى الحال . والعزم على ان لا يعود الى مثلها . وان يكون ذلك حياء من الله تعالى وخوفا منه لا من غيره
قال الحسن البصرى استغفارنا يحتاج الى استغفار
قال القرطبى فى تذكرته هذا يقوله فى زمانه فكيف فى زماننا هذا الذى يرى فيه الانسان مكبا على الظلم حريصا عليه لا يقلع والسبحة فى يده زاعما انه يستغفر من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف ومن اظلم ممن اتخذ آيات الله هزؤا فيلزم حقيقة اندم روى ان الملائكة تعرج الى السماء بسيآت العبد فاذا عرضوها على اللوح المحفوظ يجدون مكانها حسنات فيخرون على وجوههم ويقولون ربنا انك تعلم انا ما كتبنا عليه الا ما عمل فيقول الله تعالى صدقتم ولكن عبدى ندم على خطيئته واستشفع الىّ بدمعه فغفرت ذنبه وجدت عليه بالكرم وانا اكرم الاكرمين : قال مولانا جلال الدين قدس سره
ازبى هر كريه آخر خنده ايست ... مرد آخر بين مبارك بنده ايست
هر كجا آب روان سبزه بود ... هر كجا اشك روان رحمت شود
تانكريد ابركى خندد جمن ... تانكريد طفل كى جوشد لبن
قال احمد بن عبد الله المقدسى سألت ابراهيم بن ادهم عن بدء حاله فقال نظرت من شباك قصرى فرأيت فقيرا بفناء القصر قد اكل الخبز بالماء والملح ثم نام فدعوته وقلت له قد شبعت وتهيأت للنوم قال نعم فتبت الى الله ولبست الليلة مسوحا وقلنسوة من صوف وخرجت حافيا الى مكة
واعلم ان الله اذا اراد بعبد خيرا اصطفاه لنفسه وجعل فى قلبه سراجا يفرق بين الحق الباطل ويبصر عيوب نفسه حتى يترك الدنيا وحطامها ويلقى عليها زمامها : قال جلال الدين رومى قدس سره
ملك برهم زن تو ادهم وار زود ... تابيابى همجو او ملك خلود
اين جهان خود حبس جانهاى شماست ... هين رويد آن سوكه صحراى شماست
قال العطار قدس سره
نقاب ازروى جون خورشيد بردار ... اكر هستى زروى خود خبر دار
زكوه قاف جسمانى كذر كن ... بدار الملك روحانى سفركن
مشو مغرور اين ملك مزور ... نه عزت ماند ونه مال ونه زر
اكر رنكت فروشويند زرخسار ... خريدارت بنامش كس ببازار
عصمنا الله واياكم من الركون الى الدنيا وموت القلب بالاصرار على الهوى فى الصبح والمساء(2/425)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
{ وليست التوبة للذين يعملون السيآت } اى الذنوب { حتى اذا حضر احدهم الموت } اى وقع فى سكرات الموت وشاهد ملك الموت سوى علاماته فان التوبة تقبل فيها { قال } عند النزع ومشاهدة ما فيه { انى تبت الآن } من ذنوبى يعنى لا يقبل التوبة منه ثمة لانها حالة الاضطرار دون حالة الاختيار { ولا الذين يموتون } عطف على الذين يعملون السيآت اى ليست التوبة للذين ماتوا { وهم كفار } مصرون على كفرهم اذا تابوا عند قرب الموت او عند معاينة العذاب فى الآخرة { اولئك } اى الفريقان { اعتدنا } اصله اعددنا ابدلت الدال الاولى تاء { لهم عذابا اليما } اى هيأنا لهم عذابا وجيعا دائما
اعلم ان الله تعالى سوى بين من سوف التوبة واخرها الى حضور الموت من الفسقة وبين من مات على الكفر فى نفى التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها فى تلك الحالة كأنه قال توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء فى انه لا توبة لهم لان حضرة الموت اول احوال الآخرة فكما ان الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين فكذلك المسوف الى حضرة الموت لعدم محلها وتلك التسوية لكيلا يهمل المذنب فى امر التوبة ولا يتأهل العاقل فى المسارعة الى طلب المغفر : قال جلال الدين رومى قدس سره
كرسيه كردى تونامه عمر خويش ... توبه كن زانهاكه كردستى توبيش
توبه آرند وخدا توبه بذير ... امر او كيرند واو نعم الامير
واذا هب من الله رياح العناية تجد العبد يسرع الى التوبة ويمد نفسه الى اسبابها ويتأثر بشىء يسير فيتوب عن قبح معاملته
قال ابو سليمان الدارانى اختلفت الى مجلس قاص فأثر فى قلبى كلامه فلما قمت لم يبق فى قلبى شىء فعدت ثانيا فبقى اثر كلامه فى قلبى حتى رجعت الى منزلى وكسرت آلة المخالفات ولزمت الطريق فحكى هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا اراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركى ابا سليمان
مرد بايد كيرداندر كوش ... ورنوشته اسد بند برديوار
قال تعالى { وسارعوا الى مغفرة من ربكم } فمسارعة المذنب بالتوبة وترك الاصرار والرجوع الى باب الملك الغفار ومسارعة المطيع بالاجتناب عن السيآت وزيادة الخيرات والحسنات قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « صاحب اليمين امين عل صاحب الشمال فاذا عمل العبد حسنة يكتب له صاحب اليمني عشرا »
نكوكارى از مردم نيك رأى ... يكى رابده مى نويسد خداى
« واذا عمل سيئة واراد صاحب الشمال ان يكتب قال صاحب اليمين امسك فيمسك ست ساعات او سبع ساعات فان استغفر فيها لم يكتب عليه وان لم يستغفر كتب سيئة واحدة » فالواجب على كل مسلم ان يتوب الى الله حين يصبح وحين يمسى ولا يؤخرها(2/426)
قال ابو بكر الواسطى قدس سره التأنى فى كل شىء حسن الا فى ثلاث خصال عند وقت الصلاة وعند دفن الميت والتوبة عند المعصية وكان فى الامم الماضية اذا اذنبوا حرم عليهم حلال واذا اذنب واحد منهم ذنبا وحد على بابه او جبهته مكتوبا ان فلان ابن فلان قد اذنب كذا وتوبته كذا فسهل الله الامر على هذه الامة فقال { ومن يعمل سوأ او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } روى ان الله لما لعن ابليس سأله النظرة فانظره اى امهله الى قيام الساعة فقال انظر ماذا ترى فقال وعزتك وجلالك لا اخرج من صدر عبدك حتى تخرج نفسه فقال الرب وعزتى وجلالى لا أحجب التوبة عن عبدى حتى تخرج نفسه فانظر الى رحمة الله ورأفته على عباده انه سماهم مؤمنين بعدما اذنبوا فقال { وتوبوا الى الله جميعا ايه المؤمنون } وأحبهم بعد التوبة فقال { ان الله يحب المتطهرين } قال الحافظ قدس سره
بمهلتى كه سبهرت دهد زراه مرو ... تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كفت
فينبغى ان لا يغتر الانسان بشىء من الاشياء فى حال من الاحوال فانه وان كان يمهل ولكن لا يهمل فان الموت يجيئ البتة اذا فنى العمر وامتلأ الاناء(2/427)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{ يا ايها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها } مصدر فى موضع الحال من النساء كان الرجل اذا مات قريبه يلقى ثوبه على امرأته او على خبائها ويقول ارث امرأته كما ارث ماله فيصير بذلك احق بها من كل احد ثم ان شاء تزوجها بصداقها الاول وان شاء زوجها غيره واخذ صداقها ولم يعطها منه شيأ وان شاء عضلها اى حبسها وضيق عليها لتفتدى بما ورثت من زوجها وان ذهبت المرأة الى اهلها قبل القاء الثوب فهى احق بنفسه فنهوا عن ذلك وقيل لهم لا يحل لكم ان تأخذوهن بطريق الارث على زعمكم كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك { ولا تعضلوهن } عطف على ترثوا ولا لتأكيد النفى والخطاب للازواج . والعضل الحبس والتضييق وداء عضاء ممتنع عسر العلاج وكان الرجل اذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر وضيق عليها لتفتدى منه بمالها وتخلع فقيل لهم ولا تعضلوهن اى لا تضيقوا عليهن { لتذهبوا ببعض ما تيتموهن } اى من الصداق بان يدفعن اليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن { الا ان يأتين بفاحشة مبينة } من بين بمعنى تبين اى القبح من النشوز وشكاسة الخلق وايذاء الزوج واهله بالبذاء اى الفحش والسلاطة اى حدة اللسان او الفاحشة الزنى وهو استثناء من اعم الاحوال او اعم الاوقات او اعم العلل ولايحل لكم عضلهن فى حال من الاحوال او فى وقت من الاوقات او لعلة من العلل الا فى حال اتيانهن بفاحشة او الا فى وقت اتيانهن بها او الا لاتيانهن بها فان السبب حينئذ يكون من جهتهن وانتم معذورون فى طلب الخلع { وعاشروهن بالمعروف } خطاب للذين يسيئون العشرة معهن . والمعروف ما لا ينكره الشرع والمروءة والمراد ههنا النصفة فى المبيت والنفقة والاجمال فى القول ونحو ذلك { فان كرهتموهن } وسئمتم صحبتهن بمقتضى الطبيعة من غير ان يكون من قبلهن ما يوجب ذلك من الامور المذكورة فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس واصبروا على معاشرتهن { فعسى ان تكرهوا شيأ ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } والمراد بالخير الكثير ههنا الولد الصالح او المحبة والألفة والصلاح فى الدين وهو علة للجزاء اقيمت مقامه للايذان بقوة استلزامها اياه كأنه قيل فان كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه . وعسى تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن تقدير الخبر اى فقد قربت كراهتك شيأ وجعل الله فيه خيرا كثيرا فان النفس ربما تكره ما هو اصلح فى الدين واحمد قاعبة وادنى الى الخير وتحب ما هو بخلافه فليكن نظركم الى ما فيه خير وصلاح دون ما انفسكم
اعلم ان معاشرتهن بالمعروف والصبر عليهن فيما لا يخالف رضى الله تعالى والا فالرد من مواضع الغيرة واجب فان الغيرة من اخلاق الله واخلاق الانبياء والاولياء قال عليه السلام(2/428)
« أتعجبون من غيرة سعد وانا اغير منه والله اغير منى ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » اى ما كان من اعمال الظاهر وهو ظاهر واحوال الباطن وهو الركون الى غير الله والطريق المنبىء عن الغيرة ان لا يدخل عليها الرجال ولا تخرج هى الى الاسواق دون الحمام قال الامام قاضى خان دخول الحمام مشروع للرجال والنساء خلافا لما قاله البعض روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الحمام وتنور وخالد بن وليد دخل حمام حمص لكن انما يباح اذا لم يكن فيه انسان يكشف العورة انتهى والناس فى زماننا لا يمتنعون عن كشف العورة اعاليهم واسافلهم فالمتقى يجتنب عن الدخول فى الحمام من غير عذر والحاصل ان المرأة اذا برئت من مواقع الخلل واتصفت بالعفة فعلى الزوج ان يعاشرها بالمعروف ويصبر على سائر اوضاعها وسوء خلقها بخلاف ما اذا كانت غير ذلك : قال الشيخ السعدى
جومستور باشد زن خوبروى ... بديدار اودربهشت است شوى
اكربارساباشد وخوش سخن ... نكه درنكويى وزشتى مكن
جوزن راه بازار كيرد بزن ... وكرنه تودر خانه بنشين جوزن
زبيكانكان جشم زن كور باد ... جو بيرون شداز خانه در كورباد
شكوهى نماند دران خاندان ... كه بانك خروش آيدازما كيان
كريز ازكفش دردهان نهنك ... كه مردن به اززندكانى به ننك
ثم اعلم ان معاملة النساء اصعب من معاملة الرجال لانهن ارق دينا واضعف عقلا واضيق خلقا فحسن معاشرتهن والصبر عليهن مما يحسن الاخلاق فلا جرم يعد الصابر من المجاهدين فى سبيل الله وكان عليه السلام يحسن المعاشرة مع ازواجه المطهرة روى ان بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته الى ان ماتت وعرض عليه التزوج فامتنع وقال الوحدة اروح لقلبى قال فرأيت فى المنام بعد جمعة من وفاتها كأن ابواب السماء قد فتحت وكأن رجالا ينزلون ويسيرون فى الهواء يتبع بعضهم بعضا وكلما نظر الى واحد منهم يقول لمن وراءة هذا هو المشئوم فيقول الآخر نعم ويقول الثالث كذلك فخفت ان اسألهم الى ان مرّ بى آخرهم فقلت له من هذا المشئوم قال انت قال فقلت ولم قال كنا نرفع عملك مع اعمال المجاهدين فى سبيل الله فمنذ جمعة امرنا ان نضع عملك مع الخالقين فلا ندرى ما احدثت فقال لاخوانه زوجونى فلم يكن يفارقه زوجتان او ثلاث وكثرة النساء ليست من الدنيا لان الزهاد والعباد كانوا يتزوجون ثلاثا واربعا قال صلى الله عليه وسلم(2/429)
« حبب الى من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عينى فى الصلاة »
قال بعض ارباب الاحوال كنت بمجلس بعض القصاص فقال ما سلم احد من الهوى ولا فلان وسمى بمن لا يليق ذكره فى هذا المقام لعظم الشأن فقلت اتق الله فقال ألم يقل « حبب الى » فقلت ويحك انما قال حبب ولم يقل احببت قال ثم خرجت بالهم فرأيت النبى عليه السلام فقال لا تهتم فقد قتلناه قال فخرج ذلك القاص الى بعض القرى فقتله بعض قطاع الطريق
فقال بعض العلماء اكثاره عليه السلام فى امر النكاح بفعل بواطن الشريعة
قال الحكيم الترمذى فى نوادر الاصول الانبياء زيدوا فى القوة بفضل نبوتهم وذلك ان النور اذا امتلأت منه الصدور ففاض فى العروق التذت النفس والعروق فاثار الشهوة وقواها واما الطيب فانه يزكى الفؤاد ويقوى القلب واصل الطيب انما خرج من الجنة بهبوط آدم منها بورقة تستر بها فتركت عليه . واما الصلاة فهى مناجاة الله كما قال عليه السلام « المصلى يناجى ربه » فاذا عرفت حقيقة الحال فاياك والانكار فان كل عمل عند الاخيار له سر من الاسرار ولكن عقول العوام لا تحيط به وان عاشوا الف عام : قال مولانا جلال الدين قدس سره
ازمحقق تامقلد فرقهاست ... كين جوداودست وآن ديكرصداست
كار درويشى وراى فهم تست ... سوى درويشان بمنكر سست سست(2/430)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{ وان اردتم استبدال زوج } اى تزوج امرأة ترغبون فيها { مكان زوج } ترغبون عنها بان تطلقوها { وآتيتم احداهن } اى احدى الزوجات فالمراد بالزوج هو الجنس { قنطارا } اى مالا كثيرا { فلا تأخذوا منه } اى ذلك القنطار { شيأ } يسيرا فضلا عن الكثير { أتأخذونه } اى شيأ منه { بهتانا } باهتين او مفعول له اى للبهتان والظلم العظيم فان احدهم كان اذا تزوج امرأة فاعجبه غيرها واراد ان يتزوجها بهت التى تحته بفاحشة حتى يلجئها الى الافتداء منه بما اعطاها ليصرفه الى تزويج الجديدة فنهوا عن ذلك . والبهتان فى اللغة الكذب الذى يواجه الانسان به صاحبه على جهة المكابرة وصاله من بهت الرجل اذا تحير فالبهتان الكذى الذى يبهت المكذوب عليه ويدهشه وقد يستعمل فى الفعل الباطن ولذلك فسر ههنا بالظلم { واثما مبينا } اى آثمين عيانا او للذنب الظاهر(2/431)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
{ وكيف تأخذونه } اى لأى وجه ومعنى تفعلون هذا { وقد } والحال انه قد { افضى بعضكم الى بعض } قد جرى بينكم وبينهن احوال منافية له من الخلوة وتقرر المهر وثبت حق خدمتهن لكم وغير ذلك { واخذن منكم ميثاقا غليظا } عطف على ما قبله داخل فى حكمه اى أخذن منكم عهدا وثيقا وهو حق الصحبة والممازجة والمعاشرة او ما اوثق الله عليكم فى شأنهن بقوله تعالى { فامساك بمعروف او تسريح باحسان } او ما اشار اليه النبى عليه السلام بقوله « اخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله »
اعلم ان هذه المعاملات من تضييق النساء ومنعهن من الازواج واخذ ما فى ايديهن ظلما بعدما اخذن ميثاقا غليظا فى رعاية حقوقهن كلها وامثالها ليست من امارة الايمان ونتائجه وثمراته لان المؤمن اخ المؤمن لا يظلمه ولا يشتمه قال عليه السلام « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » وقال « الدين النصيحة » وقد صرح بنفى الايمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه قال صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه من الخير »
هر آنكه تخم بدى كشت وجشم نيكى داشت ... دماغ بيهده بخت وخيال باطل بست
زكوش ينبه برون آر وداد خلق بده ... اكر تو مى ندهى داد روز دادى هست
فعلى المرء ان ينصف فى جميع احواله للاجانب خصوصا الاقارب والازواج فان تحرى العدل لهم من الواجبات
واعلم ان الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة فى المهر لان قوله تعالى { وآتيتم احداهن قنطارا } لا يدل على جواز ايتاء القنطار كما ان قوله { لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا } لا يدل على حصول الآلهة
والحاصل انه لا يلزم من جعل الشىء شرطا لشىء آخر كون ذلك الشرط فى نفسه جائز الوقوع كذا قال الامام فى تفسيره ويؤيد ما قيل فى مرشد المتاهلين ان المرأة التى يراد نكاحها يراعى فيها خفة المهور قال صلى الله عليه وسلم « خير نسائكم احسنهن وجوها واخفهن مهورا » وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على عشرة دراهم واثاث البيت وكان رحى وجرة ووسادة من اديم حشوها ليف وفى الخبر « من بركة المرأة سرعة تزوجها وسرعة رحمها الى الولادة ويسر مهرها » ولا بد للرجل ان يوفيها صداقها كملا او ينوى ذلك فمن نوى ان يذهب بصداقها جاء يوم القيامة زانيا كما ان من استدان دينا وهو ينوى ان لا يقضيه يصير سارقا ولا يماطل مهرها الا ان يكون فقيرا او تؤجله المرأة طوعا ويعلمها احكام الطهارة والحيض والصلاة وغير ذلك بقدر ما تؤدى به الواجب ويلقنها اعتقاد اهل السنة ويردها عن اعتقاد اهل البدعة وان لم يعلم فليسأل ولينقل اليها جواب المفتى وان لم يسأل فلا بد لها من الخروج للسؤال ومتى علمها الفرائض فليس لها الخروج الى تعلم او مجلس ذكر الا برضاه فمهما اهمل المرء حكما من احكام الدين ولم يؤدبها ولم يعلمها او منعها عن التعلم شاركها فى الاثم وفى الحديث « اشد الناس عذابا يوم القيامة من اجهل اهله » قال عليه السلام « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته »(2/432)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ذكر ما دون ما لانه اريد به الصفة . وقوله من النساء بيان لما نكح واسم الآباء ينتظم الاجداد مجازا كان اهل الجاهلية يتزوجون بازواج آبائهم فنهوا عن ذلك اى لا تنكحوا التى نكحها آباؤكم { الا ما قد سلف } استثناء مما نكح مفيد للمبالغة فى التحريم باخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال اى لا تنكحوا حلائل آبائكم الا من ماتت منهن والمقصود سد طريق الاباحة بالكلية ونظيره قوله تعالى { حتى يلج الجمل فى سم الخياط } { انه } اى نكاحهن { كان فاحشة } اى فعلة قبيحة ومعصية شديدة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم { ومقتا } ممقوتا عند ذوى المروآت والمقت اشد البغض { وساء سبيلا } نصب على التمييز اى بئس السبيل سبيل من يراه ويفعله فانه يؤدى صاحبه الى النار
قيل مراتب القبح ثلاث . القبح العقلى واليه اشير بقوله { انه كان فاحشة } . والقبح الشرعى واليه اشير بقوله { مقتا } . والقبح العادى واليه الاشارة بقوله { وساء سبيلا } ومتى اجتمعت فيه هذه المراتب فقد بلغ اقصى مراتب القبح
والاشارة فى الآية ان الآباء هى العلويات والامهات هى السفليات وبازدواجهما خلق الله تعالى المتولدات منهما فيما بينهما ففى قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } اشارة الى نهى التعلق والتصرف فى السفليات التى هى الامهات المتصرفة فيها آباؤكم العلوية { الا ما قد سلف } من التدبير الآلهى فى ازدواج الارواح والاشباح فالحاجات الضرورية للانسان مسيسة به { انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } يعنى التصرف فى السفليات والتعلق بها والركون اليها مما يلوث الجوهر الروحانى بلوث الصفات الحيوانية ويجعله سفلى الطبع بعيدا عن الحضرة محبا للدنيا ناسيا للرب ممقوتا للحق وساء سبيلا الى الهداية بالضلالة : قال حافظ
غلام همت آنم كه زير جرخ كبود ... زهرجه رنك تعلق بذيرد آزاداست
قال مولانا الجامى
اى كه درشرع خداوندان حال ... ميكنى ازسنت وفرضم سؤال
سنت آمد دل زدنيا تافتن ... فرض راه قرب مولا يافتن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان اقرب الناس مجلسا الى الله يوم القيامة من طال حزنه وجوعه فى الدنيا افترش الناس الفراش وافترش الارض فالراغب من رغبت فى مثل ما رغبوا والخاسر من خالفهم اكلوا الشعير ولبسوا الخرق وخرجوا من الدنيا سالمين » قال مولانا جلال الدين
هركه محجوبست اوخود كودكيست ... مرد آن باشدكه بيرون از شكيست
اى خنك آنكه جهادى ميكند ... بر بدن زجرى ودادى ميكند
اى بساكارا كه اول صعب كشت ... بعد ازان بكشاده شد سختى كذشت
اندرين ره مى تراش و مى خراش ... تا دمى آخر دمى فارغ مباش(2/433)
قال ابو على الدقاق رحمه الله من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سريرته بالمشاهدة قال الله تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } واعلم ان من لم يكن فى بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة
قال ابو الحسن الوراق كان اجل احكامنا فى مبادى امرنا فى مسجد ابى عثمان الايثار حتى يفتح علينا وان لا نبيت على معلوم ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لانفسنا بل نعتذر اليه ونتواضع له واذا وقع فى قلوبنا حقارة لأحد قمنا فى خدمته والاحسان اليه حتى يزول
قال ابو حفص ما اسرع هلاك من لا يعرف عيبه فان المعاصى بريد الكفر
عيب رندان مكن اى زاهد باكيزه سرشت ... كه كناه دكران برتونخواهند نوشت
من اكرنيكم وكربدتو برخود را باش ... هركسى آن درود عاقبت كاركه كشت(2/434)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
{ حرمت عليكم أمهاتكم } اى نكاحهن لان المفهوم فى العرف من حرمة كل شىء ما هو الغرض المقصود منه فيفهم من تحريم النساء تحريم نكاحهن كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ومن تحريم لحم الخنزير تحريم اكله . والامهات تعم الجدات وان علون من الاب والام او من قبل احدهما { وبناتكم } الصلبية وبنات الاولاد وان سفلن { واخواتكم } من قبل الاب والام او من قبل احدهما فيتضمن الاخوات من الجهات الثلاث
واعلم ان حرمة الامهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام الى هذا الزمان ولم يثبت حل نكاحهن فى شىء من الاديان الآلهية بل ان زرادشت رسول المجوس قال بحله الا ان اكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا اما نكاح الاخوات فقد نقل ان ذلك كان مباحا فى زمن آدم عليه السلام وانما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة
وذكر العلماء ان السبب لهذا التحريم ان الوطء اذلال واهانة فان الانسان يستحيى من ذكره ولا يقدم عليه الا فى الموضع الخالى واكثر انواع الشتم لا يكون الا بذكره واذا كان الامر كذلك وجب صون الامهات عنه لان انعام الام على الولد اعظم وجوه الانعام فوجب صونها عن هذا الاذلال والبنت جزؤ من الانسان وبعض منه فيجب صونها عن هذا الاذلال لان المباشرة معها تجرى مجرى الاذلال وكذا القول فى البقية ذكره الامام فى تفسيره { وعماتكم } العمة كل انثى ولدها من ولد والدك قريبا او بعيدا { وخالاتكم } الخالة كل انثى ولدها من ولد والدتك قريبا او بعيدا يعنى العمات تعم اخوات الآباء والاجداد وكذا الخالات تعم اخوات الامهات والجدات سواء كن من قبل الاب والام او من قبل احدهما { وبنات الاخ وبنات الاخت } من كل جهة ونوافلهما وان بعدت
واعلم ان الله تعالى نص على تحريم اربعة عشر صنفا من النسوان سبع منهن من جهة النسب وهن هذه المذكورات وسبع اخرى من جهة السبب والى تعدادها شرع فقال { وامهاتكم اللاتى ارضعنكم واخواتكم من الرضاعة } اى حرم نكاح الامهات والاخوات كلتاهما من الرضاعة كما حرمتا من النسب نزل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة اما للرضيع والمراضعة اختا وكذلك زوج المرضعة ابوه وابواه وجداه واخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم اخوته واخواته لأبيه وام المرضعة جدته واختها خالته وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم اخوته واخواته لأبيه وامه ومن ولد لها من غيره فهم اخوته واخواته لأمه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وهو حكم كلى جار على عمومه واما ام اخيه لأب واخت ابنه لأم وام ام ابنه وام عمه وام خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى تحل بعمومه ضرورة حلهن فى صور الرضاع بل من جهة المصاهرة ألا يرى ان الاولى موطوءة ابيه والثانية بنت موطوءته والثالثة ام موطوءته والرابعة موطوءة جده الصحيح والخامسة موطوءة جده الفاسدة { وامهات نسائكم } المراد بالنساء المنكوحات على الاطلاق سواء كن مدخولا بهن ام لا وعليه جمهور العلماء وقد روى عن النبى عليه السلام انه قال فى رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها(2/435)
« انه لا بأس بان يتزوج ابنتها ولا يحل له ان يتزوج امها » ويلحق بهن الموطوآت بوجه من الوجوه المعدودات فيما سبق آنفا والممسوسات ونظائرهن وامهات تعم المرضعات كما تعم الجدات { وربائبكم اللاتى فى حجوركم } اى حرم نكاح الربائب جمع ربيبة والربيب ولد المرأة من آخر سمى به لانه يربه كما يرب ولده فى غالب الامر فعيل بمعنى مفعول والتاء للنقل الى الاسمية
قال الامام والحجور جمع حجر وفيه لغتان قال ابن السكيت حجر الانسان وحجره بالفتح والكسر هو ما يجمع على فخذيه من ثوبه والمراد بقوله فى حجوركم اى فى تربيتكم يقال فلان فى حجر فلان اذا كان فى تربيته والسبب فى هذه الاستعارة ان كل من ربى طفلا اجلسه فى حجره فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال فلان فى حضانة فلان وصاله من الحضن الذى هو الابط ثم ان كون التربية فى حجر الرابّ ليس بشرط للحرمة عند جمهور العلماء والوصف فى الآية خرج على الاغلب لانهن كن لا يتزوجن غالبا اذا كانت لهن اولاد كبار ويتزوجن مع الاولاد الصغار ليستعن بالازواج على تربية الاولاد فخرج الكلام مخرج الغالب لا على الاشتراط كما فى قوله تعالى { ولا تباشروهن وانتم عاكفون فى المساجد } والباشرة فى غير المساجد حالة الاعتكاف حرام ايضا { من نسائكم اللاتى دخلتم بهن } اى كائنة تلك الربائب من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فمن متعلقة بمحذوف وقع حالا من ربائبكم ومعنى الدخول بهن ادخالهن الستر والباء للتعدية وهى كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب وفى حكم الدخول اللمس ونظائره { فان لم تكونوا } اى فيما قبل { دخلتم بهن } اصلا { فلا جناح عليكم } اى فى نكاح الربائب اذا فارقتموهن اى امهاتهن او متنّ وهو تصريح بما اشعر به قبله { وحلائل ابنائكم } اى وحرم عليكم زوجات ابنائكم سميت الزوجة حليلة لحلها للزوج او لحلولها فى محله وقيل لحل كل منهما ازار صاحبه وفى حكمهن مزنياتهم ومن يجرى مجراهن من الممسوسات ونظائرهن { الذين من اصلابكم } لاخراج الادعياء دون ابناء الاولاد والابناء من الرضاع فانهم وان سفلوا فى حكم الابناء الصلبية فالمتبنى اذا فارق امرأته يجوز للمتبنى نكاحها وقد تزوج النبى عليه السلام زينب ابنة جحش الاسدية بنت عمته امينة ابنة عبد المطلب حين فارقها زيد حارثة وكان قد تبناه وادعاه ابنا فعيره المشركون بذلك لان المتبنى فى ذلك الوقت كان بمنزلة الابن فانزل الله تعالى(2/436)
{ ما كان محمد ابا احد من رجالكم } وقوله تعالى { وما جعل ادعياءكم ابناءكم } { وان تجمعوا بين الاختين } اى وحرم عليكم الجمع بين الاختين فى النكاح لا فى ملك اليمين واما جمعهما فى الوطء بملك اليمين فيلحق به بطريق الدلالة لاتحادهما فى المدار { الا ما قد سلف } استثناء منقطع اى لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به { ان الله كان غفورا } لمن فعل ذلك فى الجاهلية { رحيما } لمن تاب من ذنوبه واطاع لامر ربه فى الاسلام(2/437)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{ والمحصنات } هن ذوات الازواج احصنهن التزوج او الازواج او الاولياء اى اعفهن عن الوقوع فى الحرام
وقد ورد الاحصان فى القرآن بازاء اربعة معان . الاول التزوج كما فى هذه الآية . والثانى العفة كما فى قوله { محصنين غير مسافحين } . والثالث احرية كما فى قوله { ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات } والرابع الاسلام كما فى قوله { فاذا احصن } قيل فى تفسيره اى اسلمن وهى معطوفة على المحرمات السابقة اى وحرم عليكم ذوات الازواج كائنات { من النساء } وفائدته تأكيد عمومها لا دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للانفس كما توهم { الا ما ملكت ايمانكم } يريد ما ملكت ايمانكم من اللاتى سبين ولهن الازواج فى دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين ان كن محصنات
قال نجم الدين الكبرى قدس سره ان الله تعالى حرم المحصنات من النساء على الرجال عفة للحصانة وصحة للنسب ونزاهة لعرض الرجال عن خسة الاشتراك فى الفراش علوا للهمة فان الله يحب معالى الامور ويبغض سفاسفها وقال { الا ما ملكت ايمانكم } يعنى ملكتم بالقوة والغلبة على ازواجهن من الكفار واقتطاعهن من حيز الاشتراك وافساد نسب الأولاد وتخليطه ولهذا اوجب الشرع فيها الاستبراء بحيضة { كتاب الله عليكم } مصدر مؤكد اى كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا وفرضه فرضا { واحل لكم } عطف على حرمت عليكم وتوسيط قوله { كتاب الله عليكم } بينهما للمبالغة فى الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة { ما وراء ذلكم } اشارة الى ما ذكر من المحرمات المعدودة اى احل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا وخص منه بالسنة ما فى معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاح والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها { ان تبتغوا } متعلق بالفعلين المذكورين اى حرمت واحل على انه مفعول له لكن لا باعتبار بيانهما واظهارهما اى بين لكم تحريم المحرمات المعدودة واحلال ما سواهن ارادة ان تبتغوا النساء اى تطلبوهن { باموالكم } بصرفها الى مهورهن او اثمانهن { محصنين } حال من فاعل تبتغون والاحصان من العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب { غير مسافحين } حال ثانية منه والسفاح الزنى والفجور من السفح الذى هو صب المنى سمى به لانه الغرض منه ومفعول الفعلين محذوف اى محصنين فروجكم غير مسافحين الزوانى وهى فى الحقيقة حال مؤكدة لان المحصن غير مسافح البتة والمعنى لا تضيعوا اموالكم فى الزنى لئلا يذهب دينكم ودنياكم ولكن تزوجوا بالنساء فهو خير لكم وذكر الاموال يدل على ان غير المال لا يصلح مهرا وان القليل لا يكفى مهرا فان الدرهم ونحوه لا يسمى مالا ثم هو عندنا لا يكون اقل من عشرة دراهم قال صلى الله عليه وسلم(2/438)
« لا مهر اقل من عشرة » { فما استمتعتم به منهن } اى فالذى انتفعتم به من النساء بالنكاح الصحيح من جماع او خلوة صحيحة او غير ذلك { فآتوهن اجورهن } مهورهن فان المهر فى مقابلة الاستمتاع { فريضة } حال من الاجور بمعنى مفروضة { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } اى فى ان تراضيتم بعد النكاح على زيادة المهر من جانب الزوج او على الحط من المهر من جانب الزوجة وان تهب لزوجها جميع مهرها { من بعد الفريضة } اى بعد المفروضة للزوجة { ان الله كان عليما } بمصالح العباد { حكيما } فيما شرع لهم من الاحكام ولذلك شرع لكم هذه الاحكام اللائقة بحالكم
اعلم ان المحرم عندنا من حرم نكاحه على التأبيد بنسب او مصاهرة او رضاع ولو بوطء حرام فخرج بالاول ولد العمومة والخؤولة وبالثانى اخت الزوجة وعمتها وخالتها وشمل ام المزنى بها وبنتها وابا الزانى وابنه واحكامه تحريم النكاح وجواز النظر والخلوة والمسافرة الا المحرم من الرضاع فان الخلوة بها مكروهة وكذا بالصهرة الشابة وحرمة النكاح على التأبيد لا مشاركة للمحرم فيها فان الملاعنة تحل اذا كذب نفسه او خرج من اهلية الشهادة والمجوسية تحل بالاسلام او بتهودها او تنصرها والمطلقة ثلاثا بدخول الثانى وانقضاء عدته ومنكوحة الغير بطلاقها وانقضاء عدتها ومعتدة الغير بانقضائها وكذا لا مشاركة للمحرم فى جواز النظر والخلوة والسفر واما عبدها فكالأجنبى على المعتمد لكن الزوج يشارك المحرم فى هذه الثلاثة والنساء الثقات لا يقمن مقام المحرم والزوج فى السفر
ويختص المحرم النسيب باحكام . منها عتقه على قريبه لو ملكه ولا يختص بالاصل والفرع . ومنها وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغنى فلا بد من كونه رحما من جهة القرابة فابن العم والاخ من الرضاع لا يعتق ولا تجب نفقته ويغسل المحرم قريبه . ومنها انه لا يجوز التفريق بين الصغير ومحرم ببيع او هبة الا فى عشر مسائل . ومنها ان المحرمية مانعة من الرجوع فى الهبة
وتختص الاصول والفروع من بين سائر المحارم باحكام . منها انه لا يقطع احدهما بسرقة مال الآخر . ومنها لا يقضى ولا يشهد احدهما للآخر . ومنها تحريم موطوءة كل منهما على الآخر ولو بزنى . ومنها تحريم منكوحة كل منهما على الآخر بمجرد العقد . ومنها لا يدخلون فى الوصية للاقارب
وتختص الاصول باحكام . منها لا يجوز له قتل اصله الحربى الا دفعا عن نفسه وان خاف رجوعه ضيق عليه والجأه ليقتله غيره وله قتل فرعه الحربى كمحرمه . ومنها لا يقتل الاصل بفرعه ويقتل الفرع باصله . ومنها لا يحد الاصل بقذف فرعه ويحد الفرع بقذف اصله . ومنها لا تجوز مسافرة الفرقع الا باذن اصله دون عكسه . ومنها لو ادعى الاصل ولد جارية ابنه ثبت نسبه والجد اب الاب كالاب عند عدمه بخلاف الفرع اذا ادعى ولد جارية اصله لم يصح الا بتصديق الاصل .(2/439)
ومنها لا يجوز الجهاد الا باذنهم بخلاف الاصول لا يتوقف جهادهم على اذن الفروع . ومنها لا تجوز المسافرة الا باذنهم ان كان الطريق مخوفا والا فان لم يكن ملتحيا فكذلك والا فلا . ومنها اذا دعا احد ابويه فى الصلاة وجبت اجابته الا ان يكون عالما بكونه فيها ولم ار حكم الاجداد والجدات وينبغى الالحاق ومنها كراهة حجه بدون اذن من كرهه من ابويه ان احتاج الى خدمته . ومنها جواز تأديب الاصل فرعه والظاهر عدم الاختصاص بالأب فالأم والاجداد والجدات كذلك . ومنها تبعية الفرع للاصل فى الاسلام . ومنها لا يحبسون بدين الفرع والأجداد والجدات كذلك واختصت الاصول الذكور بوجوب الاعفاف
واختص الأب والجد لأب باحكام . منها ولاية المال فلا ولاية للام فى مال الصغير الا الحفظ وشراء ما لا بد منه للصغير . ومنها تولى طرفى العقد فلو باع الأب ماله من ابنه او اشترى وليس فيه غبن فاحش انعقد بكلام واحد . ومنها عدم خيار البلوغ فى تجويز الأب والجد فقط واما ولاية الانكاح فلا تختص بهما فتثبت لكل ولى سوءا كان عصبة او من ذوى الأرحام
وكذا الصلاة فى الجنازة لا تختص بهما
وفى الملتقط من النكاح لو ضرب المعلم الولد باذن الأب فهلك لم يغرم الا ان يضربه ضربا لا يضرب مثله ولا ضرب باذن الأم غرم الدية اذا هلك والجد كالأب عند فقده الا فى ثنتى عشرة مسألة فائدة يترتب على النسب اثنا عشر حكما توريث المال والولاء وعدم صحة الوصية عند المزاحمة ويلحق بها الاقرار بالدين فى مرض موته وتحمل الدية وولاية التزويج وولاية غسل الميت والصلاة عليه وولاية المال وولاية الحضانة وطلب الحد وسقوط القصاص هذا كله من الاشباه والنظائر نقلته ههنا لفوائده الكثيرة وملاءمته المحل على ما لا يخفى(2/440)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات } من لم يستطع اى من لم يجد كما يقول الرجل لا استطيع ان احج اى لا اجد ما احج به . ومنكم حال من فاعل يستيطع اى حال كونه منكم . والطول القدرة وانتصابه على انه مفعول يستطيع وان ينكح فى موضع النصب على انه مفعول القدرة والمراد بالمحصنات الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات فان حريتهن احصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان والمعنى ومن لم يجد طول حرة اى ما يتزوج به الحرة المسلمة { فمن ما ملكت ايمانكم } فلينكح امرأة او امة من النوع الذى ملكته ايمانكم { من فتياتكم المؤمنات } حال من الضمير المقدر فى ملكت الراجع الى ما اى من امائكم المسلمات . والفتاة اصلها الشابة والفتاء بالمد الشباب والفتى الشاب والامة تسمى فتاة والعبد يسمى فتى وان كانا كبيرين فى السن لانهما لا يوقران للرق توقير الكبار ويعاملان معاملة الصغار { والله اعلم بايمانكم } تأنيس بنكاح الاماء وزالة الاستنكاف منه اى اعلم بتفاضل ما بينكم وبين ارقائكم فى الايمان فربما كان ايمان الامة ارجح من الايمان الحرة وايمان المرأة من ايمان الرجل
فلا ينبغى للمؤمن ان يطلب الفضل والرجحان الا باعتبار الايمان والاسلام لا بالاحساب والأنساب { بعضكم من بعض } انتم وارقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الاسلام كما قيل
الناس من جهة التمثال اكفاء ... ابوهمو آدم والام حواء
فبينكم وبين ارقائكم المواخاة الايمانية والجنسية الدينية لا يفضل حر عبدا الا برجحان فى الايمان وقدم فى الدين { فانكحوهن باذن اهلهن } اى واذ قد وقفتم على جلية الامر فانكحوهن باذن مواليهن ولا تترفعوا عنهن وفى اشتراط اذن الموالى دون مباشرتهم للعقد اشعار بجواز مباشرتهن له { وآتوهن اجورهن بالمعروف } اى ادوا اليهن مهورهن بغير مطل وضرار والجاء الى الافتداء واللز اى المضايقة والالحاح { محصنات } حال من مفعول فانكحوهن اى حال كونهن عفائف عن الزنى { غير مسافحات } حال مؤكدة اى غير مجاهرات به والمسافح الزانى من السفح وهو صب المنى لان غرضه مجرد صب الماء { ولا متخذات اخدان } جمع خدن وهو الصديق سرا والجمع للقابلة بالانقسام على معنى ان لا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى ان لا يكون لها اخدان اى غير مجاهرات بالزنى ولا مسرات له وكان زناهن فى الجاهلية من وجهين السفاح وهو بالاجر من الراغبين فيها والمخادنة وهى مع صديق لها على الخصوص وكان الاول يقع اعلانا والثانى سرا وكانوا لا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية ولذا افرد الله كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على حرمتهما معا { فاذا احصن } اى بالتزويج { فان اتين بفاحشة } اى فعلن فاحشة وهى الزنى { فعليهن } فثابت عليهن شرعا { نصف ما على المحصنات } اى الحرائر الابكار { من العذاب } من الحد الذى هو جلد مائة فنصفه خمسون كما هو كذلك قبل الاحصان فالمراد بيان عدم تفاوت حدهن بالاحصان كتفاوت حد الحرائر ولا رجم عليهن لان الرجم لا ينتصف وجعلوا حد العبد مقيسا على الامة والجامع بينهما الرق والاحصان عبارة عن بلوغ مع عقل وحرية ودخول فى نكاح صحيح واسلام خلافا للشافعى فى الاسلام { ذلك } اى نكاح المملوكات عند عدم الطول لمن { خشى العنت منكم } اى خاف الزنى وهو فى الاصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر اعظم من موافقة الاسم بافحش القبائح وانما سمى الزنى به لانه سبب المشقة بالحد فى الدنيا والعقوبة فى العقبى { وان تصبروا } اى عن نكاحهن متعففين كافين انفسكم عما تشتهيه من المعاصى { خير لكم } من نكاحهن وان سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرق ولان حق المولى فيها فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ولان المولى يقدر على استخدامها كيف ما يريد فى السفر والحضر وعلى بيعها للحاضر والبادى .(2/441)
وفيه من اختلال حال الزوج واولاده ما لا مزيد عليه ولانها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله ذل ومهانة سارية الى الناكح والعزة هى اللائقة بالمؤمنين ولان مهرها لمولاها فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج فلا ينتظم امر المنزل وقد قال صلى الله عليه وسلم « الحرائر صلاح البيت والاماء هلاك البيت » { والله غفور } لمن لم يصبر { رحيم } بالرخصة والتوسعة فنكاح الامة عند الطول والقدرة على نكاح الحرة لا يحل عند الشافعى وعند الحنفية يحل ما لم يكن عنده امرأة حرة ومحصله ان الشافعى اخذ بظاهر الآية وقال لا يجوز نكاح الامة الا بثلاثة شرائط اثنان فى الناكح عدم طول الحرة وخشية العنت والثالث فى المنكوحة وهى ان تكون امة مؤمنة لا كافرة كتابية وعند ابى حنيفة شىء من ذلك ليس بشرط فهو حمل عدم استطاعة الطول على عدم ملك فراش الحرة بان لا يكون تحته حرة فحينئذ يجوز نكاح الامة وحمل النكاح على الوطء وحمل قوله { من فتياتكم المؤمنات } على الافضل اى نكاح الامة المؤمنة افضل من نكاح الكتابية فجعله على الندب واستدل عليه بوصف الحرائر مع كونه ليس بشرط
قال فى التيسير واما قوله { من فتياتكم المؤمنات } ففيه اباحة المؤمنات وليس فيه تحريم الكتابيات فالغنى والفقير سواء فى جواز نكاح الامة سواء كانت مؤمنة او يهودية او نصرانية
اعلم ان النكاح من سنن المرسلين وشرعة المخلصين الا ان الحال يختلف فيه باختلاف احوال الناس فهو واجب بالنسبة الى صاحب التوقان ومستحب بالنسبة الى من كان فى حد الاعتدال ومكروه بالنسبة الى من عجز عن الوقاع والانفاق(2/442)
قال فى الشرعة وشرحها ويختار للتزوج المرأة ذات الدين فان المرأة الصالحة خير متاع الدنيا فان بها يحصل تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكلف بشغل الطبخ والكنس والفرش وتنظيف الاوانى وتهيئة اسباب المعيشة فان الانسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعسر عليه فى منزله وحده اذ لو تكفل بجميع اشغال المنزل لضاعت اكثر اوقاته ولم يتفرغ للعلم والعمل فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل معينة على الدين بهذا الطريق واختلال هذه الاسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش ولذلك قال ابو سليمان الدرانى الزوجة الصالحة ليست من الدنيا فانها تفرّغك للآخرة : قال الشيخ السعدى قدس سره
زن خوب فرمان بربارسا ... كند مرد درويش را يادشا
سفر عيد باشد بران كتخداى ... كه يارى زشتش بود درسراى
ثم ان بعضهم اختارو البكر وقالوا انها تكون لك فاما الثيب فان لم يكن لها ولد فنصفها لك وان كان لها ولد فكلها لغيرك تاكل رزقك وتحب غيرك والحاصل ان اختيار نكاح المملوكات رخصة والصبر عنه عزيمة ولا ريب ان العزيمة اولى لانه بالصبر يترقى العبد الى الدرجات العلى وفى الخبر « يؤتى باشكر اهل الارض فيجزيه الله تعالى جزاء الشاكرين ويؤتى باصبر اهل الارض فيقال له أترضى ان نجزيك جزاء الشاكرين فيقول نعم يا رب فيقول الله كلا انعمت عليك فشكرت وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الاجر عليه فيعطى اضعاف جزاء الشاكرين » وقد يجمع العبد فضيلتى الصبر والشكر بان يصبر على مقتضى النفس زمانا ثم بعد النيل والفوز يشكر على نعمه الجزيلة حققنا الله واياكم بحقائق الصبر والشكر
نعمت حق شمار وشكر كذار ... نعمتش را اكرجه نيست شمار
شكر باشد كليد كنج مزيد ... كنج خواهى منه زدست كليد
وقيل فى حق الصبر
جون بمانى بسته در بند حرج ... صبر كن كه الصبر مفتاح الفرج
صبركن حافظ بسختى روزشب ... عاقبت روزى بيابى كام را
ثم ان رحمته لعباده اوسع من ان تذكر ولذلك قال { والله غفور رحيم } ومن جملة رحمته بيان طرائق من سلف وتقدم من اهل الرشاد ليسلكوا مناهجهم وينالوا الى المراد وقال عليه السلام « يا كريم العفو » فقال جبريل أتدرى ما معنى كريم العفو هو ان يعفو عن السيآت برحمته ثم يبدلها بحسنات بكرمه : قال جلا الدين الرومى قدس سره
توبه آرند وخدا توبه بذير ... امر او كيرند او نعم الامير
سيآتت را مبدل كرد حق ... تاهمة طاعت شود آن ما سبق(2/443)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
{ يريد الله ليبين لكم } اللام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للارادة ومفعول يبين محذوف اى يريد الله ان يبين لكم ماهوه خفى عنكم من مصالحكم وافاضل اعمالكم او ما تعبدكم به من الحلال والحرام { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } اى يدلكم على مناهج من تقدمكم من الانبياء والصالحين لتقتدوا بهم { ويتوب عليكم } يرجع بكم عن معصيته الى طاعته بالتوفيق للتوبة مما كنتم عليه من الخلاف وليس الخطاب لجميع المكلفين حتى يتخلف مراده عن ارادته فيمن لم يتب منهم بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة { والله عليم } بكم { حكيم } فيما يريده لكم(2/444)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{ والله يريد ان يتوب عليكم } بيان لكمال منفعة ما راده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفجرة بخلاف الاول فانه بيان ارادته تعالى لتوبته عليهم فلا تكرار { ويريد الذين يتبعون الشهوات } يعنى الفجرة فان اتباع الشهوات الائتمار لها واما المتعاطى لما سوغه الشرع من المشتهيات دون غيره فهو متبع له لا لها
وقيل المجوس حيث كانوا يحلون الاخوات من الاب وبنات الاخ وبنات الاخت فلما حرمهن الله تعالى قالوا فانكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع ان العمة والخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الاخ والاخت فنزلت { ان تميلوا } عن القصد والحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات وتكونوا زناة مثلهم { ميلا عظيما } اى بالنسبة الى ميل من اقترف خطيئة على ندرة بلا استحلال(2/445)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{ يريد الله ان يخفف عنكم } ما فى عهدتكم من مشاق التكاليف فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة ورخص لكم فى المضايق كاحلال نكاح الامة وغيره من الرخص { وخلق الانسان ضعيفا } عاجزا عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبر عن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه فى مشاق الطاعات
قال الكلبى اى لا يصبر عن النساء
قال سعيد بن المسيب ما ايس الشيطان من ابن آدم الا اتاه من قبل النساء وقد اتى علىّ ثمانون سنة وذهبت احدى عينى وانا اعشو بالاخرى وان اخوف ما اخاف على نفسى فتنة النساء
وقال ابو هريرة رضى الله عنه اللهم انى اعوذ بك من ان ازنى واسرق فقيل له كبر سنك وانت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاف على نفسك من الزنى والسرقة قال كيف آمن على نفسى وابليس حى : قال الحافظ
جه جاى من كه بلغزد سبهر شعبده باز ... ازين حيل كه در انبانه بهانه تست
والاشارة فى تحقيق الآيات ان الله تعالى انعم على هذه الامة بارادة اربعة اشياء . اولها التبيين وهو ان يبين لهم صراط المستقيم الى الله . وثانيا الهداية وهو ان يهديهم الى الصراط المستقيم بالعيان بعد البيان . وثالثها التوبة عليهم وهى ان يرجع بهم الى حضرته على صراط الله . ورابعها التخفيف عنهم وهو ان يوصلهم الى حضرته بالمعونة ويخفف عنهم المؤونة
وهذا مما اختص به نبينا عليه السلام وامته لوجهين . احدهما ان الله اخبر عن ذهاب ابراهيم عليه السلام الى حضرته باجتهاده وهو المؤونة بقوله { انى ذاهب الى ربى سيهدين } واخبر عن موسى عليه السلام بمجيئه وهو ايضا المؤونة وقال { ولما جاء موسى لميقاتنا } واخبر عن حال نبينا عليه السلام بقوله { سبحان الذى اسرى بعبده ليلا } وهو المعونة فخفف عنه المؤونة واخبر عن حال هذه الامة بقوله { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق } وهو ايضا بالمعونة وهى جذبات العناية . والوجه الثانى ان النبى عليه السلام وامته مخصوصون بالوصول والوصال مخفف عنهم كلفة الفراق والانقطاع فاما النبى عليه السلام فقد خص بالوصول الى مقام قاب قوسين او ادنى وبالوصال بقوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } وانقطع سائر الانبياء عليهم السلام فى السموات السبع كما رأى ليلة المعراج آدم فى سماء الدنيا الى ان رأى ابراهيم عليه السلام فى السماء السابعة فعبر عنهم جميعا الى كمال القرب والوصول . واما الامة فقال فى حقهم « من تقرب الىّ شبرا تقربت اليه ذراعا » فهذا هو حقيقة الوصول والوصال ولكن الفرق بين النبى والولى فى ذلك ان النبى مستقل بنفسه فى السير الى الله والوصول ويكون حظه من كل مقام بحسب استعداده الكامل والولى لا يمكنه السير الا فى متابعة النبى وتسليكه فى سبيل الله(2/446)
{ قل هذه سبيلى ادعوا الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى } ويكون حظه من المقامات بحسب استعداده فينبغى ان يسارع العبد الى تكميل المراتب والدرجات برعاية السنة وحسن المتابعة لسيد الكائنات
قال جنيد البغدادى قدس سره مذهبنا هذا مقيد باصول الكتاب والسنة
قال على كرم الله وجهه الطرق كلها مسدودة على الخلق الا من اقتفى اثر رسول الله صلى الله عليه وسلم
كرت بايدكه بينى روى ايمان ... رخ ازآيينه امرش مكردان
زشرعش سرمييج ازهيج رويى ... كه همجون شانه ميكردى بمويى
قال الشيخ السعدى قدس سره
خلاف بيمبر كسى ره كزيد ... كه هر كز بمنزل نخواهد رسيد
محالست سعدى كه راه صفا ... توان رفت جز بربى مصطفا
ثم فى قوله تعالى { وخلق الانسان ضعيفا } اشارة الى ان الانسان لا يصبر عن الله لحظة لضعفه مهما يكون على الفطرة الانسانية فطرة الله التى فطر الناس عليها فانه يحبهم ويحبونه وهو ممدوح بهذا الضعف فان من عداه يصبرون عن الله لعدم اضطراهم فى المحبة والانسان مخصوص بالمحبة
واعلم ان هذا الضعف سبب لكمال الانسان وسعادته وسبب لنقصانه وشقاوته لانه يتغير لضعفه من حال الى حال ومن صفة الى اخرى فيكون ساعة بصفة بهيمة يأكل ويشرب ويجامع ويكون ساعة اخرى بصفة ملك يسبح بحمد ربه ويقدس له ويفعل ما يؤمر ولا يعصى فيما نهاه عنه وهذه التغيرات من نتائج ضعفه وليس هذا الاستعداد لغيره حتى الملك لا يقدر ان يتصف بصفات البهيمة والبهيمة لا تقدر ان تتصف بصفة الملك لعدم ضعف الانسانية وانما خص الانسان بهذا الضعف لاستكماله بالتخلق باخلاق الله واتصافه بصفات الله كما جاء فى الحديث الربانى « انا ملك حى لا اموت ابدا عبدا اطعنى اجعلك ملكا حيا لا يموت ابدا » فعند هذا الكمال يكون خير البرية وعند اتصافه بالصفات البهيمية يصير شر البرية
كى شوى انسان كامل ... اى دل ناقص عقل(2/447)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تأكلوا } اى لا تأخذوا عبر عن الاخذ بالاكل لان المقصود الاعظم من الاموال الاكل فكما ان كل محرم فكذلك سائر وجوه التصرفات { اموالكم بينكم بالباطل } اى بوجه غير شرعى كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا والرشوة واليمين الكاذبة وشهادة الزور والعقود الفاسدة ونحوها { الا ان تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع وعن متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة اى الا ان تكون التجارة تجارة عن تراض او الا ان تكون الاموال اموال تجارة وتلحق بها اسباب الملك المشروعة كالهبة والصدقة والارث والعقود الجائزة لخروجها عن الباطل وانما خص التجارة بالذكر لكونها اغلب اسباب المكاسب وقوعا واوفقها لذوى المروآت والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه فى حال المبايعة وقت الايجاب والقبول عندنا وعند الشافعى حالة الافتراق عن مجلس العقد { ولا تقتلوا انفسكم } بالبخع كما يفعله جهلة الهند او بالقاء النفس الى التهلكة
ويؤيده ما روى ان عمرا بن العاص رضى الله عنه تأوله فى التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبى صلى الله عليه وسلم او بارتكاب المعاصى المؤدية الى هلاكها فى الدنيا والآخرة او باقتراف ما يذللها ويرديها فانه القتل الحقيقى للنفس وقيل المراد بالنفس من كان من جنسهم من المؤمنين فان كلهم كنفس واحدة { ان الله كان بكم رحيما } اى امر بما امر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم معناه ان كان بكم يا امة محمد رحيما حيث امر بنى اسرائيل بقتل الانفس ونهاكم عنه(2/448)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ ومن يفعل ذلك } اى القتل او اياه وسائر المحرمات المذكورة فيما قبل { عدوانا وظلما } افراطا فى التجاوز عن الحد واتيانا بما لا يستحقه وقيل اريد بالعدوان التعدى على الغير وبالظلم الظلم على النفس لتعريضها للعقاب ومحلهما النصب على الحالية اى متعديا وظالما { فسوف نصليه } اى ندخله { نارا } اى نارا مخصوصة هائلة شديدة العذاب { وكان ذلك } اى اصلاء النار { على الله يسيرا } لتحقق الداعى وعدم الصارف
قال الامام واعلم ان الممكنات بالنسبة الى قدرة الله على السوية وحينئذ يمتنع ان يقال ان بعض الافعال ايسر عليه من بعض بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف بيننا او يكون معناه المبالغة فى التهديد وهو ان احدا لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه
فعلى العاقل ان يتجنب عن الوقوع فى المهالك ويبالغ فى حفظ الحقوق وقد جمع الله فى التوصية بين حفظ النفس وحفظ المال لانه شقيقها من حيث انه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها ولذلك قيل
توانكرانرا وقفست وبذل ومهانى ... زكاة وفطره واعتاق وهدى وقربانى
توكى بدولت ايشان رسى كه نتوانى ... جزاين دور كعت وآن هم بصدبر بريشانى
فان وفقت للمال فاشكر له والا فلا تتعب نفسك ولا تقتلها كما يفعله بعض من يفتقر بعد الغنى لغاية المه واضطرابه من الفقر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قتل نفسه بشىء فى الدنيا عذب به يوم القيامة » وقال صلى الله عليه وسلم « كان فيمن قبلكم جرح برجل ارابه فجزع منه فاخرج سكينا فجز بها يده فمارقأ الدم حتى مات فقال الله تعالى بارزنى عبدى بنفسه فحرمت عليه الجنة » كذا فى تفسير البغوى
وكذلك حكم من قتل نفسه لفقر او لغير ذلك من الاسباب
واعلم ان اكل المال بالباطل مما يفسد دين الرجل ودنياه بل يضر بنفسه ويكون سببا لهلاكه فان بعض الاعمال يظهر اثره فى الدنيا روى ان رجلا ظالما غصب سمكة من فقير فطبخها فلما اراد اكلها عضت يده فاشار اليه الطبيب بالقطع فلم يزل يقطع من كل مفصل حتى وصل الى الابط فجاء الى ظل شجرة فاخذت عيناه فقيل له لا تتخلص من هذا الا بارضاء صابحها المظلوم فلما ارضاه سكن وجعه ثم انه تاب واقلع عما فعل فرد الله اليه يده فاوحى الله تعالى الى موسى عليه السلام [ وعزتى لولا انه ارضى المظلوم لعذبته طول حياته ]
قال العلماء حرمة مال المسلم كحرمة دمه قال عليه السلام « كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله » وقال عليه السلام « لا يحل مال امرىء مسلم الا بطيبة نفس منه »(2/449)
فالظلم حرام شرعا وعقلا : قال الجامى قدس سره
هزار كونه خصومت كنى بخلق جهان ... زبس كه در هوس سيم وآرزوى زرى
تراست دوست زروسيم خصم صاحب آن ... كه كيرى ز كفش آنرا بظلم وحيله كرى
نه مقتضاى خرد باشد ونتيجه عقل ... كه دوست را بكذارى وخصم را ببرى
فعلى السالك ان يجتنب عن الحرام ويأكل من الحلال الطيب ولبعض الكبار دقة عظيمة واهتمام تام فى هذا الباب حكى ان بعض الملوك ارسل الى الشيخ ركن الدين علاء الدولة غزالا وقال انها حلال فقال الشيخ كنت بمشهد طوس فجاء الى بعض الامراء بارنب قال كل منها فانى رميتها بيدى فقلت الارنب حرام على قول الامام جعفر الصادق رضى الله عنه
قال فى حياة الحيوان يحل أكل الارنب عند العلماء كافة الا ما حكى عن عبد الله بن عمروب بن العاص وابن ابى ليلى انهما كرها اكلها ثم انه جاء يوم بغزال فقال كل منها فانى رميتها بسهم عملته بيدى على فرس ورثتها عن ابى فقلت خطر ببالى ان واحدا من الامراء جاء الى مولانا الجمال باوزتين وقال كل منهما فانى قد اخذتهما ببازى فقال مولانا ليس الكلام فى الاوزتين وانما الكلام فى قوت البازى من دجاجة أية عجوز اكل حتى قوى للاصطياد فالغزال التى رميتها على فرسك وان كانت من الصيد لكن قوت الفرس من شعير أى مظلوم حصل فلم يأكل منها حكى ان خياطا قال لبعض الكبار هل اكون معينا للظلمة بخياطة ثيابهم فقال ليس الكلام فيك وانما الكلام فى الحداد الذى يعمل الابرة
والحاصل ان لا بد من الاهتمام فى طلب الحلال وان كان فى زماننا هذا نادرا والوصول اليه عزيزا : قال الجامى قدس سره
خواهى كه شوى حلال روزى ... همخانه مكن عيال بسيار
دانى كه درين سراجه تنك ... حاصل نشود حلال بسيار
رزقنا الله وايكم من فضله انه الجواد(2/450)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{ ان تجتنبوا } الاجتناب التباعد ومنه الاجنبى { كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التى نهاكم الله ورسوله عنها { نكفر عنكم } التكفير اماطة المستحق من العقاب بثواب ازيد او بتوبة والاحباط نقيضه وهو اماطة الثواب المستحق بعقاب ازيد او بندم على الطاعة المعنى نغفر لكم { سيآتكم } صغائركم ونمحها عنكم { وندخلكم مدخلا } بضم الميم اسم مكان هو الجنة { كريما } اى حسنا مرضيا او مصدر ميمى اى ادخالا مع كرامة
قال المفسرون الصلاة الى الصلاة والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن من الصغائر اذا اجتنب الكبائر
واختلف فى الكبائر والاقرب ان الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه الحد او صرح بالوعيد فيه
قال انس بن مالك رضى الله عنه انكم تعملون اليوم اعمالا هى فى اعينكم ادق من الشعر كنا نعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر
وقال القشيرى الكبائر على لسان اهل الاشارة الشرك الخفى ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق واستجلاب قلوبهم والتودد اليهم والاغماض عن حق الله بعينهم
واعلم ان اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وعند انتفاء الصغائر والكبائر يمكن الدخول فى المدخل الكريم وهو حضرة اكرم الاكرمين قال عليه السلام « ان الله طيب لا يقبل الا الطيب »
وجملة الكبائر مندرجة فى ثلاثة اشياء احدها اتباع الهوى والهوى ميلان النفس الى ما يستلذ به من الشهوات فقد يقع الانسان به فى جملة من الكبائر مثلا البدعة والضلالة والارتداد والشبهة وطلب الشهوات واللذات والتنعمات وحظوظ النفس بترك الصلاة والطاعات كلها وعقوق الوالدين وقطع الرحم وقذف المحصنات وامثال ذلك ولهذا قال تعالى { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال عليه السلام « ما عبد اله ابغض على الله من الهوى »
غبار هوا جشم عقلت بدوخت ... سموم هوس كشت عمرت بسوخت
بكن سرمه غفلت از جشم باك ... كه فردا شوى سرمه درجشم خاك
وثانيها حب الدنيا فانه ميطة كثير من الكبائر مثل القتل والظلم والغصب والنهب والسرقة والربا وأكل مال اليتيم ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمانها واليمين الغموس والحيف فى الوصية وغيرها واستحلال الحرام ونقض العهد وامثاله ولهذا قال تعالى { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } وقال عليه السلام « حب الدنيا رأس كل خطيئة » وعنه صلى الله عليه وسلم « اتانى جبريل وقال ان الله تعالى قال وعزتى وجلالى انه ليس من الكبائر كبيرة هى اعظم عندى من حب الدنيا »
عاقلان ميل بسويت نكند اى دنيا ... هم اميد كرم ولطف توجاهل دارد
هركه خواهد بكنداز تومر ادى حاصل ... حاصل آنست كه انديشه باطل دارد(2/451)
وثالثها رؤية الغير فان منها ينشأ الشرك والنفاق والرياء وامثاله ولهذا قال تعالى { ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال عليه السلام « اليسير من الرياء شرك »
وقال بعض المشايخ وجودك ذنب لا يقاس به ذنب آخر فمن تخلص من ذنب وجوده فلا يرى غير الله فلا ينتشىء منه الشرك ولا حب الدنيا وتخلص من الهوى فيتحقق له الوصول واللقاء قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا } لعمرى ان هذا لهو المدخل الكريم والفوز العظيم والنعيم المقيم
فعلى العاقل ان يتخلص من الاغياء ويشاهد فى المجالى انوار الواحد القهار
كرجه زندانست برصاحب دلان ... هركجا بويى زوصل يار نيست
هيج زندان عاشق محتاج را ... تنك تراز صحبت اغيار نيست
ولذا قيل الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وما سوى الحق اغيار
قال ابراهيم عليه السلام { فانهم عدو لى الا رب العالمين } فلا بد للسالك ان يجتهد فى سلوكه ويتخلص من رق الغير كى يصل الى المراد والعاشق الصادق لا يكون فى عبودية غير معشوقه ولا يتسلى عن الدنيا والآخرة الا بوصاله فليس له مطلب سواه
عاشق كه زهجردوست دادى خواهد ... يابر در وصلش ايستادى خواهد
ناكس ترا زو كس نبود درعالم ... كزدوست بجزدوست مرادى خواهد
وهذا مقام شريف ومطلب عزيز اوصلنا الله تعالى واياكم(2/452)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
{ ولا تتمنوا } التمنى عبارة عن ارادة ما يعلم او يظن انه لا يكون { ما فضل الله به بعضكم على بعض } اى عليكم ان لا تتمنوا ما اعطاه الله بعضكم من الامور الدنيوية كالجاه والمال وغير ذلك مما يجرى فيه التنافس دونكم فان ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن تدبير لائق باحوال العباد مترتب على الاحاطة بجلائل شؤونهم ودقائقها . فعلى كل احد من المفضل عليهم ان يرضى بما قسم له ولا يمتنى حظ المفضل ولا يحسده عليه لما انه معارضة لحكمة القدر فالانصباء كالاشكال وكما ان اختلاف الاشكال مقتضى حكمة الهية لم يطلع على سرها احد فكذلك الاقسام
وقيل لما جعل الله تعالى فى الميراث للذكر مثل حظ الانثيين قالت النساء نحن احوج ان يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لانا ضعفاء وهم اقوياء واقدر على طلب المعاش منا فنزلت وهذا هو الانسب بتعليل النهى بقوله تعالى { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } فانه صريح فى جريان التمنى بين فريقى الرجال والنساء والمعنى لكل من الفريقين فى الميراث نصيب معين المقدار مما اصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه اياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه الى غيره فان ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمنى المذكور { واسئلوا الله من فضله } اى لا تتمنوا ما يختص بغيركم { ان الله كان بكل شىء عليما } فهو يعلم ما يستحقه كل انسان ففضله عن علم وحكمة وتبيان وفى الحديث « لن يزال الناس بخير ما تباينوا » اى تفاوتوا « فاذا تساووا هلكوا » وذلك لاختلال النظام المرتبط بذلك . وقد يقال معناه انه لا يغتم لتفاوت الناس فى المراتب والصنائع بان يكون مثلا بعضهم اميرا وبعضهم سلطانا وبعضهم وزيرا وبعضهم رئيسا وبعضهم اهل الصنائع لتوقف النظام عليه
واعلم ان مراتب السعادات اما نفسانية كالذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية كالعفة والشجاعة وغير ذلك واما بدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل فى ذلك مع اللذة والبهجة واما خارجية ككثرة الاولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الاصدقاء والاعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا لقلوب الناس حسن الذكر فيهم فهى مجامع السعادات والانسان اذا شاهد انواع الفضائل حاصلة لانسان ووجد نفسه خاليا عن جملتها او عن اكثرها فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ثم يعرض ههنا حالتان احداهما ان يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الانسان والاخرى ان لا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له والاول هو الحسد المذموم لان المقصود الاول لمدبر العالم وخالقه الاحسان الى عبيده والجود اليهم وافاضة انواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله فيما هو المقصود بالقصد الاول من خلق العالم وايجاد المكلفين وايضا ربما اعتقد فى نفسه انه احق بتلك النعم من ذلك الانسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا فى حكمته وكل ذلك مما يلقيه فى الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الايمان وكما ان الحسد سبب الفساد فى الدين فكذلك هو سبب الفساد فى الدنيا فانه يقطع المودة والمحبة والموالاة وينقلب كل ذلك الى اضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه بقوله { ولا تتمنوا } الآية فلا بد لكل عاقل من الرضى بقضاء الله تعالى
حكى الرسول صلى الله عليه وسلم عن رب العزة انه قال(2/453)
« من استسلم لقضائى وصبر على بلائى وشكر لنعمائى كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائى ولم يصبر على بلائى ولم يشكر لنعمائى فليطلب ربا سواى »
حاشا كه من ازجور وجفاى توبنالم ... بيداد لطفيان همه لطفست وكرامت
فهذا هو الكلام فيما اذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الانسان
ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن ابن هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يخطب الرجل على خطبة اخيه ولا يسوم على سوم اخيه ولا تسأل المرأة طلاق اختها لتقوم مقامها فان الله هو رازقها » والمقصود من كل ذلك المبالغة فى المنع من الحسد اما اذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك الا ان المحققين قالوا هذا ايضا لا يجوز لان تلك النعمة ربما كانت مفسدة فى حقه فى الدين ومضرة عليه فى الدنيا فلهذا السبب قال المحققون انه لا يجوز للانسان ان يقول اللهم اعطنى دارا مثل دار فلان وزوجة مثل زوجة فلان بل ينبغى ان يقول اللهم اعطنى ما يكون صلاحا فى دينى ودنياى ومعادى ومعاشى واذا تأمل الانسان كثيرا لم يجد احسن مما ذكره الله فى القرآن تعليما لعباده وهو قوله { ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة } وعن الحسن لا يتمنى احد المال فلعل هلاكه فى ذلك المال كما فى حق ثعلبة وهذا هو المراد من قوله { واسألوا الله من فضله }
قال الشيخ كمال الدين القاشانى { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } من الكمالات المترتبة بحسب استعداد الاولية فان كل استعداد يقتضى بهويته فى الازل كمالا وسعادة تناسبه وتختص به وحصول ذلك الكمال الخاص لغيره محال ولذلك ذكر طلبه بلفظ التمنى الذى هو طلب ما يمتنع حصوله للطالب لامتناع سببه { للرجال } اى الافراد الواصلين { نصيب مما اكتسبوا } بنور استعدادهم الاصلى { وللنساء } اى الناقصين القاصرين عن الوصول { نصيب مما اكتسبن } بقدر استعدادهم { واسألوا الله من فضله } اى اطلبوا منه افاضة كمال يقتضيه استعدادكم بالتزكية والتصفية حتى لا يحول بينكم وبينه فتحتجبوا وتعذبوا بنيران الحرمان منه { ان الله كان بكل شىء } مما يخفى عليكم كامنا فى استعدادكم بالقوة { عليما } فيجيبكم بما يليق بكم كما قال تعالى(2/454)
{ وآتاكم من كل ما سألتموه } اى بلسان الاستعداد الذى ما دعاه احد به الا اجاب كما قال تعالى { ادعونى استجب لكم } انتهى وعلى هذا التأويل يكون قوله { ولا تتمنوا } نهيا ومنعا عن طلب المحال الذى فوق الاستعداد الازلى ويكون قوله { واسألوا الله من فضله } امرا وحثا على طلب الممكن الذى هو قدر استعدادكم كى لا تضيع فضيلة الانسانية فان بعض المقدورات قد يكون معلقا على الكسب
فينبغى ان لا يتكاسل العبد فى العبادات وكسب الفضائل لينال الكمالات الكامنة فى خزانة الاستعداد ويسأل الله تعالى دائما من فضله فانه مجيب الدعوات وولى الهداية والرشاد فمن طلب شيأ وجدّ وجد ومن قرع بابا ولجّ ولج : قال مولانا جلا الدين قدس سره
جون دَرِ معنى زنى بازت كنند ... برّ فكرت زن كه شبهازت كنند
جون طلب كردى بجد آيد نظر ... جد خطا نكند جنين آمدخبر
جون زجاهى ميكنى هرروزخاك ... عاقبت اندر رسى در آب باك
كفت بيغمبر كه جون كوبى درى ... عاقبت زان دربرون آيد سرى
در طلب زن دائما توهردودست ... كه طلب درراه نيكور هبرست(2/455)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{ ولكل } اى لكل تركة ومال { جعلنا موالى } جمع مولى اى ورثة متفاوتة فى الدرجة يلونها ويحرزون منها انصباءهم بحسب استحقاقهم المنوط بما بينهم وبين المورث { مما ترك الوالدان والاقربون } بيان لكل مع الفصل بالمعامل وهو جعلنا لان لكل مفعول ثان له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل بالبعض دون البعض . والموالى هم اصحاب الفرائض والعصبات وغيرهما من الوارث ويجوز ان يكون المعنى ولكل قوم جعلناهم موالى اى وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك الوالدان والاقربون على ان جعلنا موالى صفة لكل والضمير الراجع اليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر على طريقة قولك لكل من خلقه الله انسانا نصيب من رزق اى حظ منه { والذين عقدت ايمانكم } هم موالى الموالة كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله تعالى { واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض } وعند ابى حنيفة اذا اسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على ان يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله ارثه ان لم يكن له وارث اصلا فهو مؤخر عن ذوى الارحام واسناد العقد الى الايمان لان المعتاد المماسكة بها عند العقد والمعنى عقدت ايمانكم عهودهم حذف العهود واقيم المضاف اليه مقامه ثم حذف وهو مبتدأ متضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر اعنى قوله تعالى { فآتوهم نصيبهم } بالفاء اى حظهم من الميراث { ان الله كان على كل شىء } من الاشياء التى من جملتها الايتاء والمنع { شهيدا } اى شاهدا ففيه ترغيب فى الاعطاء وتهديد على منع نصيبهم
قال بعضهم المراد { من الذين عقدت ايمانكم } الحلفاء والمراد بقوله { فآتوهم } النصرة والنصيحة والمصافاة فى العشرة والمخالصة فى المخالطة
فعلى كل احد ان ينصر اخاه المؤمن ويخالطه على وجه الخلوص والنصيحة لا على النفاق والعداوة قال صلى الله عليه وسلم « مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »
بنى آدم اعضاى يكديكرند ... كه در آفرينش زيك جوهرند
جوعوضى بدرد آوردروز كار ... د كر عضو هارا نماند قرار
توكز محنت ديكران بى غمى ... نشايد كه نامت نهند آدمى
فالواجب ان يجب المرء للناس ما يجب لنفسه من الخير وينصح لهم فى ظاهر الامر فان النصيحة عماد الدين ويزيل ما يوجب التأذى عن ظاهرهم واعمالهم بالموعظة والزجر اى المنع عما لا يليق ويعاملهم بالرحمة والشفقة ولا يذكر احدا بما يكره فان ملكا وكل بالعبد يرد عليه ما يقول لصاحبه ولا يستبشر بمكروه احد كائنا من كان
مكن شادمانى بمرك كسى ... كه دهرت نماند بس ازوى بسى
ويتودد الى الناس بالاحسان الى برهم وفاجرهم والى من هو اهل الاحسان والى من ليس باهل له ويتحمل الاذى منهم وبه يظهر جوهر الانسان(2/456)
تحمل جو زهرت نمايد نخست ... ولى شهد كردد جو در طبع رست
ويجعل من شتمه او جفاه او آذاه ايذاء فى حل منه ولا يطمع فى السلامة من اذاهم فانه محال فان الله لم يقطع لسان الخلق عن نفسه فكيف يسلم مخلوق من مخلوق روى ان موسى عليه السلام قال آلهى اسألك ان لا يقال لى ما ليس فى فاوحى الله اليه ما فعلت ذلك لنفسى فكيف افعل لك ويقوم بحاجات الناس ومهماتهم ففى الحديث « من سعى فى حاجة لأخيه المسلم لله وله فيها صلاح فكأنما خدم الله ألف سنة وييسر على المعسر تيسيرا ويفرج عن الغموم فان الله تعالى فى عون العبد ما دام العبد فى عون اخيه المسلم » وفى الحديث « ان من موجبات المغفرة ادخال السرور على قلب أخيك المسلم »
قال الشيخ نجم الدين الكبرى فى قوله تعالى { والذين عقدت ايمانكم } يعنى الذين جرى بينكم وبينهم عقد الاخوة فى الله بان اخذتم بايمانكم ايمانهم بالارادة وصدق الالتجاء وتابوا على ايديكم { فآتوهم } بالنصح وحسن التربية والاهتمام بهم والقيام بمصالحهم على شرائط الشيخوخة والتسليك بهم { نصيبهم } الذى اودع الله تعالى لهم عندكم بعلمه وحمته { ان الله كان على كل شىء } من الودائع اينما اودعه ولمن اودعه { شهيدا } يشهد عليكم يوم القيامة ان يخونوا فى اعطاء ودائهم بالخيانة ويسألكم عنها ويشهد لكم بالامانة ويجازيكم عليها خير الجزاء انتهى فالكاملون لا يخونون فى الامانات بل يسلمون الودائع الى الارباب بحسب الاستعدادات ولا يفشون السر الى من ليس له اهلية فى هذا الباب والا يلزم الخيانة فى اسرار رب الارباب : قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره
عارفانكه جام حق نوشيده اند ... رازها دانسته وبوشيده اند
هركرا اسرار كار آموختند ... مهر كردندو دهانش دوختند
برلبش قلست ودردل رازها ... لب خموش و دل براز آوازها
كوش آن كس نوشد اسرار جلال ... كوجو سوسن صد زبان افتادولال
تانكوئى سر سلطانرا بكس ... تانزيزى قندرا بيش مكس
درخور دريا نشد جزمرغ آب ... فهم كن والله اعلم بالصواب(2/457)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{ الرجال قوامون على النساء } قائمون بالامر بالمصالح والنهى عن الفضائح قيام الولاة على الرعية مسلطون على تأديبهن وعلل ذلك بامرين وهبى وكسبى فقال { بما فضل الله بعضهم على بعض } الضمير البارز لكلا الفريقين تغليبا اى بسبب تفضيله الرجال على النساء بالحزم والعزم والقوة والفتوة والمير والرمى والحماسة والسماحة والتشمير لخطة الخطبة وكتبة الكتابة وغيرها من المخايل المخيلة فى استدعاء الزيادة والشمائل الشاملة لجوامع السعادة { وبما انفقوا من اموالهم } اى وبسب انفاقهم من اموالهم فى نكاحهن كالمهر والنفقة وهذا ادل على وجوب نفقات الزوجات على الازواج روى ان سعد بن الربيع احد نقباء الانصار رضى الله عنهم نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن ابى زهير فلطمها فانطلق بها ابوها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا فقال عليه السلام « لنقتص منه » فنزلت فقال صلى الله عليه وسلم « اردنا امرا واراد الله امرا والذى اراد الله خير » ورفع القصاص فلا قصاص فى اللطمة ونحوها والحكم فى النفس وما دونها مذكور فى الفروع { فالصالحات } منهن { قانتات } مطيعات لله تعالى قائمات بحقوق الازواج { حافظات للغيب } اى لمواجب الغيب اى لما يجب عليهن حفظه فى حال غيبة الازواج من الفروج والاموال والبيوت
وعن النبى صلى الله عليه وسلم « خير النساء امرأة ان نظرت اليها سرتك وان امرتها اطاعتك واذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها » وتلا الآية واضافة المال اليها للاشعار بان ماله فى حق التصرف فى حكم مالها { بما حفظ الله } ما مصدرية اى بحفظه تعالى اياهن اى بالامر بحفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له . او موصولة اى بالذى حفظ الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن { واللاتى تخافون نشوزهن } خطاب للازواج وارشاد لهم الى طريق القيام عليهن والخوف حالة تحصل فى القلب عند حدوث امر مكروه او عند الظن او العلم بحدوثه وقد يراد به احدهما اى تظنون عصيانهن وترفعهن عن مطاوعتكم { فعظوهن } فانصحوهن بالترغيب والترهيب
قال الامام ابو منصور العظة كلام يلي القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة وهى بتذكير العواقب { واهجروهن } بعد ذلك ان لم ينفع الوعظ والنصيحة والهجر الترك عن قلى { فى المضاجع } اى فى المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن جمع مضجع وهو موضع وضع الجنب للنوم { واضربوهن } ان لم ينجع ما فعلتم من العظة والهجران غير مبرح ولا شائن ولا كاسر ولا خادش فالامور الثلاثة مترتبة ينبغى ان يدرج فيها { فان اطعنكم } بذلك كما هو الظاهر لانه منتهى ما يعد زاجرا { فلا تبغوا عليهن سبيلا } بالتوبيخ والاذية اى فازيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له { ان الله كان عليا } اى اعلى عليكم قدرة منكم عليهن { كبيرا } اى اعظم حكما عليكم منكم عليهن فاحذروا واعفوا عنهن اذا رجعن لانكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فانتم احق بالعفو عمن جنى عليكم اذا رجع
قال فى الشرعة وشرحها اذا وقف واطلع من زوجته على فجور اى فسق او كذب او ميل الى الباطل فانه يطلقها الا ان لا يصبر عنها فيمسكها روى انه جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لى امرأة لا تردّ يد لامس قال(2/458)
« طلقها » قال احبها قال « امسكها » خوفا عليه بانه ان طلقها اتبعها وفسد هو ايضا معها فرأى ما فى دوام نكاحه من دفع الفساد عنه مع ضيق قلبه اولى فلا بد للرجال من تحمل المكاره الا انه ينبغى للمرء ان يون ديوثا كما قال بعض العارفين
كريز از كفش دردهان نهنك ... كه مردن به از زندكانى به ننك
وكان بعض العلماء يقول التحمل على اذى واحد من المرأة احتمال فى الحقيقة من عشرين اذى منها مثلا فيه نجاة الولد من اللطمة ونجاة القدر من الكسر ونجاة العجل من الضرب ونجاة الهرة من الزجر اى المنع من اكل فضول الخوان وسقاطه والثوب من الحرق والضيف من الرحيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته » وقال ايضا « ايما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة » وقال ايضا « لا تؤذى امرأة زوجها فى الدنيا الا قالت زوجه من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فانما هو عندك دخيل يوشك ان يفارقك الينا » قال النبى عليه السلام مخاطبا لعائشة رضى الله عنها « ايما امرأة تؤذى زوجها بلسانها الا جعل الله لسانها يوم القيامة سبعين ذراعا ثم عقد خلف عنقها . يا عائشة وايما امرأة تصلى لربها وتدعو لنفسها ثم تدعو لزوجها الا ضرب بصلاتها وجهها حتى تدعو لزوجها ثم تدعو لنفسها . يا عائشة وايما امرأة جزعت على ميتها فوق ثلاثة ايام احبط الله عملها . يا عائشة وايما امرأة ناحت على ميتها الا جعل الله لسانها سبعين ذراعا وجرت الى النار مع من تبعها . يا عائشة ايما امرأة اصابتها مصيبة فلطمت وجهها ومزقت ثيابها الا كانت مع امرأة لوط ونوح فى النار وكانت آيسة من كل خير وكل شفاعة شافع يوم القيامة يا عائشة وايما امرأة زارت المقابر الا لعنها الله تعالى ولعنها كل رطب ويابس حتى ترجع فاذا رجعت الى منزلها كانت فى غضب الله ومقته الى الغد من ساعته فان ماتت من وقتها كانت من اهل النار يا عائشة اجتهدى ثم اجتهدى فانكن صواحبات يوسف وفاتنات داود ومخرجات آدم من الجنة وعاصيات نوح ولوط . يا عائشة ما زال جبريل يوصينى فى امر النساء حتى ظننت انه سيحرم طلاقهن . يا عائشة انا خصم كل امرأة يطلقها زوجها »(2/459)
ثم قال « يا عائشة وما من امرأة تحبل من زوجها حين تحبل الا ولها مثل اجر الصائم بالنهار والقائم بالليل الغازى فى سبيل الله . يا عائشة ما من امرأة اتاها الطلق الا ولها بكل طلقة عتق نسمة وبكل رضعة عتق رقبة . يا عائشة ايما امرأة خففت عن زوجها من مهرها الا كان لها من العمل حجة مبرورة وعمرة متقبلة وغفر لها ذنوبها كلها حديثها وقديمها سرها وعلانيتها عمدها وخطأها اولها وآخرها . يا عائشة المرأة اذا كان لها زوج فصبرت على اذى زوجها فهى كالمتشحطة فى دمها فى سبيل الله وكانت من القانتات الذاكرات المسلمات المؤمنات التائبات » كذا فى روضة العلماء وفيه تطويل قد اختصرته وحذفت بعضه
والاشارة فى الآية ان الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء لان وجودهن تبع لوجودهم وهم الاصول وهن الفروع فكما ان الشجرة فرع الثمرة بانها خلقت منها فكذلك النساء خلقن من ضلوعهم فكما كان قيام حواء قبل خلقها وهى ضلع بآدم عليه السلام وهو قوام عليها فكذلك الرجال على النساء بمصالح امور دينهن ودنياهن قال تعالى { قوا انفسكم واهليكم نارا } واختص الرجال باستعدادية الكمالية للخلافة والنبوة فكان وجودهم الاصل ووجودهن تبعا لوجودهم للتوالد والتناسل قال عليه السلام « كمل من الرجال كثير وما كمل من النساء الا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم بنت عمران وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » ومع هذا ما بلغ كمالهن الى حد يصلحن للخلافة او النبوة وانما كان كمالهن بالنسبة الى النسوة لا الى الرجال لانهن بالنسبة اليهم ناقصات عقل ودين حتى قال فى عائشة رضى الله عنها مع فضلها على سائر النساء « خذوا ثلثى دينكم عن هذه الحميراء » فهذا بالنسبة الى الرجال نقصان حيث لم يقل خذوا كمال دينكم ولكن بالنسبة الى النساء كمال لانه على قاعدة قوله تعالى { للذكر مثل حظ الانثيين } يكون حظ النساء من الدين الثلث فكماله كان الثلثين بمثابة الذكور بمثل حظ الانثيين : قال الفقير جامع هذه المجالس النفيسة
مرد بايد تا كه اقدامى كند ... در طريقت غيرت نامى كند
جون نه كامل زمردى دم مزن ... جون نه دلبر مكو از حسن تن
زن كه كامل شد زمردان دست برد ... مرد ناقص جون زن ناقص بمرد(2/460)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{ وان خفتم } اى علمتم او ظننتم ايها الحكام { شقاق بينهما } اى خلافا بين المرأة وزوجها ولا تدرون من قبل ايهما يقع النشوز والشقاق المخالفة اما لان كلا منهما يريد ما يشق على الآخر واما لان كلا منهما فى شق غير شق الآخر
قال ابن عباس رضى الله عنهما والجزم بوجود الشقاق لا ينافى بعث الحكمين لانه لرجاء ازالته لا لتعرف ودوده بالفعل { فابعثوا } اى الى الزوجين لاصلاح ذات البين { حكما } رجلا عادلا صالحا للحكومة والاصلاح { من اهله } من اهل الزوج { وحكما } آخر على صفة الاول { من اهلها } اى اهل الزوجة فان الاقارب اعرف ببواطن احوالهم واطلب للصلاح بينهم وانصح لهم واسكن لنفوسهم لان نفوس الزوجين تسكن اليهما وتبرز ما فى ضمائرهما من حب احدهما الآخر وبغضه { ان يريدا } اى الزوج والزوجة { اصلاحا } لهما اى ما بينهما من الشقاق { يوفق الله بينهما } يوقع بين الزوجين الموافقة والالفة بحسن سعى الحكمين ويلقى فى نفوسهما المودة والرأفة . وفيه تنبيه على ان من اصلح نيته فيما يتحراه وفقه الله لما ابتغاه { ان الله كان عليما خبيرا } بالظواهر والبواطن فيعلم كيف يرفع الشاق ويوقع الوفاق
وفى الآية حث على اصلاح ذات البين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألا اخبركم بافضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة » قالوا بلى قال « اصلاح ذات البين » وقال صلى الله عليه وسلم « ألا انما الدين النصيحة » قالها ثلاثا قالوا لمن يا رسول الله قال « ه ولرسوله ولكتابه ولائمة المؤمنين ولعامتهم » فالنصيحة لله تعالى ان تؤمن بالله ولا تشرك به شيأ وتعمل بما امر الله تعالى به وتنتهى عما نهى عنه وتدعو الناس الى ذلك وتدلهم عليه واما النصيحة لرسوله ان تعمل بسنته وتدعو الناس اليها . واما النصيحة لكتابه ان تؤمن به وتتلوه وتعمل بما فيه وتدعو الناس اليه . واما النصيحة للائمة ان لا تخرج عليهم بالسيف وتدعو لهم بالعدل والانصاف وتدل الناس عليه . واما النصيحة للعامة فهو ان تحب لهم ما تحب لنفسك وان تصلح بينهم ولا تهجرهم وتدعو لهم بالصلاح . ولا شك ان المصلحين هم خيار الناس بخلاف المفسدين فانهم شرار الخلق اذ هم يسعون فى الارض بالفساد والتفريق وايقاظ الفتنة دون ازالتها وقد ورد « الفتنة نائمة لعن الله من ايقظها »
ازان همنشين تاتوانى كريز ... كه مر فتنه خفته را كفت خيز
ومن المفسدين من يوصل كلام احد الى احد فيه ما يسوؤه ويحزنه فالعاقل لا يصيخ الى مثل هذا القائل
بدى درقفاعيب من كرد وخفت ... بتر زو قرينى كه آورد و كفت
يكى تيرى افكنده ودرره فتاد ... وجودم نيازرد و رنجم نداد
توبر داشتى وآمدى سوى من ... همى در سبوزى به بهلوى من(2/461)
والاشارة فى الآية انه اذا وقع الخلاف بين الشيخ الواصل والمريد المتكاسل { فابعثوا } متواسطين احدهما من المشايخ المعتبرين والثانى من معتبرى السالكين لينظرا الى مقالهما ويتحققا احوالهما { ان يريدا اصلاحا } بينهما بما رأيا فيه صلاحهما { يوفق الله بينهما } بالارادة وحسن التربية { ان الله كان } فى الازل { عليما } باحوالهما { خبيرا } بمآلهما فقدر لكل واحد منهما بما عليهما وبما لهما كذا فى تأويلات الشيخ العارف نجم الدين الكبرى قدس سره وقد عرف منه ان التهاجر والمخالفة تقع بين الكاملين كما بين عوام المؤمنين ولا يمنع اختلافهم الصورى اتفاقهم المعنوى وقد اقتضت الحكمة الآلهية ذلك فلمثل هذا سر لا يعرفه عقول العامة : قال مولانا جلال الدين فى بيان اتحاد الاولياء والكاملين
جون ازيشان مجتمع بينى دويار ... هم يكى باشند وهم شش صد هزار
بر مثال موجها اعداد شان ... در عدد آورده باشد بادشان
تفرقه در روح حيوانى بود ... نفس واحد روح انسانى بود
مؤمنان معدود ليك ايمان يكى ... جسم شان معدود ليكن جان يكى
والحاصل ان اهل الحق كلهم نفس واحدة والتفرقة بحسب البشرية والتخالف سبب لا ينافى توافقهم فى المعنى من كل وجه وجهه(2/462)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{ واعبدوا الله } العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به بمجرد امر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع اعمال القلوب وجميع اعمال الجوارح { ولا تشركوا به شيأ } من الاشياء صنما او غيره او شيأ من الاشراك جليا وهو الكفر او خفيا وهو الرياء { وبالوالدين احسانا } اى واحسنوا اليهما احسانا . فالباء بمعنى الى كما فى قوله { وقد احسن بى } وبدأ بهما لان حقهما اعظم حقوق البشر فالاحسان اليهما بان يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن فى الكلام معهما ويسعى فى تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة { وبذى القربى } وبصاحب القرابة من اخ او عم او خال او نحو ذلك بصلة الرحم والمرحمة ان استغنوا والوصية وحسن الانفاق ان افتقروا { واليتامى } بانفاق ما هو اصلح لهم او بالقيام على اموالهم ان كان وصيا { والمساكين } بالمبار والصدقات واطعام الطعام او بالرد الجميل { والجار ذى القربى } اى الذى قرب جواره او الذى له مع الجوار اتصال بنسب او دين قال عليه السلام « والذى نفسى بيده لا يؤدى حق الجار الا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر اغنيته وان استقرض اقرضته وان اصابه خير هنأته وان اصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته » { والجار الجنب } اى البعيد او الذى لا قرابة له
وعنه عليه السلام « الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الاسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الاسلام وجار له حق واحد هو حق الجوار وهو الجار من اهل الكتاب » { والصاحب بالجنب } اى الرفيق فى امر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فانه صحبك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك فى مسجد اومجلس او غير ذلك من ادنى صحبة التأمت بينك وبينه فعليك ان ترى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة الى الاحسان { وابن السبيل } هو المسافر الذى سافر عن بلده وماله والاحسان بان تؤويه وتزوده او هو الضيف الذى ينزل عليك وحقه ثلاثة ايام وما زاد على ذلك فهو صدقة ولا يحل له ان يقيم عنده حتى يخرجه { وما ملكت ايمانكم } من العبيد والاماء والاحسان اليهم بان يؤدبهم ولا يكلفهم مالا طاقة لهم ولا يكثر العمل لهم طول النهار ولا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون اليه
قال بعضهم كل حيوان فهو مملوك والاحسان اليه بما يليق به طاعة عظيمة { ان الله لا يحب من كان مختالا } اى متكبرا يأنف من اقاربه وجيرانه واصحابه ولا يلتفت اليهم { فخورا } بما لا يليق يتفاخر عليهم ولا يقوم بالحقوق ويقال فخورا فى نعم الله لا يشكر قال الله تعالى لموسى عليه السلام [ يا موسى انى انا الله لا اله الا انا فاعبدنى وحدى لا شريك لى فمن لم يرض بقضائى ولم يشكر على نعمائى ولم يصبر على بلائى ولم يقنع بعطائى فليعبد ربا سواى .(2/463)
يا موسى لولا من يسجد لى ما انزلت من السماء قطرة ولا انبت فى الارض شجرة ولولا من يعبدنى مخلصا لما امهلت من يجحدنى طرفة عين ولولا من يشكر نعمتى لحبست القطر فى الجو . يا موسى لولا التائبون لخسفت بالمذنبين ولولا الصالحون لاهلكت الطالحين ]
واعلم ان العبادة ان تعبد الله وحده بطريق اوامره ونواهيه ولا تعبد معه شيأ من الدنيا والعقبى فانك لو عبدت الله خوفا من شىء او طمعا فى شىء فقد عبدت ذلك الشىء والعبودية طلب المولى بالمولى بترك الدنيا والعقبى والتسليم عند جريان القضاء شاكرا صابرا فى النعم والبلوى فلا بد من التوحيد الصرف وترك الشرك حتى يوصله الله الى مبتغاه : قال بعض العارفين
نقد هستى محو كن در « لا اله » ... تابه بينى دار ملك بادشاه
غير حق هرذره كان مقصود تست ... تيغ « لا » بركش كه آن معبودتست
« لا » كه عرش وفرش رابرمى درد ... از فنا سوى بقاره ميبرد
« لا » ترا از تو رهايى ميدهد ... با خدايت آشنايى ميدهد
جون توخودرا از ميان برداشتى ... قصر ايمانرا درى افراشتى
فاذا حصل المقصود ووصل العابد الى المعبود فحيئنذ يصح منه بالوالدين احسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين الآية لان الاحسان صفات الله تعالى لقوله تعالى { الذى احسن كل شىء خلقه } والاساءة من صفات الانسان لقوله { ان النفس لامارة بالسوء } فالعبد لا يصدر منه الاحسان الا ان يكون متخلقا باخلاق نفسه كما قال تعالى { ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك } وفيه اشارة اخرى وهى ان شرط العبودية الاقبال على الله بالكلية والاعراض عما سواه ولا يصدر منه الاحسان الا اذا اتصف باخلاق الله حتى يخرج من عهدة العبودية بالوصول الى حضرة الربوبية فتفنى عنك به وتبقى به للوالدين وغيرهما محسنا لاحسانه بلا شرك ولا رياء فان الشرك والرياء من بقاء النفس ولهذا قال عقيب الآية { ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا } لان الاختيار والفخر من اوصاف النفس والله تعالى لا يحب النفس ولا اوصافها لان النفس لا تحب الله ولا المحبة من اوصافها فانها تحب الدنيا وزخارفها وما يوافق مقتضاها قال صلى الله عليه وسلم « الشرك اخفى فى ابن آدم من دبيب النملة على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء » ومن خدم مخلوقا خوفا من مضرته او طمعا فى منفعته فقد اشرك عملا(2/464)
كه داند جودربند حق نيستى ... اكر بى وضو درنماز ايستى
بروى ريا خرقة سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت
اكرجز بحق ميرود جاده ات ... در آتش فشانند سجاده ات
قال تعالى { وقدمنا الى ما عملوا من علم فجعلناه هباء منثورا } يعنى الاعمال التى عملوها لغير وجه الله ابطلنا ثوابها وجعلناها كالهباء المنثور وهو الغبار الذى يرى فى شعاع الشمس وجاء رجل الى النبى عليه السلام فقال يا رسول الله انى اتصدق بالصدقة فالتمس بها وجه الله تعالى واحب ان يقال لى فيه خير فنزل قوله تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه } يعنى من خاف المقام بين يدى الله تعالى ويريد ثوابه { فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا } رزقنا الله واياكم الاخلاص(2/465)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
{ الذين يبخلون } بما منحوا به وهو مبتدأ خبره محذوف اى احقاء بكل ملامة { ويأمرون الناس بالبخل } به اى بما منحوا به عطف على ما قبله { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } اى من المال والغنى { واعتدنا للكافرين عذابا مهينا } وضع الظاهر موضع المضمر اشعار بان من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله ومن كان كافرا بنعمة الله فله عذاب يهينه كما اهان النعمة بالبخل والاخفاء
والآية نزلت فى طائفة من اليهود كانوا يقولون للانصار بطريق النصيحة لا تنفقوا اموالكم فانا نخشى عليكم الفقر(2/466)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{ والذين ينفقون اموالهم رئاء الناس } اى للفخار وليقال ما اسخاهم وما اجودهم لا لابتغاء وجه الله وهو عطف على الذين يبخلون ورئاء الناس مفعوله وانما شاركهم فى الذم والوعيد لان البخل والسرف الذى هو الانفاق فيما لا ينبغى من حيث انه طرفا تفريط وافراط سواء فى القبح واستتباع الذم واللوم { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ليحوزوا بالانفاق مراضيه وثوابه وهم مشركوا مكة المنفقون اموالهم فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء فرينا } اى بئس الصاحب والمقارن الشيطان واعوانه حيث حملوهم على تلك القبائح وزينوها لهم(2/467)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
{ وماذا عليهم } اى على من ذكر من الطوائف { لو آمنوا بالله واليوم الآخر وانفقوا مما رزقهم الله } ابتغاء لوجه الله لان ذكر الايمان بالله واليوم الآخر يقتضى ان يكون الانفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة اى وما الذى عليهم فى الايمان بالله تعالى والانفاق فى سبيله وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد فى الشىء بخلاف ما هو عليه وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعله يؤدى بهم الى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة وتنبيه على ان المدعو الى امر لا ضرر فيه ينبغى ان يجيب اليه احتياطا فكيف اذا كان فيه منافع لا تحصى { وكان الله بهم } وباحوالهم المحققة { عليما } فهو وعيد لهم بالعقاب فقد اخبر الله تعالى بدناءه همة الاشقياء وقصور نظرهم وانهم يقنعون بقليل من الدنيا الدنية ويحرمون من كثير من المقامات الاخروية السنية ولا ينفقونه فى طلب الحق ورضاه بل ينفقونه فيما لا ينبغى
هركه مقصودش ازكرم آنست ... كه بر آرد بعالم آوازه
باشد از مصر فضل وجود وكرم ... خانه او برون ز در وازه
قال بعض الحكماء مثل من يعمل الطاعات للرياء والسمعة كمثل رجل خرج الى السوق وملأ كيسه حصى فيقول الناس ما املأ كيس هذا الرجل ولا منفعة له سوى مقالة الناس ولو اراد ان يشترى به شيأ لا يعطى له شىء كذلك الذى عمل للرياء والسمعة
قال حامد اللفاف اذا اراد الله هلاك امرىء عاقبه بثلاثة اشياء . اولها يرزقه العلم ويمنعه عن عمل العلماء . والثانى يرزقه صحبة الصالحين ويمنعه عن معرفة حقوقهم . والثالث يفتح عليه باب الطاعة ويمنعه الاخلاص وانما يكون ذلك المذكور لخبث نيته وسوء سريرته لان النية لو كانت صحيحة لرزقه الله منفعة العلم ومعرفة حقوقهم واخلاص العمل
عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغز بوست
جه زنار مغ درميانت جه دلق ... كه دبوشى ازبهر بندار خلق
فعلى الفتى ان يتخلص من الرياء فى انفاقه وفى كل اعماله ويكون سخيا لا شحيحا فان شكر المال انفاقه فى سبيل الله : قال الشيخ العطار قدس سره
توانكر كه ندارد باس درويش ... زدست غيرتش برجان رسدنيش
ويناسبه ما قال الحافظ
كنج قارون فروميرود از فكر هنوز ... خوانده باشى كه هم از غيرت درويشانست
واذا كان بخيلا ومع هذا امر الناس بالبخل يكون ذلك وزرا على وزر
قال صاحب الكشاف ولقد رأينا ممن بلى بلاء البخل من اذا طرق سمعه ان احدا جاد على احد شخص بصره وحل حبوته واضطرب وزاغت عيناه فى رأسه كأنما نهب رحله وكسرت خزائنه ضجرا من ذلك وحشرة على وجوده انتهى وهذا فى كل زمان لا يعطون ويمنعون من يعطى ان قدروا(2/468)
والحاصل انهم يجتهدون فى منع من قصد خيرا كبناء القناطر والجسور وحفر الآبار وسائر الخيرات وذلك لكمال دناءتهم وقصور نظرهم وعدم شكرهم واللئيم لا يفعل الا ما يناسب طبعه
جو منعم كند سفله را روزكار ... نهد بردل تنك درويش بار
جوبام بلندش بودخودبرست ... كندبول وخاشاك بربام بست
قال بشير بن الحارث النظر الى البخيل يقسى القلب فلا بد من مجانبة مجالسته وصحبته
جونكه باشدت مجاورت لازم ... همجوار كريم بايد بود
كركنى باكسى مشاوره ... آن مشاور حكيم بايد بود
ففى السخاء بركات فى الدين والدنيا والآخرة
قيل ان مجوسيا تصدق بمائة دينار فرأى الشبلى ذلك فقال ما تنفعك هذه الصدقة فبكى المجوسى ونظر الى السماء فاذا رقعة وقعت عليه مكتوب فيها بخط اخضر
مكافأة السماحة دار خلد ... وأمن من مخافة يوم بوس
وما نار بمحرقة جوادا ... ولو كان الجواد من المجوس
يعنى ان الله تعالى يوفق السخى للايمان ان كان كافرا ولزيادة الطاعة والاخلاص فيها ان كان مؤمنا فيترقى الى الدرجات العلى ويليق بمشاهدة ربه الاعلى(2/469)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{ ان الله لا يظلم مثقال ذرة } لا ينقص من الاجر ولا يزيد فى العقاب شيأ مقدار ذرة وهى النملة الصغيرة الحمراء التى لا تكاد ترى من صغرها او الصغير جدا من اجزاء التراب او ما يظهر من اجزاء الهباء المنبث الذى تراه فى البيت من ضوء الشمس وهو الانسب بمقام المبالغة وهذا نفى للظلم لانه اذا نفى القليل نفى الكثير لان القليل داخل فى الكثير { وان تك حسنة } اى وان يك مثقال الذرة حسنة انث الضمير لتأنيث الخبر او لاضافة المثقال الى مؤنث وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة وتخفيفا لكثرة الاستعمال { يضاعفها } اى يضاعف ثوابها لان تضاعف نفس الحسنة بان يجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل { ويؤت من لدنه } ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضيل زائدا على ما وعد فى مقابلة العمل { اجرا عظيما } عطاء جزيلا وانما سماه اجرا لكونه تابعا للاجر مزيدا عليه
قال فى التيسير وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع انه سمى الدنيا وما فيها قليلا وسمى هذا الفضل عظيما روى انه يؤتى يوم القيامة بالعبد وينادى مناد على رؤوس الاولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت الى حقه ثم يقال له اعط هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من اين وقد ذهبت الدنيا فيقول الله لملائكته انظروا فى اعماله الصالحة فاعطوهم منها فان بقى مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وادخله الجنة بفضله ورحمته والظاهر ان ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها فى الجنة واما هذا الاجر العظيم الذى يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية وعند الاستغراق فى المحبة والمعرفة وانما خص هذا النوع بقوله من لدنه لان هذا النوع من الغبطة والسعادة والكمال لا ينال بالاعمال الجسدية بل انما ينال بما يودع الله فى جوهر النفس المقدسية من الاشراق والصفاء والنور وبالجملة فذلك التضعيف اشارة الى السعادات الجسمانية وهذا الاجر العظيم اشارة الى السعادات الروحانية
ورد فى الخبر الصحيح « ان الله تعالى يقول لملائكته حين دخل اهل الجنة الجنة اطعموا اوليائى فيؤتى بالوان الاطعمة فيجدون لكل نعمة لذة غير ما يجدون للاخرى فاذا فرغوا من الطعام يقول الله تعالى اسقوا عبادى فيؤتى باشربة فيجدون لكل شربة لذة بخلاف الاخرى فاذا فرغوا يقول الله تعالى انا ربكم قد صدقتكم وعدى فاسألونى اعطم قالوا ربنا نسألك رضوانك مرتين او ثلاثا فيقول رضيت عنكم ولدىّ المزيد فاليوم اكرمكم بكرامة اعظم من ذلك كله فيكشف الحجاب فينظرون اليه ما شاء الله فيخرون اليه سجدا فيكونون فى السجود ما شاء الله تعالى ثم يقول لهم ارفعوا رؤسكم ليس هذا موضع عبادة فينسون كل نعمة كانوا فيها ويكون النظر اليه احب اليهم من جميع النعم »(2/470)
جان بيجمال ميل جهان ندارد ... وانكس كه اين ندارد حقا كه آن ندارت
« فيهب ريح من تحت العرش على تل من مسك اذفر فينشر المسك على رؤسهم ونواصى خيولهم فاذا رجعوا الى اهليهم يرون ازواجهم فى الحسن والبهاء افضل مما تركوهن ويقول لهم ازواجهم قد رجعتم احسن مما كنتم » ومطمع نظر العارف الجنة المعنوية
قال ابو يزيد البسطامى حلاوة المعرفة الآلهية خير من جنة الفردوس واعلى عليين لو فتحوا لى الجنات الثمان واعطونى الدنيا والآخرة لم يقابل انينى وقت السحر طال انسى بالله
وقال مالك بن دينار خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا اطيب الاشياء قيل وما هو قال معرفة الله تعالى : قال جلال الدين قدس سره
اى خنك انراكه ذات خود شناخت ... اندر امن سرمدى قصرى بساخت
بس جو آهن كرجه تيره هيكلى ... صيقلى كن صيقلى كن صيقلى
دفع كن از مغز از بينى زكام ... تاكه ريح الله درآيد از مشام
هيج مكذار ازتب وصفرا اثر ... تابيابى درجهان طعم شكر
اوصلنا الله واياكم الى معرفته وادخلنا الجنة برحمته(2/471)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
{ فكيف } محلها النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال او الظرف اى فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم { اذا جئنا } يوم القيامة { من كل امة } من الامم { بشهيد } يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الافعال وهو نبيهم { وجئنا بك } احضرناك يا محمد { على هؤلاء } اشارة الى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر من قوله بشهيد { شهيدا } تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعك لمجامع قواعدهم او اشارة الى المكذبين المستفهم عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيان كما يشهد سائر الانبياء على اممهم(2/472)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول } بيان لحالهم التى اشير الى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى { فكيف } الخ وعصيان الرسول محمول على المعاصى المغايرة للكفر فلا يلزم عطف الشىء على نفسه اى يتمنى الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الرسول والمراد الذين كفروا والذين عصوا الرسول { لو تسوى بهم الارض } لو بمعنى ان المصدرية والجملة مفعول يود اى يودون ان يدفنوا فتسوى بهم الارض كالموتى فتسوية الارض بهم كناية عن دفنهم او يودون انهم لم يبعثوا ولم يخلقوا وكأنهم والارض سواء
قال بعض الافاضل الباء للملابسة اى تسوى الارض ملتبسة بهم ولا حاجة الى الحمل على القلب لقلة الفرق بين تسويتهم بالارض والتراب وتسويتها بهم { ولا يكتمون الله حديثا } عطف على يود اى ولا يقدرون على كتمانه لان جوارحهم تشهد عليهم او الواو للحال اى يودون ان يدفنوا فى الارض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم والله ربنا ما كنا مشركين اذ روى انهم اذا قالوا ذلك ختم الله على افواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الامر عليهم فيتمنون ان تسوى بهم الارض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فتقول ما جاءنا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون انه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا ثم يدعى غيره من الانبياء عليهم السلام ثم ينادى كل انسان باسمه واحدا واحدا وتعرض اعمالهم على رب العزة قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها »
وذكر ابو حامد فى كتاب كشف علوم الآخرة ان هذا يكون بعد ما يحكم الله تعالى بين البهائم ويقتص للجماء من القرناء ويفصل بين الوحوش والطير ثم يقول لهم كونوا ترابا فتسوى بهم الارض فحينئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ويتمنى الكافر فيقول يا ليتنى كنت ترابا
واعلم انه يعرض على النبى عليه السلام اعمال امته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم واعمالهم فلذلك يشهد عليهم وتعرض على الله يوم الخميس ويوم الاثنين وعلى الانبياء والآباء والامهات يوم الجمعة فتفكر يا اخى وان كنت شاهدا عدلا بانك مشهود عليك فى كل احوالك من فعلك ومقالك واعظم الشهود لديك المطلع عليك الذى لا يخفى عليه خائنة عين ولا يغيب عنه زمان ولا اين فاعمل عمل من يعلم انه راجع اليه وقادم عليه يجازى على الصغير والكبير والقليل والكثير
درخيربازست وطاعت وليك ... نه هركس تواناست برفعل نيك
همه برك بودن همه ساختى ... بتدبير رفتن نبرداختى
فلا تضيع ايامك فان ايامك رأس مالك وانك ما دمت قابضا على رأس مالك فانك قادر على طلب الربح لان بضاعة الآخرة كاسدة فى يومك هذا فاجتهد حتى تجمع بضاعة الآخرة فى وقت الكساد فانما يجيئ يوم تصير هذه البضاعة عزيزة فاكثر منها فى يوم الكساد ليوم العزة فانك لا تقدر على طلبها فى ذلك اليوم روى ان الموتى يتمنون ان يؤذن لهم بان يصلوا ركعتين او يؤذن لهم ان يقولوا مرة واحدة لا اله الا الله او يؤذن لهم فى تسبيحة واحدة فلا يؤذن لهم ويتعجبون من الاحياء انهم يضيعون ايامهم فى الغفلة(2/473)
مهلكه عمر به بيهوده بكذرد حافظ ... بكوش وحاصل عمر عزيزرا دريات
قال القاشانى فى قوله تعالى { فكيف اذا جئنا } الشهيد والشاهد ما يحضر كل احد مما بلغه من الدرجة وهو الغالب عليه فهو يكشف عن حاله وعمله وسعيه ومبلغ جهده مقاما كان او صفة من صفات الحق او رأيا فلكل امة شهيد بحسب ما دعاهم اليه نبيهم وعرفه اليهم ولم يبعث الا بحسب ما يقتضيه استعداد امته فما دعاهم الا الى ما يطلب استعدادهم مما وصل اليه النبى من مقامه فى المعرفة فلا يعرف احد باطن امرهم وما هم عليه من احوالهم كنبيهم ولذلك جعل كل نبى شهيدا على امته وقد ورد فى الحديث « ان الله يتجلى لعباده فى صورة معتقدهم فيعرفه كل واحد من اهل الملل والمذاهب ثم يتحول عن تلك الصورة فيبرز فى صورة اخرى فلا يعرفه الا الموحدون الواصلون الى حضرة الاحدية من كل باب » وكما ان لكل امة شهيدا فلكل اهل مذهب شهيد ولكل احد شهيد يكشف عن حال مشهوده . واما المحموديون فهم شهداء على الامم ونبيهم شهيد عليهم لكونهم من الامم ولكون نبيهم حبيبا مؤتى بجوامع الكلم متمما لمكارم الاخلاق فلا جرم يعرفون الله عند التحول فى جميع الصور اذا تابعوا نبيهم حق المتابعة ونبيهم يشهدهم ويعرف احوالهم انتهى بعبارته جعلنا الله واياكم من الكاملين الواصلين الى حق اليقين(2/474)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
{ يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } روى ان عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من افاضل الصحابة رضى الله عنهم حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب قدموا احدهم ليصلى بهم فقرأ قل يا ايها الكافرون اعبد ما تعبدون وانتم عابدون ما اعبد الى آخرها بطرح اللاآت فنزلت فكانوا لا يشربون فى اوقات الصلاة فاذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون الا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها وتوجيه النهى الى قربان الصلاة مع ان المراد هو النهى عن اقامتها للمبالغة فى ذلك
قال فى التيسير ثم النهى ليس عن عين الصلاة فانها عبادة فلا ينهى عنها بل هو نهى اكتساب السكر الذى يعجز به عن الصلاة على الوجه
قال الامام ابو منصور رحمه الله وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « ا صلاة للعبد الآبق ولا للمرأة الناشزة » ليس فيه النهى عن الصلاة لكن النهى عن الاباق والنشوز وهذا لان الاباق والنشوز والسكر ليست بالتى تعمل فى اسقاط الفرض فالمعنى لا تقيموها حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولون اذ بتلك التجربة يظهر انهم يعلمون ما سيقرؤونه فى الصلاة والسكر اسم لحالة تعرض بين المرء وعقله واكثر ما يكون من الشراب وقد يكون من العشق والنوم والغضب والخوف لكنه حقيقة فى الاول فيحمل عليه هنا . والسكارى جمع سكران كالكسالى جمع كسلان واجمعوا على انه لا يجوز بيع السكران وشراؤه ويؤاخذ بالاستهلاكات والقتل والحدود وصح طلاقه وعتاقه عقوبة له عندنا خلافا للشافعى { ولا جنبا } عطف على قوله وانتم سكارى فانه فى حيز النصب كأنه قيل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا . والجنب من اصابته الجنابة يستوى فيه المؤنث والمذكر والواحد والجمع لجريانه مجرى المصدر واصل الجنابة البعد والجنب مبعد عن القراءة والصلاة وموضعها { الا عابرى سبيل } استثناء مفرغ من اعم الاحوال محله النصب على انه حال من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيده بالحال الثانية دون الاولى والعامل فيه النهى اى لا تقربوا الصلاة جنبا فى حال من الاحوال الا حال كونكم مسافرين فتعذرون بالسفر فتصلون بالتيمم { حتى تغتسلوا } غاية للنهى عن قربان الصلاة حالة الجنابة
وفى الآية الكريمة اشارة الى ان المصلى حقه ان يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وان يزكى نفسه عما يدنسها ولا يكتفى بادنى مراتب التزكية عند امكان اعاليها { وان كنتم مرضى } جمع مريض
والمرض على ثلاثة اقسام . احدها ان يكون بحيث لو استعمل الماء لمات كما فى الجدرى الشديد والقروح العظيمة وثانيها ان لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة ويشتد مرضه او يمتد .(2/475)
وثالثها ان لا يخاف الموت ولا الآلام الشديدة لكنه يخاف بقاء شين او عيب فى البدن فالفقهاء جوزوا التيمم فى القسمين الاولين وما جوزوه فى القسم الثالث { او على سفر } عطف على مرضى اى او كنتم على سفر ما طال او قصر وايراده مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعى عليه وبيان كيفيته وتعليق التيمم بالمرض والسفر مع اتم الحكم كذلك فى كل موضع تحقق العجز حتى قال ابو حنيفة يجوز التيمم للجنابة فى المصر اذا عدم الماء الحار لان العجز عن استعمال الماء يقع فيها غالبا { او جاء احد منكم من الغائط } وهو المكان المنخفض المطمئن والمجيئ منه كناية عن الحدث لان المعتاد ان من يريده يذهب اليه ليوارى شخصه عن اعين الناس { او لامستم النساء } اى جامعتموهن يعنى اذا اصابكم امرض او السفر او الحدث او الجنابة { فلم تجدوا ماء } اى لم تقدروا على استعماله لعدمه او لبعده او لفقد آلة الوصول اليه من الدلو والرشاء او المانع عنه من حية او سبع او عدو { فتيمموا صعيدا طيبا } فاقصدوا شيأ من وجه الارض طاهرا
قال الزجاج الصعيد وجه الارض ترابا او غيره وان كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب ابى حنيفة رحمه الله فامسحوا بوجوهكم وايديكم الى المرفقين لما روى انه صلى الله عليه وسلم تيمم ومسح يديه الى مرفقيه ولانه بدل من الوضوء فيتقدر بقدره والباء زائدة اى فامسحوا وجوهكم وايديكم منه اى من الصعيد { ان الله كان عفوا غفورا } تعليل للترخيص والتيسير وتقرير لهما فان من عادته المستمرة ان يعفوا عن الخطائين ويغفر للمذنبين لا بد من ان يكون ميسرا لا معسرا
والاشارة ان الصلاة معراج المؤمن وميقات مناجاته والمصلى هو الذى يناجى ربه يعنى يا مدعى الايمان { لا تقربوا الصلوة وانتم سكارى } اى لا تجدوا القربة فى الصلاة وانتم سكارى من الغفلات وتتبع الشهوات لان كل ما اوجب للقلب الذهول عن الله فهو ملتحق بالسكر ومن اجله جعل السكر على اقسام فسكر من الخمر وسكر من الغفلة لاستيلاء حب الدنيا واصعب السكر سكرك من نفسك فان من سكر من الخمرة فقضاؤه الحرقة ومن سكر من نفسه ففي الوقت على الحقيقة له القطيعة والفرقة
اى اسيرننك نام خويشتن ... بسته خودرا بدام خويشتن
ورنكنجى باخود اندر كوى او ... كم شو ازخود تابيابى كوى ام
تاتونزديك خودى زين حرف دور ... غائبى يابى اكر خواهى حصور
تاتوا ازغفلت جوباده مست شدى ... لا جرم ازطور وصلت بست شدى(2/476)
{ حتى تعلموا ما تقولون } ولماذا تقولون كما تقولون الله اكبر لتكبيرة الاحرام عند رفع اليدين ومعناه الله اعظم واجل من كل شىء فان كنت تعلم عند التقول به فينبغى ان لا يكون فى تلك الحالة فى قلبك عظمة شىء آخر وامارة ذلك ان لا تجد ذكر شىء فى قلبك مع ذكره تعالى ولا محبة شىء مع محبته ولا طلب شىء مع طلبه فانه تبارك وتعالى واحد لا يقبل الشركة فى جميع صفاته والا كنت كاذبا فى قولك الله اكبر بالنسبة الى حالك وكنت كالسكران لا تجد القربة من صلاتك لان القربة مشروطة بشرط السجود كما خوطب به { واسجد واقترب } والسجود ان تنزل من مركب اوصاف وجودك لتحمل على رفرف جوده الى قاب قوسين اوصاف وجوده لشهود جماله وجلاله وهذا هو سر التشهد بعد السجود ثم قال { ولا جنبا الا عابرى سبيل } يعنى كما لا تجدون القربة وانتم سكارى من الغفلات ايضا لا تجدونها مع جنابة استحقاق البعد وهى ملابسة الدنيا الدنية الا على طريق العبور بقدم ظاهر الشرع فى سبيل الاوامر والنواهى كعبور طريق الاعتداد بالمطعم والمشرب لسد الرمق وحفظ القوة والاكتساء لدفع الحر والبرد وستر العورة والمباشرة لحفظ النسل { حتى تغتسلوا } بماء القربة والانابة وصدق الطلب وحسن الارادة وخلوص النية من جنابة ملابسة الدنيا وشهواتها { وان كنتم مرضى } بانحراف مزاج القلب فى طلب الحق { او على سفر } التردد بين طلب الدنيا وطلب العقبى والمولى { او جاء احد منكم من الغائط } من غائط تتبع الهوى { او لامستم النساء } اى لابستم الاشغال الدنيوية فاجنبتم وتباعدتم عن الله بعدما كنتم مجاورى حظائر القدس ووقعتم فى رياض الانس { فلم تجدوا ماء } صدق الانابة والرجوع الى الحق بالاعراض والانقطاع عن الخلق { فتيمموا صعيدا طيبا } وهو تراب اقدام الرجال الطيبين من سوء الاخلاق والاعمال { فامسحوا بوجوهكم } تراب اقدامهم وتمسكوا { بايديكم } اذيال كرمهم مستسلمين بصدق الارادة لاحكامهم { ان الله كان عفوا } يعفو عنكم التعصب وعدم الانقطاع اليه بالكلية ولعله يعفو التلوث بالدنيا الدنية بهذه الخصلة مرضية { غفورا } لكم آثار الشقوة من غبار الشهوة فانهم يسعد بهم لانهم قوم لا يشقى بهم جليسهم
كليد كنج سعادت قبول اهل دلست ... مبادكس كه درين نكته شك وريب كند
شبان وادئ ايمن كهى رسد بمراد ... كه جند سال بجان خدمت شعيب كند(2/477)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{ ألم تر } الخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين والرؤية بصرية لشهرة شنائع الموصوفين حتى انتظمت فى سلك الامور المشاهدة { الى الذين اوتوا نصيبا } حظا كائنا { من الكتاب } من علم الكتاب وهو التوراة والمراد بهم احبار اليهود اى الم تنظر اليهم فانهم احقاء بان تشاهدهم وتتعجب من احوالهم
نزلت فى حبرين من احبار اليهود كانا يأتيان رئيس المنافقين عبد الله بن ابى ورهطه يثبطانهم عن الاسلام { يشترون الضلالة } كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر اليهم فقيل يأخذون الضلالة ويتركون ما اوتوه من الهداية { ويريدون } اى لا يكتفون بضلالة انفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته صلى الله عليه وسلم { ان تضلوا } انتم ايضا ايها المؤمنون { السبيل } المستقيم الموصل الى الحق وانما ارادوا ذلك ليكون الناس كلهم على دينهم فتكون لهم الرياسة على الكل واخذ المرافق من الكل(2/478)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
{ والله اعلم } اى منكم { باعدائكم } جميعا ومن جملتهم هؤلاء وقد اخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون لكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم او هو اعلم بحالهم ومآل امرهم { وكفى بالله } الباء مزيدة { وليا } متكفلا فى جميع اموركم ومصالحكم او محبا لكم { وكفى بالله نصيرا } فى كل المواطن فثقوا به واكتفوا بولايته ونصرته ولا تتولوا غيره او لا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء فانه تعالى معين يكفيكم مكرهم وشرهم ففيه وعد ووعيد
والاشارة ان من رزق شيأ من علم الكتاب ظاهرا ولم يرزق اسراره وحقائقه وهم علماء السوء المداهنون فى دين الله حرصا على الدنيا وطمعا فى المال والجاه وحبا للرياسة والقبول { يشترون الضلالة } وهى المداهنة واتباع الهوى فيبيعون الدين بالدنيا { ويريدون ان تضلوا السبيل } يا معشر العلماء الاتقياء وورثة الانبياء وطلاب الحق من بين الخلق عن سبيل الحق بما يحسدونكم وينكرون عليكم ويلومونكم ويؤذونكم بطريق النصح واظهار المحبة { والله اعلم باعدائكم } فلا تقبلوا نصيحتهم فيما يقطعون عليكم طريق الحق ويردونكم عنه ويصدونكم عن الله بالتحريض على طلب غير الله ورعاية حق غير الله واطيعوا امر الله تعالى فيما امركم به
واعلم انك لا ترى حالا اسوأ ولا اقبح ممن جمع بين هذين الامرين اعنى الضلال والاضلال واكثر ما يكونان فى العلماء يطمعون فيما فى ايدى الخلق فيداهنون فيضلون فسبب زوال المداهنة قطع الطمع روى عن بعض المشايخ انه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب فى جواره كل يوم شيأ من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكرا فدخل واخرج السنور اولا ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب لا اعطيك بعد اليوم لسنورك شيأ فقال ما احتسب عليك الا بعد اخراج السنور وقطع الطمع منك فهو كما قال فمن طمع فى ان تكون قلوب الناس عليه طيبة لم يتيسر له الحسبة
فعلى العاقل ان يزكى نفسه عن الاخلاق الرديئة ويطهرها من الخصال الذميمة
جون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست ... نبود خيردر آن خانه كه عصمت نبود(2/479)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{ من الذين هادوا } خبر مبتدأ محذوف اى من الذين هادوا قوم { يحرفون الكلم عن مواضعه } الكلم اسم جنس ولذا ذكر الضمير فى مواضع وجمع المواضع لتكرره فى التوراة فى مواضع بحسب الجنس اى يزيلون لانهم لما غيروه ووضعوا مكانه غيره فقد ازالوه عن مواضعه التى وضعه الله فيها وامالوه عنها . والتحريف نوعان . احدهما صرف الكلام الى غير المراد بضرب من التأويل الباطل كما يفعل اهل البدعة فى زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم . والثانى تبديل الكلمة باخرى وكانوا يفعلون ذلك نحو تحريفهم فى نعت النبى صلى الله عليه وسلم اسمر ربعة عن موضعه فى التوراة بوضعهم آدم طوال مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله { ويقولون } فى كل امر مخالف لاهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبى عليه السلام ام لا بلسان المقال والحال { سمعنا } قولك { وعصينا } امرك عنادا وتحقيقا للمخالفة { واسمع } اى قولنا { غير مسمع } حال من المخاطب وهو كلام ذو وجهين . احدهما المدح بان يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروها . والثانى الذم بان يحمل على معنى اسمع حال كونك غير مسمع كلاما اصلا بصمم او موت اى مدعوا عليك بلا سمعت لانه لو اجيبت دعوتهم عليه لم يسمع فكان اصم غير مسمع فكأنهم قالوا ذلك تمنيا لاجابة دعوتهم عليه كانوا يخاطبون به النبى عليه السلام مظهرين له ارادة المعنى الاول وهم مضمرون فى انفسهم المعنى الاخير مطمئنون به { وراعنا } كلمة ذات جهتين ايضا . محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانتظرنا واصرف سمعك الى كلامنا نكلمك . وللشر بحملها على السب بالرعونة اى الحمق او باجرائها مجرى شبهها من كلمة عبرانية او سريانية كانوا يتسابون بها وهى راعنا كانوا يخاطبون به النبى صلى الله عليه وسلم ينوون الشتيمة والاهانة ويظهرون التوقير والاحترام
فان قلت كيف جاؤا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا قلت جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء حشمة منه عليه السلام وخوفا من بطش المؤمنين { ليا بألسنتهم } انتصابه على العلية اى يقولون ذلك للفتل بها ولصرف الكلام عن نهجه الى نسبة السب حيث وضعوا غير مسمع موضع لا استمعت مكروها واجروا راعنا المشابهة لراعينا مجرى انظرنا او فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير الى ما يضمرون من السب والتحقير { وطعنا فى الدين } اى قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية { ولو انهم } عندما سمعوا شيأ من اوامر الله ونواهيه { قالوا } بلسان المقال او بلسان الحال مكان قولهم سمعنا وعصينا { سمعنا واطعنا } وبدل قولهم واسمع غير مسمع { واسمع } ولا يلحقون به غير مسمع وبدل قولهم راعنا { وانظرنا } ولم يدسوا تحت كلامهم شرا وفسادا اى لو ثبت انهم قالوا هذا مكان ما قالوا من الاقوال { لكان } قولهم ذلك { خيرا لهم } مما قالوا { واقوم } اى اعدل واسد فى نفسه واصوب من القيم اى المستقيم قالوا لما لم يكن فى الذى اختاروه خيرا اصلا لم جعل هذا خيرا من ذلك وجوابه انه كذلك على زعمهم فخوطبوا على ذلك وهو كقوله(2/480)
{ الله خير ام ما يشركون } { ولكن لعنهم الله بكفرهم } اى ولكن قالوا ذلك واستمروا على كفرهم فخذلهم الله وابعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك { فلا يؤمنون } بعد ذلك { الا قليلا } استثناء من ضمير المفعول فى لعنهم اى ولكن لعنهم الله الا فريقا قليلا فانه تعالى لم يلعنهم فلم ينسد عليهم باب الايمان وقد آمن بعد ذلك فريق من الاحبار كعبد الله بن سلام وكعب واضرابهما وهو استثناء من ضمير لا يؤمنون اى لا يؤمنون الا ايمانا قليلا وهو ايمانهم بموسى وكفرهم بمحمد عليهما السلام
والاشارة ان العلماء السوء من هذه الامة { يحرفون الكلم عن مواضعه } بالفعال لا بالمقال كما كان اهل الكتاب يحرفونه بالمقال { ويقولون سمعنا } بالمقال فيما امر الله به من ترك الدنيا وزينتها واتباع الهوى ومن ايثار الآخرة على الاولى والانقطاع عن الخلق فى طلب المولى { وعصينا } بالفعال اذ لا يشمون روائح هذه المعاملات ولا يدورون حول هذه المقامات وينكرون على اهل هذه الكرامات ويستهزؤن بانواع المقالات فلا يؤمنون بالقلوب السليمة الا قليلا منها بان يكفروا بهوى نفوسهم ويؤمنوا بالايمان الحقيقى الذى هو من نتائج الارادة والصدق فى طلب الحق والاخلاص فى العمل لله وترك الدنيا وزخارفها بل بذل الوجود فى طلب المعبود : قال العطار قدس سره
مشو مغرور اين نطق مزور ... بنادانى مكن خودرا توسرور
اكر علم همه عالم بخوانى ... جوبى عشقى ازوحر وفى ندانى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من تعلم علما لا يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعمله الا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة » اى ريحها
قال الشيخ الشاذلى العلم النافع هو الذى يستعان به على طاعة الله ويلزمك المخافة من الله والوقوف على حدود الله وهو علم المعرفة بالله
قال الشيخ ابو الحسن رضى الله عنه العلوم كالدنانير والدراهم ان شاء نفعك بها وان شاء اضرك معها والعلم ان قارنته الخشية فلك اجره وثوابه وحصول النفع به والا فعليك وزره وعقابه وقيام الحجة به وعلامة خشية الله ترك الدنيا والخلق ومحاربة النفس والشيطان : قال الشيخ السعدى قدس سره
دعوى كنى كه بر ترم از ديكران بعلم ... جون كبر كردى ازهمه دونان فروترى
شاخ درخت علم ندانم بجز عمل ... تاعلم باعمل نكنى شاخ بى برى
علم آدميتست وجوانمردى وادب ... ورنه بدى بصورت انسان برابرى
ترك هواست كشتىء درياى معرفت ... عارف بذات شونه بدين قلندرى
هر علم راكه كار نه بندى جه فائده ... جشم از براى آن بود آخركه بنكرى(2/481)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{ يا ايها الذين اوتوا الكتاب } اى التوراة { آمنوا بما نزلنا } من القرآن حال كونه { مصدقا لما معكم } من التوراة ومعنى تصديقه اياها نزوله حسبما نعت لهم فيها او كونه موافقا لها فى القصص والمواعيد والدعوة الى التوحيد والعدل بين الناس والنهى عن المعاصى والفواحش واما ما يتراءى من مخالفته لها فى جزئيات الاحكام بسبب تفاوت الامم بالاعصار فليست بمخالفة فى الحقيقة بل هى عين الموافقة من حيث ان كلا منهما حق بالاضافة الى عصره متضمن للحكمة التى عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم « لو كان موسى حيا لما وسعه الا اتباعى » من قبل ان نطمس وجوها } الطمس محو الآثار وازالة الاعلام اى آمنوا من قبل ان نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها من عين وحاجب وانف وفم { فنردها على ادبارها } فنجعلها على هيئة ادبارها وهى الاقفاء مطموسة مثلها وهذا معنى قول ابن عباس رضى الله عنهما نجعلها كخف البعير وحافر الدابة فتكون الفاء للتسبيب اى بان نردها على ادبارها او ننكسها بعد الطمس فنردها الى موضع الاقفاء والاقفاء الى موضعها على انهم توعدوا بعقابين احدهما عقيب الآخر طمسها ثم ردها على ادبارها { او نلعنهم } او نخزى اصحاب الوجوه بالمسخ { كما لعنا اصحاب السبت } مسخناهم قردة وخنازير ووقوع الوعيد مشروط بالايمان ومعلق به وجودا وعدما بمعنى ان وجد منهم الايمان لم يقع والا وقع وقد وجد الايمان منهم حيث آمن ناس منهم فلم يقع الوعيد { وكان امر الله } اى عذابه { مفعولا } كائنا لا محالة وهذا وعيد شديد لهم يعنى انتم تعلمون انه كان تهديد الله فى الامم السالفة واقعا لا محالة فكونوا على حذر من هذا الوعيد وارجعوا عن الكفر الى الايمان والاقرار بالتوبة والاستغفار
اعلم ان المسخ قد وقع فى هذه الامة ايضا . ومنه ما روى عن ابى علقمة انه قال كنت فى قافلة عظيمة فامرنا رجلا نرتحل بامره وننزل بامره فنزلنا منزلا وهو يشتم ابا بكر وعمر فقلنا له فى ذلك فلم يجب الينا بشىء فلما اصبحنا واوقرنا واصلحنا الراحلة لم يناد مناديه فجئنا ننظر ما حاله وما يصنع فاذا هو متربع وقد غطى رجليه بكساء له فكشفنا عنهما فاذا هو قد صار رجلاه كرجلى الخنازير فهيأنا راحتله وحملناه اليها فوثب من راحلته وقام برجليه وصاح ثلاث مرات صيحة الخنازير واختلط بالخنازير وصار خنزيرا حتى لا يعرفه منا احدا كذا فى روضة العلما وروى ان واحدا من رواة الاحاديث تحول رأسه رأس حمال لانكار وقوع مضمون حديث صحيح ورد فى حق المقتدى بالامام الرافع رأسه قبله او واضعه وحاصل الحديث ان من رفع رأسه قبل الامام او وضعه كيف لا يخاف من ان يصير رأسه رأس حمار فوقع فيما وقع وهذا هو مسخ الصورة ومسخ المعنى اشد واصعب منه فان اعمى الصورة مثلا يمكن ان يكون فى الآخرة بصيرا ولكن من كان فى هذه اعمى يعنى بالقلب فهو فى الآخرة اعمى واضل سبيلا وفضوح الدنيا اهون من فضوح الآخرة
فعلى السالك ان يجتهد حتى لا يرد وجهه الناطق الى الله تعالى على الدنيا واتباع الهوى ولا يمسخ صفاته الانسانية بالسبعة والشيطانية : قال الشيخ السعدى(2/482)
باتوترسم نشود شاهد روحانى دوست ... كالتماس توبجز عالم جسمانى نيست
سعى كن تازمقام حيوان دركذرى ... كاهنست آينه مادامكه نورانى نيست
خفتكانرا جه خبر زمزمه مرغ سحر ... حيوانرا خبر ازعالم انسانى نيست
قال الامام فى تفسير الآية وتحقيق القول فيها ان الانسان فى مبدأ خلقته الف هذا العالم المحسوس ثم انه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات الى عالم المعقولات فقدامه عالم المعقولات ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذى يرد من قدامه الى خلفه كما قال تعالى فى وصفهم { ناكسوا رؤسهم } انتهى فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الشر بعد الخير
عن عبد الله بن احمد المؤذن قال كنت اطوف حول البيت واذا انا برجل متعلق باستار الكعبة وهو يقول اللهم اخرجنى من الدنيا مسلما لا يزيد على ذلك شيأ فقلت له لم لا تزيد على هذا الدعاء فقال لو علمت قصتى كنت تعذرنى فقلت وما قصتك قال كان لى اخوان وكان الاكبر منهما مؤذنا اذن رابعين سنة احتسابا فلما حضره الموت دعا بالمصحف فظننا ان يتبرك به فاخذه بيده واشهد على نفسه من حضر انه بريء مما فيه ثم تحول الى دين النصرانية فمات نصرانيا فلما دفن اذن الآخر ثلاثين سنة فلما حضره الموت فعل كما فعل الآخر فمات على النصرانية وانى اخاف على نفسى ان اصير مثلهما فادعو الله تعالى ان يحفظ على دينى فقلت ما كان ديدنهما فقال كان يتتبعان عورات النساء وينظران الى المردان فهذا من آثار الرد واللعن والمسخ فنسأل الله تعالى ان يوفقنا لتزكية النفس واصلاحها ويختم عاقبتنا بالخير
خدايا بحب بنى فاطمه ... كه برقول ايمان كنم خاتمه(2/483)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
{ ان الله لا يغفر ان يشرك به } اى لا يغفر الكفر ممن اتصف به بلا توبة وايمان لان الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر وجواز مغفرته بلا ايمان مما يؤدى الى فتحه ولان ظلمات الكفر والمعاصى انما يسترها نور الايمان فمن لم يكن له ايمان لم يغفر له شىء من الكفر والمعاصى { ويغفر ما دون ذلك } اى ويغفر ما دون الشرك فى القبح من المعاصى صغيرة كانت او كبيرة تفضلا من لدنه واحسانا من غير توبة عنها لكن لا لكل احد بل { لمن يشاء } ان يغفر له ممن اتصف به فقط اى لا بما فوقه
قال شيخنا السيد الثانى سمى جامع القرآن وهم المؤمنون الذين اتقوا من الاشراك بالله تعالى فيغفر لهم ما دون الاشراك من الصغائر والكبائر لعدم اشراكهم به ولا يغفر للمشركين ما دون الاشراك ايضا لاشراكهم به فكما ان اشراكهم لا يغفر فكذلك ما دون اشراكهم لا يغفر بخلاف المؤمنين فانه تعالى كما وقاهم من عذاب الاشراك بحفظهم عنه كذلك وقاهم من عذاب ما دونه بمغفرته لهم { ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما } اى من افترى واختلق مرتكبا اثما لا يقادر قدره ويستحقر دون جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا
وهذه الآية من اجل الآيات التى كانت خيرا لهذه الامة مما طلعت عليه الشمس وما غربت واعظمها لانها تؤذن بان ما دون الشرك من الذنب مغفور بحسب المشيئة والوعد المعلق بالمشيئة من الكريم محقق الانجاز خصوصا لعباده الموحدين المخلصين من المحمديين كما قال لهم { ان الله يغفر الذنوب جميعا } روى ان وحشيا قاتل حمزة عم النبى عليه السلام كتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم انى اريد ان اسلم ولكن يمنعنى من الاسلام آية فى القرآن نزلت عليك وهو قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق ولا يزنون } وانى قد فعلت هذه الاشياء الثلاثة فهل لى من توبة فنزلت هذه الآية { الا من تاب وآمن وعمل صالحا فاولئك يبدل الله سيأتهم حسنات } فكتب ان فى الآية شرطا وهو العمل الصالح فلا ادرى انا اقدر على العمل الصالح ام لا فنزل قوله تعالى { ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكتب بذلك الى وحشى فكتب اليه ان فى الآية شرطا فلا ادرى أيشاء ان يغفر لى ام لا فنزل قوله تعالى { قل يا عبادى الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا } فكتب الى وحشى فلم يجد الشرط فقدم المدينة واسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/484)
« من مات ولم يشرك بالله شيأ دخل الجنة » ورأى ابو العباس شريح فى مرض موته كأن القيامة قد قامت واذا الجبار سبحانه وتعالى يقول اين العلماء فجاؤا فقال ماذا عملتم فيما علمتم فقلنا يا رب قصرنا واسأنا فاعاد السؤال فكأنه لم يرض به واراد جوابا آخر فقلت اما انا فليس فى صحيفتى شرك وقد وعدت ان تغفر ما دونه فقال الله تعالى اذهبوا فقد غفرت لكم ومات شريح بعده بثلاث ليال وهذا من حسن الظن بالله تعالى
كنونت كه جشمست اشكى ببار ... زبان در دهانست عذرى بيار
كنون بايدت عذر تقصير كفت ... نه جون نفس ناطق زكفتن بخفت
غنيمت شمار اين كرامى نفس ... كه بى مرغ قيمت ندارد قفس
واعلم ان للشرك مراتب وللمغفرة مراتب . فمراتب الشرك ثلاث الجلى والخفى والاخفى . وكذلك مراتب المغفرة . فالشرك الجلى بالاعيان وهو للعوام وذلك بان يعبد شىء من دون الله تعالى كالاصنام والكواكب وغيرها فلا يغفر الا بالتوحيد وهو اظهار العبودية فى اثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية . والشرك الخفى بالاوصاف وهو للخواص وذلك شوب العبودية بالالتفات الى غير الربوبية فى العبادة كالدنيا والهوى وما سوى المولى فلا يغفر الا بالوحدانية وهى افراد الواحد للواحد بالواحد . والشرك الاخفى وهو للاخص وذلك رؤية الاغيار والانانية فلا يغفر الا بالوحدة وهى فناء الناسوتية فى بقاء اللاهوتية ليبقى بالهوية دون الانانية فان الله لا يغفر بمراتب المغفرة ان يشرك به بمراتب الشرك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء اى لمن يشاء المغفرة فيستغفر الله تعالى من مراتب الشرك فيغفر له بمراتب المغفرة ومن يشرك بالله بمراتب الشرك فقد افترى اثما عظيما اى جعل بينه وبين الله حجابا من اثبات وجود الاشياء وانانيته وهى اعظم الحجب كما قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
نيستى جولانكه اهل دلست ... شاهراه عاشقان كاملست
جون وجودت محو كردى ازميان ... نوروحدت جشم دل را شد عيان
شرك رهزن باشداى دل در طريق ... ذكر توحيد خدارا كن رفيق(2/485)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{ ألم تر الى الذين يزكون انفسهم } خطاب للنبى عليه السلام على وجه التعجب اى ألم تنظر الى اليهود الذين يظهرون نفوسهم من الذنوب وألسنتهم ولم يزكوها حقيقة بقولهم نحن ابناء الله واحباؤه وبقولهم نحن كالاولاد الصغار فله عليهم ذنب اى انظر اليهم وتعجب من حالهم وادعائهم انهم ازكياء عند الله مع ما هم عليه من الكفر والاثم العظيم واللفظ عام يشتمل كل من زكى نفسه ووصفها بزيادة التقوى والطاعة والزلفى عند الله ففيه تحذير من اعجاب المرء بعمله { بل الله } يعنى هم لا يزكونها فى الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله { يزكى من يشاء } تزكيته ممن يستأهلها من المرتضين من عباده المؤمنين فانه العالم بما ينطوى عليه الانسان من حسن وقبيح وقد وصفهم بما هم متصفون به من القبائح { ولا يظلمون } اى يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون فى ذلك العقاب { فتيلا } اى ادنى ظلم واصغره وهو الخيط الذى فى شق النواة يضرب به المثل فى القلة والحقارة والظلم فى حق المعاقب الزيادة على حقه وفى حق المثاب النقصان منه(2/486)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
{ انظر كيف } اى فى أى حال او على أى حال { يفترون على الله الكذب } فى زعمهم انهم ابناء الله وازكياء عنده والتصريح بالكذب مع ان الافتراء لا يكون الا كذبا للمبالغة فى تقبيح حالهم { وكفى به } بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية انفسهم وسائر آثامهم العظام { اثما مبينا } ظاهرا بينا كونه اثما والمعنى كفى بذلك وحده فى كونهم اشد اثما من كل كفار اثيم ولو لم يكن لهم من الذنوب الا هذا الافتراء لكان اثما عظيما ونصب اثما مبينا على التمييز
قال الامام ابو منصور رحمه الله قول الرجل انا مؤمن ليس بتزكية النفس بل اخبار عن شىء اكرم به وانما التزكية ان يرى نفسه تقيا صالحا ويمدح به
قال السرى قدس سره من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى
فيجب على العبد المؤمن ان يمتنع عن مدح نفسه ألا يرى الى قوله عليه السلام « انا سيد ولد آدم » كيف عقبه بقوله « ولا فخر » اى لست اقول هذا تفاخرا كما يقصده الناس بالثناء على انفسهم لان افتخاره عليه السلام كان بالله وتقربه من الله لا بكونه مقدما على اولاد آدم كما ان المقبول عند الملك قبولا عظيما انما يكون بقبوله اياه وبه يفرح لا بتقديمه على بعض رعاياه
اكرمردى ازمدرىء خود مكوى ... نه هر شهسوارى بدربردكوى
كنهكار انديشناك از خدا ... بسى بهتر از عابد خود نما
اكرمشك خالص ندارى مكوى ... وكرهست خود فاش كرددببوى
ونعم ما قيل
جوز خالى درميان جوزها ... مى نمايد خويشتن را از صدا
والاشارة فى الآيتين ان الذين يزكون انفسهم من اهل العلوم الظاهرة بالعلم ويباهون به العلماء ويمارون به السفهاء لا تزكى انفسهم بمجرد تعلم العلم بل تزيد صفاته المذمومة مثل المباهاة والمماراة والمجادلة والمفاخرة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وطلب الاستيلاء والغلبة على الاقران والامثال { بل الله يزكى من يشاء } التزكية ويتهيأ لها بتسليم النفس الى ارباب التزكية وهم العلماء الراسخون والمشايخ المحققون كما يسلم الجلد الى الدباغ ليجعله اديما فمن يسلم نفسه للتزكية الى المزكى ويصبر على تصرفاته كالميت فى يد الغسال ويصغ الى اشاراته ولا يعترض على معاملاته ويقاس شدائد اعمال التزكية فقد افلح بما تزكى والمزكى هو النبى عليه السلام فى ايام حياته كما قال تعالى { هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم } الآية وبعدهم العلماء الذين اخذوا التزكية ممن اخذوا منه قرنا بعد قرن من الصحابة والذين اتبعوهم باحسان الى يومنا هذا ولعمرى انهم فى هذا الزمان اعز من الكبريت الاحمر : قال الشيخ الحسينى(2/487)
در طريقت رهبر دانا كزين ... زانكه ره دورست ورهزن دركمين
رهبرى بايد بمعنى سر بلند ... از شريعت وزطريقت بهره مند
اصل وفرع وجزء وكل آموخته ... شمع از نور علم افروخته
ظاهرش از علم كسبى با خدا ... باطنش ميراث دار مصطفا
هركه از دست عنايت بر كرفت ... روز اول دامن رهبر كرفت
هركه در زندان خود رأيى فتاد ... بند اورا سالها نتوان كشاد
اى سليم القلب دشوارست كار ... تانبندارى كه بندارست كار
فعلى السالك ان يتمسك بذلك المرشد ويتشبه به الى الوقوف على علم التوحيد ثم الفناء عن نفسه لان مجرد العرفان غير منج ما لم يحصل التحقق بحقيقة الحال ولذا قال عليه السلام « شر الناس من قامت عليه القيامة وهو حى » اى وقف على علم التوحيد ونفسه لم تمت بالفناء حتى يحيى بالله فانه حينئذ زنديق قائل بالاباحة فى الاشياء عصمنا الله واياكم من المعاصى والفحشاء(2/488)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{ ألم تر الى الذين } الى اليهود الذين { اوتوا نصيبا من الكتاب } حظا من علم التوراة اى انظر يا محمد وتعجب من حالهم فكأنه قيل ماذا يفعلون حتى ينظر اليهم فقيل { يؤمنون بالجبت } فى الاصل اسم صنم فاستعمل فى كل ما عبد من دون الله { والطاغوت } الشيطان ويطلق لكل باطل من معبود او غيره روى ان حيى بن اخطب وكعب بن الاشرف اليهوديين خرجا الى مكة فى سبعين راكبا من اليهود ليخالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذى كان بينهم وبينه عليه السلام فقالوا انتم اهل كتاب وانتم اقرب الى محمد منكم الينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن اليكم ففعلوا فهذا ايمانهم بالجبت والطاغوت لانهم سجدوا للاصنام واطاعوا ابليس فيما فعلوا وقال ابو سفيان لكعب انك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن اميون لا نعلم فأينا اهدى طريقا نحن ام محمد فقال ماذا يقول محمد قال يأمر بعبادة الله تعالى وحده وينهى عن الشرك قال وما دينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقى الحاج ونقرى الضيف ونفك العانى وذكروا افعالهم قال انتم اهدى سبيلا وذلك قوله تعالى { ويقولون للذين كفروا } اى لاجلهم وفى حقهم { هؤلاء } اشارة الى الذين كفروا { اهدى من الذين آمنوا سبيلا } اى اقوم دينا وارشد طريقة(2/489)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
{ اولئك } اشارة الى القائلين { الذين لعنهم الله } اى ابعدهم عن رحمته وطردهم { ومن يلعن الله } اى يعبده عن رحمته تعالى { فلن تجد له نصيرا } يدفع عنه العذاب دنيويا كان او اخرويا لا بشفاعة ولا بغيرها . وفيه تنصيص على حرمانهم مما طلبوا من قريش(2/490)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{ ام لهم نصيب من الملك } ام منقطعة ومعنى الهمزة انكار ان يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما زعمت اليهود من ان ملك الدنيا سيصير اليهم { فاذن لا يؤتون الناس نقيرا } اى لو كان لهم نصيب من الملك فاذن لا يؤتون احدا مقدار نقير وهو النقرة فى ظهر النواة يضرب به المثل فى القلة والحقارة وهذا هو البيان الكاشف عن كل حالهم فانهم اذا بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم اذا كانوا اذلاء متفاقدين(2/491)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
{ ام يحسدون } منقعطة ايضا { الناس } بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه { على ما آتاهم الله من فضله } يعنى انبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما { فقد آتينا } يعنى ان حسدهم المذكور فى غاية القبح والبطلان فانا قد آتينا من قبل هذا { آل ابراهيم } الذين هم اسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وابناء اعمامه { الكتاب } المنزل من السماء { والحكمة } اى النبوة والعلم { وآتيناهم } مع ذلك { ملكا عظيما } لا يقادر قدره فكيف يستبعدون نبوته صلى الله عليه وسلم ويحسدونه على ايتائها قال ابن عباس رضى الله عنهما الملك فى آل ابراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام(2/492)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{ فمنهم } من اليهود { من آمن به } بمحمد عليه السلام { ومنهم من صد عنه } اى اعرض عنه ولم يؤمن به { وكفى بجهنم سعيرا } نارا مسعورة اى موقدة يعذبون بها اى ان لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما اعد لهم من سعير جهنم
واعلم ان الله تعالى وصف اليهود فى الآية المتقدمة بالجهل الشديد وهو اعتقادهم ان عبادة الاوثان افضل من عبادة الله تعالى ثم وصفهم بالبخل والحسد . فالبخل هو ان لا يدفع الى احد شيأ مما آتاه الله من النعمة . والحسد هو ان يتمنى ان لا يعطى الله غيره شيأ من النعم فالبخل والحسد يشتركان فى من يريد منع النعمة عن الغير . فاما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن غيره . واما الحاسد فيريد ان يمنع نعمة الله عن عباده فهما شر الرذائل وسببهما الجهل . اما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول سعادة الآخرة وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا فى يده فالبخل يدعوك الى الدنيا ويمنعك عن الآخرة والجود يدعوك الى الآخرة ويمنعك عن الدنيا ولا شك ان ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون الا من محض الجهل . واما الجسد فلأن الآلهية عبارة عن ايصال النعم والاحسان الى العبيد فمن كره ذلك فكأنه اراد عزل اله عن الالهية وذلك محض الجهل ثم ان الحسد لا يحصل الا عند الفضيلة فكلما كانت فضيلة الانسان اتم واكمل كان حسد الحاسدين عليه اعظم : قال السعدى قدس سره
شور بختان بآروز خواهد ... مقبلانرا آفتابرا جه كناه
كرنبيند روز شبيره جشم ... جشمه آفتابرا جه كناه
راست خواهى هزار جشم جنان ... كور بهتركه آفتاب سياه
ولا يسود الحسود والبخيل فى جميع الزمان ألا ترى ان الله تعالى جعل بخل اليهود كالمانع من حصول الملك لهم فهما لا يجتمعان وذلك لان الانقياد للغير امر مكروه لذاته والانسان لا يتحمل المكروه الا اذا وجد فى مقابلته امرا مطلوبا مرغوبا فيه وجهات الحاجات محيطة بالناس فاذا صدر من انسان احسان الى غيره صارت رغبة المحسن اليه فى ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له فلهذا قيل فى بالبر يستعبد الحر فاما اذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا من المعارض فلا يحصل الانقياد البتة : قال السعدى
خورش ده بكنجشك وكبك وحمام ... كه يك روزت افتنده يابى بدام
زرازبهر خرودن بود اى بسر ... زبهر نهادن جه سنك وجه زر
وقد شبه بعض الحكماء ابن آدم فى حرصه على الجمع ووخامة عاقبته بدود القز الذى يكاد ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مخلص فيقتل نفسه ويصير القز لغيره فاللائق بشأن المؤمن القناعة بما رزقه الودود وترك الحرص والبذل من الموجود(2/493)
وقيل لما عرج النبى عليه السلام اطلع على النار فرأى حظية فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام « ما بال هذا الرجل فى حظيرة لا تمسه النار » فقال جبريل عليه السلام هذا حاتم طى صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده فالجود صارف عن المرء عذاب الدنيا والعقبى وباعث لوصول الملك فى الاولى والاخرى
ثم ان الملك على ثلاثة اقسام . ملك على الظواهر فقط وهذا هو ملك الملوك . وملك على البواطن فقط فهذا هو ملك العلماء . وملك على الظواهر والبواطن معا وهذا هو ملك الانباء عليهم السلام فاذا كان الجود من لوازم الملك وجب فى الانبياء ان يكونوا فى غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ليصير كل واحد من هذه الاخلاق سببا لانقياد الخلق لهم وامتثالهم لأوامرهم وكمال هذه الصفات كان حاصلا لمحمد عليه السلام(2/494)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{ ان الذين كفروا بآياتنا } القرآن وسائر المعجزات { سوف } كلمة تذكر للتهديد والوعيد يقال سوف افعل وتذكر للوعد ايضا فتفيد التأكيد { نصليهم نارا } ندخلهم نارا عظيمة هائلة { كلما نضجت جلودهم } اى احترقت { بدلناهم جلودا غيرها } غير يذكر ويراد به الضد تقول الليل غير النهار وايضا يقال للمثل المتبدل تقول للماء الحار اذا برد هذا غيره وهو المراد هنا اى اعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وان كان عينه مادة . والحاصل انه يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى كقولك صغت من خاتمى خاتما غيره فالخاتم الثانى هو الاول وانما الصياغة اختلفت
فان قلت الجلود العاصية اذا احترقت فلو خلق الله تعالى مكانها جلودا اخرى وعذبها كان ذلك تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز قلت العذاب للجلدة الحساسة وهى التى عصت لا للجلد مطلقا والذات واحدة فالعذاب لم يصل الا الى العاصى { ليذوقوا العذاب } اى ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز اعزك الله اى ادامك على عزك وزادك فيه
قال الحسن تأكلهم النار فى كل يوم سبعين مرة كلما اكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا وروى مرفوعا ان جلد الكافر اربعون ذراعا وضرسه مثل احد وشفته العليا تضرب سرته وبين لحمه وجلده ديدان كحمر الوحش تركض بين جلده ولحمه وحيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال وهذا ليس بزيادة تحلق وتعذب من غير معصية لكن اذا زيد ذلك ثقلة على العبد ويكون نفس الثقل عقوبة عليه كسائر عقوبات جهنم من السلاسل والاغلال والعقارب والحيات
فان قلت انما يقال فلان ذاق العذاب اذا ادرك شيأ قليلا منه والله تعالى قد وصف انهم كانوا فى اشد العذاب فكيف يحسن ان يذكر بعد ذلك انهم ذاقوا العذاب قلت المقصود من ذكر الذوق الاخبار بان احساسهم بالعذاب فى كل مرة كاحساس الذائق بالمذوق من حيث انه لا يدخله نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق ودوام الملابسة ولعل السر فى تبديل الجلود مع قدرته تعالى على بقاء ادراك العذاب وذوقه بحاله مع الاحتراق او مع ابقاء ابدانهم على حالها مصونة عن الاحتراق ان النفس ربما تتوهم زوال الادراك بالاحتراق { ان الله كان عزيزا } لا يمتنع عليه شىء مما يريده بالمجرمين { حكيما } يعاقب من يعاقب على حكمته
اعلم ان هذا العذاب والتبديل الذى فى الآخرة كان حاصلا له فى الدنيا ولكن لم يكن يذوقه كالنائم يجرح نفسه بحديدة فى يده فتكون الجراحة حاصلة له فى الدنيا ولكن لم يذق ألمها حتى ينتبه فالناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا
فعلى العبد ان يعمل على وفق الشرع وخلاف النفس والهوى حتى يجعل الله تعالى باكسير الشرع نحاس الصفات الظلمانية النفسانية فضة الصفات النورانية الروحانية فاذا تخلص فى الدنيا من شوب المعصية باصلاح النفس والجريان على وفق الشرع لم يحتج فى الآخرة الى التهذيب والتنقيح بالنار روى ان اصحاب الكبائر من موحدى الامم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير تائبين ولا نادمين منهم من دخل النار فى الباب الاول فى جهنم حتى لا تزرق اعينهم ولا تسود وجوههم ولا يقرنون مع الشياطين ولا يغلون بالسلاسل ولا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران فى النار حرم الله تعالى اجسادهم ووجوههم على النار من اجل السجود فمنهم من تأخذه النار الى قدميه ومنهم من تأخذه النار الى ركبتيه ومنهم من تأخذه الى عنقه قدر ذنوبهم واعمالهم ثم ان منهم من يمكث فيها شهرا ومنها من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها واطولهم فيها مكثا كقدر الدنيا منذ خلقت الى يوم تفنى
وكان ابن السماك يقول فيما يعاتب نفسه يا نفس تقولين قول الزاهدين وتعملين عمل المنافقين وفى الجنة تطمعين ان تدخلين هيهات هيات ان للجنة قوما آخرين ولها اعمال غير ما تعملين ويحكك اخذت بزىّ كسرى وقيصر والفراعنة وتريدين ان ترافقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دار الجلال فاعرض نفسك على كتاب الله فيما وصف اولياءه واعداءه فانظر من أى الصنفين انت(2/495)
برادر زكار بدان شرم دار ... كه در روى نيكان شوى شر مسار
نريزد خدا آب روى كسى ... كه ريزد كناه آب جشمش بسى
وذكر عن يزيد بن مرثد انه كان لا تنقطع دموع عينيه ساعة ولا يزال باكيا فسئل عن ذلك فقال لو ان الله تعالى اوعدنى بانى لو اذنبت لحبسنى فى الحمام ابدا لكان حقيقا علىّ ان لا تنقطع دموعى فكيف وقد اوعدنى ان يحبسنى فى نار اوقد عليها ثلاثة آلاف سنة اوقد عليها الف سنة حتى احمرت ثم اوقد عليها الف سنة حتى ابيضت ثم اوقد عليها الف سنة حتى اسودت فهى سوداء كالليل المظلم
قال ابو هريرة رضى الله عنه لا تغبطن فاجرا بنعمته فان وراءه طالبا حثيثا وهى جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا : قال الحافظ قدس سره
قلندار حقيقت به نيم جو نخرند ... قباى اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من كانت همته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت همته الدنيا فرق الله عليه امره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا الا ما كتب الله له » قال السعدى قدس سره
آنكس ازدزد بيرسد كه متاعى دارد ... عارفان جمع نكردند وبريشانى نيست
هركرا خيمه بصحراى قناعت زده اند ... كرجهان لرزه بكيرد غم ويرانى نيست(2/496)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
{ والذين آمنوا } بالله وبمحمد والقرآن وسائر الآيات والمعجزات { وعملوا الصالحات } التى امر الله بها { سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا } اى مقيمين فيها لا يخرجون منها ولا يموتون { لهم فيها ازواج مطهرة } اى مما نساء الدنيا عليه من الاحوال المستقذرة البدنية والادناس الطبيعية كالحيض والنفاس والحقد والحسد وغير ذلك { وندخلهم ظلا ظليلا } فينانا لا جوب فيه ودائما لا تنسخه الشمش اى لا تزيله وسجسجا وهو من الزمان ما لا حر فيه ولا برد ومن المكان ما لا سهولة فيه ولا حزونه . والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال ليل أليل ويوم أيوم وما اشبه ذلك
فان قلت اذا لم يكن فى الجنة شمس تؤذى بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل وايضا يرى فى الدنيا ان المواضع التى يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس اليها يكون هواؤها عفنا فاسدا فى الدنيا ان المواضع التى يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس اليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك قلت ان بلاد العرب كانت فى غاية الحرارة فكان الظل عندهم من اعظم اساب الراحة وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه السلام « السلطان ظل الله فى الارض » فاذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظل الظليل كناية عن المبالغة العظيمة فى الراحة
قال الامام فى تفسيره هذا ما يميل اليه خاطرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة سنة ما يقطعها اقرأوا ان شئتم وظل ممدود وفى الجنة مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرأوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين فموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا ان شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اهل الجنة شباب جعد مرد ليس لهم شعر الا فى الرأس والحاجبين واشفار العينين » يعنى ليس لهم شعر عانة ولا شعر ابط « على طول آدم عليه السلام ستون ذراعا وعلى مولد عيسى عليه السلام ثلاث وثلاثون سنة بيض الالوان خضر الثياب يوضع لأحدهم مائدة بين يديه فيقبل الطائر فيقول يا ولى الله اما انى قد شربت من عين السلسبيل ورعيت من رياض الجنة تحت العرش واكلت من ثمار كذا فاطعم منى فيطعم فيكون احد جانبيه مطبوخا والآخر مشويا فيأكل منهما ما شاء الله وعليه سبعون حلة ليس فيها حلة على لون آخر »(2/497)
قال الفقيه ابو الليث من اراد ان ينال هذه الكرامة فعليه ان يداوم على خمسة اشياء . الاول ان يمنع نفسه من جميع المعاصى
ونهى النفس بفرمود الله ... بايدت ترك هواى ترك كناه
والثانى ان يرضى باليسير من الدنيا لان ثمن الجنة ترك الدنيا
اين زن زانيه شوى كش دنيارا ... كر على وار طلاقش ندهم نامردم
والثالث ان يكون حريصا على الطاعات فيتعلق بكل طاعة فلعل تلك الطاعة تكون سبب المغفرة ودخول الجنة
عمل بايد اندر طريقت نه دم ... كه سودى ندارد دم بى قدم
والرابع ان يحب الصالحين واهل الخير ويخالطهم ويجالسهم
نخست موعظه بير مجلس اين حرفست ... كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد
فلزم ان يكون مصاحب الانسان اهل خير لان الصحبة مؤثرة وان واحدا من الصلحاء اذا غفر الله له يشفع لاخوانه واصحاب
اميدست ازانان كه طاعت كنند ... كه بى طاعتانرا شفاعت كنند
والخامس ان يكثر الدعاء ويسأل الله تعالى ان يرزقه الجنة وان يجعل خاتمته فى الخير
غنيمت شمارند مردان دعا ... كه جوشن بود بيش تير بلا(2/498)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{ ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها } نزلت فى عثمان بن عبد الدار الحجبى وكان سادن الكعبة وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح اغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح وابى ان يدفع المفتاح اليه وقال لو علمت انه رسول الله لم امنعه فلوى على بن ابى طالب كرم الله وجهه يده واخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس ان يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت فامر عليا ان يرده الى عثمان ويعتذر اليه فقال عثمان لعلى اكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال لقد انزل الله تعالى فى شأنك قرآنا وقرأ عليه فقال عثمان اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فهبط جبريل فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان السدانة فى اولاد عثمان ابدا ثم ان عثمان هاجر ودفع المفتاح الى ابنه شيبة فهو فى ولده الى اليوم { واذا حكمتم } اى ويأمركم اذا قضيتم { بين الناس ان تحكموا بالعدل } والانصاف والتسوية { ان الله نعما يعظكم به } اى نعم شيأ ينصحكم به تأدية الامانة والحكم بالعدل فما نكرة بمعنى شىء ويعظكم به صفته والمخصوص بالمدح محذوف { ان الله كان سميعا } لما يقوله الخزنة { بصيرا } بما تعمله الامناء اى اعملوا بأمر الله ووعظه فانه اعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم
اعلم ان الامانة عبارة عما اذا وجب لغيرك عليك حق فاديت ذلك الحق اليه . والحكم بالحق عبارة عما اذا وجب للانسان على غيره حق فامرت من وجب عليه ذلك الحق بان يدفع الى من له ذلك الحق ولما كان الترتيب الصحيح ان يبذل الانسان نفسه فى جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره لا جرم انه تعالى ذكر الامر بالامانة اولا ثم بعده ذكر الامر بالحكم بالحق ونزول هذه الآية عند القصة المذكورة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القصة بل يدخل فيه جميع انواع الامانات
فاعلم ان معاملة الانسان اما ان تكون مع ربه او مع سائر العباد او مع نفسه ولا بد من رعاية الامانة فى جميع هذه الاقسام الثلاثة
اما رعاية الامانة مع الرب فهى فعل المأمورات وترك المنهيات وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود الامانة فى كل شىء لازمة فى الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك . مثلا ان امانة اللسان ان لا يستعمله فى الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها . وامانة العينين ان لا يستعملها فى النظر الى الحرام . وامانة السمع ان لا يستعمله فى سماع الملاهى والمناهى واستماع الفحش والاكاذيب وغيرها وكذا القول فى جميع الاعضاء : قال السعدى قدس سره(2/499)
زبان ازبهر شكر وسباش ... بغيبت نكرداندش حق شناس
كذركاه قرآن وبندست كوش ... به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دوجشم ازبى صنع بارى نكوست ... نه عيب برادر بود كيردوست
واما القسم الثانى وهو رعاية الامانة مع سائر الخلق فيدخل فيه رد الودائع ويدخل فيه ترك التطفيف فى الكيل والوزن ويدخل فيه ان لا يفشى على الناس عيوبهم ويدخل فيه عدل الامراء مع رعيتهم وعد العلماء مع العوام بان يرشدوهم الى اعتقادات واعمال تنفعهم فى دنياهم واخراهم ويدخل فيه امانة الزوجة للزوج فى حفظ فرجها وفى ان لا تلحق بالزوج ولدا تولد من غيره وفى اخبارها عن انقضاء عدتها
واما القسم الثالث وهو امانة الانسان مع نفسه وهو ان لا يفعل الا ما هو الانفع والاصلح له فى الدين والدنيا وان لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره فى الآخرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته » قال عليه السلام « لا ايمان لمن لا امانة له ولا دين لمن لا عهد له » فعلى العبد المؤمن ان يؤدى الامانات كلها ما استطاع ويتعظ بمواعظ الحق فى كل زمان فان الوعظ نافع جدا
امروز قدر بند عزيزان شناختم ... يارب روان ناصح ما ازتوشاد باد
قاله الحافظ : وقال فى موضع
بند حكيم محض صوابست ومحض خير ... فروخنده بخت آنكه بسمع رضا شنيد
ثم ان من كان حاكما وجب عليه ان يحكم بالعدل ويؤدى الامانات الى اهلها
قال الحسن ان الله اخذ على الحكام ثلاثا ان لا يتبعوا الهوى وان يخشوه ولا يخشوا الناس وان لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا قال صلى الله عليه وسلم « ينادى مناد يوم القيامة اين الظلمة واين اعوان الظلمة فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما او لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون فى النار » قال السعدى قدس سره
جهان نماند وآثار معدلت ماند ... بخيركوش وصلاح وبعدل كوش وكرم
كه ملك ودولت ضحاك مردمان آزار ... نماند وتا بقيامت برو بماند رقم
قال عليه السلام « من دل سلطانا على الجور كان مع هامان وكان هو والسلطان من اشد اهل النار عذابا » فمقتضى الايمان هو العدل والسببية للصلاح ونظام العالم واجراء الشرع والاحتراز عن الرشوة فان من اخذها لا يسامح فى الشرع
وغضب الاسكندر يوما على بعض شعرائه فاقضاه وفرق ماله فى اصحابه فقيل له فى ذلك فقال اما اقضائى له فلجرمه واما تفريقى ماله فى اصحابه فلئلا يشفعوا فيه فانظر كيف كان اخذ المال سببا لعدم الشفاعة لانهم لو استشفعوا فى حقه فشفعوا لزم الاسترداد فلما طعموا تركوا الشفاعة
ازتوكر انصاف آيد در وجود ... به كه عمرى در ركوع ودر سجود(2/500)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{ يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الامر منكم } وهم امراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدى بهم من المهتدين واما امراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله والرسول فى وجوب الطاعة فانهم اللصوص المتغلبة لاخذهم اموال الناس بالقهر والغلبة وانما افرد بالذكر طاعة الله ثم جمع طاعة الرسول مع طاعة اولى الامر منكم تعليما للادب وهو ان لا يجمعوا فى الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره واما اذا آل الامر الى المخلوقين فيجوز { فان تنازعتم فى شىء } اصل النزع الجذب لان المتنازعين يجذب كل واحد منهما الى غير جهة صاحبه اى ان اختلفتم انتم واولوا الامر منكم فى امر من امور الدين { فردوه الى الله } فارجعوا فيه الى كتاب الله { والرسول } اى الى سنته صلى الله عليه وسلم
وتعلق اصحاب الظواهر بظاهر هذه الآية فى ان الاجتهاد والقياس لا يجوز لان الله تعالى امر بالرجوع الى الكتاب والسنة ولا يوجد فى كل حادثة نص ظاهر فعلم انه امر بالنظر فى مودوعاته والعمل على مدلولاته ومقتضياته ولكن الآية فى الحقيقة دليل على حجة القياس كيف لا ورد المختلف فيه الى المنصوص عليه انما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو المعنى بالقياس ويؤيده الامر به بعد الامر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فانه يدل على ان الاحكام ثلاثة ثابت بالكتاب وثابت بالسنة وثابت بالرد اليهما بالقياس { ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فان الايمان بهما يوجب ذلك اما الايمان بالله فظاهر واما الايمان باليوم الآخر فلما فيه من العقاب على المخالفة { ذلك } اى الرد الى الكتاب والسنة { خير } لكم من التنازع واصلح { واحسن } فى نفسه { تأويلا } اى عاقبة ومآلا
ودلت الآية على ان طاعة الامراء واجبةت اذا وافقوا الحق فاذا خالفوه فلا طاعة لهم قال صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق » وقال صلى الله عليه وسلم « من عامل الناس فلم يظلمهم ومن حدثهم فلم يكذبهم ومن وعدهم فلم يخلفهم فهو من كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت اخوته » ولا بد للامراء من خوف الله وخشيته باجراء الشرائع والاحكام واتباع سنن النبى عليه السلام حتى يملأ الله قلوب الناظرين اليهم رعبا وهيبة فحينئذ لا يحتاجون الى محافظة الصورة والهيئة الظاهرة روى ان كلب الروم ارسل الى عمر رضى الله عنه هدايا من الثياب والجبة فلما دخل الرسول الى المدينة قال اين دار الخليفة وبناؤه فقيل ليس له دار عظيم كما توهمت انما له بيت صغير فدلوه عليه فاتاه فوجد له بيتا صغيرا حقيرا قد اسود بابه لطول الزمان فطلبه فلم يصادفه وقيل انه خرج الى السوق لحاجته وحوائج المسلمين اى للاحتساب فخرج الرسول الى طلبه فوجده نائما تحت ظل حائط قد توسد بالدرة فلما رآه قال عدلت فامنت فنمت حيث شئت وامراؤنا ظلموا فاحتاجوا الى الحصون والجيوش : قال السعدى قدس سره(3/1)
بادشاهى كه طرح ظلم افكند ... باى ديوار ملك خويش بكند
نكند جور بيشه سلطانى ... كه نيايد زكرك جوبانى
ومن كلام اردشير الدين اساس الملك والعدل حارسه فما لم يكن له اس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع وروى اى انو شروان كان له عامل على ناحية فكتب اليه يعلمه بجودة الريع ويستأذنه فى الزيادة على الرسول فامسك عن اجابته فعاوده العامل فى ذلك فكتب اليه قد كان فى ترك اجابتك ما حسبتك تنزجر به عن تكليف ما لم تؤمر به فاذن قد ابيت الا تماديا فى سوء الادب فاقطع احدى اذنيك واكفف عما ليس من شأنك فقطع العامل اذنه وسكت عن ذلك الامر وبالجملة فالظلم عار وجزاؤه نار والاجتناب منه واجب على كل عاقل واذا كان نية المؤمن العدل فليجانب اهل الظلم وليجتنب عن اطاعتهم فان الاطاعة لاهل الحق لا لغيرهم قال عليه السلام « من اطاعنى فقد اطاع الله ومن عصانى فقد عصى الله ومن يطع الامير العادل فقد اطاعنى ومن يعص الامير فقد عصانى »
واعلم ان الولاة انما يكونون على حسب اعمال الرعايا واحوالهم صلاحا وفسادا روى انه قيل للحجاج بن يوسف لم لا تعدل مثل عمر وانت قد ادركت خلافته أفلم تر عدله وصلاحه فقال فى جوابهم تباذروا اى كونوا كأبى ذر فى الزهد والتقوى أتعمر لكم اى اعاملكم معاملة عمر فى العدل والانصاف وفى الحديث « كما تكونون يولى عليكم احدكم » يعنى ان تكونوا صالحين فيجعل وليكم رجلا صالحا وان تكونوا طالحين فيجعل وليكم رجلا طالحا وروى ان موسى عليه السلام ناجى ربه فقال يا رب ما علامة رضاك من سخطك فاوحى اليه [ اذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضايى واذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطى ]
ثم اعلم بان المراد باولى الامر فى الحقيقة المشايخ الواصلون ومن بيده امر التربية فان اولى امر المريد شيخه فى التربية فينبغى للمريد فى كل وارد حق يدق باب قلبه او اشارة او الهام او واقعة تنبئ عن اعمل او احوال فى حقه ان يضرب على محك نضر شيخه فما يرى فيه الشيخ من المصالح ويشير اليه او يحكم عليه يكون منقادا لاوامره ونواهيه لانه اولوا امره . واما الشيخ فاولوا امره الكتاب والسنة فينبغى له ان ما سنح له من الغيب بوارد الحق من الكشوف والشواهد والاسرار والحقائق يضرب على محك الكتاب والسنة فما صدقاه ويحكمان عليه فيقبله والا فلا لان الطريقة مقيدة بالكتاب والسنة كذا ذكره الشيخ الكامل نجم الدين الكبرى فى تأويلاته(3/2)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{ ألم تر الى الذين يزعمون } اى يدعون والمراد بالزعم هنا الكذب لان الآية نزلت فى المنافقين { انهم آمنوا بما انزل اليك } اى بالقرآن { وما انزل من قبلك } اى بالتوراة وغيرها من الكتب المنزلة وكأنه قيل ماذا يفعلون فقيل { يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت } عن ابن عباس ان منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودى الى النبى عليه السلام لانه كان يقضى بالحق ولا يلتفت الى الرشوة ودعاه المنافق الى كعب بن الاشرف لانه كان شديد الرغبة الى الرشوة واليهودى كان محقا والمنافق كان مبطلا ثم اصر اليهودى على قوله فاحتكما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم لليهودى فلم يرض المنافق وقال نتحاكم الى عمر فقال اليهودى لعمر قضى لى رسول الله فلم يرض بقضائه وخاصم اليك فقال عمر للمنافق أكذلك فقال نعم فقال مكانكما حتى اخرج اليكما فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى مات وقال هكذا اقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت فهبط جبرائيل عليه السلام وقال ان عمر فرق بين الحق والباطل فسمى الفاروق فالطاغوت كعب بن الاشرف سمى به لافراطه فى الطغيان وعداوة الرسول وفى معناه ومن يحكم بالباطل ويؤثر لاجله { وقد امروا ان يكفروا به } اى والحال انهم قد امروا ان يتبرأو من الطاغوت { ويريد الشيطان } اى كعب بن الاشرف او حقيقة الشيطان عطف على يريدون { ان يضلهم ضلالا بعيدا } اى اضلالا بعيدا لا غاية له فلا يهتدون(3/3)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
{ واذا قيل لهم } اى للمنافقين { تعالوا } اى جيئوا { الى ما انزل الله } اى الى ما امره فى كتابه { والى الرسول } والى ما امره رسوله { رأيت المنافقين } اظهار المنافقين فى مقام الاضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والاشعار بعلة الحكم والرؤية بصرية { يصدون عنك } حال من المنافقين { صدودا } اى يعرضون عنك اعراضا وأى اعراض(3/4)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
{ فكيف } يكون حالهم وكيف يصنعون يعنى انهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون امرا ولا يوردونه { اذا اصابتهم مصيبة } اى وقت اصابة المصيبة اياهم بافتضاحهم بظهور نفاقهم { بما قدمت ايديهم } بسبب ما عملوا من الجنايات التى من جملتها التحاكم الى الطاغوت وعدم الرضى بحكم الرسول { ثم جاؤك } للاعتذار عما صنعوا من القبائح وهو عطف على اصابتهم { يحلفون بالله } حال من فاعل جاؤك { ان اردنا الا احسانا وتوفيقا } اى ما اردنا بتحاكمنا الى غيرك الا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا سخطا لحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وانهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغنى عنهم الاعتذار(3/5)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
{ اولئك } اى المنافقون { الذين يعلم الله ما فى قلوبهم } من النفاق فلا يغنى عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب { فاعرض عنهم } اى لا تقبل اعتذارهم ولا تفرج عنهم بدعائك { وعظهم } اى ازجرهم عن النفاق والكيد { وقل لهم فى انفسهم } اى فى حق انفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على الشرور التى يعلمها الله تعالى او فى انفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم مسارا بالنصيحة لانها فى السر انجع { قولا بليغا } مؤثرا واصلا الى كنه المراد مطابقا لما سيق له المقصود والقول البليغ بان يقول ان الله يعلم سركم وما فى قلوبكم فلا يغنى عنكم اخفاؤه فاصلحوا انفسكم وطهروا قلوبكم من رذيلة الكفر وداووها من مرض النفاق والا انزل الله بكم ما انزل بالمجاهرين بالشرك وشرا من ذلك واغلظ عسى ان تنجع فيهم الموعظة(3/6)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{ وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله } اى وما ارسلنا رسولا من الرسل لشىء من الاشياء الا ليطاع بسبب اذنه تعالى فى طاعته وامره المبعوث اليهم بان يطيعوه ويتبعوه لانه مؤد عنه تعالى وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله { ولو انهم اذ ظلموا انفسهم } وعرضوها للعذاب بترك طاعتك والتحاكم الى غيرك { جاؤك } تائبين من النفاق { فاستغفروا الله } بالتوبة والاخلاص { واستغفر لهم الرسول } بان يسأل الله ان يغفر لهم عند توبتهم
فان قلت لو تابوا على وجه صحيح لقبلت توبتهم فما الفائدة فى ضم استغفار الرسول الى استغفارهم قلت التحاكم الى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله وكان ايضا اساءة الى الرسول عليه السلام وادخالا للغم الى قلبه عليه السلام ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الغير { لوجدوا الله } لصادفوه حال كونه تعالى { توابا } مبالغا فى قبول التوبة { رحيما } مبالغا فى التفضل عليهم بالرحمة بدل من توابا(3/7)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{ فلا } اى ليس الامر كما يزعموا انهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم فقال { وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } اى يجعلونك حكما يا محمد ويترافعوا اليك { فيما شجر بينهم } اى فيما اختلف بينهم من الامور واختلط ومنه الشجر لتداخل اغصانه { ثم لا يجدوا } عطف على مقدر ينساق اليه الكلام اى فتقضى بينهم ثم لا يجدوا { فى انفسهم حرجا } ضيقا { مما قضيت } اى مما قضيت به يعنى يرضون بقضائك ولا تضيق صدورهم من حكمك { ويسلموا تسليما } وينقادوا لك انقيادا بظاهرهم وباطنهم
وفى هذه الآيات دلائل على ان من رد شيأ من اوامر الله واوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الاسلام سواء رده من جهة الشك او من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة اليه من الحكم بارتداد مانعى الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم فاتباع الرسول عليه السلام فرض عين فى الفرائض العينية وفرض كفاية فى الفروض على سبيل الكفاية وواجب فى الواجبات وسنة فى السنن وهكذا ومخالفته تزيل نعمة الاسلام
خلاف بيمبر كسى ره كزيد ... كه هر كز بمنزل نخواهد رسيد
فالنبى صلى الله عليه وسلم هو الدليل فى طريق الحق ومخالفة الدليل ضلالة : قال الحافظ
بكوى عشق منه بى راه قدم ... كه من بخويش نمودم صداهتمام ونشد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن احدكم حتى يكون هواه تابعا لما جئت به » وقال عليه السلام « من ضيع سنتى » اى جعلها ضائعة بعدم اتباعها « حرمت عليه شفاعتى » وقال صلى الله عليه وسلم « من حفظ سنتى اكرمه الله تعالى باربع خصال . المحبة فى قلوب البررة . والهيبة فى قلوب الفجرة . والسعة فى الرزق . والثقة فى الدين » فانما امته من اتبعه ولا يتبعه الا من اعرض عن الدنيا فانه عليه السلام ما دعا الا الى الله تعالى واليوم الآخر وما صرف الا عن الدنيا والحظوظ العاجلة فبقدر ما اعرضت عنها واقبلت على الله وصرفت الاوقات لاعمال الآخرة فقد سلكت سبيله الذى سلكه وبقدر ذلك اتبعته وبقدر ما اتبعته صرت من امته ولو انصفنا لعلمنا اننا من حين نمسى الى حين نصبح لا نسعى الا فى الحظوظ العاجلة ولا نتحرك الا لاجل الدنيا الفانية ثم نطمع فى ان نكون غدا من امته واتباعه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال « ليأتى على الناس زمان تخلق سنتى فيه وتتجدد فيه البدعة فمن اتبع سنتى يومئذ صار غريبا وبقى وحيدا ومن اتبع بدع الناس وجد خمسين صاحبا او اكثر » فقال الصحابة يا رسول الله عليك السلام هل بعدنا احد افضل منا قال(3/8)
« بلى » قالوا أفيرونك يا رسول الله قال « لا » قالوا فكيف يكونون فيها قال « كالملح فى الماء تذوب قلوبهم كما يذوب الملح فى الماء » قالوا فكيف يعيشون فى ذلك الزمان قال « كالدود فى الخل » قالوا فكيف يحفظون دينهم يا رسول الله قال « كالفحم فى اليد ان وضعته طفىء وان امسكته او عصرته احرق اليد » وعن ابى بحيج العرباض بن سارية رضى الله عنه قال وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فاوصنا قال « اوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان تأمّر عليكم عبد وانه من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين عضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فان كل بدعة ضلالة » فعلى المؤمن ان يتبع سنة الرسول ويجتنب عن كل ما هو بدعة وضلالة ويصلح ظاهره بالشريعة وباطنه بالطريقة حتى ينال شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ويتخلص من عذاب النار ويدخل الجنة مع الابرار . فالمؤمن فى الآخرة فى الجنات كشجرة مثمرة لا تنفك عن البستان . والمنافق فى الدركات كشجرة غير مثمرة تقلع من البستان وتوقد بها النار : قال الفردوسى
درختى كه شيرين بود باراو ... نكردد كسى كرد ازار او
وكر زانك شيرين نباشدبرش ... زباى اندر آرند ناكه سرش
بماند بباغ آن ودر آتش اين ... توخواهى جنان باش وخواهى جنين(3/9)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
{ ولو انا كتبنا عليهم } اى اوجبنا او فرضنا على هؤلاء المنافقين { ان اقتلوا انفسكم او اخرجوا من دياركم } كما اوجبناه على بنى اسرائيل حين طلبوا التوبة من ذنوبهم { ما فعلوه } اى المكتوب المدلول عليه بكتبنا { الا قليل منهم } الا ناس قليل منهم وهم المخلصون { ولو انهم فعلوا ما يوعظون به } من متابعة الرسول وطاعته والمشى تحت رايته والانقياط لما يراه ويحكم به ظاهرا وباطنا وسميت اوامر الله ونواهيه مواعظ لاقترانها بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب { لكان } اى فعلهم ذلك { خيرا لهم } اى احمد عاقبة فى الدارين { واشد تثبيتا } لهم على الايمان وابعد من الاضطراب فيه(3/10)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
{ واذا } كأنه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيت فقيل واذا لو ثبتوا { لآتيناهم من لدنا } من عندنا { اجرا عظيما } ثوابا كثيرا فى الآخرة لا ينقطع(3/11)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
{ ولهديناهم صراطا مستقيما } يصلون بسلوكه الى عالم القدس ويفتح لهم ابواب الغيب قال صلى الله عليه وسلم « من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم »
واعلم ان قتل النفس فى الحقيقة قمع هواها التى هى حياتها وافناء صفاتها والخروج من الديار خروج من المقامات التى سكنت القلوب بها والفتها من الصبر والتوكل والرضى والتسليم وامثالها لكونها حاجبة عن التوحيد والفناء فى الذات كما قال الحسين بن منصور لابراهيم بن ادهم حين سأله عن حاله واجابه بقوله ادور فى الصحارى واطوف فى البرارى بحيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر هل حالى حال التوكل او لا فقال اذا فنيت عمرك فى عمران باطنك فاين الفناء فى التوحيد
جان عارف دوست را طالب شده ... نور حق باهستيش غالب شده
برنو ذات از حجاب كبريا ... كرده اورا غره بحر فنا
وعن ابراهيم بن ادهم قال دخلت جبل لبنان فاذا انا بشاب قائم وهو يقول يا من شوقى اليه وقلبى محب له ونفسى له خادم وكلى فناء فى ارادتك ومشيئتك فانت ولا غيرك متى تنجينى من هذه العذرة قلت رحمك الله ما علامة حب الله قال اشتهاء لقائه قلت فما علامة المشتاق قال لا له قرار ولا سكون فى ليل ولا نهار من شوقه الى ربه قلت فما علامة الفانى قال لا يعرف الصديق من العدو ولا الحلو من المر من فنائه عن رسمه ونفسهوجسمه قلت فماعلامة الخادم قال انه يرفع قلبه وجوارحه وطمعه من ثواب الله : قال الحافظ قدس سره
توبند كى جو كدايان بشرط مزد مكن ... كهدوست خودروش بنده برورى داند
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يكونن احدكم كالعبد السوء ان خاف عمل ولا كالاجير السوء ان لم يعط لم يعمل » وبالجملة انه لا بد للسالك من اقامة وظائف العبادات والاوراد فان الله اودع انوار الملكوت فى اصناف الطاعات فان من فاته صنف او اعوزه من الموافقات جنس فقد من النور بمقدار ذلك وليس للوصول سبيل ولا الى الفناء دليل غير العبودية وترك ما سوى الحق
بشب حلاج راديدند در خواب ... بريده سر بكف برجام جلاب
بدو كفتند جونى سر بريده ... بكو تاجيست اين جام كزيده
جنين كفت اوكه سلطان نكو نام ... بدست سر بريده ميدهد جام
كسى اين جام معنى ميكند نوش ... كه كرداول سرخودرافراموش
كما قيل من لم يركب الاهوال لم ينل الاموال فيا ايها العبد الذى لا يفعل ما يوعظ به ولا يخاف من ربه كيف تركت ما هو خير لك واعرضت عما ينفعك فليس لك الآن الا التوبة عما يوقعك فى المعاصى والمنهيات والرجوع الى الله بالطاعات والعبادات والفناء عن الذات بالاصغاء الى المرشد الرشيد الواصل الى سر التفريد وقبول امره وعظته وتسليم النفس الى تربيته ودوام المراقبة فى الطريق ومن الله التوفيق(3/12)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{ ومن يطع الله والرسول } والمراد بالطاعة هو الانقياد التام والامتثال الكامل بجميع الاوامر والنواهى روى ان ثوبان مولى رسول الله اتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه فسأله عن حاله فقال ما بى من وجع غير انى اذا لم ارك اشتقت اليك واستوحشت وحشة شديدة على لقائك ثم ذكرت الآخرة فخفت ان لا اراك هناك لانى عرفت انك ترفع مع النبيين وان ادخلت الجنة كنت فى منزل دون منزلتك وان لم ادخل فذاك حين لا اراك ابدا فنزلت فقال صلى الله عليه وسلم « والذى نفسى بيده لا يؤمن عبد حتى اكون احب اليه من نفسه وابويه واهله وولده والناس اجمعين » { فاولئك } اشارة الى المطيعين { مع الذين انعم الله عليهم } اى اتم الله عليهم النعمة وهذا ترغيب للمؤمنين فى الطاعة حيث وعدوا مرافقة اقرب عباد الى الله وارفعهم درجات عنده { من النبيين } بيان للمنعم عليهم وهم الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال الى درجة التكميل { والصديقين } المبالغين فى الصدق والاخلاص فى الاقوال والافعال الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقى النظر فى الحجج والآيات واخرى بمعارج التصفية والرياضات الى اوج العرفان حتى اطلعوا على الاشياء واخبروا عنها على ما هى عليها { والشهداء } الذين ادى بهم الحرص على الطاعة والجد فى اظهار الحق حتى بذلوا مهجهم فى اعلاء كلمة الله { والصالحين } الذين صرفوا اعمارهم فى طاعته واموالهم فى مرضاته وليس المراد بالمعية الاتحاد فى الدرجة لان التساوى بين الفاضل والمفضول لا يجوز ولا مطلق الاشتراك فى دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى اراد وان بعد ما بينهما من المسافة { وحسن اولئك رفيقا } فى معنى التعجب كأنه قيل وما احسن اولئك رفيقا اى النبيين ومن بعدهم ورفيقا تمييز وافراده لما انه كالصديق والخليط والرسول يستوى فيه الواحد والمتعدد والرفيق الصاحب مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب واللطافة فى المعاشرة قولا وفعلا(3/13)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
{ ذلك الفضل } مبتدأ والفضل صفته وهو اشارة الى ما للمطيعين من عظيم الاجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء المنعم عليهم { من الله } خبره اى لا من غيره { وكفى بالله عليما } بجزاء من اطاعه وبمقاديرالفضل واستحقاق اهله . وهذه الآية عامة فى جميع المكلفين اذ خصوص السبب لا يقدح فى عموم اللفظ فكل من اطاع الله واطاع الرسول فقد فاز بالدرجات والمراتب الشريفة عند الله تعالى روى عن بعض الصالحين انه قال اخذتنى ذات ليلة سنة فنمت فرأيت فى منامى كأن القيامة قد قامت وكأن الناس يحاسبون فقوم يمضى بهم الى الجنة وقوم يمضى بهم الى النار قال فاتيت الجنة فناديت يا اهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنان فى محل الرضوان فقالوا لى بطاعة الرحمان ومخالفة الشيطان ثم اتيت باب النار فناديت يا اهل النار بماذا نلتم النار قالوا بطاعة الشيطان ومخالفة الرحمان
كجا سربر آريم ازين عاروننك ... كه با او بصلحيم وباحق بجنك
نظر دوست نادر كند سوى تو ... جودر روى دشمن بودروى تو
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كل امتى يدخلون الجنة الا من ابى » قيل ومن ابى قال « من اطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد ابى » فعلى المرء ان يتبع الرسول ويتبع اولياء الله فان الانبياء لهم وحى الهى والاولياء لهم الهام ربانى والاتباع لهم لا يخلو عن الاتباع للرسول قال عليه السلام « المرء مع من احب » فان احب الانبياء والصديقين والشهداء والصالحين كان معهم فى الجنة
وفى الآية تنبيه على انه ينبغى للعبد ان لا يتأخر من مرتبة الصلاح بل يسعى فى تكميل الصلاح ثم يترقى الى مرتبة الشهادة ثم الى الصديقية وليس بين النبوة وبين الصديقية واسطة رزقنا الله واياكم الفوز بهذا النعيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا » واقل الصدق استواء السر والعلانية والصادق من صدق فى اقواله والصديق من صدق فى جميع اقواله وافعاله واحواله
وكان جعفر الخواص يقول الصادق لا تراه الا فى فرض يؤديه او فضل يعمل فيه وثمرات الصدق كثيرة فمن بركاته فى الدنيا انه حكى عن ابى عمر الزجاجى انه قال ماتت امى فورثت دارا فبعتها بخمسين دينارا وخرجت الى الحج فلما بلغت بابل استقبلنى واحد من القافلة وقال أى شىء معك فقلت من نفسى الصدق ثم قلت خمسون دينارا فقال ناولنيها فناولته الصرة فحلها فاذا هى خمسون وقال لى خذها فلقد اخذنى صدقك ثم نزل عن الدابة وقال اركبها فقلت لا اريد فقال لا والح فركبتها فقال وانا على اثرك فلما كان العام القابل لحق بى ولازمنى حتى مات : قال الحافظ قدس سره
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست ... كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست(3/14)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
{ يا ايها الذين آمنوا خذوا حذركم } اى تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من انفسكم يقال اخذ حذره اذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التى يقى بها نفسه ويعصم بها روحه { فانفروا } فاخرجوا الى جهاد العدو { ثبات } جماعات متفرقة سرية بعد سرية الى جهات شتى وذلك اذا لم يخرج النبى عليه السلام . جمع ثبة وهى جماعة من الرجال فوق العشرة ومحلها النصب على الحالية { او انفروا جميعا } مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا فتلقوا بانفسكم الى التهلكة وذلك اذا خرج النبى عليه السلام(3/15)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
{ وان منكم } خطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم المؤمنين والمنافقين { لمن } الذى اقسم بالله { ليبطئن } ليتأخرن عن الغزو ويتخلفن تثاقلا من بطأ لازم بمعنى ابطأ او ليبطئن غيره ويثبطه عن الجهاد وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن ابى وهو الذى يثبط الناس يوم احد والاول انسب لما بعده وهو قوله تعالى حكاية { يا ليتنى كنت معهم } وبالجملة المراد بالمبطئين المنافقون من العسكر لانهم كانوا يغزون نفاقا { فان اصابتكم مصيبة } نالتكم نكبة من الاعداء كقتل وهزيمة { قال } اى المبطىء فرحا بصنعه حامدا لربه { قد انعم الله على } اى بالقعود والتخلف عن القتال { اذ لم اكن معهم شهيدا } اى حاضرا فى المعركة فيصيبنى ما اصابهم(3/16)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{ ولئن اصابكم فضل } كائن { من الله } كفتح وغنيمة { ليقولن } ندامة على تثبيطه وقعوده وتهالكا على حطام الدنيا وتحسرا على فواته { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } اعتراض وسط بين الفعل ومفعوله الذى هو { يا } قوم { ليتنى كنت معهم } فى تلك الغزوة { فافوز فوزا عظيما } اى آخذ حظا وافرا من الغنيمة وانما وسعه بينهما لئلا يفهم من مطلع كلامه ان تمنيه معية المؤمنين لنصرتهم ومظاهرتهم حسبما يقتضيه ما فى البين من المودة بل هو للحرص على المال كما ينطق به آخره وليس اثبات المودة فى البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم(3/17)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
{ فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالآخرة } اى يبيعونها بها ويأخذون الآخرة بدلها وهم المؤمنون فالفاء جواب شرط مقدر اى ان بطأ هؤلاء عن القتاتل فليقاتل المخلصون الباذلون انفسهم فى طلب الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون فالفاء للتعقيب اى ليتركوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق والقعود عن القتال فى سبيل الله { ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل او يغلب فسوف نؤتيه اجرا عظيما } لا يقادر قدره وعدله الاجر العظيم غلب او غلب ترغيبا فى القتال او تكذيبا لقولهم قد انعم الله على اذ لم اكن معهم شهيدا وانما قال فيقتل او يغلب تنبيها على ان المجاهد ينبغى ان يثبت فى المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة او الدين بالظفر والغلبة ولا يخطر بباله القسم الثالث اصلا وان لا يكون قصده بالذات الى القتل بل الى اعلاء الحق واعزاز الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه الا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته ان يدخله الجنة او يرجعه الى مسكنه الذى خرج منه » مع ما نال من اجر وغنيمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « جاهدوا المشركين باموالكم وانفسكم وألسنتكم » وذلك بان تدعوا عليهم بالخذلان والهزيمة وللمسلمين بالنصر والغنيمة وتحرضوا القادرين على الغزو وفى الحديث « من جهز غازيا فى سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا فى سبيل الله بخير فقد غزا » اى كان خلفا لاهل بيته فى اقامة حوائجهم وتتميم مصالحهم وفضائل الجهاد لا تكاد تضبط
فعلى المؤمن ان يكون فى طاعة ربه بأى وجه كان من الوجوه التعبدية فان الآية الاولى وهى قوله { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } الآية وان نزلت فى الحرب لكن يقتضى اطلاق لفظها وجوب المبادرة الى الحيرات كلها كيفما امكن قبل الفوات
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف ... كه فرصت عزيزست والوقت سيف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بادروا بالاعمال قبل ان تجيئ فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا او يمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا » وعن الزبير بن عدى قال اتينا انس بن مالك فشكونا اليه ما نلقى من الحجاج فقال اصبروا فانه لا يأتى زمان الا والذى بعده اشد منه شرا حتى تتقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم : قال الحافظ قدس سره
روزى اكر غمى رسدت تنك دل مباش ... روشكركن مباد كه از بد بترشود
واعلم ان العدة والسلاح فى جهاد النفس والشيطان يعنى آلة قتالهما ذكر الله وبه يتخلص الانسان من كونه اسير الهوى النفسانى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/18)
« لا يقعد قوم يذكرون الله الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده » وعن ابى واقد الحارث بن عوف رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس فى المسجد والناس معه اذا اقبل ثلاثة نفر فاقبل اثنان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاما احدهما فرأى فرجة فى الحلقة فجلس فيها . واما الآخر فجلس خلفهم . واما الثالث فادبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ألا اخبركم عن النفر الثلاثة اما احدهم فاوى الى الله فآواه الله واما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه واما الآخر فاعرض فاعرض الله عنه »
بذكرش هرجه بينى درخروشست ... دلى داند درين معنى كه كوشست
نه بلبل بركلش تسبيح خوانيست ... كه هر خارى بتوحيدش زبانيست(3/19)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
{ وما لكم } اى أى شىء حصل لكم من العلل ايها المؤمنون حال كونكم { لا تقاتلون فى سبيل الله } اى تاركين القتال يعنى لا عذر لكم فى ترك المقاتلة وهذا استفهام بمعنى التوبيخ ولا يقال ذلك الا عند سبق التفريط { والمستضعفين } عطف على السبيل بحذف المضاف لا على اسم الله وان كان اقرب لان خلاص المستضعفين سبيل الله لا سبيلهم والمعنى فى سبيل الله وفى خلاص الذين استضعفهم الكفار بالتعذيب والاسر وهم الذين اسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين اظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الاذى الشديد وانما خصهم بالذكر مع ان سبيل الله عام فى كل خير لان تخليص ضعفة المسلمين من ايدى الكفار من اعظم الخير واخصه { من الرجال والنساء والولدان } بيان للمستضعفين والولدان الصبيان جمع ولد وانما ذكرهم معهم تسجيلا بافراط ظلمهم حيث بلغ اذاهم الولدان غير المكلفين ارغاما لآبائهم وامهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم ولان المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم فى دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة باخراجهم فى الاستسقاء
ودلت الآية على ان استنقاذ الاسارى من المسلمين من ايدى الكفار واجب بما قدروا عليه من القتال واعطاء المال { الذين } صفة للمستضعفين { يقولون } يعنى لا حيلة لهؤلاء المستضعفين ولا ملجأ الا الله فيقولون داعين { ربنا اخرجنا من هذه القرية } مكة { الظالم اهلها } بالشرك الذى هو ظلم عظيم وباذية المسلمين { واجعل لنا من لدنك وليا } اى ول علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا يحفظ علينا ديننا وشرعنا { واجعل لنا من لدنك نصيرا } ينصرنا على اعدائنا ولقد استجاب الله دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج الى المدينة قبل الفتح وجعل لمن بقى منهم الى الفتح خير ولى واعز ناصر ففتح مكة على يدى نبيه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أى تولية ونصرهم أى نصرة ثم استعمل عليهم عتاب بن اسيد فجعل يضعف قدر الضعيف للحق ويعز العزيز بالحق فرأوا منه الولاية والنصرة كما ارادوا حتى صاروا اعز اهلها(3/20)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{ الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله } اى المؤمنون انما يقاتلون فى دين الله الحق الموصل لهم الى الله عز وجل فى اعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة { والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت } اى فيما يوصلهم الى الشيطان فلا ناصر لهم سواه { فقاتلوا اولياء الشيطان } كأنه قيل اذا كان الامر كذلك فقاتلوا يا اولياء الله اولياء الشيطان { ان كيد الشيطان } الكيد السعى فى فساد الحال على جهة الاحتيال { كان ضعيفا } اى ان كيده للمؤمنين بالاضافة الى كيد الله بالكافرين ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا اولياءه فان اعتمادهم على اضعف شىء واوهنه وهذا كما يقال للحق دولة وللباطل جولة قالوا ادخال كان فى امثال هذه المواقع لتأكيد بيان انه منذ كان كان كذلك فالمعنى ان كيد الشيطان منذ كان كان موصوفا بالضعف
قال الامام فى تفسيره { ان كيد الشيطان كان ضعيفا } لان الله ينصر اولياءه والشيطان ينصر اوليائه ولا شك ان نصرة الشيطان لاوليائه اضعف من نصرة الله لاوليائه ألا ترى ان اهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وان كانوا حال حياتهم فى غاية الفقر والذلة . واما الملوك والجبابرة فاذا ماتوا انقرضوا ولا يبقى فى الدنيا رسمهم ولا طللهم . قيل النار حفت بالشهوات وان فى كل نفس شيطانا يوسوس اليها وملكا يلهمها الخير فلا يزال الشيطان يزين ويخدع ولا يزال الملك يمنعها ويلهمها الخير فايهما كانت النفس معه كان هو الغالب . قيل ان كيد الشيطان والنفس بمثابة الكلب ان قاومته مزق الاهاب وقطع الثياب وان رجعت الى ربه صرفه عنك برفق فالله تعالى جعل الشيطان عدوا للعباد ليوحشهم به اليه وحرك عليهم النفس ليدوم اقبالهم عليه فكلما تسلطا عليهم رجعوا اليه بالافتقار وقاموا بين يديه على نعت اللجأ والاضطرار
قال احمد بن سهل اعداؤك اربعة . الدنيا وسلاحها لقاء الخلق وسجنها العزلة . والشيطان وسلاحه الشبع وسجنه الجوع . والنفس وسلاحها النوم وسجنها السهر . والهوى وسلاحه الكلام وسجنه الصمت
واعلم ان كيد الشيطان ضعيف فى الحقيقة فان الله ناصر لاوليائه كل حين ويظهر ذلك الامداد فى نفوسهم بسبب تزكيتهم النفس وتخلية القلب عن الشواغل الدنيوية وامتلاء اسرارهم بنور التوحيد فان الشيطان ظلمانى يهرب من النورانى لا محالة روى ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه استأذن يوما على النبى عليه السلام وعنده نساء من قريش يسألنه عالية اصواتهن على صوته فلما دخل ابتدرن الحجاب فجعل صلى الله عليه وسلم يضحك فقال ما اضحكك يا رسول الله بابى انت وامى فقال صلى الله عليه وسلم « عجبت من هؤلاء اللاتى كن عندى فلما سمعن صوتك بادرن الحجاب »(3/21)
فقال عمر انت احق ان يهبن يا رسول الله ثم اقبل عليهن فقال اى عدوات انفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن انت افظ واغلظ من رسول الله فقال عليه السلام « يا ابن الخطاب فوالذى نفسى بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا الا سلك فجا غير فجك » وروى عن وهب بن منبه انه قال كان عابد فى بنى اسرائيل اراد الشيطان ان يضله فلم يستطع من أى جهة اراده من الشهوة والغضب وغير ذلك فاراده من قبل الخوف وجعل يدلى الصخرة من الجبل فاذا بلغه ذكر الله تباعد عنه ثم تماثل بالحية وهو يصلى فجعل يلتوى على رجليه وجسده حتى يبلغ رأسه وكان اذا اراد السجود التوى فى موضع رأسه فجعل ينحيه بيده حتى يتمكن من السجود فلما فرغ من صلاته وذهب جاء اليه الشيطان فقال له فعلت لك كذا وكذا فلم استطع منك على شىء فاريد ان اصادقك اى ان اكون صديقا لك فانى لا اريد ضلالتك بعد اليوم فقال العابد مالى حاجة فى مصادقتك فقال الشيطان ألا تسألنى بأى شىء اضل به بنى آدم قال نعم قال بالشح والحدة والسكر فان الانسان اذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه فيمنعه من حقوقه ويرغب فى اموال الناس
كريمانرا بدست اندر درم نيست ... خداوندان نعمت را كرم نيست
وقيل فى بعض الاشعار
باشد جوابربى مطر وبحر بى كهر ... آنراكه باجمال نكوجود بارنيست
واذا كان الرجل حديدا ادرناه بيننا كما يدير الصبيان الاكرة ولو كان يحيى الموتى لم نبال به
اكر آيد زدوستى كنهى ... بكناهى نشايد آزردن
ورزبانرا بعذر بكشايد ... بايدت خشم را فرخوردن
زانكه نزديك عاقلان بترست ... عفو ناكردن از كنه كردن
واما اذا سكر قدناه الى كل شىء كما تقاد العنز باذنها
مى مزيل عقل شد اى ناخلف ... تابجندى ميخورى در روزكار
آدمى را عقل بايد دربدن ... ورنه جان دركالبد دارد حمار
فعلى العاقل ان يجاهد فى سبيل الله فان المجاهدة على حقيقتها تقوى الروح الضعيف الذى استضعفه النفس بالاستيلاء عليه ويتضرع الى الله بالصدق والثبات حتى يخرج من قرية البدن الظالم اهلها وهو النفس الامارة بالسوء ويتشرف بولاية الله تعالى فى مقام الروح رزقنا الله واياكم فتح باب الفتوح آمين يا ميسر كل عسير(3/22)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{ ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم } روى ان ناسا اتوا النبى صلى الله عليه وسلم بمكة قبل ان يهاجر الى المدينة وشكوا اليه ما يلقون من اذى المشركين قالوا كنا فى عز فى حالة الجاهلية والآن صرنا اذلة فلو اذنت لنا قتلنا هؤلاء المشركين على فرشهم فقال صلى الله عليه وسلم « كفوا ايديكم » اى امسكوا « عن القتال » { واقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } واشتغلوا بما امرتم به فانى لم أومر بقتالهم وكانوا فى مدة اقامتهم بمكة مستمرين على تلك الحالة فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة وامروا بالقتال فى وقت بدر كرهه بعضهم وشق ذلك عليه لكن لا شكا فى الدين ولا رغبة عنه بل نفورا من الاخطار بالارواح وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية لان حب الدنيا والنفرة من القتل من لوازم الطباع وذلك قوله تعالى { فلما كتب عليهم القتال } اى فرض عليهم الجهاد { اذا فريق } اذا للمفاجأة وفريق مبتدأ { منهم } صفة { يخشون الناس } خبره والجملة جواب لما اى فاجأ فريق منهم ان يشخوا الكفار ان يقتلوهم { كخشية الله } مصدر مضاف الى المفعول محله النصب على انه حال من فاعل يخشون اى يخشونهم متشبهين باهل خشية الله تعالى { او اشد خشية } عطف عليه بمعنى او اشد خشية من اهل خشية الله وكلمة او للتنويع على معنى ان خشية بعضهم كخشية الله او خشية بعضهم اشد منها { وقالوا } عطف على جواب لما اى فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا { ربنا لم كتبت علينا القتال } فى هذا الوقت لا على وجه الاعتراض على حكمه تعالى والانكار لا يجابه بل على طريقة تمنى التخفيف { لولا أخرتنا الى اجل قريب } اى هلا امهلتنا وتركتنا الى الموت حتى نموت بآجالنا على الفراش وهذا استزادة فى مدة الكف واستمهال الى وقت آخر حذرا من الموت وحبا للحياة { قل } اى تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفانى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقى { متاع الدنيا قليل } اى ما يتمتع وينتفع به فى الدنيا سريع النقض وشيك الانصرام وان اخرتم الى ذلك الاجل ولو استشهدتم فى القتال صرتم احياء فتتصل الحياة الفانية بالحياة الباقية { والآخرة } اى ثوابها الذى من جملته الثواب المنوط بالقتال { خير } لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وانما قيل { لمن اتقى } حثا لهم على اتقاء العصيان والاخلاص بمواجب التكليف { ولا تظلمون فتيلا } عطف على مقدر اى تجزون ولا تنقصون ادنى شىء من اجور اعمالكم التى من جملتها مسعاتكم فى شأن القتال فلا ترغبوا عنه(3/23)
اعلم ان الآخرة خير من الدنيا لان نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة ونعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ونعم الآخرة صافية عن الكدروات ونعم الدنيا مشكوكة فان اعظم الناس تنعما لا يعرف انه كيف تكون عاقبته فى اليوم الثانى ونعم الآخرة يقينية
فعلى العاقل ان يختار ما هو خير من كل وجه وهو الآخرة على ما هو شر من كل جهة وهو الدنيا : قال السعدى فى بعض قصائده
عمارت باسراى ديكر انداز ... كه دنيارا اساسى نيست محكم
فريدون را سرآمد بادشاهى ... سليمانرا برفت ازدست خاتم
وفادارى مجوى ازدهر خونخوار ... محالست انكبين دركام ارقم
مثال عمر سر بركرده شمعيست ... كه كوته باز مى باشد دمادم
ويا برفى كدازان بر سركوه ... كز هر لحظه جزئى ميشودكم
روى ان رجلا اشترى دارا فقال لعلى رضى الله عنه اكتب القبالة فكتب [ بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد فقد اشترى مغرور من مغرور دارا دخل فيها فى سكة الغافلين لا بقاء لصاحبها فيها الحد الاول ينتهى الى الموت والثانى الى القبر والثالث الى الحشر والرابع الى الجنة او الى النار والسلام ] فقرأ على الرجل فرد الدار وتصدق بالدنانير كلها وتزهد فى الدنيا فهذا هو حال العارفين حقيقة الحال
قال القشيرى رحمه الله مكنك من الدنيا ثم قللها فلم يعدها لك شيأ ثم لو تصدقت منها بشق تمرة استكثر منك وهذا غاية الكرم وشرط المحبة وهو استقلال الكثير من نفسه واستكثار القليل من حبيبه واذا كان قيمة الدنيا قليلة فاخس من الخسيس من رضى بالخسيس بدلا من النفس وقال ان الله تعالى اختطف المؤمن من الكون بالتدريج فقال اولا { قل متاع الدنيا قليل } فاختطفهم من الدنيا بالعقبى ثم استلبهم عن الكونين بقوله { والله خير وابقى } فلا بد للسالك ان يترقى الى اعلى المنازل ويسعى من غير فتور وكلال : قال مولانا جلال الدين قدس سره
اى برادر بى نهايت دركهيست ... هركجاكه مى رسى بالله مايست
وثمرة المجاهدة لا تضيع البتة بل تجزى كل نفس بما عملت
قال بعض المشايخ انما جعل الدار الآخرة محلا لجزاء عباده المؤمنين لان هذه الدار لا تسع ما يريد ان يعطيهم ظاهرا وباطنا وكل ما فى الجنة لا يوافق ما فى الدنيا الا من حيث التسمية ولانه تعالى اجل اقدارهم عن ان يجازيهم فى دار لا بقاء لها قال تعالى { وما عند الله خير وابقى } ثم الجزاء فى تلك الدار له علامة فى هذه الدار وهى انه من وجد ثمرة عمله عاجلا وهى الحلاوة فيه والتوفيق لغيره والشكر عليه فهو دليل على وجود القبول لان الجزاء على ذلك مقصور(3/24)
قال ابراهيم بن ادهم لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف
وقال بعضهم ليس شىء من البر الا ودونه عقبة يحتاج الى الصبر فيها فمن صبر على شهدتها افضى الى الراحة والسهولة وانما هى مجاهدة النفس ثم مخالفة الهوى ثم المكابدة فى ترك الدنيا ثم اللذة والتنعم وانما يطيع العبد ربه على قدر منزلته منه فمن سره ان يعوف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله فى قلبه
وقيل لبعضهم هل تعرف الله فغضب وقال ترانى اعبد من لا اعرف قال له السائل او تعصى من تعرف : قال السعدى قدس سره
عمرى كه ميرود بهمه حال سعى كن ... تادر رضاى خالق بيجون بسر برى
وقال ايضا
بير بودى وره ندانستى ... تونه بيرى كه طفل كتابى(3/25)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } المقدر بالاجل او العذاب وفى لفظ الادراك اشعار بانهم فى الهرب منه وهو مجد فى طلبهم وهو كلام مبتدأ لا محل له من الاعراب { ولو كنتم فى بروج مشيدة } اى وان كنتم فى قصور عالية الى السماء محكمة بالشيد وهو الجص لا يصعد اليها بنو آدم
قال مجاهد فى هذه الآية كان فيمن قبلكم امرأة وكان لها اجير فولدت جارية فقالت لاجيرها اقتبس لنا نارا فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل ما ولدت هذه المرأة قال جارية قال اما هذه الجارية لا تموت حتى تزنى بمائة ويتزوجها اجيرها ويكون موتها بالعنكبوت فقال الاجير فى نفسه فانا اريد هذه بعد ان تفجر بمائة لاقتلنها فاخذ شفرة فدخل فشق بطن الصغيرة وخرج على وجهه وركب البحر وخيط بطن الصبية فعولجت وبرئت وشبت فكانت تزنى فاتت ساحلا من ساحل البحر فاقامت عليه تزنى ولبث الرجل ما شاء الله ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير فقال لامرأة من اهل الساحل اطلعى لى امرأة من اجمل النساء اتزوجها فقالت ههنا امرأة من احمل النساء ولكنها تفجر فقال ائتينى بها فاتتها فقالت قد قدم رجل له مال كثير وقال لى كذا وكذا فقالت انى تركت الفجور ولكن ان اراد ان يتزوجنى تزوجته قال فتزوجها فوقعت منه موقعا فبينما هو يوما عندها اذا اخبرها بامره فقالت انا تلك الجارية وارته الشق فى بطنها وقد كنت افجر فما ادرى بمائة او اقل او اكثر فقال زوجها فى نفسه ان الرجل الذى كان خارج الباب قال يكون موتها بالعنكبوت ثم اخبرها بذلك قال فبنى لها برجا فى الصحراء وشيده فبينما هى يوما فى ذلك البرج اذا عنكبوت فى السقف فقالت هذا يقتلنى لاقتلنه اذ لا يقتله احد غيرى فحركته فسقط فاتته فوضعت ابهام رجلها عليه فشدخته فساح سمه بين ظفرها واللحم فاسودت رجلها فماتت وفى ذلك نزلت هذه الآية { اينما تكونوا يدرككم الموت } واجمعت الامة على ان الموت ليس له سن معلوم ولا اجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على اهبة من ذلك مستعدا لذلك قال عليه السلام « اكثروا ذكر هاذم اللذات » يعنى الموت وهو كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة وابلغ فى الموعظة فان من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه اللذة الحاضرة ومنعه من تمنيها فى المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة تحتاج الى تطويل الوعاظ وتزويق الالفاظ والا ففى قوله عليه السلام « اكثروا ذكر هاذم اللذات » مع قوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } ما يكفى السامع ويشغل الناظر فيه : قال الحافظ قدس سره(3/26)
سبهر برشده برويزنست خون افشان ... كه ريزه اش سركسرى وتاج برويزست
قال السعدى قدس سره
جهان اى بسر ملك جاويد نيست ... زدنيا وفادارى اميد نيست
نه برباد رفتى سحركاه وشام ... سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدى كه برباد رفت ... خنك آنكه بادانش وداررفت
والاشارة فى الآية ان يا اهل البطاله فى زى الطلبة الذين غلب عليكم الهوى وحبب اليكم الدنيا فاقعدكم عن طلب المولى ثم رضيتم بالحياة الدنيا واطمأننتم بها { اينما تكونوا يدرككم الموت } اضطرارا ان لم تموتوا قبل ان تموتوا اختيارا { ولو كنتم فى بروج مشيدة } اى اجساد مجسمة قوية امزجتها اوصلنا الله واياكم الى حقيقة الفناء والبقاء آمين { وان تصبهم حسنة } اى نعمة كخصب { يقولوا هذه من عند الله } نسبوها الى الله { وان تصبهم سيئة } بلية كقحط { يقولوا هذه من عندك } اضافوها اليك يا محمد وقالوا ان هى الا بشؤمك كما قالت اليهود منذ دخل محمد المدينة نقضت ثمارها وغلت اسعارها { قل كل } من الحسنة والسيئة { من عند الله } يبسط ويقبض حسب ارادته { فمال هؤلاء القوم } اى أى شىء حصل لليهود والمنافقين من العلل حال كونهم { لا يكادون يفقهون حديثا } اى لا يقربون من فهم حديث عن الله تعالى كالبهائم ولو فهموا لعلموا ان الكل من عند الله والفقه هو الفهم ثم اختص من جهة العرف بعلم الفتوى(3/27)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
{ ما اصابك } يا انسان { من حسنة } من خير ونعمة { فمن الله } تفضلا منه فان كل ما يفعله الانسان من الطاعة لا يكافىء نعمة الوجود فكيف يقتضى غيره ولذلك قال عليه السلام « ما احد يدخل الجنة الا برحمة الله » قيل ولا انت قال « ولا انا الا ان يتغمدنى الله برحمته » { وما اصابك من سيئة } من بلية وشىء تكرهه { فمن نفسك } لانها السبب فيها لاستجلابها المعاصى وهو لا ينافى قوله { كل من عند الله } فان الكل منه ايجادا وايصالا غير ان الحسنة احسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كما قالت عائشة رضى الله عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله الا بذنب وما يغفر الله اكثر
واعلم ان للاعمال اربع مراتب . منها مرتبتان لله تعالى وليس للعبد فيهما مدخل وهما التقدير والخلق . ومنها مرتبتان للعبد هما الكسب والفعل فان الله تعالى منزه عن الكسب وفعل السيئة وانهما يتعلقان بالعبد ولكن العبد وكسبه مخلوق خلقه الله تعالى كما قال { والله خلقكم وما تعملون } فهذا تحقيق قوله { قل كل من عند الله } اى خلقا وتقديرا لا كسبا وفعلا فافهم واعتقد فانه مذهب اهل الحق وارباب الحقيقة كذا فى التأويلات النجمية
قال الضحاك ما حفظ الرجل القرآن ثم نسيه الا بذنب ثم قرأ { وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم } قال فنسيان القرآن من اعظم المصائب { وارسلناك للناس رسولا } اى رسولا للناس جميعا لست برسول للعرب وحدهم بل انت رسول العرب والعجم كقوله تعالى { وما ارسلناك الا كافة للناس } فرسولا حال قصد قها تعميم الرسالة والجار متعلق بها قدم عليها للاختصاص { وكفى بالله شهيدا } على رسالتك بنصب المعجزات
وفى التأويلات النجمية يشير بقوله تعالى { وارسلناك للناس رسولا } اى الناس الذين قد نسوا الله ونسوا ما شاهدوا منه وما عاهدوا عليه الله وارسلناك اليهم لتبلغهم كلامنا وتذكرهم ايامنا وتجدد لهم عهودنا وترغبهم فى شهودنا وتدعوهم الينا وتهديهم الى صراطنا وتكون لهم سراجا منيرا يهتدون بهداك ويتبعون خطاك الى ان توصلهم الى الدرجات العلى وتنزلهم فى المقصد الاعلى { وكفى بالله شهيدا } اى شاهدا لاحبائه واوليائه لئلا يكتفوا براحة دون لقائه انتهى : قال الحافظ قدس سره
يوسف عزيزم رفت اى برادر آن زجمن ... كزغمش عجب ديدم حال بير كنعان
وفى الآية تعليم الادب ورؤية التأثير من الله تعالى روى ان ابا بكر رضى الله عنه ابتلى بوجع السن سبع سنين فاعلمه جبريل رسلو الله صلى الله عليه وسلم وسأل عليه السلام عن حاله فقال « لم لم تذكر يا ابا بكر » فقال كيف اشكوا مما جاء من الحبيب فلا بد من التخلق بالاخلاق الحسنة لان الكل من عند الله وانما ارسل الله رسوله لاخراج الناس من الظلمات الى النور فاذا تأدبوا بالآداب النبوية وصلوا الى الحقيقة المحمدية : قال الشيخ العطار(3/28)
دعوتش فرمود بهر خاص وعام ... نعمت خودرا برو كرده تمام
مبعث او سر نكونىء بتان ... امت او بهترين امتان
بريمان دو كتف خورشيد وار ... داشته مهر نبوت آشكار
وكان خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم اشارة الى عصمته من وسوسة الشيطان لان الخناس يجيىء من بين الكتفين فيدخل خرطومه قبل قلب الانسان فيوسوس اليه فاذا ذكر الله خنس وراءه وكان حول خاتم النبوة شعرات مائلة الى الخضرة مكتوب عليه [ محمد نبى امين ] وقيل غير ذلك والتوفيق بين الروايات بتعدد الخطوط وتنوعها بحسب الحالات والتجليات او بالنسبة الى انظار الناظرين . ثم انه قد اتفق اهل العلم على افضلية شهر رمضان لانه انزل فيه القرآن ثم شهر ربيع الاول لانه مولد حبيب الرحمن . واما افضل الليالى فقيل ليلة القدر لنزول القرآن فيها
وقيل ليلة المولد المحمدى لولاه ما انزل القرآن ولا تعينت ليلة القدر فعلى الامة تعظيم شهر المولد وليلته كى ينالوا منه شفاعته ويصلوا الى جواره(3/29)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{ من يطع الرسول فقد اطاع الله } لانه فى الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى روى انه عليه السلام قال « من احبنى فقد احب الله ومن اطاعنى فقد اطاع الله » فقال المنافقون لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد الا ان نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت { ومن تولى } اى اعرض عن طاعته { فما ارسلناك عليهم حفيظا } تحفظ عليهم اعمالهم وتحاسبهم عليها انما عليك البلاغ وعلينا الحساب . قوله حفيظا حال من كاف ارسلناك وعليهم متعلق بحفيظا
{ ويقولون } اذا امرتهم بأمر { طاعة } اى امرنا وشأننا طاعة { فاذا برزوا من عندك } اى خرجوا { بيت طائفة منهم غير الذى تقول } اى زورت خلاف ما قلت لها يا محمد فالضمير للخطاب او ما قالت لك من ضمان الطاعة فالضمير للغيبة واشتقاق البيت من البيتوتة ولما كان غالب الافكار التى يسقتصى فيها الانسان واقعا فى الليل اذ هناك يكون الخاطر اصفى والشواغل اقل سمى الفكر المستقصى مبيتا { والله يكتب ما يبيتون } يثبته فى صحائف اعمالهم للمجازاة { فاعرض عنهم } قلل المبالاة بهم { وتوكل على الله } فى الامور كلها سيما فى شأنهم { وكفى بالله وكيلا } يكفيك معرتهم وينتقم لك منهم اذا قوى امر الاسلام وعز انصاره . والوكيل هو العالم بما يفوض اليه من التدبير
{ أفلا يتدبرون القرآن } يتأملون فى معانيه ويتبصرون ما فيه واصل التدبير النظر فى ادبار الشىء وما يؤول اليه فى عاقبته ومنتهاه ثم استعمل فى كل تأمل { ولو كان من عند غير الله } اى ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار { لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } من تناقض المعنى وتفاوت النظم وكان بعضه فصيحا وبعضه ركيكا وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل ومطابقة بعض اخبار المستقبلة للواقع دون بعض وموافقة العقل لبعض احكامه دون بعض على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية
وهل يجوز ان يقال بعض كلام الله ابلغ من بعض
قال الامام السيوطى فى الاتقان جوزه قوم لقصور نظرهم فينبغى ان يعلم ان معنى قول القائل هذا الكلام ابلغ من هذا الكلام ان هذا فى موضعه له حسن ولطف وبلاغة وذاك فى موضعه له حسن ولطف وهذا الحسن فى موضعه اكمل وابلغ من ذلك فى موضعه فلا ينبغى ان يقال ان { قل هو الله احد } ابلغ من { تبت } بل ينبغى ان يقال { تبت يدا ابى لهب } دعاء عليه بالخسران فهل توجد عبارة للدعاء بالخسران احسن من هذه وكذلك فى { قل هو الله احد } لا توجد عبارة تدل على وحدانيته ابلغ منها فالعالم اذا انظر الى { تبت يدا ابى لهب } فى باب الدعاء بالخسران ونظر الى { قل هو الله احد } فى باب التوحيد لا يمكنه ان يقول احدهما ابلغ من الآخر(3/30)
وقال بعض المحققين كلام الله فى الله افضل من كلامه فى غيره ف { قل هو الله احد } افضل من { تبت يدا ابى لهب } لان فيه فضيلة الذكر وهو كلام الله وفضيلة المذكور وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته والايجابية والسلبية وسورة تبت فيها فضيلة الذكر فقط وهو كلام الله تعالى
قال الغزالى فى جوهر القرآن ومن توقف فى تفضيل الآيات اول قوله عليه السلام « افضل سورة واعظم سورة » بانه اراد فى الاجر والثواب لا ان بعض القرآن افضل من بعض فالكل فى فضل الكلام واحد والتفاوت فى الاجر لا فى كلام الله تعالى من حيث هو كلام الله القديم القائم بذاته تعالى انتهى
يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة قولهم ان هذه الآية فى غاية الفصاحة كما قال القاضى عند قوله تعالى { وقيل يا ارض ابلعى ماءك } الآية يشعر بجواز القول بالتفاوت فى طبقات الفصاحة كما عليه علماء البلاغة ومن هنا : قال من قال
دربيان ودرفصاحت كى بوديكسان سخن ... كرجه كوينده بود جون جاحظ وجون اصمعى
در كلام ايزد بيجون كه وحى منزلست ... كى بود تبت يدا مانند يا ارض ابلعى
قال العلماء القرآن يدل على صدقه عليه السلام من ثلاثة اوجه . احدها اطراد الفاظه فى الفصاحة . وثانيها اشتماله على الاخبار عن الغيوب . والثالث سلامته من الاختلاف وسبب سلامته منه على ما ذهب اليه اكثر المتكلمين ان القرآن كتاب كبير مشتمل على انواع كثيرة من العلوم فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه انواع من الكلمات المتناقضة لان الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا انه ليس من عند غير الله وانما هو وحى اوحى اليه عليه السلام من عند الله بوساطة جبرائيل فمن اطاعه فيه فقد اطاع الله والاطاعة سبب لنيل المطالب الدنيوية والاخروية ويرشدك على شرف الاطاعة ان كلب اصحاب الكهف لما تبعهم فى طاعة الله وعدله دخول الجنة : كما قال السعدى
سك اصحاب كهف رزوى جد ... بى مردم كرفت ومردم شد
فاذا كان من تبع المطيعين كذلك فما ظنك بالمطيعين وكما ان من صلى ولم يؤد الزكاة لم تقبل منه الصلاة ومن شكر الله فى نعمائه ولم يشكر الوالدين لا يقبل منه فكذلك من اطاع الله ولم يطع الرسول لا يقبل منه
والاشارة ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان لوصفه بالفناء فانيا فى الله باقيا بالله قائما مع الله فكان خليفة الله على الحقيقة فيما يعامل الخلق حتى قال { وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى } وكان الله خليفته فيما يعامله الخلق حتى قال { ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله } ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم « الله خليفتى على امتى »(3/31)
{ فمن تولى فما ارسلناك عليهم حفيظا } فانك لست حافظا فكيف لهم فانهم تولوا عنى لا عنك فانما على حسابهم لا عليك وفى قوله تعالى { ويقولون طاعة } اشارة الى احوال اكثر مريدى هذا الزمان اذا كانوا حاضرين فى الصحبة ينعكس تلألؤ اشعة انوار الولاية فى مرآة قلوبهم فيزدادون ايمانا مع ايمانهم ورادة مع ارادتهم فيصغون بآذانهم الواعية الى الحكم والمواعظ الحسنة ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ويقولون السمع والطاعة فيما يسمعون ويخاطبون به { فاذا برزوا من عندك } وهب لهم رياح الهوى وشهوة الحرص وتمايلت قلوبهم عن مجازات القرار على الولاية وعاد المشئوم الى طبعه { بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون } اى يغير عليهم ما يغيرون على انفسهم لان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم { فاعرض عنهم } فاصفح عنهم واصبر معهم { وتوكل على الله } لعل الله يصلح بالهم ولا يجعل التغيير وبالهم ويحسن عاقبتهم ومآلهم { وكفى بالله وكيلا } للمتوكلين عليه والملتجئين اليه ثم اخبر عن الدواء كما اخبر عن الداء بقوله { أفلا يتدبرون القرآن } والاشارة ان العباد لو كانوا يتدبرون القرآن ويتفكرون فى آثار معجزاته وانوار هداياته ونظم آياته وكمال فصاحته وجمال بلاغته وجزالة الفاظه ورزانة معانيه ومتانة مبانيه وفى اسراره وحقائقه ودقة اشاراته ولطائفه وانواع معالجاته لامراض القلوت من اصابة ضرر الذنوب لوجدوا فيه لكل داء دواء ولكل مرض شفاء ولكل عين قرة ولكل وجه غرة ولرأوا كأسه موصوفا بالصفاء محفوظا من القذى بحرا لا تنقضى عجائبه وبرا لا تنتفى غرائبه روحا لا تباغض فيه ولا خلاف وجثة لا تناقض فيها ولا اختلاف { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ولم يجدوا فيه نقيرا ولا قطميرا انتخبته من التأويلات النجمية : وفى المثنوى
جون تودر قرآن حق بكريختى ... باروان انيبا آميختى
هست قرآن حالهاى انيبا ... ماهيان بحر باك كبريا
وربخوانى ونه قرن بزير ... انبياو اوليارا ديده كير(3/32)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{ واذا جاءهم } اى بلغ ضعفة المسلمين { امر من الامن او الخوف } اى خبر من السرايا الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفر وغنيمة او نكبة وهزيمة { اذاعوا به } اى افشوا ذلك الخبر واظهروه لعدم خبرتهم بالاحوال واستنباطهم للامور وكانت اذا عتهم مفسدة يقال اذاع السرور اذاع به والباء مزيدة { ولو ردوه } اى ذلك الخبر { الى الرسول والى اولى الامر منهم } بترك التعرض له وجعله بمنزلة غير المسموع وتفويض امره الى رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى كبار اصحابه كالخلفاء الاربعة او رأى امراء السرايا فكبار الصحابة اولوا امر على معنى انهم البصراء بالامور وان لم يكن لهم امر على الناس والامراء اولوا الامر على الناس مع كونهم بصراء بالامور { لعلمه } اى لعلم تدبير ما اخبروا به على أى وجه يذكرونه { الذين } اى الرسول واولوا الأمر الذين { يستنبطونه منهم } اى يستخرجون تدبيره بتجاربهم وانظارهم الصحيحة ومعرفتهم بامور الحرب ومكايدها
واصل الاستنباط اخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر اول ما تحفر يقال انبط الحفار اذا بلغ الماء وسمى القوم الذين ينزلون بالبطائح بين العراقين نبطا لاستنباطهم الماء من الارض وقيل كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم واولى الامر على امن ووثوق بالظهور على بعض الاعداء او على خوف واستشعار فيذيعونه فينشر فيبلغ الاعداء فتعود اذاعتهم مفسدة ولو ردوه الى الرسول والى اولى الامر منهم وفوضوه اليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون منه فالمراد بالمستنبطين منهم على كلا الوجهين الرسول واولوا الامر . ومن فى قوله يستنبطونه منهم اما تبعيضية واما بيانية تجريدية
وفى الآية نهى عن افشاء السر قيل لبعض الادباء كيف حفظك للسر قال انا قبره ومن هذا قيل صدور الابرار قبور الاسرار وفى المثنوى
وربكوئى بايكى دو الوداع ... كل سر جاوز الاثنين شاع
نكته كان جست ناكه اززبان ... همجوتيرى دان كه جست آن ازكمان
وانكردد ازره آن تيراى بسر ... بند بايد كرد سيلى را زسر
وفى الآية اشارة الى ارباب السلوك اذا فتح لهم باب من الانس او الهيبة او الحضور او الغيبة من آثار صفات الجمال والجلال اشاعوه الى الاغيار ولو كان رجوعهم فى حل هذه المشكلات الى سنن الرسول صلى الله عليه وسلم والى سير اولى الامر منهم وهم المشايخ البالغون الواصلون ومن كان له شيخ كامل فهو ولى امره لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهم ارباب الكشوف بحائق الاشياء فهم الغواصون فى بحار اوصاف البشرية المستخرجون من اصداف العلوم درر حقائق المعرفة { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بارسال الرسول وانزال الكتاب { لاتبعتم الشيطان } بالكفر والضلال { الا قليلا } اى الا قليلا منكم فان من خصه الله بعقل راجح وقلب غير متكدر بالانهماك فى اتباع الشهوات يهتدى الى الحق والصواب ولا يتبع الشيطان ولا يكفر بالله وان فرض عدم انزال القرآن وبعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهما ممن كان على دين المسيح قبل بعثته(3/33)
وقال الشيخ نجم الدين قدس سره فى تأويلاته لعل الاستثناء راجع الى الصديق رضى الله عنه فانه كان قبل مبعث النبى عليه السلام يوافقه فى طلب الحق قالت عائشة رضى الله عنها لم اعقل ابوى قط الا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم الا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفى النهار بكرة وعشيا وروى عن النبى عليه السلام « كنت وابو بكر كفرسى رهان سبقته فتبعنى ولو سبقنى لتبعته » وفى الحقيقة كان النبى عليه السلام فضل الله ورحمته يدل عليه قوله تعالى { هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم يتلو } الى قوله { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } وقوله تعالى { وما ارسلناك الا رحمة للعالمين } فلولا وجود النبى عليه السلام وبعثته لبقوا فى تيه الضلالة تائهين كما قال تعالى { ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفى ضلال مبين } يعنى قبل بعثته وكانوا قد اتبعوا الشيطان الى شفا حفرة من النار وكان وكان عليه السلام فضلا ورحمة عليهم فانقذهم منها كما قال تعالى { وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها } قال الشيخ العطار قدس سره
خويشتن راخواجه عرصات كفت ... انما انا رحمة مهدات كفت
وقال حضرة الهدايى قدس سره
سرمايه سعادت عالم محمداست ... مقصود ازين طينت آدم محمد است
درصورت آدم آمد اكرجه مقدما ... درمعنى بيشواومقدم محمد است
كرجه هدايى رسالت مكرم است ... محبوب حق محمد وخاتم محمد است
قال بعض الحكماء ان الله تعالى خلق محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل رأسه من البركة وعينيه من الحياء واذنيه من العبرة ولسانه من الذكر وشفتيه من التسبيح ووجهه من الرضى وصدره من الاخلاص وقلبه من الرحمة وفؤاده من الشفقة وكفيه من السخاوة وشعره من نبات الجنة وريقه من عسل الجنة فلما اكمله بهذه الصفة ارسله الى هذه الامة فقال هذا هديتى اليكم فاعرفوا قدر هديتى وعظموه كذا فى زهرة الرياض
وقيل فى وجه عدم ارتحال جسده الشريف النظيف من الدنيا ان عيسى عليه السلام قد عرج الى السماء بجسده انما بقى جسمه الطاهر هنا لاصلاح عالم الاجساد وانتظامه فانه مظهر الذات وطلسم الكائنات فجميع الانتظام بوجوده الشريف كذا فى الواقعات المحمودية نقلا عن حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس الله سره آمين آمين يا رب العالمين(3/34)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
{ فقاتل فى سبيل الله } الفاء جزائية والجملة جواب لشرط مقدر اى ان تثبط المنافقون وقصر الآخرون وتركوك وحدك فقاتل انت يا محمد وحدك فى الطريق الموصل الى رضى الله وهو الجهاد ولا تبال بما فعلوا { لا تكلف الا نفسك } مفعول ثان للفعل المخاطب المجهول اى الا فعل نفسك لا يضرك لمخالفتهم وتقاعدهم فتقدم الى الجهاد وان لم يساعدك احد فان الله ناصرك لا الجنود . والتكلف اسم لما يفعل بمشقة او بتصنع فالمحمود منه ما فعل بمشقة حتى الف ففعل بمحبة كالعبادات والمذموم منه ما يتعاطى تصنعا ورياء { وحرض المؤمنين } على القتال اى رغبهم فيه بذكر الثواب والعقاب او بوعد النصرة والغنيمة وما عليك فى شأنهم الا التحريض فحسب لا التعنيف بهم روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد ابا سفيان بعد حرب احد موسم بدر الصغرى فى ذى القعدة وهى سوق من المدينة على ثمانية اميال ويقال لها حمراء الاسد ايضا فلما بلغ الميعاد دعا الناس الى الخروج فكرهه بعضهم فانزل الله هذه الآية فخرج صلى الله عليه وسلم فى سبعين راكبا فكفاهم الله القتال كما قال { عسى الله ان يكف } اى يمنع { بأس الذين كفروا } البأس فى الاصل المكروه ثم وضع موضع الحرب والقتال قال تعالى { لا يأتون البأس الا قليلا } وعسى من الله واجب لانه فى اللغة الاطماع والكريم اذا اطمع انجز وقد فعل حيث القى فى قلوب الكفرة الرعب حتى رجعوا من مر الظهران ويروى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وافى بجيشه بدرا وقام بها ثمانى ليال وكان معهم تجارات فباعوها واصابوا خيرا كثيرا وقد مر فى سورة آل عمران { والله اشد بأسا } اى من قريش { واشد تنكيلا } اى تعذيبا وعقوبة ينكل من يشاهدها عن مباشرة ما يؤدى اليها ويجوز ان يكونا جميعا فى الدنيا وان يكون احدهما فى الدنيا والآخر فى العقبى
ثم له ثلاثة اوجه . احدها ان معناه ان عذاب الله تعالى اشد من جميع ما ينالكم بقتالهم لان مكروههم ينقطع ثم تصيرون الى الجنة وما يصل الى الكفار والمنافقين من عذاب الله يدوم ولا ينقطع . والثانى لما كان عذاب الله اشد فهو اولى ان يخاف ولا يجرى فى امره بالقتال منكم خلاف وهذا وعيد . والثالث لما كان عذاب الله اشد فهو يدفعهم عنكم ويكفيكم امرهم وهذا وعد وانما جبن المتقاعدون لشدة بأس الكفار وصولتهم ولكن الله قاهر فوق عباده وقوة اليقين رأس مال الدين والموت تحفة المؤمن الكامل خصوصا اذا كان فى طريق الجهاد والدنيا سريعة الزوال ولا تبقى على كل حال وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كثيرا ما ينشد هذه الابيات(3/35)
لا شىء مما نرى تبقى بشاشته ... يبقى الاله ويردى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان اذ تجرى الرياح له ... والانس والجن فيما بينها ترد
اين الملوك التى كانت لعزتها ... من كل اوب اليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
وفى التأويلات النجمية { فقاتل فى سبيل الله لا تكلف الا نفسك } المعنى فجاهد فى طلب الحق نفسك فان فى طلب الحق لا تكلف نفسا اخرى الا نفسك وفيه معنى آخر لا تكلف نفس اخرى بالجهاد لاجل نفسك لان حجابك من نفسك لا من نفس اخرى فدع نفسك وتعالى فانك صاحب يوم لا تملك نفس لنفس شيأ وذلك لانه صلى الله عليه وسلم اختص بهذا المقام من جميع الانبياء والمرسلين وان يكون فانى النفس والذى يدل عليه ان الانبياء يوم القيامة يقولون لبقاء نفوسهم نفسى نفسى ويقول النبى عليه السلام لفناء نفسه امتى امتى فافهم جدا ثم قال { وحرض المؤمنين } على القتال يعنى فى الجهاد الاصغر والجهاد الاكبر { عسى الله ان يكف بأس الذين كفروا } ظاهرا وباطنا فالظاهر الكفار والباطن النفس { والله اشد بأسا واشد تنكيلا } فى استيلاء سطوات صفات قهره عند تجلى صفة جلاله للنفس من بأس الكافر عليها انتهى : وفى المثنوى
اندرين ره مى تراش و مى خراش ... تادم آخر دمى فارغ مباش
اى شهان كشتيم ما خصمى برون ... ماند خصمى زوان بتردراندرون
كشتن اين كارعقل وهوش نيست ... شيرباطن سخره خركون نيست
سهل شيرى دانكه صفها بشكند ... شير آنست آنكه خودرا بشكند(3/36)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
{ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } وهو ثواب الشفاعة والتسبب الى الخير الواقع بها والشفاعة الحسنة هى التى روعى بها حق مسلم ودفع بها عنه شر او جلب اليه خير وابتغى بها وجه الله تعالى ولم تؤخذ عليها رشوة وكانت فى امر جائز لا فى حد من حدود الله ولا فى حق من الحقوق { ومن يشفع شفاعة سيئة } وهى ما كانت بخلاف الحسنة { يكن له كفل منها } اى نصيب من وزرها مساو لها فى المقدار من غير ان ينقص منه شىء
وعن مسروق انه شفع شفاعة فاهدى اليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال لو علمت ما فى قلبك لما تكلمت فى حاجتك لا اتكلم فيما بقى منها
ومن بلاغات الزمخشرى شيآن شينان فى الاسلام الشفاعة فى الحدود والرشوة فى الاحكام والحدود عقوبة مقدرة يجب على الامام اقامتها حقا لله تعالى لئلا يتضرر العباد فالتعزير ليس بحد اذ ليس له قدر معين فان اكثره تسعة وثلاثون سوطا واقله ثلاثة وكذا القصاص لا يسمى حدا لانه حق العبد وهو ولى القصاص ولهذا سقط بالعفو والاعتياض فحد الزنى لغير المحصن مائة جلدة ولعبد نصفها وحد شرب الخمر ثمانون سوطا للحر واربعون للعبد مفرقا على بدنه كما فى حد الزنى وحد القذف كحد الشرب فمن قذف محصنا او محصنة بصريح الزنى حد بطلب المقذوف المحصن لان فيه حق العبد من حيث دفع العار عنه وكذا طلب المسروق منه شرط القطع فى السرقة فهذه حدود لا يجرى فيها الشفاعة اذ الحق علم القاضى بالواقعة ولهذا قال فى ترجمة وصايا الفتوحات المكية [ ونزيدك حاكم در حدود الله شفاعت مكن از ابن عباس رضى الله عنهما در خواست كردند در اب دزدى شفاعت كند ابن عباس رضى الله عنهما كفت هركه شفاعت كند وهركه قبول كند هردودر لعنت اندر اكرييش آزانكه بحاكم معلوم نشود ميكفتيد مى شد ] انتهى ولما كانت الشفاعة فى القصاص غير الشفاعة فى الحدود قال صلى الله عليه وسلم « ما من صدقة افضل من صدقة اللسان » قيل وكيف ذلك قال « الشفاعة يحقن بها الدم ويجر بها المنفعة الى آخر ويدفع بها المكروه عن آخر » ذكره الامام الغزالى رحمه الله
وافصح الحديث عن ان الشفاعة هى التوسط بالقول فى وصول شخص الى منفعة من المنافع الدنيوية او الاخروية وخلاصه من مضرة ما كذلك واذا كانت فى امر غير مشروع ولا تكون صدقة بل سيئة
وذكر فى ترجمة الوصايا ايضا [ جون براى كسى شفاعت كنى وكار اوساخته شود زنهار هدية او قبول مكن كه رسول الله صلى الله عليه وسلم انرا جمله ربا نهاده است شيخ اكبر قدس سره الاطهر فرمودكه دربعض بلاد عرب يكى ازاعيان مرابخانه خود دعوت كرد وترتيبى كرده بود وكرامتى مهيا داشته جون طعام احضار كردند اورا بسلطان بلند حاجتى بود ازمن طلب شفاعت كرد وسخن من نزد سلطان درغايت قبول بود شيخ فرمود كه اورا كفتم نعم وبر خاستم وطعام نخوردم وهدايا قبول نكردم وحاجت اوييش سلطان كزاردم واملاك وى بوى باز كشت ومرا هنوز حديث نبوى وقوف نبود ولكن مروءت من جنين تقاضا كرد واستنكاف كردم كه كسى را بمن حاجتى باشد وازوى بمن نفعى عائد شود ودر حقيقت آن عنايت وعصمت حق بود ] انتهى(3/37)
وبالجملة ينبغى للمؤمن ان يشفع للجانى الى المجنّى عليه بل ومن حقوق الاسلام ان يشفع لكل من له حاجة من المسلمين الى من له عنده منزلة ويسعى فى قضاء حاجته بما يقدر عليه : قال السعدى قدس سره
كر ازحق نه توفيق خيرى رسد ... كى ازبنده خيرى بغيرى رسد
اميداست از آنانكه طاعت كنند ... كه بى طاعتا نرا شفاعت كنند
ومن الشفاعة الحسنة الدعاء للمسلم فانه شفاعة الى الله تعالى وعن النبى عليه السلام « من دعا لاخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك » وهذا بيان لمقدار النصيب الموعودة والدعوة على المسلم بضد ذلك وانما يستجاب الدعاء بظهر الغيب لعبده عن شائبة الطمع والرياء بخلاف دعاء الحاضر لانه قلما يسلم من ذلك فالغائب لا يدعو للغائب الا لله خالصا فيكون مقبولا والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى الصلاة وغيرها دعاء من العبد المصلى لمحمد صلى الله عليه وسلم عن ظهر الغيب فشرع ذلك رسول الله وامر الله به فى قوله تعالى { ان الله وملائكته يصلون على النبى يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ليعود هذا الخير من الملك على المصلى ولهذا جوز الحنفية قراءة الفاتحة لروحه المطهر عليه السلام ومنعها الشافعية لان الدعاء بالترحم يوهم التقصير ولذا لا يقال عند ذكر الانبياء رحمة الله عليهم بل عليهم السلام والجواب ان نفع القراءة يعود على القارىء فأى ضرر فى ذلك { وكان الله على كل شىء مقيتا } اى مقتدرا مجازيا بالحسنة والسيئة من اقات على الشىء اذا اقتدر عليه او شهيدا حفيظا
قال الامام الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى معنى المقيت خالق الاقوات وموصلها الى الابدان وهى الاطعمة والى القلوب وهى المعرفة فيكون بمعنى الرازق الا انه اخص منه اذ الرزق يتناول القوت وغير القوت والقوت ما يكتفى به فى قوام البدن او يكون معناه المستولى على الشىء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم وعليه يدل قوله تعالى { وكان الله على كل شىء مقيتا } اى مطلعا قادرا فيكون معناه راجعا الى العلم والقدرة فوصفه بالمقيت اتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده لانه دال على اجتماع المعنيين وبذلك يخرج هذا الاسم من الترادف(3/38)
والاشارة فى الآية { من يشفع شفاعة حسنة } لايصال نوع من الخيرات الى الغير { يكن له نصيب منها } فانها من خصوصيتها ان يكون له نصيب منها اى له نصيب من هذه الحسنة فمن تلك الخصوصية قد يشفع شفاعة حسنة { ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له } اى فى جبلته { كفل منها } يعنى من تلك السيئة التى هى ايصال نوع من الشر فيها قد يشفع شفاعة سيئة كما قال تعالى { والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذى خبث لا يخرج الا نكدا } { وكان الله } فى الازل { على كل شىء مقيتا } شهيدا فى ايجاد المحسن والمسيىء مقتدرا عليما حفيظا يعطيهما استعداد شفاعة حسنة وسيئة لا يقدران اليوم على تبديل استعدادهما لقابلية الخير والشر فافهم جدا : قال الحافظ قدس سره
نقش مستورى ومستى نه بدست من وتست ... آنجه استاد ازل كفت بكن آن كردم
وقال السعدى قدس سره
كرت صورت حال بد يانكوست ... نكاريده دست تقدير اوست(3/39)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
{ واذا حييتم بتحية } التحية مصدر من حيى كالتسمية من سمى اصلها تحيية كتفعلة واصل الاصل تحييى بثلاث ياآت فحذفت الخيرة وعوض عنها تاء التأنيث وادغمت الاولى فى الثانية بعد نقل حركتها الى الحاء واصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت فى كل دعاء لان الدعاء بالخير لا يخلو شىء منه عن الدعاء بنفس الحياة او بما هو السبب المؤدى الى قوتها وكمالها او بما هو الغاية المطلوبة منها وكانت العرب اذا لقى بعضهم بعضا يقول حياك الله اى جعل الله لك حياة واطال حياتك ويقول بعضهم عش الف سنة . ثم استعملها الشرع فى السلام وهى تحية الاسلام قال تعالى { فسلموا على انفسكم تحية من عند الله } قيل تحية النصارى وضع اليد على الفم وتحية اليهود الاشارة بالاصابع وتحية المجوس الانحناء . وفى السلام مزية على تحية العرب وهى حياك الله لما انه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية فانه اذا قال الانسان لغيره السلام عليك فقد دعا فى حقه بالسلامة منها ويتضمن الوعد بسلامة ذلك الغير وامانه منه كأنه قال انت سليم منى فاجعلنى سليما منك والسلامة مستلزمة لطول الحياة وليس فى الدعاء بطول الحياة ذلك ولان السلام من اسمائه تعالى فالبداية بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته ومعنى الآية اذا سلم عليكم من جهة المؤمنين { فحيوا بأحسن منها } اى بتحية احسن منها بان تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله ان اقتصر المسلم على الاول وبان تزيدوا وبركاته ان جمعها المسلم وهو ان يقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته منتهى الامر فى السلام لكونه مستجمعا لجميع فنون المطالب التى هى السلامة من المضار ونيل المنافع ودوامها ونمائها ولهذا اقتصر على هذا القدر فى التشهد روى عنه عليه السلام انه قال « من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات ومن قال السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة ومن قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة » والمبتدىء بالسلام ان شاء يقول السلام عليكم وان شاء يقول سلام عليكم لان كل واحد من التعريف والتنكير وارد فى الفاظ القرآن قال الله تعالى { والسلام على من اتبع الهدى } { وسلام على عباده الذين اصطفى } لكن التنكير اكثر والكل جائز . واما التحليل من الصلاة فلا بد فيه من الالف واللام بالاتفاق ومعنى الجمع فى السلام عليكم الخطاب الى الرجل والملكين الحافظين معه فانهما يردان السلام ومن سلم عليه الملك فقد سلم من عذاب الله تعالى { او ردوها } اى ردوا مثلها واجيبوا به لان رد عينها محال فحذف المضاف نحو { واسأل القرية } قال فى الكشاف رد السلام ورجعه جوابه بمثله لان المجيب يرد قول المسلم ويكرر وروى ان رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك فقال(3/40)
« وعليك السلام ورحمة الله » وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله فقال « وعليك السلام ورحمة الله وبركاته » وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال « وعليك » فقال الرجل نقصتنى فأين ما قال الله وتلا الآية اى أين رد الاحسن المذكور فى الآية فقال عليه السلام « انك لم تترك لى فضلا فرددت عليك مثله » فيكون قوله عليه السلام وعليك اى وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من قبيل رد المثل وجواب التسليم واجب وانما التخيير بين الزيادة وتركها
قال ابو يوسف من قال لآخر اقرىء فلانا منى السلام وجب عليه ان يفعل واذا ورد سلام فى كتاب فجوابه واجب بالكتاب للآية { ان الله كان على كل شىء حسيبا } الحسيب بمعنى المحاسب على العمل كالجليس بمعنى المجالس اى انه تعالى كان على كل شىء من اعمالكم سيما رد السلام بمثله او باحسن منه محاسبا مجازيا فحافظوا على مراعاة التحية حسبما امرتم به
فالجمهور على ان الآية فى السلام فالسنة ان يسلم الراكب على الماشى وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والقليل على الكثير ويسلم على الصبيان وهو افضل من تركه
قال فى البستان وبه نأخذ ويسلم على اهل بيته حين يدخله فان دخل بيتا ليس فيه احد فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فان الملائكة ترد عليه السلام ويسلم على القوم حين يدخل عليهم وحين يفارقهم ايضا فمن فعل ذلك شاركهم فى كل خير عملوه بعده
قال القرطبى ولا يسلم على النساء الشابات الاجانب خوف الفتنة من مكالمتهن بنزغة شيطان او خائنة عين . واما السلام على المحارم والعجائز فحسن ويسلم على اهل الاسلام من عرف منهم ومن لم يعرف . ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج والمغنى والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعارى فى الحمام وغيره
قال ابن الشيخ فى حواشيه ومن دخل الحمام ورأى الناس متزرين يسلم عليهم وان لم يكونوا متزرين لا يسلم عليهم لانه لا يسلم على المشتغل بمعصية انتهى لكن قال الام الغزالى فى الاحياء لا يسلم عند الدخول اى فى الحمام وان سلم عليه لم يجب بلفظ السلام بل يسكت ان اجاب غيره وان احب ان يجيب قال عافاك الله ولا بأس ان يفتتح الداخل ويقول عافاك الله لابتداء الكلام انتهى ولا يرد القاضى اذا سلم عليه الخصمان وكذا لا يسلم القاضى على الخصوم اذا جلس للحكم لتبقى الهيبة وتكثر الحشة وبهذا جرى الرسم بان الولاة والامراء لا بأس بان لا يسلموا اذا دخلوا فالمحتسب لا يسلم على اهل السوق فى طوافه للحسبة ليبقى على الهيبة
وقال بعضهم لا يسع القاضى والوالى والامير ترك السلام اذا دخلوا لانه سنة فلا يسعهم ترك السنة بسبب تقلد العمل وكذا المتصدق اذا سلم عليه السائل او ان سؤاله لا يرد وكذا من له ورد من القرآن والدعوات فسلم عليه احد فى حال ورده لا يرد وكذا اذا جلس فى المسجد للتسبيح او للقراءة او لانتظار الصلاة واذا دخل الزائر فى المسجد فسلم عليه احد من الداخلين فى المسجد يجوز واذا لم يكن فى المسجد يجوز واذا لم يكن فى المسجد احد الا من يصلى ينبغى ان يقول الداخل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ولا يسلم فانه تكليف جواب فى غير محله حتى لا يرده قبل الفراغ وبعده وهو الصحيح .(3/41)
ولا يبادر بالسلام على الذمى الا لضرورة او حاجة له عنده ولا بأس بالدعاء للكافر والذمى بما يصلحه فى دنياه
قال ابن الملك الدعاء لاهل الكتاب بمقابلة احسانهم غير ممنوع لما روى ان يهوديا حلب للنبى عليه السلام لقحة فقال عليه السلام « اللهم جمله » فبقى سواد شعره الى قريب من سبعين سنة
قال النووى الصواب ان ابتداء اهل الكتاب بالسلام حرام لانه اعزاز ولا يجوز اعزاز الكفار
وقال الطيبى المختار ان المبتدع لا يبدأ بالسلام ولو سلم على من لا يعرفه فظهر ذميا او مبدعا يقول استرجعت سلامى تحقيرا له . واما الاكل مع الكافر فان كان مرة او مرتين لتأليف قلبه على الاسلام فلا بأس فانه صلى الله عليه وسلم اكل مع كافر مرة فحملناه على انه كان لتأليف قلبه على الاسلام ولكن تكره المداومة عليه كما فى نصاب الاحتساب . وفيه ايضا هل يحتسب على المسلم اذا شارك ذميا الجواب نعم اما فى المفاوضة فلأنها غير جائزة بين المسلم والذمى فكان الاحتساب عليه لدفع التصرف الفاسد . واما فى العنان فلأنها مكروهة بين المسلم والذمى من شرح الطحاوى فكان الاحتساب لدفع المكروه واذا سلم الذمى فقل عليك بلا واو وهو الرواية من الثقات او عليك مثله
قال فى الكشف ولا يقال لاهل الذمة وعليكم بالواو لانها للجمع وقال عليه السلام « اذا سلم عليكم احد من اليهود فانما يقول السام عليكم فقل عليك » اى عليك مثله روى انه عليه السلام اتاه ناس من اليهود فقالوا السام عليكم يا ابا القاسم فقال « عليكم » فقالت عائشة بل عليكم السام والزام فقال عليه السلام « يا عائشة ان الله لا يحب الفحش والتفحش » قالت فقلت اما سمعت ما قالوا قال « أو ليس قد رددت عليهم فيستجاب لى فيهم ولا يستجاب لهم فى » والسنة الجهر فى السلام لقوله عليه السلام « افشوا السلام » وعن ابى حنيفة رحمة الله عليه لا يجهر بالرد يعنى الجهر الكثير وحكى ان سياحا دخل على عالم فسلم عليه فرد عليه السلام وخافت ثم دخل عليه غنى فسلم فرد عليه الجواب وجهر فصاح السياح وقال رحمك الله ما تقول فى السلام أعلى نوعين ام على ثلاثة انواع فقال لا بل على نوع واحد فقال ايد الله الفقيه ارى السلام ههنا على نوعين فتحير الفقيه وخجل فى نفسه فقال ايد الله الفقيه اسألك مسألة ما تقول فيمن حلف لا يدخل الدار التى بنيت بغير سنة فدخل دارك هذه أيحنث ام لا فسكت الفقيه فلم يجبه فقال تلاميذ الفقيه للسياح اخرج فانك شغلتنا فقال ايها الشبان ما مثله ومثلكم الا كمثل ضال ضل طريقه فجعل يسترشد من ضال مثله ارشده ام لا فهذا استاذكم ضل طريق الآخرة وانتم جئتم تطلبون منه ان يرشدكم فأنى يرشدكم ثم خرج كذا فى روضة العلماء : قال الصائب(3/42)
زبى دردان علاج درد خود جستن بان ماند ... كه خار ازبا برون آردكسى بانيش عقربها
الى هنا كلام الاحياء فاذا بلغ المقابر ومر بها قال وعليكم السلام اهل الديار من المسلمين والمؤمنين رحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين منا انتم لنا سلف ونحن لكم تبع وانا ان شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وفى الحديث « ما من عبد يمر بقبر رجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه الا عرفه ورد عليه السلام » قال ابن السيد على فى شرح الشرعة وعل المراد انه يرد السلام بلسان الحال لا بلسان المقال يؤيده فى بعض الاخبار من انهم يتأسفون على انقطاع الاعمال عنهم حتى يتحسرون على رد السلام وثوابه انتهى
قال الامام السيوطى رحمه الله الاحاديث والآثار تدل على ان الزائر متى جاء علم به المزور وسمع كلامه وأنس به ورد عليه وهذا عام فى حق الشهداء وغيرهم وانه لا توقيت فى ذلك وهو الاصح لان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع لامته ان يسلموا على اهل القبور سلام من يخاطبون من يسمع ويعقل
قال ارباب الحقيقة للروح اتصال بالبدن بحيث يصلى فى قبره ويرد على المسلم عليه وهو فى الرفيق الاعلى ومقره فى عليين ولا تنافى بين الامرين فان شأن الارواح غير شأن الابدان وانما يأتى الغلط هنا من قياس الغائب على الشاهد فيعتقد ان الروح مما يعهد من الاجسام التى اذا شغلت مكانا لم يمكن ان تكون فى غيره
وقد مثل بعضهم بالشمس فى السماء وشعاعها فى الارض كالروح المحمدى يرد على من يصلى عليه عند قبره دائما مع القطع بان روحه فى اعلى عليين وهو لا ينفك عن قبره كما قال عليه السلام « ما من مسلم يسلم على الا رد الله علىّ روحى حتى ارد عليه السلام »(3/43)
فان قلت هل يلزم تعدد الحياة من تلك وكيف يكون ذلك
قلت يؤخذ من هذا الحديث ان النبى صلى الله عليه وسلم حى على الدوام فى البرزخ الدنيوى لانه محال عادة ان يخلوا الوجود كله من واحد يسلم على النبى عليه السلام فى ليل او نهار فقوله صلى الله عليه وسلم « رد الله على روحى » اى ابقى الحق فى شعور حياتى الحسى فى البرزخ وادراك حواسى من السمع والنطق فلا ينفك الحس والشعور الكلى عن الروح المحمدى الكلى ليس له غيبة عن الحواس والاكوان لانه روح العالم الكلى وسره السارى : قال العطار قدس سره فى نعت النبى المختار
خواجه كزهرجه كويم بيش بود ... درهمه جيزى همه دربيش بود
وصف اودر كفت جون آيدمرا ... جون عرق ازشرم خون آيدمرا
او فصيح عالم ومن لال او ... كى توانم داد شرح حال او
وصف اوكى لائق اين ناكسست ... واصف او خالق عالم بسست
انبيا از وصف توحيران شده ... سرشناسان نيز سركردان شده
والاشارة فى الآية { واذا حييتم بتحية } من الخير والشر { فحيوا باحسن منها } اما الخير فبخير احسن منه واما الشر فبحلم وعفو او مكافاة بالخير { او ردوها } يعنى كافئوا المحسن بمثل احسانه والمسيىء بمثل اساءته يدل عليه قوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال { وان تعفوا اقرب للتقوى } وقد ورد عن النبى عليه السلام عن جبريل عن الله تعالى فى تفسير قوله { خذ العفو وائمر بالعرف واعرض عن الجاهلين } وقال النبى عليه السلام « تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطى من حرمك » { ان الله كان على كل شىء } من العفو والاحسان { حسيبا } محاسبا فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره كذا فى التأويلات النجمية(3/44)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{ الله } مبتدأ وخبره قوله { لا اله الا هو } اى لا اله فى الارض ولا فى السماء غيره { ليجمعنكم } جواب قسم محذوف اى والله ليحشرنكم من قبوركم { الى } حساب { يوم القيمة } والقيامة بمعنى القيام والتاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول { لا ريب فيه } حال من اليوم اى حال كون ذلك اليوم لا شك فيه انه كائن لا محالة او صفة مصدر محذوف اى جمعا لا ريب فيه فضمير فيه يرجع الى الجمع { ومن اصدق من الله حديثا } انكار لان يكون احدا اكثر صدقا منه فانه لا يتطرق الكذب الى خبره بوجه لانه نقص وهو على الله محال دون غيره وفى الحديث « كذبنى ابن آدم » اى نسبنى الى الكذب « ولم يكن له ذلك » يعنى لم يكن التكذيب لائقا به بل كان خطأ « وشتمنى » الشتم وصف الغير بما فيه نقص وازراء « ولم يكن له ذلك فاما تكذيبه اياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى » يعنى لن يحيينى الله تعالى بعد موتى « وليس اول الخلق باهون على من اعادته » بل اعادته اسهل لوجود اصل البنية وهذا مذكور على طريق التمثيل لان الاعادة بالنسبة الى قوانا ايسر من الانشاء واما بالنسبة الى قدرة الله تعالى فلا سهولة له فى شىء ولا صعوبة « واما شتمه اياى فقوله اتخذ ولدا » وانما صار هذا شتما لان التولد هو انفصال الجزء من الكل بحيث ينمو وهذا انما يكون فى المركب وكل مركب محتاج « وانا الاحد » اى المنفرد بصفات الكمال من البقاء والتنزه وغيرهما « الصمد » بمعنى المصمود يعنى المقصود اليه فى كل الحوائج « الذى لم يلد » هذا نفى للتشبيه والمجانسة « ولم يولد » هذا وصف بالقدم والاولية « ولم يكن له كفوا احد » هذا تقرير لما قبله كذا فى شرح المشارق لابن الملك
واعلم ان القيامة ثلاث . الصغرى وهى موت كل احد قال النبى عليه السلام « من مات فقد قامت قيامته » والوسطى وهى موت جميع الخلائق بالنفخة الاولى . والكبرى وهى حشر الاجساد والسوق الى المحشر للجزاء بالنفخة الثانية : وفى المثنوى
سازد اسرافيل روزى ناله را ... جان دهد بوسيده صدساله را
هين كه اسرافيل وقتند اوليا ... مرده را زيشان حياتست ونما
وانما تحصل الحياة الباقية بعد الفناء عن النفس واوصافها وطريقه ذكر الله تعالى بالاخلاص فاذا تجلى معنى لفظ الجلالة الذى هو الاسم الاعظم يضمحل العالم والوجود ويحصل الاستغراق فى بحر التوحيد فاذا استغرق فيه يغيب عنه ما سوى الله تعالى كما ان الانسان اذا استغرق فى الماء لا يرى الغير اصلا
قال الشيخ ابو يزيد البسطامى ومن قال الله وقلبه غافل عن الله فخصمه الله وحكى ان بعض الصلحاء دخل ليلة بقبوليجة فى بلدة بروسة فرأى انه قد وضع سرير على الحوض وعليه بنت سلطان الجن ومعها جماعة كثيرة من هذه الطائفة فسألهم عن اصل ماء قبوليجة فارسلت ببعض جماعتها الى اصله فرأى انه ماء بارد فقال كيف يكون هذا اصله وهو حار فقالوا جماعتنا يذكرون فى رأس هذا الماء فى كل اسبوع الاسم الله والاسم هو فبحرارته يسخن الماء فتأثير الذكر غير منكر خصوصا من لسان ارباب التزكية والتصفية : وفى المثنوى(3/45)
ذكر حق كن بانك غولانرابسوز ... جشم نركس را ازين كركس بدوز
والاشارة فى الآية { الله لا اله الا هو } يعنى كان الله فى الازل لا اله اى لم يكن معه احد يوجد الخلق من العدم الا هو { ليجمعنكم } فى العدم مرة اخرى { الى يوم القيمة } فيفرقكم فيها فريق فى الجنة وفريق فى السعير وفريق فى مقعد صدق عند مليك مقتدر { لا ريب فيه } اى لا شك فى الرجوع الى هذه المنازل والمقامات { ومن اصدق من الله حديثا } ليحدثكم بمصالح دينكم ودنياكم ومفاسد اخراكم واولاكم ويهديكم الى الهدى وينجيكم من الردى كذا فى التأويلات النجمية(3/46)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
{ فما لكم } ايها المؤمنون والمراد بعضهم . قوله ما مبتدأ ولكم خبره والاستفهام للانكار والنفى { فى المنافقين } متعلق بما تعلق به الخبر اى أى شىء كائن لكم فيهم اى فى امرهم وشأنهم { فئتين } اى فرقتين وهو حال من الضمير المجرور فى لكم والمراد انكار ان يكون للمخاطبين شىء مصحح لاختلافهم فى امر المنافقين وبيان وجوب بت القول بكفرهم واجرائهم مجرى المجاهرين بالكفر فى جميع الاحكام وذلك ان ناسا من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخروج الى البدر لاجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة حتى لحقوا بالمشركين بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم هم كفار وقال بعضهم هم مسلمون فانزل الله تعالى الآية { والله اركسهم } حال من المنافقين اى والحال انه تعالى ردهم الى الكفر واحكامه من الذل والصغار والسبى والقتل . والاركاس الرد والرجع يقال ركست الشىء واركسته لغتان اذا رددته وقلبت آخره على اوله { بما كسبوا } اى بسبب ما كسبوا من الارتداد واللحوق بالمشركين والاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم { أتريدون } ايها المخلصون القائلون بايمانهم { ان تهدوا من اضل الله } اى تجعلوه من المهتدين ففيه توبيخ لهم على زعمهم ذلك واشعار بانه يؤدى الى المحال الذى هو هداية من اضل الله تعالى وذلك لان الحكم بايمانهم وادعاء اهتدائهم وهم بمعزل من ذلك سعى فى هدايتهم وارادة لها { ومن يضلل الله } اى ومن يخلق فيه الضلال كائنا من كان { فلن تجد له سبيلا } من السبل فضلا عن ان تهديه اليه وتوجيه الخطاب الى كل واحد من المخاطبين للاشعار بشمول عدم الوجدان للكل على طريق التفصيل والجملة حال من فاعل تريدون او تهدوا والرابط هو الواو(3/47)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
{ ودوا لو تكفرون } بيان لغلوهم وتماديهم فى الكفر وتصديهم لاضلال غيرهم اثر بيان كفرهم وضلالهم فى انفسهم وكلمة لو مصدرية فلا جواب لها اى تمنوا عن تكفروا { كما كفروا } نصب على انه نعت لمصدر محذوف اى كفرا مثل كفرهم فما مصدرية { فتكونون سواء } عطف على تكفرون والتقدير ودوا كفركم وكونكم مستوين معهم فى الضلال . وفيه اشارة الى ان من ود الكفر لغيره كان ذلك من امارات الكفر فى باطنه وان كان يظهر الاسلام لانه يريد تسوية الاعتقاد فيما بينهما وهذا من خاصية الانسان يحب ان يكون كل الناس على مذهبه واعتقاده ودينه وقال صلى الله عليه وسلم « الرضى بالكفر كفر » { فلا تتخذوا منهم اولياء } اى اذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا توالوهم { حتى يهاجروا فى سبيل الله } اى حتى يؤمنوا ويحققوا ايمانهم بهجرة كائنة لله تعالى ورسوله عليه السلام لا لغرض من اغراض الدنيا وسبيل الله ما امر بسلوكه { فان تولوا } اى عن الايمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة { فخذوهم } اذا قدرتم عليهم { واقتلوهم حيث وجدتموهم } من الحل والحرم فان حكمهم حكم سائر المشركين اسرا وقتلا { ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } اى جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة ابدا
والاشارة فى الآية الى ارباب الطلب السائرين الى الله تعالى فانهم نهوا عن اتخاذ اهل الدنيا احباء وعن مخالطتهم حتى يهاجروا عما هم فيه من الحرص والشهوة وحب الدنيا ويوافقهم فى طلب الحق وامروا بان يعظوهم بالوعظ البليغ ويقتلوهم اى انفسهم وصفاتها الغالبة كلما رأوهم(3/48)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{ الا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق } استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم اى الا الذين يتصلون وينتهون الى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الاسلميون فانه عليه السلام وادع وقت خروجه الى مكة هلال بن عويمر الاسلمى على ان لا يعينه ولا يعين عليه وعلى ان من وصل الى هلال ولجأ اليه فله من الجوار مثل الذى لهلال { او جاؤكم } عطف على الصلة اى والذين جاؤكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المأمور باخذهم وقتلهم فريقان احدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من اتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين { حصرت صدورهم } حال باضمار قد اى وقد ضاقت صدورهم فان الحصر بفتحتين الضيق والانقباض { ان يقاتلوكم } اى ضاقت عن ان يقاتلوكم مع قومهم { او يقاتلوا قومهم } معكم والمراد بالجائين الذين حصرت صدورهم عن المقاتلة بنوا مدلج وهم كانوا عاهدوا ان لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا ان لا يقاتلوهم فضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذى بينكم ولانه تعالى قذف الرعب فى قلوبهم وضاقت صدورهم عن قتال قومهم لكونهم على دينهم نهى الله تعالى عن قتل هؤلاء المرتدين اذا اتصلوا باهل عهد للمؤمنين لان من انضم الى قوم ذوى عهد فله حكمهم فى حقن الدم { ولو شاء الله لسلطهم } اى بنى مدلج { عليكم } بان قوى قلوبهم وبسط صدروهم وازال الرعب عنهم
قال فى الكشاف فان قلت كيف يجوز ان يسلط الله الكفرة على المؤمنين قلت ما كانت مكافتهم الا لقذف الله الرعب فى قلوبهم ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين فذلك معنى التسليط { فلقاتلوكم } عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جواب لو على التكرير { فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } اى فان لم يتعرضوا لكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى { والقوا اليكم السلم } اى الانقياد والاستسلام { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } اى طريقا بالاسرار او بالقتل فان مكافتهم عن قتالكم وان لم يقاتلوا قومهم ايضا والقاءهم اليكم السلم وان لم يعاهدوكم كافية فى استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم
قال بعضهم الآية منسوخة بآية القتال والسيف وهى قوله تعالى { اقتلوا المشركين } وقال آخرون انها غير منسوخة وقال اذا حملنا الآية على المعاهدين فكيف يمكن ان يقال انها منسوخة
قال الحدادى فى تفسيره لا يجوز مهادنة الكفار وترك احد منهم على الكفر من غير جزية اذا كان بالمسلمين قوة على القتال واما اذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على انفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها اليهم لان حظر الموادعة كان بسبب القوة فاذا زال السبب زال الحظر(3/49)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{ ستجدون } قوما { آخرين يريدون ان يأمنوكم } اى يظهرون لكم الصلح يريدون ان يأمنوا منكم بكلمة التوحيد يظهرونها لكم { ويأمنوا قومهم } اى من قومهم بالكفر فى السر وهم قوم من اسد وغطفان اذا اتوا المدينة اسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فاذا رجعوا الى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم { كلما ردوا الى الفتنة } دعوا من جهة قومهم الى قتال المسلمين { اركسوا فيها } عادوا اليها وقلبوا فيها اقبح قلب واشنعه وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير { فان لم يعتزلوكم } بالكف عن التعرض لكم بوجه ما { ويلقوا اليكم السلم } اى لم يلقوا اليكم الصلح والعهد بل نبذوه اليكم { ويكفوا ايديهم } اى لم يكفوها عن قتالكم { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } اى تمكنتم منهم { واولئكم } الموصوفون بما عد من الصفات القبيحة { جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } اى حجة واضحة فى التعرض لهم بالقتل والسبى لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم فى الكفر وغدرهم واضرارهم باهل الاسلام
والاشارة فى الية الاولى ان الاختلاف واقع بين الامة فى ان خذلان المنافقين هل هو امر من عند انفسهم او امر من عند الله وقضائه وقدره فبين الله بقوله { فما لكم فى المنافقين فئتين } اى صرتم فرقتين فرقة يقولون الخذلان فى النفاق منهم وفرقة يقولون من الله وقضائه وقدره { والله اركسهم بما كسبوا } يعنى ان الله اركسهم بقدره وردهم بقضائه الى الخذلان بالنفاق ولكن بواسطة كسبهم ما ينبت النفاق فى قلوبهم ليهلك من هلك عن بينة ولهذا مثال وهو ان القدر كتقدير النقاش الصورة فى ذهنه والقضاء كرسمه تلك الصورة لتلميذه بالاسرب ووضع التلميذ الاصباغ عليها متبعا لرسم الاستاذ كالكسب والاختيار فالتلميذ فى اختياره لا يخرج عن رسم الاستاذ وكذلك العبد فى اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر ولكنه متردد بينهما ومما يؤكد هذا المثال والتأويل قوله تعالى { قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم } وقال { واصبر وما صبرك الا بالله } وذلك مثل ما ينسب الفعل الى السبب الاقرب تارة والى السبب الابعد اخرى فالاقرب كقولهم قطع السيف يد فلان والابعد كقولهم قطع المير يد فلان ونظيره قوله تعالى { قل يتوفاكم ملك الموت } فى موضع { الله يتوفى الانفس حين موتها } قال ابن نباتة
اذا ما الآله قضى امره فانت لما قد قضاه السبب
فعلى هذه القضية من زعم ان لا عمل للعبد اصلا فقد عاند وجحد ومن زعم انه مستبد بالعمل فقد اشرك فاختيار العبد بين الجبر والقدر لان اول الفعل وآخره الى الله فالعبد بين طرفى الاضطرار مضطر الى الاختيار فافهم جدا كذا فى التأويلات النجمية
واعلم ان الجبرية ذهبت الى انه لا فعل للعبد اصلا ولا اختيار وحركته بمنزلة حركة الجمادات والقدرية الى ان العبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصى بتقدير الله تعالى مذهب اهل السنة والجماعة الجبر المتوسط وهو اثبات الكسب للعبد واثبات الخلق الله تعالى واما مشاهدة الآثار فى الافعال من لله تعالى كما عليه اهل المكاشفة فذلك ليس من قبيل الجبر : قال فى المثنوى
كر بيرانيم تير آن نى زماست ... ما كمان وتير اندازش خداست
اين نه جبراين معنىء جباريست ... ذكر جبارى براى زاريست
زارىء ماشد دليل اضطرار ... خجلت ماشد دليل اختيار(3/50)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{ وما كان لمؤمن } اى وما صح له ولا لاق بحاله { ان يقتل مؤمنا } بغير حق فان الايمان زاجر عن ذلك { الا خطأ } اى ليس من شأنه ذلك فى حال من الاحوال الا حال الخطأ فانه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية فالمؤمن مجبول على ان يكون محلا لان يعرض له الخطأ كثيرا والخطأ ما لا يقارنه القصد الى الفعل او الى الشخص او لا يقصد به زهوق الروح غالبا او لا يقصد به محظور كرمى مسلم فى صف الكفار مع الجهل باسلامة روى ان عياش بن ابى ربيعة وكان اخا ابى جهل لامه اسلم وهاجبر الى المدينة خوفا من اهله وذلك قبل هجرة النبى عليه السلام فاقسمت امه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع فخرج ابو جهل ومعه الحارث بن زيد بن ابى انيسة فاتياه وهو فى اطم اى جبل ففتل منه ابو جهل فى الذروة والغارب وقال أليس محمد يحثك على صلة الرحم انصرف وبرّ امك ولك علينا ان لا نكرهك على شىء ولا نحول بينك وبين دينك حتى نزل وذهب معهما فلما بعدا من المدينة شدا يديه الى خلف بحبل وجلده كل واحد منهما مائة جلدة فقال للحارث هذا اخى فمن انت يا حارث لله على ان وجدتك خاليا ان اقتلك وقدما به على امه فحلفت لا يحل وثاقة حتى يرجع عن دينه ففعل بلسانه مطمئنا قلبه على الايمان ثم هاجر بعد ذلك واسلم الحارث وهاجر فلقيه عياش لظهر قبا فانحنى عليه فقتله ثم اخبر باسلامه فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قتلته ولم اشعر باسلامه فنزلت { ومن قتل مؤمنا خطأ } صغيرا كان او كبيرا { فتحرير رقبة } اى فعليه اعتاق نسمة عبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس { مؤمنة } محكوم باسلامها سواء تحققت فيها فروع الايمان وثمراته بان صلت وصامت او لم يتحقق فدخل فيها الصغير والكبير والذكر والانثى وهذا التحرير هو الكفارة وهى حق الله تعالى الواجب على من قتل مؤمنا مواظبا على عبادة الله تعالى والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله تعالى فاذا اعتقه فقد اقامه مقام ذلك المقتول فى المواظبة على العبادات { ودية مسلمة الى اهله } اى مؤداة الى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث بعد قضاء الدين منها وتنفيذ الوصية واذا لم يبق وارث فهى لبيت المال لا المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال صلى الله عليه وسلم « انا وارث من لا وارث له » { الا ان يصدقوا } اى يتصدق اهله عليه سمى العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله وفى الحديث(3/51)
« كل معروف صدقة » وهو متعلق بعليه المقدر عند قوله { ودية مسلمة } او بمسلمة اى تجب الدية ويسلمها الى اهله الا وقت تصدقهم عليه لان الدية حق الورثة فيملكون اسقاطها بخلاف التحرير فانه حق الله تعالى فلا يسقط بعفو الاولياء واسقاطهم
واعلم ان الدية مصدر من ودى القاتل المقتول اذا اعطى وليه المال الذى هو بدل النفس وذلك المال يسمى الدية تسمية بالمصدر والتاء فى آخرها عوض عن الواو المحذوفة فى الاول كما فى العدة وهى اى الدية تسمية بالمصدر والتاء فى آخرها عوض عن الواو المحذوفة فى الاول كما فى العدة وهى اى الدية فى الخطأ من الذهب الف دينار ومن الفضة عشرة آلاف درهم وهى على العاقلة فى الخطأ وهم الاخوة وبنوا الاخوة والاعمام وبنوا الاعمام يسلمونها الى اولياء المقتول ويكون القاتل كواحد من العاقلة يعنى يعطى مقدار ما اعطاه واحد منهم لانه هو الفاعل فلا معنى لاخراجه ومؤاخذة غيره وسميت الدية عقلا لانها تعقل الدماء اى تمسكه من ان يسفك الدم لان الانسان يلاحظ وجود الدية بالقتل فيجتنب عن سفك الدم فان لم تكن له عاقلة كانت الدية فى بيت المال فى ثلاث سنين فان لم يكن ففى ماله { فان كان } اى المقتول { من قوم عدو لكم } كفار محاربين { وهو مؤمن } ولم يعلم به القاتل لكونه بين اظهر قومه بان اسلم فيما بينهم ولم يفارقهم بالهجرة الى دار الاسلام او بان اسلم بعدما فراقهم لمهم من المهمات { فتحرير رقبة مؤمنة } اى فعلى قاتله الكفارة دون الدية اذ لا وراثة بينه وبين اهله لكونهم كفارا ولانهم محاربون { وان كان } اى المقتول المؤمن { من قوم } كفرة { بينكم وبينهم ميثاق } اى عهد موقت او مؤبد { فدية } اى فعلى قاتله دية { مسلمة الى اهله } من اهل الاسلام ان وجدوا { وتحرير رقبة مؤمنة } كما هو حكم سائر المسلمين { فمن لم يجد } اى رقبة لتحريرها بان لم يملكها ولا ما يتوصل به اليها وهو ما يصلح ان يكون ثمنا للرقبة فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وسائر حوائجه الضرورية من المسكن وغيره { فصيام } اى فعليه صيام { شهرين متتابعين } وايجاب التتابع يدل على ان المكفر بالصوم لو افطر يوما فى خلال شهرين او نوى صوما آخر فعليه الاستئناف الا ان يكون الفطر بحيض او نفاس او نحوهما مما لا يمكن الاحتراز عنه فانه لا يقطع التتابع والاطعام غير مشروع فى هذه الكفارة بدليل الفاء الدالة على ان المذكور كل الواجب واثبات البدل بالرأى لا يجوز فلا بد من النص { توبة } كائنة { من الله } ونصبه على المفعول له اى شرع لكم ذلك توبة اى قبولا لها من تاب الله عليه اذا قبل توبته
فان قيل قتل الخطأ لا يكون معصية فما معنى التوبة
قلت ان فيه نوعا من التقصير لان الظاهر انه لو بالغ فى احتياط لما صدر عنه ذلك .(3/52)
فقوله توبة من الله تنبيه على انه كان مقصرا فى ترك الاحتياط { وكان الله عليما } بحاله اى بانه لم يقصد القتل ولم يتعمد فيه { حكيما } فيما امر فى شأنه
والاشارة فى قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } ان تربية النفس وتزكيتها ببذل المال وترك الدنيا مقدم على تربيتها بالجوع والعطش وسائر المجاهدات فان حب الدنيا رأس كل خطيئة وهى عقبة لا يقتحمها الا الفحول من الرجال كقوله تعالى { فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة فك رقبة } الآية . وان اول قدم السالك ان يخرج من الدنيا وما فيها . وثانية ان يخرج من النفس وصفاتها كما قال ( دع نفسك وتعال ) والامساك عن المشارب كلها من الدنيا والآخرة على الدوام انما هو بجذبة من الله تعالى واعطائه القابلية لذلك : كما قيل
دادحق را قابليت شرط نيست ... بلكه شرط قابليت دادحق
حكى ان اولاد هارون الرشيد كانوا كانوا زهادا لا يرغبون فى الدنيا والسلطنة فلما ولد له ولد قيل له ادخله فى بيت من زجاج يعيش فيه مع التنعم والترنم والاغانى حتى يليق للسلطنة فعل فلما كبر كان يوما يأكل اللحم فوقع عظم من يده فانكسر الزجاج فرأى السماء والعرض فسأل عنهما فاجابوا على ما هو فطلب منهم ان يخرجوه من البيت فلما خرج رأى ميتا وجاء اليه وتكلم له فلم يتكلم فسأل عنه فقالوا هو ميت لا يتكلم وقال وانا اكون كذلك قالوا كل نفس ذائقة الموت فتركهم وذهب الى الصحراء فذهبوا معه فاذا خمسة فوارس جاؤا اليه ومعهم فرس ليس عليه احد فاركبوه واخذوه وغابوا وليس كل قلب يصلح لمعرفة الرب كما ان كل بدن لا يصلح لخدمته ولهذا قال تعالى { وكان الله عليما } اى بمن يصلح للجذبة والخدمة
قال الصائب
درسر هرخام طينت نشته منصور نيست ... هرسفالى را صداى كاسه فغفور نيست
وهذا لا يكون بالدعوى فان المحك يميز الجيد والزيوف وعالم الحقيقة لا يسعه القيل والقال ألا يرى ان من كان سلطانا اعظم لا يرفع صوته بالتكلم لانه فى عالم المحو وكان امر سليمان عليه السلام لآصف بن برخيا باتيان عرش بلقيس مع انه فى مرتبة النبوة لذلك اى لما انه كان فى عالم الاستغراق فلم يرد التنزل وقوله عليه السلام « لى مع الله وقت لا يسعنى فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل » اشارة الى تلك المرتبة اللهم اجعلنا من الواصلين الى جناب قدسك والمتنعمين فى محاضر قولك وانسك(3/53)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
{ ومن يقتل مؤمنا } حال كون ذلك القاتل { متعمدا } فى قتله اى قاصدا غير مخطىء روى ان مقيس بن صبابة الكنانى كان قد اسلم هو واخوه هشام فوجد اخاه قتيلا فى بنى النجار فأتى رسول الله عليه السلام وذكر له القصة فارسل عليه السلام معه الزبير بن عياض الفهرى وكان من اصحاب بدر الى بنى النجار يأمرهم بتسليم القاتل الى مقيس ليقتص منه ان علموه وباداء الدية ان لم يعلموه فقالوا سمعا وطاعة لله تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدى ديته فاتوه بمائة من الابل فانصرفا راجعين الى المدينة حتى اذا كانا ببعض الطريق اتى الشيطان مقيسا فوسوس اليه فقال أتقبل دية اخيك فتكون مسبة عليك اى عارا اقتل هذا الفهرى الذى معك فتكون نفس مكان نفس وتبقى الدية فصلة فرماه بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا من الابل وساق بقيتها الى مكة كافرا وهو يقول
قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بنى النجار اصحاب قارع
وادركت ثارى واضطجعت موسدا ... وكنت الى الاوثان اول راجع
فنزلت الآية وهو الذى استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ممن آمنه فقتل وهو متعلق باستار الكعبة : ونعم ما قيل
هركه كند بخود كند ... كرهمه نيك وبد كند
{ فجزاؤه } الذى يستحقه بجنايته { جهنم } وقوله تعالى { خالدا فيها } حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه مقام الكلام فكأنه قيل فجزاؤه ان يدخل جهنم خالدا فيها { وغضب الله عليه } عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل بطريق الاستئناف تقريرا وتأكيدا لمضمونها حكم الله بان جزاءه ذلك وغضب عليه اى انتقم منه { ولعنه } اى ابعده عن الرحمة بجعل جزآئه ما ذكر { واعد له } فى جهنم { عذابا عظيما } لا يقادر قدره
واعلم ان العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب والكلام فى كفر من استحل دم المؤمن وخلوده فى النار حقيقة فاما المؤمن اذا قتل مؤمنا متعمدا غير مستحل لقتله فلا يكفر بذلك ولا يخرج من الايمان فان اقيد ممن قتله كذلك كان كفارة له وان كان تائبا من ذلك ولم يكن مقادا كانت التوبة ايضا كفارة له لان الكفر اعظم من هذا القتل فاذا قبلت توبة الكافر فتوبة هذا القاتل اولى بالقبول وان مات بلا توبة ولا قود فامره الى الله تعالى ان شاء غفر له وارضى خصمه وان شاء عذبه على فعله تم يخرجه بعد ذلك الى الجنة التى وعده بايمانه لان الله تعالى لا يخلف الميعاد فالمراد بالخلود فى حقه المكث الطويل لا الدوام مع ان هذا اخبار منه تعالى بان جزاءه ذلك لا بانه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال الله عز وجل(3/54)
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } ولو كان هذا اخبارا بانه تعالى يجزى كل سيئة مثلها لعارضه قوله تعالى { ويعفو عن كثير } وقد يقول الانسان لمن يزجره عن امر ان فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم ان لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا فهذا التشديد والتغليظ الذى هو سنة الله تعالى لا يتعلق بالقاتل التائب ولا بمن قتل عمدا بحق كما فى القصاص بل يتعلق بمن لم يتب وبمن قتل ظلما وعدوانا وفى الحديث « لزوال الدنيا اهون على الله من قتل امرىء مسلم » وفيه « لو ان رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لاشترك فى دمه » وفيه « من اعان على قتل مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى » وفيه « ان هذا الانسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه » وقد روى ان داود عليه السلام اراد بنيان بيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه تهدم فشكا الى الله تعالى فاوحى الله اليه ان بيتى هذا لا يقوم على يدى من سفك الدماء فقال داود يا رب ألم يك ذلك القتل فى سبيلك قال بلى ولكنهم أليسوا من عبادى فقال يا رب فاجعل بنيانه على يدى فاوحى الله اليه ان اومر ابنك سليمان يبينه والغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الانسانية وان اقامتها اولى من هدمها ألا ترى الى اعداء الدين انه قد فرض الله فى حقهم الجزية والصلح ابقاء عليهم
وعن ابى هريرة رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أتدرون من المفلس » قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال « ان المفلس من امتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتى قد شتم هذا وقذف هذا واكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه اخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار » وفى الحديث « اول ما يحاسب عليه العبد الصلاة واول ما يقضى بين الناس فى الدماء ثم يحاسب العبد ويقضى عليه فى حق زكاته وغيرها هل منعها او اداها » الى غير ذلك من الاحوال الجزئية
ثم اعلم ان المقتول اذا اقتص منه الولى فذلك جزاؤه فى الدنيا وفيما بين القاتل والمقتول الاحكام باقية فى الآخرة لان الولى وان قتله فانما اخذ حق نفسه للتشفى ودرء الغيظ فاما المقتول فلم يكن له فى القصاص منفعة كذا فى تفسير الحدادى ولا كفارة فى القتل العمد لقوله عليه السلام « خمس من الكبائر لا كفارة فيهن الاشراك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وقتل النفس عمدا واليمين الغموس »(3/55)
والولى مخير بين ثلاث فى القتل العمد القصاص والدية والعفو وذلك لان فى شرع موسى عليه السلام القصاص وهو القتل فقط وفى دين عيسى عليه السلام العقل او العفو فحسب وفى ملتنا للتشفى القصاص وللترفه الدية وللتكرم العفو وهو افضل : قال السعدى قدس سره
بدى رابدى سهل باشد جزا ... اكر مردى احسن الى من اسا
والاشارة فى الآية ان القلب مؤمن فى اصل الفطرة والنفس كافرة فى اصل الخلقة وبينهما عداوة جبلية وقتال اصلى وتضاد كلى فان فى حياة القلب موت النفس وفى حياة النفس موت القلب فلما كانت نفوس الكفار حية كانت قلوبهم ميتة فسماهم الله الموتى ولما كانت نفس الصديق ميتة وقلبه حيا قال النبى عليه السلام « من اراد ان ينظر الى ميت يمشى على وجه الارض فلينظر الى الصديق » فالاشارة فى قوله { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الى القلب والنفس يعنى النفس الكافرة اذا قتلت قلبا مؤمنا متعمدا للعداوة الاصلية باستيلاء صفاتها البهيمية والسبعية والشيطانية على القلب الروحانى وغلبة هواها عليه حتى يموت القلب بسمها القاتل { فجزاؤه } اى جزاء النفس { جهنم } وهى سفل عالم الطبيعة { خالدا فيها } لان خروج النفس عن سفل الطبيعة انما كان بحبل الشريعة والتمسك بحبل الشريعة انما كان من خصائص القلب المؤمن كقوله تعالى { ثم رددناه اسفل سافلين الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فالايمان والعمل الصالح من شأن القلب وصنيعه فاذا مات القلب وانقطع عمله تخلد النفس فى جهنم سفل عالم الطبيعة ابدا { وغضب الله عليه ولعنه } بان يبعدها ويطردها عن الحضرة والقربة ويحرمها من ايصال الخير والرحمة اليها بخطاب ارجعى الى ربك { واعد له عذابا عظيما } هجرانا عن حضرة العلى العظيم وحرمانا من جنات النعيم كذا فى التأويلات النجمية(3/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{ يا ايها الذين آمنوا } نزلت الآية فى شان مرداس بن نهيك من اهل فدك وكان اسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان عليه السلام بعث سرية الى قومه كان عليها غالب بن فضالة الليثى فلما وصلت السرية اليهم هربوا وبقى مرداس ثقة باسلامة فلما وصلوا فدك كبروا وكبر مرداس معهم وكان فى سفح جبل ومعه غنمه فنزل اليهم وقال لا اله الا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله اسامة بن زيد وساق غنمه فاخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فوجد وجدا شديدا وقال « قتلتموه ارادة ما معه وهو يقول لا اله الا الله » فقال اسامة انه قال بلسانه دون قلبه وفى رواية انما قالها خوفا من السلاح فقال عليه السلام « هلا شققت عن قلبه فنظرت أصادق هو ام كاذب » ثم قرأ الآية على اسامة فقال يا رسول الله استغفر لى فقال « فكيف بلا اله الا الله » قال اسامة فما زال صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت ان لم اكن اسلمت الا يومئذ ثم استغفر لى وامر برد الاغنام وتحرير رقبة مؤمنة والمعنى ايها المؤمنون { اذا ضربتم فى سبيل الله } اى سافرتم وذهبتم للغزو من قول العرب ضربت فى الارض اذا سرت لتجارة او غزو او نحوهما { فتبينوا } التفعل بمعنى الاستفعال الدال على الطلب اى اطلبوا بيان الامر فى كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية { ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام } اى لمن حياكم بتحية الاسلام { لست مؤمنا } وانما اظهرت ما اظهرت متعوذا بل اقبلوا منه ما اظهره وعاملوه بموجبه { تبتغون عرض الحيوة الدنيا } حال من فاعل لا تقولوا منبىء عما يحملهم على العجلة وترك التأنى لكن لا على ان يكون النهى راجعا الى القيد فقط كما فى قولك لا تطلب العلم تبتغى به الجاه بل اليهما جميعا اى لا تقولوا له ذلك حال كونكم طالبين لماله الذى هو حطام سريع النفاد وعرض الدنيا ما يتمتع به فيها من المال نقدا كان او غيره قليلا كان او كثيرا يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وتسميته عرضا تنبيه على انه سريع الفناء قريب الانقضاء { فعند الله مغانم كثيرة } تغنيكم عن قتل امثاله لماله وهو تنبيه على ان ثواب الله تعالى موصوف بالدوام والبقاء { كذلك } اى مثل ذلك الذى القى اليكم السلام { كنتم } انتم ايضا { من قبل } اى فى مبادى اسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الاسلام ونحوها { فمن الله عليكم } بان قبل منكم تلك الرتبة وعصم بها دماءكم واموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم .(3/57)
الفاء للعطف على كنتم { فتبينوا } الفاء فصيحة اى اذا كان الامر كذلك فاطلبوا بيان هذا الامر البين وقيسوا حاله بحالكم وافعلوا ما فعل بكم فى اوائل اموركم من قبول ظاهر الحال من غير وثوق على تواطئ الظاهر والباطن { ان الله كان بما تعملون } من الاعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها { خبيرا } فيجازيكم بحسبها ان خيرا فخير وان شرا فشر فلا تتهافتوا فى القتل واحتاطوا فيه
قال الامام الغزالى رحمه الله الخبير هو الذى لا تعزب عنه الاخبار الباطنة ولا يجرى فى الملك والملكوت شىء ولا تحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن الا ويكون عنده خبر وهو بمعنى العليم لكن العلم اذا اضيف الى الخفايا الباطنة سمى خبرة ويسمى صاحبه خبيرا وحظ العبد من ذلك ان يكون خبيرا بما يجرى فى عالمه وعالمه قلبه وبدنه واظهار الخير والبخل باظهار الاخلاص والافلاس عنه ولا يعرفها الا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحاربها وتشمر لمعاداتها واخذ الحذر منها فذلك من العباد جدير بان يسمى خبيرا انتهى كلام الامام : قال السعدى
نمى تازد اين نفس سركش جنان ... كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان بر آيد بزور ... مصاف بلنكان نبايد زمور
ودلت الآية على ان المجتهد قد يخطىء كما اخطأ اسامة وان خطاءه قد كان مغتفرا حيث لم يقتص منه وعلى ان الذكر اللسانى معتبر كما ان ايمان المقلد صحيح لكن ينبغى للمؤمن ان يترقى من الذكر اللسانى الى الذكر القلبى ثم الى الذكر الروحى ويحصل له التعين والمعرفة ويخلص من ظلمة الجهل ويتنور بنور المعرفة لان الانسان يموت كما يعيش
عن ابن عباس ان جبريل عليه السلام جاء الى النبى عليه السلام فقال يا محمد ان ربك يقرئك السلام وهو يقول مالى اراك مغموما حزينا قال عليه السلام « يا جبريل طال تفكرى فى امتى يوم القيامة » قال أفى امر اهل الكفر ام اهل الاسلام فقال « يا جبريل فى امر اهل لا اله الا الله محمد رسول الله » فاخذ بيده حتى اقامه الى مقبرة بنى سلمة ثم ضرب بجناحه الايمن على قبر ميت قال قم باذن الله فقام الرجل مبيض الوجه وهو يقول لا اله الا الله محمد رسول الله فقال جبريل عد الى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الايسر فقال قم باذن الله فخرج رجل مسود الوجه ارزق العينين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل عد الى مكانك فعاد كما كان ثم قال يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تموتون كما تعيشون وتبعثون كما تموتون »(3/58)
هركسى آن درود عاقبت كار كه كشت
والاشارة فى الآية الى البالغين الواصلين بالسير الى الله ان { يا ايها الذين آمنوا } ووفقوا لمجرد الايمان بالغيب { اذا ضربتم فى سبيل الله } يعنى سرتم بقدم السلوك فى طلب الحق حتى صار الايمان ايقانا والايقان احسانا والاحسان عيانا والعيان غيبا وصار الغيب شهادة والشهادة شهودا والشهود شاهدا والشاهد مشهودا وبهما اقسم الله بقوله { وشاهد ومشهود } فافهم جدا وهذا مقام الشيخوخية { فتبينوا } عن حال المريدين وتثبتوا فى الرد والقبول وفى قوله { ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمنا } اشارة الى ارباب الطلب فى البدء والارادة اى اذا تمسك احد بذيل ارادتكم والقى اليكم السلام بالانقياد والاستسلام لكم فلا تقولوا لست مؤمنا اى صادقا مصدقا فى التسليم لاحكام الصحبة وقبول التصرف فى المال والنفس على شرط الطريقة ولا تردوه ولا تنفروه بمثل هذه التشديدات وقولوا له كما امر الله موسى وهارون عليهما السلام { فقولا له قولا لينا } فما انتم اعز من الانبياء ولا المريد المبتدئ اذل من فرعون ولا يهولنكم امر رزقه فتجتنبون منه طلبا للتخفيف والى هذا المعنى اشار بقوله { تبتغون عرض الحيوة الدنيا } فلا تهتموا لاجل الرزق { فعند الله مغانم كثيرة } من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب { كذلك كنتم من قبل } اى كذلك كنتم ضعفاء فى الصدق والطلب محتاجين الى الصحبة والتربية بدواء الارادة { فمن الله عليكم } بصحبة المشايخ وقبولهم اياكم والاقبال على تربيتكم وايصال رزقكم اليكم وشفقتهم وعطفهم عليكم { فتبينوا } ان تردوا صادقا اهتماما لرزقه او تقبلوا كاذبا حرصا على تكثير المريدين { ان الله كان } فى الازل { بما تعملون } اليوم من الرد والقبول والاحتياج الى الرزق الذى تهتمون له { خبيرا } بتقدير امور قدرها فى الازل وفرغ منها كما قال عليه السلام « ان الله فرغ من الخلق والرزق والاجل » وقال « الضيف اذا نزل نزل برزقه واذا ارتحل ارتحل بذنوب مضيفه » كذا فى التأويلات النجمية(3/59)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{ لا يستوى القاعدون } عن الجهاد { من المؤمنين } حال من القاعدين اى كائنين من المؤمنين وفائدتها الايذان من اول الامر بعدم اخلال وصف القعود بايمانهم والاشعار بعلة استحقاقهم كما سيأتى من الحسنى { غير اولى الضرر } بالرفع صفة للقاعدون
فان قلت كلمة غير لا تتعرف بالاضافة فكيف جاز كونها صفة للمعرفة قلت اللام فى القاعدون للهعد الذهنى فهو جار مجرى النكرة حيث لم يقصد به قوم باعيانهم والا ظهر انه بدل من القاعدون . والضرر المرض والعاهة من عمى او عرج او شلل او زمانة او نحوها وفى معناه العجز عن الاهبة
عن زيد بن ثابت رضى الله عنه انه قال كنت الى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذى حتى خشيت ان ترضها اى تكسرها ثم سرى عنه وازيل ما عرض له من شدة الوحى فقال « اكتب فكتبت لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون » فقال ابن ام مكتوم وكان اعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سرى عنه فقال « اكتب لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر » قال زيد انزلها الله وحدها فالحقتها فالمراد بالقاعدين هم الاصحاء الذين اذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم لان الغزو فرض كفاية قال ابن عباس رضى الله عنهما هم القاعدون عن بدر والخارجون اليها وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول { والمجاهدون } عطف على القاعدون { فى سبيل الله باموالهم وانفسهم } اى لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة فى الاجر والثواب
فان قلت معلوم ان القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء قلت فائدته تذكير ما بينهما من التفاوت العظيم ليرغب القاعد فى الجهاد رفعا لرتبته وانفة عن انحطاط منزلته { فضل الله المجاهدين باموالهم وانفسهم } جملة موضحة لما نفى الاستواء فيه فان انتفاء الاستواء بينهما يحتمل ان يكون بزيادة درجة احدهما على درجة الآخر وبنقصانها فبين الله تعالى بهذه الجملة ان انتفاء استوائهما انما هو بانه تعالى فضل المجاهدين كأنه قيل ما لهم لا يستوون فاجيب بذلك { على القاعدين } غير اولى الضرر لكون الجملة بيانا للجملة الاولى المتضمنة لهذا الوصف { درجة } تنوينها للتفخيم كما سيأتى ونصبها بنزع الخافض اى بدرجة او على المصدرية لانه لتضمنه معنى التفضيل ووقوعه موقع المرة من التفضيل كان بمنزلة ان يقال فضلهم تفضيلة واحدة ونظيره قولك ضربه سوطا بمعنى ضربه ضربة { وكلا } من القاعدين والمجاهدين { وعد الله الحسنى } اى المثوبة الحسنى وهى الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وانما التفاوت فى زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب .(3/60)
قوله كلا مفعول اول لوعد والحسنى مفعوله الثانى وتقديم الاول على الفعل لافادة القصر تأكيدا للوعد اى كلا منهما وعد الله الحسنى لا احدهما فقط والجملة اعتراض جيئ بها تداركا لما عسى يوهمه تفضيل احد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول
قال الفقهاء وهذا يدل على ان الجهاد فرض كفاية وليس مفروضا على كل احد بعينه لانه تعالى وعد القاعدين عنه الحسنى كما وعد المجاهدين ولو كان الجهاد واجبا على كل احد على التعيين لما كان القاعد اهلا لوعد الله تعالى اياه بالحسنى { وفضل الله المجاهدين على القاعدين } عطف على قوله فضل الله { اجرا عظيما } نصب على المصدر لان فضل بمعنى آجر اى آجرهم اجرا عظيما وايثاره على ما هو مصدر من فعله للاشعار بكون ذلك التفضيل اجرا لاعمالهم او مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الاعطاء اى واعطاهم زيادة على القاعدين اجرا عظيما . وقيل نصب بنزع الخافض اى فضلهم باجر عظيم(3/61)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
{ درجات } بدل من اجرا بدل الكل مبين لكمية التفضيل { منه } صفة لدرجات دالة على فخامتها وجلالة قدرها اى درجات كائنة منه تعالى وهى سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا او سبعمائة درجة وفى الحديث « ان فى الجنة مائة درجة اعدها الله تعالى للمجاهدين فى سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض » ويجوز ان يكون انتصاب درجات على المصدرية كما فى قولك ضربه اسواطا اى ضربات كأنه قيل فضلهم تفضيلات { ومغفرة } بدل من اجرا بدل البعض لان بعض الاجر ليس من باب المغفرة أى مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التى لا يكفرها سائر الحسنات التى لا يأتى بها القاعدون ايضا حتى تعد من خصائصهم { ورحمة } بدل الكل من اجرا مثل درجات ويجوز ان يكون انتصابهما باضمار فعلهما اى غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبىء عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة واخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن الانتظام اما لتنزيل الاختلاف العنوانى بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتى تمهيدا لسلوك طريقة الايهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما فى قوله تعالى { فلما جاء امرنا نجنيا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ } كأنه قيل فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يفهم كنهها وحيث كان تحقق هذا العنوان البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين قيل وكلا وعد الله الحسنى ثم اريد تفسير ما افاده التنكير بطريق الابهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل ولله در شأن التنزيل واما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على ان المراد بالتفضيل الاول ما خولهم الله تعالى عاجلا فى الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثانى ما انعم به فى الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبىء عنه تقديم الاول وتأخير الثانى وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل فضلهم عليهم فى الدنيا درجة واحدة وفى الآخرة درجات لا تحصى وقد وسط بينهما فى الذكر ما هو متوسط بينهما فى الوجود اعنى الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة الى تسلية المفضول والله سبحانه اعلم . وقيل المجاهدون الاولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه السلام « رجعنا من الجهاد الى الجهاد الاكبر » { وكان الله غفورا } لذنوب من جاهد فى سبيله { رحيما } يدخله الجنة برحمته وهو تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة
قال القشيرى رحمه الله ان الله سبحانه جمع اولياءه فى الكرامات لكنه غاير بينهم فى الدرجات فمن غنى وغيره اغنى منه ومن كبير وغيره اكبر منه هذه الكواكب منيرة لكن القمر فوقها واذا طلعت الشمس بهرت اى غلبت جميعها بنورها انتهى فالجنة مشتركة بين الواصلين البالغين والطالبين المنقطعين بعذر وعوام المؤمنين القاعدين عن الطلب بلا عذر لكن الطائفة الاولى فى واد والاخريان فى واد آخر لا يستوون عند الله تعالى : قال المولى الجامى قدس سره(3/62)
اى كمند بدن جو طفل صغير ... مانده دردست خواب غفلت اسير
بيش ازان كت اجل كند بيدار ... كر نمردى زخواب سر بردار
انما السائرون كل رواح ... يحمدون السرى لدى الاصباح
ودلت الآية على ان اولى الضرر مساوون للمجاهدين فى الاجر والثواب روى عنه عليه السلام انه لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال « ان فى المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد الا كانوا معكم فيه » قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال « نعم وهم بالمدينة حبسهم حابس العذر » وهم الذين صحت نياتهم وتعلقت قلوبهم بالجهاد وانما منعهم عن الجهاد الضرر
هر كسى از همت والاى خويش ... سود برد درخور كالاى خويش
قال عليه السلام « اذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدى ما كان يعمله فى الصحة الى ان يبرأ » وقال المفسرون فى قوله تعالى { ثم رددناه اسفل سافلين الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ان من صار هرما كتب الله له اجر عمله قبل هرمه غير منقوص
وقالوا فى تفسير قوله عليه السلام « نية المؤمن خير من عمله » ان المؤمن ينوى الايمان والعمل الصالح لو عاش ابدا فيحصل له ثواب تلك النية ابدا قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة اخرى سوى الضرر قد ذكرت فى قوله تعالى فى اواخر سورة التوبة { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا لله ورسوله } والنصيحة لهما طاعة لهما والطاعة لهما فى السر والعلن وتوليهما فى السراء والضراء والحب فيهما والبغض فيهما كما يفعل الموالى الناصح بصاحبه كذا فى تفسيره الارشاد
واعلم ان الجهاد من افاضل المكاسب واماثل الحرف فلا ينبغى للعاقل ان يترك الجهاد او التحدث به فان من مات ولم يغزو ولم يحدث به نفسه فقد مات ميتة جاهلية ومعنى التحدث طلبه الغزو واخطاره بالبال
قال بعض الكبار السبق بالهمم لا بالقدم وفى الحديث « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ » ومعناه ان من انعم الله عليه بهاتين النعمتين وهما صحة الجسد بالعافية التى هى كالتاج على رؤس الاصحاء لا يراه الا السقيم والفراغ من شواغل الدنيا وعلقها فمن حصل له هاتان النعمتان واشتغل عن القيام بواجب حق الله تعالى فهذا هو الذى غبن بضياع حظه ونصيبه من طاعة الله وبذل النفس فى الخدمة وتحصيل ما ينفعه لآخرته من انواع الطاعات والقربات اللهم اجعلنا من المنتفعين بحياتهم والمتوجهين اليك فى مرضهم وصحتهم ولا تقطعنا عنك ولو لحظة عين ولا تشغلنا عن الوصل بالبين انك انت الغفور الرحيم(3/63)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
{ ان الذين توفاهم الملائكة } يحتمل ان يكون ماضيا فيكون اخبارا عن احوال قوم معينين انقرضوا ومضوا وان يكون مضارعا قد حذف منه احدى التاءين واصله تتوفاهم وعلى هذا تكون الآية عامة فى حق كل من كان بهذه الصفة والظاهر ان لفظ المضارع ههنا على حكاية الحال الماضية والقصد الى استحضار صورتها بشهادة كون خبر انّ فعلا ماضيا وهو قالوا والمراد بتوفى الملائكة اياهم قبض ارواحهم عند الموت والملك الذى فوض اليه هذا العمل هو ملك الموت وله اعوان من الملائكة واسناد التوفى الى الله تعالى فى قوله { الله يتوفى الانفس } وفى قوله { هو الذى يحييكم ثم يميتكم } مبنى على ان خالق الموت هو الله تعالى { ظالمى انفسهم } فى حال ظلمهم انفسهم بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للاخلال بامور الدين فانها نزلت فى ناس من مكة قد اسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة فانه تعالى لم يكن يقبل الاسلام بعد هجرة النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة الا بالهجرة اليها ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله عليه السلام « لا هجرة بعد الفتح » قال الله تعالى فيمن آمن وترك الهجرة { الذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا وهو حال من ضمير توفاهم فانه وان كان مضافا الى المعرفة وحق الحال ان يكون نكرة الا ان اصله ظالمين انفسهم فتكون الاضافة لفظية { قالوا } اى الملائكة للمتوفين تقريرا لهم بتقصيرهم فى اظهار اسلامهم واقامة احكامه من الصلاة ونحوها وتوبيخا لهم بذلك { فيم كنتم } اى فى أى شىء كنتم من امور دينكم كأنه قيل فماذا قالوا فى الجواب فقيل { قالوا } متجانفين عن الاقرار الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم { كنا مستضعفين فى الارض } اى فى ارض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين اهلها { قالوا } ابطالا لتعللهم وتبكيتا لهم { ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها } الى قطر آخر منها تقدرون فيه على اقامة امور الدين كما فعله من هاجر الى المدينة والى الحبشة وقيل كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين الى بدر فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوههم وادبارهم وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعا لهم وتوبيخا لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة بانتظامهم فى عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللا بانهم كانوا مقهورين تحت ايديهم وانهم اخرجوهم اى الى بدر كارهين فرد عليهم بانهم كانوا بسبيل من الخلاص من قهرهم متمكنين من المهاجرة { فاولئك } الذين حكيت احوالهم الفظيعة { مأواهم } اى فى الآخرة { جهنم } كما ان مأواهم فى الدنيا دار الكفر لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار وكون جهنم مأواهم نتيجة لما قبله وهو الجملة الدالة على ان لا عذر لهم فى ذلك اصلا فعطف عليه عطف جملة على اخرى { وساءت مصيرا } مصيرهم جهنم { الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الاستثناء منقطع فان المتوفين ظالمين انفسهم اما مرتدون او عصاة بتركهم الهجرة مع القدرة عليها وهؤلاء المستضعفون اى المستذلون المقهورون تحت ايدى الكفار ليسوا بقادرين عليها فلم يدخلوا فيهم فكان الاستثناء منقطعا والجار والمجرور حال من المستضعفين اى كائنين منهم(3/64)
فان قلت المستثنى المنقطع وان لم يكن داخلا فى المستثنى منه لكن لا بد ان يتوهم دخوله فى حكم المستثنى منه ومن المعلوم ان لا يتوهم دخول الاطفال فى الحكم السابق وهو كون مأواهم جهنم فكيف ذكر فى عداد المستثنى قلت للمبالغة فى التحذير من ترك الهجرة وايهام انها لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والاشعار بانه لا محيص لهم عنها البتة تجب عليهم اذا بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وان قوامهم يجب عليهم ان يهاجروا بهم متى امكنت { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } صفة للمستضعفين اذ لا توقيت فيه فيكون فى حكم المنكر واستطاعة الحيلة وجد ان اسباب الهجرة وما تتوقف عليه واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر اليه بنفسه او بدليل { فاولئك } اشارة الى ان المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز { عسى الله ان يعفو عنهم } ذكر بكلمة الاطماع ولفظ العفو ايذانا بان ترك الهجرة امر خطير حتى ان المضطر من حقه ان لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه { وكان الله عفوا غفورا } معنى كونه عفوا صفحه واعراضه عن العقوبة ومعنى كونه غفورا ستر القبائح والذنوب فى الدنيا والآخرة فهو كامل العفو تام الغفران : قال السعدى قدس سره
بس برده بيند عملهاى بد ... هم اوبرده بوشد ببالاى خود
وفى الآية الكريمة ارشاد الى وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من اقامة امور دينه بأى سبب كان
وعن النبى صلى الله عليه وسلم « من فر بدينه من ارض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجبت له الجنة وكان رفيق ابيه ابراهيم ونبيه محمد عليه السلام »
قال الحدادى فى تفسيره فى قوله تعالى { ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها } دليل انه لا عذر لاحد فى المقام على المعصية فى بلده لاجل المال والولد والاهل بل ينبغى ان يفارق وطنه ان لم يمكنه اظهار الحق فيه ولهذا روى عن سعد بن جبير انه قال اذا عمل بالمعاصى بارض فاخرج منها
سعد يا حب وطن كرجه حديث است صحيح ... نتوان مرد بسختى كه من انيجاز آدم
والاشارة فى الآية ان المؤمن عام وخاص وخاص الخاص كقوله(3/65)
{ فمنهم ظالم لنفسه } وهو العام { ومنهم مقتصد } وهو الخاص { ومنهم سابق بالخيرات } وهو خاص الخاص { فالذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم } هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدسيتها من غير تزكيتها عن اخلاقها الذميمة وتحليتها بالاخلاق الحميدة ليفلحوا فحابوا وخسروا كما قال تعالى { قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها } { قالوا فيم كنتم } اى قالت الملائكة حين قبضوا ارواحهم فى أى غفلة كنتم تضيعون اعماركم وتبطلون استعدادكم الفطرى وفى أى واد من اودية الهوى تهيمون وفى أى روضة من رياض الدنيا كنتم تؤثرون الفانى على الباقى وتنسون الطهور والساقى واخوانكم يجاهدون فى سبيل الله باموالهم وانفسهم ويهاجرون عن الاوطان ويفارقون الاخوان والاخدان { قالوا كنا مستضعفين فى الارض } اى عاجزين فى استيلاء النفس الامارة وغلبة الهوى مأسورى الشيطان فى حبس البشرية { قالوا ألم تكن ارض الله } اى ارض القلب { واسعة فتهاجروا فيها } فتحرجوا من مضيق ارض البشرية فتسلكوا فى فسحة عالم الروحانية بل تطيروا فى هواء الهوية { فاولئك } يعنى ظالمى أنفسهم { مأواهم جهنم } البعد عن مقامات القرب { وساءت مصيرا } جهنم البعد لتاركى القرب والمتقاعدين عن جهاد النفس { الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الذى صفتهم { لا يستطيعون حيلة } فى الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال ولا على قهر النفس وغلبة الهوى ولا على قمع الشيطان فى طلب الهدى { ولا يهتدون سبيلا } الى صاحب ولاية يتمسكون بعروته الوثقى ويعتصمون بحبل ارادته فى طلب المولى فيخرجهم من ظلمات ارض البشرية الى نور سماء الربوبية على اقدام العبودية وهم المقتصدون المشتاقون ولكنهم بحجب الانانية محجوبون ومن شهود جمال الحق محرومون فعذرهم بكرمه ووعدهم رحمته وقال { فاولئك عسى الله ان يعفو عنهم } السكون عن الله والركون الى غير الله { وكان الله } فى الازل { عفوا } ولعفوه امكنهم التقصير فى العبودية { غفورا } ولغفرانه امهلهم فى اعطاء حق الربوبية كذا فى التأويلات النجمية(3/66)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{ ومن يهاجر فى سبيل الله } ترغيب فى المهاجرة وتأنيس لها وسبيل الله ما امر بسلوكه { يجد فى الارض مراغما كثيرا } اى متحولا يتحول اليه ومهاجرا وانما عبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الاشعار يكون ذلك المتحول بحيث يصل المهاجر بما فيه من الخير والنعمة الى ما يكون سببا لرغم انف قومه الذين هاجرهم . والرغم الذل والهوان واصله لصوق الانف بالرغام وهو التراب يقال ارغم الله انفهاى الصقه بالرغام ولما كان الانف من جملة الاعضاء فى غاية العزة والتراب فى غاية الذلة جعل قولهم رغم انفه كناية عن الذلة { وسعة } فى الرزق واظهار الدين { ومن يخرج من بيته مهاجرا } اى مفارقا قومه واهله وولده { الى الله ورسوله } اى الى طاعة الله وطاعة رسوله { ثم يدركه الموت } اى قبل ان يصل الى المقصد وان كان ذلك خارج بابه كما ينبىء عنه ايثار الخروج من بيته على المهاجرة { فقد وقع اجره على الله } الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى ثبت اجره عند الله ثبوت الامر الواجب { وكان الله غفورا } مبالغا فى المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التى من جملتها القعود عن الهجرة الى وقت الخروج { رحيما } مبالغا فى الرحمة فيرحمه باكمال ثواب هجرته روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث بالآيات المحذرة عن ترك الهجرة الى مسلمى مكة
قال جندب بن ضمرة من بنى الليث لبنيه وكان شيخا كبيرا لا يستطيع ان يركب الراحلة احملونى فانى لست من المستضعفين وانى لأهتدى الطريق ولى من المال ما يبلغنى المدينة وابعد منها والله لا ابيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها الى المدينة فلما بلغ التنعيم وهو موضع قريب من مكة اشرف على الموت فاخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك ابايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات حميدا فلما بلغ خبره اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لو توفى بالمدينة لكان اتم اجرا وقال المشركون وهم يضحكون ما ادرك هذا ما طلب فانزل الله هذه الآية فمن هذا قالوا المؤمن اذا قصد طاعة ثم اعجزه العذر عن اتمامها كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة
وفى الكشاف قالوا كل هجرة لغرض دينى من طلب علم او حج او جهاد او فرار الى بلد يزداد فيه طاعة او قناعة وزهدا فى الدنيا او ابتغاء رزق طيب فهى هجرة الى الله ورسوله وان ادركه الموت فى طريقه فاجره واقع على الله انتهى
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره من مات قبل الكمال فمراده يجيئ اليه كما ان من مات فى طريق الكعبة يكتب له اجر حجين
يقول الفقير سمى الذبيح المتخلص بحقى سمعت مرة شيخى العارف العلامة ابقاه الله بالسلامة وهو يقول عند تفسير هذه الآية ان الطالب الصادق اذا سافر من ارض بشريته الى مقام القلب فمات قبل ان يصل الى مراده فله نصيب من اجر البالغين الى ذلك المقام لصدق طلبه وعدم انقطاعه عن الطريق الى حد الموت بل الله يكمله فى عالم البرزخ بوساطة روح من ارواحه او بوساطة فيضه .(3/67)
ومثل هذا جاء فى حق بعض السلاك وله نظير فى الشريعة كما روى عن الحسن البصرى رحمه الله انه قال بلغنى ان المؤمن اذا مات ولم يحفظ القرآن امر حفظته ان يعلموه القرآن فى قبره حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة مع اهله فاذا كان طالب القرآن الرسمى بالغا الى مراده وانّ فى البرزخ حرصه على التحصيل فليس ببدع ان يكون طالب القرآن الحقيقى واصلا الى مرامه فى عالم المثال المقيد لشغفه على التكميل
اقول واما ما قال الشيخ الكبير صدر الدين القنوى قدس سره فى الفلك الآخر من الفلوك من المتفق شرعا وعقلا وكشفا ان كل كمال لم يحصل للانسان فى هذه النشأة وهذه الدار فانه لا يحصل له بعد الموت فى الدار الآخرة انتهى فلعله فى حق اهل الحجاب الذين قعدوا عن الطلب رأسا لا فى حق اهل الحجاب الذين سلكوا فماتوا قبل الوصول الى مكاشفة الافعال ومشاهدة الصفات ومعاينة الذات
قال المولى الجامى فى شرح الكلمة الشعبية من الفصوص الحكمية فما يدل على عدم الترقى بعد الموت من قوله تعالى { ومن كان فى هذه اعمى } الآية انما هو بالنسبة الى معرفة الحق لا لمن لا معرفة له اصلا فانه اذا انكشف الغطاء ارتفع العمى بالنسبة الى الدار الآخرة ونعيمها وجحيمها والاحوال التى فيها واما قوله عليه السلام « اذا مات ابن آدم انقطع عمله » فهو يدل على ان الاشياء التى يتوقف حصولها على الاعمال لا تحصل وما لا يتوقف عليها بل يحصل بفضل الله ورحمته فقد يحصل وذلك من مراتب التجافى انتهى كلامه . فعلى السالك ان لا ينقطع عن الطريق ويرجو من الله التوفيق كى يصل الى منزل التحقيق : قال الحافظ الشيرازى
كاروان رفت تودرراه كمين كاه بخواب ... وه كه بس بيخبر از غلغل جندين جرسى
بال بكشاى صفير از شجر طوبى زن ... حيف باشد جوتومرغى كه اسير قفسى
تاجو مجمر نفسى دامن جانان كيرم ... جان نهاديم برآتش زبى خوش نفسى
جند بويد بهواى توبهر سو حافظ ... يسر الله طريقا بك يا ملتمسى
وفى التأويلات النجمية ان الاشارة فى الآية من غاية ضعف الانسان وحياته الحيوانية واستهواء الشيطان يكون الخوف غالبا على الطالب الصادق فى بدء طلبه فكما اراد ان يسافر عن الاوطان ويهاجر عن الاخوان طالبا فوائد اشارة سافروا لتصحوا وتغنموا لازالة مرض القلب ونيل صحة الدين والفوز بغنيمة صحبة شيخ كامل مكمل وطبيب حاذق مشفق ليعالج مرض قلبه ويبلغه كعبة طلبه فتسول له النفس اعداد الرزق وعدم الصبر ويعده الشيطان بالفقر فقال تعالى على قضية(3/68)
{ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا } { ومن يهاجر فى سبيل الله } اى طلب الله { يجد فى الارض مراغما كثيرا } اى بلادا اطيب من بلاده واخوانا فى الدين احسن من اخوانه { وسعة } فى الرزق . وفيه اشارة اخرى وهى ومن يهاجر عن بلد البشرية فى طلب حضرة الربوبية يجد فى ارض الانسانية مراغما كثيرا اى متحولا ومنازل مثل القلب والروح والسر وسعة اى وسعة فى تلك العوالم الوسيعة او سعة من رحمة الله كما اخبر الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام عن تلك الوسعة والسعة بقوله « لا يسعنى ارضى ولا سمائى وانما يسعنى قلب عبدى المؤمن » فافهم يا كثير الفهم قصير النظر قليل العبر ثم قال دفعا للهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية فى التخويف بالموت والايعاد بالفوت { ومن يخرج من بيته } اى بيت بشريته بترك الدنيا وقمع الهوى وقهر النفس بهجران صفاتها وتبديل اخلاقها { مهاجرا } الى الله طالبا له فى مبايعة رسوله { ثم يدركه الموت } قبل وصوله { فقد وقع اجره على الله } يعنى فقد اوجب الله تعالى على ذمة كرمه بفضله ورحمته ان يبلغه الى اقصى مقاصده واعلى مراتبه فى الوصول بناء على صدق نيته وخلوص طويته اذا كان المانع من اجله ونية المؤمن خير من عمله { وكان الله غفورا } لذنب بقية انانية وجوده { رحيما } عليه بتجلى صفة جوده ليبلغ العبد الى كمال مقصوده بمنه وكرمه وسعة جوده انتهى كلام التأويلات(3/69)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{ واذا ضربتم فى الارض } شروع فى بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمطر والمرض اى اذا سافرتم أى مسافرة كانت للهجرة او للجهاد او لغيرهما { فليس عليكم جناح } اى حرج ومأثم فى { ان تقصروا } شيأ { من الصلوة } فهو صفة لمحذوف والقصر خلاف المد يقال قصرت الشىء اى جعلته قصيرا بحذف بعض اجرائه واوصافه فمتعلق القصر حقيقة انما هو ذلك الشىء لا بعضه فانه متعلق الحذف دون القصر وعلى هذا فقوله من الصلوة ينبغى ان يكون مفعولا لتقصروا على زيادة من حسبما رآه الاخفش واما على تقدير ان تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا كما هو رأى سيبويه اى شيأ من الصلاة فينبغى ان يصار الى وصف الجزء بصفة الكل والمراد قصر الرباعيات بالتنصيف فانها تصلى فى السفر ركعتين فالقصر انما يدخل فى صلاة الظهر والعصر والعشاء دون المغرب والفجر وادنى مدة السفر الذى يجوز فيه القصر عند ابى حنيفة رحمه الله مسيرة ثلاثة ايام ولياليها الايام للمشى والليالى للاستراحة بسير الابل ومشى الاقدام بالاقتصاد ولا اعتبار بابطاء الضارب اى المسافر السائر واسراعه فلو سار مسيرة ثلاثة ايام ولياليهن فى يوم قصر ولو سار مسيرة يوم فى ثلاثة ايام لم يقصر ثم تلك المسيرة ستة برد جمع بريد كل بريد اربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة اميال باميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذى قدر اميال البادية كل ميل اثنا عشر الف قدم وهى اربعة آلاف خطوة فان كل ثلاثة اقدام خطوة
وظاهر الآية الكريمة التخيير بين القصر والاتمام وان الاتمام افضل لكن عندنا يجب القصر لا محالة خلا ان بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصة اسقاط بحيث لا مساغ للاتمام لا رخصة توفية اذ لا معنى للتخيير بين الاخف والأثقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « صدقة تصدق الله بها عليكم » وهو يدل على عدم جواز الا كمال لان التصدق بما لا يحتمل التمليك اسقاط محض لا يحتمل الرد فليس لنا الا التدين بما شرع الله والعمل بما حكم
قال فى الاشباه القصر للمسافر عندنا رخصة اسقاط بمعنى العزيمة بمعنى ان الاتمام لم يبق مشروعا حتى اثم به وفسدت لو اتم ومن لم يقعد على رأس العزيمة فسدت صلاته لاتصال النافلة بها قبل كمال اركانها وان قعد فى آخر الركعة الثانية قدر التشهد اجزأته الاخريان نافلة ويصير مسيئا بتأخير السلام
قال فى تفسير الحدادى المسافر اذا صلى الظهر اربعا ولم يقعد فى الثانية قد التشهد فسدت صلاته كمصلى الفجر اربعا انتهى
فان قلت فما تصنع بقوله { فليس عليكم جناح ان تقصروا } فلم ورد ذلك بنفى الجناح قلت لما انهم الفوا الاتمام فكانوا مظنة ان يخطر ببالهم ان عليهم نقصانا فى القصر فصرح بنفى الجناح عنهم لتطيب به نفوسهم ويطمئنوا اليه كما فى قوله تعالى(3/70)
{ فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما } مع ان ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعى ثم ان العاصى كالمطيع فى رخصة السفر حتى ان الآبق وقاطع الطريق يقصران لان المقيم العاصى يمسح يوما وليلة كالمقيم المطيع فكذا المسافر ولان السفر ليس بمعصية فلا يعتبر غرض العاصى { ان خفتم ان يفتنكم الذين كفروا } جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه اى ان خفتم ان يتعرضوا لكم بما تكرهون من القتال وغيره فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة والقصر ثابت بهذا النص فى حال الخوف خاصة واما فى حال الامن فالبسنة
قال المولى ابو السعود فى تفسيره وهو شرط معتبر فى شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة واما فى حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته
ثم قال بعد كلام بل نقول ان الآية الكريمة مجملة فى حق مقدار القصر وكيفيته وفى حق ما يتعلق به من الصلاة وفى مقدار مدة القصر الذى نيط به القصر فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر فى حال الأمن وتخصيصه بالرباعيان على وجه التنصيف وبالضرب فى المدة المعينة بيان لاجمال الكتاب انتهى
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال سافر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين مكة والمدينة لا يخاف الا الله فصلى ركعتين كذا فى الوسيط { ان الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } اى ظاهر العداوة وكمال عداوتهم من موجبات التعرض لكم بقتال او غيره(3/71)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{ واذا كنت } يا محمد { فيهم } اى مع المؤمنين الخائفين { فاقمت لهم الصلوة } اى اذا اردت ان تقيم بهم الصلاة
قال ابن عباس لما رأى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه قاموا الى صلاة الظهر وهو يؤمهم وذلك فى غزوة ذات الرقاع ندموا على تركهم الاقدام على قتالهم فقال بعضهم دعوهم فان لهم بعدها صلاة هى احب اليهم من آبائهم واولادهم واموالهم يريدون صلاة العصر فان رأيتموهم قاموا اليها فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبرائيل عليه السلام بهؤلاء الآيات بين الصلاتين فعلمه كيفية اداء صلاة الخوف واطلعه الله على قصدهم ومكرهم ذهب الجمهور الى ان صلاة الخوف ثابتة مشروعة بعده صلى الله عليه وسلم فى حق كل الامة غايته انه تعالى علم رسو الله صلى الله عليه وسلم كيفية اداء الصلاة حال الخوف لتقتدى به الامة فيتناولهم الخطاب الوارد له عليه السلام
قال فى الكشاف ان الائمة نواب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى كل عصر قوام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولا لكل امام يكون حاضرا بجماعة فى حال الخوف عليه ان يؤمهم كما ام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعات التى كان يحضرها ألا يرى ان قوله تعالى { خذ من اموالهم صدقة تطهرهم } لم يوجب كونه عليه السلام مخصوصا بها دون غيره من الائمة بعده فكذا صلاة الخوف فاندفع قول من قال صلاة الخوف مخصوصة بحضرة الرسول عليه السلام حيث شرط كونه بينهم { فلتقم طائفة منهم معك } بعد ان جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الاخرى بازاء العدو ليحرسوكم منهم { وليأخذوا } اى الطائفة القائمة معك وهم المصلون { اسلحتهم } اى لا يضعوها ولا يلقوها وانما عبر عن ذلك بالاخذ للايذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها ابتداء { فاذا سجدوا } اى القائمون معك واتموا الركعة { فليكونوا من ورائكم } اى فلينصرفوا الى مقابلة العدو للحراسة { ولتأت طائفة اخرى لم يصلوا } بعد وهى الطائفة الواقفة تجاه العدو للحراسة { فليصلوا معك } الركعة الباقية ولم يبين فى الآية الكريمة حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين وقد بين ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمر وابن مسعود ان النبى عليه السلام حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الاولى ركعة وبالطائفة الاخرى ركعة كما فى الآية ثم جاءت الطائفة الاولى وذهبت هذه الى العدو حتى قضت الاولى الركعة الاخرى بلا قراءة وسلموا ثم جاءت الطائفة الاخرى وقضوا الركعة الاولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان هذا اذا كان مسافرا او فى الفجر لان الركعة الواحدة شطر صلاته واما اذا كان مقيما او فى المغرب فيصلى بالطائفة الاولى الركعتين لانهما الشطر
وفى الكافى لو اخطأ الامام فصلى بالاولى ركعة وبالثانية ركعتين اى فى المغرب فسدت صلاة الطائفتين .(3/72)
وتفصيل كيفية الصلاة عند الخوف من عدو او سبع كفى مؤونته باب الصلاة الخوف فى الفروع فارجع اليه { وليأخذوا } اى هذه الطائفة { حذرهم } وهو التحذر والتيقظ { واسلحتهم }
ان قلت الحذر من قبيل المعانى فكيف يتعلق الاخذ الذى لا يتعلق الا بما هو من قبيل الاعيان كالسلاح قلت انه من قبيل الاستعارة بالكناية فانه شبه الحذر بآلة يستعملها الغازى وجعل تعلق الاخذ به دليلا على هذا التشبيه المضمر فى النفس فيكون استعارة تخييلية ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز من حيث ان اسناء الاخذ الى الاسلحة حقيقة والى الحذر مجاز وذلك لان الاخذ على حقيقته وانما المجاز ايقاعه فافهم ولعل زيادة الامر بالحذر فى هذه المرة كونها مظنة لوقوف الكفرة على كون كون الطائفة القائمة مع النبى عليه السلام فى شغل شاغل واما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليف كل من الطائفتين باخذ الحذر والاسلحة لما ان الاشتغال بالصلاة مظنة لالقاء السلاح والاعراض عن ذكرها ومئنة لهجوم العدو كما ينطق به ما بعد الآية
قال الامام الواحدى فى قوله تعالى { وليأخذوا حذرهم } رخصة للخائف فى الصلاة لان يجعل بعض فكره فى غير الصلاة { ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } الخطاب للفريقين بطريق الالتفات اى تمنوا ان ينالوا منكم غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم شدة واحدة والمراد بالامتعة ما يتمتع به فى الحرب لا مطلقا { ولا جناح عليكم ان كان بكم اذى من مطر او كنتم مرضى ان تضعوا اسلحتكم } رخصة لهم فى وضع الاسلحة ان ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر او يضعفهم من مرض وهذا يؤيد ان الامر بالاخذ للوجوب دون الاستحباب
وقال الفقهاء حمل السلاح فى صلاة الخوف مستحب لان الحمل ليس من اعمال الصلاة والامر فى قوله تعالى { وليأخذوا حذرهم واسلحتهم } محمول على الندب { وخذوا حذركم } امرهم مع ذلك باخذ الحذر اى بالتيقظ والاحتياط لئلا يهجم عليهم العدو غيلة
قال ابن عباس رضى الله عنهما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم محاربا ببنى انمار فهزمهم الله تعالى فنزل النبى عليه الصلاة والسلام والمسلمون ولا يرون من العدو احدا فوضعوا اسلحتهم وخرج رسول الله يمشى لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادى والسماء ترش فحال الوادى بينه عليه السلام وبين اصحابه فجلس فى اصل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربى فانحدر من الجبل ومعه السيف وقال لاصحابه قتلنى الله ان لم اقتل محمدا فلم يشعر رسول الله الا وهو قائم على رأسه وقد سل سيفه من غمده فقال يا محمد من يعصمك منى الآن فقال عليه السلام(3/73)
« الله عز وجل » ثم قال « اللهم اكفنى غورث ابن الحارث بما شئت » ثم اهوى بالسيف الى رسول الله ليضربه فانكب على وجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فندر سيفه فقام رسول الله فاخذه ثم قال « يا غورث من يمنعك منى » قال لا احد قال عليه السلام « تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله واعطيك سيفك » قال لا ولكن اشهد ان لا اقاتلك ابدا ولا اعين عليك عدوا فاعطاه سيفه فقال غورث والله لانت خير منى فقال عليه السلام « انا احق بذلك منك » فرجع غورث الى اصحابه فقص عليهم قصته فآمن بعضهم قال وسكن الوادى فرجع رسول الله الى اصحابه واخبرهم بالخبر { ان الله اعد للكافرين عذابا مهينا } تعليل للامر باخذ الحذر اى اعد لهم عذابا مهينا بان يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا فى مباشرة الاسباب كى يحل بهم عذابه بايديكم(3/74)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{ فاذا قضيتم الصلوة } صلاة الخوف اى اديتموها على الوجه المبين وفرغتم منها فظهر منه ان القضاء يستعمل فيما فعل فى وقته ومنه قوله تعالى { فاذا قضيتم مناسككم } { فاذكروا الله } حال كونكم { قياما } اى قائمين { وقعودا } اى قاعدين { وعلى جنوبكم } اى مضطجعين اى فداوموا على ذكر الله تعالى وحافظوا على مراقبته ومناجاته ودعائه فى جميع الاحوال حتى فى حال المسابقة والقتال كما فى قوله تعالى { اذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } { فاذا اطمأننتم } سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد ما تضع الحرب اوزارها { فاقيموا الصلوة } اى الصلاة التى دخل وقتها حينئذ اى ادوها بتعديل اركانها ومراعاة شرائعها . ومن حمل الذكر على ما يعم الذكر باللسان والصلاة من الحنفية فله ان يقول فى تفسير الآية فداموا على ذكر الله فى جميع الاحوال واذا اردتم اداء الصلاة فصلوها قائمين حال الصحة والقدرة على القيام وقاعدين حال المرض والعجز عن القيام ومضطجعين على الجنوب حال العجز عن القعود { ان الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } اى فرضا موقتا
قال مجاهد وقته تعالى عليهم فلا بد من اقامتها فى حالة الخوف ايضا على الوجه المشروع وقيل مفروضا مقدرا فى الحضر اربع ركعات وفى السفر ركعتين فلا بد ان تؤدى فى كل وقت حسبما قدر فيه
قال فى شرح الحكم العطائية ولما علم الله تعالى ما فى العباد من وجود الشره المؤدى الى الملل القاطع عن بلوغ العمل جعل الطاعات فى الاوقات اذ جعل فى اليوم خمسا وفى السنة شهرا وفى المائتين خمسا وفى العمر زورة رحمة بهم وتيسيرا للعبودية عليهم ولو لم يقيد الطاعات باعيان الاوقات لمنعهم عنها وجود التسويف فاذا يترك معاملته تعاميا وبطرا وبطالة واتباعا للهوى وانما وسع الوقت كى تبقى حصة الاختيار وهذا سر الوقت وكان الواجب على الامة ليلة المعراج خمسين صلاة فخفف الله عنهم وجازاهم بكل وقت عشرا فاجر خمسين فى خمسة اوقات قالوا وجه كون يوم القيامة على الكافر خمسين الف سنة لانه لما ضيع الخمسين عوقب بكل صلاة الف سنة كما اقروا على انفسهم بقولهم { لمن نك من المصلين } وفى الحديث « من ترك صلاة حتى مضى وقتها ثم قضى عذب فى النار حقبا » والحقب ثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم الف سنة مما تعدون يعنى ترك الصلاة الى وقت القضاء اثم لو عاقب الله به يكون جزاءه هكذا ولكن الله يتكرم بان لا يجازى به اذا تاب عنه كذا فى مشكاة الانوار وفى الحديث « خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم ولا يخفف عنهم من عذابها . مشرك بالله . وعاق لوالديه . والزانى بحليلة جاره . ورجل سلم اخاه الى سلطان جائر . ورجل او امرأة سمع المؤذن يؤذن ولم يجب من غير عذر »(3/75)
يعنى اخرها عن وقتها بغير عذر كذا فى روضة العلماء وفى الحديث « ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد شيأ احب اليه من الصلاة ولو كان شىء احب اليه من الصلاة تعبد به ملائكته فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد » وكان آخر ما اوحى به الى النبى عليه السلام الصلاة وما ملكت ايمانكم
واعلم ان لله عبادا قد منحهم ديمومية الصلاة فهم فى صلاتهم دائمون من الازل الى الابد وليس هذا يدرك بالعقول القاصرة ولا يعقلها الا العالمون بالله تعالى
وفى التأويلات النجمية { ان الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } يعنى واجبا فى جميع الاوقات حين فرضت بقوله { أقيموا الصلوة } اى اديموها رخص فيها بخمس صلوات فى خمسة اوقات لضرورة ضعف الانسانية كما كان الصلاة الخمس خمسين صلاة حين فرضت ليلة المعراج فجعلها بشفاعة النبى عليه السلام خمسا وهذا لعوام الخلق والا اثبت دوام الصلاة للخواص بقوله { والذين هم على صلوتهم دائمون } وفى المثنوى
بنج وقت آمد نماز رهنمون ... عاشقانش فى صلاة دائمون
نيست زرغا وظيفه ماهيان ... زانكه بى درياندارد انس وجان
هيج كس باخويش زرغبانمود ... هيج كس باخود بنوبت ياربود
دردل عاشق بجز معشوق نيست ... درميان شان فارق وفاروق نيست(3/76)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{ ولا تهنوا فى ابتغاء القوم } نزلت فى بدر الصغرى وهى موضع سوق لبنى كنانة كانوا يجتمعون فيها كل عام ثمانية ايام روى ان ابا سفيان قال عند انصرافه من احد يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل ان شئت فقال صلى الله عليه وسلم « ان شاء الله تعالى » فلما كان القابل القى الله الرعب فى قلبه فندم على ما قال فبعث نعيم بن مسعود ليخوف المؤمنين من الخروج الى بدر فلما أتى نعيم المدينة وجد المؤمنين يتجهزون للخروج فقال لهم ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ففترا المؤمنين فقال عليه السلام « أخرجن ولو لم يخرج معى احد » فانزل الله هذه الآية ارشادا لمن طرأ عليهم الوهن فى ابتغاء القوم اى طلب ابى سفيان وقوله . والمعنى لا تفتروا ولا تضعفوا فى طلب الكفار بالقتال اى لا يورثنكم ما اصابكم يوم احد من القتل والجراحات فتورا وضعفا { ان تكونوا تألمون } من الجراح { فانهم } اى القوم { يألمون كما تألمون } اى ان كان لكم صارف عن الحرب وهو انكم تألمون من الجراح فلهم مثل ذلك من الصارف ولكم اسباب داعية الى الحرب ليست لهم كما اشار اليها بقوله { وترجون من الله } من الثواب والنصر { ما لا يرجون } والحاصل ليس ما تقاسونه من الآلام مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ثم انهم يصبرون على ذلك فما لكم لا تصبرون مع انكم اولى به منهم حيث ترجون من الله من اظهار دينكم على سائر الاديان ومن الثواب فى الآخرة ما لا يخطر ببالهم قطعا { وكان الله عليما } مبالغا فى العلم فيعلم اعمالكم وضمائركم { حكيما } فيما يأمر وينهى فجدّوا فى الامتثال بذلك فان فيه عواقب حميدة وفى امره بابتغاء القوم بالقتال لهمة بالغة كاملة ومصلحة تامة شاملة فاطلبوهم بالقتال فان الله يعذبهم فى الدنيا بايديكم وفى الآخرة بايدى الزبانية فهل ينتظرون الا سنة الله فى الكافرين الاولين وهو انزال العذاب بهم حين كذبوا انبياءهم فلن تجد لسنة الله تبديلا بجعل التعذيب غير تعذيب وغير التعذيب تعذيبا ولن تجد لسنة الله تحويلا بنقل التعذيب عنهم الى غيرهم والحاصل انه لا يبدل نفس السنة ولا يحول محل السنة اذ لقد حق القول عليهم ولا يتبدل القول لديه
وفى الآية الكريمة حث على الشجاعة والتجلد واظهار الغلظة كما قال تعالى { وليجدوا فيكم غلظة } قيل
هست نرمى آفت جان سمور ... وزدر شتى ميبرد جان خاربشت
قال سلمان الفارسى رضى الله عنه اذا اضطرب قلب المؤمن عند محاربة الكافر تتحدر ذنوبه كتحدر اوراق الشجرة بهبوب النسيم
وقال عطية بن قيس اذا خرجت غازيا فان خطر ببالى كثرة العدد والعدد رجعت عن السفر خوفا من الغرور وان خطر قلتهما قلت لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظم : ومن كلمات بهرام [ هرآنكه سرتاج دارد بايدكه دل از سربر دارد ](3/77)
هرآنكه باى نهد در نكار خانه ملك ... يقين كه مال وسروهرجه هست دربازد
ومن كلمات السعدى قدس سره
درقزا كند مرد بايدبود ... برمخنث سلاح جنك جه سود
يقول الفقير سمعت من حضرة شيخى وسندى الذى هو بمنزلة روحى من جسدى انه قال السلطان والوزير بالنسبة الى العساكر الاسلامية كالقلب بالنسبة الى الاعضاء والجوارح الانسانية فاذا ثبت ثبتوا كما ان القلب اذا صلح صلح الجسد كله فان كان اقبال الامام بعشر مراتب كان اقبال قومه بمرتبة واحدة وان كان بمائة مرتبة كان اقبالهم بعشر مراتب وهكذا واما ادباره فعكسه فان كان بمرتبة كان ادبار القوم بعشر مراتب وان كان بعشر مراتب كان ادبارهم بمائة مرتبة وهكذا وليس الدخول بدار من باب تفرج البلدان والخروج الى المسير والتنعم فلا بد لكل مجاهد ان يجتهد فى خدمة الدين ويتوكل على الله ويعقد على وعده ويصبر على البلاء حتى يبلغ الكتاب اجله وان اتى الباب فلا يستعجل الامناء ولا يهن ولا يحزن بمكث الفتح المطلوب بل ينتظر الى فرج الله بالنصر والفتح عن قريب فان انكسار القلوب مفتاح ابواب الغيوب ومدار انفتاح انواع الفتوح
والاشارة فى الآية { ولا تهنوا فى ابتغاء القوم } اى فى طلب النفس وصفاتها والجهاد معها { ان تكونوا تألمون } فى الجهاد معها وتتعبون بالرياضات والمجاهدات وملازمة الطاعات والعبادات ومداومة الذكر ومراقبة القلب فى طلب الحق والقبول والوصول الى المقامات العلية { فانهم } يعنى النفس والبدن فى طلب الشهوات الدنيوية واللذات الحيوانية والمرادات الجسمانية { يألمون } ويتعبون فى طلبها كما تألمون { وترجون من الله } العواطف الازلية والعوارف الابدية { ما لا يرجون } النفوس الردية من هممها الدنية التى لا تتجاوز من قصورها عن المقاصد الدنيوية { وكان الله } فى الازل { عليما } باستعداد كل طائفة من اصناف الخلق { حكيما } فيما حكم لكل واحد منهم من المقاصد والمشارب قد علم كل اناس مشربهم وكل حزب بما لديهم فرحون(3/78)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{ انا أنزلنا اليك الكتاب } اى القرآن انزالا { بالحق } روى ان رجلا من الانصار يقال له طعمة بن ابيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة ابن النعمان فى جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه فخبأها عند زيد بن السمين اليهودى فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما اخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى الى منزل اليهودى فاخذوها فقال دفعها الى طعمة وشهد له ناس من اليهود على ذلك فقالت بنوا ظفر انطلقوا بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ان يجادل اليهودى ليدفع فضيحة البهتان عن صاحبهم طعمة وقالوا له عليه السلام ان يعاقب اليهودى ويقطع يده بناء على شهادة قوم طعمة على براءته وعلى ان اليهودى هو السارق ولم يظهر له عليه السلام ما يوجب القدح فى شهادتهم بناء على كون كل واحد من الشاهد والمشهود له من المسلمين ظاهرا فلذلك مال طبعه الى نصرة الخائن والذب عنه الا انه لم يحكم بذلك بل توقف وانتظر الوحى فنزلت الآية ناهية عنه ومنبهة على ان طعمة وشهودة كاذبون وان اليهودى هو بريىء من ذلك الجرم { لتحكم بين الناس بما اراك الله } اى بما عرفك واوحى به اليك . فاراك ليس من الرؤية البصرية ولا من التى بمعنى العلم والا لاستدعى ثلاثة مفاعيل بل هو منقول من رأيت بمعنى الاتقاد والمعرفة وسميت المعرفة الذكورة رؤية لكونها جارية مجرى الرؤية فى القوة والظهور والخلوص من وجوه الريب { ولا تكن } اى فاحكم به ولا تكن { للخائنين } اى لاجلهم والذب عنهم وهم طعمة ومن يعينه فانه روى ان قومه علموا ان تلك السرقة عمل طعمة بناء على انه سارق فى الجاهلية لكنهم بيتوا طول ليلهم واتفقوا على ان يشهدوا بالسرقة على اليهودى دفعا عن طعمة عقوبة السرقة فلذلك وصفهم الله جميعا بالخيانة او المراد بالخائنين هو وكل من يتسير بسيرته { خصيما } اى مخاصما للبراء اى لا تخاصم اليهودى لاجلهم(3/79)