فَسَتَذْكُرُونَ أى سيذكر بعضكم بعضا عند معائنة العذاب حين لا ينفعكم الذكر ما أَقُولُ لَكُمْ من النصيحة وَأُفَوِّضُ أَمْرِي قرأ نافع وأبو عمرو « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَى اللَّهِ ليعصمنى من كل سوء قال ذلك لما توعدوه إذا ظهر مخالفته لدينهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) يعلم المحق من المبطل ثم خرج المؤمن من بينهم فطلبوه فلم يقدروا عليه وذلك قوله عز وجل.
فَوَقاهُ اللَّهُ عطف على جمل محذوفة تقديره فاراد ال فرعون قتله ففرّ منهم فارسل فرعون جماعة ليأخذوه فوقيه اللّه سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أى ما أرادوا به وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ أى بفرعون وقومه واستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بانه اولى بذلك سُوءُ الْعَذابِ (45) أى الغرق فى الدنيا والنار فى الاخرة وقيل حاق بال فرعون يعنى بالذين أرسلوا لطلب المؤمن من ال فرعون سوء العذاب أى القتل فانه لمّا فرّ إلى الجبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلى والوحوش صفوف حوله فرجعوا رعبا فقتلهم فرعون - .(1/5759)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا جملة مستأنفة أو النّار خبر محذوف ويعرضون استئناف للبيان أو النّار بدل من سوء العذاب ويعرضون حال منها أو من الال - قال ابن مسعود أرواح ال فرعون فى أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار فيقال يا ال فرعون هذه مأواكم حتى تقوم الساعة - أخرجه عبد الرزاق وابن أبى حاتم وقال مقاتل والسدىّ والكلبي يعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشيّا ما دامت الدنيا يعنى إلى قيام الساعة - ويؤيده ما فى الصحيحين عن عبد اللّه بن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغدوة والعشى ان كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وان كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال له هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إلى يوم القيامة وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 262
و قد دلت الأحاديث عليه وانعقد عليه الإجماع وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر بهمزة الوصل وضم الخاء يعنى يقال لهم ادخلوا يا آلَ فِرْعَوْنَ وقرأ الباقون بهمزة القطع وكسر الخاء من الإدخال أى يقال للملائكة ادخلوا ال فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ (46) قال ابن عباس يريد ألوان العذاب غير الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا يعنى فى عالم البرزخ.(1/5760)
وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ أى أهل النار فِي النَّارِ أى اذكر يا محمد لقومك وقت مخاصمتهم فى النار وجاز ان يكون الظرف عطفا على غدوّا فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تفصيل للمحاجة إِنَّا كُنَّا لَكُمْ فى الدنيا تَبَعاً والتبع يكون واحدا وجمعا لتابع كخدم جمع خادم على قول البصريين وقيل معناه ذوى تبع بمعنى اتباع على الإضمار أو التجوز وقال الكوفيون جمع لا واحد له وجمعه اتباع فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) بالدفع استفهام بمعنى الأمر ونصيبا مفعول لما دل عليه مغنون اوله بالتضمين أو مصدر كشيئا فى قوله تعالى لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا فيكون صلة لمغنون.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا أى نحن وأنتم كُلٌّ أى كل واحد منا فِيها أى فى النار فكيف نغنى عنكم ولو قدرنا لاغنينا عن أنفسنا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) بدخول أهل الجنّة الجنة واهل النار النار ولا معقب لحكمه ..
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ حين اشتد عليهم العذاب لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ وضع جهنم موضع الضمير للتهويل ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً شيئا مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أى خزنة جهنم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ استفهام للانكار والتوبيخ على اضاعتهم اوقات الدعاء واسباب الاجابة وعطف على محذوف تقديره اما علمتم فى الدنيا ما لحقكم فى الاخرة من العذاب ولم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات منذرين به قالُوا بَلى جاءتنا رسلنا مبشرين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 263(1/5761)
و منذرين قالُوا فَادْعُوا امر على سبيل الاستهزاء ومعناه الاقناط وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (50) أى ضياع لايجاب هذا قول من اللّه ويحتمل ان يكومن كلام الخزنة وعلى هذا فهو حال أو معترضة لمّا سبق قصة موسى وانتصاره وقومه على فرعون أعقبه ما استحقه الرسل والمؤمنون من النصر عموما فقال.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال الضحاك بالحجة وقال ابن عباس بالغلبة والقهر قال البيضاوي ولا ينتقض ذلك بما كان للكافرين من الغلبة أحيانا امتحانا إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر وقيل بالانتقام من الأعداء فى الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يعنى يوم القيامة يقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ أى الكافرين بدل من يوم يقوم مَعْذِرَتُهُمْ لكونها باطلة قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « و أبو جعفر ويعقوب - أبو محمد » لا تنفع بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل والباقون بالياء لكون التأنيث غير حقيقى وللفصل وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أى البعد من الرحمة حال من الظالمين وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) أى الدار السواى يعنى جهنم - .
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى متصل بقصة موسى وبين ذلك اعتراض يعنى اتينا موسى ما يهتدى به فى الدين أى التوراة وذلك بعد إهلاك فرعون وقومه وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) أى التوراة بعد موسى.
هُدىً وَذِكْرى أى للهداية والتذكرة أو هاديا ومذكّرا لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) أى لذوى العقول السليمة - .(1/5762)
فَاصْبِرْ يا محمد على أذى المشركين إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لك بالنصر حَقٌّ لا يحتمل الخلف واستشهد بحال موسى وفرعون وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ امر تعبدى ليزيدنه درجته ويصير سنة لما بعده وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أى صلّ شاكرا لربك بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) قال الحسن يعنى صلوة العصر وصلوة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 264
الصبح وقال ابن عباس يعنى الصلوات الخمس.
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أى ينكرون القرآن بِغَيْرِ سُلْطانٍ أى حجة أَتاهُمْ من اللّه تعالى إِنْ فِي صُدُورِهِمْ كنى بالصدر القلب لكونه موضعه أى ما فى قلوبهم إِلَّا كِبْرٌ قال ابن عباس أى ما يحملهم على تكذيبك الا ما فى صدورهم من الكبر والعظمة يعنى يتكبرون عليك ويتعظمون أنفسهم عن اتباعك ما هُمْ بِبالِغِيهِ قال مجاهد ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لان اللّه عزّ وجلّ يذلهم وقال ابن قتيبة ان فى صدورهم الا تكبر على محمد وطمع فى ان يغلبوه وما هم ببالغي ذلك الكبر فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لاقوالكم وأفعالكم تعليل للاستعاذة.(1/5763)
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فمن قدر على خلقها مع عظمها اوّلا من غير اصل قدر على خلق الناس ثانيا من اصل وهو ازاحة لاشكال ما يجادلون فيه مما نطق به القرآن من امر البعث وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) لانهم لا ينظرون ولا يتاملون لفرط غفلتهم واتباع اهوائهم وتقليد ابائهم - واخرج ابن أبى حاتم عن أبى العالية قال جاءت اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكروا الدجال فقالوا يكون منافى اخر الزمان فعظموا امره وقالوا يصنع كذا وكذا فانزل اللّه تعالى انّ الّذين يجادلون فى آيات اللّه بغير سلطان أتاهم ان فى صدورهم الّا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ باللّه فامر نبيه ان يتعوذ من فتنة الدجال لخلق السّموت والأرض اكبر من خلق النّاس قال أى من خلق الدجال - واخرج عن كعب الأحبار قوله انّ الّذين يجادلون فى آيات اللّه بغير سلطان قال هم اليهود نزلت فيما ينتظرونه من امر الدجال عن عمران بن حصين قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة امر اكبر من الدجال - رواه مسلم وعن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه لا يخفى عليكم ان اللّه ليس باعور وان مسيح الدجال اعور عين اليمنى كانّ عينه عنبة طافية. متفق عليه وعن انس
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 265(1/5764)
قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من نبى الا قد انذر أمته الأعور الكذاب الا انه اعور وان ربكم ليس باعور مكتوب بين عينيه ك ف ر - متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبى قومه انه اعور وانه يجئ معه مثل الجنة والنار فالتى يقول انها الجنة هى النار وانى أنذركم كما انذر به نوح قومه - متفق عليه وعن حذيفة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان الدجال يخرج وان معه ماء ونارا فاما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق واما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب فمن أدرك ذلك منكم فليقع فى الذي يراه نارا فانه ماء بارد طيب - متفق عليه وزاد مسلم وان الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجال اعور العين اليسرى جعد الشعر « يعنى درشت وژوليده مو - منه ره » معه جنته وناره فناره جنة وجنته نار رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجال فقال ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه واللّه خليفتى على كل مسلم انه شابّ قطط عينه طافية « 1 » « شديد الجعودة - منه ره » كانى أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرا عليه فواتح سورة الكهف فانها جواركم من فتنته انه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا « اى مفسد - منه ره » وعاث شمالا يا عباد اللّه فاثبتوا - قلنا يا رسول اللّه وما لبثه فى الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهو ويوم كجمعة وسائر أيامه كايامكم قلنا فذلك اليوم الذي كسنة أ يكفينا فيه صلوة يوم قال لا اقدر وله قدره - الحديث بطوله رواه مسلم - وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فيلقاه المسالح مسالح « 2 » (1/5765)
الدجال فيقولون له اين تعمد فيقول اعمد إلى هذا الذي خرج قال فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول ما بربنا خفاء فيقولون اقتلوه فيقول بعضهم لبعض ا ليس قد نهاكم ربكم ان تقتلوا أحدا دونه
_________
(1) طافية هى الحبة التي قد خرجت من حد أخواتها فارتفعت عليها وقيل أراد حبة الطافية على الماء - منه رح
(2) مسالح جمع مسلح وهو القوم الذين يحفظون الثغور من العدو سموا مسلحة لانهم يكونون ذو سلاح - منه رح
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 266(1/5766)
فينطلقون به إلى الدجال فإذا راه المؤمن قال يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فيأمر الدجال به فيشبح فيقول خذوه وشجوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا قال فيقول اما تؤمن بي فيقول المسيح الكذاب قال فيؤمر به فيوشر بالميشار « اى يقطع منه ما يقطع به الخشب - منه ره » من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال ثم يمشى الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوى قائما ثم يقول له أ تؤمن بي فيقول ما ازددت فيك الا بصيرة قال ثم يقول يا أيها الناس انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس قال فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا قال فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس انما قذفه إلى النار وانما القى إلى الجنة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين - رواه مسلم وعن انس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون الفا عليهم الطيالسة رواه مسلم وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتى الدجال وهو محرّم عليه ان يدخل نقاب المدينة فينزل بعض السباخ التي تلى المدينة فيخرج إليه رجل وهو خير الناس أو من خيار الناس فيقول اشهد انّك الدجال الذي حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقول الدجال ارايتم ان قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون فى الأمر فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول واللّه ما كنت فيك أشد بصيرة منى اليوم فيريد الدجال ان يقتله فلا يسلط عليه - متفق عليه وعن أبى بكرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال لما يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان - متفق عليه - وعن أبى بكر الصديق قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الدجال يخرج من ارض بالمشرق يقال له خراسان يتبعه أقوام كان وجوههم المجان المطرقة - « اى سيرها دومة منه ره » رواه الترمذي وعن(1/5767)
اسماء بنت يزيد بن السكن قالت قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يمكث الدجال فى الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة فى النار - رواه البغوي فى شرح السنة والمعالم وعن أبى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 267
سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتبع الدجال من أمتي (لعل المراد بالامة أمة الدعوة) سبعون الفا عليهم التيجان - رواه البغوي فى شرح السنة والمعالم قال البغوي ويرويه أبو امامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ويتبع الدجال يومئذ سبعون الف يهودى كلهم ذو تاج وسيف محلى.(1/5768)
و عن اسماء بنت يزيد الانصارية قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بيتي فذكر الدجال فقال ان بين يديه ثلاث سنين سنة تمسك السماء فيها ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها والثانية تمسك السماء ثلثى قطرها والأرض ثلثى نباتها والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله فلا تبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم الا هلك وان من أشد فتنته ان يأتى اعرابيّا فيقول ارايت ان أحييت لك إبلك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيمثل له الشياطين نحو ابله كاحسن ما يكون ضروعا وأعظمه اسنمة قال ويأتى الرجل قد مات اخوه ومات أبوه فيقول ارايت ان أحييت لك أباك وأخاك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيمثل له الشياطين نحو أبيه ونحو أخيه قالت ثم خرج رسول اللّه لحاجته ثم رجع والقوم فى اهتمام وغم ممّا حدثهم قالت فاخذ بلحمتى الباب فقال مهيم اسماء قلت يا رسول اللّه لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال ان يخرج وانا حى فانا حجيجه والا فان ربى خليفتى على كل مؤمن فقلت يا رسول اللّه انا لنعجن عجينا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ قال تجزئهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح - رواه احمد والبغوي فى المعالم وعن المغيرة بن شعبة قال ما سال أحد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الدجال اكثر مما سالته وانه قال لى ما يضرك قلت انهم يقولون ان معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على اللّه من ذلك متفق عليه - ولمّا قال اللّه سبحانه ولكنّ اكثر الناس لا يعلمون نبه على ان الجاهل كالاعمى
و العالم كالبصير فقال.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ الجاهل والعالم والمحسن والمسيء فلا بد ان يكون لهم محل يظهر فيه تفاوتهما ولا تفاوت لهما فى الدنيا فهو ما بعد الموت والبعث وزيادة لا فى المسيء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 268(1/5769)
لان المقصود نفى مساواته للمحسن فيما له من الثواب والكرامة - والعاطف الثاني عطف الموصول مع ما عطف عليه على الأعمى والبصير لتغائر الوصفين فى المقصود أو الدلالة بالصراحة والتمثيل قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) أى تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تتذكرون قرأ الكوفيون بالتاء الفوقانية على تغليب المخاطب أو الالتفات أو امر الرسول بالمخاطبة والباقون بالتحتانية لان أول الآيات وآخرها خبر عن قوم غيب والضمير للناس أو الكفار.
إِنَّ السَّاعَةَ أى القيامة لَآتِيَةٌ حتى يظهر تفاوت المحسن والمسيء لا رَيْبَ فِيها أى فى إتيانها بناء على استحالة خلف ما اخبر اللّه به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) بها ولا يصدقون وعد اللّه لغفلتهم وشقاوتهم وقصور نظرهم على المحسوسات - .(1/5770)
وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي قرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها قيل معناه اعبدوني دون غيرى ولمّا عبر عن العبادة بالدعاء قال موضع اثيبكم أَسْتَجِبْ لَكُمْ والقرينة على ان المراد بالدعاء العبادة وبالاستجابة الاثابة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) أى ذليلين قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو بكر « و رويس - أبو محمد بخلاف عنه أبو محمد » سيدخلون بضم الياء وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء والظاهر ان المراد بالدعاء والعبادة كليهما السؤال فان سوال كل ما يحتاج المرء إليه وعدم التوجه إلى غيره تعالى فى شىء من الأمور كمال العبودية والافتقار والاعتراف بصمديته تعالى عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسئل أحدكم ربه حاجاته كلها حتى يسئل شسع نعله إذا انقطع - رواه الترمذي وزاد فى رواية عن ثابت البناني مرسلا حتى يسئل الملح وحتى يسئل شسعه إذا انقطع - عن النعمان بن بشير قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الدعاء هو العبادة ثم قرأ ادعوني استجب لكم انّ الّذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنّم داخرين - رواه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة فى مسانيدهم وقال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه ابن أبى شيبة فى المصنف والحاكم فى المستدرك فى صحيحه وابن حران فى صحيحه عنه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 269(1/5771)
انه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول على المنبر فذكر الحديث - أورد النبي صلى اللّه عليه وسلم ضمير الفصل والخبر معرفا باللام ويقصد فى أمثال ذلك حصر المسند على المسند إليه كما فى قوله تعالى انّ اللّه هو الرّزّاق أى لا رازق سواه وقد يقصد قصر المسند إليه على المسند كما فى قوله الكرم هو التقوى والحسب هو الايمان يعنى لا كرم الا التقوى ولا حسب الا الايمان وهاهنا يحتمل المعنيين والحصر انما هو على سبيل المبالغة ولعل المراد هاهنا ان الدعاء والعبادة متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار والمفهوم فان كل دعاء وسوال فهو عبادة وطاعة لان فى السؤال ذلّ وافتقار والعبودية فى اللغة اظهار التذلل والافتقار والعبادة ابلغ منها لانها غاية التذلل ولذا لا يستحقه الا اللّه تعالى وقضى ربّك الّا تعبدوا الّا ايّاه وكل عبادة وطاعة فهو سوال حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكثر دعائى ودعاء الأنبياء قبلى بعرفات لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير - رواه ابن أبى شيبة فى المصنف وقال اللّه تعالى واخر دعويهم ان الحمد للّه ربّ العالمين قال الجزر كافى النهاية انما سمى التهليل والتحميد دعاء لأنه بمنزلته فى استيجاب ثواب اللّه وجزائه كالحديث الاخر إذ اشغل عبدى ثناءه علىّ عن مسئلتى أعطيته أفضل ما اعطى السائلين - وروى الترمذي ومسلم من شغله القرآن وذكرى عن مسئلتى أعطيته أفضل ما اعطى السائلين - وفى رواية من شغله القرآن وذكرى عن مسئلتى - الحديث - اعلم ان الدعاء منه ما هو فريضة وهو قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فى الفاتحة فى الصلاة أو سنة مؤكدة كالدعاء فى القعدة الاخيرة ومواقف الحج وغير ذلك ومنه ما هو حرام أو مكروه وهو قصر السؤال على لذات الدنيا وسوال ما هو معصية وسوال ما هو مستحيل أو ما فى معناه قال اللّه تعالى فَمِنَ(1/5772)
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وقال اللّه تعالى وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ واما سوال كل امر يحتاج إليه العبد فى الدنيا والاخرة والاستعاذة من كل شر فمامور به مستحب بإجماع العلماء وذهب طائفة من الزهاد إلى انّ ترك الدعاء أفضل إسلاما للقضاء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 270
و قال طائفة ان دعا للمسلمين فحسن وان خص نفسه فلا والحجة لنا الكتاب والسنة والإجماع عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس شىء أكرم على اللّه من الدعاء - رواه الترمذي وقال حسن غريب وابن ماجة والحاكم وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدعاء مخ العبادة - رواه الترمذي وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلوا اللّه من فضله فان(1/5773)
اللّه يحب ان يسئل وأفضل العبادة انتظار الفرج - رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لم يسئل اللّه يغضب عليه - رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وقال الترمذي حديث غريب والمراد من هذه الأحاديث انه من لم يسئل اللّه تعالى استكبارا غضب عليه حيث قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تعجزوا فى الدعاء فانه لن يهلك مع الدعاء أحد - رواه ابن حبان والحاكم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض - رواه الحاكم فى المستدرك وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل اللّه شيئا احبّ إليه من ان يسئل العافية - رواه الترمذي ورواه الحاكم فى المستدرك فتحت له أبواب الجنة - فصل فيما وعد عن الاستجابة لمن يدعو اللّه منها هذا الحديث عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فتح له فلكم باب الدعاء فتحت له أبواب الاجابة - رواه ابن أبى شيبة وعن سلمان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ربكم حيى كريم يستحيى من عبده إذا رفع يديه إليه ان يردهما صفرا - رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي فى الدعوات الكبير وعن أبى سعيد الخدري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم الا أعطاه اللّه إياه بها احدى ثلاث اما ان يعجل له دعوته واما ان يدخرها له فى الاخرة واما ان يصرف عنه من السوء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 271(1/5774)
مثلها قالوا إذا نكثر قال اللّه اكثر - رواه احمد وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل يا رسول ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم ار يستجاب لى فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء - رواه مسلم وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد اللّه بالدعاء - رواه الترمذي ورواه احمد عن معاذ بن جبل وعن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من أحد يدعو بدعاء الا أتاه اللّه ما سال أو كفّ عنه من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم - رواه الترمذي - (فصل) فيمن لا يرد دعوته عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة لا يرد دعوتهم الصائم حين يفطر والامام العادل ودعوة المظلوم برفعها إليه فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ وعزتى لا نصرنك ولو بعد حين - رواه الترمذي وعن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعوة المرء المسلم لاخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك مؤكل كلّما دعا لاخيه بخير قال الملك المؤكل به أمين ولك بمثله - رواه مسلم وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خمس دعوات تستجاب لهن دعوة المظلوم حتى ينتصر ودعوة الحاج حتى يصدر ودعوة المريض حتى يبرأ ودعوة الأخ لاخيه بظهر الغيب ثم قال واسرع الدعوات اجابة دعوة الأخ بظهر الغيب - رواه البيهقي فى دعوات الكبير وعن عبد اللّه بن عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اسرع الدعاء اجابة دعوة غائب لغائب - رواه الترمذي وأبو داود - (فصل) فى شرائط الاستجابة للدعاء منها تجنب الحرام فى(1/5775)
المأكل والمشرب والمكسوب عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الرجل يطيل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 272
السفر اشعث اغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فانى يستجاب لذلك - رواه مسلم وفيها حضور القلب عند الدعاء عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى(1/5776)
اللّه عليه وسلم ادعو اللّه وأنتم موقنون بالاجابة واعلموا ان اللّه لا يستجيب دعاء من قلب لاه - رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب ومنها الجد فى الدعاء عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لى ان شئت ولكن ليعزم وليعظم الرغبة فان اللّه لا يتعاظمه شىء أعطاه - رواه مسلم - (فصل) فى سنن الدعاء وآدابه عن فضالة بن عبيد قال بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال اللهم اغفر لى وارحمني فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عجلت أيها المصلى إذا صليت فقعدت فاحمد اللّه بما هو اهله وصل علىّ ثم ادعه قال ثم صلى رجل اخر بعد ذلك فحمد اللّه وصلى على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه أيها المصلى ادع تجب - رواه الترمذي وروى أبو داود والنسائي نحوه وعن ابن مسعود قال كنت أصلي (و النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه فلمّا جلست بدأت بالثناء على اللّه ثم الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم دعوت لنفسى فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم سل تعطه - رواه الترمذي وعن عمر بن الخطاب قال ان الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شىء حتى تصلى على نبيك - رواه الترمذي وعن مالك بن يسار قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سالتم اللّه فاسئلوه ببطون أكفكم ولا تسئلوه بظهورها - وفى رواية ابن عباس سلوا اللّه ببطون أكفكم ولا تسئلوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم - رواه أبو داود وعن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رفع يديه فى الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه - رواه الترمذي وعن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوا ذلك - رواه أبو داود وعن انس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض ابطيه - وعن(1/5777)
السائب بن يزيد عن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 273
أبيه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا دعا رفع يديه مسح وجهه بيديه - رواه البيهقي فى الدعوات الكبير وعن عكرمة عن ابن عباس قال المسألة ان ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما - رواه أبو داود وعن ابن عمر انه يقول ان رفعكم ايديكم بدعة ما زاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على هذا يعنى إلى الصدر. رواه احمد وعن أبى بن كعب قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعاه بدأ بنفسه - رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب صحيح ..
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أى لتستريحوا فيه بالنوم وَالنَّهارَ مُبْصِراً أى يبصر فيه واسناد الابصار إليه مجازى مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم وعظم الفضل وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم يعنى انهم هم الذين يكفرون ولا يشكرون كقوله انّ الإنسان لظلوم كفّار وجملة اللّه الّذى جعل لكم متصل بقوله هو الّذى يريكم آياته واللّه مبتدا والموصول خبره أو خبر مبتدا محذوف والموصول صفة له.
ذلِكُمُ المخصوص بتلك الافعال المقتضية للالوهية والربوبية مبتدا اللَّهُ لا غيره رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ من الجواهر والاعراض وافعال العباد لا إِلهَ أى لا تستحق العبادة أحد إِلَّا هُوَ إذ ليس أحد غيره موص وفا بشئ من الصفات المقتضية للالوهية المستوجبة للعبادة فَأَنَّى فكيف تُؤْفَكُونَ (62) تصرفون من عبادته إلى عبادة غيره الاربعة كلها اخبار مترادفة.(1/5778)
كَذلِكَ أى كما افك كفار مكة يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ « 1 » اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أى مستقرا وَالسَّماءَ بِناءً سقفا فوقكم استدلال ثان بافعال اخر مختصة به تعالى وَصَوَّرَكُمْ أيها الناس فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ يعنى خلقكم منتصب القامة بادى البشرة متناسب الأعضاء متهيّأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات قال ابن عباس خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويتناول بيده وغيره
_________
(1) وفى الأصل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 274
يتناول بفيه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى الاطعمة اللذيذة الله مبتدا والموصول خبره أو خبر مبتدا محذوف يعنى هو والموصول صفة والجملة مقررة للجملة السابقة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) فان كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معترض للزوال.(1/5779)
هُوَ الْحَيُّ المتفرد بالحياة الذاتية الذي يقتضى ذاته وجوده الوجوب والوجود وان كانا صفتى كمال لكنها ظلان من ظلال ذاته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثان لهو أى لا يستحق العبادة الا من كان لهذا شأنه ولا شىء كذلك الا هو فَادْعُوهُ أى فاعبدوه واسئلوا منه حوائجكم الفاء للسببية فان ما ذكر من الصفات موجبات لعبادته مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى الطاعة من الشرك والرياء الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قيل معناه قائلين ذلك وقال الفراء هو خبر وفيه إضمار الأمر مجازه فادعوه وقولوا الحمد للّه ربّ العلمين وروى عن مجاهد عن ابن عباس قال من قال لا اله الّا اللّه فليقل على اثره الحمد للّه ربّ العالمين فذلك قوله عز وجل فادعوه مخلصين له الدّين الحمد للّه ربّ العالمين واللّه اعلم - أخرج جويبر عن ابن عباس ان الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالوا يا محمد ارجع عما تقول وعليك بدين ابائك وأجدادك فانزل اللّه تعالى.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي أى من الحجج والآيات فانها مقويّة لادلة عقلية منهية عنها وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) أى انقاد له وأخلص له دينى.(1/5780)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أى أطفالا والتوحيد لارادة الجنس أو على تاويل كل واحد منكم ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اللام متعلق بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا فى قوله ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ويجوز عطفه على لتبلغوا قرأ نافع وأبو عمر وحفص وهشام « و أبو جعفر ويعقوب وخلف أبو محمد » بضم الشين والباقون بكسرها وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أى قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد وَلِتَبْلُغُوا أى ويفعل ذلك لتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى أى وقتا معينا لا يجاوزونه يريد أجل الحيوة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 275
الى الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) أى لتعقلوا ما فى ذلك من الحجج والعبر.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى « 1 » أى أراد أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أى لا يحتاج فى تكوينه تجشم كلفة الفاء الاولى للدلالة على ان ذلك نتيجة ما سبق من حيث انه يقتضى قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد ..
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعنى يقولون انها ليست من عند اللّه أو يتولون خلاف سبيل الرسول والمؤمنين الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات وتقرير وفيه تعجيب أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) كيف صرفوا عن الحق استفهام للتوبيخ وتكرير ذم المجادلة للتاكيد أو لتعدد المجادل أو المجادل فيه روى عن محمد بن سيرين ان الاولى كانت فى المشركين وهذه الآية نزلت فى القدرية.(1/5781)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الشرائع بدل من الّذين يجادلون فان كان المراد به القدرية مجوس هذه الامة فهم يكذبون ما تبت بالكتاب والسنة من كون اللّه سبحانه خالقا للاشياء كلها من الخير والشر والجواهر والاعراض قادرا على كل شىء يغفر لمن يشاء ما يشاء من الصغائر والكبائر ويعذب من يشاء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يجب عليه شىء لا يسئل عمّا يفعل وهم يسئلون وينكرون الصراط والميزان والشفاعة وغير ذلك - وجاز ان يكون الّذين كذّبوا مبتدا فيه معنى الشرط وخبره فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ بالرفع عطف على الاغلال أو مبتدا خبره يُسْحَبُونَ (71) أى يجرون.
فِي الْحَمِيمِ والعائد محذوف أى يسحبون بها وهو على الأول حال واخرج ابن أبى حاتم من طريق أبى الجوزاء عن ابن عباس انه قرأ والسّلسل بالنصب على المفعولية ويسحبون بفتح الياء على البناء للفاعل قال وذلك أشد عليهم وهم يسحبون السّلاسل ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) أى يحرقون من شجر التّنور إذ املاه بالوقود وقال مقاتل وقد بهم النار وقال مجاهد يصيرون وقود النار والمراد تعذيبهم بانواع العذاب ينقلون من
_________
(1) وفى الأصل وإذا قضى 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 276
بعضها إلى بعض تارة بالحميم واخرى بالنار - أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن أبى حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية إلى قوله يسجرون فقال لو ان رصاصة مثل هذه (و أشار إلى جمجمة) أرسلت من السماء إلى الأرض وهى مسيرة خمس مائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو انها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل ان يبلغ أصلها أو قعرها - .(1/5782)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى الأصنام قالُوا ضَلُّوا أى غابوا عنّا فلا نراهم وذلك قبل ان يقرن بهم التهم أو المعنى ضاعوا عنا فلم نجد منهم ما كنا نتوقع منهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً قيل هذا انكار للاشراك مثل قولهم واللّه ربّنا ما كنّا مشركين وقيل معناه لم نكن نّدعوا من قبل شيئا ينفعنا أو يدفع عنا المكروه وقال الحسن بن الفضل أى لم نصنع من قبل شيئا أى ضاعت عبادتنا كما يقول من ضاع عمله ما كنت اعمل شيئا كَذلِكَ أى اضلالا مثل إضلال هؤلاء المشركين أو مثل إضلال القدرية يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) أجمعين حتى لا يهتدوا إلى شىء ينفعهم.
ذلِكُمْ الإضلال بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أى تبطرون وتتكبرون بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والطغيان وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) أى تتوسعون فى الفرح والعدول إلى الخطاب للمبالغة فى التوبيخ.
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة المقسومة لكم خالِدِينَ مقدرين الخلود فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) عن الحق جهنم وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى ..
فَاصْبِرْ يا محمد على إيذاء المشركين إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك وإهلاك الكافرين حَقٌّ كائن لا محالة فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ان شرطية أدغمت فى ما الزائدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من القتل والأسر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ان نريهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) يوم القيامة فنجازيهم على أعمالهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 277(1/5783)
و هو جواب نتوفّينّك وجواب نرينّك محذوف مثل فذلك وجاز ان يكون هذا جوابا لهما بمعنى ان نعذبهم فى حياتك أو لم نعذبهم فانا نعذبهم فى الاخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع فى هذا المعرض.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا التنوين للتكثير والتعظيم مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أخرج احمد وابن راهويه فى مسنديهما وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى المستدرك من حديث أبى لبابة ان النبي صلى اللّه عليه سئل عن عدد الأنبياء فقال مائة الف واربعة وعشرون الفا فقيل فكم الرسل منهم قال ثلاث مائة وثلاثة عشر جمّا غفيرا واخرج ابن حبان من حديث أبى ذر نحوه والمذكور فى القرآن سبعة وعشرون وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ أى معجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أى بامره وإرادته ليس لهم اختيار فى إتيان بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قضاؤه بين الأنبياء والأمم قُضِيَ بِالْحَقِّ أى بنصر الأنبياء والمؤمنين وتعذيب الكفار وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الكفار المعاندون باقتراح الآيات بغير ظهور الحق بالمعجزات ..
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) فان من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب وهو الإبل والبقر الجملة متصله بقوله هو الّذى يحيى ويميت.(1/5784)
وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ فى أصوافها واوبارها واشعارها وألبانها وجلودها وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالمسافرة عليها عطف على قوله لتركبوا منها وَعَلَيْها فى البر وَعَلَى الْفُلْكِ فى البحر تُحْمَلُونَ (80) وانما قال على الفلك ولم يقل فى الفلك مزاوجة وتغير النظم فى الاكل لأنه فى حيز الضرورة إذ يقصد به التعيش والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد يكون لاغراض دينية واجبة أو مندوبة أو للفرق بين العين والمنفعة.
يُرِيكُمْ آياتِهِ
الدالة على وجوده وكمال قدرته وفرط رحمته أَيَ
اية من اتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
(81) استفهام للانكار على الإنكار فانها لكثرتها ولظهورها لا تقبل للانكار وهو ناصب اىّ ..
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 278
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا تقديره الم يخرجوا فلم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ أى ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوها فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) يعنى فلم ينفعهم ذلك ما الاولى نافية أو استفهامية للانكار منصوبة باغنى والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة بها.(1/5785)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ عطف على ما اغنى رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والآيات الواضحات فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ واستحقروا علم الرسل والمراد بالعلم ما يزعمونه علما نافعا وهو فى الحقيقة اما جهل مركب كقول اليونانيين وغيرهم من الكفار فى الإلهيات وبعض الطبيعيات والرياضيات وكقول كفار مكة لن نبعث ولن نعذب كذا قال مجاهد وكقول اليهود والنصارى لن يّدخل الجنّة الّا من كان هودا أو نصرى واما علم متعلق بامور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها قال اللّه تعالى يعلمون ظاهرا من الحيوة الدّنيا وهم عن الاخرة هم غفلون فلمّا جاءتهم رسلهم معلوم الديانات وهى ابعد شىء من علمهم لبنائها على الإجمال فى طلب الدنيا وترك اتباع الشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها واستهزءوا بهم واعتقدوا ان علمهم انفع واجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به واما علم بأشياء لا ينفعهم فى الاخرة كعلم الطبيعي والرياضي والنجوم والسحر والشعبدة لاهل اليونان والهند وغيرهم - روى ان أفلاطون سأل عيسى بن مريم عليه السلام امتحانا لنبوته فقال ان كانت السماوات قسيّا والحوادث سهاما والإنسان هدفا والرامي هو اللّه فاين المفر فاجاب عيسى عليه السلام ففرّوا إلى اللّه فحينئذ أيقن أفلاطون بنبوته لكن قال انما الأنبياء لاجل الناقصين ونحن كاملون لا حاجة لنا إلى الرسل وعن سقراط انه سمع موسى عليه السلام وقيل له لو هاجرت إليه فقال نحن قوم مهتدون لا حاجة لنا بمن يهدينا - وقيل معناه فرحوا أى ضحكوا استهزاء بما عندهم أى عند الأنبياء من العلم ويؤيده قوله تعالى وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 279(1/5786)
و قيل ضمير فرحوا راجع إلى الرسل يعنى لمّا راى الأنبياء تمادى جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من اللّه العلم وشكروا اللّه تعالى عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
فَلَمَّا رَأَوْا أى الكفار بَأْسَنا أى شدة عذابنا عند الموت قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) أى تبرأنا مما كنا نعبد من الأصنام.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ هذا اما من باب تنازع العاملين واعمال أحدهما والإضمار فى الثاني أو يكون اسم يك ضمير الشان مستترا فيه أو يكون يك تامة وينفعهم بتقدير ان فاعل له فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أى عذابنا لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال لم يك بمعنى لم يصح ولم يستقم سُنَّتَ اللَّهِ منصوب على المصدرية من فعل محذوف للتأكيد أى سن اللّه ذلك سنة ماضية فى العباد ان الايمان عند نزول العذاب لا ينفع وان العذاب نازل على مكذبى الرسل وقيل منصوب بنزع الخافض كسنة اللّه وقيل على الإغراء أى احذروا سنة اللّه الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ أى وقت رؤيتهم البأس الْكافِرُونَ (85) بذهاب الدارين قال الزجاج الكافر خاسر فى كل وقت ولكن يتبين لهم خسرانهم إذا رأووا العذاب - تم تفسير سورة المؤمن من التفسير المظهرى الثامن والعشرين من ذى الحجة من السنة السابعة سنة 1207 ه - بعد الف ومائتين ويتلوه ان شاء اللّه تعالى تفسير سورة فصلت بعون اللّه تعالى والحمد للّه ربّ العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 280
سورة فصّلت (حم السّجدة)
مكّيّة وهى اربع وخمسون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) ان جعلته مبتدا فخبره.(1/5787)
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) وان جعلته تعديد الحروف فتنزيل خبر محذوف وقال الأخفش تنزيل مبتدا لتخصيصه بالصفة وخبره.
كِتابٌ وهو على الأولين بدل منه أو خبر اخر أو خبر محذوف ولعل افتتاح هذه السور السبع بحم وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة فى النظم والمعنى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطيت طه والطواسين والحواميم من الواح موسى رواه الحاكم فى المستدرك والبيهقي عن معقل بن يسار واضافة التنزيل الرحمان الرحيم للدلالة على انه مناط المصالح الدينية والدنيوية فُصِّلَتْ آياتُهُ أى بينت بالاحكام والقصص والمواعظ قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح أو الحال من لضمير المجرور فى آياته فانه أضيف إليه فاعل فصلت مثل ميتا فى قوله تعالى يأكل لحم أخيه ميتا وفيه امتنان عليهم بسهولة قرائته وفهمه فانه لو كان بغير لغتهم لما فهموه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) نزل منزلة اللازم أى لقوم ذوى علم ونظر لا لمن اعرض عنها أو يقال مفعوله محذوف منوى أى لقوم يعلمون معانيه ويفهونه أو يكون على طريقة من يسمع يخل بتقدير مفعوليه أى لقوم يعلمونه حقا والجملة صفة اخرى لقرءانا أو صلة لتنزيل أو لفصلت والاول اولى لوقوعه بين الصفات.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 281
بَشِيراً لاولياء اللّه وَنَذِيراً لاعدائه فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره وقبوله عطف على فصلت فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) أى لا يستمعون تعنتا وعنادا أو لا يقبلون يقال شفعت إلى فلان فلم يسمع قولى يعنى لم يقبل والجملة بيان للاعراض. « 1 » .(1/5788)
وَ قالُوا يعنى مشركى مكة عطف على اعراض قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ اغطية جمع كنان مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد فلا نفقه ما تقول وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ثقل وصمم لا نسمع ما تقول والمعنى انا فى ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ خلاف فى الدين يمنعنا عن التواصل وللدلالة على ان الحجاب مبتدا منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ أصلا - وهذه تمثيلات لامتناع القبول والمواصلة والمعنى انا فى ترك القبول والتواصل منك بمنزلة من بينهما حاجز قوى فَاعْمَلْ على دينك أو فى ابطال أمرنا إِنَّنا عامِلُونَ (5) على ديننا أو فى ابطال أمرك.
قُلْ يا محمد فى جوابهم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ قال الحسن علمه اللّه التواضع يعنى ما انا الا واحد منكم لو لا الوحى لم يكن عندى من العلم ما ترونه ولكن اوحى الىّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فعليكم باصغائه وتلقيه أو المعنى لست بملك ولا جنى لا يمكنكم التلقي منه ولا أد عوكم إلى ما يابى عنه العقول بل أدعوكم إلى التوحيد الذي يدل عليه العقل
_________
((1/5789)
1) عن عمر بن الخطاب قال اقبل قريش إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما يمنعكم من الإسلام فتسور والعرب قالوا يا محمد ما نفقه ما تقول ولا نسمعه وان على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوبا جما بينه وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال يا محمد قلوبنا فى اكنة ممّا تدعونا إليه وفى اذننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أدعوكم إلى خصلتين ان تشهدوا ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانى رسول اللّه فلما سمعوا شهادة ان لا اله الا اللّه ولّوا على ادبارهم نفورا وقالوا ا جعل الالهة الها واحدا انّ هذا الشيء عجاب وقال بعضهم لبعض امشوا واصبروا على الهتكم انّ هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا فى الملّة الاخرة ان هذا الّا اختلاق أنزل عليه الذّكر من بيننا وهبط جبرئيل فقال يا محمد ان اللّه يقرأك السلام ا ليس يزعم هؤلاء ان على قلوبهم أكنّة ان يفقهوه وفى آذانهم وقرا فليس يسمعون قولك كيف وإذا ذكرت ربّك فى القرآن وحده ولّوا على ادبارهم نفورا لو كان كما زعموا لم ينفروا ولكنهم كاذبون يسمعون ولا ينتفعون بذلك كراهة له - فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد اعرض عليهم الإسلام اسلموا من آخرهم فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال الحمد للّه بالأمس تزعمون ان قلوبكم فى اكنة مما ندعوكم إليه وفى اذنكم وقر أصبحتم اليوم مسلمين فقالوا يا رسول اللّه كذبنا بالأمس لو كان كذلك ما اهتدينا ابدا ولكن اللّه الصادق والعباد كاذبون عليه وهو الغنى ونحن الفقراء إليه 12 منه برد اللّه مضجعه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 282(1/5790)
و النقل فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أى توجهوا إلى اللّه بالطاعة ولا تميلوا عن طاعته وَاسْتَغْفِرُوهُ مما أنتم عليه من الشرك وسوء الأعمال ثم هددهم على ذلك بقوله وَوَيْلٌ كلمة عذاب مبتدا خبره لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال ابن عباس الذين لا يقولون لا اله الا اللّه وهى زكوة الأنفس والمعنى لا يطهرون أنفسهم عن الشرك بالتوحيد وقال الحسن وقتادة لا يقرون بالزكاة ولا يرونه واجبا وكان يقال الزكوة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخالف عنها هلك وقال مقاتل والضحاك لا ينفقون فى الطاعة ولا يتصدقون وقال مجاهد لا يزكون أعمالهم قال البيضاوي فيه دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع وقد ذكرنا هذه المسألة فى تفسير سورة المدثر فى قوله تعالى لم نك من المصلّين الآية .
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) حال مشعر بان امتناعهم من الزكوة مبنى على انكارهم للاخرة فان من لم يعتقد بالاخرة وثواب الزكوة فيها اعتقد إعطاء المال للفقير اضاعة لا محالة جعل اللّه سبحانه منع الزكوة مقرونا بالاشراك والكفر بالاخرة لان المال أحب الأشياء إلى الأنفس فبذله فى سبيل اللّه أول دليل على إيمانه ففيه حث للمؤمنين على إيتاء الزكوة وتهديد شديد على منعه - .(1/5791)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قال ابن عباس غير مقطوع وقال مقاتل غير منقوص وقيل غير ممنون لى لا يمنّ به عليهم من المن وقال مجاهد غير محسوب وقال السدى نزلت الآية فى المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الاجر على حسب ما كانوا يعملون فى الصحة عن عبد اللّه عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك المؤكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه - رواه البغوي فى شرح السنة والتفسير وعن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا - رواه البخاري وعن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا ابتلى المسلم ببلاء فى جسده
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 283
قال للملك اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل فان شفاه غسله وطهّره وان قبضه غفر له ورحمه - رواه البغوي فى شرح السنة وعن ابن مسعود انه قال يكتب للعبد من الاجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل ان يمرض فمنعه منه المرض - رواه رزين - .
قُلْ أَإِنَّكُمْ استفهام توبيخ والجملة الاستفهامية مستأنفة فى جواب ما أقول لهم ان لم يستقيموا ولم يستغفروا لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أى فى مقدار يومين سميا بيوم الأحد والاثنين وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ولا يجوز له ند ذلِكَ الذي خلق الأرض فى يومين رَبُّ الْعالَمِينَ (9) أى خالق لجميع ما وجد من الممكنات ومربّ لها - جمع العالم (لاختلاف أنواعه) بالياء والنون تغليبا للعقلاء وجملة ذلك ربّ العالمين تعليل للتوبيخ.(1/5792)
وَ جَعَلَ فِيها أى فى الأرض رَواسِيَ جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها أى فوق الأرض مرتفعة ليظهر للناظرين ما فيها من وجوه الاستبصار ويكون منافعها معرضة للطلاب وَبارَكَ فِيها أى فى الأرض بما خلق فيها من البحار والأنهار والثمار والأشجار والحيوانات وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أى أقوات أهلها أو الاضافة لادنى ملابسة أى أقوات خلق فيها قال الحسن قسم فى الأرض أرزاق العباد والبهائم بان عيّن لكل ما يصلحه ويعيش به وقد قرأ ابن مسعود وقسّم فيها أقواتها وقال عكرمة والضحاك قدر فى كل بلد ما لم يجعل فى الاخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد قال الكلبي قدر الخبز لاهل قطر والذرة لاهل قطر والسمك لاهل قطر والتمر لاهل قطر فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أى فى تتمة اربعة ايام يعنى فى يومين يوم الثلثاء والأربعاء متصلين باليومين الأولين فهو كقولك سرت من البصرة إلى بغداد فى عشرة والى كوفة فى خمسة عشر ولم يقل فى يومين للاشعار باتصالهما باليومين الأولين سَواءً بالنصب أى استوت سواء بمعنى استواء أو قدر تقديرا سواء والجملة صفة ايام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر صفة لاربعة وقيل حال من الضمير فى أقواتها أو فى فيها وقرأ أبو جعفر سواء بالرفع على انه خبر محذوف أى هو
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 284
لِلسَّائِلِينَ (10) متعلق بمحذوف أى هذا الحصر مبين للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها كذا قال قتادة والسدىّ أو بقدّر أى قدّر فيها الأقوات للطالبين لها - .(1/5793)
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أى قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوى على غيره والظاهر ان ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخى فى المرة لقوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فان دحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها وَهِيَ دُخانٌ لعله أراد مادتها والاجزاء المتصغرة التي ركبت منها وكان مادة السماء دخانا بخارا للماء كذا قال البغوي فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة أو ليأت كل منكما فى حدوث ما أريد توليده منكما - قال طاءوس عن ابن عباس أى أعطيا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد وقال ابن عباس قال اللّه عزّ وجلّ اما أنت يا سماء فاطلعى شمسك وقمرك ونجومك وأنت يا ارض فشقى أنهارك واخرجى ثمارك ونباتك طَوْعاً أَوْ كَرْهاً منصوب على الحال أى طائعتين أو كارهتين أو على الظرف أى ايتيا وقت طوع أو كره أو على المصدر من طريق ضربته سوطا أى ايتيا إتيان طوع أو كره قال ابن عباس قال اللّه تعالى لهما افعلا ما أمرتكما والا الجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فاجابتا بالطوع وقالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) ولم يقل طائعتين لأنه ذهب به إلى السماوات والأرض ومن فيهن مجازه اتينا بما فينا طائعين فيه تغليب للعقلاء أو لما وصفهما بالقول اجراهما فى الجمع مجرى من يعقل والأظهر ان الكلام وارد مورد التمثيل وأراد بقوله ايتيا طوعا أو كرها اظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده وبقوله قالتا اتينا طائعين سرعة تأثرهما بالذات فهو تمثيل بامر المطاع واجابة المطيع الطائع كقوله كن فيكون ..
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أى فخلقهن خلقا ابداعيّا واتقن امرهن والضمير للسماء على المعنى أو مبهم وسبع سموات حال على الأول وتميز على الثاني
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 285(1/5794)
فِي يَوْمَيْنِ يوم الخميس والجمعة قال المحلى ففرغ منها فى اخر ساعة منه وفيها خلق آدم ولذلك لم يقل هاهنا سواء قلت لعل قول المحلى هذا مبنى على ما رواه مسلم من حديث أبى هريرة انه قال أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة فى اخر الخلق واخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل - والظاهر ان هذا الحديث وهم فيه الراوي فان الثابت بالقران خلق السماوات والأرض فى ستة ايام وذكر فى هذا الحديث سبعة ايام والصحيح ان بدء الخلق من يوم الأحد وهذا الحديث يدل على انه من يوم السبت ومنطوق هذه الآية ان اللّه خلق الجبال رواسى وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها فى يوم الثالث والرابع وهذا الحديث يدل على انه خلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين والظاهر من سياق قصة آدم عليه السلام ان خلق آدم كان بعد زمان طويل من خلق السماوات والأرض إذ قال ربّك للملائكة انّى جاعل فى الأرض خليفة الآيات وفى قصة خلق آدم تعجين طينه أربعين يوما فلو صح خلق آدم فى اخر ساعة من الجمعة فذلك الجمعة بدا الخلق واللّه اعلم وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال عطاء عن ابن عباس خلق فى كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار والجبال والبرد وما لا يعلم الا اللّه وقال قتادة والسدىّ يعنى خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وقال مقاتل اوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهى وقيل اوحى فى كل سماء الأمر الذي امر به من فيها من الطاعة وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أى كواكب وَحِفْظاً أى وحفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا وقيل مفعول له على المعنى كأنَّه قال وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا(1/5795)
ذلِكَ الذي ذكرت من صنعه تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ فى ملكه الْعَلِيمِ (12) بخلقه.
فَإِنْ أَعْرَضُوا عطف على قل ا ئنّكم يعنى ان اعرضوا أى كفار مكة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 286
عن الايمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً أى فحذرهم ان يصيبهم عذاب شديد مهلك والصاعقة المهلكة من كل شىء مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ يعنى عادا وثمود الرُّسُلُ جملة إذ جاءتهم الرّسل حال من صاعقة عاد ولا يجوز جعله صفة لصاعقة أو ظرفا لانذرتكم لفساد المعنى مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أى من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم فى الاخرة وكل من اللفظين يحتملهما - أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الايمان بهم أجمعين ويحتمل ان يكون عبارة عن الكثرة كقوله يأتيها رزقها رغدا من كلّ مكان أَلَّا تَعْبُدُوا ان مخففة من الثقيلة بإضمار ضمير الشأن أو مفسرة لأنه بعد ذكر الرسالة وفيه معنى القول أو مصدرية والباء مقدرة أى بان لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا أى عاد وثمود لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم كافِرُونَ (14) انما أنتم بشر مثلنا لافضل لكم علينا - روى البغوي عن جابر بن عبد اللّه قال قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا امر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكمانة والسحر فاتاه فكلمه ثم أتانا ببيان من امره فقال عتبة بن ربيعة واللّه لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علىّ ان كان كذلك فاتاه فلما خرج إليه قال أنت يا محمد خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد اللّه فبم تشتم الهتنا وتضلّل آباءنا فان(1/5796)
كنت انما تريد الرياسة عقدنا لك اولويتنا فكنت راسا ما بقيت وان كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من اىّ بنات قريش وان كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغنى أنت وعقبك من بعدك - ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساكت فلمّا فرغ قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسم اللّه الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم كتب فصّلت آياته قرءانا إلى قوله فان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 287(1/5797)
اعرضوا فقل أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد وثمود الآية فامسك عتبة على فيه فناشده بالرحم ورجع إلى اهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش واللّه ما نرى عتبة الا قد صبا إلى محمد وقد أعجبه طعامه وما ذاك الا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل واللّه يا عتبة ما حبسك عنا الا انك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه فان كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة واقسم ان لا يكلم محمدا ابدا وقال واللّه لقد علمتم انى من اكثر قريش مالا ولكنى أتيته وقصصت عليه القصة فاجابنى بشئ واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله (تعالى) فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فامسكت بغيه وناشدته بالرحم ان يكف ولقد علمتم ان محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت ان ينزل عليكم العذاب - وقال قال محمد بن كعب القرظي حدثت ان عتبة بن ربيعة كان سيدا حليما قال يوما وهو جالس فى نادى قريش ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس وحده فى المسجد قال يا معشر قريش الا أقوم إلى محمد وأكلمه واعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضهن فنعطيه ويكف عنا (و ذلك حين اسلم حمزة وراوا اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم يزيدون ويكثرون) قالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام عتبة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا ابن أخي انك منا حيث علمت من البسطة فى العشيرة والمكان فى النسب وانك قد أتيت بامر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت الهتهم وكفرت من مضى من ابائهم فاستمع منى اعرض عليك أمورا اتنظر فيها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قل يا أبا الوليد فقال يا ابن أخي ان كنت انما تريد بما جئت المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثر منّا مالا وان كنت(1/5798)
تريد شرفا سوّدناك علينا وان كان هذا الذي بك رئيا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب أو لعل هذا شعر جاش به صدرك فانكم لعمرى بنى عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه غيركم حتى إذا فرغ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ا وقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاستمع منى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 288
قال افعل فقال بسم اللّه الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم كتب فصّلت آياته قرءانا عربيّا ثم مضى فيها يقرأ فلمّا سمع عتبة انصت والقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى السجدة فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد فانت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلمّا جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد فقال ورائ انى قد سمعت قولا واللّه ما سمعت بمثله قط ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني خلوا ما بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو اللّه ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وان يظهر على العرب به فملكه ملككم وعزّه عزّكم فانتم اسعد الناس به فقالوا سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رائى لكم فاصنعوا ما بدا لكم ..(1/5799)
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى تعظموا على أهل الأرض بغير استحقاق وَقالُوا لما خوّفوا بالعقاب اغترارا بقوتهم وشوكتهم مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً يعنى ليس أحد أشد قوة منا ندفع العذاب بقوتنا كان أحدهم يقلع الصخرة العظيمة من الجبل يجعلها حيث يشاء فقال اللّه تعالى ردّا عليهم أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والعطف على محذوف تقديره أ قالوا ذلك ولم يروا أى لم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا أى بمعجزاتنا يَجْحَدُونَ (15) أى يعرفون انها حق وينكرونها عطف على قالوا.
فَأَرْسَلْنا عطف على كانوا عَل َيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً
عاصفا شديد الصوت شديد البرد من الصر بمعنى البرد أى يصر أى يجمع ويقبض أو الصرة بمعنى الصيحة فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء والباقون بكسرها أى مشومات ذات نحوس فى حقهم قال الضحاك امسك اللّه عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من غير مطر قيل كان اخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم الا يوم الأربعاء لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أى عذاب الهوان أضاف العذاب إلى الخزي اضافة الموصوف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 289
الى الصفة مثل رجل الحرب وحاتم الجود بدليل ولعذاب الاخرة اخزى وهو فى الأصل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى عطف على أرسلنا وهو فى الأصل صفة المعذب وصف به العذاب للمبالغة مجازا وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) بدفع العذاب عنهم.(1/5800)
وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أى دللناهم على الخير والشر بإرسال الرسل وبيّناهم سبيل الهدى كذا قال ابن عباس فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أى اختاروا الجهل والكفر على الايمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أى صيحة من السماء مهلكة للعذاب والهوان والذل واضافتها إلى العذاب ووصفه بالهون للمبالغة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) من اختيار الضلالة.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) من تلك الصاعقة ..
وَاذكر يَوْمَ يُحْشَرُ قرأ نافع ويعقوب بفتح النون وضم الشين على صيغة المتكلم المبنى للفاعل أَعْداءُ اللَّهِ بالنصب على المفعولية والباقون بضم الياء وو فتح الشين على البناء للمفعول واعداء اللّه بالرفع إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) أى يساقون ويدفعون إلى النار وقال قتادة والسدىّ يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا قال البيضاوي وهى عبارة عن كثرة أهل النار.
حَتَّى ابتدائية إِذا ما جاؤُها إذا حضروها وما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) قال السدىّ وجماعة المراد بالجلود الفروج وقال مقاتل ينطق جوارحهم روى مسلم عن انس قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضحك فقال هل تدرون مما اضحك قلنا اللّه ورسوله اعلم قال من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب الم تجرنى من الظلم فيقول بلى قال فيقوله فانى لا أجيز على نفسى الا شاهدا منى فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لاركانه انطقى فينطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ أناضل - « اى أجادل وأخاصم - نهاية منه ره » وفى حديث أبى هريرة عند مسلم فيختم على فيه ويقول لفخذه انطق فينطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله.(1/5801)
وَ قالُوا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 290
اى الذين يحشرون إلى النار لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا بعدا لكن وسحقا فعنكن ا ناضل وهذا السؤال سوال توبيخ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ ذى نطق وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) قدّم الظرف للحصر والاهتمام ورعاية الفواصل وهذه الجملة يحتمل ان يكون من تمام كلام الجوارح وان يكون استئنافا مثل ما بعده - روى الشيخان فى الصحيحين والبغوي عن ابن مسعود قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشى أو قرشيان وثقفى كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أ ترون ان اللّه يسمع ما نقول قال الاخر يسمع ما جهرنا ولا يسمع ان أخفينا وقال الاخر ان كان يسمع إذا جهرنا فانه يسمع إذا أخفينا قال البغوي قيل الثقفي عبد ياليل والقرشيان ختنا ربيعة وصفوان ابن امية فانزل اللّه تعالى.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أى اية قال البغوي معناه تستخفون عند اكثر أهل العلم وقال مجاهد تتقون وقال قتادة تظنون يعنى ما كنتم تستترون الفواحش من جوارحكم مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ كما كنتم تستترونها عن الناس مخافة الفضيحة فالمعنى ما كنتم تظنون ان جوارحكم تشهد عليكم وفيه تنبيه وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) فلذلك اجرأتم على ما فعلتم.
وَذلِكُمْ أى ظنكم هذا مبتدا وقوله ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أى أهلككم خبر ان له ويجوز ان يكون ظنّكم بدلا من اسم الاشارة وارديكم خبره فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) ثم اخبر عن حالهم فقال.(1/5802)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فى النار فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ لاخلاص لهم عنها وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) أى ان طلبوا العتبى وهو الرجوع إلى ما يحبون ويسترصون ربهم فما هم بمجابين إلى ذلك.
وَقَيَّضْنا أى بعثنا ووكلنا وقال مقاتل هيأنا عطف على قوله فى صدر السورة فاعرض أكثرهم - وقالوا قلوبنا فى أكنّة وبينهما معترضات لَهُمْ أى للكافرين قُرَناءَ جمع قرين ككرماء جمع كريم يعنى نظراء من الشياطين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 291
يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض وهو القشر وقيل اصل القيض البدل ومنه المقائضة للمعاوضة فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من امر الدنيا واتباع الشهوات وَما خَلْفَهُمْ من امر الاخرة فدعوهم إلى التكذيب وانكار البعث وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أى كلمة العذاب فِي أُمَمٍ حال من الضمير المجرور أى كائنين فى جملة امم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ صفة لامم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وقد عملوا مثل أعمالهم صفة اخرى لامم إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) بايثار موجبات العذاب على موجبات الرحمة تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم أو للامم ..
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس كان بعضهم يوصى إلى بعض إذا رايتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو وقال مجاهد الغوا فيه بالمكاء والصفير وقال الضحاك أكثروا الكلام فتخلطوا عليه ما يقول وقال السدىّ صيحوا فى وجهه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) محمدا على قراءته.(1/5803)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع المظهر موضع الضمير تسجيلا للكفر وللدلالة على شمول هذا الحكم لهم ولغيرهم عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) أى سيئات أعمالهم أو المعنى لنجزينّهم جزاء كفرهم الذي هو أسوأ ما كانوا يعملون فى الدنيا.
ذلِكَ مبتدا أى الاسوأ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره النَّارُ عطف بيان للجزاء أو خبر محذوف لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أى دار الاقامة جَزاءُ منصوب على المصدرية لفعله المقدر أى يجزون والجملة تأكيد لما سبق بِما كانُوا بِآياتِنا أى القرآن يَجْحَدُونَ أى ينكرون الحق أو المعنى يلغون عند قراءة القرآن وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على مضمون الكلام السابق أى عذبوا ذلك العذاب وقالوا يعنى يقولون بعد ما يلقون فى النار رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنون شيطانى النوعين الحاملين إياهما على الضلال والعصيان وقيل هما إبليس وقابيل بن آدم لانهما سنا الكفر والمعصية قرأ ابن عامر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 292
و ابن كثير ويعقوب وأبو بكر والسوسي أرنا بالتخفيف أى بسكون الراء هاهنا خاصة وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء والباقون باشباعها « اى بكسره كاملة - أبو محمد » نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا فى النار لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) أى فى الدرك الأسفل من النار قال ابن عباس ليكونا أشد عذابا منّا - .(1/5804)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته ثُمَّ اسْتَقامُوا أى التزموا المنهج المستقيم قال المحلى نزلت فى أبى بكر الصديق وثم لتراخيه عن الإقرار فى الرتبة والمراد بالاستقامة الاعتدال وعدم الزيغ والانحراف عن الحق بوجه من الوجوه لا فى الاعتقاد ولا فى الأخلاق ولا فى الأعمال قال فى القاموس استقام اعتدل وقومته عدلته فهو قويم ومستقيم ومنه الصراط المستقيم للطريق السوي الذي يوصل سالكه إلى المطلوب البتة. فالاستقامة لفظ مختصر شامل لجميع الشرائع من الإتيان بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات على سبيل الدوام والثبات ومن هاهنا أجاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفيان بن عبد اللّه الثقفي حين قال يا رسول اللّه قل لى فى الإسلام قولا لا اسئل عنه أحدا بعدك وفى رواية غيرك قال قل امنت باللّه ثم استقم - رواه مسلم قال البغوي سئل أبو بكر الصديق عن الاستقامة فقال ان لا تشرك باللّه شيئا « 1 » وقال عمر بن الخطاب الاستقامة ان تستقيم على الأمر والنهى ولا تروغ روغان الثعالب وقال عثمان بن عفان أخلصوا العمل للّه وقال علىّ أدوا الفرائض وقال ابن عباس استقاموا على أداء الفرائض وقال
_________
((1/5805)
1) روى عن أبى بكر الصديق انه قال ما تقولون فى هاتين الآيتين انّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا والّذين أمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم قالوا الّذين قالوا ربّنا اللّه ثم عملوا بها واستقاموا على امره فلم يذنبوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم لم يذنبوا قال لقد حملتموها على امر شديد الّذين أمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم نقول بشرك والّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان - كذا فى ازالة الخفا للشيخ ولى اللّه المحدث وروى النسائي والبزار وأبو يعلى وغيرهم عن انس قال قرأ علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية انّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا قد قالها ناس من الياس (ثم كف أكثرهم فمن قالها حين يموت فهو ممّن استقام علما 12 منه رحمه اللّه)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 293(1/5806)
الحسن استقاموا على امر اللّه فاعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة ان لا اله الّا اللّه حتى تلحقوا باللّه وقال مقاتل استقاموا على المعرفة فلم يرتدوا - فكلها عبارات عما ذكرنا فان قول عمر ليستقيم على الأمر والنهى ولا تروغ روغان الثعالب وقول على وابن عباس وكذا قول الحسن شامل لجميع ما فرض اللّه إتيانه أو الاجتناب عنه فى العقائد والأخلاق والأعمال - وقول أبى بكر لا تشرك باللّه شيئا وقول عثمان أخلصوا للّه العمل بيان لعدم الرياء والسمعة فى شىء من الأعمال وهو المعنى من قول مجاهد وعكرمة - فالاستقامة لا تتصور بدون فناء القلب والنفس وحصول المعرفة باللّه على ما اصطلح عليه الصوفية وذلك قول مقاتل وقال قتادة كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال اللهم أنت ربّنا فارزقنا الاستقامة وكان الحسن رأس الصوفية ينتهى اكثر السلاسل إليه - تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت كذا قال ابن عباس وقال قتادة ومقاتل إذا قاموا من قبورهم وقال وكيع بن الجراح البشرى يكون فى ثلاثة مواطن عند الموت وفى القبر وعند البعث أَلَّا تَخافُوا ان مفسرة لان تتنزّل عليهم يتضمن معنى الوحى الذي فيه معنى القول أو مخففة من الثقيلة اسمه ضمير الشأن أو مصدرية يعنى لا تخافوا على ما تقدمون عليه من امر الاخرة كذا قال مجاهد وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم من أهل وولد فانا نخلفكم فى ذلك فالخوف غم يلحق لتوقع مكروه والحزن غم يلحق لوقوعه فى مكروه من فوات نافع أو حصول ضار وقال عطاء بن أبى رباح لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم يعنى لا تخافوا العقاب ولا تحزنوا على صدور العصيان فان اللّه يغفرها لكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) فى الدنيا على لسان الرسل أخرج أبو نعيم عن ثابت البناني انه قرأ حم السجدة حتى بلغ إلى قوله تتنزّل عليهم الملائكة فقال بلغنا ان(1/5807)
العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان الذان كانا معه فى الدنيا فيقولان لا تخف ولا تحزن وابشر بالجنة التي كنت توعد قال فيأمن اللّه خوفه ويقر عينه.
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 294
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
يعنى كنا معكم فى الدنيا نحفظكم من الشياطين ونلهمكم بالخيرات وَ
نحن اولياؤكم فِي الْآخِرَةِ
لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة وَلَكُمْ فِيها
اى فى الجنه ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذات والكرامات وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
(31) أى ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الاول.
نُزُلًا كائنا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) نزلا حال من ما تدّعون وفيه اشعار بان ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف أخرج البزار وابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انك لتنظر إلى الطير فى الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا - واخرج ابن أبى الدنيا عن أبى امامة ان الرجل من أهل الجنة ليشتهى الطير فى الجنة فيخر مثل البختي حتى يقع على خوانه لم نصبه دخان ولا تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير - وأخرجه الترمذي وحسنه والبيهقي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن إذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله ووضعه وسنه فى ساعة كما يشتهى - وعند هناد فى الزهد عن أبى سعيد قلنا يا رسول اللّه ان الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لاهل الجنة فقال إذا اشتهى إلى آخره - واخرج الاصبهانى فى الترغيب عن أبى سعيد الخدري ولم يرفعه قال ان الرجل من أهل الجنة يتمنى الولد فيكون حمله ورضاعه وفطامه وشبابه فى ساعة واحدة - واخرج البيهقي مرفوعا بلفظ ان الرجل يشتهى الولد فى الجنة فيكون إلى آخره - واخرج فى التاريخ والبيهقي نحوه - .(1/5808)
وَ مَنْ أَحْسَنُ يعنى لا أحد احسن قَوْلًا مِمَّنْ دَعا الناس إِلَى اللَّهِ إلى عبادة اللّه وتوحيده وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين ربه وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) تفاخرا أو اتخاذا للاسلام دينا ومذهبا من قولهم هذا قول فلان لمذهبه قال محمد بن سيرين والسدىّ هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال الحسن هو المؤمن أجاب اللّه فى دعوته وعمل صالحا فى اجابته وقال انّنى من المسلمين وقالت عائشة ارى هذه الآية نزلت فى المؤذّنين وقال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 295(1/5809)
ابو امامة الباهلي دعا إلى اللّه يعنى اذّن وعمل صالحا صلى ركعتين بين الاذان والاقامة قال قيس بن حازم عمل صالحا هو الصلاة بين الاذان والاقامة عن عبد اللّه بن معقل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين كل أذانين صلوة بين كل أذانين صلوة قال فى الثالثة بين كل أذانين صلوة لمن شاء - متفق عليه وعن انس بن مالك قال لا اعلم وقد رفعه انس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يرد الدعاء بين الاذان والاقامة - رواه أبو داود والترمذي فصل فى فضل الاذان عن معاوية قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة. رواه مسلم وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه عليه وسلم لا يسمع مدى صوت المؤذّن جن ولا انس ولا شىء الا شهد له يوم القيامة رواه البخاري وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الامام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم ارشد الائمة واغفر للمؤذنين - رواه احمد وأبو داود والترمذي والشافعي وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اذن سنبع سنين محتسبا كتب له براءة من النار.(1/5810)
رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داؤد وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة على كثبان الجنة عبد ادّى حق اللّه وحق مولاه ورجل امّ قوما وهم به راضون ورجل ينادى بالصلوات الخمس كل يوم وليلة - رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلوة ويكفر عنه ما بينهما - رواه احمد وأبو داود وابن ماجة وعن سهل بن سعد رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثنتان لا تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من اذّن « 1 » ثنتى عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه فى كل يوم ستون حسنة وبكل اقامة ثلاثون حسنة
_________
(1) عن عمر بن الخطاب انه قال لو أطقت الاذان مع الخلافة لاذّنت - منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 296(1/5811)
رواه ابن ماجة وعنه قال كنا نؤمر بالدعاء عند أذان المغرب - رواه البيهقي فى الدعوات الكبير - (فصل فى جواب الاذان) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىّ فانه من صلى علىّ صلوة صلى اللّه عليه بها عشرا ثم سلوا اللّه لى الوسيلة فانها منزلة فى الجنة لا تنبغى الا لعبد من عباد اللّه وأرجو ان أكون انا هو فمن سال لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى - رواه مسلم وعن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قال المؤذن ا للّه اكبر اللّه اكبر فقال أحدكم اللّه اكبر اللّه اكبر الحديث يعنى يقول مثل ما يقول المؤذن وحين يقول حى على الصلاة وحى على الفلاح يقول لا حول ولا قوة الا باللّه دخل الجنة رواه مسلم وعن عبد اللّه بن عمر قال رجل يا رسول اللّه ان المؤذنين يفضلوننا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعط - رواه أبو داود - .(1/5812)
وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ فى الجزاء وحسن العاقبة ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي يعنى مهما أمكن للانسان فلا بد ان يختار الخصلة الحسنة على الخصلة السيئة فليختر الصبر على الغضب والحلم على الجهل والعفو على الانتقام والسخاء على البخل والشجاعة على الجبن والعفة على العنت ادْفَعْ بِالَّتِي أى بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ المراد بالأحسن هاهنا الزائد فى الحسن مطلقا إذ لا حسن فى السيئة أصلا قال ابن عباس امر بالصبر فى مقابلة من يغضب عليه وبالحلم فى مقابلة من يجهل عليه وبالعفو فى مقابلة من يسئ إليه وقيل معناه لا تستوى الحسنة فى جزئياتها ولا تستوى السيّئة فى جزئياتها بل بعضها فوق بعض فى الحسن والسوء فإذا اعترضك من بعض أعدائك سيّئة فادفعها بأحسن الحسنات كما لو أساء إليك رجل فالحسنة ان تعفو عنه والتي احسن ان تحسن إليه فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ إذا للمفاجاة أضيف إلى الجملة والعامل فيه معنى المفاجاة والمعنى فوجى ذلك وقت صيرورة الذي بينك وبينه عداوة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 297
الذي مبتدا وكانّه خبر وإذا ظرف لمعنى التشبيه وقوله ادفع إلى آخره جملة مستأنفة كأنَّه قيل كيف اصنع إذا أساء أحد الىّ فقال ادفع قال مقاتل بن حبان نزلت فى أبى سفيان بن حرب وليس بسديد لان الآية مكية واسلام أبى سفيان كان بعد الفتح.
وَما يُلَقَّاها جملة معترضة أى ما يؤتى هذه الخصلة وهى مقابلة الاساءة بالإحسان إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على مخالفة النفس والهوى وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) من التجليات الصفاتية والذاتية فان النفس إذا تجلت عليها الصفات الحسنى انسلخت من صفاتها السواى.(1/5813)
وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ عطف على ادفع وما زائدة اتصلت بان الشرطية مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ شبه النخس والشيطان ينزع كأنَّه ينخس ويبعث على المعصية وفى القاموس نزغه كمنعه طعن فيه ونزغ بينهم أفسد واغرى ووسوس وهو فعل الشيطان أسند إلى نزغه مجازا على طريقة جدجده وعلى هذا من للابتداء أو أريد بالنزغ المسند إليه النازغ وصفا للشيطان بالمصدر مبالغة ومن الشّيطان بيان له حال منه والمعنى وان وسوس فيك الشيطان وحملك على الانتقام ومقابلة الاساءة بالاساءة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره ولا تطعه هذا جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أى يدفع اللّه عنك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك الْعَلِيمُ (36) بنيتك وصلاحك - .
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فان كل واحد منها تدل على وجوب وجود صانعها وصفاته الكاملة ووحدانيته لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لانهما مخلوقان مأموران مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير للاربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بهما اشعارا بانهما من عداد ما لا يعلم ويختار إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فان السجود يختص للّه تعالى وهذا موضع السجود عند الشافعي رحمه اللّه لاقتران الأمر به وهو مروى عن ابن مسعود وابن عمر أخرج الطحاوي بسنده عن عبد الرحمان بن يزيد يذكر ان عبد اللّه بن مسعود كان يسجد فى الآية الاولى من حم واخرج بسنده عن نافع عن ابن عمر مثله.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 298(1/5814)
و السجود شرط حذف جزاؤه وأقيم علته مقامه تقديره فان استكبروا لا يضره فَالَّذِينَ أى لانّ الذين عِنْدَ رَبِّكَ عندية غير متكيفة وهم الأنبياء والملائكة والأولياء يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) عطف أو حال أى لا يملّون بل يتلذذون به قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرحني يا بلال. قال أبو حنيفة رحمه اللّه هذا موضع السجود وهو المروي عن ابن عباس أخرج ابن أبى شيبة فى مصنفه والطحاوي عن مجاهد عن ابن عباس انه كان يسجد فى الآية الاخيرة من حم تنزيل.(1/5815)
و زاد فى رواية راى رجلا يسجد عند قوله ان كنتم ايّاه تعبدون فقال له قد عجلت واخرج الطحاوي عن مجاهد قال سالت عن ابن عباس عن السجود الذي فى حم قال اسجد باخر الآيتين وروى الطحاوي أيضا بسنده عن أبى وائل انه كان يسجد فى الآية الاخيرة من حم وروى عن ابن سيرين مثله وعن قتادة مثله قال صاحب الهداية هذا قول عمر قال ابن همام كونه قول عمر غريب وأخذ أبو حنيفة هذا القول للاحتياط فانه ان كان السجود عند تعبدون لا يضره التأخير إلى الآية الاخيرة وان كان عند لا يسئمون لم يكن السجود قبله مجزيّا - وقال الطحاوي ما حاصله ان السجود فى الآية الاخيرة هو مقتضى النظر وذلك انا راينا السجود المتفق عليه هو عشر سجدات منها الأعراف وموضع السجود منها قوله انّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه وله يسجدون ومنها الرعد وموضع السجود منها وللّه يسجد من فى السّموت ومن فى الأرض طوعا وكرها وظللهم بالغدوّ والآصال ومنها النحل وموضع السجود منها عند قوله وللّه يسجد ما فى السّموات وما فى الأرض من دابّة إلى قوله يؤمرون ومنها بنى إسرائيل وموضع السجود منها عند قوله ويخرّون للاذقان سجّدا إلى قوله خشوعا ومنها مريم وموضع السجود منها عند قوله إذا تتلى عليهم ايت الرّحمن خرّوا سجّدا وبكيّا ومنها الحج والمتفق عليه فيها عند قوله الم تر انّ اللّه يسجد له من فى السّموت ومن فى الأرض الآية ومنها الفرقان وموضع السجود منها عند قوله وإذا قيل لهم اسجدوا للرّحمن قالوا وما الرّحمن الآية ومنها النمل وموضع السجود منها الّا يسجدوا للّه الّذى يخرج الخبء الآية
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 299(1/5816)
و منها الم تنزيل وموضع السجود منها عند قوله انّما يؤمن بايتنا الآية ومنها حم تنزيل وموضع السجود منها مختلف فيه فقال بعضهم يعبدون وبعضهم وهم لا يسئمون وكان كل موضع من المواضع المذكورة موضع اخبار يعنى من استكبار المتكبرين أو من خشوع الخاشعين ولزمنا مخالفة المتكبرين وموافقة الخاشعين وليس شىء منها بموضع امر بالسجود وقد راينا السجود مذكورا فى مواضع اخر بصيغة الأمر منها قوله تعالى اقنتى لربّك واسجدي ومنها كن من السّاجدين وليس هناك سجود بالإجماع فالنظر يقتضى ان يكون كل موضع فيها الأمر بالسجود يحمل على الأمر بالعبادة والسجود الصلاتية وكل موضع فيها الاخبار يكون هناك سجدة التلاوة وهذا النظر يقتضى ان لا يكون فى الحج سجدة ثانية لأنه بلفظ الأمر حيث قال اللّه تعالى اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم ومن ثم قال أبو حنيفة هى سجدة صلاتية يدل عليها المقارنة بالركوع وان لا يكون فى هذه السورة عند الآية الاولى سجدة لكونه بصيغة الأمر وان يكون عند الآية الاخيرة لكونه بصيغة الاخبار - وهذا النظر يقتضى ان يكون فى سورة ص سجدة تلاوة كما قال أبو حنيفة خلافا لغيره لان موضع السجود منها اخبار ليس بامر وهو قوله فاستغفر ربّه وخرّ راكعا وأناب وكذا فى سورة إذا السماء انشقت فى قوله فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرءان لا يسجدون فانه موضع اخبار وليس بامر - غير ان هذا النظر يقتضى ان لا يكون فى سورة النجم واقرأ سجدة لان موضع السجود منهما قوله تعالى فاسجدوا للّه واعبدوا وقوله تعالى واسجد واقترب وهما بصيغة امر لكن أبو حنيفة رحمه اللّه ترك النظر هناك لاتباع ما قد ثبت عنده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما ذكرنا هناك وقد قال مالك لا سجود فى المفصل - قلت وقد ذكرنا فى سورة الحج ما يدل
على ان فيها سجدتين واللّه اعلم - .(1/5817)
وَ مِنْ آياتِهِ أى دلائل قدرته أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة غبراء لانبات فيها مستعار من الخشوع بمعنى التذلل فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أى تحركت وَرَبَتْ أى علت وانتفخت بخروج النبات إِنَّ الَّذِي أَحْياها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 300
اى أحيا نباتها لَمُحْيِ الْمَوْتى يوم القيامة إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الاحياء والإماتة قَدِيرٌ (39).
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال مجاهد يلحدون فى آياتنا « 1 » بالمكاء والتصدية واللغو واللغط وقال قتادة يكذبون آياتنا وقال السدى يعاندون ويشاقون قال مقاتل نزلت فى أبى جهل قلت واللفظ يعم من يلحد بالتكذيب والإلغاء ومن يلحد بالتحريف والتأويل الباطل المخالف لتأويل السلف لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فلا يأمنوا عن الجزاء والانتقام أَفَمَنْ يُلْقى الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره يفتخر هؤلاء الكفار ويعجبون بانفسهم أ فمن يّلقى فِي النَّارِ أبو جهل وأمثاله خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ أخرج ابن المنذر عن بشير بن فتح قال نزلت هذه الآية فى أبى جهل وعمار بن ياسر وقيل من ياتي أمنا هو حمزة وقيل عثمان واللفظ يعمهم وغيرهم ذكر اللّه سبحانه الإتيان أمنا فى مقابلة الإلقاء فى النار مبالغة وكان القياس ان يقال أ فمن يلقى فى النار خير أم من يدخل الجنة لان مفاد الكلام ان الآتي أمنا خير ممن يلقى فى النار فكيف من يكرم ويدخل الجنة اعْمَلُوا « 2 » أيها الكفار ما شِئْتُمْ من الكفر والمعاصي إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فاجازيكم على ما تعملون فيه تهديد شديد - .(1/5818)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أى القرآن لَمَّا جاءَهُمْ ان مع جملتها بدل من قوله انّ الّذين يلحدون أو مستأنف وخبران محذوف مثل معاندون أو هالكون أو يجازيهم بكفرهم وقيل خبره قوله من بعد أولئك ينادون من مكان بعيد وَإِنَّهُ أى القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) حال أو استئناف قال الكلبي عن ابن عباس أى كريم على اللّه وقال قتادة أعزّه اللّه فلا يجد الباطل إليه سبيلا.
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال قتادة والسدىّ الباطل هو الشيطان
_________
(1) عن عمر بن الخطاب قال ان هذا القرآن كلام اللّه فضعوه فى مواضعه ولا تتبعوا فيه هواكم منه ره
(2) عن ابن عباس فى قوله اعملوا ما شئتم قال لاهل البدر خاصة وعن ابراهيم النخعي ذكر ان السماء فرجت يوم بدر فقيل اعملوا ما شئتم. 12 منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 301
لا يستطيع ان يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه قلت وهو يعم شياطين الانس والجن كما ان الروافض زاد وانى القرآن عشرة اجزاء فلم يستطيعوا ورد اللّه كيدهم وزادوا فى بعض الآيات وبعض الألفاظ كما قالوا فى قوله تعالى انّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد علىّ وسيعلم الّذين ظلموا ال محمّد اىّ منقلب ينقلبون ونحو ذلك فانهم فعلوا ذلك وأبطل اللّه عملهم فلم يلتحق بالقران قال الزجاج معناه انه محفوظ من ان ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه وعلى هذا معنى الباطل الزيادة والنقصان وقال مقاتل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب يبطله أو ينسخه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ كامل الحكمة حَمِيدٍ (42) يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمة وهو حميد فى نفسه لا يحتاج إلى ان يحمده غيره.(1/5819)
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ قيل هذا تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم بانه ما يقول لك كفار مكة قد قيل مثله للانبياء من قبلك انه ساحر كذاب فاصبر كما صبروا ولا تغتم به وقيل معناه ما اوحى إليك الأمثل ما اوحى إليهم من التوحيد واصول الدين والوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين وقيل مقول القول قوله إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمومنين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) للكافرين والجملة على الأول مستأنفة - ولمّا قال الكفار اقتراحا وتعنتا هل انزل القرآن بلغة العجم يعنون كما أنزلت التوراة والإنجيل نزلت.
وَلَوْ جَعَلْناهُ أى لو جعلنا هذا الذكر الذي تقرأه على الناس قُرْآناً أَعْجَمِيًّا أى مقروا بلغة العجم لَقالُوا يعنى أهل مكة لَوْ لا هلا فُصِّلَتْ بينت آياتُهُ بلغة العرب حتى فهمناها هذه الجملة متصلة بجمل واردة فى صدر السورة فى مدح القرآن اعنى كتاب فصّلت آياته ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قرأ هشام أعجميّ بهمزة واحدة من غير مد على الخبر يعنى كتاب أعجميّ ورسول عربىّ والباقون بهمزتين على الاستفهام للانكار فقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي « و خلف وروح أبو محمد » بهمزتين محققتين والباقون بهمزة ومدة « اى بهمزة مسهلة - أبو محمد » وقالون وأبو عمرو يشبعانها لان من قولهما إدخال الالف بين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 302(1/5820)
الهمزة المحققة والملينة وورش « بخلاف عنه أبو محمد » على أصله فى ابدال الهمزة الثانية ألفا من غير فاصل بينهما « و ورش في وجه الثانية أبو محمد » وابن كثير أيضا على أصله فى جعل الثانية بين بين من غير فاصل وهكذا قرأ حفص وابن « و رويس بخلاف عنه أبو محمد » ذكوان فى هذا المقام خاصة قال مقاتل وذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يدخل على يسار غلام لعامر الحضرمي وكان يهوديّا اعجميّا يكنى أبا فكيهة فقال المشركون انما يعلمه يسار فضربه سيده وقال انك تعلّم محمدا فقال يسار هو يعلّمنى فانزل اللّه هذه الآية واخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال قالت قريش لو لا انزل هذا القرآن اعجميّا وعربيّا فانزل اللّه لقالوا لو لا فصّلت آياته الآية وانزل اللّه بعد هذه الآية فيه لكل لسان قال ابن جرير والقراءة على هذا أعجمي بلا استفهام قُلْ يا محمد هُوَ أى القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً من الضلالة وَشِفاءٌ التنكير للتعظيم أى هدى وشفاء عظيم لما فى الصدور من الجهل ورذائل أوصاف القلب والنفس وقيل شفاء من الأمراض والأوجاع وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدا خبره فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أى ثقل لقوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أى ظلمة وشبهة قال قتادة عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به والأخفش جوز العطف على معمولى عاملين والمجرور مقدم فالموصول عنده عطف على الموصول فى للّذين أمنوا هدى وشفاء أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) تمثيل لهم فى عدم قبولهم وعدم استماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة - .(1/5821)
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ جواب لقسم محذوف يعنى اختلف قوم موسى بالتصديق والتكذيب كما اختلف قريش فى القرآن وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فى تأخير العذاب عن المكذبين إلى يوم القيامة أو إلى أجل معلوم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم وَإِنَّهُمْ أى المكذبين لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أى من التوراة أو من القرآن مُرِيبٍ (45) موقع فى الريبة.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ نفعه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها مضرته وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) فلا يضيع عمل المحسنين ولا يزيد على
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 303
جزاء المسيئين أورد صيغة المبالغة تعريضا على الكفار بانهم هم الظلامون المبالغون فى الظلم واللّه سبحانه لا يتصور منه الظلم أصلا لان الظلم ان يتصرف أحد فى ملك غيره بغير اذنه - .(1/5822)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أى علم وقت قيامها يرد إليه يعنى يجب على كل من سئل عنها ان يقول اللّه اعلم إذ لا يعلمها الا هو وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أى من اوعيتها جمع كمّ بالكسر قرأ نافع وابن عامر وحفص « و أبو جعفر أبو محمد » ثمرات على الجمع والباقون ثمرت على التوحيد بارادة الجنس وما نافية ومن الاولى مزيدة للاستغراق وثمرات فى محل الرفع ويحتمل ان يكون ما موصولة معطوفة على الساعة ومن بيانية بخلاف قوله وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى فانها نافية ومن زائدة البتة وَلا تَضَعُ أى أنثى إِلَّا بِعِلْمِهِ أى الا مقرونا بعلمه حسب تعلقه به والمراد انه كما لا يعلم بالساعة غيره كذلك لا يعلم بما يخرج من الثمرات وما تحمل أنثى الا هو - قوله الّا بعلمه استثناء مفرغ يتوجه إلى الافعال الثلاثة على سبيل التنازع اعمل الأخير وقدر فى الأولين وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أى يوم ينادى الله المشركين بقوله أَيْنَ شُرَكائِي قرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها يسئلهم اللّه تهكما وتوبيخا اين شركائى التي كنتم تزعمونها الهة قالُوا أى المشركون آذَنَّاكَ أعلمناك الان ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) أى من يشهد لهم بالشرك الجملة حال يعنى يتبرءون عنهم لمّا عاينوا العذاب أو المعنى ما منا من أحد يشاهده م لانهم غابوا عنّا.
وَضَلَّ عَنْهُمْ يعنى لا ينفعهم أو غاب عنهم فلا يرون ما كانُوا يَدْعُونَ أى يعبدون مِنْ قَبْلُ ذلك اليوم يعنى فى الدنيا وَظَنُّوا أى أيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) أى مهرب الظن معلق عنه بحرف النفي وقيل جملة المنفي سدّ مسد المفعولين - .
لا يَسْأَمُ أى يمل الْإِنْسانُ الكافر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ لا يزال يسئل اللّه تعالى المال والغنى والصحة وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أى الشدة من الفقر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 304(1/5823)
و المرض فَيَؤُسٌ أى فهو يؤس من روح اللّه قَنُوطٌ (49) من رحمته.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ أى الكافر جواب قسم محذوف رَحْمَةً مالا وعافية مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي جواب للقسم لفظا وللشرط معنى يعنى هذا حقى لما فىّ من الفضل والعمل والعلم ، أو هذا لى دائما لا يزول وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أى تقوم وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي قرأ وأبو جعفر - أبو محمد أبو عمرو ونافع بخلاف عن قالون بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى يعنى لان قامت القيامة على التوهم لكان لى عند اللّه الحالة الحسنة من الكرامة وذلك لاعتقاده ان ماله من الدنيا انما هو لاستحقاقه الكرامة الغير المنفك عنه فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب قسم محذوف والفاء للسببية بِما عَمِلُوا قال ابن عباس لنفتنهم على مساوى أعمالهم وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) لا يمكنهم التفصى عنه - .(1/5824)
وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ الكافر أَعْرَضَ عن الشكر وَنَأى بِجانِبِهِ أى ثنى عطفه وقيل الجانب كناية عن النفس كالجنب فى قوله تعالى جنب اللّه يعنى ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته لكمال الغلفة وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) أى كثير مستعار ممّا له عرض وسيع للاشعار بكثرته والعرب يستعمل الطول والعرض فى الكثرة يقال أطال فى الكلام والدعاء واعرض أى اكثر والعريض ابلغ من الطويل إذ الطول أطول الامتدادين فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله ومن ثم قال اللّه تعالى جنّة عرضها السّموات - ولا منافاة بين قوله وإذا مسّه الشّرّ فيؤس قنوط وبين قوله فذو دعاء عريض لان الاولى فى قوم آخرين ولعل الاولى فى الكفار ولا يياس من روح اللّه الّا القوم الكافرون ومن يّقنط من رّحمة اللّه الّا القوم الضّالّون « 1 » والثانية فى الغافلين من المؤمنين. وجاز ان يكون كلا الآيتين فى الكفار والمراد انهم إذا مسّهم شر دعوا مخلصين له الدين فإذا روا تاخرا فى الاجابة يئسوا وقنطوا بخلاف المؤمنين الصالحين فانهم لا يقنطون ويرون فى تأخير الاجابة حكمة قال
_________
(1) فى القرآن الّا الضّالّون 12 [.....]
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 305
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما ان يجعلها لهم واما ان يدخرها لهم أو يقال يؤس قنوط بالقلب وذو دعاء عريض باللسان أو قنوط الصنم وذو دعاء من اللّه تعالى (مسئلة) من أحب ان يستجاب دعاؤه فى الشدة فليكثر الدعاء فى الرخاء كذا ورد فى حديث رواه.(1/5825)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) هذه الجملة متصلة بقوله تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ كان الأصل من أضل منكم فوضع الموصول موضع الضمير شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم لأنه فى تأويل قوله ان كان القرءان من عند اللّه كان حقّا بلا شبهة وكان الكفر به شقاقا بعيدا من الحق وأنتم قد كفرتم به فلا أضل منكم.(1/5826)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قال ابن عباس يعنى منازل الأمم الخالية وَفِي أَنْفُسِهِمْ يعنى يوم بدر وكذا قال قتادة وقيل فى أنفسهم البلايا والأمراض وقال مجاهد والسدىّ فى الآفاق ما يفتح القرى على محمد صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين وفى أنفسهم فتح مكة وقال عطاء وابن زيد فى الآفاق يعنى فى أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار وفى أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة - قال البيضاوي فى الآفاق يعنى ما أخبرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم من الحوادث الآتية واثار النوازل الماضية وما يسر اللّه له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة وفى أنفسهم ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حلّ بهم أو ما فى بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أى القرآن من عند اللّه والرسول مؤيد من اللّه أو التوحيد مؤيد من اللّه ودين اللّه حق أو اللّه هو الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ الباء زائدة وربك فى محل الرفع على الفاعلية ولا تزاد الباء فى الفاعل الا مع كفى أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) بدل من الفاعل والمعنى أو لم يكف ان ربك على كلّ شىء شهيد والاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره أ تشك فى عاقبة أمرك ولم يكف انه تعالى على كل شىء شهيد محقق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 306(1/5827)
فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة أو انه تعالى مطلع فيعلم حالك وحالهم أو المعنى ا لم ينته الإنسان عن المعاصي ولم يكف له رادعا انه تعالى مطلع على كل شىء لا يخفى عليه خافية فيجازيه عليها وقال مقاتل أو لم يكف بربك شاهدا على ان القرآن من اللّه شهادته على ذلك جعله معجزا وقال الزجاج معنى الكفاية ان اللّه تعالى قد بين من الدلائل ما فيه كفاية يعنى أو لم يكف بربّك شاهدا لأنه على كل شىء شهيد لا يغيب عنه شىء - .
أَلا إِنَّهُمْ يعنى كفار مكة فِي مِرْيَةٍ أى شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أى من البعث والجزاء أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54) علما باجمالها وتفصيلها مقتدر عليها لا يفوته شىء منها أو انه محيط بكل شىء احاطة ذاتية غير متكيفة لا يفوته شىء منها - تمت سورة فصلت تفسيرها من التفسير المظهرى فى اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر من السنة الثامنة بعد الف سنة 1208 ه - ومائتين من الهجرة على صاحبها الصلاة والسلام والتحية ويتلوه ان شاء اللّه تعالى تفسير سورة الشورى والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 307
سورة الشّورى
مكيّة وهى ثلاث وخمسون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.(1/5828)
حم (1) عسق (2) قال البغوي سئل الحسن بن الفضل لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال لانها سورة من سور اوائلها حم فجرت مجرى نظائرها ولان حم مبتدا وعسق خبره ولانهما عدا ايتين وأخواتها مثل كهيعص والمص عدت اية واحدة وقيل أهل التأويل لم يختلفوا فى كهيعص وأخواتها انها حروف للتهجى لا غير واختلفوا فى حم وأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلا معناه حمّ أى قضى ما هو كائن وروى عكرمة عن ابن عباس انه قال ح حلمه م مجده ع علمه س سناؤه ق قدرته اقسم اللّه بها وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبى رباح ح حرف يعز فيها الذليل ويزل فيها العزيز من فرس م ملك يتحول من قوم إلى قوم اخر ع عدو لقريش يقصدهم س سيء بكور فيهم ق قدرة اللّه النافذة فى خلقه وروى عن ابن عباس انه قال ليس من نبى صاحب كتاب الا وقد أوحيت إليه حم عسق حيث قال اللّه تعالى.
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب لقهره الْحَكِيمُ (3) المصيب فى حكمه أى مثل ما فى هذه السورة من المعاني أو ايحاء مثل ايحائها اوحى اللّه إليك والى الرسل من قبلك ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحى وان ايحاء مثله عادته تعالى - قرأ الجمهور يوحى بكسر الحاء على المضارع المبنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 308
للفاعل واللّه فاعله وقرا ابن كثير بفتح الحاء على البناء للمفعول على ان كذلك مرفوع على الابتداء أى مثل ذلك ويوحى خبره المسند إلى ضميره أو كذلك منصوب على المصدر ويوحى مسند إلى إليك واللّه مرفوع على انه فاعل لفعل محذوف دل عليه السؤال المقدر يعنى من يوحى إليه فقال اللّه كما فى قول الشاعر ليبك يزيد ضارع لخصومة - على البناء للمفعول والعزيز الحكيم صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به أو اللّه مبتدا والعزيز وما بعد اخبار أو العزيز الحكيم صفتان وكذا قوله.(1/5829)
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ صفة بتقدير الذي أو حال وَهُوَ الْعَلِيُّ على خلقه الْعَظِيمُ (3) حال اخر أو تذييل وهو على الوجوه الاخر جملتان مستأنفتان مقررتان لعزته وحكمته - .
تَكادُ قرأ نافع والكسائي بالياء التحتانية لان الفاعل مؤنث غير حقيقى والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أى يتشققن من عظمة اللّه تعالى وعلو شأنه يدل عليه ذكره بعد قوله العلىّ العظيم وقيل يتفطرن من قول المشركين اتخذ اللّه ولدا نظيره فى سورة مريم لقد جئتم شيئا ادّا تكاد السّموت يتفطّرن وقيل يتشققن من كثرة الملائكة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أطت « 1 » السماء وحقها ان تاط والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر الا فيه جبهة ملك ساجد يسبح اللّه بحمده - رواه ابن مردوية عن انس ورواه البغوي بلفظ ما فيها موضع قدم الا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد - قرأ البصريان وأبو بكر ينفطرن من الانفطار مِنْ فَوْقِهِنَّ أى يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية وتخصيصها على الأول لأنه أعظم الآيات وادلها على علو شأنه وعلى الثاني ليدل على ان الانفطار من تحتهن بالطريق الاولى وعلى الثالث لازدحام الملائكة على الفوق وقيل الضمير للارض فان المراد بها الجنس وهذا على الثاني وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ أى ينزهون عما يقول الظالمون من نسبة الولد وكل ما لا يليق بشأنه خضوعا لما يرون من عظمة اللّه
_________
(1) الأطيط صوت الاقتاب وأطيط الإبل أصواتها وحنينها أى ان كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. 12 نهايه منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 309(1/5830)
سبحانه ملابسين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أداء لشكر نعمائه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين أداء لحق المشاركة فى الايمان والجملة حال أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لاوليائه الرَّحِيمُ (5) بهم.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب على أحوالهم وأعمالهم يحصى عليهم فيجازيهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ يا محمد بِوَكِيلٍ (6) بموكل بهم تحصل المطلوب منهم أو موكول إليك أمرهم.(1/5831)
وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الاشارة إلى مصدر يوحى وقوله قُرْآناً عَرَبِيًّا منصوب على المفعولية أو هو اشارة إلى معنى الآية المتقدمة فانه مكرر فى القرآن فى مواضع فيكون الكاف مفعولا به وقوله قرءانا عربيّا حالا منه لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أى أهلها وهى مكة فان اكثر قرى العرب خرجت منها وَمَنْ حَوْلَها أى العرب لينصروه فى إعلاء كلمة اللّه أو قرى الأرض كلها مشرقها ومغربها وجنوبها وشمالها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الناس كافة وذخرت شفاعتى لامتى ونصرت بالرعب شهرا امامى وشهرا خلفى وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لى الغنائم ولم يحل لاحد قبلى رواه الطبراني بسند صحيح عن السائب بن يزيد وروى مسلم فى الصحيح والترمذي عن أبى هريرة قوله صلى اللّه عليه وسلم فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أى لتنذرهم بيوم القيامة التي يجمع فيه الأولون والآخرون حذف ثانى مفعولى تنذر الأول وأول مفعولى الثاني للتهويل والتعميم لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له من الاعراب فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) تقديره فريق منهم فى الجنّة وفريق منهم فى السّعير وضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه والجملتان منصوبتان على الحال منهم أى وينذرهم يوم يجمعون كائنين متفرقين فى دارى الثواب والعقاب أو مستأنفتان عن عبد اللّه بن عمرو قال خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم قابض على كفيه ومعه كتابان قال أ تدرون ما هذان الكتابان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 310(1/5832)
قلنا لا يا رسول اللّه فقال للذى فى يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة واسماء ابائهم وعشائرهم وعدتهم قبل ان يستقروا فى الأصلاب وقبل ان يستقروا نطفا فى الأرحام إذ هم فى الطينة منجدلون « اى ملقون على الجدالة وهى الأرض منه ره » فليس بزائد منهم ولا ناقص منهم إجمال من اللّه عليهم إلى يوم القيامة ثم قال للذى فى يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار واسماء ابائهم وعشائرهم وعدتهم قبل ان يستقروا فى الأصلاب وقبل ان يستقروا نطفا فى الأرحام إذ هم فى الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا نافض منهم إجمال من اللّه عليهم إلى يوم القيامة - فقال عبد اللّه بن عمرو ففيم العمل إذا فقال اعملوا وسددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وان عمل اىّ عمل وان صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وان عمل اىّ عمل ثم قال فريق فى الجنّة وفريق فى السعير عدل من اللّه عزّ وجل - رواه البغوي وكذا روى الترمذي - .
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً عطف على مضمون فريق فى الجنّة أى الامة أى يفترقون فريقين قال ابن عباس على دين واحد وقال مقاتل على دين الإسلام لقوله تعالى ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بالهداية إلى دين الإسلام وَالظَّالِمُونَ الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أى لا يدخلهم فى رحمته فلا يكون لهم ولى يدفع عنهم العذاب ولا نصير يمنعهم من النار ولعل تغير المقابلة للمبالغة فى الوعيد إذ الكلام فى الانذار.(1/5833)
أَمِ اتَّخَذُوا عطف على والظّالمون الآية أم منقطعة بمعنى بل للاضراب والهمزة للانكار يعنى الكافرون لم يتخذوا اللّه وليّا ونصيرا بلء اتخذوا مِنْ دُونِهِ كالاصنام والشياطين أَوْلِياءَ لا ينبغى ذلك أو المعنى ليس المتخذون اولياء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جواب شرط محذوف مثل ان أرادوا اولياء فاللّه هو الولي يعنى هو الحقيق بان يتخذ وليا وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى ليجزى كل نفس ما عملت وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9) هذه الجملة فى مقام التعليل لقوله هو الولي وقال ابن عباس فاللّه وليك وولى من تبعك أى ناصرك وإياهم والفاء حينئذ لمجرد العطف لا لجزاء الشرط.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 311
وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ أيها الناس فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ من امر الدين فَحُكْمُهُ مفوض إِلَى اللَّهِ يحكم يوم القيامة بينهم فيميز المحق من المبطل وقيل ما اختلفتم فيه من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من اللّه ذلِكُمُ الذي يحكم بينكم اللَّهِ أى قل لهم يا محمد ذلكم اللّه رَبِّي بدل من اللّه أو عطف بيان عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فى رد كيد الأعداء وفى الأمور كلها وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) أى ارجع فى المعضلات.(1/5834)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما خبر اخر لذلكم أو خبر مبتدا محذوف أو مبتدا خبره ما بعده جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أى جعل للانعام من الانعام أَزْواجاً أو جعل لكم من الانعام أصنافا أو ذكورا وإناثا جملة جعل على التقدير الأولين حال بتقدير قد يَذْرَؤُكُمْ أى يكثركم من الذرء وهو البث الضمير للمخاطبين والانعام تغليبا فِيهِ أى فى هذا التدبير وهو جعل الناس والانعام أزواجا ليكون بينهم توالد وقيل فيه أى فى الرحم وقيل فى البطن وقيل فى بمعنى الباء أى يذرؤكم به قيل معناه يكثركم بالتزويج لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ المثل زائد والمعنى ليس هو كشئ فادخل المثل للتأكيد كقوله فان أمنوا بمثل ما أمنتم به وقيل الكاف زائدة ومعناه ليس مثله شىء يزاوجه ويناسبه قال ابن عباس ليس له نظير وقيل هذا من باب الكناية نظيره قولهم مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة فى نفيه عنه فانه إذا نفى عمّن يناسبه ويسدّ مسده كان نفيه عنه بالطريق الاولى وإذا كان كناية فلا يقتضى ان يكون له مثل فان فى الكناية لا يشترط تحقق المعنى الحقيقي كما يقال فلان طويل النجاد وان لم يكن له نجاد أصلا ونظيره قوله تعالى بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ كناية عن كونه جوادا مع استحالة الجارحة وقيل معنى مثله صفته أى ليس كصفته صفة شىء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لكل ما يسمع ويبصر وكل سميع وبصير فسمعه وبصره مستعار منه تعالى كأنَّه ذكرهما لئلا يتوهم انه لا صفة له كما انه لا مثل له.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى خزائن الرزق فى السماوات والأرض قال الكلبي المطر والنبات يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى يوسع ويضيق على وفق مشيته
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 312
ابتلاء وامتحانا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12) فيفعل على ما ينبغى ..(1/5835)
شَرَعَ لَكُمْ يا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى يعنى ان دين الإسلام الذي شرع اللّه لامة محمد صلى اللّه عليه وسلم ليس امرا مبتدعا بل هو دين الأنبياء كلهم فان الحق لا يكون الا واحدا وماذا بعد الحقّ الّا الضّلال وما أنكر من أهل الكتاب الا تعنتا وعنادا عن ابن مسعود قال خطّ لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ وانّ هذا صراطى مستقيما فاتّبعوه الآية - رواه احمد والنسائي والدارمي وذلك الدين هو الايمان باللّه وحده وبصفاته وبانبيائه وكتبه وملائكته والبعث بعد الموت وبكل ما جاء به الانبيا والإتيان بما امر اللّه به والانتهاء عما نهى عنه - وهذا امر جامع للشرائع متفق عليها والنسخ فى بعض الاحكام العملية لا يستلزم اختلاف الأديان الا ترى ان النسخ قد يكون فى دين نبى واحد فان النبي صلى اللّه عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم صلى إلى الكعبة فكما ان هذا لا يقتضى اختلاف الأديان فكذلك الاختلاف فى الفروع فى شرائع الأنبياء لا يقتضى اختلاف الدين فان مال الكل الإتيان بما امر اللّه به والانتهاء عما نهى عنه أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ان مفسرة لاوحينا ووصّينا فان فيها معنى القول أو مصدرية والمصدر منصوب بدل من ما وصّى مفعول شرع أو مرفوع خبر مبتدا محذوف أى هو يعنى خذوا ما أتاكم الرّسول بلا زيغ وانحراف وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ باتباع الآراء الأهواء أو بالتعصب والعناد فان افتراق أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى ثلاث وسبعين فرقة انما نشأ باتباع الآراء والأهواء وهو المراد بما ذكرنا من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه خط خطا وقال هذا سبيل(1/5836)
اللّه وخطوطا وقال هذه سبل على كل منها شيطان وترك اليهود والنصارى الايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم انما نشأ من العناد والتعصب وعن على رضى اللّه عنه قال لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب - وعن أبى ذر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 313
قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه - رواه احمد وأبو داود وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يد اللّه على الجماعة - رواه الترمذي بسند حسن وعن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاذّة « متفرقة منه ره » والقاصية « دور رفته منه ره » والناحية « يسكو رونده منه ره » وإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة رواه احمد كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من الدين القويم الناطق بالتوحيد وترك الأصنام اللَّهُ يَجْتَبِي أى يصطفى إِلَيْهِ أى إلى دينه أو إلى ما تدعوهم إليه أو إلى نفسه مَنْ يَشاءُ سواء وجد من المجتبى سعى وارادة اولا وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) أى يقبل إليه قالت الصوفية من يجتبيه ويجذبه إلى نفسه من غير اختياره فهو مراد اللّه وهم الأنبياء والصديقون ومن أناب إلى اللّه فهداه اللّه فهو المريد وهم اولياء اللّه الصالحون من عباده - .(1/5837)
وَ ما تَفَرَّقُوا عطف على شرع قال ابن عباس يعنى أهل الكتاب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ من الكتب السّماوية السابقة بان دين الأنبياء كلهم واحد وان الذي اوحى إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم هو الذي جاء به ابراهيم وموسى وعيسى بَغْياً بَيْنَهُمْ قال عطاء بغيا بينهم على محمد صلى اللّه عليه وسلم يعنى تكبرا واستطالة قال فى القاموس بغى عليه يبغى بغيا علا وظلم وعدل واستطال وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فى تأخير العذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى دار الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين من أمن ومن كفر فى الدنيا باستيصال المبطلين واستيلاء المحقين وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِهِمْ أى بعد أنبيائهم وقيل بعد الأمم الخالية وقيل المراد مشركى مكة الّذين أورثوا الكتاب أى القرءان من بعدهم أى بعد أهل الكتاب لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أى من كتابهم لا يعلمونه كما هو ولا يؤمنون به حق الايمان أو من القرآن مُرِيبٍ (14) مقلق أو مدخل فى الريبة.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 314(1/5838)
فَلِذلِكَ أى للتفرق من أهل الكتاب فَادْعُ الفاء فى جواب اما المحذوف تقديره اما أنت فادع الناس إلى اقامة الدين وعدم التفرق واتباع ما أوتيت وَاسْتَقِمْ أنت عليه كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الزائغة وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أى بجميع الكتب المنزلة لا كما قالت اليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتّخذوا بين ذلك سبيلا وَأُمِرْتُ بالعدل لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ فى تبليغ الشرائع والحكم بين المتخاصمين الأول اشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا اشارة إلى كمال القوة العملية اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ خالق الكل ومتولى أمورهم لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ كل يجزى على حسب عمله لا حُجَّةَ أى لا خصومة بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ لان أعمالكم لا يضرّنا واعمالنا لا يضرّكم انما ندعوكم إلى الإسلام نصحا لّكم فلا وجه للخصومة والعداوة كان نزول هذه الآية فى مكة قبل الأمر بالقتال والمعادات فنسختها اية القتال وقوله تعالى يا ايّها الّذين أمنوا لا تتّخذوا عدوّى وعدوّكم اولياء إلى قوله بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتّى تؤمنوا باللّه وحده اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة فيحكم بيننا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال لما نزلت إذا جاء نصر اللّه والفتح ورايت النّاس يدخلون فى دين اللّه أفواجا قال المشركون بمكة لمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قد دخل الناس فى دين اللّه أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا فعلى كم تقيمون بين أظهرنا فنزلت.(1/5839)
وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أى فى دينه واخرج عبد الرزاق انه قال قتادة هم اليهود والنصارى قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أى بعد ما استجاب الناس دعوته فاسلموا ودخلوا فى دينه لظهور معجزته وحسن دعوته حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى خصومتهم باطلة زائلة أو المعنى ما يزعمونه حجة فهو فى الحقيقة شبهة باطلة وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللّه لمعاندتهم وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) على كفرهم.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 315
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أى جنس الكتب بِالْحَقِّ أى متلبسا به بعيدا من الباطل وبما يحق به انزاله من العقائد الحقة والاحكام وَالْمِيزانَ قال قتادة ومجاهد ومقاتل بالعدل سمى العدل ميزانا لان الميزان فمعز الدولة الانصاف والتسوية وقال ابن عباس امر اللّه تعالى بالإيفاء ونهى عن البخس وقيل المراد به الشرع فانه توازن به الحقوق وتسوى بين الناس وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) قال الكسائي أى قريب إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل ان نفاجئك الساعة يؤزن حينئذ أعمالك ويوفى جزاؤك وقيل تذكير القريب كأنَّه بمعنى ذات قرب أو لان الساعة بمعنى البعث وجملة لعلّ السّاعة قريب سدّ مسد المفعولين ليدريك ولعل علق الفعل عن العمل قال مقاتل ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا تكذيبا متى الساعة فانزل اللّه تعالى.(1/5840)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استهزاء وظنّا انها غير اتية وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أى خائفون منها لاحتمال العذاب وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الكائن لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أى يجادلون فيها ويشكون فى إتيانها فى القاموس المرية بالكسر والضم الشك والجدل وماراه مماراة شك واصل ذلك من مرنت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لان كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) عن الحق فان البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات فمن لم يهتد إلى تجويزه مع كمال قدرة اللّه بعد دلالة الكتاب والسنة عليه وشهادة العقل على دار الجزاء فهو ابعد من الاهتداء إلى ما وراء.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ قال ابن عباس حفىّ بهم قال عكرمة بارّ بهم قال السدىّ رفيق وقال مقاتل لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جزاء لمعاصيهم وقيل لطيف فى إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه بلطف إدراكه قيل لطيف بالغوامض علمه وعظيم عن الجرائم حلمه وينشر المناقب ويستر العيوب ويعطى العبد فوق الكفاية ويكلفه بالطاعة دون الطاقة يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ما يشاء فيختص كلّا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته وكل من يرزق من مؤمن وكافر وذى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 316
روح فهو ممن يشاء اللّه ان يرزقه - قال جعفر بن محمد عليهما السلام اللطيف فى الرزق من وجهين أحدهما انه جعل رزقك من الطيبات والثاني انه لم يدفعه إليك بمرة واحدة وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر قدرته الْعَزِيزُ (19) المنيع الذي لا يغلب والجملة حال أو تذييل.(1/5841)
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ الحرث فى الأصل إلقاء البذر فى الأرض ويقال للزرع الحاصل منه وفى القاموس الحرث الكسب وجمع المال والزرع والمراد هاهنا ثواب الاخرة شبهه بالزرع من انه ثمرة للعمل فى الدنيا ولذلك قيل الدنيا مزرعة الاخرة أو شبهه بالكسب أى ما حصل منه فانه يحصل بما يكسب فى الدنيا نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أى فى كسبه وزرعه فنعطيه بالواحد عشرا إلى سبع مائة كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل فى كلّ سنبلة مائة حبّة وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا أى يريد بعمله نصيبا من الدنيا نُؤْتِهِ مِنْها شيئا على ما قسمنا له وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) عطف على نؤته عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امراة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه - متفق عليه وعن أبيّ بن كعب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشر هذه الامة بالسّناء والرفعة والنصرة والتمكين فى الأرض فمن عمل منهم عمل الاخرة للدنيا لم يكن له فى الاخرة نصيب - رواه البغوي - .(1/5842)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة للانكار يعنى بل الهم ما زعموا شركاء للّه سبحانه خصص الشركاء بهم لانهم اتخذوها شركاء شَرَعُوا أى تلك الشركاء لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ قال ابن عباس شرعوا دينا غير دين الإسلام يعنى الشرك وانكار البعث والعمل للدنيا والجملة متصلة بقوله شرع لكم من الدّين وقيل أم متصلة معادلة لجملة محذوفة مصدرة بالهمزة تقديرها أ يقبلون ما شرع اللّه أم يقبلون ما شرع لهم شركاؤهم ولو لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أى القضاء السابق بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة كما قال بل السّاعة موعدهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الكافرين والمؤمنين وفرغ من تعذيب من كذّبك فى الدنيا والجملة معترضة وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 317
اى المشركين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) فى الاخرة وضع المظهر موضع المضمر لبيان استحقاقهم والتقدير انّهم لهم عذاب اليم لما كانوا ينكرونه.
تَرَى الظَّالِمِينَ أى المشركين يوم القيامة مُشْفِقِينَ خائفين مفعول ثان لترى أو حال مِمَّا كَسَبُوا أى من جزاء ما كسبوا من الشرك والمعاصي وَهُوَ أى جزاء ما كسبوا واقِعٌ بِهِمْ لا محالة اشفقوا أو لم يشفقوا حال مقدرة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أى أطيب بقاعها وأنزهها لَهُمْ ما يَشاؤُنَ أى ما يشتهونه ثابت لهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ الذي ذكرت من نعيم الجنة هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) الذي يصغر دونه ما لهم فى الدنيا.(1/5843)
ذلِكَ الثواب الَّذِي يُبَشِّرُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي يبشر بالتخفيف من البشرة والباقون من التفعيل اللَّهُ به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ يا محمد لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة أَجْراً أى نفعا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى حال من المودة أى الا ان تودونى لقرابتى منكم والجملة معترضة روى البخاري فى الصحيح بسند عن عبد الملك بن ميسرة قال سمعت طاءوسا انه قال سئل ابن عباس عن المودة فى القربى فقال سعيد بن جبير القربى ال محمد فقال ابن عباس عجلت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن بطن من قريش الا كان له فيهم قرابة فقال الا ان تصلوا بينى وبينكم من القرابة قال البغوي وكذلك روى الشعبي عن ابن عباس قال المودة فى القربى يعنى ان تحفظوني قرابتى وتودونى وتصلحوا رحمى - واليه ذهب مجاهد وعكرمة ومقاتل والسدى والضحاك قال عكرمة لا اسئلكم على ما أدعوكم اجرا الا ان تحفظوني وقرابتى بينى وبينكم وليس كما يقول الكذابون - قال البغوي قال قوم هذه الآية منسوخة وانما نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه هذه الآية فامرهم بمودة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه فلمّا هاجر إلى المدينة واواه الأنصار ونصروه أحب اللّه ان يلحقه بإخوانه من الأنبياء عليهم السلام حيث قالوا وما اسئلكم عليه من اجر ان اجرى الّا على
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 318(1/5844)
ربّ العالمين فانزل اللّه قل لا اسئلكم عليه اجرا فهى منسوخة بهذه الآية وبقوله قل لا اسئلكم عليه من اجر وما انا من المتكلّفين وغيرها من الآيات والى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل قال البغوي وهذا قول غير مرضى لان مودة النبي صلى اللّه عليه وسلم وكف الأذى عنه وكذا مودة أقاربه من فرائض الدين قلت لا شك ان مودة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقاربه فريضة محكمة لا يحتمل النسخ لحديث انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والنّاس أجمعين - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه الا للّه ومن يكره ان يعود فى الكفر بعد ان أنقذه اللّه منه كما يكره ان يلقى فى النار - روى الحديثين الشيخان فى الصحيحين وعلى ذلك انعقد الإجماع - لكن يمكن ان يقال ان المنسوخ انما هو ما امر اللّه تعالى رسوله بسوال الاجر وروى ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس فى معنى الآية الا ان تودوا الله وتتقربوا إليه بطاعته - وهذا قول الحسن قال هو القربى إلى اللّه يقول الا التقرب إلى اللّه والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح - وقال بعضهم معناه الا ان تودوا قرابتى وعترتى وتحفظوني فيهم وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب أخرج ابن أبى حاتم والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس قيل يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء قال على وفاطمة وابناهما - واستدل الروافض بهذه الآية مع هذا الحديث على حصر الخلافة فى على وبطلان خلافة الخلفاء الثلاثة المرضيين رضى اللّه عنهم أجمعين وجه احتجاجهم انهم قالوا وجب حب علىّ بهذه الآية مع هذا الحديث وحب غير على ليس بواجب ووجوب المحبة يستلزم وجوب الطاعة فهو الامام لا غير - وقولهم هذا باطل بوجوه (أحدها) ان هذا الحديث غير صحيح فى(1/5845)
اسناده حسين الأشعري شيعى غليط وهذه الآية مكية ولم يكن لفاطمة حينئذ ولد (و ثانيها) انا نسلم ان حب على وفاطمة وابناهما واجب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 319
لكن لا نسلم ان حب غيرهم ليس بواجب كيف وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حب أبى بكر وعمر ايمان وبغضهما كفر - رواه ابن عدى عن انس وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حب أبى بكر وعمر من الايمان وبغضهما كفر وحب الأنصار من الايمان وبغضهم كفر وحب العرب من الايمان وبغضهم كفر ومن سب أصحابي فعليه لعنة اللّه ومن حفظنى فيهم فانا احفظه يوم القيامة - رواه ابن عساكر عن(1/5846)
جابر وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حب الأنصار اية الايمان وبغض الأنصار اية النفاق - رواه النسائي عن انس وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حب قريش ايمان وبغضهم كفر وحب العرب ايمان وبغضهم كفر ومن أحب العرب فقد أحبني ومن ابغض العرب فقد ابغضنى - رواه الطبراني فى الأوسط عن انس وقولهم ان من وجب محبته يكون اماما مفروض الطاعة باطل - وقيل هذه الآية لوجوب محبته من حرم عليهم الصدقة وهم بنوا هاشم وبنوا المطلب الذين لم يتفرقوا فى الجاهلية ولا فى الإسلام وقيل هم ال على وعقيل وجعفر وعباس وفيهم قوله صلى اللّه عليه وسلم انى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه واهل بيتي أذكركم اللّه فى أهل بيتي عن زيد بن أرقم قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد اللّه واثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال اما بعد الا يا أيها الناس انما انا بشر يوشك ان يأتينى رسول ربى فأجيب وانا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ثم قال واهل بيتي أذكركم اللّه فى أهل بيتي أذكركم اللّه فى أهل بيتي قال البغوي قيل لزيد بن أرقم من أهل بيته قال هم ال على وال عقيل وال عباس - فان قيل كيف امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسوال مودته أو مودة أقربائه اجرا على تبليغ الرسالة مع ان التبليغ كان عليه فريضة ولا يجوز طلب الاجرة على أداء الفريضة بل على العبادة النافلة أيضا لما ذكرنا فى تفسير قوله تعالى من كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها وما له فى الاخرة من نصيب قوله صلى اللّه عليه وسلم من عمل منهم عمل الاخرة للدنيا لم يكن له للاخرة نصيب - قلنا اطلاق الاجر على ما امر النبي صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 320(1/5847)
بسواله على التبليغ انّما هو على المجاز والمشاكلة فان الاجر للسائل على الحقيقة ليس الا ما يكون نافعا له مسئولا لانتفاعه به وهاهنا ليس كذلك بل انما سال النبي صلى اللّه عليه وسلم أمته مودته ومودة أقربائه وامره اللّه سبحانه ان يسئل ذلك لكى ينتفع الناس بمحبته فان محبة النبي صلى اللّه عليه وسلم مثمرة لمحبة اللّه تعالى وقربه وولايته وموجبة لكمال الايمان ومن هاهنا أقول ان الاولى ان يقال فى تأويل الآية لا اسئلكم اجرا الا ان تودوا اقربائى واهل بيتي وعترتى وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان خاتم النبيين لا نبى بعده وانما انتصب للدعوة إلى اللّه بعده صلى اللّه عليه وسلم علماء أمته من أهل الظاهر والباطن ولذلك امر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم ان يأمر أمته بمودة أهل بيته لان عليّا رضى اللّه عنه والائمة من أولاده كانوا اقطابا لكمالات الولاية ومن أجل ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا مدينة العلم وعلى بابها - رواه البزار والطبراني عن جابر وله شواهد من حديث ابن عمر وابن عباس وعلىّ وأخيه وصححه الحاكم ومن أجل ذلك ترى كثيرا من سلاسل المشائخ تنتهى إلى ائمة أهل البيت ومضى كثير من الأولياء فى السادات العظام منهم غوث الثقلين محى الدين عبد القادر الجيلي الحسنى الحسيني وبهاء الدين النقشبندي والسيد السند مودود الچشتى وسيد معين الدين الچشتى وأبو الحسن الشاذلى وغيرهم ومن أجل ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتى.(1/5848)
و قال اكثر علماء التفسير الاستثناء منقطع والاجر مستعمل فى معناه الحقيقي فالمعنى لا اسئلكم اجرا قط ولكنى أذكركم المودة فى القربى وأذكركم قرابتى منكم كما ورد فى حديث زيد بن أرقم أذكركم اللّه فى بيتي ومما يدل على ان سوال صلى اللّه عليه وسلم مودة نفسه وأقربائه كان لينتفع بها أمته قوله تعالى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أى من يكتسب حسنة والمراد بها حب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واله ونوابه والا فلا مناسبة لهذه الجملة بما سبق لكن اللفظ عام يعم كل حسنة نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً وذلك ان حب ال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (و هم مشائخ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 321
الطريقة) مثمر للمزيد فى حب النبي صلى اللّه عليه وسلم وحبه صلى اللّه عليه وسلم مثمر للمزيد فى حب اللّه تعالى ومن هاهنا قالت الصوفية يحصل للصوفى اولا الفناء فى الشيخ ثم الفناء فى الرسول ثم الفناء فى اللّه تعالى - والفناء عبارة عن شدة الحب بحيث يذهل نفسه عند ذكر المحبوب حتى لا يرى من نفسه ولا من غيره عنها ولا اثرا ما عدا المحبوب وقيل هذه الآية نزلت فى أبى بكر الصديق ومودته للنبى صلى اللّه عليه وسلم - روى البخاري فى الصحيح عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه انه قال ارقبوا محمدا فى أهل بيته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر ذنوب من يحب رسوله وأولياءه لعل هو المراد بقوله تعالى ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخر أى من ذنب أوليائك وأحبائك شَكُورٌ (23) على طاعته ومحبته - .(1/5849)
أَمْ يَقُولُونَ أم منقطعة والجملة متصلة بقوله قل لا اسئلكم عليه اجرا ومعنى الهمزة الإنكار والتوبيخ وبل للاضراب عن أداء الاجر يعنى انهم لا يؤدون اجر الرسالة بل أ يقولون يعنى كفار مكة افْتَرى محمد عَلَى اللَّهِ كَذِباً بدعوى النبوة أو القرآن فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ جملة معترضة أوردت استبعادا للافتراء عن مثله بالاشعار على انه لا يجترى عليه الا من كان مختوما على قلبه جاهلا بربّه فامّا من كان ذا بصيرة معرفة بربه فلا وكانه قال ان يشا اللّه حد لانك يختم على قلبك لتجترى بالافتراء عليه وقال مجاهد يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك إذا هم وقولهم انك مفتر - وقال قتادة يعنى طبع على قلبك فينسيّك القرآن وما أتاك فاخبرهم انه لو افترى على اللّه لفعل به ما اخبر فى هذه الآية وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ استيناف لنفى الافتراء عما يقوله بانه لو كان مفتر لمحاه إذ من عادته تعالى محو الباطل واثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده بمحق باطلهم واثبات حقه بالقران أو بقضائه الذي لا مرد له قال الكسائي فيه تقديم وتأخير مجازه واللّه يمحو الباطل وهو فى محل الرفع وليس بمجزوم عطفا على يختم لان المحو غير معلق بالشرط بل هو وعد مطلق وانما حذفت الواو فى الخط
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 322
باتباع اللفظ كما حذفت فى قوله تعالى ويدع الإنسان وسندع الزّبانية - وقد فعل ذلك فمحى باطلهم وأعلى كلمة الإسلام بما انزل من آياته إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) قال البغوي قال ابن عباس وكذا أخرج عنه الطبراني بسند ضعيف انه قال لما نزل قل لا اسئلكم عليه اجرا الّا المودّة فى القربى وقع فى قلوب قوم منها شىء وقالوا هذا يريد ان يحثنا على أقاربه من بعده فنزل جبرئيل فاخبره انهم اتهموه وانزل اللّه هذه الآية فقال القوم يا رسول اللّه فانا نشهد انك صادق فنزل.(1/5850)
وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال ابن عباس يريد أولياءه واهل طاعته يقال قبلت منه الشيء إذا أخذته وجعلته مبدأ قبول وقبلت عنه أى عزلته عنه قيل التوبة ترك المعاصي نية وفعلا والإقبال على الطاعة نية وفعلا وقال سهل بن عبد اللّه التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة وذكر البيضاوي عن على كرم اللّه وجهه هى اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض ال عادة ورد المظالم واذابة النفس فى الطاعة كما اذبتها فى المعصية واذاقتها مرارة الطاعة كما اذاقتها حلوة المعصية والبكاء بدل ضحك ضحكت وروى البغوي فى شرح السنة عن ابن مسعود موقوفا الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له - (فصل) عن حارث بن سويد قال دخلت على عبد اللّه أعوده فقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول للّه افرح بتوبة عبده من رجل (أظنه قال) فى برية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنزل فنام فاستيقظ وقد هلكت راحلته فطاف عليها حتى أدركه العطش قال ارجع إلى حيث كانت راحلتى فاموت عليه فرجع فاغفى فاستيقظ فاذ هى عنده عليها طعامه وشرابه - رواه البغوي ( « 1 » ) وروى مسلم عن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانقلبت وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فاتى شجرة فاضطجع فى ظلها قد يئس من راحلته فبينما هو كذلك
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 323(1/5851)
إذ هو بها قائمة عنده فاخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدى وانا ربك اخطأ من شدة الفرح - وروى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان العبد إذا اعترف ثم تاب تاب اللّه عليه - متفق عليه وروى مسلم أيضا عنه قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه - وروى ابن ماجة والبيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له - وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغيرها وكبيرها بالتوبة وبلا توبة لمن شاء روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رجل (لم يعمل خيرا قط) لاهله إذا مات فحرقوه ثم إذ روا نصفه فى البر ونصفه فى البحر فو اللّه لئن قدر اللّه عليه .......... ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فامر اللّه البحر فجمع ما فيه وامر البر فجمع ما فيه ثم قال له لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت اعلم فغفر له - وروى احمد عن أبى الدرداء انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول على المنبر ولمن خاف مقام ربه جنّتان قال قلت وان زنى وان سرق يا رسول اللّه فقال الثانية ولمن خاف مقام ربّه جنّتان فقلت الثانية وان زنى وان سرق يا رسول اللّه فقال الثالثة ولمن خاف مقام ربّه جنّتان فقلت الثالثة وان زنى وان سرق يا رسول اللّه قال وان رغم انف أبى الدرداء وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتاء الفوقانية « و خلف ورويس بخلاف عنه - أبو محمد » قالوا هو خطاب للمشركين والباقون بالياء التحتانية لأنه بين خبرين عن قوم غيب قبله عن عباده وبعده ويزيدهم من فضله.(1/5852)
وَ يَسْتَجِيبُ عطف على يقبل الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أى يستجيب اللّه دعاءهم إذا دعوا فحذف اللام كما حذف فى وإذا كالوهم وقال عطاء عن ابن عباس معناه ويثبت الذين أمنوا قال البيضاوي معنى الاستجابة الاثابة على الطاعة فانها كدعاء وطلب ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم أفضل الدعاء الحمد للّه أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبّان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 324
من حديث جابر واللّه اعلم روى عن ابراهيم بن أدهم انه قيل له ما بالنا ندعو فلا نجاب قال لأنه تعالى دعاكم فلم تجيبوه وَيَزِيدُهُمْ أى يعطيهم زائدا على ما سالوه أو استحقوه مِنْ فَضْلِهِ قال أبو صالح عن ابن عباس يشفعهم فى إخوانهم ويزيدهم من فضله فى اخوان إخوانهم وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) فى مقابله ما للمؤمنين من الثواب والفضل والجملة معطوفة على قوله وهو الّذى يقبل التّوبة - .(1/5853)
وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ قال البغوي قال خباب بن الأرت فينا نزلت هذه الآية وذلك انا نظرنا إلى بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنّيناها فانزل اللّه عز وجل ولو بسط اللّه الرّزق لعباده لَبَغَوْا أى لتكبروا وأفسدوا فِي الْأَرْضِ بطرا أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وقال ابن عباس بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس واصل البغي التجاوز عن الاقتصاد فيما يتجزى كمية وكيفية وَلكِنْ يُنَزِّلُ أرزاقهم بِقَدَرٍ يقتضيه حكمته ما يَشاءُ الموصول مفعول لينزل وبقدر حال منه مقدم عليه إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) يعلم خفايا حالهم وما يؤل إليه أمرهم أخرج الحاكم وصححه عن على رضى اللّه عنه قال نزلت هذه الآية فى اصحاب الصفة وذلك انهم قالوا لو ان لنا فتمنووا الغنى واخرج الطبراني عن عمرو بن حريث مثله روى البغوي بسنده عن انس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم عن جبرئيل عن اللّه تعالى قال يقول اللّه عزّ وجلّ من أهان لى وليّا فقد بارزني بالمحاربة وانى لا غضب لاوليائى كما يغضب الليث الحرد وما « القطع - منه ره » تقرّب الىّ عبدى المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما زال عبدى المؤمن يتقرّب الىّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ان دعانى أجبته وان سالنى أعطيته وما ترددتّ فى شىء انا فاعله ترددى فى قبض روح عبدى المؤمن يكره الموت وانا اكره مساءته ولا بد له منه وان من عبادى المؤمنين لمن يسئلنى الباب من العبادة فاكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الغنى ولو أفقرته لافسده ذلك وان من عبادى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 325(1/5854)
المؤمنين لا يصلح إيمانه الا الفقر ولو أغنيته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الصحة ولو أسقمته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا السقم ولو اصححته لافسده ذلك انى أدبر امر عبادى بعلمي فى قلوبهم انى عليم خبير ( « 1 » ).
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عطف على قوله وهو الّذى يقبل التّوبة وما ذكر من الشرطية معترضة قرأ نافع وابن عامر وعاصم « و أبو جعفر - أبو محمد » بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال الْغَيْثَ أى المطر النافع الذي يغيثهم من الجدب « القحط - منه ره » مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أى ايئس الناس من نزوله وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أى مطره أو رزقه فى السهل والجبل من النبات والحيوان وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بإحسانه وينشر الْحَمِيدُ (28) المستحق للحمد فى نفسه وعلى إحسانه.
وَمِنْ آياتِهِ أى من دلائل وجوده ووحدته وقدرته وصفات كماله خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانها بذواتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم وَما بَثَّ فِيهِما عطف على السماوات أو على الخلق مِنْ دابَّةٍ من حىّ على اطلاق اسم المسبب للسبب فحينئذ يشتمل الملائكة والجن والشياطين والانس وسائر الحيوانات أو المراد مما يدب على الأر ض وما يكون فى أحد الشيئين يصدق انه فيهما فى الجملة وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) فيجمعهم يوم القيامة - .(1/5855)
وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أى بسبب معاصيكم وما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط وكذلك جئ بالفاء فى خبره على قراءة الجمهور وقرأ نافع وابن عامر « و أبو جعفر - أبو محمد » بما كسبته بغير الفاء وكذا هو فى مصاحف المدينة والشام لم يذكر الفاء استغناء بما فى الباء من معنى السببية وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) عطف على الجملة الاسمية أو معترضة قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق الا بذنب وما يعفو اللّه عنه اكثر - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 326
عليه وسلم وصب المؤمن كفارة لخطاياه - « الوصب المرض والتعب منه ره » رواه الحاكم فى المستدرك والبيهقي وروى البغوي بسنده عن على رضى اللّه عنه قال الا أخبركم بأفضل اية من كتاب اللّه عزّ وجلّ حدثنا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير وسافسرها لك يا على ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت ايديكم واللّه عزّ وجلّ أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة وما عفا اللّه عنه فى الدنيا فالله احكم ان يعود بعد عفوه - رواه احمد وغيره قال البيضاوي الآية مخصوصة بالمجرمين فان ما أصاب غيرهم فلا سباب اخر منها تعريضه للاجر العظيم بالصبر عليه قال البغوي قال عكرمة ما من نكبة أصاب عبدا فما فوقها الا بذنب لم يكن اللّه ليغفر له الا بها أو درجة لم يكن اللّه ليبلغه الا بها.(1/5856)
وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فائتين ما قضى عليكم من المصائب حال من مفعول أصابكم أو عطف على جملة ما أصابكم وعطف على هذا قوله وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحرسكم منها وَلا نَصِيرٍ (31) يدفعها عنكم ..
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ قرأ ابن كثير « و يعقوب - أبو محمد » الجواري بالياء وصلا ووقفا ونافع وأبو عمرو « ابو جعفر - أبو محمد » وصلا فقط والباقون بحذفها فى الحالين فِي الْبَحْرِ السفن الجارية فيه كَالْأَعْلامِ (32) أى كالجبال صفة للجوار وكذا الجملة الشرطية التالية على طريقة ولقد امرّ على اللّيم يسبّنى.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجرى بها فَيَظْلَلْنَ أى يبقين بعد سكونها رَواكِدَ أى ثوابت عَلى ظَهْرِهِ أى ظهر البحر لا تجرى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) جملة معترضة أى آيات لكل مؤمن لأن من صفة المؤمن الصبر فى الشدة والشكر فى الرخاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر ونصف فى الشكر - رواه البيهقي فى شعب الايمان عن انس.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ عطف على فيظللن أى أو ان يشأ يسكن الرّيح فيوبقهنّ بدوام السكون أى يهلك أهلهن باغراقها وقيل عطف على يسكن الرّيح والتقدير أو يرسلها عاصفة فيوبقهنّ بِما كَسَبُوا أى بسبب ما كسب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 327
أهلها من المعاصي وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) أى وينج ناسا على العفو منهم جملة معترضة أو معطوفة على ما سبق والتقدير ان يشأ يسكن الرّيح فيظللن رواكد أو يرسلها عاصفة فيوبقهنّ أو طيبة فيعف عن كثير وانما حذف ما حذف اقتصارا على المقصود.(1/5857)
وَ يَعْلَمَ قرأ نافع وابن عامر « و أبو جعفر » بالرفع على الاستئناف والباقون بالنصب عطفا على علة مقدرة لاسكان الريح والايباق أى ان يشأ يسكن الرّيح لينتقم من أهل السفينة وليعلم الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والابطال وقيل هو معطوف على الجزاء ونصب نصب الواقع جوابا للاشياء الستة بتقدير ان عطف المصدر على المصدر يعنى ان يشا الله تعالى اسكان الريح وإهلاك قوم وإنجاء قوم وعلم من يجادل فى آياتنا بانه ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) من العذاب الجملة سدّت مسد المفعولين ليعلم معلق عنها يعلم بحرف النفي أى يعلم الذين يكذبون بالقران ولم يعتبروا بايات الرحمان إذا صاروا إلى اللّه بعد البعث ان لا مهرب لهم من العذاب أو يعلموا حين يحيط بهم الرياح فى البحر ان لا مهرب لهم من الغرق - .
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فى الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ أى فهو متاع الحيوة الدُّنْيا أى تمتعون به مدة حياتكم القريبة الفانية ليس منها رادا للمعاد فاجملوا فى طلبها واقتصروا على ما يكفيكم عمّا يلهيكم وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب فى دار الجزاء خَيْرٌ منها كمّا وكيفا وخالص منفعة بلا شوب مشقة وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) روى عن على رضى اللّه عنه انه تصدّق أبو بكر بما له كله فلامه جمع فنزلت هذه الآية - ما الاولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث ان إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها فى الحيوة الدنيا فجاءت الفاء فى جوابها بخلاف الثانية. وفى الآية بيان ان المؤمن والكافر يستويان فى ان الدنيا متاع لهما يتمتعان بها فإذا صاروا إلى الاخرة كان ما عند اللّه خيرا للمؤمنين.
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ عطف على قوله للّذين أمنوا قرأ حمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » كبير الإثم على الواحد هاهنا وفى سورة النجم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 328(1/5858)
و الباقون كبائر بالجمع وَالْفَواحِشَ هى الكبائر وقال السدىّ هى الزنى وقال مقاتل ما يوجب الحد وقد ذكرنا الكبائر فى سورة النساء وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (48) عطف على يجتنبون والظرف متعلق بيغفرون وبناء يغفرون على ضميرهم خبرا للدلالة على انهم أحقاء بالمغفرة حال الغضب والجملة معطوفة على الصلة والموصول اما مجرور عطفا على الّذين أمنوا أو منصوب على المدح أو مرفوع.
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أى أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور أى يتشاورون بَيْنَهُمْ فيما يبدو لهم ولا يعجلون ولا شك ان المؤمن إذا استشار مؤمنا يشيره بما هو خير له فى الدارين يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المستشار مؤتمن - رواه مسلم عن أبى هريرة والترمذي عن أم سلمة وابن ماجة عن ابن مسعود وروى الطبراني فى الأوسط بسند حسن عن على رضى اللّه عنه المستشار مؤتمن فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه - وروى الطبراني فى الكبير بسند حسن عن سمرة بن جندب المستشار مؤتمن ان شاء أشار وان شاء لم يشر وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) فى سبيل الخير عطف أو حال ..(1/5859)
وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ أى الظلم والعدوان هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) أى ينتقمون ممن ظلمهم من غير ان يعتدوا قال ابن زيد جعل اللّه المؤمنين صنفين صنفا يعفون عن ظالميهم وصنفا ينتقمون منهم وهم الذين ذكروا فى هذه الآية قال ابراهيم فى هذه الآية انهم كانوا يكرهون ان يستذلوا فإذا قدروا عفوا قال عطاءهم المؤمنون الذين اخرجوا من مكة بغيا عليهم يعنى من غير حقّ الّا ان يّقولوا ربّنا اللّه ثم مكنّهم اللّه فى الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم - وقال البيضاوي وصفهم بسائر أمهات الفضائل منها كراهة التذلل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران فانه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه اجراء وإغراء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 329
على البغي - قلت الباغي ان كان ظالما متعديا على حق اللّه تعالى وعلى عامة المؤمنين فالاولى بل الواجب هناك الانتقام وسدّ باب الفتنة - وان كان متعديا على نفس أحد فالانتصار « 1 » والانتقام من غير اعتداء له منه جائز لكن العفو والإصلاح ودفع السيئة بالحسنة أفضل واللّه اعلم - ولمّا ذكر اللّه سبحانه جواز الانتصار منعهم عن التعدي فيه فقال.(1/5860)
وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها جملة معترضة سمى الجزاء سيئة لتشابهما فى الصورة أو لأنه تسوء بمن تنزل به أو لأنه أسوأ من العفو قال مقاتل يعنى القصاص فى الجراحات والدماء وقال مجاهد والسدىّ هو جواب القبيح إذا قال أخزاك اللّه فيقول أخزاك اللّه وإذا شتم أحد شتمه بمثلها من غير ان يعتدى - وقال سفيان بن عيينة قلت لسفيان الثوري ما قوله عزّ وجلّ وجزؤا سيّئة سيّئة مثلها ان كان يشتمك رجل تشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئا فسالت هشام بن حجيرة عن هذه الآية فقال الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو ان يشتمك فتشتمه « 2 » ويؤبد قول هشام قوله صلى اللّه عليه وسلم المستبّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان - رواه احمد والبخاري فى الأدب بسند
_________
(1) عن ابن عون قال كنت اسئل عن الانتصار وعن قوله تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل فحدثنى على بن زيد بن ضرعان عن أم محمد امراة أبيه قال ابن عون (و زعموا انها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة) قالت قالت عائشة أم المؤمنين دخل علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش فجعل يصنع بيده شيئا فقلت بيده حتى فطنته لها فامسك وأقبلت زينب تقحم لعائشة فنهاها فابت ان تنتهى فقال لعائشة سبيها فسبتها فانطلقت زينب إلى على فقالت ان عائشة وقعت بكم وفعلت فجاءت فاطمة فقال لها انها حبة أبيك ورب الكعبة فانصرفت فقالت لهم إلى قلت وكذا وكذا فقال لى كذا وكذا قالت وجاء على إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فكلمه فى ذلك - أخرجه أبو داود منه برد اللّه مضجعه
((1/5861)
2) عن أبى هريرة ان رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يتعجب ويتبسم فلما اكثر رد عليه بعض قوله فغضب النبي صلى اللّه عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال يا رسول اللّه كان يشتمنى وأنت جالس فلمّا رددت بعض قوله غضبت وقمت قال انه كان معك ملك يرد عنك فلمّا رددتّ عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لاقعد مع الشيطان ثم قال يا أبا بكر ثلاث هن حق ما من عبد ظلم مظلمة فيغفر عنها اللّه الا أعزّه اللّه بها نصرة وما فتح رجل باب عطية يريد بها سلبه الا زاده الله كثرة وما فتح رجل باب مسئلة يريد بها كثرة الا زاد اللّه بها قلة - رواه احمد منه نور اللّه ضريحه 12.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 330
صحيح عن عياض بن حمار وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا يكون اللعّانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة - رواه مسلم وأبو داود عن أبى الدرداء لكن قوله صلى اللّه عليه وسلم المستبّان ما قالا فعلى المبادي منهما حتى يعتدى المظلوم - رواه احمد ومسلم وأبو داود عن أبى هريرة يدل على كون البادي اظلم والمجيب له نوع رخصة فَمَنْ عَفا عن ظلم صاحبه وَأَصْلَحَ بينه وبين ظالمه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أى ان اللّه يأجره لا محالة قال البغوي قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان اجره على اللّه فليقم فلا يقوم الا من عفا ثم قرأ هذه الآية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) المبتدين بالسبّ والمتجاوزين على المثل فى الانتقام وقال ابن عباس الذين يبدون بالظلم ..
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ المصدر مضاف إلى المفعول أى بعد ظلم الظالم إياه فَأُولئِكَ أى المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) بالمعاتبة والمؤاخذة.(1/5862)
إِنَّمَا السَّبِيلُ بالعقاب فى الاخرة والمعاتبة والمؤاخذة فى الدنيا عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبدونهم بالإضرار ويؤذونهم فى أنفسهم أو أموالهم أو اعراضهم بغير حق وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فى القاموس بغى يبغى بغيا علا وظلم وعدا عن الحق واستطال أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ عطف على من انتصر وبينهما اعتراض أى من صبر على ظلم من ظلم عليه وَغَفَرَ الظالم ولم ينتصر مبتدا حذف خبره أى فهو أفضل الناس وأقيم علته مقامه وهى قوله إِنَّ ذلِكَ الصبر والغفران لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) أى من معزوماته بمعنى المطلوبات شرعا قال مقاتل يعنى من الأمور التي امر اللّه بها وقال الزجاج الصابر يؤتى بصبره الثواب فالرغبة فى الثواب أتم عزم.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ أى ناصر يتولاه أى يلى هدايته ويمنعه من عذاب اللّه مِنْ بَعْدِهِ أى بعد خذلان اللّه إياه جملة معترضة وَتَرَى الظَّالِمِينَ أيها المخاطب لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أى حين يرون العذاب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 331
ذكر بلفظ الماضي تحقيقا يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) الجملة قائم مقام المفعولين لترى أى تراهم قائلين هذا القول استفهام لفظا ومعناه السؤال يسئلون الرجعة إلى الدنيا - .(1/5863)
وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أى على النار يدل عليها العذاب خاشِعِينَ أى خائفين متذللين متقاصرين مِنَ الذُّلِّ أى مما يلحقهم من التذلل يَنْظُرُونَ حال بعد حال من فاعل يعرضون مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أى يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لاجفانهم ضعيف كالصبور ينظر إلى السيف بمسارقة النظر خوفا وذلة فى نفسه وقيل من بمعنى الباء وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يعنى من تبعهم فى الكفر بالتعريض للعذاب المخلد وقيل المراد بالأهل الحور فانهم خسروهن بعدم وصولهم إليهن المعدة لهم فى الجنة لو أمنوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف للخسران والقول فى الدنيا أو للقول أى يقولون إذا راوهم على تلك الحال أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) دائم تمام كلامهم أو تصديق من اللّه بهم.
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ أى يدفعون العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حال من اولياء وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) إلى الوصول إلى الحق فى الدنيا والى الجنة فى العقبى قد انسدّ عليه طرق الخبر كلها - .
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أى أجيبوا داعى اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أى لا يرده اللّه بعد ما حكم به ومن صلة لمرد وقيل صلة يأتى أى من قبل ان ياتي يوم من اللّه لا يمكن رده وذلك يوم الموت أو يوم القيامة ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ مفر يلحئون إليه يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) أى انكار لما اقترفتموه لأنه مدون فى صحائف أعمالكم ويشهد عليه السنتكم وجوارحكم أو ما لكم من منكر بغير ما بكم.(1/5864)
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن إجابتك يا محمد فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً حذف جزاء الشرط وأقيم تعليله مقامه تقديره فلا تحزن لان ما أرسلناك عليهم رقيبا مؤاخذا على اعراضهم إِنْ عَلَيْكَ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 332
إِلَّا الْبَلاغُ
و قد بلّغت تعليل لقوله ما أرسلناك عليهم حفيظا وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ أراد به الجنس مِنَّا رَحْمَةً أى نعمة فى الدنيا قال ابن عباس يعنى الغناء والصحة فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من القحط أو الفقر أو المرض بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى بسبب معاصيهم التي قدموه وعبر بالأيدي لان اكثر الافعال بها فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) بليغ الكفران لما تقدم من نعم اللّه عليه ينسى ويجحد باقل شىء من الشدة جميع ما أسلف عليه من النعم ويذكر البليّة ويعظّمها ولا يتامل فى سببها - وهذا الحكم وان اختص بالمجرمين جاز اسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه وتصدير الشرطية الاولى بإذا والثانية بان لان اذاقة النعمة محققة من حيث انها عادة اللّه تعالى يقتضيه رحمته الذاتية بخلاف إصابة البليّة وأقيم علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع الضمير فى الثانية للدلالة على ان هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فله التصرف فيها كيف يشاء من انعام وانتقام الجملة متصلة بقوله ومن آياته الجوار يَخْلُقُ ما يَشاءُ تعليل لما سبق وقوله يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً الآية قيل بيان للخلق يعنى يهب لبعض الناس أنثى لا يكون له ولد ذكر قيل من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لان اللّه تعالى بدا بالإناث وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) فلا يكون له أنثى.(1/5865)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً فيجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فلا يولد له وقيل الجملة بدل من يخلق بدل البعض إِنَّهُ عَلِيمٌ بما يخلق قَدِيرٌ (50) على ما يشاء فيفعل بحكمته واختياره.
قال البغوي قالت اليهود للنبى صلى اللّه عليه وسلم الا تكلم اللّه وتنظر إليه ان كنت نبيّا كما كلمه موسى ونظر إليه فقال لم تنظر موسى إلى اللّه عزّ وجلّ فانزل اللّه تعالى.
وَما كانَ لِبَشَرٍ أى ما صح له أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً وحيا وما عطف عليه منصوب على المصدرية لأن من وراء حجاب صفة كلام محذوف والإرسال نوع من الكلام وهو ما كان بتوسط الرسول وجاز ان يكون منصوبا على الحال ويكون المصدر بمعنى المفعول تقديره الا موحى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 333(1/5866)
او مستمعا من وراء حجاب أو مرسلا والوحى فى اللغة الاشارة السريعة والمراد هاهنا كلاما خفيا غير مركب من حروف مقطعة متعاقبة يلقيه تعالى فى قلب النبي صلى اللّه عليه وس لم فى المنام أو اليقظة ويعبر عنه بالإلهام وهو تعم المشافهة به كما روى فى حديث المعراج وما وعد به فى حديث الرؤية فى الاخرة والمهتف به كما اتفق لموسى على طوى والطور لكن قوله أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ يخصه بالأول فالاية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها قلت لكن ما ذكر البغوي فى شأن نزول الآية يدل على نفى النظر إلى اللّه عند الوحى فى الدنيا فالمراد بالوحى هاهنا إلقاء كلام بسيط فى القلب وبقوله من وراء حجاب كلام مسموع بلا توسط الملك بغير معائنة كما اتفق لموسى فى طوى والطور كذا قال البغوي أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا اما جبرئيل أو غيره من الملائكة فَيُوحِيَ ذلك الرسول إلى المرسل إليه بِإِذْنِهِ أى بإذن اللّه ما يَشاءُ قرأ الجمهور يرسل فيوحى بالنصب عطفا على وحيا بتقدير ان المصدرية وقرأ نافع بضم اللام وسكون الياء رفعا على الاستئناف فتكلم اللّه حينئذ ينحصر فيما كان بلا واسطة الملك ويقابله إرساله الملك بكلامه إلى الأنبياء عن عائشة رضى اللّه عنها قالت ان الحارث بن هشام سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علىّ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فاعى ما يقول - قالت عائشة ولقد رايته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه لينفصد عرقا - متفق عليه وعن عبادة بن الصامت قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك وتربد وجهه رواه مسلم وعن ابن عباس قال اقام رسول بمكة خمس عشر سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثمان سنين يوحى اليه(1/5867)
و اقام بالمدينة عشرا وتوفى وهو ابن خمس وستين سنة - متفق عليه وعن عائشة قالت أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم الحديث - متفق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 334
عليه إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ (51) يفعل ما يقتضيه حكمته فتكلم تارة بغير وسط وتارة بوسط - .
وَكَذلِكَ أى ايحاء كايحائنا إلى سائر الرسل أو كما وصفنا لك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً أى كتابا وهو القرآن كذا قال الكلبي ومالك بن دينار وقال السدىّ سماه روحا لان القلوب يحيى به كما يحيى الأبدان بالأرواح وقال الربيع الروح جبرئيل والمعنى أرسلنا إليك جبرئيل وما قال ابن عباس انه النبوة وقال الحسن الرحمة فالمراد به أيضا القرآن فانه اثر النبوة والرحمة مِنْ أَمْرِنا الذي نوحيه إليك ظرف مستقر لروح أى روحا كائنا من أمرنا ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحى حال من كاف إليك مَا الْكِتابُ سدّ مسد المفعولين لتدرى وحرف الاستفهام علقه عن العمل وَلَا الْإِيمانُ يعنى شرائعه ومعاملة التي لا طريق إليه غير السمع فقال محمد بن إسحاق المراد بالايمان فى هذه المقام الصلاة كما فى قوله تعالى ما كان اللّه ليضيع ايمانكم وهذا التفسير مبنى على ان أهل العلم اتفقوا على ان الأنبياء عليهم السلام كانوا ملهمين من اللّه تعالى بالايمان بالصانع المتوحد بصفات الكمال المنزه عن النقص والزوال. وما قيل ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان قبل الوحى يعبد اللّه على دين ابراهيم فشئ لا يصاعده العقل والنقل فانه صلى اللّه عليه وسلم كان اميّا لم يقرأ الكتاب ولم يكن دين ابراهيم شائعا فى قريش كانوا يعبدون الحجارة غير انه صلى اللّه عليه وسلم يرغب إلى الخلوة قلت ويمكن ان يقال انه صلى اللّه عليه وسلم كان مؤمنا كاملا محققا بحقيقة الايمان لكن لم يدر انّ هذه الحالة ايمان واللّه اعلم.(1/5868)
وَ لكِنْ جَعَلْناهُ قال ابن عباس يعنى الايمان وقال السدىّ يعنى القرآن نُوراً لظلمة الجهل نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أى نوصل به إلى العقيدة الحقة فى الدنيا والى الجنة والى مراتب القرب فى الاخرة وَإِنَّكَ يا محمد لَتَهْدِي الناس كافة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) وهو الإسلام الموصل إلى الجنان والمراد بالهداية هاهنا اراءة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 335
الطريق.
صِراطِ اللَّهِ بدل من الأول الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) أى امور الخلائق كلها فى الاخرة بارتفاع الوسائط والتعلقات وفيه وعد للمطيعين ووعيد للمجرمين واللّه اعلم تم تفسير سورة الشورى من تفسير المظهرى يوم السبت ثالثة عشر من الربيع الأول من السنة الثامنة بعد الف سنة 1208 ه - ومائتين ويتلوه تفسير سورة الزخرف ان شاء اللّه تعالى وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين.
[فهرس السور القرآنية من التفسير المظهرى ]
فهرس تفسير سورة الزخرف من التفسير المظهرى(1/5869)
مضمون صفحه ما ورد فى البعث انه يمطر السماء فينبتون 340 ما يقال عند ركوب الدابة 340 حديث فاطمة بضعة منى - 341 ما ورد فى كون الدنيا مهانا عند اللّه مبغوضا 347 حديث الدنيا حرام على أهل الاخرة والاخرة حرام على أهل الدنيا والدنيا والاخرة حرام على أهل اللّه 348 حديث من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه - 349 حديث طلب الحلال فريضة بعد الفريضة 349 حديث أيما رجل كسب مالا من حلال 349 حديث اجملوا فى طلب الدنيا - 350 ما ورد فى كون امر الخلافة فى قريش - 352 مضمون صفحه حديث ما ضل قوم بعد هدى الا أوتوا الجدل 357 ما ورد فى اشراط الساعة ونزول عيسى عليه السلام 358 حديث افترقت اليهود إلى احدى وسبعين فرقة والنصارى إلى اثنين وسبعين وهذه الامة إلى ثلاث وسبعين - 359 حديث ليأتين على أمتي كما اتى على اليهود والنصارى 360 حديث خليلان مؤمنان وخليلان كافران الحديث 360 حديث اين المتحابين فى جلالى أظلهم تحت ظلى 361 حديث يجمع اللّه بين المتحابين فى اللّه يوم القيامة 361 ما ورد فى خليل الجنة وثمارها - 362 ما ورد فى دعاء أهل النار مالكا ودعاء اللّه 363 سبحانه -
فهرس تفسير سورة الدّخان من التفسير المظهرى
ما ورد فى فضل ليلة النصف من شعبان 367 ما ورد فى آيات الساعة الدخان ونزول عيسى السلام 369 ما ورد فى الزقوم طعام أهل النار 375 ما ورد فى ثياب الجنة 377
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 336
حديث ما من عبد إلا وله فى السماء بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات فقداه وبكيا عليه 372 ما ورد فى الحور وفى ثمار الجنة - 377 ما ورد فى فضل سورة الدخان 378
فهرس تفسير سورة الجاثية من التفسير المظهرى(1/5870)
حديث لا تسبوا الدهر فان اللّه هو الدهر 388 حديث كانى أراكم بالكرم دون جهنم جاثين - 389 حديث الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث اللّه الريح فتطير بالايمان والشمائل 390 حديث لا بعد الموت من مستعتب 392 حديث يقول اللّه تعالى الكبرياء ردائى الحديث 392
فهرس تفسير سورة الأحقاف من التفسير المظهرى
قصة اسلام عبد اللّه بن سلام الاسرائيلى الأنصاري رضى اللّه عنه 398 حديث صل أمك ثم أمك الحديث 403 الكلام فى اقل مدة الحمل وأكثره - 403 ذكر بعض مناقب أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه 405 ما ورد فى ترك التمتع بالدنيا وعيش النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه 408 حديث ما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستجمعا 413 ضاحكا انما كان يتبسم وكان إذا راى غيما أو ريحا عرف ذلك فى وجهه - خوف النبي صلى اللّه عليه وسلم من عذاب اللّه 413 ما كان يقول إذا عصفت الريح أو راى السحاب أو المطر 413 فى اولى العزم من الرسل 417 حديث ان الدنيا لا ينبغى لمحمد ولا لال محمد الحديث 418 ما ورد فى صبر نبى من الأنبياء على إيذاء قومه 418
فهرس تفسير سورة محمّد صلّى اللّه عليه وسلم من التفسير المظهرى(1/5871)
مسئلة اختلاف العلماء فى جواز المن والفداء فى الأسارى 420 حديث لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق الحديث 423 ما ورد فى مراتب الشهداء وفضلهم 423 فيمن يقضى عنه دينه يوم القيامة 424 حديث ما أنتم فى الدنيا باعرف بازواجكم ومساكتكم من أهل الجنة 425 قوله صلى اللّه عليه وسلم لمكة أنت أحب بلاد الله إلى اللّه وإلىّ لو لم يخرجونى لم أخرج منك 426 ما ورد فى انهار الجنة وفى ثمار الجنة - 428 ما ورد فى اشراط الساعة - 430 حديث انه ليغان على قلبى وانى لاستغفر اللّه فى اليوم مائة مرة - 432 قول المجدد رضى اللّه عنه معرفة اللّه حرام 432 على من لم ير نفسه شرا من الكافر - 432 قول احمد بن حنبل فى لعن يزيد - 434 مسئلة من شرع فى صلوة أو صوم تطوعا هل يجوز له الإفساد وهل يجب عليه القضاء بالإفساد وما ورد فيه 435 ما ورد فى فضل الانفاق وذم البخل 446 حديث لو كان الدين عند الثريا لتناوله رجل من فارس - 447.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 337
سورة الزّخرف
مكّيّة وهى تسع وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أى القرآن الذي هو مبين أى مظهر باعجازه طريق الهدى من الضلالة فانه يقتضى الايمان به والايمان به يوجب العلم بما يحتاج إليه الناس من الشرائع المثمرة للفلاح فى الدنيا والاخرة - الواو للقسم أو للعطف ان كان حم مقسما به وجواب القسم.
إِنَّا جَعَلْناهُ أى ذلك الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا اقسم بالقران على انه جعله قرانا عربيا وهو من البدائع لتناسب المقسم به والمقسم عليه كقول أبى تمام وثناك انها اعريض ولعل اقسام اللّه تعالى بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة عليه لَعَلَّكُمْ أى لكى تَعْقِلُونَ (3) أى صيرناها مقروّا بلغتكم لتفهموا معانيه والا فالقرءان من صفاته تعالى غير مخلوق.(1/5872)
وَ إِنَّهُ أى القرءان عطف على انا فِي أُمِّ الْكِتابِ أى اللوح المحفوظ فانه اصل كل كتاب لقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قال ابن عباس أول ما خلق اللّه القلم فامره ان يكتب بما يريد ان يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ وانّه فى امّ الكتاب لَدَيْنا أى عندنا عندية وقربا غير متكيف ولا مكانى قيل تقديره محفوظا لدينا من التغير لَعَلِيٌّ رفيع شأنه من ان يدركه أحد أو رفيع شأنه فى الكتب السماوية لكونه معجزا من بينها قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه القرآن فى سائر الكتب السماوية بمنزلة المركز من الدائرة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 338
يرى كذلك بنظر الكشف فالمركز اصل وإجمال للدائرة بل هو أفضل وأوسع من تمام الدائرة وانما يظهر بنظر الكشف اخصر لكونه ارفع وابعد من الناظر كما ان القمر يظهر للناظر مركزا لدائرة الهالة مع كونه أوسع منها حَكِيمٌ (4) ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينسخه غيره وهما خبران لان وفى امّ الكتاب متعلق بعلىّ واللام لا يمنعه أو ظرف مستقر حال منه ولدينا بدل منه أو حال من امّ الكتاب أو من المستكن فى قوله فى أم الكتاب - .(1/5873)
أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنهاكم فنضرب عنكم الذّكر أى القرآن يقال ضربت عنه وأضربت عنه إذا تركت وأمسكت عنه وصفحا مصدر من غير لفظه يقال صفحت عنه إذا أعرضت عنه والترك والابعاد اعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين وأصله ان توفى الشيء صفحة عنقك والإنكار راجع إلى الإهمال وترك الذكر وهو انكار لا يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه ويمكن ان يكون العطف على جملة انه فى أم الكتاب لعلى حكيم والإنكار راجع إلى معنى الفاء أى بعد كون القرآن كذلك نضرب عنكم الذكر أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) قرأ نافع وحمزة والكسائي « و أبو جعفر وخلف أبو محمد » إن بكسر الهمزة على ان الجملة الشرطية مخرجة للحق مخرج المشكوك استجهالا لهم واشعارا بان الإسراف امر لا يجوّز العقل إتيانه فكانّه محال مفروض والجزاء محذوف دل عليه ما قبله والمعنىء إن كنتم قوما مسرفين نهملكم فنضرب عنكم الذّكر صفحا وقرأ الباقون بفتح الهمزة تقديره لان كنتم مسرفين وهو فى الحقيقة علة مقتضية لترك الاعراض جعلها علة للاعراض وأورد عليها همزة الإنكار والمعنى أ فنترك عنكم الوحى ونمسك من إنزال القرآن فلا نأمركم ولا تنهاكم من أجل اسرافكم فى الكفر قال البغوي قال قتادة واللّه لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل لهذه الامة لهلكوا ولكن اللّه عاد عليهم لعائدته ورحمته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء وقال مجاهد والسدىّ معناه أ فنعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم بكفركم ..
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) يعنى أرسلنا فيهم كثيرا من الأنبياء.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 339(1/5874)
وَ ما يَأْتِيهِمْ أى وما كان يأتيهم على حكاية الحال الماضية عطف أو حال مِنْ نَبِيٍّ من زائدة ونبى فى محل الرفع إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) المستثنى المفرغ منصوب على الحال من المفعول أى الا كائنين على صفة الاستهزاء أو على انه صفة لمصدر محذوف أى ما يأتيهم من نبىّ اتيانا الا اتيانا كانوا به يستهزءون أو على الظرف أى ما يأتيهم نبىّ فى زمان الّا كانوا فيه يستهزءون به كاستهزاء قومك بك تسلّية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ أى من المسرفين يعنى أهل مكة فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة أشدّ حال من مفعول أهلكنا المحذوف ............. تقديره فاهلكنا الأولين حال كونهم أشد من مشركى مكة بَطْشاً أى قوة تميز نسبة أشد أو مفعول مطلق لاهلكنا من غير لفظه وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) أى سبق فى القرآن قصتهم العجيبة فى إهلاكهم التي حقها ان يسير مسير المثل - وفيه وعد للرسول صلى اللّه عليه وسلم ووعيد للمستهزئين بمثل ما جرى على الأولين - .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أى كفار مكة جواب قسم محذوف مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) لعله لازم لقولهم أو ما دل عليه اجمالا أقيم مقامه تقريرا لالزام الحجة عليهم فانهم قالوا اللّه كما حكى عنهم فى مواضع اخر وهو الذي من صفته ما ذكر من الصفات ويجوز ان يكون هذا مقولهم وما بعده استئناف.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أى فراشا كالمهد للصبى وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا يسلكونها لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) أى لكى تهتدوا إلى مقاصدكم أو إلى حكمة الصانع بالنظر فى ذلك.(1/5875)
وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أى بمقدار ينفع ولا يضر فَأَنْشَرْنا التفات من الغيبة إلى التكلم أى حيينا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ أى إخراجا وإنشاء مثل ذلك الإنشاء أى إنشاء الأرض بالمطر تُخْرَجُونَ (11) تنشرون من قبوركم احياء أى كذلك تخرجون جملة معترضة روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 340
ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عامّا قال أبيت ثم ينزل اللّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شىء تبلى الا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق - واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس وابن جرير عن سعيد بن جبير قال يسيل واد من اصل العرش فتنبت منه كل دابة على وجه الأرض ثم يطير الأرواح فيؤمر ان يدخل الأجساد فهو قوله تعالى يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ - واخرج احمد وأبو يعلى عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبعث الناس يوم القيامة والسماء طش عليهم ..
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أى اصناف الخلائق كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) أى ما تركبونه على تغليب المتعدى بنفسه على المتعدى بغيره إذ يقال ركبت الدابة وركبت فى السفينة أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال.(1/5876)
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أى ظه ور ما تركبون وجمعه للمعنى ثُمَّ تَذْكُرُوا بقلوبكم نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ بتمليك المركب فى البر والبحر وتسخيرها وَتَقُولُوا بألسنتكم حامدين على النعمة سُبْحانَ أى اسبح سبحان الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) مطيقين من اقرن الشيء إذا اطاقه وأصله وجده قرينه إذ الصعب لا يكون قرينا للضعيف جملة وما كنّا له مقرنين حال من هذا أو من ضمير لنا.
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) أى راجعون وجه اتصاله بما سبق ان الركوب للنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى اللّه أو لأنه مخطر فينبغى ان لا يغفل عنه ويستعد للقاء اللّه هذه الجملة حال اخر روى أبو داود والترمذي والنسائي والبغوي عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه انه لمّا وضع رجله فى الركاب قال بسم اللّه فلمّا استوى قال الحمد اللّه ثم قال سبحان اللّه الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وانّا إلى ربّنا لمنقلبون ثم حمد اللّه ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال لا اله الا أنت ظلمت نفسى فاغفر لى ذنوبى فانه لا يغفر الذنوب الا أنت. ثم ضحك فقيل له ما يضحكك يا امير المؤمنين قال رايت
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 341
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت ثم ضحك فقلنا ما يضحكك يا نبى اللّه قال عجبت لعبد إذا قال لا اله الا اللّه ظلمت نفسى فاغفر لى انه لا يغفر الذنوب الا أنت قوله الّذى جعل لكم الأرض مع ما عطف عليه من الموصولات ومع صلاتها صفات للعزيز العليم وعلى تقدير الاستئناف اخبار لمبتدا محذوف أو مفعول لاعنى - .(1/5877)
وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أى وصفوه بان له جزءا معطوف على قوله ولئن سالتهم وجه اتصاله به ان بين الكلامين تناقض فانهم بعد ما اعترفوا انه خالق السماوات والأرض وصفوه بان له جزءا وما يتجزى يستحيل ان يكون واجبا ويستحيل ان يكون خالقا والمراد به قولهم الملائكة بنات اللّه إذ لا شك ان الولد ما يخلق من نطفة الوالد والنطفة جزء منه ولذلك سمى الولد جزء أو بضعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبني - رواه البخاري عن المسور بن مخرمة وعند احمد والحاكم بلفظ فاطمة بضعة منى يغضبنى ما يغضبها ويبسطنى ما يبسطها وان الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبى وصهرى إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أى جهول مُبِينٌ (15) ظاهر الكفران ومفرط الجهل حيث لم يعرف ما ينبغى ان يسب إلى اللّه سبحانه وما لا ينبغى - .
أَمِ اتَّخَذَ اللّه سبحانه مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) عطف على يخلق أو حال من فاعله والجملة مستأنفة مقدرة بالقول تقديره قل لهم أم اتّخذ ممّا يخلق بنت واصفيكم بالبنين ومن ثم جاز الخطاب واصفيكم والا فهو واقع بين كلامين مسندين إلى الغيب اعنى وجعلوا له من عباده جزءا وإذا بشر أحدهم وأم منقطعة بمعنى الهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجب وبل للاضراب عن قولهم ان للّه ولدا يعنى انهم لم يقنعوا على ان جعلوا للّه جزءا حتى جعلوا له من مخلوقاته اجزاء خسيسة مما اختير لهم وابغض الأشياء إليهم بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمهم كما قال.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أى بالجنس الذي جعل له مثلا إذ الولد لا بد ان يماثل الوالد أو المراد بالمثل الوصف والحال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 342(1/5878)
و المعنى إذا بشر أحد بالوصف الذي جعل للرحمان وصفا أى كونه اما أنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا شديد السواد من غاية الكآبة وَهُوَ كَظِيمٌ (17) مملو قلبه من الكرب الجملة الشرطية بتقدير المبتدا حال من ضميرهم فى المقدر تقديره وقل لهم أم اتّخذ ممّا يخلق بنات وأصفكم بالبنين وهم إذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا وّ هو كظيم.
أَ وَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ قرأ حفص وحمزة والكسائي « خلف - ابو » بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أى يربّى والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين أى ينبت ويكبر فى الحلية يعنى النساء فان حسنهن منحصر فى الصورة فيتزين بالحلية ليزددن حسنهن بخلاف الرجال فان حسنهم غالبا بالمعاني والأوصاف وذلك غير محتاج إلى الحلية وفيه إشمام بان النشا فى الزينة من المعائب فعلى الرجال ان يجتنبوا من ذلك ويتزينون بلباس التقوى وَهُوَ فِي الْخِصامِ أى فى المحاجة باللسان وبالسنان غَيْرُ مُبِينٍ (18) أى غير مظهر حجتهن لنقصان عقلهن وضعف أبدانهن وقلوبهن قال قتادة ما يتكلم امراة تريد ان تتكلم بحجتها الا تكلمت بالحجة عليها من يّنشؤا منصوب معطوف على بنات والهمزة كررت لتأكيد الإنكار والتوبيخ والتعجيب والمغائرة انما هى لاختلاف الصفات والمعنى أم اتخذ من مخلوقاته بنات مبغوضات مكروهات موجبات لسواد الوجه ناشيات فى الحلية ضعيفات قلبا وقالبا وعقلا وجاز ان يكون مرفوعا مبتدا محذوف الخبر معطوف على مبتدا محذوف تقديره أمن كان شأنه ما ذكر ومن ينشّؤا فى الحلية ومن هو فى الخصام غير مبين ولد اللّه سبحانه - .(1/5879)
وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً قرأ نافع وابن كثير « و ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب أبو محمد » عند بالنون ساكنة وفتح الدال على الظرف والباقون بالباء المفتوحة والالف وضم الدال على انه جمع عبد والجملة عطف على قوله وجعلوا له من عباده جزءا يعنى انهم وصفوا اللّه سبحانه بما لا يليق به تعالى من انه له ولد من خلقه وذلك تحقير لشأنه تعالى ووصفوا الملائكة الذين هم خيار عباد الله ومقربوه قربا غير متكيف بكونهم إناثا وذلك تحقير لشانهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 343
أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ قرأ أهل المدينةء أشهدوا بهمزتين الاولى للانكار وتعليل التشنيع المذكور والثانية همزة الافعال مضمومة مسهلة وسكون الشين على ما لم يسم فاعله وقالون « و أبو جعفر بلا خلاف أبو محمد عنه » من رواية أبى نشيط بخلاف عنه يدخل بين الهمزتين الفا والباقون بهمزة واحدة مفتوحة للاستفهام وفتح الشين والمعنى على القراءة الاولىء أحضروا خلقهم وعلى الثانية احضروا خلقهم حين خلقوا إناثا سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة انهم بنات اللّه وَيُسْئَلُونَ (19) عنها يوم القيامة توبيخا أخرج ابن المنذر عن قتادة قال قال ناس من المنافقين ان اللّه صاهر الجن فخرجت بينهم الملائكة فنزلت فيهم وجعلوا الملئكة الّذين هم عبد الرّحمن إناثا وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل لمّا قال أهل مكة هذا القول سالهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يدريكم انهم بنات اللّه قالوا سمعنا من ابائنا ونحن نعلم انهم لم يكذبوا فقال اللّه تعالى ستكتب شهادتهم ويسئلون عنها فى الاخرة - .(1/5880)
وَ قالُوا عطف على قوله وجعلوا الملائكة لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ان لا نعبد الملائكة ما عَبَدْناهُمْ يعنون الملائكة قاله قتادة ومقاتل والكلبي وقال مجاهد يعنون الأوثان استدلوا بنفي مشية عدم العبادة على امتناع النهى أو على حسنها وذلك باطل لان المشية يرجح بعض الممكنات على بعض مامورا كان أو منهيّا حسنا كان أو قبيحا ولذلك جهلهم فقال ما لَهُمْ بِذلِكَ أى بما يدعون من انها بنات اللّه أو انها راض بعبادتها مِنْ عِلْمٍ مستند إلى حس أو عقل موجب للعلم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) تأكيد لما سبق أى يقولون قولا باطلا بالظن والتخمين - ابدأ اللّه سبحانه وجوه فساد زعمهم وحكى تنئبهتهم المزيفة ثم نفى ان يكون لهم بها علم من طريق الحس أو العقل ثم اضرب عنه إلى انكار ان يكون لهم سند من جهة النقل فقال.
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أم متصلة معادلة بقوله اشهدوا خلقهم يعنى اشهدوا وقت خلقهم أم علموا بكتاب سماوى اتيناهم مِنْ قَبْلِهِ أى من قبل القرآن أو قبل ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أى بذلك الكتاب.
بَلْ قالُوا عطف على قول أم اتيناهم يعنى ما شهدوا خلقهم وما اتيناهم كتابا بل يتفوهون هذا القول تقليدا حيث قالوا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 344
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ على دين وملة سميت أمة لانها يؤم كالرحلة للمرحول إليه وقال مجاهد على امام وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) يعنى لا حجة لهم عقلية ولا نقلية وانما جنحوا فيه إلى تقليد ابائهم الجهلة وسموا ذلك التقليد اهتداء.(1/5881)
وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ استثناء مفرغ صفة لقرية أى الا فى قرية قال مُتْرَفُوها أى منعموها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بان التقليد فى نحو ذلك ضلال قديم وان مقدّميهم أيضا لم يكن لهم علم مستند إلى شىء من اسباب العلم وفى تخصيص المترفين اشعار بان التنعم سبب للبطالة والصرف عن النظر الصحيح إلى التقليد.
قل قرأ حفص « و ابن عامر - أبو محمد » قالَ بصيغة الماضي على انه خبر عما قاله النذير والباقون بصيغة الأمر حكاية لامر ماض اوحى من قبل إلى النذير أو خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويؤيد الأول سياق الكلام حيث قال فانتقمنا منهم بلفظ الماضي أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ قرأ أبو جعفر جئناكم على الجمع والباقون جئتكم على الافراد والهمزة لاستفهام الإنكار والواو للحال تقديره أ تتبعون اباءكم ولو جئتكم بِأَهْدى أى بدين وطريقة اهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا أى قال الكافرون فى جواب المنذرين إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أى بما أرسلت به أنت ومن قبلك كافِرُونَ (24) وان كان ذلك اهدى إقناطا للنذير من ان ينظروا أو يتفكروا فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستيصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وكذلك ننتقم ممن كذبك فلا تهتم بتكذيبهم - .
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أى برئ مصدر وضع موضع النعت مبالغة ولذا لا يثنى ولا يجمع مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) أى من عبادتكم أو من معبودكم يعنى اذكر وقت قوله ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالبرهان أو ليقلدوه ان لم يكن لهم بد من التقليد فانهم يعترفون به اشرف ابائهم.(1/5882)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أى خلقنى استثناء منقطع أو متصل على ان يعم اولى العلم وغيرهم فانهم كانوا يعبدون الأوثان أو صفة على ان ما موصوفة أى انّنى براء من الهة تعبدونها غير الذي خلقنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 345
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) أى سيثبتنى على الهداية أو يرشدنى فوق ما أرشدني اليه.
وَجَعَلَها أى جعل ابراهيم هذه الكلمة أى كلمة التوحيد المفهومة من قوله انّنى براء إلى سيهدين كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أى ذريته قال قتادة لا يزال فى ذريته من يعبد اللّه وحده وقال القرطبي جعل اللّه تعالى وصية ابراهيم باقية فى نسله وذريته وقال ابن زيد يعنى قوله أسلمت لربّ العالمين وقرأ هو سمّيكم المسلمين لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) أى اذكر قول ابراهيم لعل أهل مكة يرجعوا إلى دين ابراهيم ووصيته.
بَلْ مَتَّعْتُ إضراب عن قوله لعلّهم يرجعون هؤُلاءِ يعنى كفار مكة المعاصرين للنبى صلى اللّه عليه وسلم وَآباءَهُمْ الذين ماتوا على الشرك يعنى لم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أى القرآن وقال الضحاك الإسلام وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) أى ظاهر الرسالة بالمعجزات أو مظهر التوحيد بالحجج والآيات أو مظهر احكام اللّه سبحانه.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أى القرآن قالُوا هذا أى القرآن سِحْرٌ سموه سحرا لعجزهم عن معارضته وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) أخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس قال لما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم أنكرت العرب ذلك وقالوا اللّه أعظم من ان يكون رسوله بشرا فانزل اللّه تعالى أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ وانزل وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا فلمّا كررت الآية عليهم قالوا وان كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة.(1/5883)
وَ حينئذ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أى من احدى القريتين مكة والطائف عَظِيمٍ (31) بالجاه والمال فان الرسالة من اللّه منصب عظيم لا يليق الا لعظيم ولم يعلموا انها رتبة روحانية يستدعى عظم النفس بالتجلى بالفضائل والكمالات القدسية وكمال الاستعداد للتجليات الذاتية والصفاتية لا التزخرف بالزخارف الدنيوية - واخرج ابن المنذر عن قتادة قال قال الوليد بن المغيرة لو كان ما يقول محمد حقّا انزل علىّ هذا القرآن وابن مسعود الثقفي فنزلت هذه الآية - وقال البغوي قال مجاهد يعنون عتبة بن ربيعة من مكة و
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 346
عبد ياليل بالطائف وقيل الوليد من مكة ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ويرى هذا عن ابن عباس قال اللّه تعالى ردّا عليهم.(1/5884)
أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعنى النبوة استفهام انكار فيه تجهيل وتوبيخ وتعجيب من تحكمهم نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ أى ما به عيشهم من الأرزاق فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تعليل للتجهيل والتوبيخ وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ تميز عن النسبة يعنى رفعنا درجات بعضهم فوق بعضهم بالمال والجاه فجعلنا بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا وبعضهم مالكا وبعضهم مملوكا لِيَتَّخِذَ متعلق برفعنا بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا مسخّرا فى العمل له والياء للنسبة قال قتادة والضحاك أى يملك بعضهم بما لهم بعضا بالعبودية والملك ولا يقدر أحدهم ان يزيد فى معيشته وينقص ما فى معيشة غيره ولا ان يعترض على اللّه فيما فعل من القبض وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعنى النبوة وما يتبعها خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) من حطام الدنيا فإذا لم يقدر أحدهم ان يختار لنفسه الرفعة فى الدنيا فانّى لهم ان يجعلوا النبوة التي هى أعلى مراتب الانسانية حيث شاءوا والعظيم عند اللّه من رزق النبوة لا من رزق متاع الدنيا والجملة عطف أو حال - ولمّا كانت العظمة عند الكفار بكثرة حطام الدنيا بين اللّه سبحانه كون الدنيا عند اللّه حقيرا مبغوضا بقوله.(1/5885)
وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كلهم أُمَّةً واحِدَةً يعنى كفارا لحبهم الدنيا العاجلة وغفلتهم عن الاخرى الاجلة ان مع صلته مبتدا وخبره محذوف أى حاصل وجواب لو لا قوله لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله لمن يّكفروا علة كقولك وهبت له ثوبا لقميصه سُقُفاً قرأ ابن كثير وأبو جعفر « و أبو عمرو - أبو محمد » بفتح السين وسكون القاف على الواحد بارادة الجنس والباقون بضم السين والقاف على الجمع للسّقف مثل رهن ورهن قال أبو عبيدة ولا ثالث لهما وقيل هو جمع سقيف وقيل جمع سقوف جمع الجمع مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ أى مصاعد ودرج من فضة لم يذكر الصفة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 347
هاهنا اكتفاء بذكرها فى المعطوف عليه اعنى سقفا عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) أى يعلون السطوح.
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً جمع سرير أى وجعلنا لهم سررا من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34).(1/5886)
وَ زُخْرُفاً أى زينة عطف على سقف أو ذهبا كما فى قوله تعالى أو يكون لك بيت من زخرف فهو معطوف على محل من فضة - وذلك أى تخصيص الدنيا بالكفار لكونها مبغوضة عند اللّه والكافر مبغوضا فيعطى المبغوض للمبغوض وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ المذكورات من سقف الفضة ومعارجها وابوابها وسررها وزخرفها لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا قرأ عاصم وحمزة وهشام « و ابن جماز - أبو محمد » بخلاف عنه لمّا مشددة فان نافية ولمّا بمعنى الا والمعنى وما ذلك الا متاع الحيوة الدنيا لا بقاء لها ولا اعتداد لها عند اللّه والباقون بتخفيف لما فان مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما زائدة وَالْآخِرَةُ أى الدار الاخرة متحققة عِنْدَ رَبِّكَ أى فى علمه وقضائه لِلْمُتَّقِينَ (35) من الشرك والمعاصي فيه دلالة على ان العظيم هو العظيم فى الاخرة لا فى الدنيا واشعار بما لاجله لم تجعل زخارف الدنيا كلها للمؤمنين وجعل بعضها لاعداء اللّه وذلك انها مبغوضة للّه تعالى حريّة ان تجعل كلها للكافرين لو لا مخافة اجتماع الناس على الكفر ولو كانت حسنة مرضية للّه تعالى لم يعط الكافر منها شيئا - عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وفى رواية قطرة من ماء رواه الترمذي والضياء وعن المستور بن شداد أحد بنى فهر قال كنت وفى الركب الذين وقفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ا ترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها فقالوا من هوانها ألقوها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالدينا أهون على اللّه من هذه على أهلها - رواه البغوي واخرج أبو نعيم عن داود بن هلال الضبي قال مكتوب فى صحف ابراهيم عليه السلام يا دنيا ما اهونك على الأبرار الذين تزينت لهم انى قد قدمت فى قلوبهم بغضك والصدود عنك ما خلقت أهون علىّ منك(1/5887)
كل شأنك صغير والى الفنا تصير قضيت عليك يوم خلقتك ان لا تدومى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 348
لاحد ولا يدوم لك أحد وان بخل بك صاحبك وشح عليك طوبى للابرار الذين اطلعونى عن قلوبهم على الرضاء واطلعونى من ضميرهم على الصدق والاستقامة طوبى لهم ما عندى من الجزاء إذا وفدوا الىّ من قبورهم يسعى امامهم والملائكة حافّون بهم حتى ابلغ بهم إلى ما يرجون من رحمتى - وعن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ما كان من اللّه عزّ وجلّ - رواه الصياء وروى ابن ماجة عن أبى هريرة والطبراني فى الأوسط بسند صحيح عن ابن مسعود مرفوعا نحوه بلفظ الا ذكر اللّه وما والاه أو عالما أو متعلما - والبزار عن ابن مسعود نحوه بلفظ الا امرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكر اللّه - والطبراني فى الكبير بسند صحيح عن أبى الدرداء مرفوعا نحوه بلفظ الا ما ابتغى به وجه اللّه عزّ وجلّ - وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له - رواه احمد والبيهقي بسند صحيح ورواه البيهقي عن ابن مسعود موقوفا وعن ابن عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة - رواه احمد والطبراني والحاكم فى المستدرك وأبو نعيم فى الحلية وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر - رواه احمد ومسلم فى الصحيح والترمذي وروى البيهقي والحاكم عن سلمان والبزار عن ابن عمر يعنى ان المؤمن وان كان فى نعيم فالدنيا بالنسبة إلى ما أعد له فى الاخرة من الثواب سجن وسنة والكافر وان كان فى ضر وبلاء فالدنيا بالنسبة إلى ما أعد له فى الاخرة من العذاب جنة واللّه اعلم - فان قيل روى صاحب مسند الفردوس عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال(1/5888)
الدنيا حرام على أهل الاخرة والاخرة حرام على أهل الدنيا والدنيا والاخرة حرام على أهل اللّه - ما معنى ذلك قلت و
معناه عندى واللّه اعلم ان حب الدنيا حرام على أهل الاخرة يعنى على المؤمنين لا الانتفاع بمتاع الدنيا حيث قال اللّه تعالى قل من حرّم زينة اللّه الّتى أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق قل هى للّذين أمنوا فى الحيوة الدّنيا خالصة يوم القيمة فمن ارتكب بحب الدنيا أضر بآخرته قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسير المظهري ، ج 8 ، ص : 349(1/5889)
من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فاثروا ما يبقى على ما يفنى - رواه احمد والحاكم فى المستدرك بسند صحيح عن أبى موسى والاخرة يعنى حظوظ الاخرة حرام على أهل الدنيا يعنى من همه الدنيا لا غير يعنى الكفار وفيهم قال اللّه تعالى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ والدنيا والآخرة يعنى حبهما حرام على أهل اللّه وهم الذين امتلأ قلوبهم من حب اللّه تعالى لا تلتفت قلوبهم إلى شىء من الدنيا والاخرة غير اللّه سبحانه روى ان رابعة البصرية أخذت فى احدى يديها ظرفا من ماء وفى الاخرى قطعة من نار فقيل لها اين تريدين قالت أريد ان أطفأ نار جهنم واحرق الجنة كيلا يعبد الناس اللّه تعالى طمعا فى الجنة ولا خوفا من النار بل خالصا لوجهه تعالى - قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه وكان هذا مبنيّا على السكر منها بل لا بد للمؤمن ان يطمع فى الجنة لا لنفسها بل لكونها محلا لرحمة اللّه تعالى ويتعوذ من النار لكونها محلا بسخط اللّه تعالى وغصته نعوذ باللّه منها - فان قيل التمتع بحطام الدنيا ما لم يكن محرما لحق اللّه تعالى ولا الحق العبد جائز لما ذكرنا وطلب المعاش جائز بل فريضة حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلب الحلال فريضة بعد الفريضة - رواه الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود فما معنى الدنيا وحبها - قلت معنى حب الدنيا ايثارها على الاخرة والانهماك فى اكتسابها ولذاتها بحيث يغفل عن اكتساب الثواب واجتناب العذاب والحرص على جمع المال وطول الأمل وزعم الأغنياء خيرا من الفقراء وتعظيم الأغنياء فوق تعظيم الفقراء لاجل غناه لا لدفع مضرة أو مكافاة احسان أو لغير ذلك من غرض مشروع أو ان يريد علوّا فى الأرض أو فسادا - واما طلب المعاش وكسب الأموال (من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه واقام الصّلوة وإيتاء الزّكوة يخافون(1/5890)
يوما تتقلّب فيه القلوب والابصار) للانفاق على نفسه حتى يتقوى على عبادة ربه وعلى عياله أداء لحقوقهم وللانفاق فى سبيل اللّه فليس بمكروه بل منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو مباح قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيما رجل كسب مالا من حلال فاطعم نفسه أو كساها فمن دونه من خلق اللّه كان له
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 350
به زكوة - رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث أبى سعيد ولكن المسنون الإجمال فى طلب الدنيا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اجملوا فى طلب الدنيا فان كلّا ميسر لما خلق له - رواه ابن ماجة والحاكم - .
وَمَنْ « 1 » يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أى من يعرض عن القرآن ويتعامى عنه لفرط اشتغاله باللذات وانهماكه فى الشهوات يقال عشوت إلى فلان عشوا إذا قصدته مهتديا وعشوت عنه إذا أعرضت عنه كما يقال عدلت إلى فلان وعدلت عنه أى ملت إليه وعنه ورغبت فيه ورغبت عنه قال الخليل بن احمد اصل العشو النظر ببصر ضعيف نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً قرأ يعقوب يقيّض بالياء التحتانية على صيغة الغائب والضمير فيه راجع إلى الرحمان والباقون بالنون على التكلم والتعظيم أى نصبته له شيطانا ونضمه إليه ونسلط عليه فَهُوَ أى الشيطان لَهُ قَرِينٌ (36) لا يفارقه ويزين له السيئات ويخيل إليه انه على الهدى.
وَإِنَّهُمْ أى الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ أى يمنعونهم جمع الضمير نظرا إلى معنى من الموصولة وهم العاشين عَنِ السَّبِيلِ أى سبيل الهدى جملة معترضة وَيَحْسَبُونَ أى العاشون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) أى على الهداية الجملة حال من الضمير المنصوب من ليصدونهم.
حَتَّى إِذا جاءَنا غاية لحسبانهم قرأ أهل العراق غير أبى بكر جاءنا على الافراد يعنى إذا جاء العاشى والباقون جاءانا على التثنية يعنى إذا جاء العاشى وشيطانه وقد جعلا فى سلسلة واحدة
_________
((1/5891)
1) عن محمد بن عثمان المخزومي ان قريشا قالت قيضوا لكل رجل من اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم رجلا يأخذه - فقيضوا لابى بكر طلحة بن عبيد اللّه فاتاه وهو فى القوم فقال أبو بكر إلى ما تدعونى قال أدعوك إلى عبادة اللات والعزى قال أبو بكر ما اللات قال ربنا قال ما العزى قال بنات فقال أبو بكر فمن أمهم فسكت طلحة ولم يجبه فقال طلحة لاصحابه أجيبوا الرجل فسكت القوم فقال طلحة قم يا أبا بكر اشهد ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه فانزل ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانا الآية 12 -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 351
قالَ أى العاشى لشيطانه يا للتنبيه أو المنادى محذوف تقديره يا قرين لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أى بعد المشرق من المغرب فغلّب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما أو المراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) أنت لى قال أبو سعيد الخدري رضى اللّه عنه إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتى يصير إلى النار - قال اللّه تعالى.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أى فى الاخرة إِذْ ظَلَمْتُمْ إذ تبين لكم انكم أشركتم وظلمتم أنفسكم فى الدنيا وإذ بدل من اليوم أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) لان حقكم ان تشتركوا أنتم وقرناؤكم فى العذاب كما كنتم مشتركين فى موجبه ويجوز ان يسند الفعل إليه يعنى لن ينفعكم كونكم مشتركين فى العذاب كما ينفع الواقعين فى امر صعب معاونتهم فى تحمل إعيائه وتقسمهم بمكائده شدائده لان لكل واحد منكم ومن شياطينكم الحظ الاوفى والأوفر من العذاب وجاز ان يكون جملة ولن يّنفعكم حالا من فاعل قال يليتنى ويكون فيها التفاتا من الغيبة إلى الخطاب - .(1/5892)
أَ فَأَنْتَ يا محمد تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) عطف على العمى باعتبار تغائر الوصفين والاستفهام للانكار والتعجب والفاء للعطف على محذوف تقديره ءانت تريد ان تهديهم فانت تسمع الصّمّ يعنى لست تقدر على هداية هؤلاء الكفار بعد تمرنهم على الكفر واستغراقهم فى الضلال بحيث صار ظلمة الكفر عليهم غشاوة على أعينهم ووقرا فى آذانهم كانهم لا يسمعون كلامك ولا يبصرون طريقا تهديهم اليه.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ان شرطية اتصلت بما الزائدة المؤكدة بمنزلة لام القسم فى استجلاب النون المؤكدة والمعنى فان نقبضك قبل تعذيبهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) بعدك فى الدنيا وفى الاخرة علة لجزاء محذوف أقيم مقامه يعنى لا تحزن فانّ منهم منتقمون.
أَوْ نُرِيَنَّكَ فى الدنيا الَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) نحو ما ذكر يعنى لا تعجب فانا على تعذيبهم مقتدرون لا يفوتوننا نعذبهم متى شئنا و
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 352
المراد به مشركوا مكة انتقم اللّه منهم يوم بدر وهذا قول اكثر المفسرين وقال الحسن وقتادة عنى به أهل الإسلام من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وقد كان بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم نقمة شديدة فاكرم اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم وذهب به ولم يره فى أمته الا الذي يقر عينه وأبقى النقمة بعده وروى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم ارى ما يصيب أمته بعده فما رئى ضاحكا منبسطا حتى قبضه اللّه - قلت لعل ذلك مقتل حسين عليه السلام وما فعل بعد ذلك بنوا امية وعن عبد الرحمان بن مسعود العبدى قال قرأ على بن أبى طالب هذه الآية فقال قد ذهب نبيه وبقيت نقمته فى عدوه.(1/5893)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الوحى المتلو وغير المتلو فاحفظه واعمل به الفاء للسببية والجملة متصلة بقوله انّا جعلناه قرءانا عربيّا وبينهما معترضات إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) لا عوج له هذه الجملة فى مقام التعليل للامر بالاستمساك ..
وَإِنَّهُ أى القرآن لَذِكْرٌ لَكَ أى شرف لك وَلِقَوْمِكَ قريش « 1 » الجملة حال من فاعل استمسك قال البغوي روى الضحاك عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يجب بشئ حتى نزلت هذه الآية وكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال لقريش - وكذا روى عن على
_________
(1) وعن عدى بن حاتم قال كنت قاعدا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال الا ان اللّه علم ما فى قلبى من حبى لقومى فشرف فيهم فقال وانّه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون فجعل الذكر والشرف لقومى فى كتابه ثم قال وانذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين فالحمد للّه الذي جعل الصديق من قومى والشهيد من قومى والائمة من قومى - ان اللّه قلّب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهى الشجر المباركة التي قال اللّه فى كتابه ومثل كلمة طيّبة كشجرة طيبة يعنى قريشا أصلها ثابت وفرعها فى السّماء يقول أصلها محرم وفرعها فى السماء أى الشرف الذي شرفهم اللّه بالإسلام الذي هداهم له وجعلهم اهله ثم انزل فيهم سورة من كتابه بمكة لايلاف قريش إلى آخرها قال عدى بن حاتم ما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر عند قريش بخير قط الا سره حتى يتبين ذلك السرور للناس كلهم فى وجهه وكان كثيرا ما يتلو هذه الآية وانّه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون 12 منه برد الله تربته
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 353(1/5894)
رضى اللّه عنه وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزال هذا الأمر فى قريش ما بقي اثنان وعن معاوية قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان هذا الأمر فى قريش لا يعاديهم أحد الا كبه اللّه على وجهه ما أقاموا الدين. وقال مجاهد القوم هم العرب والقران لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالاخص عن العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبنى هاشم وقيل ذلك شرف لك بما اعطاك من الحكمة ولقومك المؤمنين بما هداهم اللّه وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) يوم القيامة عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه جملة معترضة.
وَسْئَلْ عطف على فاستمسك مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) قال البغوي اختلف العلماء فى هذا المسئولين قال عطاء عن ابن عباس رضى اللّه عنها انه لمّا اسرى بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعث اللّه له آدم وولده من المرسلين فاذّن جبرئيل ثم اقام وقال يا محمد تقدم فصل بهم فلمّا فرغ من الصلاة قال جبرئيل سل يا محمد من أرسلنا قبلك من رّسلنا الآية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا اسئل قد اكتفيت - وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة اسرى به ان يسئلهم فلم يشك ولم يسئل وقال اكثر المفسرين معناه واسئل امم من أرسلنا من قبلك وعلماء دينهم يعنى مومنى أهل الكتاب وهذا قول ابن عباس فى سائر الروايات ومجاهد وقتادة والضحاك والسدىّ والحسن والمقاتلين ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب وسئل الّذين أرسلنا إليهم قتلك من رّسلنا ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركى قريش انه لم يأت رسول ولا كتاب بعباده غير اللّه عزّ وجلّ - .(1/5895)
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) يريد باقتصاصه تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومناقضة قولهم لولا نزّل على رجل من القريتين عظيم والاستشهاد بدعوة موسى إلى التوحيد.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا الدالة على رسالته منها العصا واليد البيضا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) استهزاء بها أول ما راوها بلا تأمل فيها لمّا ظرف مضاف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 354
الى جملة بعدها متعلقة بمعنى المفاجاة الذي هو عامل فى إذا يعنى لما جاءهم بايتنا فوجى وقت كونهم يضحكون وجملة فوجى عطف على قوله فقال انّى رسول ربّ العالمين.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من آيات العذاب كالستين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس فانها كانت آيات على صدق موسى عليه السلام إِلَّا هِيَ أى الا اية هى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أى من قرينة التي كانت قبلها وجملة ما نريهم حال من ضمير منها والأظهر ان يقال ان كل واحدة منها كانت بالغة أقصى درجات الاعجاز بحيث يحسب الناظر إلى كل واحدة منها انها اكبر من غيرها والمراد وصف الكل بالكبر كقولك رايت رجالا كل واحد منهم أفضل من غيره وكقول الشاعر - من تلق منهم فقد لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسرى بها الساري - أو يقال بان كل واحد منها مختصة بنوع من الاعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار وَأَخَذْناهُمْ يعنى ال فرعون بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) أى لكى يرجعوا عن كفرهم وجملة وأخذناهم عطف على ولقد أرسلنا.(1/5896)
وَ قالُوا يعنى قال فرعون وقومه لموسى يا أَيُّهَا السَّاحِرُ قرأ ابن عامر بضم الهاء فى ايّه وصلا والباقون بفتحها على الأصل وقرأ أبو عمر والكسائي « و يعقوب - أبو محمد » بالألف وقفا على الأصل والباقون ايّه بغير الف - اطمعوا موسى عليه السلام فى ايمانهم وعلقوا الاهتداء بهدايته على دعائه وكشف الضرّ عنهم ومع ذلك لم يسموه نبيّا وسموه ساحرا كما كانوا يسمونه قبل ذلك وذلك من شدة شكيمتهم على الكفر وفرط حماقتهم قال الزجاج دعوه بذلك الاسم لما تقدم له عندهم من التسمية وقيل انما قالوا هذا تعظيما وتوقيرا له لان السحر كان عندهم علما عظيما وصفة ممدوحة كانّهم قالوا يا أيها العالم الكامل الحاذق وهذا عندى غير سديد لانهم اتهموه بالسحر أول مرة حين أنكروا نبوته وقالوا انّ هذا لسحر مبين قال موسى أ تقولون للحقّ لمّا جاءكم اسحر هذا ولا يفلح السّاحرون وقيل معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره ادْعُ لَنا رَبَّكَ ان يكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ متعلق بادع أى بما اخبرتنا عن عهده إليك بكشف العذاب إذا دعوته إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) ان كشف عنا العذاب هذه جملة مستأنفة فدعا موسى عليه السلام
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 355
بكشف العذاب عنهم فكشف اللّه عنهم العذاب قال اللّه تعالى.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعاء موسى عليه السلام إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) فاجئوا نقض عهدهم بالايمان وأصروا على كفرهم حين كشفنا عنهم العذاب ..(1/5897)
وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ فى مجمعهم وفيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة ان يؤمن بعضهم قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ أى انهار النيل ومعظمها اربعة نهر الملك ونهر طولو ن ونهر دمياط ونهر تنيس عطف على ملك مصر تَجْرِي مِنْ تَحْتِي قرأ نافع وأبو عمرو البزي « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى من تحت قصورى أو تحت امرى أو بين يدى فى البساتين حال وجاز ان يكون هذه مبتدا والأنهار صفة له وتجرى خبره والجملة حال أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) ذلك.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ بهذه المملكة والبسطة مِنْ هذَا يعنى موسى عليه السلام الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير لا يستعد للرياسة من المهانة وهى القلة وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) يفصح كلامه للثغة التي كانت فى لسانه عليه السلام بعد ما زالت معظمها بدعائه عليه السلام حين قال واحلل عقدة من لّسانى يفقهو قولى وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيها للتقرير إذ قدم من اسباب فضيلته وقال البغوي أم بمعنى بل على قول اكثر المفسرين وقال الفراء الوقف على قوله أم وفيه إضمار تقديره أ فلا تبصرون أم تبصرون وبعده كلام مبتدا فَأَم على هذا متصلة وقيل أم متصلة على اقامة المسبب مقام السبب فان قوله انا خير معناه تعلمون انا خير والعلم بكونه خيرا مسبب للتبصر فكانّه قال أ فلا تبصرون أم تبصرون فتعلمون انى خير.(1/5898)
فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أى على موسى أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ الفاء للسببية فانّ طعن فرعون فى موسى عليه السلام بالحقارة كان سببا لتنديهم على فوات العز والجاه قرأ حفص ويعقوب اسورة جمع سوار والباقون اساورة جمع الجمع قيل أصله اساوير عوض التاء من الياء وقد قرئ به - قال مجاهد كانوا إذا سوّدوا رجلا سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته فقال فرعون فهلّا القى رب موسى على موسى اسورة من ذهب ان كان سيدا يجب علينا طاعة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 356
أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) متتابعين يتابع بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه ويعينونه على امره - .
فَاسْتَخَفَّ أى فرعون عطف على نادى قَوْمَهُ القبط أى وجدهم جهالا وقيل حملهم على الخفة والجهل يقال استخف رأيه إذا حمله على الجهل وازاله عن الصواب وقيل أى طلب منهم الخفة فى مطاوعته فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به من نقض العهد مع موسى عليه السلام إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.(1/5899)
فَلَمَّا آسَفُونا أى أغضبونا بالإفراط فى العناد والعصيان يقال أسف فلان إذا اشتد غضبه الظرف متعلق بقوله انْتَقَمْنا مِنْهُمْ وهو معطوف على أطاعوه وعطف عليه قوله فَأَغْرَقْناهُمْ فى بحر النيل أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام قال الفراء هو جمع سليف كرغف ورغيف من سلف يسلف بضم اللام فيهما أى تقدم أو جمع سالف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كخشب والباقون بفتحهما مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم جمع خادم يعنى جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون وَمَثَلًا عبرة وعظة لِلْآخِرِينَ (56) وقيل سلفا لكفار هذه الامة إلى النار ومثلا لمن بقي بعدهم وقيل مثلا للاخرين أى قصة عجيبة يسير مسير الأمثال لهم فيقال مثلكم مثل قوم فرعون واللّه اعلم - أخرج احمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لقريش انه ليس أحد يعبد من دون اللّه فيه خير فقالوا الست تزعم ان عيسى كان نبيّا وعبدا صالحا وقد عبد من دون اللّه فانزل اللّه تعالى.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أى ضربه قريش مثلا واخرج ابن مردوية والضياء فى المختار عن ابن عباس قال جاء عبد اللّه بن الزبعرى إلى النبي صلى اللّه عليه فقال يا محمد انك تزعم ان اللّه قد انزل إليك انّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون قال نعم قال قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير فكل هؤلاء فى النار مع الهتنا فنزلت انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون ونزلت ولمّا ضرب ابن مريم مثلا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 357(1/5900)
الى قوله خصمون إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) قرأ أهل المدينة والشام والكسائي « و خلف - أبو محمد » يصدّون بضم الصاد أى يعرضون عنه ويكون لازما ومتعديا أى يعرضون عنه ويمتنعون أو يمنعون الناس عنه والباقون بكسر الصاد وقيل معناه مثل معنى مضموم العين قال الكسائي هما لغتان مثل يعرشون بضم الراء وكسرها أى يصيحون كذا قال سعيد بن المسيب وقال الضحاك يتعجبون وقال قتادة يجزعون وقال القرطبي يضجرون - قال قتادة لمّا ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون يقولون ما يريد منا محمد الا ان نعبده ونتخذه الها كما عبدت النصارى عيسى.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا قرأ الكوفيون « و روح أبو محمد » بتحقيق الهمزتين والف بعدهما والباقون بتسهيل الثانية وبعدهما الف ولم يدخل أحدهم الفا بين المحققة والمسهلة خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك الهتنا وقال ابن زيد والسدىّ أم هو يعنون عيسى عليه السلام قالوا يزعم محمد ان كل من عبد من دون اللّه فى النار نرضى ان يكون الهتنا مع عيسى وعزير والملائكة فى النار ما ضَرَبُوهُ هذا المثل لَكَ إِلَّا جَدَلًا أى للجدل والخصومة بالباطل لا للتميز بين الحق والباطل لانهم قد علموا ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم لا يريد عبادة نفسه أو قد علموا ان قوله ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم المراد منه الأصنام فان ما لغير ذوى العقول بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) شداد الخصومة حراص على اللجاج اعتادوا بالخصومة عن أبى امامة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه الا أوتوا الجدل ثم قرأ ما ضربوه لك الّا جدلا بل هم قوم خصمون - رواه البغوي وكذا روى احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم فى المستدرك - .(1/5901)
إِنْ هُوَ أى عيسى إِلَّا عَبْدٌ للّه ليس ابنه أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة والزلفى وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أى امرا عجيبا كالمثل السائر واية وعبرة يعرفون به قدرة اللّه على ما يشاء حيث خلقه من غير اب لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ إلى آخره
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 358
جملة معترضة لبيان قدرة اللّه تعالى لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أى لخلقنا منكم أى من الانس أو المعنى لاهلكناكم وجعلنا بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) أى يخلفونكم فى الأرض يعمرون الأرض ويعبدوننى ويطيعونى وقيل يخلف بعضهم بعضا يعنى ان حال عيسى وان كان عجيبا فنحن قادرون بما هو اعجب منه وان الملائكة مثلكم من حيث انها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها ابداعا فمن اين لها استحقاق الالوهية والانتساب إلى اللّه تعالى.(1/5902)
وَ إِنَّهُ يعنى عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أى نزوله من اشراط الساعة يعلم به قربها قرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة وانّه لعلم السّاعة بفتح العين واللام أى امارة وعلامة - عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم - رواه الشيخان فى الصحيحين وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي صلى اللّه عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قالوا نذكر الساعة قال انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم - وفى رواية وفى العاشرة وريح تلقى الناس فى البحر - رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجال فذكر حديثا طويلا فى قصته إلى ان قال إذ بعث اللّه المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة بيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين واضعا كتفه على اجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ الحديث - رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم عيسى بن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبل أحد حتى يكون السجدة الواحد خيرا من الدنيا وما فيها رواه الشيخان فى الصحيحين وأخرجه مسلم من حديثه أيضا لينزلنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرنّ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 359(1/5903)
الصليب وليقتلنّ الخنزير وليضعنّ الجزية وترك القلاص فلا يسعى عليها وليذهبنّ التباغض وليدعنّ إلى المال فلا يقبله أحد - وروى مسلم من حديث جابر فيقول أميركم تعال صل لنا فيقول ان بعضكم على بعض أمراء مكرمة لهذه الامة وذكر البغوي فيأتى بيت المقدس والناس فى صلوة العصر فيتاخر الامام فيقدمه عيسى ويصلى على شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى الا من أمن به - وقال الحسن وجماعة الضمير راجع إلى القرآن يعنى ان القرآن لعلم للساعة يعلّم بقيامها ويخبركم باحوالها وأهوالها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها الفاء للسببية يعنى لما كان عيسى سببا للعلم بقيام الساعة أى فلا تشكنّ فيها قال ابن عباس لا تكذبوا بها وَاتَّبِعُونِ قرأ أبو عمرو « و كذا أبو جعفر ويعقوب فى الحالين - أبو محمد » بالياء وصلا فقط والباقون بحذفها وصلا ووقفا يعنى اتبعوا هداى أو شرعى أو رسولى وقيل هو قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم امر ان يقوله تقديره وقل اتبعونى هذا الذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) لا يضل سالكه تعليل لقوله اتبعونى.
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ أى لا يمنعكم الشَّيْطانُ عن متابعتى الجملة معطوفة على قوله اتّبعون إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) ظاهر عداوته حيث أخرجكم عن الجنة وعرضكم على البلية ويصدكم عن اتباع الحق والوصول إلى الجنة - .(1/5904)
وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ أى بالمعجزات أو بايات الإنجيل أو بالشرائع الواضحات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أى بالعلوم الحقة الباء بمعنى مع أو للتعدية وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بمحذوف تقديره وجئتكم لا بين لكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وذلك ان اليهود صاروا بعد موسى عليه السلام احدى وسبعين فرقة باختلاف الأهواء فلمّا جاء عيسى عليه السلام صدهم عن العقائد الباطلة وهداهم إلى الحق والصواب عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة - رواه أبوا داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 360
بسند صحيح قال الزجاج الذي جاء به عيسى فى الإنجيل انما هو بعض الذي اختلفوا فيه وبين لهم فى غير الإنجيل ما احتاجوا إليه فَاتَّقُوا اللَّهَ الفاء للسببية فان مجئ عيسى بالحكمة سبب للتقوى وَأَطِيعُونِ (63) فيما ابلّغه عنه.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ دون غيره بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) اشارة إلى مجموع الامرين وهذا تتمة كلام عيسى أو استئناف من اللّه تعالى يدل على المقتضى للطاعة فى ذلك.(1/5905)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة عطف على قال قد جئتكم مِنْ بَيْنِهِمْ أى بين قوم عيسى كما مرّ فى الحديث انهم تفرقوا إلى اثنين وسبعين فرقة أو من بين النصارى واليهود فَوَيْلٌ أى هلاك عظيم لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم باتباع الهوى ورفض ما نطق به الكتاب والسنة من المتحزبين مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) أى من نار جهنم الفاء للسببية فان اختلافهم سبب للويل والهلاك عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليأتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان من كان منهم من اتى امه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم فى النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه وأصحابي رواه الترمذي وفى رواية احمد وابى داود عن معاوية ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة وهى الجماعة.
هَلْ يَنْظُرُونَ يعنى قريشا أو الذين ظلموا يعنى لا ينتظرون شيئا إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من الساعة أى إتيانها يعنى انها اتية لا محالة فكانّهم ينتظرون إتيانها بَغْتَةً فجاءة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) أى غافلون عنها لاشتغالهم بالدنيا وانكارهم لها والجملة حال من فاعل ينظرون أو مفعول تأتيهم.
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المتحابين الْمُتَّقِينَ (67) روى البغوي عن على رضى اللّه عنه قال فى هذه الآية خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال يا رب ان فلانا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 361(1/5906)
كان يأمرنى بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرنى بالخير وينهانى عن الشر ويخبرنى انى ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتنى وأكرمه كما أكرمتني فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليمنن أحدكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب ان فلانا كان ينهانى عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرنى بالشر وينهانى عن الخير ويخبرنى انى غير ملاقيك فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يقول يوم القيامة اين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل الا ظلى - رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو ان عبدين تحابا فى اللّه عزّ وجلّ واحد فى المشرق واخر فى المغرب لجمع اللّه بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي كنت تحبه فىّ. رواه البيهقي فى شعب الايمان واللّه اعلم ..
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) هذه الجملة بتقدير القول مستأنفة اخرى تقديره يقول اللّه للمتحابين المتقين يومئذ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون روى البخاري عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال سمعت ان الناس حين يبعثون ليس منهم أحد الا فزع فنادى مناديا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرجوا الناس فيتبعها.
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صفة للمنادى وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) حال من فاعل أمنوا أى الذين أمنوا مخلصين غير ان هذه العبارة أكد فيئس الناس كلهم منها غير المسلمين.(1/5907)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ أى نساؤكم المؤمنات تُحْبَرُونَ (70) أى تسرون سرورا يظهر حباره أى اثره على وجوهكم أو تزيّنون من الحبر وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراما بليغا والحبرة فيما وصف يحمل - وهذه الجملة أيضا خطاب للمنادى أنتم مبتدا وأزواجكم معطوف عليه وتحبرون خبره وجاز ان يكون أنتم تأكيدا ............... ..
للضمير المستتر فى ادخلوا وأزواجكم معطوف على الضمير المستتر وجملة تحبرون حال منه.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 362
يُطافُ عَلَيْهِمْ أى يطوف عليهم ولدان مخلّدون بِصِحافٍ جمع صحفة وهى القصاع الواسعة مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو اناء مستدير مدور الرأس لا عرى به الجملة مستأنفة اخرى وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وَفِيها أى فى الجنة عطف على يطاف ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ قرأ أهل المدينة والشام وحفص هكذا وكذا هو فى مصاحفهم والباقون تشتهى بحذف ضمير المفعول وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أى لكل واحد منهم ما تشتهيه نفسه فالصوفى الذي مشتهاه الوصل العريان بلا كيف ودوام رؤية اللّه سبحانه فله ذلك واما غيره فله من نعماء الجنة ما يشتهيه روى البغوي عن عبد الرحمان بن سابط قال قال رجل يا رسول اللّه أ فى الجنة خيل فانى أحب الخيل فقال ان يدخلك اللّه الجنة فلا تشاء تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير فى اىّ جنة شئت ولا فعلت قال أعرابي يا رسول اللّه أ فى الجنة ابل فانى أحب الإبل فقال يا أعرابي ان يدخلك اللّه الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك - وروى الترمذي والبيهقي عن بردة نحوه واخرج الطبراني والبيهقي بسند جيد عن عبد الرحمان بن ساعدة والترمذي عن أبى أيوب الفصل الأول اعنى ذكر الخيل وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.(1/5908)
وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) الجنة خبر للمبتدا والموصول صفة لها أو الجنة صفة للمبتدا والموصول خبره والجملة حال من فاعل ادخلوا أخرج ابن أبى حاتم عن اب ى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل من أهل النار يرى به منزلته من الجنة حسرة فيقول لو انّ اللّه هدانى لكنت من المتّقين وكل من أهل الجنة يرى منزلته من النار فيقول وما كنّا لنهتدى لو لا ان هدانا اللّه يقول شكرا - قال وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من أحد الا وله منزل فى الجنة ومنزل فى النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فذلك قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) الجملة الظرفية حال أخرج البزار والطبراني عن ثوبان قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 363
الا أعيد فى مكانها مثلها - أخرج البزار عن أبى موسى الأشعري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه تبارك وتعالى لمّا أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة وعلمه صفة كل شىء فثماركم لهذه من ثمار الجنة غير ان هذه تتغير وتلك لا تتغير - واخرج ابن أبى الدنيا عن ابن مسعود انه كان بالشام فذكروا الجنة فقال ان العنقود من عنا قيدها من هاهنا إلى صنعاء واخرج ابن أبى الدنيا عن ابن عباس قال ان الثمرة من ثمار الجنة طولها اثنى عشر ذراعا ليس لها عجم - .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أى الكاملين فى الاجرام وهم الكافرون لانهم جعلوا قسيما للمؤمنين فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (73) هذه الجملة وما بعده مستأنفتان.
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أى لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا وَهُمْ فِيهِ أى فى العذاب مُبْلِسُونَ (75) أى آيسون من النجاة.(1/5909)
وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا عطف على خبران يا مالِكُ اسم لخازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا أى ليمتنا رَبُّكَ فنستريح قالَ اللّه تعالى أو قال مالك بعد الف سنة إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) مقيمون فى العذاب لاخلاص لكم بموت ولا غيره أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن عباس فى هذه الآية قال يمكث عنهم الف سنة ثم يجيبهم انّكم مكثون واخرج هناد والطبراني وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وعبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال ان أهل النار ينادون مالكا يا ملك ليقض علينا ربّك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يرد عليهم انّكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلّمون قال فما يتكلم القوم بعدها بكلمة وما هو الا الزفير والشهيق - واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمد بن كعب انه قال لاهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه فى اربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها ابدا يقولون ربّنا امتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 364(1/5910)
فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم ذلكم بانّه إذا دعى اللّه وحده كفرتم وان يّشرك به تؤمنوا فالحكم للّه العلىّ الكبير - ثم يقولون ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انّا موقنون فيجيبهم اللّه فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انّا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون - ثم يقولون ربّنا اخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتّبع الرّسل فيجيبهم أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال - ثم يقولون ربّنا أخرجنا نعمل صالحا غير الّذى كنّا نعمل فيجيبهم اللّه أو لم نعمّركم ما يتّذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير فذوقوا فما للظّالمين من نّصير ثم يقولون ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين فيجيبهم اللّه اخسئوا فيها ولا تكلّمون فلا يتكلمون بعدها - .
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ بالإرسال والانزال وهذا تتمة الجواب ان كان فى قال ضمير اللّه والا فجواب عنه فكانّه تعالى تولّى جوابهم بعد جواب الملائكة وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) لما فى اتباعه خلاف النفس.
أَمْ أَبْرَمُوا أم منقطعة بمعنى الهمزة للانكار والاضراب عن كراهة الحق والترقي فيه يعنى بل أحكموا أَمْراً مكرا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو امرا فى تكذيب الحق ورده ولم تقتصروا على كراهيته فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) محكمون امرا فى مجازاتهم - أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفى أو ثقفيان وقرشى فقال واحد منهم ترون اللّه يسمع كلامنا فقال الاخر إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت.
أَمْ يَحْسَبُونَ أم منقطعة للانكار والاضراب يعنى بل أ يحسبون أَنَّا لا نَسْمَعُ سرّهم أى حديث نفسهم بذلك وَنَجْواهُمْ أى تناجيهم بَلى نسمعها وَرُسُلُنا أى الملائكة الحفظة أيضا لَدَيْهِمْ ملازمون يَكْتُبُونَ (80) ذلك.(1/5911)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ قرأ حمزة والكسائي بضم الواو وسكون الدال فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) منكم فان النبي اعلم باللّه وبما يصح له وبما لا يصح
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 365
و اولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن يعظم الوالد يعظم ولده قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاطمة بضعة منى يريبنى ما أرابها - وفى رواية فمن أغضبها أغضبني - رواه البخاري عن مسور ولا يلزم من ذلك جواز البنوة للّه سبحانه وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على ابلغ الوجوه كقوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا غير ان لو مشعرة بانتفاء الطرفين وان لا يشعر به ولا بنقيضه فانها لمجرد الشرط - والمقصود ان إنكاره صلى اللّه عليه وسلم للولد ليس لعناد بل لو كان لكان اولى الناس بالاعتراف به كذا قال السدىّ وقيل معناه ان كان للّه ولد فى زعمكم فانا أول العابدين للّه الموحدين له من أهل مكة يعنى لست قائلا كما زعمتم - وقيل العابدين بمعنى الآنفين أى الجاهدين المنكرين لما زعمتم وقيل معناه انا أول من غضب للرحمان ان يقال له ولد فى القاموس عبد بالتحريك الغضب والحرب الشديد والندامة وملامة النفس والحرص والإنكار عبد كفرح فى الكل والمناسب فى المقام الغضب والإنكار قال البغوي وروى عن ابن عباس ان كان بمعنى ما كان للرّحمن ولد فانا اوّل العابدين الشاهدين بذلك يعنى ان نافية ليست بشرطية.
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) من كونه ذا ولد فان هذه الأجسام لطول بقائها براء عما يتصف به سائر الأجسام من توليد المثل فما ظنك بمبدعهما وخالقهما.(1/5912)
فَذَرْهُمْ يا محمد يَخُوضُوا فى باطلهم مجزوم فى جواب الأمر وَيَلْعَبُوا فى دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) فيه العذاب يعنى يوم القيامة وهو دليل على ان قولهم جهل واتباع هوى وانهم مطبوع على قلوبهم يعذبون فى الاخرة - .
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال قتادة يعنى يعبد فى السماء والأرض لا اله غيره أى لا مستحق لان يعبد فيهما غيره والظرف متعلق به لأنه بمعنى المعبود أو متضمن لمعناه كقولك هو حاتم فى البلد
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 366
وَ هُوَ الْحَكِيمُ فى تدبير خلقه الْعَلِيمُ (84) بمصالحهم هذا بمنزلة الدليل على استحقاقه العبادة وهذه جملة معترضة مؤكدة لما سبق وكذا ما عطف عليه.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من كائنات الجو وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أى العلم بوقت قيامها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) للجزاء قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « و رويس وخلف - أبو محمد » بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ أى يدعونه الكفار وهم الأصنام مِنْ دُونِهِ أى دون اللّه الشَّفاعَةَ كما زعموا انهم شفعاء عند اللّه إِلَّا مَنْ شَهِدَ منهم بِالْحَقِّ أى يقول لا اله الا اللّه استثناء منقطع وجاز ان يكون متصلا والمراد بهم الملائكة فانهم كانوا يعبدون الملائكة أيضا ويقولون انها بنات اللّه وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) أى يعتقدون بقلوبهم ما يشهد به ألسنتهم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أى الكفار العابدين لغير اللّه مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذر اسناد الخلق إلى الجمادات فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) يعنى إذا اعترفوا بان اللّه خالقهم لا غير فاين يصرفون عن عبادته إلى غيره.(1/5913)
وَ قِيلِهِ قرأ عاصم وحمزة بالجر وكسر الهاء عطفا على الساعة يعنى عنده علم الساعة وعلم قوله والباقون بالنصب وضم الهاء عطفا على سرّهم أو على محل الساعة أو بإضمار فعله يعنى قال محمد صلى اللّه عليه وسلم شاكيا إلى ربه قيله يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ يعنى كفار مكة قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أى فاعرض عن دعوتهم آيسا عن ايمانهم وَقُلْ سَلامٌ يعنى بيننا وبينكم متاركة تسلمون منا ونسلم منكم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) جزاء عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم تسلّية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ أهل المدينة والشام بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة قال مقاتل نسختها اية السيف تم تفسير سورة الزخرف من التفسير المظهرى (و يتلوه ان شاء اللّه تعالى تفسير سورة الدخان) يوم الأربعاء الرابع والعشرين من الربيع الأول سنة ثمان بعد الف سنة 1208 ه - ومائتين الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 367
سورة الدّخان
مكّيّة وهى تسع وخمسون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) المظهر للحلال والحرام أى القرآن والواو للعطف ان كان حم مقسما به والا فللقسم والجواب قوله.(1/5914)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعنى القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ لما فيها نزول القرآن السبب للمنافع الدينية والدنيوية وفيها نزول الملائكة والرحمة واجابة الدعاء وهى ليلة القدر كذا قال قتادة وابن زيد قالا انزل اللّه القرآن فى ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبرئيل عليه السلام على النبي صلى اللّه عليه وسلم نجوما فى عشرين سنة - وما قيل انها ليلة النصف من شعبان فليس بشئ لقوله تعالى شهر رمضان الّذى انزل فيه القرآن وقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وما روى عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال ينزل اللّه جلّ ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل نفس الا إنسانا فى قلبه شحناء أو مشركا باللّه - رواه البغوي لا يدل على نزول القرآن فى تلك الليلة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) الناس عن عذاب اللّه فى القرآن جملة مستأنفة أو بدل اشتمال من قوله انّا أنزلناه - .
فِيها يُفْرَقُ أى يفعل أو يقضى كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أى محكم أو متلبس بالحكمة أو اسناده مجازى يعنى حكيم صاحبه جملة مستأنفة أو صفة ثانية لليلة وفيه تنبيه على ان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 368(1/5915)
كونها مفرق الأمور المحكمة يستدعى ان ينزل فيه القرآن الذي هو من عظمائها قال البغوي قال ابن عباس يكتب من أم الكتب فى ليلة القدر ما هو كائن فى السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يحج فلان ويحج فلان وقال الحسن ومجاهد وقتادة يبرم فى ليلة القدر فى شهر رمضان كل أجل وعمل وخلق ورزق وما يكون فى تلك السنة وقال عكرمة هى ليلة النصف من شعبان ببرم فيه امر السنة وينسخ الاحياء من الأموات فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد روى البغوي عن محمد بن الميسرة بن الأخفش ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى ان الرجل لينكح ويولد له ولقد أخرج اسمه فى الموتى - وروى أبو الضحى عن ابن عباس ان اللّه يقضى الا قضية فى ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها فى ليلة القدر.
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أى اعنى بهذا الأمر امرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا وهو مزيد تفخيم الأمر ويجوز ان يكون حالا من كلّ امر أو من الضمير المستكن فى حكيم وجاز ان يكون مفعولا به ليفرق بدلا من كل امر وجاز ان يكون المراد بالأمر طلب الفعل على سبيل الاستعلاء وقع مصدرا ليفرق أو لفعله مضمرا من حيث ان الفرق به أو حالا من احدى ضميرى أنزلناه يعنى أمرين أو مأمورا به إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) محمدا صلى اللّه عليه وسلم ومن قبله من الرسل بدل اشتمال لقوله انّا كنّا منذرين أى انا أنزلنا القرآن لان من عادتنا الانذار وإرسال الرسل بالكتب إلى العباد.(1/5916)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له للارسال أو لتفريق كل امر حكيم أو مفعول به لمرسلين قال ابن عباس رأفة منى بخلقي ونقمة عليهم بما بعثنا عليهم من الرسل ووضع المظهر موضع الضمير للاشعار بان الرّبوبية اقتضت ذلك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) أى يسمع اقوال العباد ويعلم أحوالهم وهو وما بعده تحقيق لربوبيته فانها لا تحق الا لمن له هذه الصفات.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قرأ أهل الكوفة ربّ بالجر على انه بدل من قول ربّك والباقون بالرفع على انه خبر اخر لان أو صفة للسّميع العليم أو خبر مبتدا محذوف أى هو إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) شرط حذفت جزاؤه يعنى ان كنتم من أهل الإيقان فى العلوم أو ان كنتم موقنين فى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 369
إقراركم إذا سئلتم من خلقها فقلتم اللّه علمتم ان الأمر كما قلنا أو ان كنتم مريدين اليقين فايقنوا ذلك أو ان كنتم موقنين بان اللّه رب السماوات والأرض فايقنوا ان محمدا رسول اللّه.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أى لا يستحق العبادة غيره إذ لا خالق سواه جملة مقررة لقوله رب السّموت والأرض أو خبر اخر لان يُحْيِي وَيُمِيتُ كما تشاهدون خبر اخر لان أو حال من هو رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) خبر اخر لان أو بدل من هو.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من البعث أو من القرآن إضراب من الإيقان يَلْعَبُونَ (9) حال من الضمير فى الظرف أى يلهون بالقران ويستهزءون بك يا محمد فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة - .
فَارْتَقِبْ يا محمد الفاء للسببية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10).(1/5917)
يَغْشَى النَّاسَ يوم مفعول به لارتقب واختلفوا فى هذا الدخان قال ابن عباس وابن عمر والحسن رضى اللّه عنهم انه من اشراط الساعة أخرج ابن جرير والثعلبي والبغوي من حديث حذيفة يقول قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا قال حذيفة يا رسول اللّه ما الدخان فتلا هذه الآية يوم تأتي السّماء بدخان مبين يملاها بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة فامّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة واما الكافر كمنزلة السكران تخرج من منخره واذنيه ودبره - واخرج الطبراني بسند جيد عن أبى مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل سمع فيه والدابة والثالث الدجال - له شواهد قوله هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ مقدر بالقول وقع حالا وقوله إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) وعد منهم بالايمان ان كشف عنهم العذاب تقديره يقول الكافرون من الناس هذا القول.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أى من اين لهم التذكر والاتعاظ بهذه الحالة الاستفهام للانكار والجملة مستأنفة قول من اللّه تعالى فى جواب هل يتذكرون وَقَدْ جاءَهُمْ يعنى والحال انه قد جاء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 370
أمثالهم قبل ذلك رَسُولٌ عظيم الشأن ظاهر البرهان مُبِينٌ (13) يظهر لهم ما هو أعظم منها فى إيجاب الادكار من الآيات والمعجزات.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) يعنى قال بعضهم هو معلّم علمه بشر وهو غلام أعجمي لبعض ثقيف وقال بعضهم هو مجنون.(1/5918)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ بقدر أربعين يوما جواب لقولهم ربّنا اكشف عنّا العذاب انّا مؤمنون قَلِيلًا أى كشفا قليلا أو زمانا قليلا وهو ما بقي من أعمارهم أو ما بقي من عمر الدنيا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) إلى الكفر تعليل لقلة زمان الكشف - .
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُب ْرى
الى يوم القيامة ظرف لما دلّ عليه قوله إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) لا لمنتقمون لان انّ يحجز عنه وأنكر ابن مسعود هذا التفسير روى البغوي عن أبى الضحى عن مسروق قال بينما رجل يحدث فى كندة فقال يجئ دخان يوم القيامة فيأخذ باسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ففزعنا فاتيت ابن مسعود وكان متكيا فغضب فجلس فقال من علم فليقل ومن لم يعلم فليقل اللّه اعلم فان من العلم ان يقول لما لا يعلم الله اعلم - فان اللّه تعالى قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم قل ما اسئلكم عليه من اجر وما انا من المتكلّفين وان قريشا أبطئوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال اللهم اعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فاخذتهم سنة حتى اهلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وان قومك قد هلكوا فادع اللّه فقرأ فارتقب يوم تأتي السّماء بدخان مبين إلى قوله انّا كاشفوا العذاب قليلا حتى استسقى لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم عادوا إلى الكفر كما قال اللّه تعالى انّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى أى يوم بدر انّا منتقمون - واخرج البغوي عن ابن مسعود قال خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان - وروى البخاري فى الصحيح عن ابن مسعود قال ان قريشا لما استقصوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فاصابهم قحط حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 371(1/5919)
فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فانزل اللّه فارتقب يوم تأتى السّماء بدخان مبين فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقيل يا رسول اللّه استسق لمصر فانها قد هلكت فاستسقى فسقوا فنزلت انّا كاشفوا العذاب قليلا انّكم عائدون فلمّا أصابتهم الرفاهية عادوا إلى ما كانوا فانزل اللّه يوم نبطش البطشة الكبرى انّا منتقمون يعنى يوم بدر.
وَلَقَدْ فَتَنَّا أى امتحنّا وبلونا جواب قسم محذوف قَبْلَهُمْ أى قبل كفار مكة قَوْمَ فِرْعَوْنَ معه وَجاءَهُمْ رَسُولٌ عظيم الشأن عطف أو حال كَرِيمٌ (17) على اللّه أو على المؤمنين أو فى نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه وهو موسى عليه السلام.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ ان مصدرية أى بان أدوا الىّ بنى إسرائيل وأرسلوهم معى واطلقوهم ولا تعذبوهم أو بان أدوا الىّ حق اللّه من الايمان وقبول الدعوة يا عباد اللّه والمراد بعباد اللّه فرعون وقومه - وجاز ان يكون ان مفسرة لان مجئ الرسول يكون برسالة ودعوة ففيه معنى القول أو مخففة من الثقيلة إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه أَمِينٌ (18) على وحيه أو غير متهم لدلالة المعجزات على صدقى والجملة تعليل لادوا.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ عطف على ادّوا أى لا ترفعوا علىّ بالامتهانة وترك الطاعة وان كالاولى فى وجوهها إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « ابو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) أى برهان بين على صدقى الجملة علة للنهى ولذكر الامين مع الأداء وتعلّي مع السلطان مناسبة بينة فلما قال ذلك توعدوه بالرجم فقال.(1/5920)
وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) أى من ان ترجمونى قرأ ورش « و يعقوب فى الجالين - أبو محمد » بالياء وصلا فقط والباقون بحذفها فى الحالين قال قتادة ان تقتلونى بالرجم وقال ابن عباس تشتمونى وتقولوا ساحر والظاهر هو الأول لان موسى عليه السلام لو استعاذ من؟؟؟ لما شتموه وقد قالوا هذا سحر مبين.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي قرأ ورش بفتح الياء والباقون بإسكانها أى ان لم تصدقونى فَاعْتَزِلُونِ (21) قرأ ورش بالياء « فصلا فقط ويعقوب فى الحالين - أبو محمد » والباقون بحذفها أى فكونوا بمعزل منى لا علىّ ولا لى ولا تتعرّضوا لى بسوء.
فَدَعا رَبَّهُ بعد ما كذبوه ولم يتركوه وآذوه أَنَّ هؤُلاءِ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 372
قَوْمٌ مُجْرِمُونَ
(22) أى مشركون تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به ولذلك سمى دعاء ..
فَأَسْرِ الفاء جزائية والجملة مقدرة بالقول يعنى فاجاب اللّه وقال ان كان الأمر كذلك فاسر قرأ نافع وابن كثير « و أبو جعفر - أبو محمد » بوصل الهمزة من سرى يسرى والباقون بهمزة القطع من الاسراء بِعِبادِي أى المؤمنين وهم بنو إسرائيل لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) يتبعكم فرعون وقومه إذا علموا بخروجكم جملة مستأنفة.
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ إذا خرجت عنه وأصحابك رَهْواً حال من البحر أى مفتوحا ذا فجوة واسعة أو ساكنا على هيئته ولا تضربه بعصاك حتى يلتئم قال قتادة لمّا قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه حتى يلتئم وخاف ان يتبعه فرعون وجنوده فقيل له اترك البحر رهوا كما هو قيل رهوا مصدر بمعنى الفاعل إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) الجملة مستأنفة فى مقام التعليل.
كَمْ تَرَكُوا أى تركوا كثيرا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) أى محافل مزينة ومنازل حسنة.
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) أى متنعمين جملة كم تركوا معترضة.(1/5921)
كَذلِكَ قال الكلبي معناه كذلك افعل بمن عصانى وقيل معناه الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها عطف على المقدر تقديره سلبناها منهم وأورثناها قَوْماً آخَرِينَ (28) أى بنى إسرائيل أو عطف على تركوا.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ عطف على مضمون الكلام السابق أى أهلكوا كفارا فما بكت وهذا مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم وعدم الاعتداد بوجودهم كقولهم فى نقيض ذلك بكت عليهم السماء وكسفت عليهم الشمس وقيل هو على الحقيقة وذلك بخلاف المؤمن إذا مات تبكى عليه السماء والأرض روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من عبد الا وله فى السماء بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات فقداه وبكيا عليه - وروى - ابن جرير والبيهقي فى شعب الايمان عن ابن عباس انه سئل عن قوله تعالى فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ قال نعم انه ليس أحد من الخلائق الا له باب فى السماء ينزل منه رزقه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 373
و يصعد فيه عمله فإذا مات المؤمن فاغلق بابه من السماء فقد بكى عليه وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلى فيها ويذكر اللّه فيها بكى عليه. واخرج البغوي وأبو يعلى وابن أبى حاتم عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه وحديث ابن عباس رواه الترمذي وفى آخره وتلا فما بكت عليهم السّماء والأرض - أخرج ابن جرير عن شريح بن عيينة الحضرمي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما مات مؤمن غربة غابت عنه فيها مواكبه الا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما بكت عليهم السّماء والأرض ثم قال انهما لا يبكيان على كافر وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) ممهلين إلى وقت اخر عطف على هلكوا - .(1/5922)
وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) يعنى قتل الأبناء واستبقاء النساء واستعباد الرجال واستعمالهم فى الأعمال الشاقة.
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل اشتمال من العذاب أو جعله عذابا لافراطه فى التعذيب على المجاز أو على حذف المضاف أى من عذاب فرعون فهو بدل الكل أو حال من العذاب أى واقعا من جهتيه أو خبر مبتدا محذوف أى هو إِنَّهُ كانَ عالِياً أى متكبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) فى العتو والشرارة وهو خبر ثان أى كان متكبرا مسرفا أو حال من الضمير فى عاليا أى كان رفيع الطبقة من بينهم والجملة معترضة أو مستأنفة.
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعنى موسى وبنى إسرائيل عَلى عِلْمٍ حال أى عالمين بانهم أحقاء بذلك أو اخترنا بنى إسرائيل على علم منّا بانهم يزيغون فى بعض الأحوال عَلَى الْعالَمِينَ (32) أى على عالمى زمانهم.
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) قال قتادة نعمة بينة وقال ابن زيد ابتلاؤهم بالرخاء والشدة وقرا ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنة.
إِنَّ هؤُلاءِ يعنى كفار قريش إذ الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة الدلالة على انهم مثلهم فى الإصرار على الضلالة والانذار عن مثل ما حل بهم لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يعنى ما العاقبة ونهاية الأمر الا الموتة الاولى المزيلة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 374
للحيوة الدنيوية ولا قصد فيه إلى اثبات موتة ثانية كما فى قولك حج زيد الحجة الاولى ومات وقيل لمّا قيل لهم انكم تموتون موتة تعقبها حيوة كما تقدمتكم موتة كذلك قالوا ان هى أى الموتة التي تعقبها الحيوة الا الموتة الاولى دون الثانية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) أى مبعوثين بعد الموت.(1/5923)
فَأْتُوا بِآبائِنا الذين ماتوا خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين جزاء شرط محذوف أى ان كان البعث بعد الموت ممكنا فاتوا بآبائنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) فى انا نبعث بعد الموت شرط مستغن عن الجزاء بما مضى.
أَ هُمْ خَيْرٌ فى القوة والشوكة والكثرة من قوم تبّع أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ خير منهم استفهام انكار وتقرير يعنى لستموا خيرا من قوم تبع وقوم تبع كانوا خيرا منهم. وتبع اسم رجل سمى تبع لكثرة اتباعه قيل كانت التبايعة رجالا كل واحد سمى تبعا لأنه يتبع صاحبه - ذكر محمد بن إسحاق وغيره عن ابن عباس وغيره قالوا كان اخر التبايعة هو اسعد أبو كرب بن مليك ذكر البغوي قصته فى تفسير هذه الآية وذكرت القصة فى تفسير سورة ق لانى قد سبق منى تفسير تلك السورة - ذم اللّه تعالى قومه ولم يذمه لأنه قد اسلم وكذّبه قومه وقال محمد بن إسحاق فى المبتدا وابن هشام فى التيحان ان بيت أبى أيوب الذي نزل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقدمة المدينة بناه تبع الأول اسمه تبان بن سعد وذكرت قصته فى سورة الجمعة واللّه اعلم وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الكافرة كعاد وثمود ونحوهم عطف على قوله قوم تبّع أَهْلَكْناهُمْ استئناف أو حال بإضمار قد أو خبر للموصول ان استؤنف به إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) أى مشركين تعليل وبيان للجامع المقتضى للاهلاك ..
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أى بين الجنسين لاعِبِينَ (38) أى لاهين فاعلين فعلا عبثا باطلا والجملة ما خلقنا السّماوات إلخ حال من مضمون الكلام السابق المتضمن لانكار البعث تقديره أنكروا البعث والحال انه ما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما لاعبين بل خلقنا هما للاستدلال بهما على وجودنا وصفات كما لنا والابتلاء.
ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أى لاظهار الحق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 375(1/5924)
من التوحيد ووجوب الطاعة لنثيب المطيع ونعذب العاصي هذه الجملة تأكيد ومقرر لما سبق وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) انها خلقت للاستدلال والابتلاء لقلة نظرهم وانهماكهم فى الدنيا.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أى يوم القيامة الذي يفصل فيها الحق من الباطل والمحق من المبطل بالجزاء مِيقاتُهُمْ أى ميقات حشرهم وجزائهم أَجْمَعِينَ (40) هذه الجملة مقررة لما سبق من ان خلقها للاستدلال والابتلاء.
يَوْمَ لا يُغْنِي بدل من يوم الفصل أو ظرف لما دلّ عليه الفصل لأنه للفصل أى يوم لا ينفع مَوْلًى من قرابة أو غيره عَنْ مَوْلًى اىّ مولى كان شَيْئاً من الإغناء بجلب منفعة أو دفع مضرة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) أى يمنعون من العذاب والضمير لمولى الأول باعتبار المعنى لأنه عام.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بالعفو وقبول الشفاعة وهم المؤمنون فانه يشفع بعضهم لبعض ويؤذن لهم فى الشفاعة ومحل المستثنى الرفع على البدل من المستتر فى ينصرون أو النصب على الاستثناء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يستطيع واحد ان ينصر من أراد تعذيبه الرَّحِيمُ (42) أخرج سعيد بن منصور عن أبى مالك قال ان أبا جهل كان يأتى بالتمر والزبد فيقول تزقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد فنزلت.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43).
طَعامُ الْأَثِيمِ (44) أى كثير الإثم وهو الكافر هذه الجملة إلى آخرها وما بعدها وهو قوله انّ المتّقين إلى آخرها بيان لما سبق من ذكر الفصل والفرق بين المحق والمبطل.
كَالْمُهْلِ خبر اخر لانّ وهو ما يذوب فى النار من المعدنيات وقيل دردى الزيت الأسود كذا فى القاموس يَغْلِي خبر اخر لان قرأ ابن كثير « و رويش - أبو محمد » وحفص بالياء التحتية على ان الضمير للطعام أو الزقوم لا للمهل إذ الجملة حال من أحدهما والباقون بالتاء الفوقانية على ان الضمير للشجرة فِي الْبُطُونِ (45) أى بطون الكفار.(1/5925)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) أى غليانا مثل غليانه روى البغوي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيها الناس اتقوا اللّه حق تقاته فلو ان قطرة من الزقوم قطرت على
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 376
الأرض لامرت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه ليس له طعام غيره واخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن أبى حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي نحوه واخرج عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد وأبو نعيم عن أبى عمرو الخولاني فى هذه الآية قال بلغنا ان ابن آدم لا تنهش منها نهشة الا نهشت منه مثلها.
خُذُوهُ أى يقال للزبانية خذوه أى الأثيم وجملة يقال خبر اخر لان فَاعْتِلُوهُ قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر وأبو عمرو بكسر التاء والباقون بضمها وهما لغتان أى ادفعوه قهرا والعتل الاخذ بجامع الشيء وجرّه بقهر إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) أى وسطه.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) كان أصله صبّوا فوق رأسه الحميم فقيل صبّوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف وزيدت من للدلالة على ان المصبوب بعض هذا النوع.(1/5926)
ذُقْ تقديره قائلين ذق هذا العذاب إِنَّكَ قرأ الكسائي بفتح الهمزة أى لانك والباقون بكسرها على الابتداء أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) فى زعمك قال البغوي قال مقاتل ان خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه عن دماغه فيصبّ فيه ماء حميما قد انتهى حرّه ثم يقال ذق انّك أنت العزيز الكريم وذلك ان أبا جهل كان يقول انا أعزّ أهل الوادي وأكرمهم ويقول هذا خزنة النار على طريق الاستخفاف والتوبيخ واخرج الأموي فى مغازيه عن عكرمة قال لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا جهل فقال ان اللّه أمرني ان أقول لك اولى لك فاولى قال فنزع ثوبه من يده وقال ما يستطيع لى أنت ولا صاحبك من شىء لقد علمت انى امنع أهل البطحاء وانا العزيز الكريم فقتله اللّه يوم بدر واذله وعيره بكلمته وانزل ذق انّك أنت العزيز الكريم - واخرج ابن جرير عن قتادة نحوه.
إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) أى تشكون وتمارون فيه ..
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ قرأ أهل المدينة والشام بضم الميم على انه مصدر ميمى أى فى اقامة والباقون بفتح الميم أى موضع اقامة أَمِينٍ (51) يأمن فيه صاحبه عن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 377
الآفات والانتقال.
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(52) بدل من مقام جئ به للدلالة على نزاهته واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خبر ثان أو حال من الضمير فى الجار والمجرور أو استئناف السّندس مارق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه أخرج ابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا عن كعب قال لو ان ثوبا من ثياب الجنة لبس اليوم فى الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم - واخرج الصابوني فى الماءتين عن عكرمة قال ان الرجل من أهل الجنة ليلبس الحلة فتكون فى ساعته سبعون لونا مُتَقابِلِينَ (53) فى مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض.(1/5927)
كَذلِكَ أى الأمر كذلك وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) الجملة حال بتقدير قد أو عطف على خبران أى الزمناهم وقرنّاهم بهن ولذلك عدى بالباء وليس من عقد التزويج لأنه لا يقال زوجته بامراة قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا بهن كما تزوج النعل بالنعل أى جعلناهم اثنين اثنين والحور النساء النقيات البياض يحار فيهن الطرف من بياضهن وصفاء لونهن جمع حوراء والعين جمع العيناء وهى العظيم العينين - أخرج الطبراني عن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلق الحور العين من الزعفران - واخرج البيهقي مثله عن انس مرفوعا وعن ابن عباس موقوفا وعن مجاهد كذلك واخرج ابن المبارك عن زيد بن اسلم قال ان اللّه تبارك وتعالى لا يخلق الحور العين من تراب انما خلقهن من مسك وكافور وزعفران - واخرج ابن أبى الدنيا عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو ان حورا بزقت فى بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها - واخرج ابن أبى الدنيا عن ابن عباس قال لو ان حورا أخرجت كفها بين السماء والأرض لافتتن الخلائق بحسنها ولو أخرجت نصيفها لكان الشمس عند حسنه مثل الفتيلة فى الشمس لا ضوء لها ولو أخرجت وجهها لاضاء حسنها ما بين السماء والأرض - واخرج هناد عن حبان بن احيلة قال ان نساء أهل الدنيا إذا ادخلن الجنة فضلن على الحور العين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 378
بأعمالهم فى الدنيا ..
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ اشتهوها آمِنِينَ (55) من نفادها ومضرتها الجملة حال اخر أخرج ابن أبى حاتم وابن المنذر فى تفاسيرهما عن ابن عباس قال ما فى الدنيا تمرة حلوة ولا مرة الا وهى فى الجنة حتى الحنظل - واخرج ابن أبى حاتم وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال ليس فى الدنيا مما فى الجنة الا الأسماء.(1/5928)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ بل يحيون دائما حال اخر إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى الاستثناء منقطع أو متصل والضمير للاخرة والموت أول أحوالها أو الجنة والميت يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكانه فيها - أو الاستثناء للمبالغة فى تعميم النفي وامتناع الموت فكانّه قال لا يذوقون فيها الموت الا إذا أمكن ذوق الموت الاولى فى المستقبل كقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء الّا ما قد سلف وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) الجملة حال من فاعل لا يذوقون بتقدير قد أو عطف على اخبار ان.
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ مصدر لفعله المقدر أى فضلوا فضلا منه واعطوا كل ذلك عطاء منه لا حقا على اللّه تعالى عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا انا الا برحمة اللّه - رواه مسلم ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب - .
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أى القرآن بِلِسانِكَ حال من الضمير المنصوب أى منلبسا بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) أى لكى يفهموا ويتذكروا الجملة متصلة بقوله انّا أنزلناه فى ليلة مّباركة وهو فذلكة للسورة.
فَارْتَقِبْ جزاء شرط محذوف تقديره وان لم يتذكروا - فارتقب أى فانتظر يا محمد ما يحل بهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) ما يحل بك أو فانتظر نصرك انهم منتظرون قهرك بزعمهم - روى الترمذي بسند ضعيف عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ حم الدخان فى ليلة أصبح يستغفر له سبعون
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 379(1/5929)
الف ملك - وروى أيضا عنه بسند ضعيف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ حم الدخان فى ليلة الجمعة غفر له - وروى ابن الضرير عن الحسن مرسلا من قرأ سورة الدخان فى ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه - وروى الطبراني بسند ضعيف عن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ حم الدخان فى ليلة جمعة أو يوم جمعة بنى اللّه له بيتا فى الجنة تم تفسير سورة الدخان من التفسير المظهرى بفضل الله وحسن توفيقه يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر الربيع الأول من السنة الثامنة بعد الف ومائتين من الهجرة صلى اللّه تعالى على صاحبها ويتلوه تفسير سورة الجاثية ان شاء اللّه تعالى والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 380
سورة الجاثية
مكّيّة وهى سبع ثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ ان جعلت حم مبتدا خبره تنزيل الكتاب وان جعلتها تعديدا للحروف وكان تنزيل مبتدا خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ فى انتقامه الْحَكِيمِ (2) فى تدبيره وعلى التأويل الأول من اللّه صلة لتنزيل وقيل حم مقسم به وتنزيل الكتاب صفة وجواب القسم.
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ دالة على قدرة اللّه ووحدانيته لِلْمُؤْمِنِينَ (3) يحتمل ان تكون الآية على ظاهرها وان يكون المعنى ان فى خلق كما فى قوله.(1/5930)
وَ فِي خَلْقِكُمْ أى فى خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى ان صار إنسانا وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ جاز ان يكون عطفا على الضمير المجرور والأحسن ان يقال انه معطوف على خلقكم فان بثه وتنوعه واستجماعه لما يتم به معاشه إلى غير ذلك آياتٌ دلائل على وجود الصانع المختار ووحدته وكمالاته قرأ حمزة والكسائي ويعقوب آيات منصوبا بكسر التاء عطفا على اسم ان والباقون بالرفع عطفا على محلها - لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) انه لا اله الا اللّه وان البعث حق.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ صيفا وشتاء وفى ذهابها ومجيئها وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أى مطر سماه رزقا لكونه سببه فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 381
مَوْتِها أى جعلها مخضرة بعد يبسها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ باختلاف جهاتها وأحوالها قرأ حمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » الرّيح على الافراد باعتبار الجنس والباقون على الجمع باعتبار جهاتها قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) الدلائل فيؤمنون أو المعنى لقوم اولى عقل فان الكفار كالانعام بل هم أضل قرأ حمزة والكسائي ويعقوب آيات منصوبا بكسر التاء والباقون بالرفع وهو عطف على معمولى عاملين مختلفين كلمة فى مع معنى الابتداء أو كلمة انّ والمجرور مقدم الا يضمر فى أو ينصب آيات على الاختصاص أو ترفع بإضمار هى قال البيضاوي اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات فى الدقة والظهور والظاهر انه لتفنن العبارة والا فالايمان والإيقان واحد وهو من ثمرات العقل فان العقل السليم يقتضى الايمان بمبدع السماوات والأرض وما بينهما.(1/5931)
تِلْكَ الآيات آياتُ اللَّهِ دلائل قدرته مبتدا وخبر نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى الاشارة أو خبر ثان بِالْحَقِّ متلبسين به أو متلبسة به فَبِأَيِّ حَدِيثٍ الفاء جزائية تقديره فان لم تؤمنوا بايات اللّه فباىّ حديث بَعْدَ اللَّهِ أى بعد كتاب اللّه وَآياتِهِ الدالة على وجوده يُؤْمِنُونَ (6) أى كفار مكة أى لا يؤمنون قرأ ابن عامر وحمزة « و خلف وأبو محمد » والكسائي وأبو بكر ويعقوب « اى رويس - أبو محمد » بالتاء الفوقانية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون بالتحتانية على الغيبة - .
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ (7) كثير الإثم أريد به النضر بن الحارث هذه الجملة إلى آخرها معترضة.
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ صفة لاثيم تُتْلى عَلَيْهِ حال من الآيات أو من الضمير المرفوع ثُمَّ يُصِرُّ عطف على يسمع وثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات مُسْتَكْبِراً عن الايمان كَأَنْ مخففة من الثقيلة وحذف ضمير الشأن أى كانّه لَمْ يَسْمَعْها الجملة فى موضع الحال أى يصر مشابها لغير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) الفاء للسببية والبشارة خبر يظهر السرور على بشرته واستعمل هاهنا تهكما فى خير يظهر الحزن على بشرته.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 382
وَ إِذا عَلِمَ عطف على يسمع مِنْ آياتِنا شَيْئاً يعنى إذا بلغه شىء من القرآن الظرف متعلق بقوله اتَّخَذَها الضمير لشئ لأنه بمعنى الآية أو لاياتنا بمعنى آياتنا كلها هُزُواً مهزوّا به يعنى بادر إلى الاستهزاء أُولئِكَ لَهُمْ أى لكل أفاك عَذابٌ مُهِينٌ (9) ذو اهانة فى القبور جملة مستانفة.(1/5932)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ حال من هم فى أولئك لهم والوراء اسم للجهة التي يوازيها الشخص من خلف أو قدام وجهنم قدام باعتبار انهم متوجهون إليه وخلفه من حيث انه بعد اجالهم وَلا يُغْنِي أى لا يدفع عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب اللّه وَلا يغنى عنهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أى ما عبدوه من الأصنام أو الذين اتبعوهم من الرؤساء ما مصدرية أو موصولة وجملة لا يغنى إلى آخرها حال اخر من ضمير لهم فى أولئك لهم وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) حال اخر.
هذا أى القرآن هُدىً أى ما به الهداية من الضلالة جملة معترضة وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ وهو أشد العذاب أَلِيمٌ (11) قرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالرفع على انه صفة عذاب والباقون بالجر على انه صفة رجز وجملة والّذين كفروا عطف على هذا هدى - .
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ مبتدا وخبر أى جعله أملس السطح يطغو عليه ما يتخلخل كالاخشاب ولا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الأرزاق بالتجارة والغوص والصيد من فضله حال من المفعول المحذوف لتبتغوا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) عطف على لتبتغوا أى لتشكروا هذه النعمة وجملة اللّه الّذى سخّر لكم البحر متصل بما سبق من آيات قدرته تعالى وما بينهما معترضات.
وَسَخَّرَ لَكُمْ عطف على سخر ما فِي السَّماواتِ من شمس وقمر ونجم وماء وثلج وغيرهما وَما فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبت ومعدن وعين ونهر جَمِيعاً
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 383(1/5933)
تأكيد أو حال يعنى جعلها مسخرات لامور يعود نفعها إليكم مِنْهُ حال من ما أى سخرها جميعا كائنة منه تعالى أو خبر لمحذوف أى هى جميعا منه أو خبر لما فى السّموت مع ما عطف عليه سخّر لكم تكرير لتأكيد الأول أو خبر لما فى الأرض قال ابن عباس جميعا منه أى كل ذلك رحمة منه وقال الزجاج كل ذلك تفضل منه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) فى عجائب صنعه تعالى فيومنون قال البغوي قال ابن عباس وقتادة ان رجلا من بنى غفار شتم عمر رضى اللّه عنه بمكة فهم عمران يبطش به فانزل اللّه.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا حذف المقول لدلالة جواب الأمر عليه وهو قوله يَغْفِرُوا أى قل لهم اغفروا ان تقل لهم اغفروا يغفروا أى يعفوا ويصفحوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أى لا يتوقعون ولا يخافون أَيَّامَ اللَّهِ أى وقائعه باعدائه من قولهم ايام العرب لوقائعهم يعنى لا يتوقعون الأوقات التي وقتها اللّه لنصر المؤمنين وثوابهم وقال البغوي قال القرظي والسدىّ نزلت فى اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل مكة كانوا فى أذى شديد من المشركين قبل ان يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه هذه الآية ثم نسختها اية القتال لِيَجْزِيَ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء التحتانية أى ليجزى اللّه وقرأ أبو جعفر بضم الياء التحتانية وفتح الزاء على البناء للمفعول والفعل حينئذ مسند إلى مصدره أى ليجزى الجزاء كذا قال الكسائي والمراد بالجزاء ما يجزى به فان الاسناد إلى المصدر سيما عند وجود المفعول به ضعيف وقال أبو عمرو وهو لحن والجار والمجرور متعلق بقوله يغفروا قَوْماً يعنى يجزى المؤمنين على صبرهم على اذية الكفار أو يجزى الكافرين جزاء كاملا لا ينقص منه بالانتقام فى الدنيا أو يجزى كليهما بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) من الخير أو الشر.(1/5934)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أى يعمل لنفسه فان ثوابه لها وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أى يعمل عليها لان وباله يعود عليه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) يعنى بعد ما استحققتم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 384
الثواب أو العقاب بالأعمال ترجعون إلى ربكم فيجازيكم عليها ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا.
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ التورية والإنجيل والزبور وَالْحُكْمَ حيث جعلنا فيهم أهل الحكم من العلماء والملوك وَالنُّبُوَّةَ خصها بالذكر لكثرة الأنبياء فيهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المن والسلوى وغيرهما من الاطعمة اللذيذة الحلال وَفَضَّلْناهُمْ بمراتب القرب إلى اللّه تعالى إرجاع الضمير إلى بنى إسرائيل باعتبار كون الأفضلين بعضهم وهم الأنبياء عَلَى الْعالَمِينَ (16) أى على عالمى زمانهم قال ابن عباس لم يكن من العالمين أحد فى زمانهم أكرم على اللّه ولا أحب إليه منهم وهذه الآية تدل على ان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة.(1/5935)
وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أى ادلة بينة فى امر الدين بحيث حصل لهم العلم بكل ما يجب به العلم والاعتقاد وحصل لهم العلم بمبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم وعلاماته حتى عرفوه كما يعرفون أبناءهم فَمَا اخْتَلَفُوا فى امر الدين أو فى امر محمد صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقة الحال بَغْياً بَيْنَهُمْ أى عداوة وحسدا واتباعا للهوى والشهوات لابناء على علم مستند إلى دليل وهذا يدل على ان افتراق اليهود والنصارى إلى احدى وسبعين فرقة أو اثنان وسبعين فرقة لم يكن مبنيّا على دليل وكذلك افتراق أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى ثلاث وسبعين ليس مستندا إلى دليل بل انما هو باتباع الوهم فى مقابلة النصوص القاطعة كالمعتزلة تشبثوا بأذيال الفلاسفة زعما منهم بان العقل كاف فى كثير من الإدراكات والمجسمة قالوا الموجود لا يكون الا جسما أو باتباع الحسد والعناد كالروافض والخوارج ونحو ذلك إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بالمؤاخذة والمجازاة يوم الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) من امر الدين - .
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أى طريقة حقة وصراط مستقيم بعت عليها الرسل كلها - على شريعة مفعول ثان لجعلنا مِنَ الْأَمْرِ أى امر الدين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 385(1/5936)
فَاتَّبِعْها أى يا محمد الشريعة الحقة الفاء للسببية وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم والمراد به الخطاب لامته يعنى لا يتبع أمتك أهواء الذين ليس لهم علم من الكتاب سواء كان لهم جهل مركب كالفلاسفة أو جهل بسيط مثل رؤساء قريش كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم ارجع إلى دين ابائك فانهم كانوا أفضل منك أو كان لهم علم لكنهم تركوا العمل بالكتاب عمدا أو اوّلوه بتأويلات فاسدة فكانّهم لا يعلمون مثل أحبار اليهود وعلماء الفرق الضالة بالأهواء من أهل الإسلام.
إِنَّهُمْ يعنى ان الذين يستتبعونك إلى غير الطريق الحق ان اتبعتهم لَنْ يُغْنُوا أى لن يدفعوا عَنْكَ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً منصوب على المفعولية ومن اللّه حال مقدم عليه بيان له أو على المصدرية أى شيئا من الإغناء ومن فى من عذاب اللّه للتبعيض الجملة فى مقام التعليل للنهى عن اتباع اهوائهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إذ المجانسة علة الانضمام فلا تتخذ أنت منهم اولياء وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) فاتخذه وليّا بالتقوى واتباع الشريعة قيل هذان الجملتان كناية عن قوله وانهم لا يضرونك لانّ الظّالمين بعضهم اولياء بعضهم واللّه ولىّ المتّقين وكم بين الولايتين فلا يضرنك لقوة ولاية اللّه.
هذا أى القرآن أو اتباع الشريعة بَصائِرُ اسباب تبصر لِلنَّاسِ يظهر به وجوه فلاحهم فى الدارين وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ من اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) بانه من اللّه تعالى ..
أَمْ حَسِبَ
عطف على هذا بصائر أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها انكار الحسبان والتوبيخ ومعنى بل الاضراب عن ايقانهم بان القرآن بصائر وهدى يعنى انهم لا يوقنون ذلك بل حسب الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
اى اكتسبوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ(1/5937)
اى نجعلهم مثلهم وهو ثانى مفعولى نجعل نزلت فى نفر من مشركى مكة قالوا للمؤمنين ان كان ما تقولون أى البعث حقّا لنفضّلن عليكم فى الاخرة كما فضّلنا فى الدنيا سَواءً
قرأ حمزة والكسائي وحفص « و خلف أبو محمد » بالنصب على البدل من قوله
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 386
كالّذين أمنوا بدل اشتمال أو على الحال من الضمير فى الكاف أو على المفعولية والكاف حال ومَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
فاعل لسواء والضميران للموصول الأول وان كان الضميران للثانى فسواء حال من الموصول الثاني وجاز ان يكون الضميران للفريقين وسواء بدل من كالّذين أمنوا أو حال من الموصول الثاني وضمير الأول وقرأ الباقون سواء بالرفع على انه خبر محياهم ومماتهم مبتدا والجملة بدل من المفعول الثاني وجاز كون الجملة مفع ولا ثانيا أو استئناف يبين المقتضى للانكار أو حال والضميران للفريقين والمعنى انكار ان يستووا بعد الممات فى الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا فى الرزق والصحة فى الحيوة الدنيا وقيل الضميران للفريقين والجملة مستأنفة والمعنى المؤمن مؤمن محب للّه تعالى فى الدنيا والاخرة والكافر مبغوض للّه تعالى فى الدنيا والاخرة ساءَ ما يَحْكُمُونَ
(21) حكمهم هذا بالمساوات قال البغوي قال مسروق قال لى رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري لقد واللّه ذات ليلة أصبح أو كرب ان يصبح يقرأ اية من كتاب اللّه يركع بها ويسجد ويبكى أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات ان نجعلهم كالّذين أمنوا وعملوا الصّلحت الآية ..(1/5938)
وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أى ليدل على وجوده وقدرته وصفات كماله كأنَّه دليل على ما سبق يعنى خلق هذه الأشياء ليس على سبيل اللهو والعبث بل هو متلبس بالحق المقتضى انتصار المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن فإذا لم يكن ذلك فى المحيا لا بد ان يكون بعد الممات وَلِتُجْزى عطف على قوله بالحقّ لأنه فى معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليستدل الناس بها على الصانع وقدرته وعدله وليقوموا على طاعته ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ محسنة ومسيئة بِما كَسَبَتْ من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) بنقص ثواب أو تضعيف عذاب وتسميته ظلما مع ان فعل اللّه تعالى لا يكون ظلما لاجل المشاكلة فانه لو فعله غيره لكان ظلما كالابتلاء والاختيار ..
أَ فَرَأَيْتَ الفاء للعطف على محذوف تقديره أ تهتم ان تهديهم فرأيت
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 387(1/5939)
مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ومن شرطية وجملة اتّخذ مع ما عطف عليه شرط علقت رايت عن العمل فمن يّهديه جزاؤه وهواه مفعول أول لاتّخذ والهه مفعول ثان يعنى جعل هواه معبوده فانه ترك امتثال أو امر اللّه والانتهاء عن مناهيه واتبع هواه فكانّه يعبده - قال ابن عباس والحسن وقتادة ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهويه فلا يهوى شيئا الا ركب لأنه لا يؤمن باللّه ولا يخافه ولا يحرم ما حرم اللّه.(1/5940)
و قال الآخرون معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما يهويه نفسه أخرج ابن جرير وابن المنذر وكذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير انه كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة فإذا وجدوا احسن من الأول رموه وكسروه وعبدوا الاخر فنزلت هذه الآية قال الشعبي انما سمى الهوى لانّه يهوى صاحبه فى النار وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أى عالما بضلاله وفساد استعداده وقيل على ما سبق فى علمه بانه ضال قبل ان يخلقه روى احمد عن رجل من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال له أبو عبد اللّه دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكى فقالوا له ما يبكيك الم يقل لك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقانى قال بلى ولكن سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يقول ان اللّه عزّ وجلّ قبض بيمينه قبضته والاخرى باليد الاخرى وقال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي - ولا أدرى فى اىّ القبضتين انا وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ فلا يسمع الموعظة ولا يتفكر فى الآيات وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار قرأ حمزة الكسائي وخلف - أبو محمد غشوة بفتح الغين وسكون الشين والباقون غشاوة وجاز ان يكون من موصولة وهى مع صلتها أول مفعولى رايت وثانيهما محذوف تقديره ارايته تهتدى وعلى هذا قوله فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ معطوف على قوله رايت والاستفهام للانكار ومعناه لا تهديه أحد بعد إضلال اللّه إياه وجملة أ فرأيت معترضة أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) عطف على محذوف تقديره الا تعقلون فلا تذكّرون.
اخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبى هريرة قال كان أهل الجاهلية يقولون انما
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 388
يهلكنا الليل والنهار فانزل اللّه تعالى.(1/5941)
وَ قالُوا عطف على مضمون الكلام السابق أى ضل الكافرون باتباع الهوى وقالوا ما هِيَ أى الحيوة شيئا إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها نَمُوتُ فى بعض الأوقات وَنَحْيا فى بعضها بيان لقصر الحيوة على الحيوة الدنيا وقوله نموت ونحيا لا يدل على تعاقب الحيوة بعد الموت فان الواو للجمع المطلق كذا قال الزجاج وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ عطف على نموت ونحيا أى ما يهلكنا الا مرور الزمان فان بمرور الزمان يهرم المرء ويموت وحاصل ذلك انكار الصانع الواجب وجوده والدهر فى الأصل مدة بقاء العالم من مبدا وجوده إلى انقضائه تم يعبر عنه عن كل مدة مديدة بخلاف الزمان فانه يطلق على المدة قليلة كانت أو كثيرة وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فان العلم انما يحصل بالبداهة أو بالبرهان ولا شىء من ذلك بل البرهان قائم على وجود الصانع القديم الحكيم الجملة حال من فاعل قالوا إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) أى يحكمون بلا علم وبلا دليل تأكيد لما سبق عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تسبوا الدهر فان اللّه هو الدهر - رواه مسلم وروى البغوي بلفظ قال اللّه تعالى لا تقل ابن آدم يا خيبة الدهر فانى انا الدهر أرسل الليل والنهار وان شئت قبضتها - ومعنى الحديث ان سب الدهر منكم مبنى على زعمكم ان الدهر فاعل النوائب والحوادث - وجالب الحوادث ومنزّلها فى الواقع هو اللّه تعالى لا غيره فسبّكم يرجع إلى اللّه تعالى وقيل معنى قوله عليه السلام فان اللّه هو الدهر ان اللّه داهر دهر أى خالق الدهر وما فيها فسبّكم الدهر زعما منكم بانه الخالق للاشياء مشرك فاجتنبوه واللّه اعلم - .(1/5942)
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أى حال كونها واضحات الدلالة على خلاف معتقدهم وعلى البعث بعد الموت أو مبينات لذلك ما كانَ حُجَّتَهُمْ متشبثم لمعارضها شيئا إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) فى دعوى البعث وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى سماه حجة على حسبانهم أو على اسلوب قوله تحيتهم بينهم ضرب وجيع وانه يلزم من عدم حصول الشيء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 389
حالا امتناعه مطلقا وجملة إذا تتلى عليهم عطف على قالوا ما هى الّا حياتنا الدّنيا.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إلى اىّ وقت شاء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ إذا أراد كما دلت الحجج ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ للجزاء إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كلمة إلى زائدة أو بمعنى اللام أى ليوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ لان وعد اللّه حق ومن قدر على الإبداء قادر على الاعادة والحكمة يقتضى المجازاة والجملة تأكيد لما سبق وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) قدرة اللّه على ذلك لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسبونه جملة قل اللّه يحييكم إلى آخرها مستأنفة ..
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تعميم للقدرة بعد تخصيصها والجملة عطف على خلق اللّه السّموت والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ بدل من الأول والظرف متعلق بقوله يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) أى يظهر خسرانهم بان يصيروا إلى النار.(1/5943)
وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً عطف على يخسر قال البغوي جاثية يعنى باركة على الركب وهى جلسة المخاصم بين يدى الحاكم ينتظر القضاء قال على رضى اللّه عنه انا أول من يجثو للخصومة بين يدى اللّه تعالى وقد ذكرنا فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ - قال سلمان الفارسي ان فى القيامة ساعة وهى عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى ابراهيم ينادى نفسى لا أسئلك الا نفسى - وقيل معنى كلّ امّة جاثية أى مجتمعة من الجثوة وهى الجماعة ذكر الجزري فى النهاية حديث ابن عمران الناس يصيرون يوم القيامة جثأ أى جماعة تتبع نبيها وتروى هذه اللفظة جثىّ بتشديد الياء جمع جاث وهو الذي يجلس على ركبتيه واخرج عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد والبيهقي عن عبد بن ثانية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانى أراكم بالكرم دون جهنم جاثين ثم قرأ سفيان وترى كلّ امّة جاثية قال ابن حجر المراد بالكرم المكان العالي الذي عليه أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم كُلَّ أُمَّةٍ قرأ يعقوب بالنصب على انه بدل من كلّ امّة أو تأكيد وما بعده صفة أو مفعول ثان والجمهور بالرفع على انه مبتدا خبره تُدْعى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 390
إِلى كِتابِهَا
اى صحيفة أعمالها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث اللّه الريح فتطيرها بالايمان والشمائل أول خط فيها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا - رواه البيهقي الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) صفة ثانية أو خبر ثان لقوله كلّ امّة بتقدير القول أى يقال لهم اليوم تجزون إلى قوله تعملون أو مستأنفة.(1/5944)
هذا كِتابُنا أى صحائف أعمالكم التي كتبها الكرام الكاتبون بامرنا أضاف إلى نفسه لتلك الملابسة وكتابنا صفة لهذا والخبر يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أى يشهد عليكم بما عملتم أو هما خبران لهذا أو ينطق حال والعامل معنى الاشارة بِالْحَقِّ أى بالصدق بلا زيادة ونقصان إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أى نستكتب الحفظة ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) وقيل معنى نستنسخ أى نأخذ نسخة وذلك ان الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت اللّه منه ما كان له ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب وهذه الجملة فى مقام التعليل لينطق - .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ التي جملتها الجنة والجملة تفصيل لما أجمل فى قوله اليوم تجزون ما كنتم تعملون ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) أى الظفر الظاهر لخلوصه عن الشوائب.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ الاستفهام لانكار النفي وتقرير المنفي والفاء للعطف على محذوف تقديره الم يأتكم رسلى فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف قوله فيقال لهم وقوله الم يأتكم رسلى اكتفاء بالمقصود واستغناء للقرينة فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الايمان بها هذه الجملة مع ما عطف على مضمون ما سبق يعنى قد أتاكم رسلى وتليت عليكم آياتي فاستكبرتم عن الايمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) أى قوما عادتكم الكفر والاجرام وكانت المقابلة يقتضى ان يكون الكلام وامّا الّذين كفروا فيدخلكم ربهم فى غضبه الذي من جملتها جهنم لكن عدل إلى هذا تنبيها على موجب الغضب.
وَإِذا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 391
قِيلَ(1/5945)
عطف على قوله استكبرتم يعنى وإذا قيل لكم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ يحتمل الموعود والمصدر يعنى الموعود أو متعلق الوعد وهو البعث حقّ كائن لا محالة وَالسَّاعَةُ قرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم ان والباقون بالرفع عطفا على محله لا رَيْبَ فِيها أى فى إتيانها لاستحالة الخلف فيما اخبر اللّه به قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أى اىّ شىء الساعة استغرابا لها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أصله نظن ظنّا فادخل حرف النفي والاستثناء لاثبات الظن ونفى ما عداه كانّه قال ما نحن الا نظن ظنّا أو لنفى ظنهم فيما سوى ذلك أو يقال تنكير الظن للتحقير ومعناه ان نظن الا ظنا ضعيفا فى مرتبة الوهم فان الظن قد يطلق على العلم كما فى قوله تعالى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وقد يطلق على الوهم فالمراد بالأول مطلق العلم وبالثاني الوهم وأكّد نفى الظن بقوله وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا فى الدنيا أى ظهر لهم قبحها أو جزاء ما عملوا عطف على مضمون ما سبق يعنى امّا الّذين كفروا فيدخلهم ربهم فى غضبه ويبدو لهم سيئات ما عملوا.
وَحاقَ أى نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) أى جزاء استهزائهم ..
وَقِيلَ عطف على بدا لهم الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أى نترككم فى العذاب ترك المنسى كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أى كما تركتم عدته ولم تبالوه واضافة اللقاء إلى اليوم اضافة المصدر إلى ظرفه أى يوم لقاء ربكم أو يوم لقاء جزاء أعمالكم وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) يخلصونكم منها هذان الجملتان اما معطوفتان على مقول قبل أو حالان من مفعول ننساكم.(1/5946)
ذلِكُمْ الترك فى العذاب بِأَنَّكُمُ أى بسبب انكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أى مهزوا بها يعنى استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أى حسبتم ان لا حيوة سواها ولا حساب جملة ذلكم إلى آخرها مستأنفة فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها قرأ حمزة « و خلف - أبو محمد » والكسائي بفتح الياء وضم الراء على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 392
للمفعول عطف على قوله وامّا الّذين كفروا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) العتبى بالضم الرضاء كذا فى القاموس والاستعتاب الاسترضاء أى لا يطلب منهم ان يرضوا ربهم بالتوبة لفوات أو انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا بعد الموت من مستعتب أى ليس بعد الموت من استرضاء لانها بالأعمال وقد انقضت زمانها - وفى النهاية العتبى الرجوع عن الذنب والاساءة قال البغوي أى لا يطلب منهم ان يرجعوا إلى طاعه اللّه تعالى وتقديم المسند إليه مع ان الخبر فعل يدل على التخصيص فان الكفار لا يستعتبون بخلاف المؤمنين - .
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ أى الوصف بالجميل على وفائه الوعد في المؤمنين والمكذبين رَبِّ السَّماواتِ بدل من اللّه وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) كرر لفظ الرب لان ربوبية كل شى نعمة مستقلة من اللّه تعالى دالّة على كمال قدرته - ذكر العاطف بين الأرض والسماوات لتغائرهما وترك العاطف فى ربّ العالمين للاتحاد معنى فان السّموت والأرض معظم افراد العالم فكانّه بمعنى العالمين.(1/5947)
وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى اثار عظمته وكبريائه ظاهرة فيهما أو يقال الظرف متعلق بمحذوف أى يحكم بهذا الحكم أهل السماوات واهل الأرض فيهما وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يغلبه أحد ولا يجوز لاحد ان يستكبر عليه الْحَكِيمُ (37) فيما قدر وقضى عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته النار - وفى رواية قذفته فى النار - رواه مسلم - تم تفسير سورة الجاثية من التفسير المظهرى (و يتلوه تفسير سورة الأحقاف ان شاء اللّه تعالى) والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين فى التاريخ الثاني والعشرين من الربيع الثاني سنة ثمان بعد الف ومائتين (سنة 1208).
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 393
سورة الأحقاف
مكّيّة وخمس وثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مرّ تفسيره فى سورة الجاثية.
ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا خلقا متلبّسا بِالْحَقِّ دليلا على وجود الصانع القديم الحكيم وعلى البعث للمجازاة على ما يقتضيه الحكمة والعدالة وَأَجَلٍ مُسَمًّى أى بتقدير أجل مسمى ينتهى إليه السماوات والأرض أى يوم القيامة وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أى عن الانذار أو عما انذروا به فى القرآن من عذاب يوم القيامة مُعْرِضُونَ (3) لا يتفكرون فى جوازه عقلا ووجوبه سمعا بشهادة المعجزات ولا يستعدون لحلوله ويدعون من دون اللّه الهة بلا دليل.(1/5948)
قُلْ لهم يا محمد أَرَأَيْتُمْ الاستفهام للتقرير أى حمل المخاطب على الإقرار ما تَدْعُونَ أى ما تعبدونه مِنْ دُونِ اللَّهِ أصناما أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا ما استفهامية فى محل النصب على انه مفعول لخلقوا أو فى محل الرفع بمعنى اىّ شىء الذي خلقوه مِنَ الْأَرْضِ بيان لما أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أم منقطعة أى بل الهم مشاركة مع اللّه فِي خلق السَّماواتِ الموصول مع صلته مفعول أول لارايتم وجملة أروني إلى آخرها مفعول ثان والمعنى أخبروني عن حال الهتكم بعد تأمل هل يتعقل انهم خلقوا شيئا من اجزاء العالم أو يتصور منهم ان يكونوا شركاء للّه فى الخلق يعنى لا يتصور
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 394
ذلك فكيف تحكمون باستحقاقها للعبادة وتخصيص الشرك بالسماوات احتراز عمّا يتوهم ان للوسائط شركة فى إيجاد الحوادث السفلية ائْتُونِي بِكِتابٍ من عند اللّه ناطق بالشرك مِنْ قَبْلِ هذا القرآن الناطق بالتوحيد أَوْ أَثارَةٍ أخرج احمد عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أو اثارة من علم قال الخط قال مجاهد وعكرمة أى رواية وقال قتادة خاصة وقال الكلبي بقية فى القاموس الأثر البقية من الشيء مِنْ عِلْمٍ الأنبياء الأولين مستندا إلى الوحى القطعي يدل على الشرك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) فى ان اللّه امر بعبادة الأوثان شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى لا دليل على استحقاقها العبادة عقلا ولا نقلا ..
وَمَنْ أَضَلُّ عطف على مقولة القول يعنى لا أحد أضل مِمَّنْ يَدْعُوا أى يعبد ويطلب حاجاته مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَج ِيبُ لَهُ
إذا دعاه لو سمع دعاءهم فرضا ان يعلم سرائرهم ويراعى مصالحهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى ما دامت الدنيا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) لانها اما جمادات لا يسمع ولا يعقل واما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كعيسى وعزير والملائكة.(1/5949)
وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ يوم القيامة عطف على لا يستجيب كانُوا أى كانت المعبودون لَهُمْ أَعْداءً يضرونهم ولا ينفعونهم وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) مكذبين قائلين تبرّانا إليك ما كانوا ايّانا يعبدون يعنى ليسوا فى الدارين على منفعة إذ لا ينفعهم فى الدنيا ويضرهم فى الاخرة فلا أضل ممن عبدها وترك عبادة اللّه السميع البصير الخبير القادر المجيب. وقيل الضمير فى قوله كانوا بعبادتهم كافرين للعابدين القائلين واللّه ربّنا ما كنّا مشركين.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ عطف على قوله والّذين كفروا عمّا انذروا معرضون أو على يدعوا فى ممّن يدعوا يعنى ومن اضلّ ممن قال للحق هذا سحر مبين إذا تتلى عليه آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أى لاجله وفى شأنه والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها ووضع الّذين كفروا موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق وظهور الصدق وعليهم بالكفر والانهماك فى الضلالة لَمَّا جاءَهُمْ أى فورا حين مجيئها إليهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 395
من غير نظر وتأمل هذا القرآن سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ظاهر فى كونه سحرا.(1/5950)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ محمد من قبل نفسه أم منقطعة استفهام للانكار والتعجيب وإضراب عن قولهم انه سحر إلى قولهم انه مفترى قُلْ يا محمد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فرضا لكى تتبعونى فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أى لا تقدرون ان تردوا عنى شيئا من عذاب اللّه فكيف اجترأ على اللّه واعرض نفسى للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضرر من قبلكم هُوَ أَعْلَمُ أى اللّه اعلم بِما تُفِيضُونَ أى تخوضون فِيهِ من تكذيب آياته والقول بانه سحر أو مفترى كَفى بِهِ الباء زائدة والضمير فى محل الرفع على الفاعلية شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يعنى ان اللّه يشهد لى بالصدق والبلاغ بخلق المعجزات وعليكم بالكذب والإنكار وهو وعيد بجزاء إفاضتهم وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأمن واشعار بحلمه عنهم وعدم استعجالهم بالتعذيب مع عظم جرمهم ..(1/5951)
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أى بديعا مثل نصف ونصيف يعنى لست باول الرسل ادعى ما لم يدعه أحد قبلى بل قد بعث قبلى كثير من الرسل فلم تنكرون نبوتى بعد شهادة المعجزة - أو لست اقدر على ما لم يقدر الرسل من قبلى وهو الإتيان بالمقترحات كلها وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ما اما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة ولا لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي والتقدير ما أدرى ما يفعل بي ولا ما يفعل بكم قيل معناه ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وامر محمد عند اللّه الا واحد وما له علينا مزية وفضل ولو لا انه ابتدع ما يقول من ذات نفسه لا خبره الذي بعثه بما يفعل به فانزل اللّه ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تاخّر فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبى اللّه قد علمنا ما يفعل بك وإذا ما يفعل بنا فانزل اللّه ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات الآية وانزل وبشّر المؤمنين بانّ لهم من اللّه فضلا كبيرا فبين اللّه ما يفعل به ربهم قال البغوي وهذا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 396(1/5952)
قول انس وقتادة والحسن وعكرمد قالوا انما قال هذا قبل ان يخبره بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك وهذا القول عندى غير مرضى إذ لا يخلو سورة من القرآن غالبا (مكية كانت أو مدينة) من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين وكان من أول ما يوحى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان انذر عشيرتك الأقربين يعنى بعذاب اللّه ان لم يؤمنوا وفى هذه السورة وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيّا لّينذر الّذين ظلموا وبشرى للمحسنين انّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك اصحاب الجنّة الآية وكيف يكون عاقبة المسلمين والمشركين غير معلوم له صلى اللّه عليه وسلم وغير مذكور فى الكتاب فانه يقتضى اعتراض الكافرين ما أمرنا وامر محمد عند اللّه الا واحد وما نرى لك علينا من فضل فاىّ فائدة فى ترك دين الآباء واتباع الرسل ونزول قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقوله لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ بعد بضع عشر سنة تأخير للبيان عن وقت الحاجة وذلك محال - فان قيل روى البغوي بسنده عن خارجة بن يزيد قال كانت أم العلاء الانصارية تقول لما قدم المهاجرون اقترعت الأنصار على سكناهم فطار لنا عثمان بن مظعون رضى اللّه عنه فى السكنى فمرض فمرّضناه ثم انه توفّى فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخلت فقلت رحمة اللّه عليك أبا السائب شهادتى ان قد أكرمك اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يدريك ان اللّه قد أكرمه قلت لا واللّه لا أدرى فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اما هو فقد أتاه اليقين من ربّه وانى لارجو له الخير واللّه ما أدرى وانا رسول اللّه ما يفعل بي ولا بكم قالت فو اللّه لا ازكى بعد أحدا ابدا قالت ثم رايت لعثمان بعد فى النوم عينا تجرى فقصّصتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ذاك عمله - وهذا الحديث يؤيد(1/5953)
قول من قال معناه ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة والا فما معنى لهذا الحديث قلنا مقتضى هذا الحديث انه لا يجوز الحكم قطعا على شخص معين بالنجاة أو بالهلاك لأنه ادعاء علم الغيب ولا علم على البواطن والسرائر الا للّه سبحانه غير ان الرجل إذا كان ظاهر حاله خيرا يرجو له الخير ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم واللّه ما أدرى وانا رسول اللّه ما يفعل بي
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 397
و لا بكم انه قد علمنى اللّه علوم الأولين والآخرين ومع ذلك ما أدرى تفصيلا ما يفعل بي ولا بكم فى جزاء كل عمل مخصوص فكيف دريت أنت فى حق رجل معين ان اللّه قد أكرمه - وقيل مثل هذا التأويل فى الآية أيضا قالوا معنى الآية ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم فى الدارين إذ لا علم لى بالغيب وهذا لا يقتضيه سياق الآية بل سياق الآية ان الكفار كانوا يريدون من النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يتبعهم فى الدين ويطمعونه - بجمع الأموال(1/5954)
له وإنكاح الأزواج بلا سوق مهر ويؤذونه ويخوّفونه على ترك الاتباع فمقتضى سياق الآية ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبرهم بانه لا يطمع منهم ولا يخافهم ويعلم انهم غير قادرين على ما أرادوا بل الخير والشر كلاهما من اللّه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد فمعنى الآية ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم من النصر والخذلان وانا لا اتبعكم على شىء من التقادير - إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من القرآن لا اتركه ابدا قال البيضاوي جواب عن اقتراح الكفار الاخبار عمّا لم يوح إليه من الغيوب أو عن استعجال المسلمين ان يتخلصوا من أذى المشركين وبه قال البغوي قال جماعة قوله ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم فى الدنيا واما فى الاخرة فقد علم انه فى الجنة ومن كذّبه فهو فى النار ثم اختلفوا فقال ابن عباس لمّا اشتد البلاء باصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما يرى النائم وهو بمكة ارض سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إليها فسكت فانزل اللّه هذه الآية ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ءانزل فى مكانى أو أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لى - وقال بعضهم معنى ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم أى إلى ما ذا يصير امرى فى الدنيا اما ان أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلى منهم ابراهيم عليه السلام أو اقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلى منهم يحيى عليه السلام وأنتم أيها المصدقون تخرجون معى أو تتركون أم ماذا يفعل بكم وما أدرى ما يفعل بكم أيها المكذبون اترمون بالحجارة كما رمى قوم لوط أم يخسف بكم كما خسف بقارون أم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 398(1/5955)
اىّ شىء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذّبة ثم أخبره اللّه عزّ وجلّ ان يظهر دينه على الأديان كلها فقال هو الّذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه وقال فى أمته ما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فاخبره ما يصنع به وبامته هذا قول السدىّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ للكافرين من عذاب اللّه مُبِينٌ (9) بين الانذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة يعنى لست مدعيّا لعلم الغيب ولا مسلطا عليكم أكرهكم على الايمان ..(1/5956)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني ماذا حالكم إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ حال بتقدير قد أى وقد كفرتم به أيها المشركون ويجوز ان يكون الواو للعطف على فعل الشرط وكذا الواو فى قوله وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قال قتادة والضحاك هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم السلام روى البخاري والبيهقي عن انس ومحمد بن إسحاق عن رجل من ال عبد اللّه بن سلام عنه والامام احمد ويعقوب بن سفيان عن عبد اللّه بن سلام والبيهقي عن موسى بن عقبة وعن ابن شهاب قال عبد اللّه بن سلام لمّا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته والذي كنا نتوقع له فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة فلمّا قدم نزل معنا فى بنى عمرو بن عوف فاخبر رجل بقدومه وانا فى رأس نخلة اعمل فيها وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة فلمّا سمعت بقدوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كبّرت فقالت لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدتّ قال قلت لها أى عمة هو واللّه اخر موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به قالت فذاك اذن قال ثم خرجت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا ان رايت وجهه عرفت ان وجهه ليس بوجه كذّاب فكان أول ما سمع من النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله يا أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. فقال يا محمد انى سائلك عن ثلاث خلال لا يعلمهن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 399(1/5957)
الا نبى ما أول اشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى امه « نزع إلى أبيه فى الشبه أى ذهب عنه ره » وما هذا السواد الذي فى القمر فقال أخبرني بهن جبرئيل آنفا قال جبرئيل قال نعم قال ذاك عدو اليهود من الملائكة اما أول اشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب واما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت واما السواد الذي فى القمر فانهما كانا شمسين قال اللّه تبارك وتعالى وجعلنا اللّيل والنّهار ايتين فمحونا اية اللّيل فالسواد الذي رايت هو المحو فقال اشهد ان لا اله الا اللّه وانك محمد رسول اللّه ثم رجع إلى أهل بيته فامرهم فاسلموا وكتم إسلامه - ثم خرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ارى اليهود قد علمت انى سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم وانهم قوم بهت « 1 » وانهم ان يعلموا بإسلامي من قبل ان تسئلهم عنى بهتوني ويقولون فىّ ما ليس فىّ فاحب ان تدخلنى بعض بيوتك فادخله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض بيوته وأرسل نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه فقال يا معشر اليهود ويلكم اتقوا اللّه فو اللّه الذي لا اله الا هو انكم لتعلمون انى رسول اللّه وقد جئتكم بالحق فاسلموا فقالوا ما نعلمه فقال اىّ رجل فيكم عبد اللّه قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال ارايتم ان اسلم قالوا أعاذه اللّه من ذلك قال لابن سلام أخرج عليهم فخرج فقال اشهد ان لا اله اللّه واشهد ان محمدا رسول اللّه يا معشر اليهود اتقوا اللّه واقبلوا ما جاءكم به فو اللّه انّكم لتعلمون انه لرسول اللّه حقّا تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة اسمه وصفته فانى اشهد انه رسول اللّه وأومن به وأصدقه وأعرفه قالوا كذبت أنت أشرنا وابن أشرنا وانتقصوا قال هذا الذي(1/5958)
كنت أخاف يا رسول اللّه ا لم أخبرك انهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور فاظهر إسلامه واسلام أهل بيته وأسلمت عمته ابنة الحارث فحسن إسلامها -
_________
(1) بهت جمع بهوت كصبر وصبور مبالغة فى البهت وهو الكذب ثم سكن الهاء تخفيفا - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 400(1/5959)
و أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن الأشجعي قال انطلق النبي صلى اللّه عليه وسلم وانى معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معشر اليهود أروني اثنى عشر رجلا منكم يشهدون ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه يحط اللّه عن كل يهودى تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما اجابه منهم أحد ثم انصرف فإذا رجل من خلفه فقال كما أنت يا محمد واقبل فقال اىّ رجل تعلمونى منكم يا معشر اليهود قالوا واللّه ما نعلم فينا رجلا كان اعلم بكتاب اللّه ولا افقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك قال فانى اشهد باللّه انه لنبى اللّه الذي تجدونه فى التوراة قالوا كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرّا فانزل اللّه تعالى هذه الآية واخرج الشيخان عن سعيد بن أبى وقاص قال ما سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول لاحد يمشى على وجه الأرض انه من أهل الجنة الا لعبد اللّه بن سلام وفيه نزلت هذه الآية وشهد شاهد من بنى اسراءيل - قال الراوي عن مالك (و هو عبد اللّه بن يوسف شيخ البخاري) لا أدرى قال مالك الآية اوفى الحديث - واخرج ابن جرير عن عبد اللّه بن سلام قال فيّ نزلت وشهد شاهد من بنى اسراءيل وعلى هذا التقدير الآية مدنية لان اسلام عبد اللّه بن سلام كان بالمدينة ولفظة مثل فى قوله تعالى عَلى مِثْلِهِ زائدة والضمير للقران والمعنى شهد شاهد عليه أى على كونه يعنى القرآن من عند اللّه أو المعنى وشهد شاهد على مثل ما قلت أى على كون القرآن من عند اللّه فَآمَنَ عبد اللّه بن سلام وَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الايمان يا معشر اليهود - وأنكر مسروق نزول الآية فى عبد اللّه بن سلام وقال واللّه ما نزلت فيه لان ال حم نزلت بمكة وانما اسلم عبد اللّه بن سلام بالمدينة ونزلت الآية فى محاجة كانت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقومه ومعنى قوله شهد شاهد من بنى(1/5960)
إسرائيل انه شهد موسى وشهادته ما فى التوراة خبر بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم على مثله أى مثل القرآن وهو ما فى التوراة من المعاني المصدقة للقران فامن موسى عليه السلام
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 401
و استكبرتم عن الايمان يا معشر قريش وجواب الشرط وهو قوله ان كان من عند اللّه محذوف تقديره فمن أضل منكم أو أ لستم ظالمين يدل عليه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وهى جملة مستأنفة فان قيل افعال الشرط اعنى كان من عند اللّه وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل فامن واستكبرتم كلها مجزوم ووقوعها فما وجه استعمال حرف ان فيها وهى تستعمل فى موضع الشك قلت ان الواو فى الجمل كلها للجمع واستعمل كلمة ان للتوبيخ وإيراد المجزوم موقع الشك للدلالة على انه لا يجوز عند العقل السليم الكفر مع كونه من عند اللّه والاستكبار مع شهادة أهل العلم وإيمانه فهو نظير قوله ان كنتم قوما مسرفين واللّه اعلم - .(1/5961)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قال الّذين كفروا للحقّ الآية لِلَّذِينَ آمَنُوا منهم أى فى حقهم لَوْ كانَ دين محمد صلى اللّه عليه وسلم خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أخرج ابن جرير عن قتادة قال قال أناس من المشركين نحن أعزّ ونحن خير فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية واخرج ابن المنذر عن عون بن أبى شداد قال كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها زنين فكان عمر يضربها على إسلامها حتى تفتن وكان كفار قريش يقولون لو كان خيرا ما سبقتنا إليه رنين فانزل اللّه فى شأنها هذه الآية واخرج ابن سعد نحوه عن الضحاك والحسن وقال البغوي بناء على نزول الآية السابقة فى عبد اللّه بن سلام انه قال الذين كفروا من اليهود للذين أمنوا من اليهود لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه يعنى عبد اللّه بن سلام وأصحابه وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أى بالقران كما اهتدى به أهل الايمان ظرف لمحذوف مثل ظهر عنادهم أو ضلوا وهو معطوف على قوله قال الّذين كفروا وعطف على محذوف تعلق به الظرف قوله فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) الفاء للسببية فان هذا القول مسبب لظهور عنادهم وضلالهم وهو كقولهم أساطير الاوّلين يعنى أكاذيب الأولين يعنى اختلق هذا أهل الزمان السابق ثم تلقاه م نهم محمد - .
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 402(1/5962)
وَ مِنْ قَبْلِهِ أى قبل القرآن وهو خبر لقوله كِتابُ مُوسى التوراة إِماماً يقتدى به حال من الضمير المستكن فى قبله وَرَحْمَةً من اللّه على الناس ليفوزوا إلى فلاح الدارين والجملة معترضة وَهذا كِتابٌ من اللّه تعالى مُصَدِّقٌ لكتاب موسى أو لمحمد صلى اللّه عليه وسلم باعجازه صفة لكتاب لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير كتاب فى مصدق أو منه لتخصيصه بالصفة وعاملها معنى الاشارة وفائدتهما الاشعار بالدلالة على ان كونه مصدقا للتورته كما دل على انه حق دل على انه وحي وتوقيف من اللّه أو مفعول به لمصدق بحذف مضاف أى مصدق ذا لسان عربى وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لِيُنْذِرَ قرأ نافع والبزي « و أبو جعفر - أبو محمد » بخلاف عنه وابن عامر ويعقوب بالتاء للخطاب أى لتنذر يا محمد والباقون بالياء للغيبة أى لينذر الكتاب أو اللّه أو الرسول متعلق بمفهوم هذا كتاب أى انزل لتنذر الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر وَبُشْرى مصدر لفعل محذوف أى وليبشر بشرى أو مفعول له معطوف على محل لينذر وهذا لا يجوز الا على قراءة لينذر بصيغة الغائب ويكون الضمير للّه تعالى حتى يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل به واحدا وهو انزل وجاز ان يكون خبر المبتدأ محذوفا أى هو والجملة عطف على جملة قبلها لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قد ذكرنا تفسير الاستقامة فى تفسير حم السجدة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بعد الموت عن لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) على فوات محبوب والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها حال من المستكن فى اصحاب والعامل فيه معنى الاشارة والجملة فى مقام التعليل لنفى الخوف جَزاءً مصدر لفعل دلّ عليه الكلام أى جوزوا جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) من اكتساب الفضائل العلمية والعملية - .(1/5963)
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ اللام للعهد والمراد به أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه روى عن ابن عباس ان الآية نزلت فى أبى بكر وهو المروي عن على رضى اللّه قال نزلت فى أبى بكر اسلم أبواه جميعا ولم يجتمع من المهاجرين أبواه فى الإسلام غيره وقال السدىّ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 403
و الضحاك نزلت فى سعد بن أبى وقاص وقد ذكرنا قصته فى تفسير سورة العنكبوت وقيل اللام للجنس وان كان نازلا فى أبى بكر أو سعد وذلك لا يقتضيه سياق الآية كما سنشير إليه بِوالِدَيْهِ متعلق بمحذوف أى ان يحسن بوالديه وهما أبو قحافة عثمان بن عمر وأم الخير بنت الخير بن الصخر بن عمر إِحْساناً كذا قرأ الكوفيون من الافعال فهو منصوب على المصدرية وقرأ الباقون حسنا من المجرد فهو بدل اشتمال لقوله بوالديه منصوب على محله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً أى ذات كره فهو حال من فاعل حملته أو حملا ذاكره فهو مصدر وهو المشقة قرأ أهل الحجاز وهشام وأبو عمرو بفتح الكاف فى الموضعين والباقون بضمها وهما لغتان وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً جملتان معترضتان فى مقام التعليل للامر بالإحسان وفيه اشعار بمزية استحقاق الام فى الإحسان قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صل امّك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فادناك - وقد مر الحديث فى سورة العنكبوت - وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ وهو الفطام والمراد به الرضاع تسمية الملزوم باسم اللازم وقرأ يعقوب وفصله وهما بتقدير المضاف مبتدا بعده خبره أى مدة حمله ورضاعه ثَلاثُونَ شَهْراً معترضة اخرى لبيان شدة المشقة فى مدة طويلة يستدل بهذه الآية على ان اقل مدة الحمل ستة « 1 » أشهر لقوله تعالى وفصاله فى عامين فانه إذا ذهب منها
_________
((1/5964)
1) عن قتادة عن أبى الحرب بن أبى الأسود الدؤلي قال رفعت إلى عمر امراة ولدت بستة أشهر فسال عنها اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال على لا رجم عليها الا ترى انه تعالى يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال وفصاله فى عامين فكان الحمل منها ستة أشهر فتركها عمر ثم بلغنا انها ولدت اخر بستة أشهر وعن نافع بن جبير ان ابن عباس أخبره انى لصاحب المرأة التي اتى بها عمر وضعت لستة أشهر فانكر الناس ذلك قلت لعمر كيف تظلم قال كيف قلت اقرأ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا والوالدات يرضعن اولادهنّ حولين كاملين قلت كم الحول قال سنة قلت كم السنة قال اثنا عشر شهرا قلت واربعة وعشرون شهرا حولان كاملان ويؤخر اللّه من الحمل ما شاء ويقدم فاستراح عمر إلى قوله - وعن أبى عبيدة مولى عبد الرحمان بن عوف قال رفعت امراة إلى عثمان ولدت لستة أشهر فقال عثمان قد رفعت الىّ امراة ما أراها الا جاءت بشر فقال ابن عباس إذا كملت الرضاعة كان الحمل ستة 14 شهر اقرأ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فدرأ عثمان عنها - منه نور اللّه مرقده -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 404(1/5965)
عامين بقي للحمل ستة أشهر وعليه اتفق الائمة فى أفل مدة الحمل واختلفوا فى أكثرها فقال أبو حنيفة سنتان وعن مالك روايات اربع سنين وخمس سنين وسبع سنين وقال الشافعي اربع سنين وعن احمد روايتان المشهور كمذهب الشافعي والاخرى كمذهب أبى حنيفة. وجه قول أبى حنيفة قول عائشة الولد لا يبقى فى بطن امه اكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل وفى رواية ولو بقدر ظل مغزل - قال ومثله لا يقال الا سمعا إذا المقدرات لا تدرك بالرأى قلت يحتمل ان يكون قولها على تقدير الصحة مبنيّا على التجربة فى جريان العادة كقول مالك والشافعي قلت والاستدلال بهذه الآية على اقل مدة الحمل مبنى على كون اللام فى الإنسان للجنس وان كان للعهد فلا لانها حينئذ بيان لواقعة حال - والاستدلال بهذه الآية على مذهب أبى حنيفة ان مدة الرضاع ثلاثون شهرا لا يجوز وقد مرّ الكلام فيه وفى غيرها من مسائل الرضاع فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى وامّهاتكم اللّاتى أرضعنكم روى عن عكرمة عن ابن عباس فى تفسير هذه الآية انه قال إذا حملت المرأة تسعة أشهر ارضعته أحد وعشرين شهرا وإذا حملت ستة أشهر ارضعته اربعة وعشرين شهرا واللّه اعلم حَتَّى إِذا بَلَغَ متعلق بفعل محذوف معطوف على وضعته تقديره وربّياه حتّى إذا بلغ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عطف على بلغ يعنى وبلغ كمال عقله كان أبو بكر صحب النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن ثمانى عشرة سنة وذلك بلوغ الأشد وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم حينئذ ابن عشرين سنة فى تجارته إلى الشام فلمّا بلغ أربعين سنة أمن بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ودعا ربه وقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي قرأ ورش والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها والمعنى الهمنى وقيل معناه الكف أى اجعلنى بحيث أزع نفسى يعنى اكفه من الكفران أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ الهداية للاسلام أو ما(1/5966)
يعمه وغيره وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكر صالحا للتعظيم أو لأنه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضاء اللّه قال ابن عباس فاجابه اللّه تعالى فاعتق تسعة من المؤمنين يعذبون فى اللّه ولم يرد شيئا من الخير الا أعانه اللّه عليه ودعا أيضا وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فاجابه اللّه فلم يكن له ولد الا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 405(1/5967)
أمنوا جميعا فاجتمع له اسلام أبويه وأولاده جميعا كذا قال ابن عباس وأدرك أبو قحافة صحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمان بن أبى بكر وابن عبد الرحمان أبو عتيق ولم يكن ذلك لاحد من الصحابة إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عن الكفر وعن كل ما لا يرضاه اللّه أو يشغل عنه وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) المخلصين قوله حتّى إذا بلغ إلى آخره دليل على ان اللام فى الإنسان للعهد فانه لو كان للجنس لا يستقيم ذلك لان تأخير النعمة القديمة إلى بلوغ أربعين سنة لا يجوز فالاية حكاية عن الواقع فانه رضى اللّه عنه أمن وهو ابن أربعين سنة والمعتبر من الشكر ما كان بعد الايمان - فان قيل المروي ان أباه أبا قحافة اسلم يوم الفتح وكان أبو بكر حينئذ ابن ستين سنة وكان نزول الآية قبل الهجرة لان السورة مكية وحين بلغ أبو بكر أربعين سنة كان أبو قحافة كافرا فكيف يوصى اللّه بالإحسان به وكيف يقول أبو بكر أنعمت علىّ وعلى والدىّ قلنا قد روى ان أبا بكر اسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة واسلم أبواه بعد ذلك بسنتين وكان أبو بكر حينئذ ابن أربعين سنة فلعل هذه الرواية هى الصحيحة وعلى تقدير نزول الآية بمكة واسلام أبى قحافة بعد الفتح قلنا الوصية بالإحسان للوالدين الكافرين أيضا جائزة قال اللّه تعالى فى سورة العنكبوت ووصّينا الإنسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما والمراد حينئذ بنعمتك أنعمت علىّ ما يعم نعمة الدين والدنيا واللّه اعلم قلت وعلى تقدير كون اللام للجنس يقال معنى الآية انه إذا بلغ الإنسان أشده يعنى بلغ مبلغ الرجال شكر الله تعالى على كمال جسده ثم إذا بلغ أربعين سنة شكر اللّه سبحانه على كمال عقله واللّه اعلم ..(1/5968)
أُولئِكَ ان كان المراد بالإنسان الجنس فالاشارة إلى عامة الموصوفين بالصفات المتقدمة ظاهر وان كان المراد به أبو بكر أو سعد فالمشار إليه هو ومن كان مثله فى الصفات المذكورة فذكر حكم أبى بكر وسعد فى ضمن العموم على سبيل الكناية وهو ابلغ من الصريح فانه كدعوى الشيء مع بينة وبرهان الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا فان المباح حسن ولا يثاب عليها أو هى من قبيل اضافة الصفة إلى موصوفها يعنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 406
نتقبل عنهم ما عملوا احسن مما عمله غيره وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فلا نعاقبهم على شىء منها قرأ حمزة والكسائي وحفص « خلف - أبو محمد » نتقبّل ونتجاوز بالنون على التكلم والتعظيم واحسن منصوبا على المفعولية والباقون بالياء على الغيبة والبناء للمفعول واحسن مرفوعا على انه مسند إليه فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ خبر بعد خبر لاولئك أو حال من الضمير المجرور فى عنهم وعن سيّئاتهم أى كاننين فى اعدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لنفسه فان يتقبل ويتجاوز وعد أى وعدت وعد الصدق واضافة الوعد إلى الصدق من قبيل حاتم الجود الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) فى الدنيا والجملة مستانفة لبيان جزاء الإنسان المذكور ..(1/5969)
وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ إذا دعواه إلى الايمان باللّه والإقرار الموصول مبتدا خبره أولئك والجملة مستأنفة اخرى لبيان حكم من خالف المذكورين أُفٍّ لَكُما وهى كلمة كراهية قرأ نافع وحفص « و أبو جعفر - أبو محمد » بالتنوين وكسر الفاء وقرأ ابن كثير وابن عامر « و يعقوب - أبو محمد » بفتح الفاء بغير تنوين والباقون بكسر الفاء بغير تنوين أَتَعِدانِنِي قرأ هشام بنون واحدة مشددة والباقون بنونين مكسورتين وقرأ نافع وابن كثير « ابو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها والاستفهام للانكار والتوبيخ فى مقام التعليل للتأنيف أَنْ أُخْرَجَ من قبرى حيّا بعد الموت وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الجملة حال من فاعل أخرج وهاهنا جملة محذوفة معطوفة على هذه الجملة تقديره ولم يخرج أحد منهم وَهُما أى أبواه يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أى يقولان الغياث باللّه منك أو يسئلانه تعالى ان يغيثه بالتوفيق للايمان الجملة حال من والديه وَيْلَكَ مصدر لفعل محذوف أى هلكت هلاكات والجملة مقدرة بالقول أى ويقولان له ويلك آمِنْ باللّه وبالبعث بعد الموت إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ هذه الجملة فى مقام التعليل للامر بالايمان فَيَقُولُ ذلك الولد الكافر لوالديه ما هذا الوعد إِلَّا أَساطِيرُ أى أكاذيب الْأَوَّلِينَ (17)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 407(1/5970)
اخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهك قال كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمان بن أبى بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا فقال مروان هذا الذي انزل اللّه فيه والّذى قال لوالديه أفّ لّكما ا تعداننى فقالت عائشة من وراء الحجاب ما انزل اللّه فينا شيئا من القرآن الا ان انزل عذرى - وروى انه غضب عبد الرحمان بن أبى بكر بقول مروان وقال هذا سنة الهراقلة ان يرث الأبناء ملك الآباء - واخرج ابن أبى حاتم عن السدىّ وعن ابن عباس مثل قول مروان وقال نزلت فى عبد الرحمان بن أبى بكر قبل إسلامه ثم اسلم عبد الرحمان وحسن إسلامه - وقال البغوي قال ابن عباس والسدىّ ومجاهد نزلت فى عبد اللّه وقيل فى عبد الرحمان بن أبى بكر كان أبواه يدعو انه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لى عبد اللّه بن جدعان وعامر بن كعب ومشائخ قريش حتى اسئلهم عما تقولون - قلت وقول من قال انها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر انما نشا من قول مروان وقد سمعت ان قول مروان انما كان مبنيّا على العناد.
قال البغوي وأنكرت عائشة ان يكون هذا فى عبد الرحمان بن أبى بكر وقالت انما نزلت فى فلان سمت رجلا - وقال الحافظ ابن حجر ونفى عائشة أصح اسنادا واولى بالقبول وقال البغوي والصحيح انها نزلت فى كافر عاق لوالديه المسلمين كذا قال الحسن وقتادة وقال الزجاج قول من قال نزلت فى عبد الرحمان بن أبى بكر قبل إسلامه يبطله قوله تعالى.(1/5971)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ أى وجب وثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بانهم أهل النار فان عبد الرحمان كان من أفاضل المسلمين فِي أُمَمٍ أى مع امم كافرة قَدْ خَلَتْ أى مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بيان لامم وجملة قد خلت صفة لامم وفى امم متعلق بحقّ وهو صلة للموصول والموصول خبر لاسم الاشارة والجملة خبر لقوله والّذى قال لوالديه إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) تذييل ..
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أى من جزاء ما عملوا من الخير أو من أجل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 408
ما عملوا قال البغوي قال ابن عباس يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن يخلف عنه ولو بساعة وقال مقاتل ولكل فضائل بأعمالهم فيوفيهم حزاء أعمالهم وقيل ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين درجات منازل ومراتب عند اللّه يوم القيامة بأعمالهم فيجازيهم عليها قال ابن زيد فى هذه الآية درجات أهل النار يذهب سفالا ودرجات أهل الجنة يذهب علوّا وَلِيُوَفِّيَهُمْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام وعاصم « و يعقوب - أبو محمد » بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم والتعظيم وهو معطوف على علة محذوفة لفعل محذوف تقديره فعلنا ذلك أو فعل اللّه ذلك لحكم ومصالح وليوفّيهم أَعْمالَهُمْ أى جزاء ما عملوا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) بنقص ثواب أو زيادة عقاب حال من الضمير المنصوب - .(1/5972)
وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أى يعذبون بها أصله يعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم عرضت الناقة على الحوض أَذْهَبْتُمْ مقدر بالقول أى يقال لهم أذهبتم وهو ناصب اليوم قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوبء أذهبتم بالاستفهام فقرأ ابن ذكوان وروح - أبو محمد بهمزتين محققتين بغير مد وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب « اى رويس » وهشام « ابو محمد بخلاف عنه أبو محمد » بهمزة ومد « اى همزة سهلة أبو محمد » وهشام أطول مدا على « و أبو جعفر - أبو محمد » أصله وابن كثير « و رويس - أبو محمد » يسهل الثانية على أصله « اى بغير إدخال - أبو محمد » والباقون بهمزة واحدة على الخبر قال البغوي كلاهما فصيحتان لان العرب تستفهم للتوبيخ وتترك الاستفهام طَيِّباتِكُمْ ولذائذكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفاء ما كتب لكم حظّا منها فى الدنيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فما بقي لكم منها شىء فَالْيَوْمَ الفاء للسببية عطف على استمتعتم تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أى العذاب الذي فيه ذل وهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) أى بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة اللّه.
قال البغوي وبّخ اللّه الكافرين بالتمتع فى الدنيا فاثر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات ل الدنيا رجاء لثواب الاخرة روى الشيخان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 409(1/5973)
فى الصحيحين عن عمر رضى اللّه عنه قال دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد اثر الرمال بجنبه متكيا على وسادة من آدم حشوها ليف قلت يا رسول اللّه ادع اللّه فليوسع على أمتك فان فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون اللّه فقال اوفى هذا أنت يا ابن الخطّاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحيوة الدنيا - وفى رواية أ ما ترضى ان تكون لهم الدنيا ولنا الاخرة - وفى الصحيحين عن عائشة ما شبع ال محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وروى البخاري عن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة انه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية فدعوه فابى ان يأكل وقال خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وروى عن عائشة قالت لقد كان يأتى علينا شهر ما توقد فيه نار وما هو الا الماء والتمر غير ان جزى اللّه النساء من الأنصار خيرا ربما اهدين لنا شيئا من اللبن - وروى احمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبيت الليالى المتتابعة طاويا واهله لا يجدون عشاء وكان اكثر خبزهم خبز الشعير - وروى الترمذي عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقد اخفت فى اللّه وما يخاف أحد ولقد أوذيت وما يؤذى أحد ولقد أتت علىّ ثلاثين من بين ليلة ويوم ومالى ولبلال طعام يأكله ذو كبد الا شىء يواريه إبط بلال - قال الترمذي ومعنى الحديث حين خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم هاربا من مكة ومعه بلال انما كان مع بلال من الطعام ما تحمل تحت إبطه وروى البخاري عن أبى هريرة قال رايت سبعين من اصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء اما إزار واما كساء قد ربطوا فى أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية ان ترى عورته وروى البخاري عن انس انه مشى إلى النبي صلى اللّه(1/5974)
عليه وسلم بخبز شعير واهالة سبخة ولقد رهن النبي صلى اللّه عليه وسلم درعا بالمدينة عند يهودى وأخذ منه الشعير لاهله ولقد سمعته يقول ما امسى عند ال محمد صاع بر ولا صاع حب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 410
و ان عنده تسع نسوة وروى الترمذي عن أبى طلحة قال شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بطنه عن حجرين وقال الترمذي هذا حديث غريب وروى مسلم عن عبد الرحمان قال جاء ثلاثة نفر إلى عبد اللّه بن عمرو وانا عنده فقالوا يا أبا محمد واللّه ما نقدر على شىء لا نفقة ولا دابة ولا متاع فقال لهم ما شئتم ان شئتم رجعتم إلينا فاعطيناكم ما يسر اللّه لكم وان شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وان شئتم صبرتم فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريقا قالوا فانا نصبر لا نسئل شيئا - وروى احمد عن معاذ بن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن قال إياك والتنعم فان عباد اللّه ليسوا بالمتنعمين - وروى البيهقي فى شعب الايمان عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من رضى من اللّه باليسر من الرزق رضى اللّه عنه بالقليل من العمل - وروى البغوي عن عبد الرحمان بن عوف انه اتى بطعام وكان صائما فقال قتل مصعب بن عمير وهو خير منى فكفن فى بردة ان غطى رأسه بدت رجلاه وان غطى رجلاه بدا رأسه قال واراه قال وقتل حمزة وهو خير منى ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا الدنيا وقد خشينا ان تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام - وروى عن جابر بن عبد اللّه انه راى عمر بن الخطاب لحما(1/5975)
معلقا فى يدىّ فقال ما هذا يا جابر قلت اشتهيت لحما فاشتريته فقال عمر فكلما اشتهيت يا جابر اشتريت اما تخاف هذه الآية أذهبتم طيّباتكم فى حياتكم الدّنيا - وقد روى القصة من حديث ابن عمر - وفى رواية من حديث جابر اما يجد أحدكم ان يطوى بطنه لجاره وابن عمه - وروى رزين عن زيد بن اسلم قال استسقى يوما عمر فجئ بماء قد شيب بعسل فقال انه طيب لكنى اسمع اللّه عزّ وجلّ نفى على قومه شهواتهم فقال أذهبتم طيّباتكم فى حياتكم الدّنيا واستمتعتم بها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 411
فاخاف ان تكون حسناتنا عجلت « 1 » لنا فلم يشربه - .
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعنى هود عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عادا إذ مع ما أضيف إليه بدل اشتمال من أخا عاد أى اذكر وقت إنذاره بِالْأَحْقافِ أى فى الأحقاف قال ابن عباس الأحقاف بين عمان ومهرة وقال مقاتل منازل عاد كان باليمن فى حضرموت بموضع يقال لها مهرة تنسب إليها الإبل المهرية وكانوا أهل عهد سيارة فى الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة ارم قال قتادة ذكر لنا ان عادا كانوا حيّا باليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال له يشجر
_________
((1/5976)
1) عن سالم بن عبد اللّه بن عمران عمر كان يقول ما نعنى بالذات العيش ان نأمر بصفار المغرى فتسمط ونأمر بلباب الحنطة فيخبز لنا ونأمر بالذبيب فينبذ لنا فى الاسفان حتى إذا صار مثل عين اليعقوب أكلنا هذا وشربنا هذا ولكنا نريد ان تستبقى طيباتنا لانا سمعنا اللّه يقول أذهبتم طيّباتكم فى حياتكم الدّنيا - وعن قتادة قال ذكر لنا ان عمر بن الخطاب كان يقول لو شئت كنت أطيبكم طعاما والينكم لباسا ولكنى استبقى طيباتى وذكر لنا ان عمر بن الخطاب لما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله قال هذا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير قال خالد بن الوليد الجنة فاغرورقت عينا عمر فقال لان كان حظنا من هذا الخطام وذهبوا بالجنة لقد بانوا بونا بعيدا - وعن حميد بن هلال قال كان حفص يكثر عشيان امير المؤمنين عمر رضى اللّه عنه وكان إذا قرب طعاما نفاه فقال له عمر مالك ولطعامنا فقال يا امير المؤمنين ان أهلي يصنعون لى طعاما هو ألين من طعامك فاختر طعامهم على طعامك فقال ثكلتك أمك اما ترانى لو شئت أمرت بشاة فتية سمينة فالقى عنها شعرها ثم أمرت بدقيق فتخل فى خرقة فجعل خبزا مرققا وأمرت بصاع من ذبيب فجعل فى سعن حتى يكون كدم الغزال فقال حفص انى أراك تعرف ليّن الطعام فقال عمر ثكلتك أمك والذي نفسى بيده لو لا كراهية ان ينقص من حسناتى يوم القيامة لاشركتم فى لين الطعام - وعن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر مع أبى موسى فكان له كل يوم خبز ملث فربما وافقناها مادوقه بلبن وربما وافقناها القدائد اليابسة قد دقت ثم أعلى تهاور بما وافقناها باللحم الغريض وهو قليل قال وقال لنا عمر انى واللّه لقد ارى تقديركم وكراهيتكم طعامى انا واللّه لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وادقكم عيشا اما واللّه ما أجهل عن كراكر واسمنة وعن هلى وهياب سلابى ولكن وجدت اللّه عيّر قوما بامر حفاة فقال أذهبتم طيّباتكم فى(1/5977)
حياتكم الدّنيا واستمعتم بها - 12 منه برد الله مضجعه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 412
و الأحقاف جمع حقف وهو المستطيل المعوج من الرمال قال ابن زيد هى ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ ان يكون جبلا وقال الكسائي هى ما استدار من الرمال وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أى مضت الرسل جملة معترضة أو حال من فاعل انذر يعنى والحال انه انذر مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أى قبل هود نوح وغيره وَمِنْ خَلْفِهِ أى بعده صالح وابراهيم ولوط وغيرهم مثل إنذار هود أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ان مفسرة لانذر أو مصدرية بتقدير الباء فان النهى عن الشيء إنذار عن مضرته إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ ان عبدتم غير اللّه عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) أى عظيم بلاؤه.
قالُوا أَجِئْتَنا استفهام تقرير لِتَأْفِكَنا أى لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا أى عن عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) فى وعيدك شرط مستغن عن الجزاء بما مضى.
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ لوقت عذابكم عِنْدَ اللَّهِ أى يأتيكم فى وقت مقدر له من المستقبل ولا يستلزم عدم وقوع العذاب الان كونى كاذبا ولا مدخل لى فيه فاستعجلوا وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم من التوحيد والاحكام والأحبار بنزول العذاب ان لم تؤمنوا وَلكِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو « و أبو جعفر - أبو محمد » والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) لا تعلمون ان اللّه هو العليم القدير والرسل انما بعثوا منذرين مبلغين لا معذبين ولا مقترحين ..(1/5978)
فَلَمَّا رَأَوْهُ الضمير عائد إلى ما تعدنا وهو العذاب أو مبهم تفسيره عارِضاً أى على هيئة سحاب يعرض أى يبدو فى عرض السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ وقد كانوا قد حبس عنهم المطر قبل ذلك سنتين (و قد مرّ قصتهم فى سورة الأعراف وغيرها) استبشروا بها وقالُوا هذا الذي نراه عارِضٌ سحاب عرض مُمْطِرُنا أى يأتينا بالمطر قال اللّه تعالى أو قال هود ليس هذا سحابا ممطرا كما زعمتم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 413
خبر مبتدا محذوف أى هى أو بدل من الموصول فِيها عَذابٌ صفة لريح أَلِيمٌ (24) صفة عذاب.(1/5979)
تُدَمِّرُ أى تهلك كُلَّ شَيْ ءٍ مرت به من أنفسهم وأموالهم بِأَمْرِ رَبِّها أى رب الريح فجاءت الريح الشديد تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كانها جرادة وأول ما عرفوا انها عذاب إذا راوا ما كان خارجا من ديارهم من رجال عاد وأموالهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فغلقت أبوابهم وصرعتهم وامر اللّه الريح فامالت عليهم الرمال وكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية ايام ثم امر اللّه الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم فى البحر فَأَصْبَحُوا لا يُرى عطف على قال اللّه أو قال هود المحذوف قرأ عاصم وحمزة ويعقوب « و خلف - أبو محمد » بضم الياء للغيبة على البناء للمفعول إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالضم عندهم على انه مفعول ما لم يسم فاعله والباقون بالتاء للخطاب يعنى لا ترى يا محمد أو يا مخاطب مطلقا ومساكنهم عندهم بالنصب على المفعولية كَذلِكَ أى جزاء مثل جزائهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) روى ان هودا عليه السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين فى الخطير - عن عائشة قالت ما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى ارى منه لهواته انما كان يتبسم وكان إذا راى غيما أو ريحا عرف ذلك فى وجهه متفق عليه وفى رواية عند البغوي فقلت يا رسول اللّه ان الناس إذا راوا الغيم فرحوا رجاء ان يكون فيها المطر وإذا رايته عرف فى وجهك الكراهية فقال يا عائشة ما يؤمننى ان يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد راى قوم العذاب فقالوا هذا عارض مّمطرنا - وعنها قالت كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا عصت الريح قال اللهم انى أسئلك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل واقبل وأدبر فإذا أمطرت سرى عنه فعرفت ذلك عائشة فسالته فقال لعله يا عائشة كما قال عاد فلمّا راوه(1/5980)
عارضا مّستقبل أوديتهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 414
قالوا هذا عارض مّمطرنا - وفى رواية ويقول إذا را المطر رحمة - متفق عليه وفى رواية عند أبى داود والنسائي وابن ماجة والشافعي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أبصرنا شيئا من السّماء ترك عمله واستقبله وقال انى أعوذ بك من شر ما فيه الحديث - وعن ابن عباس ما هبت الريح قط الا جثا النبي صلى اللّه عليه وسلم على ركبتيه وقال اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا الحديث - رواه الشافعي والبيهقي ..
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ يعنى عادا فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ من القوة والمال ما موصولة أو موصوفة وان نافية وهى احسن هاهنا من ما لئلا يلزم التكرار لفظا أى فى الذي أو فى شىء مكّنّاكم فيه - أو شرطية والجواب محذوف والتقدير ولقد مكّنّاهم فى الّذى أو فى شىء ان مكّنّاكم فيه كان بغيكم اكثر أو زائدة يعنى مكّنّاهم فيما مكّنّاكم فيه والاول اظهر لقوله تعالى احسن أثاثا وكانوا اكثر منهم وأشدّ قوّة واثارا وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً بمعنى اسماعا وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً قلوبا ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على ما نحها ويواظبوا على شكرها فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ من زائدة يعنى لم ينفعهم شىء منها شيئا من النفع إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ظرف جرى مجرى التعليل من حيث ان الحكم مرتب على ما أضيف إليه فهو علة لما اغنى وَحاقَ أى نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) من العذاب.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود وارض سدوم قرى قوم لوط والمراد أهلها وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أى كررنا الحجج والبينات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) أى لكى يرجعوا يعنى أهل مكة عن كفرهم تعليل للصرف وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.(1/5981)
فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ فهلا منعهم من عذاب اللّه الَّذِينَ اتَّخَذُوا أى الذين اتخذوهم مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أى الهة يتقربون بها إلى اللّه حيث قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 415
أول مفعولى اتّخذوا الراجع إلى الموصول محذوف وثانيهما قربانا والهة بدل أو عطف بيان أو الهة مفعول ثان وقربانا حال أو مفعول له على انه بمعنى التقرب أو مفعول مطلق أى اتخاذ تقرب إلى اللّه بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أى غابوا عن نصرهم عند نزول العذاب وامتنع ان يستمدوا بهم امتناع الاستمداد بالضال وَذلِكَ أى اتخاذ الذين هذا شانهم إِفْكُهُمْ كذبهم وصرفهم عن الحق وقيل ذلك اشارة إلى انتفاء نصرهم وهو مبتدا وإفكهم بحذف المضاف خبره والمعنى وذلك أى انتفاء نصرهم اثر إفكهم أى افترائهم والجملة معترضة لبيان سبب المشار إليه وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) أى افتراؤهم انها الهة أخرج ابن أبى شيبة عن ابن مسعود قال ان الجن هبطوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا انصتوا قالوا صه وكانوا تسعة أحدهم رذبعة فانزل اللّه.(1/5982)
وَ إِذْ صَرَفْنا أى أهلنا إِلَيْكَ هذه الجملة إلى آخرها معترضة لتسلّية النبي صلى اللّه عليه وسلم نَفَراً وهى جماعة دون العشرة وجمعه انفار مِنَ الْجِنِّ قال ابن عباس كانوا سبعة من جن نصيبين فيجعلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسلا إلى قومهم وقال الآخرون كانوا تسعة قال البغوي روى عاصم عن زر بن حبيش ان رذبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال من نفر فَلَمَّا حَضَرُوهُ أى القرآن أو الرسول قالُوا أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض اسكتوا نسمعه فَلَمَّا قُضِيَ أى أتم وفرغ من قراءته وَلَّوْا انصرفوا إِلى قَوْمِهِمْ من الجن مُنْذِرِينَ (29) مخوّفين داعين بامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ذكرنا القصة بوجوهها فى سورة الجن لما سبق منى تفسيرها.
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى قال عطاء كان دينهم اليهودية قلت لعل معنى قولهم انزل من بعد موسى ناسخا للتورية بخلاف الإنجيل والزبور فانهما لم يكونا ناسخين لكثير من احكام التورية حيث قال اللّه تعالى فى عيسى عليه السلام ويعلّمه الكتاب والحكمة والتّورية والإنجيل وقال حكاية عنه ولاحلّ لكم بعض الّذى حرّم عليكم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية والإنجيل وغيرهما
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 416
من الكتب السماوية حال من فاعل انزل أو صفة ثانية لكتابا وكذا قوله يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) من الشرائع.(1/5983)
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلى اللّه عليه وسلم إلى الإسلام وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ما كان حقا للّه بخلاف المظالم فانها لا يغفر بالايمان وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن فرجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوافقوه فى البطحاء فقرأ عليهم القرآن فامرهم ونهاهم وفيه دليل على انه صلى اللّه عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن والانس جميعا وقد ذكرنا اختلاف العلماء فى حكم مؤمن الجن فى سورة الجن.
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أى لا يعجز اللّه فيفوته إذا أراد اللّه تعذيبه وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ يمنعونه من عذاب اللّه هذه الجملة حال من فاعل ليس بمعجز والجملة الشرطية اعنى من لا يجب داعى اللّه إلخ معترضة أُولئِكَ أى الذين لم يجيبوا داعى اللّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) فان الهداية منحصرة فى اتباع الرسول.
أَ وَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره أ ينكرون هؤلاء الكفار عن البعث بعد الموت ولم يروا أى لم يعتقدوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ أى لم يتعب ولم يعجز بِخَلْقِهِنَّ فان قدرته ذاتية لا ينقص ولا ينقطع بالإيجاد ابد الآبدين بِقادِرٍ الباء زائدة واسم الفاعل فى محل النصب على انه مفعول ثان ووجه دخول الباء على خبر انّ المفتوحة انّ انّ مع جملتها قائم مقام مفعولى يروا والنفي فى افعال القلوب يتوجه إلى المفعول الثاني. هذا قراءة الجمهور وفى قراءة ابن مسعود قادرا بغير الباء وقرأ يعقوب يقدر بصيغة الفعل المضارع عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُع ْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ(1/5984)
منصوب بقول مضمر تقديره يقال لهم أَلَيْسَ هذا اشارة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 417
الى العذاب بالنار الذي ينكرونها فى الدنيا بِالْحَقِّ قالُوا أى الكفار فى الجواب بَلى وَرَبِّنا يقسمون باللّه ويعترفون به حين لا ينفعهم الإقرار قالَ أى يقول اللّه تعالى حينئذ فَذُوقُوا الْعَذابَ الفاء للسببية فان كونها حقّا مع انكارهم إياها فى الدنيا سبب للذوق بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) - أى بسبب كفركم فى الدنيا ومعنى الأمر هو الاهانة والتوبيخ وجملة ويوم يعرض إلخ متصلة بقوله ويوم يعرض الّذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم وما بينهما معترضات ..
فَاصْبِرْ يا محمد على أذى الكفار الفاء للسببية يعنى إذا علمت انهم يذوقون عذاب النار فاصبر ولا تهتم للانتقام كَما صَبَرَ أى صبرا مثل صبر أُولُوا الْعَزْمِ أى اولى الصبر والثبات والجد مِنَ الرُّسُلِ قبلك فانك من جملتهم واختلفوا فيهم قال ابن زيد كل رسول كان صاحب عزم فان اللّه لم يبعث نبيّا الا كان ذا عزم وحزم ورأى وكمال عقل ومن للتبيين - وقال بعضهم الأنبياء كلهم أولوا عزم الا يونس بن متى لعجلة كانت منه الا ترى انه قيل للنبى صلى اللّه عليه وسلم ولا تكن كصاحب الحوت وقيل الا يونس والا آدم لقوله تعالى ولم نجد له عزما وقال قوم هم نجباء الرسل المذكورون فى سورة الانعام وهم ثمانية عشر ابراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع.(1/5985)
و يونس ولوطا قال اللّه تعالى بعد ذكرهم أولئك الّذين هدى اللّه فبهديهم اقتده وقال الكلبي هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع اعداء اللّه وقيل هم ستة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق فى سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل هم ستة نوح صبر على أذى قومه وابراهيم صبر على النار وإسحاق صبر على الذبح ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ويوسف صبر فى البئر والسجن وأيوب صبر على الضرّ وقال ابن عباس
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 418
و قتادة هم نوح وابراهيم وموسى وعيسى اصحاب الشرائع مع محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين خمسة قال الشيخ محى السنة البغوي ذكرهم اللّه على التخصيص فى قوله وإذ أخذنا من النّبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وفى قوله تعالى شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا والّذى أوحينا إليك وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى وقال الشيخ احمد المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه هم ستة آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى وسيد الرسل محمد صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين وسلم اما الخمسة فلما ذكر من تخصيصهم للميثاق وكونهم اصحاب الشرائع ومن جاء خلفهم ايّد شرائعهم واما آدم فلا جرم يكون هو صاحب شريعة جديدة لكونه مقدما على غيره.(1/5986)
روى البغوي عن مسروق قال قالت لى عائشة قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عائشة ان الدنيا لا ينبغى لمحمد ولا لال محمد يا عائشة ان اللّه لم يرض من اولى العزم الا الصبر على مكروهها والصبر على محبوبها ولم يرض الا ان كلفنى ما كلفهم وقال فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرّسل وانى واللّه ما بدلى من طاعته وانى واللّه لاصبرنّ كما صبروا واجهدنّ كما جهدوا ولا قوة الا باللّه ( « 1 » ) عن ابن مسعود قال كانى انظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحكى نبيّا من الأنبياء ضربه قومه فادموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومى فانهم لا يعلمون - متفق عليه وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أى لا تدع على كفار قريش بنزول العذاب عليهم فانه نازل بهم فى وقته لا محالة - كأنَّه ضجر وضاق قلبه بكثرة مخالفات قومه فاحب ان ينزل العذاب بمن أبى منهم فامر بالصبر وترك الاستعجال ثم اخبر عن قرب العذاب فقال كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب فى الاخرة لَمْ يَلْبَثُوا فى الدنيا زمانا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ استقصروا من هوله مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة ولان ما مضى وان كان طويلا فهو إذا انقضى صار كان لم يكن وجملة كانّهم واقع موقع التعليل لعدم الاستعجال
_________
(1) هنا بياض فى الأصل 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 419(1/5987)
فى تعذيب الكفار ثم قال بَلاغٌ أى هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة أو هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من اللّه إليكم أى كفاية أو تبليغ الرسول وتنكير البلاغ للتعظيم والتفخيم وقيل بلاغ مبتدا خبره لهم وما بينهما اعتراض أى لهم وقت يبلغون إليه كانهم إذا بلغوه رأسا وراوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم فَهَلْ يُهْلَكُ الاستفهام للانكار أى لا يهلك بالعذاب أحد إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة قال الزجاج تأويله لا يهلك مع رحمة اللّه وفضله الّا القوم الفاسقون - ولهذا قال قوم ما فى الرجاء لرحمة اللّه اية أقوى من هذه الآية - الحمد للّه رب العلمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين تمت تفسير سورة الأحقاف من التفسير المظهرى الثالث عشر من الجمادى الأول من السنة الثامنة بعد الف سنة 1208 ه - ومائتين ويتلوه تفسير سورة محمد صلى اللّه عليه وسلم ان شاء اللّه تعالى - .
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 420
سورة خاتم النّبيين محمّد صلى اللّه عليه وسلم
و هى سورة القتال وهى ثمان وثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى منعوا الناس عن الدخول فى الإسلام إذ امتنعوا عن الدخول فيه وسلوك طريقه أَضَلَّ اللّه أَعْمالَهُمْ (1) أى جعلها ضائعة محبطة حيث لم يقصدوا بها وجه اللّه ولم يجعل لها ثوابا وانما يجزون بها فى الدنيا فضلا من اللّه وأراد بالأعمال ما كان منها حسنا فى الظاهر كاطعام الطعام وصلة الأرحام وفك الأسارى وحفظ الجوار وقال الضحاك أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وجعل الدبرة عليهم.(1/5988)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه وسلم تخصيص للمنزل عليه مما يجب الايمان به تعظيما له واشعارا بان الايمان لا يتم بدونه وانه الاضل منه وشامل لجميع الايمانيات ولذلك أكده بقوله وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ اعتراضا على طريقة الحصر وجاز ان يكون حالا قيل حقيقته كونه ناسخا لا ينسخ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أى غفرها وسترها بالايمان وأعمالهم الصالحة وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) أى حالهم فى الدنيا بالنصر على الأعداء وتوفيق الطاعة والحفظ عن المعاصي وتسلط الشيطان وفى الاخرة بالخلود فى النعيم ورضوان اللّه تعالى وقال ابن عباس يعنى عصمهم ايام حياتهم أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس انه قال الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه هم مشركوا مكة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 421
و الّذين أمنوا وعملوا الصّالحات هم الأنصار قلت واللفظ عام.
ذلِكَ اشارة إلى ما مرّ من الإضلال والتكفير والإصلاح مبتدا خبره بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ أى الشيطان وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أى القرآن كَذلِكَ أى ضربا مثل ذلك الضرب يَضْرِبُ اللَّهُ أى يبين لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) الضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى انه يضرب لاجل الناس حتى يعتبروا أمثال الفريقين جعل اللّه تعالى اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا للمؤمنين تكفيرا لسيئات مثلا لفوزهم ..(1/5989)
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول للتأكيد والاختصار عبر به عن القتل اشعارا بانه ينبغى ان يضرب الرقبة ما أمكن فانه مفض إلى القتل غالبا دون غيره من الجراحات حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أى أكثرتم قتلهم واغلظتموهم من الثخين بمعنى الغليظ فَشُدُّوا الْوَثاقَ أى فامسكوا عنهم واسروهم وشدوا وثاقهم واحفظوهم كيلا يفروا والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أى فاما تمنون عليهم بالإطلاق بعد الاسر وشد الوثاق منّا أو يفدون فداء - قال البغوي اختلف العلماء فى حكم هذه الآية فقال قوم هى منسوخة بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تعالى فامّا تثقفنّهم فى الحرب فشرّد بهم من خلفهم والى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدىّ وابن جريج وهو قول الأوزاعي وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه فى رواية - قلت قوله تعالى فشرّد بهم من خلفهم لا يصلح ناسخا لهذه الآية وقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مخصوص بالبعض حيث جاز استرقاق الأسارى بالإجماع واستبقاؤهم ذمة لنا عند أبى حنيفة ومالك فبقى ظنى الدلالة فى الباقي فلا يصلح ناسخا لهذه الآية لكونها قطعية - وذهب الآخرون إلى انها محكمة والامام بالخيار فى الرجال العاقلين من الكفار إذا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 422(1/5990)
وقعوا فى الاسر بين ان يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين واليه ذهب ابن عمرو به قال الحسن وعطاء واكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي واحمد وإسحاق وقال ابن عباس لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم انزل اللّه عزّ وجلّ فى الأسارى فامّا منّا بعد وامّا فداء وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والخلفاء بعده قلت فهذه الآية ناسخة لقوله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فانها نزلت فى غزوة بدر سنة اثنين وقد منّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الأسرى بعد ذلك فى الحديبية سنة ست وغير ذلك - عن انس ان ثمانين رجالا من أهل مكة هبطوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غزوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فاخذهم سلما فاستحياهم وفى رواية فاعتقهم فانزل اللّه تعالى وهو الّذى كفّ أيديهم عنكم وايديكم عنهم ببطن مكّة من بعد ان أظفركم عليهم - رواه مسلم وقد ذكرنا مسائل احكام الأسارى واختلاف العلماء وما ورد فى الباب من الأحاديث فى سورة الأنفال فى تفسير قوله تعالى ما كان لنبىّ ان يكون له اسرى حتّى يثخن فى الأرض - حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أى أهل الحرب أى المحاربين أَوْزارَها يعنى اثقالها وهى الاسلحة يعنى ينقطع الحرب ولم يبق الا مسلم أو مسالم وقيل الأوزار الآثام والمعنى يضع أهل الحرب من المشركين اثامها بان يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا باللّه ورسوله وقيل حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بان يسلموا والمعنى اثخنوا المشركين بالقتل والاسر حتى يدخل أهل الملل كلها فى الإسلام جعل اللّه سبحانه انقطاع الحرب غاية للضرب او(1/5991)
الشد أو المن أو الفداء أو للمجموع يعنى هذه الاحكام جارية حتى لا يكون حرب مع المشركين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 423
بزوال شوكتهم وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناولهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال - رواه أبو داود وروى البغوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بلفظ الجهاد ماض منذ بعثني اللّه إلى ان يقاتل اخر أمتي الدجال ذلِكَ خبر مبتدا محذوف أى الأمر فيهم ذلك أو مبتدا خبره محذوف أى ذلك ثابت أو مفعول لفعل محذوف أى افعلوا بهم ذلك فهو تأكيد لما سبق وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أى لانتقم من الكفار بان يهلكهم من غير تعب منكم فى الجهاد وَلكِنْ أمركم بالقتال لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أى ليبلو المؤمنين بالكافرين بان يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب والكافرين بالمؤمنين بان يعاجلهم بالعقوبة بايديهم كى يرتدع بعضهم من الكفر ويستوجب بعضهم النار والجملة بيان لحكمة شرعية(1/5992)
القتال مع القدرة على استيصالهم بلا تجشم قتال من المؤمنين وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قرأ أهل البصرة وحفص قتلوا بضم القاف وكسر التاء على البناء للمفعول من المجرد وهم الشهداء والباقون قاتلوا بالألف من المقاتلة وهم المجاهدون فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) خبر للمبتدا الموصول المتضمن لمعنى الشرط أى لا يبطل أعمالهم بارتكاب المعاصي بل يكفر سيئاتهم ويثيب على حسناتهم أخرج البزار والبيهقي والاصفهانى فى الترغيب عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الشهداء ثلاثة رجل خرج بنفسه وماله محتسبا فى سبيل اللّه يريد ان يقاتل ويقتل بكثّر سواد المسلمين فان مات أو قتل غفرت له ذنوبه كلها وأجير من عذاب القبر ويؤمن من الفزع الأكبر ويزوج من الحور العين ويحل حلة الكرامة ويوضع على رأسه تاج الوقار والثاني رجل خرج بنفسه وماله محتسبا يريدان يقتل ولا يقتل فان مات أو قتل كانت ركبتيه مع ابراهيم خليل الرحمان بين يدى اللّه فى مقعد صدق عند مليك مقتدر والثالث رجل خرج بنفسه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 424
و ماله محتسبا يريد ان يقتل ويقتل فان مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهرا سيفه واضعه على عاتقه والناس جاثون على الركب يقولون الا افسحوا لنا فانا بذلنا دماءنا وأموالنا للّه حتى يأتوا منابر من نور تحت العرش فيجلسون عليها ينظرون كيف يقضى بين الناس لا يجدون غم الموت ولا يفتنون فى البرزخ ولا يفزعهم الصيحة ولا يهمهم الحساب ولا الميزان ولا الصراط ولا هم يسئلون شيئا الا اعطوا ولا يشفعون فى شىء الا شفعوا ويعطون من الجنة ما احبّوا ويتبؤون من الجنة حيث احبّوا واللّه اعلم.(1/5993)
اخرج ابن أبى حاتم عن قتادة قال ذكر لنا انه نزلت هذه الآية الّذين قتلوا فى سبيل اللّه يوم أحد وقد نشب فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون بوعيد اعل هبل فنادى المسلمون اللّه أعلى وأجل فقال المشركون ان لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولوا اللّه مولانا ولا مولى لكم.
سَيَهْدِيهِمْ فى الدنيا إلى الرشك وفى الاخرة إلى الدرجات العلى وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) أى حالهم فى الدارين اما فى الدنيا فلمن لم يقتل ادرجوا فى القتلى تغليبا أو لانهم لما خرجوا للقتال ورضوا بان يّقتلوا اعطوا ثوابهم فى الدارين واما فى الاخرى فلمن قتل ولمن لم يقتل بان يكفر سيئاتهم ويقبل حسناتهم ويرضى خصمائهم - أخرج أبو نعيم فى الحلية عن سهل بن سعد والبزار والبيهقي فى شعب الايمان عن ابن عمر قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة يقضى اللّه تعالى عنهم يعنى ديونهم يوم القيامة رجل خاف العدو على بيضة المسلمين وليس عنده قوة فادّ ان دينا فابتاع به سلاحا وتقوّى به فى سبيل اللّه فمات قبل ان يقضيه هذا يقضى اللّه عنه ورجل مات عنده اخوه المسلم فلم يجد ما يكفنه منه فاستقرض فاشترى به كفنا فمات وهو لا يقدر على قضائه فهذا يقضى اللّه عنه يوم القيامة ورجل خاف على نفسه العنت فتعفف بنكاح امراة فمات ولم يقض فان اللّه يقضى عنه يوم القيامة واخرج الطبراني فى الأوسط بسند حسن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 425
إذا التق ى الخلائق يوم القيامة فادخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار نادى منادى يا أهل الجمع تتاركوا المظالم بينكم وثوابكم على اللّه تعالى.(1/5994)
وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) أى يبين لهم منازلهم فى الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم من غير استدلال كانهم سكانها منذ خلقوا فيكون المؤمن اهدى إلى منزله ودرجته وزوجته وخدمه منهم إلى منزله واهله فى الدنيا هذا قول اكثر المفسرين عن أبى هريرة قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول والذي بعثني بالحق ما أنتم فى الدنيا باعرف بازواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم - رواه فى حديث طويل ابن جرير فى تفسيره والطبراني وأبو يعلى والبيهقي فى البعث وغيرهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أى تنصروا دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) فى القيامة بحقوق الإسلام والمجاهدة مع الكفار - .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ مصدر لفعل واجب إضماره سمعا أى فتعسوا تعسا والجملة خبر للموصول أو مفسر لناصبه قال ابن عباس معناه بعدا لهم وقال أبو العالية سقوطا لهم وقال الضحاك خيبة لهم وقال ابن زيد شتّا لهم قال الفراء نصب على المصدر على سبيل الدعاء وقيل معناه فى الدنيا العثرة وفى الاخرة التردي فى النار ويقال للعاثر إذا لم يريدوا قيامه تعسا وضده لعا وفى القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) لانها كانت فى طاعة الشيطان عطف على ناصب تعسا.
ذلِكَ التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ أى بسبب انهم كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعنى القرآن لما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لما الفوه واشتهته أنفسهم فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) كرره اشعارا بان ذلك من لوازم الكفر.(1/5995)
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا يعنى أهل مكة فِي الْأَرْضِ الاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ا لم يخرجوا فلم يسيروا فى الأرض فَيَنْظُرُوا جواب للنفى أو معطوف عليه أى فلم ينظروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 426
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
من الأمم المكذبة للرسل دَمَّرَ اللَّهُ أى استأصل عَلَيْهِمْ على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم جملة مستأنفة وَلِلْكافِرِينَ يعنى أهل مكة وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على كفرهم أَمْثالُها (10) أى أمثال تلك العاقبة أو العقوبة أو الهلكة لان التدمير يدل عليها.
ذلِكَ النصر للمؤمنين والقهر على الكافرين بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أى وليهم وناصرهم فيؤيدهم ويوفقهم ويسدد أمرهم ويدفع عنهم خطرات الشيطان حيث قال اللّه تعالى انّ عبادى ليس لك عليهم سلطان وَأَنَّ الْكافِرِينَ الذين قدر عليهم الكفر وسلطان الشيطان لا مَوْلى لَهُمْ (11).
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ بمتاع الدنيا أياما قلائل وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ صفة لمصدر محذوف وما مصدرية أى أكلا كأكل الْأَنْعامُ حريصين غافلين عن المنعم تاركين شكره غير خائفين عن العاقبة وَالنَّارُ مَثْوىً أى منزل ومقام لَهُمْ (12) الجملة حال من فاعل تأكلون.(1/5996)
وَ كَأَيِّنْ أى كثير مبتدا مِنْ قَرْيَةٍ أى أهل قرية حذف المضاف واجرى على المضاف إليه احكام المضاف فقال هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً صفة لقرية روعى لفظ القرية وانث الضمير مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أى اخرجك أهلها أسند الإخراج إليهم باعتبار التسبيب فان النبي صلى اللّه عليه وسلم انما خرج من مكة لاجل إيذاء أهلها أخرج أبو يعلى وذكره البغوي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه قال لمّا خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب بلاد اللّه إلى اللّه وأحب بلاد اللّه الىّ ولو ان المشركين لم يخرجونى لم أخرج منك فانزل اللّه تعالى هذه الآية أَهْلَكْناهُمْ خير مبتدا روعى فى الضمير فان المراد من القرية أهلها فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) حكاية حال ماضية أى فلم يكن لهم حينئذ ناصر.
أَ فَمَنْ كانَ الاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ا يستوى المؤمن الذي اللّه مولاه والكافر الذي لا مولى له أصلا فمن كان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 427
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أى على يقين مستند إلى حجة من عند ربه أى إلى القرآن أو ما يعمه والحجج العقلية كالنبى صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ أى زين لهم الشيطان سُوءُ عَمَلِهِ من الشرك والمعاصي وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) فعبدوا الأوثان بلا شبهة لهم فضلا عن حجة ..(1/5997)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الضمير الراجع إلى الموصول محذوف أى وعد بها المتّقون - مثل الجنّة أى صفتها العجيبة مبتدا محذوف الخبر تقديره يتلى عليكم فيما بعد وقيل خبره كمن هو خالد فى النّار وتقدير الكلام أمثل أهل الجنّة كمثل من هو خالد فى النّار أو أمثل الجنّة كمثل جزاء من هو خالد فى النّار فعرى عن حرف الإنكار وحذف ما حذف استغناء بجرى مثله تصوير المكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة والتابع للهوى بمكابرة من يسوى بين الجنة والنار وقيل خبره فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ صفة لانهار غَيْرِ آسِنٍ الجملة ان لم يكن خبر المثل فهو اما استئناف لشرح المثل أو حال من العائد المحذوف أى مثل الجنّة الّتى وعد بها المتّقون كائنة فيها انهار من ماء غير أسن قرأ ابن كثير بالقصر والباقون بالمد وهما لغتان أى غير متغير طعمه ولا ريحه كما يتغير مياه الدنيا بطول المكث وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ كما يتغير البان الدنيا إلى الحموضة وغيرها وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ أى لذيذة تأنيث لذّ أو مصدر نعت به بإضمار أى ذات لذة أو تجوزا للمبالغة لِلشَّارِبِينَ لا يكون فيها كراهة ريح ولا غائلة سكر وخمار بخلاف خمر الدنيا فانها كريهة عند الشرب وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل وغيرها.
عن معاوية بن حيدة قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول ان فى الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم يشق الأنهار منها - رواه الترمذي وصححه والبيهقي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انهار الجنة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 428(1/5998)
يفجر من جبل مسك - رواه ابن حبان والحاكم والبيهقي والطبراني وابن أبى حاتم وعن مسروق قال انهار الجنة تجرى من غير أخدود - رواه ابن المبارك والبيهقي وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلكم تظنون ان انهار الجنة أخدود فى الأرض لا واللّه انها سابحة على وجه الأرض حافتاه خيام اللؤلؤ وطينها المسك الأزفر - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه سبحان وجيحان والفرات والنيل كلها من انهار الجنة - رواه مسلم وعن عمرو بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربعة انهار الجنة النيل والفرات وسيحان وجيحان واربعة جبال من جبال الجنة أحد والطور ولبنان ودرقان ( « 1 » ) وعن كعب الأحبار قال نهر النيل هو نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر فى الجنة ونهر سيحان نهر الماء فى الجنة - رواه البيهقي وذكر البغوي قول كعب نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ونهر الفرات نهر لبنهم ونهر مصر نهر خمرهم ونهر سيحان نهر عسلهم وهذه الأنهار الاربعة تخرج من نهر الكوثر - وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ صنف عطف على فيها انهار عن ابن عباس قال ما فى الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة الا وهى فى الجنة حتى الحنظل - رواه ابن أبى حاتم وابن المنذر فى تفسيرهما وعن ابن عباس قال ليس فى الدنيا مما فى الجنة الا الأسماء رواه ابن جرير وابن أبى حاتم ومسدد فى مسنده وهناد فى الزهد والبيهقي وعن ثوبان انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها الا أعيد فى مكانها مثلها وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ فهو راض عنهم ابدا مع إحسانه إليهم بما ذكر بخلاف السيد للعبد فى الدنيا فانه قد يسخط عليه عطف على الصنف المحذوف أو مبتدا خبره محذوف أى لهم مغفرة من ربهم كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ هذا على تقدير كون مثل الجنة مبتدا محذوف الخبر أو كون(1/5999)
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 429
خبره فيها انهار خبر لمبتدا محذوف تقديره أمن هو خالد فى تلك الجنة كمن هو خالد فى النّار أو بدل من قوله كمن زيّن له وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من زيّن سوء عمله ممن هو على بيّنة من ربّه فى الاخرة تقريرا لانكار المساواة وَسُقُوا ماءً حَمِيماً عطف على هو خالد نظرا إلى لفظة من وجمع سقوا نظرا إلى معناه فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) لشدة الحر فخرجت من ادبارهم أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فيستمع المؤمنون منه ما يقول ويعونه ويستمع المنافقون ولا يعونه فإذا خرجوا سالوا المؤمنين ما ذا قال آنفا فنزلت.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ عطف على والّذين كفروا يتمتّعون وما بينهما معترضات وهم المنافقون يستمعون قول النبي صلى اللّه عليه وسلم فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونا به وتغافلا أو لما لا يعتقدونه حقّا حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا افراد ضمير يستمع نظرا إلى لفظة من وجمع ضمير خرجوا وقالوا نظرا إلى المعنى لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا أى ما الذي قالَ محمد آنِفاً الساعة من قولهم انف الشيء لما تقدم منه مستعار جارحة الانف ومنه استأنف وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا أو حال من الضمير فى قال قرأ ابن كثير وهو غير ماخوذ - أبو محمد فى رواية بالقصر والباقون بالمد ومعناهما واحد قالوا ذلك استعلاما أو استهزاء أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلذلك تهاونوا بكلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) ولذلك استهزءوا به.(1/6000)
وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بكلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهم المؤمنون زادَهُمْ الله بكل كلام من الرسول صلى اللّه عليه وسلم هُدىً علما وبصيرة ومشرح صدر وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) أى وفقهم للعمل بما أمروا به أو بين لهم ما يتقون به من النار قال سعيد بن جبير أتاهم ثواب تقواهم - .
فَهَلْ يَنْظُرُونَ أى ما ينتظرون يعنى كفار مكة إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 430
بَغْتَةً(1/6001)
بدل اشتمال من الساعة والاستفهام للانكار والمعنى ان الساعة اتية بغتة لا محالة فهم لا ينتظرون الا الساعة والجملة الاستفهامية جزاء شرط محذوف تقديره ان لم يتوبوا ولم يتسارعوا فى الطاعة فلا ينتظرون للتوبة والطاعة الا وقت إتيان الساعة وحينئذ لا ينفعهم التوبة ولا يستطيعون الطاعة عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما ينتظر أحدكم الا غنى مطغيّا أو فقرا منسيّا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهّزا أو الدجال والدجال شر غائب منتظر أو الساعة والسّاعة إذ هى وامرّ ( « 1 » ) فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها تعليل على إتيان الساعة أى اماراتها وعلاماتها منها شق القمر قال اللّه تعالى اقتربت السّاعة وانشقّ القمر ومنها الدخان ومنها مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم روى مسلم وابن ماجة عن سهل بن سعد قال رايت النبي صلى اللّه عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلى الإبهام بعثت انا والساعة كهاتين - وروى احمد وابن ماجة والترمذي وصححة عن انس نحوه وعن انس قال لاحدثنّكم بحديث سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيرى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اشراط الساعة ان يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر الزنى ويكثر شرب الخمر ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امراة قيم واحد - وفى رواية يقل العلم ويظهر الجهل - متفق عليه وعن أبى هريرة قال بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم يحدث إذ جاء أعرابي فقال متى الساعة قال إذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة قال كيف اضاعتها قال إذا وسدّ الأمر إلى غير اهله فانتظر الساعة - رواه البخاري وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اتخذ الفيء دولا والامانة مغنما والزكوة مغرما وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق امه وادنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات فى المساجد وساد القوم فاسقهم وكان(1/6002)
زعيم القوم أرذلهم وأكرم
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 431
الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن اخر هذه الامة أولها فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع - رواه الترمذي وعن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ فعل أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء وعد هذه الخصال ولم يذكر ويعلم العلم لغير الدين وقال وبرّ صديقه وجفا أباه وقال شرب الخمر ولبس الحرير - رواه الترمذي وهذه الجملة كالعلة لاتيانها بغتة فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ (18) الفاء جزائية لشرط محذوف والمعنى ان تأتيهم الساعة بغتة فكيف يكون لهم ذكرهم أى وقت مجيئها كيف يتذكرون إذ حينئذ لا ينفعهم الذكر - .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ أى الشأن لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ « 1 » الفاء للسببية أى إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت أنت يا محمد على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وافعالها النافع يوم القيامة وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ هضما لنفسك وإظهارا للتقصير فى العبادة بالنسبة إلى جلال ربّك وعظمته وليستن به أمتك وقد فعله صلى اللّه عليه وسلم حيث
_________
((1/6003)
1) عن أبى بكر الصديق عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عليكم بلا اله الا اللّه والاستغفار فاكثروا منها فان إبليس قال أهلكت الناس بالذنوب واهلكونى بلا اله الا اللّه والاستغفار فلمّا رايت ذلك أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون انهم مهتدون وعن يحيى بن طلحة بن عبيد اللّه ان عمر راى طلحة حزينا فقال له مالك قال انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول انى لاعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته الا نفس اللّه عنه كريته وأشرق لونه واتى ما يسره وما منعنى ان اسئلهما عنها الا القدرة عليه حتى مات فقال عمر انى لاعلمها قال لا تعلم كلمة هى أعظم من كلمة امر بها؟؟؟ لا اله الا اللّه قال فهى واللّه هى وعن عثمان بن عفان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مات وهو يعلم ان لا اله الا اللّه دخل الجنة منه نور اللّه مرقده - 12 - [.....]
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 432(1/6004)
قال انه ليغان على قلبى وانى لاستغفر اللّه فى اليوم مائة مرة - رواه مسلم واحمد وأبو داود والنسائي من حديث الأغر المزني قلت لعل غين القلب كناية عمّا يرى الصوفي فى نفسه من ظلمات الإمكان بعدها يسند كمالاته إلى جناب الرحمان قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه معرفة اللّه تعالى حرام على من لم ير نفسه شرّا من الكافر الفرنجى قيل عليه كيف يتصور ذلك مع ما يرى نفسه مؤمنا حقا لا اقل منه ويرى الكافر كافرا لا محالة ومعرفة فضل الايمان على الكفر من ضروريات الدين - أجاب عنه بان كل ممكن موجود فهو لا يخلو عن ظلمة الإمكان ونور الوجود المستعار من الرحمان فالعارف باللّه يرى فى نفسه غالبا جانب العدم والإمكان وما فيه من الوجود واتباعه من الكمالات يجده مستعارا من الملك المنان امتثالا لامره انّ اللّه يأمركم ان تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ويرى فى من سواه غالبا جانب الوجود المستفاد من الرحمان فلا جرم يرى نفسه شرّا من كل من سواه وهذه المعرفة لا يزاحم معرفة فضل الايمان على الكفر باختلاف الالحاظ والحيثيات وسعة العلم والإدراكات بخلاف الغافل يرى وجوده وكمالاته مستندا إلى نفسه وينادى انا خير منه ولا حول ولا قوة الا باللّه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أى استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعى لغفرانهم وفى إعادة الجار وحذف المضاف اشعار لفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وانها جنس اخر قال البغوي هذا إكرام من اللّه تعالى لهذه الامة حيث امر نبيهم صلى اللّه عليه وسلم ان يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) قال ابن عباس متقلّبكم مصرفكم ومنتشركم فى أعمالكم فى الدنيا ومثويكم مصيركم فى الاخرة إلى الجنة أو النار وقال مقاتل وابن جرير منصرفكم لاشتغالكم بالنهار ومثويكم ماويكم إلى مضاجعكم بالليل وقال عكرمة متقلّبكم من أصلاب(1/6005)
الآباء إلى أرحام الأمهات ومثويكم مقامكم فى الأرض وقال ابن كيسان متقلّبكم من ظهر إلى بطن ومثويكم مقامكم فى القبور والمع نى انه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شىء منها فاحذروه والخطاب للمؤمنين وغيرهم.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حرصا منهم على الجهاد لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ تأمرنا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 433
بالجهاد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أى امر بالجهاد قيل معنى محكمة مبينة لا يحتمل وجها الا وجوب القتال وقال قتادة كل سورة ذكر فيها الجهاد فهى محكمة لان وجوب القتال نسخ ما كان قبل ذلك من الصلح والمهادنة ولا يرد عليه النسخ وهو ماض إلى يوم القيامة وكل سورة ذكر فيها القتال كانت هى أشد القرآن على المنافقين رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أى ضعف وجبن يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ جبنا ومخافة نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) أى خير لهم.
طاعَةٌ أى طاعة اللّه ورسوله فى الجهاد وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أى قول سمعنا واطعنا فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أى جد الأمر أى جد اصحاب الأمر على القتال فالاسناد إليه مجاز أو المعنى لزم وفرض القتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فيما زعموا من الحرص على الجهاد لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) وجملة لو صدقوا جزاء شرط وقيل جزاء الشرط محذوف وهذه مستأنفة تقديره فإذا عزم الأمر لم يصدقوا اللّه ولو صدقوا اللّه لكان خيرا لّهم.(1/6006)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب أى فهل يتوقع منكم أيها اصحاب الجبن إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أى أعرضتم عن متابعة الرسول شرط مستغن عن الجزاء لوقوعه فى جملة تدل على الجزاء أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي لاجل مخالفة الرسول وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أى تخالفوا اقرباءكم المؤمنين المجاهدين فى سبيل اللّه وان مع جملته فاعل لعسيتم والاستفهام للانكار يعنى لا تكونوا بحيث يتوقع منكم الفساد فى الأرض بالكفر والمعاصي وقطع الأرحام « 1 » .
_________
(1) عن بريدة قال كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فقال يا يرفا انظر ما هذا الصوت فنظر ثم جاء فقال جارية من قريش تباع أمها فقال عمر ادع المهاجرين والأنصار فلم يمكث الا ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد اللّه واثنى عليه فقال اما بعد فهل تعلمون كان فيما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم الفظيعة قالوا لا قال فلما قد أصبحت فيكم فاشبة ثم قرأ فهل عسيتم ان تولّيتم ان تفسدوا فى الأرض وتقطّعوا أرحامكم ثم قال واىّ فظيعة اقطع من ابتياع أم امرئ فيكم وقد أوسع اللّه لكم قالوا فاصنع ما بدا لك - فكتب فى الآفاق ان لا يبتاع أم حرفانها قطيعة رحم وانه لا يحل منه برد اللّه مضجعه - 12 -
.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 434(1/6007)
أُولئِكَ يعنى المفسدين فى الأرض والقاطعين الأرحام مبتدا خبره الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أى ابعدهم عن رحمته فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) عن ملاحظته هذه الجملة فى مقام التعليل للانكار فى قوله فهل عسيتم وقيل المراد بالّذين فى قلوبهم مرض المنافقون والمرض الشك والنفاق وقوله فاولى لهم أى فويل شديد لهم أفعل من الويل أو من الولي بمعنى القرب أو فعلى من ال ومعناه الدعاء عليهم بان يليهم المكروه أو يؤل إليه أمرهم - وطاعة وقول معروف مبتدا محذوف الخبر أى وطاعة وقول معروف خير لهم أو حكاية عن قولهم أى يقولون طاعة أى أمرنا طاعة وقول معروف فلو صدقوا اللّه فيما قالوا ان أمرنا طاعة لكان خيرا لهم لكنهم كذبوا فهل عسيتم ان تولّيتم امر الناس يعنى تأمرتم عليهم ان تفسدوا فى الأرض بالظلم - نزلت فى بنى امية وبنى هاشم يدل عليه قراءة على بن أبى طالب ان تولّيتم بضم التاء والواو على البناء للمفعول أى ان وليتم ولاة جائرة خرجتم معهم فى الفتنة وعاديتموهم أولئك الّذين لعنهم اللّه فاصمّهم وأعمى أبصارهم قال ابن الجوزي انه روى القاضي أبو يعلى فى كتابه المعتمد الأصول بسنده عن صالح بن احمد بن حنبل انه قال قلت لابى يا أبت يرعم بعض الناس انا نحب يزيد بن معاوية فقال احمد يا بنى هل يسوغ لمن يؤمن باللّه ان يحب يزيد ولم لا يلعن رجل لعنه اللّه فى كتابه قلت يا أبت اين لعن اللّه يزيد فى كتابه قال حيث قال فهل عسيتم ان تولّيتم ان تفسدوا فى الأرض وتقطّعوا أرحامكم أولئك الّذين لعنهم اللّه فاصمّهم وأعمى أبصارهم - .
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 435(1/6008)
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أى لا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر فيتضح لهم الحق والاستفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره أ يغفلون فلا يتدبّرون القرآن أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) أقفال القلوب استعارة بالكناية شبّه القلوب بالخزائن واثبت لها ما يناسب الخزائن من الأقفال على وجه التخييل وأضاف الأقفال إلى القلوب للدلة على انها أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة وهذا الكلام كناية عن عدم الاستعداد ونفى قابلية القلوب للاتعاظ بالكلية فلا يفهمون مواعظ القرآن وان تدبروا فرضا. وتنكير قلوب لان المراد قلوب بعض منهم أو للاشعار بانها لابهام أمرها فى القساوة أو لفرط جهالتها كانها مبهم مكنوزة روى البغوي عن هشام بن عروة عن أبيه قال تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ فلا يتدبّرون القرءان أم على قلوب اقفالها فقال شابّ من أهل اليمن بل على قلوب اقفالها حتى يكون اللّه يفتحها أو يفرجها فما زال الشابّ فى نفس عمر حتى ولّى فاستعان « 1 » به ..
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أى على ما كانوا عليه من الكفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قال عروة هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته فى التوراة وقال ابن عباس والضحاك والسدىّ هم المنافقون الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أى سهّل لهم اقتراف الكبائر من السؤال وهو الاسترخاء وقيل حملهم على الشهوات من السول وهو التمني وَأَمْلى لَهُمْ (25) قرأ أهل البصرة بضم الالف وكسر اللام وفتح الياء « و يعقوب بإسكان الياء أبو محمد » على ما لم يسم فاعله من الماضي وقرأ مجاهد بإسكان الياء على صيغة المضارع المتكلم من الافعال وروى هذه القراءة عن يعقوب والمعنى وانا املى لهم أى امهلهم والواو
_________
((1/6009)
1) وعن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ فلا يتدبّرون القرءان أم على قلوب اقفالها فقال شابّ عند النبي صلى اللّه عليه وسلم بلى واللّه عليها اقفالها حتى يكون اللّه هو يفكها فلمّا ولّى عمر سال عن ذلك الشابّ ليستعمله فقيل قد مات 12 منه برد اللّه مضجعه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 436
للحال أو الاستئناف والباقون بفتح الالف أى املى الشيطان يعنى مدلهم فى الآمال والأماني وجملة انّ الّذين ارتدّوا مستأنفة فى جواب ما سبب ذلك.
ذلِكَ أى تسويل الشيطان وامهال اللّه سبحانه بِأَنَّهُمْ أى بسبب انّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أى قال اليهود الذين كفروا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ما تبين لهم نعته من التوراة للمنافقين أو قال المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أى فى بعض أموركم أو فى بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد أو الموافقة لهم فى الخروج معهم ان اخرجوا أو على التعاون على عداوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) حال من فاعل قالوا قرأ أهل الكوفة غير أبى بكر بكسر الهمزة على المصدر والباقون بفتحها على انه جمع السر ومن أسرارهم قولهم لهذا الذي أفشاه.
فَكَيْفَ الفاء للسببية والاستفهام للتعجيب إِذا تَوَفَّتْهُمُ الظرف متعلق بفعل محذوف تقديره فكيف يحتالون إذا توفتهم الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ حال من الملائكة وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) بمقامع من حديد.
ذلِكَ التوفى على هذا التوجه بِأَنَّهُمُ أى بسبب انّهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ قال ابن عباس بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أى ما يرضاه من الايمان والجهاد وغيرهما من الطاعات فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) لذلك - .(1/6010)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أى نفاق أم منقطعة بمعنى بل والهمزة والكلام متصل بقوله الشّيطان سوّل لهم أو بقوله أم على قلوب اقفالها أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) أى لن يظهر اللّه لرسوله والمؤمنين أحقادهم عليهم أم منقطعة للاضراب عما سبق والاستفهام للانكار على حسبانهم.
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أى لأعلمناكهم وأعرفناكهم جملة معترضة أو حال بتقدير ونحن لو نشاء لاريناكهم فَلَعَرَفْتَهُمْ باعلامنا بِسِيماهُمْ أى بعلاماتهم التي نسمهم بها واللام لام الجواب كررت فى المعطوف قال البغوي قال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 437
انس فما خفى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شىء من المنافقين كان يعرفهم بسيمهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جواب قسم محذوف ولحن القول ازالة الكلام عن جهته إلى تعريض وتورية والمعنى انك تعرفهم فيما يعرضون من تهجين أمرك وامر المسلمين والاستهزاء بهم والذم بصورة المدح قال البغوي فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى اللّه عليه وسلم الا عرفه بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) الحسنة من القبيحة فان حسن الأعمال وقبحها فيما سوى ما فيه قبح ذاتى كالكفر والزنى يتعلق بالنيات ولا يعلمها الا اللّه فيجازيكم على حسب قصدكم ونيتكم.(1/6011)
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بان نأمركم بالجهاد وجواب قسم محذوف حَتَّى نَعْلَمَ علما بعد الوجود كما كنا نعلم قبل الوجود بانه سيكون أو المعنى حتى نميّز أو المعنى حتى يعلم اولياؤنا الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على مشاق الجهاد وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها أو قبحها أو اخباركم عن ايمانكم وموالاتكم المؤمنين فى صدقها وكذبها قرأ أبو بكر الافعال الثلاثة بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى اللّه تعالى فيوافق قوله تعالى اللّه يعلم والباقون بالنون على التكلم ونبلوا « 1 » بسكون الواو على تقدير ونحن نبلوا - .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى منعوا الناس عن الايمان واتباع الرسول وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أى خالفوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى هم قريظة والنضير والمطعمون يوم بدر كانوا اثنا عشر رجلا من كفار مكة يطعمون عسكر الكفار فى يوم نوبته لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بكفرهم شَيْئاً من المضرة انما يضرون أنفسهم وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) فلا يجدون عليها ثوابا فى الاخرة أو لا يترتب عليه منفعة فى
_________
(1) وقع التسامح في العبارة هاهنا والغرض انه قرأ رويس ونبلوا بإسكان الواو والباقون بالفتح - أبو محمد عفا اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 438
الدنيا قال ابن عباس هم المطعمون يوم بدر نظيره قوله تعالى انّ الّذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل اللّه فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون - .(1/6012)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) قال ابن عباس وعطاء لا تبطلوها بالشك والنفاق أو العجب وقال الكلبي بالرياء والسمعة وقال الحسن بالمعاصي والكبائر واخرج ابن أبى حاتم ومحمد بن نصر المروزي فى كتاب الصلاة عن أبى العالية قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرون انه لا يضرّ مع لا اله الا اللّه ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت هذه الآية فخافوا ان يبطل العمل بالذنب وكذا ذكر البغوي عنه وقال مقاتل لا تمنّوا على رسول اللّه بإسلامكم فتبطل أعمالكم.
(مسئلة) من شرع فى صلوة أو صوم أو حج أو عمرة أو غير ذلك تطوعا يجب عليه الإتمام ولا يجوز له الإفساد فى ظاهر الرواية عن أبى حنيفة الا بعذر كذا ذكر صاحب الهداية والقدورى وغيرهما - وهل الضيافة عذر لافطار الصوم تطوعا قيل نعم وقيل لا وقيل عذر قبل الزوال لا بعده الا إذا كان فى عدم الفطر عقوق الوالدين فان أفسد الصلاة أو الصوم بعد الشروع تطوعا يجب عليه القضاء عند أبى حنيفة وعند مالك وفى رواية المنتقى عن أبى حنيفة يباح للمتطوع بالصوم الإفطار بغير عذر ويجب عليه القضاء وقال الشافعي واحمد يجب فى العمرة والحج الإتمام والقضاء ان أفسد بخلاف الصلاة والصوم وغيرهما من النوافل فانه يستحب عندهما الإتمام وله قطعهما ولا قضاء عليه - لنا هذه الآية فانها وان كانت واردة فى النهى عن ابطال العمل بالشك والنفاق أو بالمعاصي أو بالرياء والسّمعة والعجب لكنها بصيغتها يعم الابطال قبل إتمامها بالإفساد لان القدر المودي قربة وعمل وكذا بعده بفعل ما يحبطه من الكبائر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 439(1/6013)
او الرياء والسمعة أو العجب - ولنا أيضا الأحاديث منها حديث عروة عن عائشة قالت أهديت لحفصة شاة ونحن صائمتان فافطرتنى فلمّا دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكرنا ذلك له فقال ابد لا مكانه - رواه احمد من طريق سفيان بن حسين عن عروة عن عائشة والترمذي من طريق جعفر بن برقان عن عروة عنها بلفظ قالت كنت وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فاكلنا منه فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبدرتنى إليه حفصة فقالت يا رسول اللّه انا كنا صائمتين فعرض طعام اشتهيناه فاكلنا منه قال اقضيا يوما اخر مكانه - وكذا أخرج أبو داود والنسائي عن زميل عن عروة عنها وأعله البخاري بانه لا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد سماع من زميل « 1 » وقال الترمذي روى هذا الحديث صالح بن أبى الأخضر ومحمد بن على بن أبى حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة وروى مالك بن انس ومعمر وعبيد اللّه بن عمرو وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلا ولم يذكروا فيه عروة وهذا أصح لأنه روى عن ابن جريج قال سالت الزهري احدّثك عروة عن عائشة قال لم اسمع من عروة فى هذا شيئا ولكن سمعنا فى خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سال عائشة عن هذا الحديث انتهى.
قال ابن همام قول البخاري مبنى على اشتراط العلم بذلك والمختار الاكتفاء بالعلم بالمعاصرة ولو سلم إعلاله وأعلال الترمذي فهو قاصر على هذا الطريق فانما يلزم لو لم يكن له طريق اخر لكن رواه ابن حبان فى صحيحه عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت أصبحت انا وحفصة صائمتين متطوعتين الحديث ورواه ابن أبى شيبة من طريق اخر غيرهما عن خصيف عن سعيد بن جبير ان عائشة وحفصة الحديث ورواه الطبراني فى
_________
(1) وفى الأصل ولا ليزيد سماع من عروة 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 440(1/6014)
معجمه من حديث خصيف عن عكرمة عن ابن عباس ان عائشة وحفصة كانتا صائمتين الحديث - ورواه البزار من طريق اخر عن الحماد بن وليد عن عبيد اللّه بن عمرو عن نافع عن ابن عمر قال أصبحت عائشة وحفصة صائمتين الحديث لكن الحماد بن الوليد ضعيف واخرج الطبراني من غير الكل فى الأوسط حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن مهرن الجمال قال ذكره محمد بن أبى سلمة المكي عن محمد بن عمروية عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال أهديت لعائشة وحفصة هدية وهما صائمتان فاكلتا منها فذكرتا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اقضيا يوما مكانه ولا تعودا قال ابن همام فثبت هذا الحديث ثبوتا لا مرد له ولو كان كل طريق من هذه الطرق ضعيفا لتعددها وكثرة مجيئها كيف وبعض طرقه مما يحتج به قلت والمرسل عندنا حجة وما قال ابن الجوزي ان الأمر بالابدال يوما مكانه محمول على الاستحباب خروج عن مقتضاه بغير موجب بل هو محفوف مما يوجب مقتضاه ويؤكده وهو قوله تعالى لا تبطلوا أعمالكم فان قيل كيف يقال هذه الآية مؤكدة لهذا الحديث مع ان المخالفة ظاهرة فان الآية تدل على منع الإفطار بعد الشروع ولا دلالة فيها على وجوب القضاء والحديث يدل على جواز الإفطار مع وجوب القضاء - قلنا دلالة الآية على منع الإفطار دلالة على وجوب القضاء فان منع الابطال عبارة عن وجوب الإتمام ووجوب الشيء يقتضى وجوب قضائه بالمثل المعقول عند الفوات ان كان له مثل وليس فى الحديث دلالة على جواز الإفطار بل على وجوب القضاء فقط ووجوب القضاء يترتب على وجوب الإتمام وحرقه الإفطار وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تعودا صريح فى حرمة الإفطار وهذا هو ظاهر الرواية عن أبى حنيفة رحمه اللّه.(1/6015)
و فى الباب أحاديث اخر منها ما رواه الدار قطنى عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة عن عائشة أم المؤمنين قالت دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انى أريد الصوم واه دى له حيس فقال انى أكل وأصوم يوما مكانه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 441
قال الدار قطنى لم يزد هذا اللفظ عن ابن عيينة غير محمد بن عمرو أبو العباس الباهلي ولم يتابع على قوله وأصوم يوما مكانه ولعله شبه عليه قال الحافظ لكن رواه النسائي عن محمد بن منصور عن ابن عيينة وكذا رواه الشافعي عن ابن عيينة وذكر ان ابن عيينة زادها قبل موته بسنة انتهى قال الحافظ ابن حجر ابن عيينة كان فى الاخر قد تغيّر ومنها ما رواه الدار قطنى بسنده عن محمد بن أبى حميد عن ابراهيم بن عبيد قال صنع أبو سعيد الخدري طعاما فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فقال رجل من القوم انى صائم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صنع لك أخوك أفطر وصم يوما مكانه - قال الدار قطنى هذا مرسل وقال ابن الجوزي محمد بن أبى حميد ليس بشئ وقال النسائي ليس بثقة وقال ابن حبان لا يحتج به ومنها ما رواه الدار قطنى عن جابر بن عبد اللّه قال صنع رجل من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طعاما فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فلمّا اتى الطعام تنحى أحدهم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم تكلف لك أخوك وصنع ثم تقول انى صائم كل وصم يوما مكانه - فيه عمر بن حليف قال ابن عدى كان متهما بوضع الحديث وكذا قال ابن حبان ومنها ما رواه الدار قطنى من حديث ثوبان قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صائما فى غير رمضان فاصابه غم أذاه فتقيا فقاء فدعا بوضوء فتوضا ثم أفطر فقلت يا رسول اللّه أ فريضة الوضوء من القيء قال لو كان فريضة لوجدته فى القرآن قال ثم صام الغد فسمعته يقول هذا مكان إفطاري أمس - فيه عتبة بن السكن قال الدار قطنى متروك الحديث ومنها ما رواه الدار قطنى(1/6016)
بسنده عن محمد بن أبى حميد عن الضحاك بن حمزة عن منصور عن أم سلمة انها صامت يوما تطوعا فافطرت فامرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان تقضى يوما مكانه - قال يحيى الضحاك ليس بشئ وقال أبو زرعة محمد بن حميد كذاب -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 442
احتج الشافعي واحمد بأحاديث الأول حديث جويرية ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهى صائمة فقال لها اصمت أمس قالت لا قال لا تصومينى غدا قالت لا قال فافطرى - رواه البخاري وروى احمد عن أبى عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل على جويرية فذكر الحديث نحوه الثاني حديث عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يأتيها فيقول أصبح عندكم شىء تطعمونيه فنقول لا ما أصبح عندنا شىء فيقول انى صائم ثم جاءها بعد ذلك فقالت أهديت لنا هدية فخبأنا لك فقال ما هى قالت حيس قال قد أصبحت صائما فاكل - رواه مسلم ورواه الدار قطنى والبيهقي بلفظ انه دخل عليها فقال هل عندكم شىء قلت لا قال فانى إذا صائم قالت ودخل علىّ يوما اخر فقال أ عندكم شىء قلت نعم قال اذن أفطر وان كنت قد فرضت الصوم - الثالث حديث أم سليم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح الليل وهو يريد الصوم فيقول أ عندكم شىء أتاكم شىء قالت فنقول أو لم تصبح صائما فيقول بلى ولكن لا بأس ان أفطر ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان رواه الدار قطنى وفى سنده محمد بن عبيد اللّه العرزمي ضعيف الرابع حديث أبى جحيفة قال أخي النبي صلى اللّه عليه وسلم بين سلمان وابى الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فراى أم الدرداء مبتذلة فقال لها ما شأنك قال أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة فى الدنيا فجاء أبو الدرداء وصنع له طعاما فقال كل فقال انى صائم فقال ما انى أكل حتى تأكل فاكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم قال نم فلما كان اخر الليل قال سلمان قم الان فصليا فقال له سلمان ان لربك عليك(1/6017)
حقّا ولنفسك عليك حقّا ولاهلك عليك حقا فاعط كل ذى حق حقه فاتى النبي صلى الله
عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم صدق سلمان - قلت هذه الأحاديث لا تدل الا على جواز الإفطار للصائم واما على عدم وجوب القضاء فلا وحديث
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 443
جويرية انما يدل على كراهة الافراد بصوم الجمعة كما ورد فى حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تصوم الجمعة الا وقبله يوم أو بعده يوم - متفق عليه وفى لفظ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يفرد يوم الجمعة بصوم - رواه مسلم - وللشافعى أحاديث اخر منعاف منها حديث أم هانى وله طرق وألفاظ منها ما رواه النسائي من حديث حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن هارون بن أم هانى عنها ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شرب شرابا فناولها لنشرب فقالت انى صائمة لكن كرهت ان أرد سورك فقال ان كان قضاء من رمضان فاقضى يوما مكانه وان كان تطوعا فان شئت تقضى وان شئت فلا تقضى.(1/6018)
و روى احمد والترمذي وغيرهما من طرق عن سماك عن هارون عنها بلفظ كنت قاعدة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتى بشراب فشرب منه ثم ناولنى فشربت منه فقلت أذنبت قال ما ذاك قلت كنت صائمة فافطرت قال أمن قضاء كنت تقضيه قلت لا قال فلا تضرك - وسماك بن حرب ليس بمعتمد عليه إذا انفرد كذا قال النسائي وقال البيهقي فى اسناده مقال وقال ابن القطان هارون مجهول لا يعرف قلت وهارون قيل ابن أم هانى وقيل ابن ابنه وقيل ابن بنته ولفظ احمد والترمذي لا يدل على عدم وجوب القضاء وروى أبو داود والدارمي وغيرهما من حديث جرير عن يزيد بن زياد عن عبد اللّه بن الحارث عن أم هانى قالت لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأم هانى عن يمينه قالت فجاءت وليدة باناء فيه شراب فناولته فشربت منه فقالت يا رسول اللّه قد أفطرت وكنت صائمة فقال لها أ كنت تقضين شيئا قالت لا قال لا يضرك ان كان تطوعا ورواه احمد ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن حجة عن أم هانى وهى جدته ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فاتى باناء فشرب ثم ناولنى فقلت
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 444
انى صائمة فقال ان المتطوع امير نفسه فان شئت فصومى وان شئت فافطرى - ورواه من حديث أبى داود الطيالسي ثنا شعبة عن جعدة عن أبى صالح عنها ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها فشرب ثم ناولها فشربت وقالت يا رسول اللّه انى كنت صائمة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصائم المتطوع امير نفسه ان شاء صام وان شاء أفطر - قال الذهبي جعدة عن أبى صالح لا يعرف وقال البخاري فيه نظر وذكر يوم الفتح علة اخرى للقدح فى الحديث إذ لا شك ان يوم الفتح كان فى رمضان فكيف يتصور قضاء رمضان فى رمضان ولا التطوع فيه.(1/6019)
و اختار ابن همام رواية المنتقى عن أبى حنيفة فقال يجوز للمتطوع فى الصوم الإفطار بلا عذر لما احتج به الشافعي ويجب عليه القضاء بالإفساد لما احتج به أبو حنيفة جمعا بين الأحاديث وقال المراد بالابطال فى قوله تعالى لا تبطلوا أعمالكم إخراجها من ان يترتب عليه فائدة وجعلها كانها لم توجد أصلا واما الابطال بقصد القضاء فلا دلالة للاية على منعه - قلت المصدر فى قوله تعالى لا تبطلوا منكر تحت النفي فيشتمل كل ابطال ومن أفسد صلاته أو صومه بعد الشروع فلا شك انه أبطل هذا العمل واما القضاء فعمل اخر تدارك لهذا العمل فلا يجوز الابطال بلا عذر بهذه الآية والأحاديث وان دلت على جواز الإفطار لكن عند التعارض يجب تقديم الآية على أحاديث الآحاد لا سيما الآية محرمة والأحاديث مبيحة للفطر فيجب تقديم المحرم على المبيح احتياطا ولنا أيضا القياس على الحج والعمرة النافلتين فانه لا يجوز إفسادهما ويجب فيهما القضاء بالإفساد اجماعا واللّه اعلم ..
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) هذه الجملة متصلة بقوله انّ الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه الآية فيما سبق قبل هذه الآية نزلت فى اصحاب القليب وحكمه عام فى كل من مات على كفره - .
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 445(1/6020)
فَلا تَهِنُوا أى لا تضعفوا عن الجهاد وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ أبو بكر وحمزة بكسر السين والباقون بفتحها وتدعوا مجزوم بتقدير لا أى لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء أو منصوب بتقدير ان فى جواب لا تهنوا نهى اللّه سبحانه عن طلب الصلح ابتداء لأنه دليل الجبن والضعف وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أى الغالبون القاهرون بنصر اللّه تعالى الموعود للمؤمنين الصالحين حال من فاعل تدعوا وَاللَّهُ مَعَكُمْ معية بلا كيف فان الايمان يقتضى حب اللّه والمرء مع من أحب والواو للعطف فهو حال من فاعل تدعوا أو للحال من فاعل اعلون وكذا قوله وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أى لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم من وتره ينزه إذا نقص حقه قال ابن عباس ومقاتل وقتادة والضحاك لن يظلمكم أعمالكم الصالحة أى لا يبطلها - .(1/6021)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ أى باطل لا يترتب عليها فائدة معتدة بها ما لم يكن فيها ذكر اللّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ذكر اللّه وَلَهْوٌ يشغلكم عمّا يفيدكم فى الحيوة الدائمة وَإِنْ تُؤْمِنُوا باللّه ورسوله فى الدنيا وَتَتَّقُوا عذاب اللّه بامتثال أو امره والانتهاء عن مناهيه يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أى ثواب ايمانكم وتقواكم فى الاخرة فحينئذ تكون حياتكم الدنيا مزرعة الاخرة ولا يكون لعبا ولهوا وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) فانه غير محتاج إلى شىء انما يأمركم بالطاعة والايمان ليثيبكم عليها الجنة نظيره قوله تعالى ما أريد منهم من رّزق وقيل معناه لا يسئلكم اللّه ورسوله أموالكم كلها فى الصدقات انما يسئلكم جزءا يسيرا وهو ربع العشر أو اقل كشاة من مائة وعشرين شاة من نماء مال فطيبوا بها نفسا والى هذا القول ذهب ابن عيينة ويدل عليه سياق الآية فهذه الجملة لدفع توهم نشا ممّا ذكر من ذم الحيوة الدنيا ومدح الايمان والتقوى فانه يوهم ان اللّه تعالى يأمر بصرف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 446
جميع متاع الدنيا فى سبيل اللّه ولدفع ذلك الوهم قال ولا يسئلكم أموالكم أى جميعها - ثم ذكر فى مقام تعليل عدم السؤال بالكل قوله.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أى جميعا فَيُحْفِكُمْ أى يجهدكم بطلب الكل والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية فى الحديث احفوا الشوارب أى استأصلوها فى القطع عطف على الشرط تَبْخَلُوا بها فلا تعطوها جزاء للشرط وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) أى يظهر بغضكم والضمير فى يخرج للّه تعالى ويؤيده القراءة بالنون أو للبخل فانه سبب الاضغان قال قتادة علم اللّه ان فى مسئلة الأموال خروج الاضغان - .(1/6022)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها حرف تنبيه وأنتم مبتدا وهؤلاء خبره أو هؤلاء منادى بحذف حرف النداء وخبر المبتدا تُدْعَوْنَ أو هؤلاء اسم موصول وتدعون صلته والموصول مع الصلة خير لانتم لِتُنْفِقُوا ما فرض اللّه عليكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو يعم نفقة الغزو والزكوة وغيرهما فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أى ناس يبخلون بما فرض اللّه عليهم من الزكوة وغيرها وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فان نفع الانفاق وضرر البخل انما يعودان إليه عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله قالوا يا رسول اللّه ما منّا أحد الا ماله أحب إليه من مال وارثه قال فان ماله ما قدم ومال وارثه ما اخر - رواه البخاري والنسائي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الاخر اللهم أعط ممسكا تلفا - متفق عليه وعن اسماء قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انفقى ولا تحصى فيحصى اللّه عليك ولا توعى فيوعى اللّه عليك فارضحى ما استطعت - متفق عليه وعن أبى هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى أنفق يا ابن آدم أنفق عليك - متفق عليه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن صدقاتكم وطاعاتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 447(1/6023)
فانما أمركم بما أمركم لاحتياجكم فى الدنيا والاخرة جملة واللّه الغنىّ وأنتم الفقراء فى مقام التعليل للحصر فى قوله انّما يبخل عن نفسه وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أى ان تعرضوا أيها العرب عن طاعة اللّه وطاعة رسوله والانفاق فى سبيله عطف على ان تؤمنوا يَسْتَبْدِلْ أى يقيم مقامكم قَوْماً غَيْرَكُمْ ليومنوا ويتقوا ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) بل يكونوا أطوع للّه منكم قال الكلبي هى كندة والنخع وقال الحسن هى العجم وقال عكرمة فارس والرم عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية يستبدل قوما غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم قالوا يا رسول اللّه من هؤلاء الذين ان تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا امثالنا فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من فارس « 1 » - رواه البغوي ورواه الترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان - والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين - قد اتفق ختم تفسير المظهرى بختم سورة ختم الرسل محمد صلى اللّه عليه وسلم
_________
((1/6024)
1) وفى الصحيحين عن أبى هريرة والطبراني عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال لو كان الايمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس - وروى أبو نعيم فى الحلية عنه بلفظ لو كان العلم معلقا بالثريا لتناوله قوم من ابنا فارس. ورواه الشيرازي فى الألقاب من حديث قيس بن سعد بن عبادة عنه صلى اللّه عليه وسلم وزاد الطبراني فى حديث قيس لا تناله العرب لناله رجال (و فى لفظ ناس) عن أبناء فارس) قال الشيخ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي قال الشيخ الشافعي يعنى جلال الدين السيوطي المراد بهذا الحديث أبو حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه لا شك فيه لأنه لم يبلغ من أبناء فارسى فى العلم مبلغه ولا مبلغ أصحابه وكان جد الامام أبى حنيفة منهم - وقد بلغ من أولاد أبى حنيفة من الدين رجال مبلغا رفيعا منهم أبو على شرف الدين القلندر الفاني فتى والقطب الجمال والقطب برهان الها نسوى والقطب عبد القدوس الكنكوهى رضى اللّه عنهم أجمعين 12 منه نور اللّه مرقده وبرد اللّه مضجعه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 448(1/6025)
و المسئول من اللّه عزّ وجلّ ان يجعل ختمى على خير ما ختم عليه خيار أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم - اللهم اجعل ثواب ختم هذا التفسير هدية إلى خير خلقه وختم رسلك محمد صلى اللّه عليه وسلم والى أصحابه الكرام وأولاده العظام وأزواجه الطاهرات واولياء أمته خصوصا إلى حضرت شمس الدين حبيب اللّه المظهر الذي جعلت هذا التفسير على اسمه والى مشائخه الكرام وحضرات العظام وصلوات اللّه وسلامه على جميع اتباع محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا يوم الثلثاء السابع والعشرين من الجمادى الأول من السنة الثامنة بعد الف سنة 1208 ومائتين من هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم ه - وقد حصل الفراغ من تصحيح المسودة فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من الجمادى الأول سنة الثامن وخمسين بعد الف سنة 1358 وثلاثمائة والحمد للّه على ذلك ونرجوا منه القبول وحسن الخاتمة صلى اللّه على جميعه وسلم تسليما كثيرا.
مكتبة رشيديّة سركى رود كوئته فون 1 - 843264.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 2
الجزء التاسع
سورة الفتح
مدنيّة وهى تسع وعشرون اية واربع ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ربّ يسّر وتمّم بالخير روى احمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردوية عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم فى بعض أسفاره فسألته عن شىء ثلث مرات فلم يرد علىّ فقلت ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلث مرات كل ذلك لا يجيبك قال عمر فحركت بعيري حتى تقدمت امام الناس وخشيت ان يكون نزل فى القرآن فما لبثت ان سمعت صارخا يصرخ بي فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلمت عليه فقال لقد أنزلت علىّ الليلة سورة هى أحب الىّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ(1/6026)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً واخرج الحاكم وغيره من المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قال نزلت سورة الفتح فى شان الحديبية بين مكة والمدينة من أولها إلى آخرها واختلفوا فى هذا الفتح روى عن أبى جعفر الرازي عن قتادة عن انس انه فتح مكة فهى عدة بالفتح جىء بلفظ الماضي لانها فى تحققها بمنزل الكائنة ففيه معجزة والصحيح انه صلح الحديبية رواه احمد وابن سعد وابى داود والحاكم وصححه وابن المنذر وابن مردوية والبيهقي فى الدلائل عن مجمع بن حارثية الأنصاري قال شهدنا الحديبية مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند كراع الغميم فاجتمع الناس إليه فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 3
فَتْحاً مُبِيناً(1/6027)
فقال رجل من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو فتح هو قال والذي نفسى بيده انه لفتح مبين وسنذكر قول أبى بكر الصديق ما كان فتح فى الإسلام أعظم من صلح الحديبية وكذا ذكر البغوي عن البراء ووجه تسميته فتحا اما انه مقدمة الفتح واما ان معنى الفتح فتح المنغلق وذلك ما يصلح مع المشركين بالحديبية وقيل الفتح بمعنى القضاء أى قضينا لك ان تدخل مكة من قابل قال الشعبي فتح الحديبية فيه غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأطعموا نخلة خيبر وبلغ الهدى محله وظهرت الروم أى من عام قابل على فارس وخرج المؤمنون لظهور أهل الكتب على المجوس. قال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك ان المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام فى قلوبهم واسلم فى ثلث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام قال الضحاك فتحا مبينا بغير قتال وكان الصلح من الفتح وقال البيضاوي سماه فتحا لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سالوا الصلح وتسبب بفتح مكة وفرغ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسائر العرب فقرأهم وفتح مواضع وادخل فى الإسلام خلقا عظيما.(1/6028)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علة غائية للفتح من حيث انه مسبب عن جهاد الكفار والسعى فى فغز ازاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهرا ليصير ذلك بالتدريج اختيار أو تخليص الضعفة عن أيدي الظلمة وقيل اللام لام كى أى لكى يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة والفتح وقال حسين بن الفضل اللام متعلق بقوله تعالى فى سورة محمد صلعم وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ كما قيل كذلك فى تعلق لِإِيلافِ قُرَيْشٍ بقوله تعالى فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ فى سورة الفيل وهذا بعيد جدا وقيل اللام متعلق بمحذوف تقديره فاشكر ليغفر لك اللّه أو فاستغفر ليغفر لك اللّه كذا قال محمد ابن جرير حيث قال هو راجع إلى قوله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أى قوله واستغفره ليغفر لك اللّه ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أى جميع ما فرط منك قديما فى الجاهلية قبل الرسالة وحديثا بعد الرسالة أى نزول السورة مما يصح ان يعاتب عليه وهذا لا يستلزم ارتكاب المعصية قال حسنات الأبرار سيات المقربين وقال سفيان الثوري ما تقدم يعنى ما عملت فى الجاهلية وما تأخر كل شىء لم يعمله يذكر مثل ذلك على طريق التأكيد كما يقال اعطى لمن راه ومن لم يره وضرب من لقيه ومن لم يلقه وقال عطاء الخراسانى ما تقدم من ذنبك يعنى ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك وما تأخر ذنوب أمتك بدعوتك وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعد بإتمام النعمة وإكمال الدين واظهار كلمة الإسلام وهدم منار الجاهلية
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 4(1/6029)
بحيث يحجوا ويعتمروا مطمئنين لا يخالطهم أحد من المشركين الذي ذكر إنجازها فى سورة المائدة بقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وتمام النعمة هذه مسبب للفتح فتح مكة وصلح الحديبية - وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً فى تبليغ الرسالة واقامة مراسم الملك والنبوة والرياسة قيل معنى يهديك يهدى بك وقيل معنى يهديك يثبتك عليه أو المعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى كمال الدين بحيث لا يجوز نسخه بعد ذلك - .
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ فان قيل ينصرك اللّه معطوف على يغفر وهو مترتب على الفتح اما لكونه مسببا عن جهاد الكفار وبذل السعى - واما لكونه سببا للشكر والاستغفار المقدرين فلا بد ان يكون النصر أيضا مترتبا على الفتح وليس كذلك بل هو سبب للفتح سابق عليه قلنا ان كان المراد بالفتح صلح الحديبية فالصلح امتثالا لامر اللّه تعالى سبب للنصر الذي هو سبب للفتح وان كان المراد منه فتح مكة فالآية وعد بالفتح والوعد سبب للنصر السابق على الفتح كما لا يخفى - نَصْراً عَزِيزاً يعنى معزا يعزبه المنصور فوصفه بوصفه مبالغة أو المعنى نصرا فيه عز ومنيعة روى الشيخان فى الصحيحين والترمذي والحاكم عن انس قال قال نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انّا فتحنا لك فتحا مبينا إلى اخر الآية مرجعه من الحديبية وأصحابه فخالطوا الحزن والكآبة - فقال عليه السلام نزلت علىّ اية هى احبّ الىّ من الدنيا فلما تلى نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رجل من القوم هنيئا مريا رسول اللّه قد بين اللّه لك ماذا يفعل بنا فنزلت.(1/6030)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ إلى قوله فوزا عظيما والمراد بالسكينة الثبات والطمأنينة على امتثال امر اللّه تعالى من صلح الحديبية فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حتى شيبتوا حيث تعلق النفوس وتدحض الاقدام حين جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية حمية الجاهلية لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ متعلق بانزل - قال الضحاك يقينا مع يقينهم يعنى برسوخ العقيدة واطمينان النفس عليها وقال الكلبي هذا فى امر الحديبية حين صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق قال ابن عباس بعث اللّه رسوله بشهادة ان لا اله الا اللّه فلما صدقوه زادهم الصلاة ثم الزكوة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد ثم أكمل لهم دينهم فكلما أمروا بشىء فصدقوه ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى ليس الأمر بالصلح بالحديبية لضعف بالمسلمين بل لما يقتضيه علمه تعالى وحكمته وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها قوله تعالى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 5
ليدخل مع ما عطف عليه من قوله تعالى وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ متعلق بقوله تعالى لِيَزْدادُوا أو بدل اشتمال من قوله ليزدادوا أو معطوف عليه بحذف العاطف متعلق بقوله تعالى أَنْزَلَ أو بدل اشتمال من قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ متعلق بقوله تعالى فَتَحْنا وجملة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ معترضة بينهما.
وَكانَ ذلِكَ الإدخال والتكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضرر وعِنْدَ اللَّهِ حال من الفوز والجملة معترضة.(1/6031)
وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ عطف على يدخل داخل فى علة إنزال السكينة من حيث ان المنافقين والكفار غاظوا المؤمنين وطعنوا فى دينهم حين امتثلوا امر اللّه سبحانه فى الصلح وغير ذلك وظنوا ظن السوء وكان ذلك سببا لتعذيبهم وان كان قوله ليدخل متعلقا بفتحنا فالامر ظاهر - وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ يعنى ظانين ان اللّه لا ينصر رسوله والمؤمنين ولا يرجع النبي عليه السلام إلى المدينة سالما أو ان له تعالى شريكا فالمفعولان محذوفان وقوله ظن السوء أى ظن الأمر السوء منصوب على المصدرية والسوء عبارة عن رداة الشيء وفساده يقال فعل سوءاى مسخوط فاسد عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ جملة دعائية يعنى يجعل اللّه عليهم دائرة الهلاك والعذاب لا يتخطاهم أو دائرة ما يظنون ويتربصون بالمؤمنين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السوء بالضم وهما لغتان غير ان المفتوح غلب فى ان يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما فى الأصل مصدران - وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف لما استحقوه فى الاخرة على ما استوجبوه فى الدنيا وَساءَتْ مَصِيراً جهنم.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيدفع كيد من عادى بنبيه والمؤمنين بما شاء منه وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا فلا يرد بأسه عن الكافرين حَكِيماً فيما دبّر.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا محمد شاهِداً على أمتك حال مقدرة وَمُبَشِّراً للمطيعين بالجنة وَنَذِيراً للعصاة بالنار.(1/6032)
لِتُؤْمِنُوا قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة وكذا لافعال الثلاثة المعطوفة عليه والضمير عائدة إلى الناس أجمعين وقرأ الباقون الافعال الاربعة بالتاء على الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم والامة والخطاب بالجمع بعد الخطاب بالإفراد شبه بالالتفات بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ أى تعووه وَتُوَقِّرُوهُ أى تعظموه وَتُسَبِّحُوهُ أى تنزهوه عما لا يليق بشانه أو اتصلوا له والضمائر المنصوبة راجعة إلى اللّه سبحانه ومعنى تقووه دينه ورسوله قلت وجاز ان يكون معناه ان تنسبوا القوة إليه دون غيره وتقولوا لا حول ولا قوّة الا باللّه وقال البغوي ضمير تعزروه وتوقروه راجعان إلى رسوله و
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 6
ضمير تسبحوا إلى اللّه تعالى واستبعده الزمخشري لكونه مستلزما لانتشار الضمائر قلنا لا بأس به عند قيام القرينة وعدم اللبس بُكْرَةً وَأَصِيلًا منصوبان على الظرفية لتسبحوه يعنى تصلوا غدوا وعشيا أو تنزهوه دائما - .(1/6033)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا محمد بالحديبية على ان لا يفروا بل يقاتلوا حتى يظفروا أو يموتوا إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنه هو المقصود ببيعة النبي صلى اللّه عليه وسلم يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال أو استيناف على سبيل الاستعارة التخييلية تيمما بمعنى المشاكلة فانه إذا كان اللّه مبايعا واشتهر المبايعة بصفقة اليد وقد كانوا يأخذون بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويبايعونه فتخيل اليد لتاكيد المشاكلة فى المبايعة وقال ابن عباس يد اللّه بالوفا لما وعدهم بالخير فوق أيديهم قلت يد اللّه على تاويل ابن عباس صفة من صفات اللّه تعالى لا يدرك كيفها ولا يجوز تخييلها بالجارحة وقال الكلبي نعمة اللّه عليهم فى الهداية فوق ما صنعوا من البيعة فصله غزوة الحديبية وبيعة الرضوان وسبب ذلك على ما رواه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد وقتادة والبيهقي عن مجاهد أيضا وابن جرير عن ابن يزيد ومحمد بن عمرو عن شيوخه قالوا راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه دخل مكة هو وأصحابه امنين محلقين رؤسهم ومقصرين وانه دخل البيت وأخذ مفتاحه وعرف مع المعرفين وكان ذلك الرؤيا بالمدينة قبل خروجه إلى الحديبية كذا قال البغوي ومحمد بن يوسف الصنابحى فى سبيل الرشاد وفى بعض الروايات عن مجاهد انه راى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو بالحديبية والصحيح هو الأول قال ابن سعد ومحمد بن عمرو غيرهما استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العرب ومن حوله من أهل البوادي من الاعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش ان يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فابطأ عليه كثير من الاعراب وروى احمد والبخاري وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن الزهري وابن اسحق عن الزهري عن عروة عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل بيته فاغتسل ولبس ثوبين من نسج صحا وركب ناقة القصوى من عند(1/6034)
بابه ويخرج بام سلمة معه وأم منيع اسماء بنت عمرو وأم عمارة الاشهلية وخرج معه المهاجرون والأنصار ومن لحق به من العرب لا يشكون بالفتح للرويا المذكور وليس معهم سلاح الا السيوف فى القرب وساق الهدى فسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الاثنين لهلال ذى القعدة يعنى سنة ست حتى نزل ذالحليفة فصلى الظهر ثم دعا بالبدن وهى سبعون فجللت ثم أشعر منها عدة وهن موجهات إلى القبلة فى الشق
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 7
الايمن ثم امر ناجيئة بن جندب فاشعر ما بقي وقلدهن نعلا نعلا وأشعر المسلمون بدنهم وقلدوها وكان معهم مائتا فرس وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشير بن سفيان عينا له وقدم عباد بن بشير طليعة فى عشرين فارسا ويقال جعل أميرهم سعد بن زيد الأشهلي ثم صلى ركعتين وركب من باب المسجد بذي الحليفة فلما انبعث راحلة مستقبلة القبلة احرم بالعمرة ليامن الناس حربه وليعلم الناس انه انما خرج زائرا بهذا البيت.(1/6035)
و لبى لبيك إلخ واحرم غالب أصحابه وأم المؤمنين أم سلمة بإحرامه ومنهم من لم يحرم الا بالجحفة وسلك طريق البيداء ومر فيما بين مكة والمدينة بالاعراب من بنى بكر ومزينة وجهينة فاستنفرهم فتشاغلوا باموالهم وقالوا فيما بينهم يريد محمد يغزوا بنا إلى قوم معد من الكراع والسلاح وانما محمد وأصحابه أكلة جزور لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا ابدا - قوم لا سلاح معهم ولا عدد ثم قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ناجية بن جندب مع فتيان من اسلم ومعهم هدايا المسلمين ووقع فى تلك المسير ما صاد قتادة حمار الوحش وكان غير محرم وما اهدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء وقد مر حديثه فى سورة المائدة ولما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجحفة امر بشجرة فقم ما تحتها فخطب الناس - فقال انى كائن لكم فرطا وقد تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا كتاب اللّه وسنة نبيه ولما بلغ المشركين خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اجتمعوا وتشاوروا يريد محمد ان يدخلها علينا فى جنوده معتمرا فتستمع العرب انه دخل علينا عنوة وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا واللّه لا كان هذا ثم قدموا خالد بن الوليد على ما بنى فارس إلى كراع الغميم واستنفر من الأحابيش وأجلبت ثقيف معهم وخرجوا إلى بلدج وضرب بها القباب والابنية ومعهم النساء والصبيان فعسكروا هنا واجمعوا على منع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من دخول مكة ومحاربته ووضعوا لعيون على الجبال وهم عشرا نفس يوحى بعضهم إلى بعض بالصوت فعل محمد كذا وكذا حتى ينتهى إلى قريش بلدح ورجع بشر بن سفيان الذي بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عينا له من مكة فلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغدير الا شطاط وراء عسفان فقال يا رسول اللّه هذا قريش سمعوا بمسيرك فخرجوا معهم عوذ المطافيل قد لبسوا جلد النحور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون(1/6036)
اللّه لا يدخلها عليهم ابدا - وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قدموها إلى كراع الغميم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 8
العرب فان هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وان أظهرني اللّه تعالى عليهم دخلوا وافرين وان لم يفعلوا قاتلوا وفيهم قوة فما تظن قريش فو اللّه لازال اجاهدهم على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه أو تنفرد هذه السالفة ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى المسلمين فحمد اللّه واثنى عليه بما هو اهله ثم قال اما بعد يا معشر المسلمين أشيروا علىّ أ ترون ان أميل على ذرارى هؤلاء الذين عانوهم فنصيبهم فان تعدوا قعدوا موتورين وان أبونا - تكن عنقا قد قطعه اللّه يعنى أهلك اللّه جماعة منهم أم ترون انا نوم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر يا رسول اللّه خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه ووافقه على ذلك أسيد بن حضير وروى ابن أبى شيبة ان المقداد بن الأسود قال بعد كلام أبى بكر واللّه يا رسول اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيه اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكم مقاتلون فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسيروا على اسم اللّه دونا خالد بن الوليد فى خيله حتى نظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فصف خيله فيما بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين القبلة فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم فى خيله فقام بإزائه فصف أصحابه وحانت صلوة الظهر فاذن بلال واقام فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه فقال خالد بن الوليد قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم ولكن يأتي الساعة صلوة الاخرى هى أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم فنزل جبرئيل(1/6037)
عليه السلام بين الظهر والعصر بقوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ الآية فحانت صلوة العصر فصلى رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم صلوة الخوف وقد مر شرحها فى سورة النساء روى البزار بسند رجاله ثقات عن أبى سعيد الخدري ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا لما امسى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اسلكوا ذات اليمين بين ظهور الحمض فان خالد بن وليد فى الغميم فى خيل بقريش طليعة كره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يلقاه وكان بهم رحيما قال أيكم يعرف ثنية ذات الحنظل فقال بريدة بن الحصيب انا وروى مسلم عن جابر وأبو نعيم عن أبى سعيد قال أبو سعيد خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان سرنا فى اخر الليل حتى أقبلنا على عقبه ذات الحنظل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل هذه الثنية الليلة كمثل باب الذي قال اللّه تعالى لبنى إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا يغفر لكم خطاياكم لا يجوز هذه الثنية الليلة أحد الا غفر له قالوا يا رسول اللّه نخشى ان ترى قريش نيراننا فقال لن يروكم فلما أصبحنا صلى بنا صلوة الصبح ثم قال والذي نفسى بيده لقد غفر الراكب أجمعين الا رديلبا واحدا على جمل احمر فإذا هو رجل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 9(1/6038)
من بنى ضمرة قال جابر قلنا له تعالى نستغفر لك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال واللّه لان أجد ضالتى أحب الىّ من ان يستغفر لى صاحبكم فبينا هو فى حيال سراوع إذ زلقت به بغله فتردى فمات فما علم حتى أكلته السباع قال مسور بن مخرمة ومروان فلما دنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الحديبية وقعت يد راحلة فقال الناس حل حل فابت ان تبعث والحت فقال المسلمون خلأت القصوى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما خلأت القصوى وما ذاك لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ثم قال والذي نفس محمد بيده لا يسالون قريش اليوم خطة فيها تعظيم حرمات اللّه تعالى الا أعطيهم إياهم ثم زجرها فوثبت قال فعدل عنهم حتى نزل أقصى الحديبية على ثمد من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء يتربضه الناس تريضا فلم يلبث الناس حتى نزحوه وشكى الناس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلة الماء فانتزع سهما من كنانته فامر به فغرز فى الثمد بالرواء حتى صدروا بعطن قال المسور فانهم ليقترفون بانيتهم جلوسا على شفير البير والذي نزل بالسهم ناحية بن جندب سايق بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال محمد بن عمر حدثنى الهيثم عن عطاء بن أبى مروان عن أبيه قال حدثنى اربعة عشر رجلا من اسلم من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه ناجية بن عجم وكان ناجية يقول دعانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى شكى إليه قلة الماء فاخرج سهما من كنانته ودفعه إليه ودعا بدلو من ماء البير فجئته به فتوضأ فمضمض فاه ثم مج فى الدلو والناس فى حر شديد وانما هى بير واحدة قد سبق المشركون إلى بلدح فغلبوا على مياهيه فقال انزل الدلو فصبها فى البير واثرها بالسهم ففعلت فوالذى بعثه بالحق ماكدت أخرج حتى تغمدنى وفارت كما تفور القدر حتى طمث واستوت بشفيرها يغترفون من جانبها وروى احمد والبخاري وغيرهما عن البراء ومسلم عن سلمة بن اكوع وأبو نعيم عن ابن(1/6039)
عباس والبيهقي عن عروة نحوها قصة صب الدلو وليس فيه ذكر السهم وروى البخاري عن جابر ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين يديه ركوة قالوا يا رسول اللّه ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب الا فى ركوتك فافرغنا فى قدح وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يديه فى القدح فجعل الماء يفور بين أصابعه كامثال العيون فشربنا وتوضأنا قيل لجابركم كنتم يومئذ فقال لو كنا مائة الف كفانا كنا خمس عشر مائة ولما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحديبية جاء بديل بن ورقاء واسلم بعد ذلك فى دجال من خزاعة منهم عمرو بن سالم وحراس بن امية وخارجة بن كوز ويزيد بن امية وكانت عيبة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 10
نصح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتمامه منهم المسلم ومنهم الوادع لا يخفون عنه بتمامه شيئا فلما قدموا سلموا عليه فقال بديل بن ورقا جئناك من عند قومك كعب بن لوى(1/6040)
و عامر بن لوى قد استنفروا لك الا حابيش ومن أطاعوهم قد نزلوا اعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافي ل النساء والصبيان يقسمون باللّه لا يخلون بينك وبين البيت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا ما جئنا لقتال أحد انما جئنا لنطوف بهذا البيت فمن صدنا عنه قاتلنا وان قريشا قد اضرب بهم الحرب نهكتهم فان شاؤا ما ددناهم مدة يأمنون فيها ويخلون فيما بيننا وبين الناس والناس اكثر منهم فان أصابوني فذلك الذي أرادوا وان ظهر امرى على الناس كانوا بين ان يدخلوا فيما يدخل فيه الناس أو يقاتلوا وقد جموا وان هم أبو فو اللّه لاجهدن على امرى هذا حتى تنفرد سالفتى أو لينفذنّ اللّه امره قال بديل سابلغهم ما تقول فاتى قريشا وقال انا قد جئنا من عند محمد نخبركم عنه قال عكرمة بن أبى جهل والحكم بن العاص وأسلما بعد ذلك مالنا حاجة ان تخبرنا عنه ولكن اخبروه عنا انه لا يدخلها عامه هذا ابدا حتى لا يبقى رجل وأشار عليهم عروة بن مسعود السقفي بعد ذلك بان يسمعوا كلام بديل فان أعجبهم قبلوه والا تركوه فقال صفوان بن امية والحارث بن هشام وأسلما بعد ذلك هات ما سمعته فحدثه بما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم - فقال عروة بن مسعود السقفي أى قوم أ لستم بالولد قالوا بلى قال الست بالولد قالوا بلى - وكان عروة لسبعة بيت عبد الشمس القرشية قال فهل تنهمونى قالوا لا - قال أ لستم تعلمون انى استنفرت أهل عكاظ فلما يلجوا على جئتكم باهلى وولدي ومن أطاعني قالوا بلى قال فان هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعونى انّه فاتاه فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يكلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة يا محمد ارايت ان استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وان يكن الاخرى فانى واللّه لارى وجوها أو باشا من الناس وفى رواية اشوايا من الناس خليقا ان يغروا ويدعوك فقال له أبو بكر الصديق امصص بظر اللات أ نحن نفر منه(1/6041)
و ندعه قال من ذا قالوا أبو بكر فقال اما والذي نفسى بيده لو لا يد كانت لك عندى لم أخبرك به لاجبتك وكان عروة قد استعان فى حمل دية فاعانه الرجل بفريضتين والثلث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض فكان هذا يد أبى بكر عند عروة قال فجعل عروة يكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على راس النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر كلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي صلى اللّه عليه وسلم ضرب يده بنصل السيف وقال اخر يدك عن لحية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانه لا ينبغى لمشرك ان يمسه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 11(1/6042)
فرفع عروة راسه فقال من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال يا غدر واللّه ما غسلت عنك عذرتك بعكاظ الا أمس لقد اورثتنا العداوة من ثقيف إلى اخر الدهر - وكان مغيرة صحبت قوما فى الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فاسلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اما الإسلام فاقبل واما المال فلست منه فى شىء ثم ان عروة جعل يرمق اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم بعينيه فو اللّه ما تنخم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نخامة الأرفع فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا امر ابتدروا امره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم اخفضوا أصواتهم عنده وما يحادون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أى القوم واللّه لقد وفدت على الملوك وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي واللّه ان رايت ملكا قط تعظم أصحابه ما يعظم اصحاب محمد محمدا - واللّه ما تنخم نخامة الا وقعت فى كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا امره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم اخفضوا أصواتهم عنده وما يحادون النظر إليه تعظيما له وانه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقالت قريش لا - ولكن ترده عامنا هذا ويرجع إلى قابل فقال ما أراكم الا ستصيبكم قارعة فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف فقام الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فاتى رسول اللّه صلى الله(1/6043)
عليه وسلم فلما راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال هذا من قوم يعظمون الهدى ويتألهون فابعثوا بالهدى فى وجهه حتى يراها فلما راى الهدايا يسيل عليها من عرض الوادي فى قلايدها قد أكل اوبارها من طول الحبس رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إعظاما لما راى فقال يا معشر قريش انى قد رايت مالا يحل صد الهدى فى قلا يده قد أكل أو تارة من طول الحبس عن محله فقالوا اجلس فانما أنت رجل أعرابي لا علم لك فغضب الحليس عند ذلك وقال يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عافذناكم ان تصدوا عن بيت اللّه من جاء معظما والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو ليفرن الأحابيش نفرة رجل واحد - فقالوا له مه كف عنايا حليس حتى ناخذ لانفسنا ما نرضى به فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص دعونى آته فقالوا آته فلما اشرف عليهم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل غادر أو فاجر فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمه بنحو ما كلم بديلا وعروة فرجع إلى أصحابه فاخبرهم بما رد عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى قريش خراش بن امية على جمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال له الثعلب ليبلغ عنه اشرافهم بما جاء لهم فعقر عكرمة بن أبى جهل الجمل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 12(1/6044)
و أراد واقتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما لقى - روى البيهقي عن عروة قال لما نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحديبية فزعت قريش لنزوله فاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يبعث رجلا من أصحابه فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم فقال يا رسول اللّه انى أخاف قريشا على نفسى قد عرفت قريش عداوتى لها وليس بها من بنى عدى من يمنعنى ولكنى ادلك على رجل أعز بمكة منى وامنع عثمان بن عفان فدعا عثمن فقال اذهب إلى قريش وأخبرهم انا لم نات لقتال وانما جئنا عمارا وادعهم إلى الإسلام وامره ان يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخلهم ويبشرهم بالفتح ويخبر ان اللّه يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالايمان فانطلق عثمان إلى قريش يمر عليهم ببلدح فقالوا اين تريد قال بعثني رسول اللّه تعالى عليه واله وسلم إليكم لادعوكم إلى الإسلام والى اللّه جل ثناؤه وتدخلوا فى الدين كافة فان اللّه مظهر دينه ومعز نبيّه واخرى تكفون الذي يلى هذا الأمر غيركم فان ظفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذلك ما أردتم وان ظفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كنتم بالخيار بين ان تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون ان الحرب ونهكتكم وأذهبت الأماثل واخر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبر انه لم يأت لقتال أحد انما جاء معتمرا معه الهدى عليه القلائد ينحره وينصرف - فقالوا قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا ابدا فارجع إلى صاحبك فاخبره انه لا يصل إلينا ولقيه ابان بن سعيد واسلم بعد ذلك فرحب به ابان واجاره وقال لا تقصر عن حاجتك ثم نزل عن فرس كان عليه فحمل عثمان على السرج وردف ورائه وقال اقبل وأدبر لا تخاف أحد أو بنو سعيد اعزة بالحرم فدخل به مكة فاتى عثمان اشراف قريش رجلا رجلا فجعلوا يردون عليه ان محمدا لا(1/6045)
يدخلها علينا ابدا ودخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين بمكة فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قد أظلكم حتى لا يستخفى بمكة بالايمان ففرحوا بذلك وقال اقرأ على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم منا السلام - ولما فرغ عثمان من رسالة قالوا له ان شئت ان تطوف بالبيت فطف فقال ما كنت لافعل حتى يطوف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقام عثمن بمكة ثلثا يدعو قريشا وقال المسلمون وهم بالحديبية خلص عثمن من بيننا إلى البيت فطاف به فقال رسول الله
صلى اللّه عليه وسلم لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر أصحابه بالحراسة بالليل فكانوا ثلثة يتناوبون الحراسة أوس بن فوبى وعباد بن بشر ومحمد بن مسلمة فكان محمد بن مسلمة على حرس
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 13(1/6046)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة من الليالى وعثمان بمكة قد كانت قريش بعثت ليلا خمسين رجلا عليهم مكرز بن حفص وامروهم ان يطوفوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم رجاء ان يصيبوا منهم عزة فاخذهم محمد بن مسلمة فجاء بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وظهر قول النبي صلى اللّه عليه وسلم انه رجل غادر وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم كرز بن جابر الفهري وعبد اللّه بن سهيل بن عمرو بن عبد الشمس وعبد اللّه بن حذافة السهمي وأبو الروم بن عمير بن عمرو وعمير بن وهب الحجمى وحاطب بن أبى بلتعة وعبد اللّه بن امية دخلوا مكة فى أمان عثمان وقيل سرا فعلم بهم فاخذوا وبلغ قريشا حبس أصحابهم الذين امسكهم محمد بن مسلمة فجاء جمع من قريش إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة واسر المسلمون أيضا اثنى عشر فارسا وقتل من المسلمين ابن زنيم وقد اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون فقتلوه وبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان عثمان ومن معه قتلوا دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس إلى البيعة روى ابن جرير وابن أبى حاتم من سلمة ابن الأكوع والبيهقي عن عروة وابن اسحق عن الزهري ومحمد بن عمر عن شيوخه قال سلمة بينا نحن قايلون إذ نادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فاخرجوا على اسم اللّه - فى صحيح المسلم عن سلمة قال بايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان فى وسط قال بايع يا سلمة قلت بايعتك قال وأيضا فبايعته ثم بايع حتى إذا كان أخرج الناس - قال أ لا تبايعني يا سلمة قلت يا رسول اللّه بايعتك فى أول الناس وفى وسط الناس قال وأيضا فبايعته الثالثة وفى صحيح البخاري عنه قيل على أى شىء كنتم تبايعونه قال على الموت وفى صحيح مسلم عن جابر قال بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و(1/6047)
سلم وعمر أخذ بيده تحت شجرة مثمرة فبايعنا غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره وروى الطبراني عن ابن عمر والبيهقي عن الشعبي وابن مندة عن زيد بن حبيش قالوا لما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال ابسط بيدك أبايعك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم فبايعنى على ما فى نفسك زاد ابن عمر قال وما فى نفسى قال اضرب بسيفى بين يديك حتى يظهر اللّه أو اقتل فبايعه وبايعه الناس على بيعة أبى سنان روى البيهقي عن انس وابن إسحاق عن ابن عمر قال لما امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيعة الرضوان كان عثمان رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل مكة فبايع الناس فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان عثمان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 14
فى حاجتك وحاجة رسولك فضرب بإحدى يديه على الاخرى فقال هذا يد عثمان وكانت يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لانفسهم وبعث قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن العزى وأسلما ومكرز بن حفص إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال سهيل ان الذي كان من حبس أصحابك وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من راى ذى راينا كنا له كارهين حتى بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا فابعث إلينا باصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت اخر مرة والذي ذكر من قتل عثمن ومن معه ظهر انه كان باطلا - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي فقالوا أنصفتنا فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتيهم بن عبد مناف التيمي فبعثوا من كان عندهم وهم عثمان والعشرة معه وأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و(1/6048)
سلم أصحابهم الذين اسرهم المسلمون وفى الصحيحين عن سهيل بن حنيف وعند البخاري واصحاب السنن عن مروان بن الحكم ان عثمن لما قدم من مكة هو ومعه رجع سهيل بن عمرو حويطب ومكرز إلى قريش فاخبروهم بما راوا من سرعة اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتد عليهم فقال أهل الرأي منهم ليس خير من ان تصالح محمدا على ان ينصرف عنا عامة هذا ولا يخلص من البيت حتى يسمع من يسمع بمسيرة من العرب انا قد صددناه ويرجع قابلا فيقم ثلثا ينحر هديه وينصرف فاجمعوا على ذلك وقالوا لسهيل ايت محمدا فصالحه وليكن فى صلحك ان لا يدخل عامة هذا فو اللّه لا تحدث العرب انه دخل علينا عنوة فاتى سهيل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عليه السلام أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا وفى لفظ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سهل أمركم وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متربعا وقام عباد بن بشر وسلمة واسلم وهما مقنعان فى الحديد فبرك سهيل على ركبتيه فكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأطال الكلام وتراجعا وارتفعت الأصوات وانخفضت وقال عباد بن بشر لسهيل اخفض من صوتك عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجرى القول حتى وقع الصلح فقال سهيل هات اكتب بيننا وبينك كتابا فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليّا كرم اللّه وجهه كما فى حديث البراء عن البخاري والحاكم عن عبد اللّه بن مغفل انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال السهيل اما الرحمن الرحيم فو اللّه لا أدرى ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون واللّه لا تكتبها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اكتب باسمك اللّهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال سهيل واللّه لو كنا نعلم إنك رسول اللّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك اكتب محمد بن عبد اللّه فقال(1/6049)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلى رض امحه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 15
فقال على رض ما انا بالذي أمحاه وذكر محمد بن عمران أسيد بن حضير وسعيد بن عبادة أخذ بيد على رض ان لا يكتب الا محمد رسول اللّه والا فالسيف بيننا وبينهم وارتفعت الأصوات فقال النبي صلعم أرنيه فاراه إياه فمحاه رسول اللّه صلعم بيده وقال اكتب محمد بن عبد اللّه ووقع فى بعض طرق حديث البراء ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه وسهيل بن عمرو وأصلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يا من فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض فقال رسول اللّه صلعم لسهيل على ان تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف فقال سهيل لا واللّه ولكن لك من العام المقبل فكتب فقال سهيل على ان لا يأتيك منا أحد بغير اذن وليه وان كان على دينك الا ردته إلينا - فقال المسلمون سبحان اللّه أ يكتب هذا كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فقال رسول اللّه صلعم نعم انه من ذهب منا إليهم فابعده اللّه ومن جاء منهم إلينا فيجعل اللّه فرجا قال البراء صالح على ثلثة أشياء على انه من أتاه من المشركين رده إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه إليه وعلى ان يدخلها من قابل ويقيم بها ثلثة ايام ولا يدخلها الا يجلبان السلاح والسيف والقوس ونحوه وقع الصلح على ان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عيبة مكفوفة وانه لا إسلال ولا أغلال وانه من أحب دخل فى عقد محمد ومن أحب دخل فى عقد قريش فتواثبت خزاعة وقال نحن فى عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر وقالوا نحن فى عقد قريش وعهدهم ولما تقرر الصلح ولم يبق الا الكتاب وثب عمر بن الخطاب رض إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه الست بنى اللّه حقا قال بلى قال السنا على الحق وهم على الباطل قال بلى قال أ ليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار قال(1/6050)
بلى قال على م تعطنى الدنية فى ديننا ونرجع ولم يحكم اللّه بيننا وبينهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى عبد اللّه ورسوله ولست أعصيه ولن يضيعنى وهو ناصرى قال أو ليس كنت تحدثنا انا ناتى البيت فنطوف حقا قال بلى فاخبرتك انك ناتيه العام قال لا قال فانك اتيه ومطوف به فذهب عمر إلى أبى بكر متغيضا ولم يصبر فقال يا أبو بكر أ ليس هذا نبى اللّه حقا قال بلى قال السنا على الحق وهم على الباطل قال بلى قال أ ليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار قال بلى قال فعلى م تعطنى الدنية فى ديننا ونرجع ولم يحكم اللّه بيننا وبينهم قال أيها الرجل انه رسول اللّه وليس يعصى ربه وهو ناصره فاستمسك بعزره حتى تموت فو اللّه انه لعلى الحق وفى لفظ فانه رسول اللّه فقال عمرو انا اشهد انه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أو ليس كان يحدثنا انه سياتى البيت ويطوف به قال بلى ا فاخبرك انك تأتيه العام قال لا قال فانك اتيه وتطوف به فلقى عمر من هذه الشروط امرا عظيما وقال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 16(1/6051)
كما فى الصحيح واللّه ما شككت منذ أسلمت الا يومئذ وجعل يردد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكلام فقال أبو عبيدة بن الجراح الا تسمع يا ابن الخطاب تقول بالقول نعوذ باللّه من الشيطان قال عمر فجعلت أتعوذ باللّه من الشيطان - روى ابن اسحق وابن عمر والأسلمي قال عمر فمازلت أتصدق وأصوم وأعتق من الذي صنعت يومئذ وروى احمد والنسائي والحاكم فى حديث عبد اللّه بن مغفل ذكر نحو ما تقدم قال فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلثون شابا عليهم السلاح فثاروا إلى وجوهنا فدعا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخذ اللّه باسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم فقمنا إليهم فاخذناهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل جئتم فى عهد أحد وهل جعل لكم أحد أمانا فقالوا لا فخلى سبيلهم فانزل اللّه تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وروى احمد ومسلم وابن أبى شيبة عن انس هبط على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا عليهم فاخذوا فعفا عنهم وفى حديث الزهري عن مروان ومسور وروى مسلم واحمد وعبد بن حميد عن سلمة بن الأكوع قال لما سمعت قتل ابن زنيم اخترطت سيفى على اربعة رقود من المشركين فاخذت سلاحهم وجئت بهم اسوقهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو الذي كف أيديهم عنكم الآية فبينما الناس - كذلك إذا أبو جندل بن سهيل ابن عمر يرسف فى قيوده قد خرج من أسفل حتى رمى نفسه بين اظهر المسلمين وكان أبوه سهيل قد أوثقه فى الحديد وسجنه فقام إليه المسلمون يرحبونه ويهنونه فلما راى أبو سهيل قام إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبيبه ثم قال يا محمد هذا أول ما اقاضيك عليه ان ترده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا لم نقض الكتاب بعد قال فو اللّه إذا لا أصالحك على شىء ابدا قال فاجزه بي قال ما انا بمجيزه قال بلى فافعل(1/6052)
قال ما انا بفاعل فقال مكرز وحويطب قد اجزناه لك فاخذاه ودخلا فسطاطا واجاراه وكف عنه أبوه - فقال أبو جندل معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما الا ترون ما قد لقيت وكان قد عذب عذابا شديدا فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صوته أبا جندل اصبر واحتسب فان اللّه تعالى جاعل لك بمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا انا قد عقدنا مع القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا وانا لا نقدر فمشى عمر بن الخطاب إلى جنب أبى جندل فقال له اصبر واحتسب فانما هم المشركون وانما دم أحدهم دم كلب وجعل عمر يدنى قائم السيف منه قال عمر رجوت ان يأخذ السيف فيضرب به أباه قال فضمن الرجل بابيه وقد كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرحوا وهم لا يشكون فى الفتح لرويا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما راو ما رأو
من
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 17(1/6053)
الصلح والرجوع دخل الناس من ذلك عظيم حتى كادوا يهلكون فزادهم امر أبى جندل ونفذت القضية شهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين وأبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن سهيل بن عمرو وسعد بن أبى وقاص ومحمود بن سلمة وعلى بن أبى طالب كرم اللّه وجهه ومكرز بن حفص وهو مشرك فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوموا فانحروا ثم احلقوه فو اللّه ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلث مرات فاشتد ذلك عليه فدخل على أم سلمة فقال هلك المسلمون امرتهم ان ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا فقالت يا رسول اللّه لا تلمهم فانهم قد دخلهم امر عظيم مما ادخلت على نفسك من المشقة فى امر الصلح ورجوعهم بغير فتح يا نبى اللّه أخرج ولا تكلم أحدا كلمة حتى تنجر بدنك وتدعوا بحالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا حتى نحو بدنه رافعا صوته بسم اللّه اللّه اكبر ودعا حالقه فحلقه فلما راوا ذلك قاموا فنحروا فجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا قال ابن عمر وابن عباس حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرحم اللّه المحلقين قالوا والمقصرين قال يرحم اللّه المحلقين قالوا يا رسول اللّه والمقصرين قال والمقصرون قالوا يا رسول اللّه ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم قال لانهم لم يشكوا قال ابن عمرو ذلك انه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت واقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحديبية تسعة عشر يوما ويقال عشرين ليلة ذكره محمد بن عمرو فى ايام المقام بالحديبية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكعب بن عجرة لارى الهوام تتساقط على وجهه وهم محصورون قبل الصلح ا يؤذيك هوام راسك قال نعم وامره بالحلق والفدية من صيام أو صدقة أو نسك ونزل حينئذ قوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ(1/6054)
الاية من سورة البقرة وقد ذكر هناك مسائل للاحصار والحلق بعذر وما يتعلق به روى مسلم عن سلمة بن الأكوع والبيهقي عن ابن عباس والبزاز والطبراني والبيهقي عن أبى حبيش ومحمد بن عمرو عن شيوخه انه لما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الحديبية نزل بمر الظهران ثم نزل بعسفان فارملوا من الزاد فشكى الناس الجوع وقالوا ننحر يا رسول اللّه الحمر فاذن لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عمر يا رسول اللّه لا تفعل فان يكن فى الناس بقية ظهر كان أمثل كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدا جياعا رجالا لكن ان رايت تدعو الناس ببقايا أزوادهم ثم تدعوا فيها بالبركة فان اللّه سيبلغنا بدعوتك فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببقايا أزوادهم وبسط نطعا وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر فاجتمع زاد القوم على النطع قال مسلمة فتطاولت لاحرزكم محرزته كر نفسه عزة ونحن اربعة عشر مائة فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا بما شاء اللّه تعالى ان يدعوا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 18(1/6055)
فاكلوا حتى شبعوا ثم حشوا أوعيتهم وبقي مثله فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت لواجذه وقال اشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه واللّه لا يلقى اللّه تعالى عبد مؤمن بهما الا حجب من النار قال الزهري فى حديثه ثم جاء نسوة مؤمنات فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ - فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له فى الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبى سفيان والاخرى صفوان بن امية قال فنهاهم ان يردوا النساء وامر برد الصداق روى احمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن المسور بن مخرمة والبيهقي عن الزهري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد حاربة الثقفي حليف بنى زهرة مسلما قد خلت من قومه فكتب الاحبس بن شريف الثقفي وأزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابا بعثهما وبعثا خنيسا بن جابر من بنى عامر ابن لوى يذكر ان الصلح الذي بينهم وان يردا إليهم أبا بصير فقدم العامري ومعه مولى له يقال(1/6056)
له كوثر بعد أبى بصير بثلاثة ايام فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بصير ان يرجع معهما وقال يا أبا بصير انا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح فى ديننا الغدر ان اللّه جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا به حتى بلغا ذا الحليفه فصلى أبو بصير فى مسجدها ركعتين صلوة المسافر ومعه زاد له من تمر يحمله يأكل ودعا العامري وصاحبه لياكلا معه فنزلوا يأكلون التمر وعلى العامري سيفه وتحادثا ولفظ عروة فسل العامري سيفه ثم هذه فقال لاضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل فقال أبو بصير أ صارم سيفك هذا قال نعم قال ناولنى انظر إليه ان شئت فناوله إياه فلما قبض عليه ضربه به حتى يرد وخرج كوثر هاربا حتى اتى المدينة فدخل المسجد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك قال قتل واللّه صاحبى وأفلت منه ولم أكد وانى مقتول فاستغاث برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فامته واقبل أبو بصير فاناخ بعير العامري ودخل متوحشا بسيفه فقال يا رسول قد وفيت ذمتك وادي اللّه عنك وقد أسلمتني بيد العدو وقد امتنعت بديني من ان افتن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد وقدم بسلب العامري لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليخمسه فقال انى إذا خمسة راونى لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ولكن شانك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت وفى الصحيح ان أبا بصير لما سمع قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد عرف انه سيرده فخرج أبو بصير ومعه خمسة كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حين قدمه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يكن طلبهم أحد حتى قدموا سيف البحر فاقام بسيف البحر بين العيص وذى المروة من ارض جنته على طريق عيرات قريش وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 19(1/6057)
ابى بصير فتسللوا إليه قال محمد بن عمرو كان عمر بن الخطاب هو كتب إليهم يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لابى بصير ويل امه مسعر حرب لو كان له رجال وأخبرهم انه بالساحل وانفلت أبو جندل بن سهيل الذي رده عليه السلام إلى المشركين بالحديبية فخرج هو وسبعون راكبا ممن اسلموا فلحقوا بابى بصير فلما قدم أبو جندل على أبى بصير سلم له الأمر لكونه قرشيا وكان أبو جندل يؤمهم واجتمع إلى أبى جندل حين سمع بقدومه ناس من بنى غفار واسلم وجهينة وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل كما عند البيهقي عن ابن شهاب لا تمر بهم عير لقريش الا أخذوها وقتلوا من فيها وضيقوا على قريش فلا يظفرون بأحد منهم الا قتلوه فارسل قريش أبا سفيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يبعث إلى أبى بصير ومن معه وقالوا من خرج منا إليك فامسكه فهو لك حلال من غير حرج أنت فيه فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبى بصير وابى جندل يأمرهما ان يقدما عليه ويأمر من معهما فمن اتبعهما من المسلمين ان يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم فلا يتعرضوا الأحد مر بهم من قريش وعيراتها فقدم كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أبى بصير وهو يموت فجعل يقرأه ومات وهو فى يده فدفنه أبو جندل فى مكانه وجعل قبره مسجدا وقدم أبو جندل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم فلما كان من أمرهم على الذين كانوا اشاروا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية ان طاعة اللّه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام القضية قال هذا الذي وعدتكم ولما كان يوم الفتح أخذ المفتاح وقال لعمر بن الخطاب هذا الذي قلت لكم - ولما كان فى حجة الوداع وقف بعرفة فقال أى عمر هذا الذي قلت لكم قال أى رسول اللّه ما كان(1/6058)
فتح أعظم من صلح الحديبية وكان أبو بكر يقول ما كان فتح فى الإسلام أعظم
من صلح الحديبية ولكن الناس قصر رائهم عما كان بين رسول اللّه وبين ربه والعباد يعجلون واللّه لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد والقد رايت سهيل بن عمرو فى حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدنه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينحرها بيده ودعا الحلاق فحلق راسه وانظر إلى سهيل يلتقطه من شعره يضعه على عينه واذكر امتناعه ان يقر يوم الحديبية بان يكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فحمد اللّه سبحانه ان هداه للاسلام فَمَنْ نَكَثَ أى نقض البيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أى لا يعود ضرر نكثه الا عليه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ أى ثبت على البيعة قرأ حفص بضم الهاء تعظيما للجلالة والباقون بالكسر فَسَيُؤْتِيهِ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة والضمير
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 20
عايد إلى اللّه أَجْراً عَظِيماً يعنى الجنة ورضوان اللّه تعالى ورويته.(1/6059)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ابن عباس ومجاهد يعنى الاعراب بنى غفار ومزينه وجهنية والنخع واسلم وهم الذين أبطئوا من الخروج مع النبي صلى اللّه عليه وسلم حين استنفرهم إذا أراد المسير إلى مكة عام الحديبية خوفا من قتال قريش زعما منهم قلة عدد المسلمين وضعفهم فى عقيدتهم كما مر فى القضية رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم سالما اعتذروا من التخلف وو قالوا شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا يعنى لم يكن لنا من يقوم باشغالهم فَاسْتَغْفِرْ لَنا اللّه تعالى على التخلف فيه معجزة فان اللّه تعالى اخبر نبيه صلعم بما يقول له المخلفون بعد ذلك ثم كذبهم اللّه فى اعتذارهم فقال يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من الاعتذار والاستغفار يعنى انهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أو لم يستغفر الجملة بدل من قوله تعالى سيقول إلخ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعنى لاحد يمنعكم من مشية اللّه تعالى وقضائه فيكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا قرأ حمزة والكسائي بضم الضاد والباقون بالفتح يعنى ما يضركم كقتل أو هزيمة أو هلاك فى المال أو الأهل أو عذاب فى الاخرة على تخلفكم أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أى ضد ذلك به تعرض بالرد بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعنى ليس الأمر كما قلتم فى الاعتذار بل اللّه يعلم ان قصدكم فى التخلف انما هو اظهار الموافقة لاهل مكة خوفا منهم.(1/6060)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أيها المخلفون أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً يعنى يستاصلهم مشركو مكة فلا يرجعون إضراب ثان عطف على مضمون الاضراب الأول يعنى بل أظهرتم موافقه أهل مكة بل ظننتم ان لن ينقلبوا وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ زينه الشيطان بخلق اللّه تعالى وَظَنَنْتُمْ ان محمدا وأصحابه أكلة راس فلا يرجعون أو غير ذلك مما يظنون باللّه ورسوله صلعم من الأمور الباطلة ظَنَّ السَّوْءِ منصوب على المصدرية وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هلكى عند اللّه لفساد عقيدتكم وسوء ظنكم باللّه ورسوله.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فيه تعريض إلى انهم غير مؤمنين باللّه ورسوله فان الايمان ينافى تلك الظنون والتخلف عن الرسول صلعم وجزاء الشرط محذوف وما بعده تعليل أقيم مقامه أى لا يضرنا - فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع المظهر موضع المضمر إيذانا بان من لم يجمع بين الايمان باللّه ورسوله فهو كافر مستوجب للسعير بكفره وتنكير سعير للتهويل - .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لا يجب عليه شىء وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يعنى ان الغفران والرحمة صفات ذاتية له تعالى والتعذيب داخل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 21
تحت قضائه بالعرض.(1/6061)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فى القتال حتى نصيب من المغانم يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ جملة يريدون بدل اشتمال من سيقولون قرأ حمزة والكسائي كلم اللّه على انه جمع كلمة قيل المراد بالمغانم خيبر خاصة قال محمد بن عمر وامر رسول اللّه صلعم أصحابه بالخروج يعنى إلى خيبر فجدوا فى ذلك من حوله فمن شهد الحديبية يغزون معه وجاء المخلفون عنه فى غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة فقال عليه السلام لا يخرجوا معى الا راغبين فى الجهاد واما الغنيمة فلا - والظاهر ان معنى الآية سيقولون المخلفون الذين تخلفوا من الجهاد فى غزوة الحديبية حين ظنوا بالمسلمين ضعفا وقلة إذا يرون بالمسلمين قوة وانطلقتم إلى المغانم لتاخذوها فى زعمهم غالبا سيقولون ذرونا نتبعكم يريدون ان يبدلوا كلام اللّه يعنى امر اللّه لنبيه ان لا يسير معه أحد منهم كما فى قوله تعالى فاستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى ابدا ولن تقاتلوا معى عدوا انكم رضيتم بالقعود أول مرة كذا قال ابن ريد وقتادة قلت لعل المخلفون لما رأوا من المؤمنين شدة رغبتهم فى الجهاد وسمعوا بيعة الرضوان وان اللّه الفر؟؟؟ المؤمنين على المشركين فى بطن مكة حتى رضى المشركون على الصلح واطمأن المسلمون من أهل مكة وفرغوا الجهاد عامة العرب ندموا على التخلف وظنوا بغلبة المسلمين وأخذهم الغنائم قالوا ذلك حين عزم النبي صلى اللّه عليه وسلم لجهاد أهل خيبر مع ان أهل خيبر كانوا أشد بأسا من أهل مكة حيث كان فيها عشر آلاف مقاتل وانما حبس اللّه رسوله والمؤمنين من أهل مكة ترحما بقريش كما حبس عنهم الفيل لما علم بعلمه القديم ان أكثرهم يؤمنون ويخرج منهم بسمات مومنات ولئلا يصيب المؤمنين معرة بغير علم من ان يطئوا رجالا مومنين ونساء مؤمنات كانوا بمكة لم يعلموهم قُلْ يا محمد لَنْ(1/6062)
تَتَّبِعُونا جملة مستانفة اخبار من اللّه تعالى بعدم اتباعهم بعد عزمهم طمعا فى الغنائم ولا يبدل القول لديه وفى معجزة اخبار بالغيب مرتين مرة بالقول ومرة بعدم الاتباع وقيل هذا نفى ومعناه النهى - كَذلِكُمْ يعنى قولا مثل ما قلت لكم أيها المخلفون من الاخبار والنهى قالَ اللَّهُ تعالى مِنْ قَبْلُ هذا بوحي غير متلوان غنائم خيبر لاهل الحديبية خاصة لا نصيب لغيرهم فيها أو انهم لن يخرجوا معك ابدا ولا يصاحبهم فى غزوة ابدا وليس المراد منه قوله تعالى فَاسْتَأْذَنُوكَ لانها نزلت بعد ذلك سنة تسع فى غزوة تبوك فَسَيَقُولُونَ أى المخلفون عطف على سيقولون بَلْ تَحْسُدُونَنا عطف على محذوف يعنى لم يقل اللّه كذلك بل تحسدوننا يقولون ذلك حسدا ان يشرككم فى الغنائم بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ عطف على سيقولون يعنى ليس الأمر كما زعمت المخلفون بل كانوا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 22
لا يعلمون من اللّه تعالى ما لهم وما عليهم فى الدين إِلَّا قَلِيلًا يعنى الا تفقها قليلا من امور الدنيا وقال البغوي معناه الا قليل منهم وهو من صدق اللّه ورسوله قلت وعلى هذا كان المختار عند النحويين الرفع على البدلية لان الكلام غير موجب.(1/6063)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة فى الذم واشعار بكمال شناعة التخلف سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال كعب هم الروم يعنى فى غزوة تبوك قلت وهذا القول يابى عنه توصيف قوم بقوله يقاتلونهم أو يسلمون فان غزوة تبوك مال امره إلى القتال فان النبي صلعم سار إلى تبوك واقام هناك بضعة عشر يوما فلم يتحرك هرقل إلى مقابلته ولم يبعث إليه جيشا رجع النبي صلعم من غير قتال وقال سعيد بن جبير وقتادة هوازن وثقيف وغطفان يوم حنين قلت ولم يصح ان النبي صلعم دعا الاعراب يوم حنين وأيضا يكونوا اولى بأس شديد بالنسبة إلى عسكر الإسلام بل كانوا قليلا فى مقابلة جم غفير وقال الزهري ومقاتل وجماعة هم بنو حنيفة أهل اليمامة واصحاب مسيلمة الكذاب قال رافع بن خديج كنا نقرا هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعى أبو بكر الصديق رض إلى قتال بنى حنيفة فعلمنا انهم هم وهذا قول اكثر المفسرين ورحجه البيضاوي بقرينة قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ يعنى بكون أحد الامرين اما المقاتلة أو الإسلام لا غير كما يدل عليه قراءة أو يسلموا فان أو حينئذ بمعنى إلى ان ولا شك ان مشركى العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم الا الإسلام أو السيف وقتال غيرهم كاهل الروم ينتهى بالجزية فالاية دليل على امامة أبى بكر فانه دعى الناس لقتال أهل الردة وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن جريح هم أهل الفارس فانهم كانوا أشد بامن من غيرهم دعا الناس عمر بن الخطاب إلى قتالهم فالاية دليل على خلافة عمر المبنية على خلافة أبى بكر ومعنى يسلمون حينئذ ينقادون لاعطاء الجزية والجملتين المتعاطفتين بدل اشتمال من ستدعون فَإِنْ تُطِيعُوا لداعى يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعنى الجنة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا توليا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ذلك عام الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً(1/6064)
لتضاعف جرمكم قال البغوي فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول اللّه فانزل اللّه تعالى.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ضيق وشدة وعذاب فى ترك الجهاد وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى الجهاد وغير ذلك يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ أى يعرض عن الطاعة بعد القدرة يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً قرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون على المتكلم والباقون بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى اللّه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 23
سبحانه - .(1/6065)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يعنى بالحديبية هذه الجملة متصلة بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الآية تأكيد لها وما بينهما معترضات وبهذه الآية سميت البيعة بيعة الرضوان والغرض من هذه الآية مدح المؤمنين والثناء عليهم ومما سبق - حثهم على إيفاء ما بايعوا عليه وفى الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه قال كنا يوم الحديبية الفا واربعمائة فقال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض - وروى مسلم عن امر بشر مرفوعا ولا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة - فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الصدق والوفاء فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعنى القى عليهم الطمأنينة بالحضور عند ذكر اللّه تعالى والرضا بما امر اللّه تعالى فوق الرضا بما تشتهيه نفوسهم وَأَثابَهُمْ فَتْحاً يعنى فتح خيبر قَرِيباً قيل اقام النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة بعد الرجوع من الحديبية عشر ليال كذا عند ابن عاند عن ابن عباس وعند سليمان التيمي خمسة عشر وذكر ابن عقبة عن ابن شهاب اقام بالمدينة عشرين ليلة فى حديث المسور ومروان عند ابن اسحق انه عليه السلام قدم المدينة فى ذى الحجة فاقام بها حتى سار إلى خيبر فى المحرم وكان فتح خيبر فى سفر سنة سبع كذا فى المغازي للواقدى قال الحافظ انه الراجح نقل الحاكم عن الواقدي - .(1/6066)
وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها روى البخاري عن عائشة رض قالت لما فتحت خيبر قلنا الان نشبع من التمر وعن ابن عمر قال ما شبعنا من التمر حتى فتحت خيبر قال الحافظ محمد بن يوسف الصالحي ان خيبر اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثيرة على ثلثة ايام من الحديبية على يسار حاج الشام وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها وهى الفتوح التي يفتح لهم إلى يوم القيامة فيه تسلية للمؤمنين انصرافهم من مكة بصلح فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعنى فتح خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قال البغوي وذلك ان النبي صلعم لما حاصر خيبر همت قبائل من بنى اسد وغطفان ان يغيروا على اعيال المسلمين وذراريهم بالمدينة فكف اللّه أيديهم بإلقاء الرعب فى قلوبهم وقال ابن اسحق كانت غطفان مظاهرين يهود خيبر على رسول اللّه صلعم فبلغنى ان غطفان لما سمعوا بمنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خيبر خرجوا ليظاهروا يهود عليه فلما ساروا سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا ظنوا ان القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فاقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول اللّه صلعم وبين خيبر وروى ابن قانع والبغوي وأبو نعيم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 24(1/6067)
فى العرفة عن سعيد بن شتيم عن أبيه رض انه كان فى جيش عيينة بن حصين فى خيل غطفان لما جاء يمر خيبر قال فسمعنا صوتا فى عسكر عيينة أيها الناس أهليكم خولفتم فيه قال فرجعوا لا يتناظرون فلم تر لذلك بنا وما تراه كان الا من قبل السماء وقيل كف الناس عنكم يعنى باهل مكة بالصلح وَلِتَكُونَ عطف على محذوفه لتكف أو فجعل أو لتاخذوا تقديره لتسلموا أو تغنمو لتكون أو علة لمحذوف تقديره وفعل ذلك لتكون الكفة أو الغنيمة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ على صدقك فيما وعدتهم من فتح مكة وغير ذلك وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة لفضل اللّه والتوكل عليه أو المعنى يثيتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقينا - قصة غزوة خيبر انه صلى اللّه عليه وسلم استخلف على المدينة سباع بن عرفطة كذا روى احمد وابن خزيمة والحاكم عن أبى هريرة ولما تجهز النبي صلى اللّه عليه وسلم والناس شق على يهود المدينة ولم يبق أحد من يهود المدينة له على أحد من المسلمين حق الا لزمه روى احمد والطبراني عن أبى جدر وانه كان لابى شحم اليهودي عليه خمسة دراهم فلزمه فقال أجلني فانى أرجو ان اقدم عليك فاقضيك حقك قد وعد اللّه نبيه ان يغنم خيبر فقال أبو شحم أ تحسب ان قتال خيبر مثل قتال ما تلقون من الاعراب والتوراة فيها عشرة آلاف مقاتل وترافعا إلى رسول اللّه صلعم فقال عليه السلام أعطه حقه فخرجت فبعث ثوبى بثلاثة دراهم الحديث ولما وصل رسول اللّه صلعم إلى الصهاء وهى ادنى خيبر دعانا لازواد فلم يوت الا السويق فثرى فاكل وأكلنا معه ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ رواه البخاري والبيهقي قال محمد بن عمر وثم سار النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى اتى إلى المنزلة التي وهى يسوق لخيبر صارت فى سهم زيد بن ثابت فعرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها ساعة من الليل وكانت يهود لا يظنون قبل ذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يغزوهم(1/6068)
لمنعتهم وسلاحهم وعدوهم فلما أحسوا الخروج النبي صلعم كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفا ثم يقولون محمد تغيرونا هيهات هيهات وكان ذلك شانهم - فلما نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس فاصبحوا وافئدتهم تحقق وفتحوا حصونهم - وفى الصحيحين سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى خيبر فانتهى إليها ليلا وكان عليه السلام إذا طرق قوما لم يغتر عليهم حتى يصبح فإذا سمع اذانا امسك وإذا لم يسمع أغار حتى يصبح فصلنا الصبح عند خيبر بغلس فلم يسمع اذانا فلما أصبح ركب وركب المسلمون وخرج أهل قرية إلى مزارعهم بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأو رسول اللّه صلعم قالوا محمد والخميس فادبروا هاربين فقال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 25
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورفع يديه اللّه اكبر خربت خيبر انا إذا أنزلنا بساحة قوم فساع صباح المنذرين وابتدأ باهل نطاة وصف رسول اللّه صلعم ووعظهم و(1/6069)
نهاهم عن القتال حتى يأذن لهم فعمد رجل من أشجع على يهودى وحمل عليه اليهودي فقتله فقال الناس استشهد فلان فقال رسول اللّه صلعم بعد ما نهيت من القتال قالوا نعم فامر رسول اللّه صلعم مناديا فنادى فى الناس لا تحل الجنة لعاص - وروى الطبراني عن جابر ان رسول اللّه صلعم قال يومئذ لا تتمنوا لقاء العدو واسئلوا اللّه العافية فانكم لا تدرون ما تبتلون به فإذا لقيتم فقولوا اللهم ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك وانما تقتلهم أنت ثم الزموا الأرض جلوسا فإذا عشوكم فانهضوا وكبروا الحديث - قال ابن اسحق ومحمد بن عمرو بن سعيد فرق رسول اللّه صلعم الرايات واذن للناس فى قتال وحثهم على الصبر وأول حصن حاصره من النطاة ناعم وقاتل أشد القتال وقاتله أهل نطاة أشد القتال فلما امسى تحول له إلى الرجيح فكان رسول اللّه صلعم يغدوا على راياتهم حتى فتح اللّه الحصن عليهم روى البيهقي وأبو نعيم ومحمد بن عمران المسلمين لما قدموا خيبر قدموا على ثمرة خضراء وهى ديئية وختمة فاكلوا منها فاخذهم الحمى فشكوا إلى رسول اللّه صلعم فقال فرسوا الماء فى الشنان فإذا كان بين الاذانين يعنى من الصبح فاحدروا الماء واذكروا اسم للّه فكانما نشطوا من العقل وبعد فتح ناعم حاصر وأحصن الصعب بن معاذ - روى محمد بن عمر عن أبى أيسر كعب بن عمر انهم حاصروه ثلثة ايام وكان حصنا منيعا - روى ابن اسحق عن رجل من اسلم ومحمد بن عمر عن معتب الأسلمي قال أصابتنا معشر اسلم مجاعة حتى قدمنا خيبروا قمنا عشرة ايام على حصن النطاة لا يفتح شيئا فيها طعام فارسلوا اسماء بن حارشة إلى رسول اللّه صلعم فقال ان اسلم يقرأ عليك السلام ويقول انا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع اللّه لنا فقال رسول اللّه صلعم ما بيدي ما أقوتهم به قد علمت حالهم ثم قال اللّهم فافتح عليهم الأعظم حصنا فيها أكثره ودكاو دفع اللواء إلى حباب بن المنذر وندب الناس فما رجعنا حتى فتح اللّه(1/6070)
حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن اكثر طعاما وودكا منه بزر لحباب يوشع اليهودي فقتله حباب ثم برزله الزيال فبادره عمارة بن عقبة الغفاري فقال الناس بطل جهاده فقال عليه الصلاة والسلام ما بأس به يوجر ويحمد - روى محمد بن عمرو عن جابر انهم وجدوا فى حصن الصعب من الطعام ما يكونوا يظنون من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك ونادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلوا وامقلوا ولا تحملوا يعنى لا تخرجوا به إلى بلادكم - روى البيهقي عن محمد بن عمرو قال لما تحولت اليهود من حصن الناعم وحصن الصعب بن معاذ إلى قلة الزبير يعنى حصن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 26(1/6071)
الزبير بن العوام رض الذي صار فى سهمه بعد وهو حصن على راس قلة فاقام محاصرهم ثلثة ايام فجاء اليهودي يدعى غزال فقال يا أبا قاسم توصننى على ان ادلك على ما تستريح به من أهل ونخرج إلى الشق فان أهل الشق قد هلكوا رعبا منك فامنه رسول اللّه صلعم على اهله وماله فقال اليهودي انك لو أقمت شهرا ما بالولهم ذبول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها تم يرجعون إلى قلعتهم فيمنعون منك فان قطعت عنهم شربهم اصحروا لك فسار رسول اللّه صلعم إلى ذبولهم فقطعها فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا وقاتلوا أشد القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من اليهود ذلك اليوم عشرة وافتحه رسول اللّه صلعم وكان هذا آخر صون النطاة فلما فرغ من النطاة تحول إلى الشق وأول حصن بدأ به منها حصن على قلعة يقال لها سموان فقاتل عليها أهل الحصن قتالا شديدا خرج رجل من اليهود يقال له غزول فقتله حباب بن المنذر فخرج رجل اخر من يهود فقتله أبوه دجانة وأخذ درعه وسيفه وجاء به إلى رسول اللّه صلعم فنقله رسول اللّه صلعم ذلك واحجم اليهود عن البراز فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه يقدمهم أبو دجانة فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما فهرب من كان فيه من المقاتلة حتى صاروا إلى حصن النزل بالشق وجعل يأتي من بقي من خل النطاة إلى حصن النزال فغلقوه وامتنعوا فيه أشد الامتناع وزجف رسول اللّه صلعم فى أصحابه فقاتلهم وكانوا أشد أهل الشق رميا للمسلمين بالنبل والحجارة و(1/6072)
رسول اللّه صلعم معهم حتى أصاب النبل ثياب النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلقت به فاخذ رسول اللّه صلعم النبل فجمعها ثم أخذ لهم كفا من حصى فحصب به حصنهم فرجف الحصن بهم ثم ساخ فى الأرض حتى المسلمون فاخذوا اهله أخذا ولما فتح رسول اللّه صلعم حصون النطاة والشق انهزم من سلم منهم إلى حصون الكثيبة وأعظم حصونها القموص وكان حصنا منيعا ذكر ابن أبى عقبة ان رسول اللّه صلعم حاصره قريبا من عشرين ليلة وكانت أرضا وخمسة روى الشيخان عن سهل بن سعد والبخاري وأبو نعيم عن سلمة بن الأكوع وأبو نعيم عن عمرو ابن عباس وسعد بن أبى وقاص الخدري وعمران بن حصين وجابر بن عبد اللّه ومسلم والبيهقي عن أبى هريرة واحمد وأبو يعلى والبيهقي عن على وأبو نعيم والبيهقي عن بريدة قال بريدة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يأخذه الشقيقة فيمكث اليوم واليومين ولا يخرج فلما نزل خيبرا أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فارسل أبا بكر فاخذ راية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقاتل قتالا شديدا ثم نهض فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول ثم رجع ولم يكن فتح وفى حديث على
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 27(1/6073)
ان الغلبة كانت لليهود فى اليومين فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك فقال لاعطين الراية غدا رجلا يفتح اللّه عليه ليس بفرار يحب اللّه ورسوله ويأخذها عنوة وقال بريدة فتباطينا نفسا ان يفتح غدا ويأت الناس ليلتهم أيهم يعطى فلما أصبح غد وأعلى رسول اللّه صلعم كلهم يرجوا ان يعطيها قال أبو هريرة قال عمر فما أحببت الامارة قط حتى كان يومئذ فلما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصلى صلوة الغداة ثم دعا باللواء وقام قائما قال ابن شهاب فوعظ الناس ثم قال اين على رض قالوا تشتكى عينه فارسلوا إليه قال سمة فجئت به أقوده فقال له رسول اللّه صلعم مالك قال زمدت حتى لا ابصر ما قدامى قال ادن منى وفى حديث على عند الحاكم فوضع راسى فى حجره ثم بزق فى يده فدلك بها عينى قالوا فبرء كان لم يكن به وجع قط فما وجمعهما حتى مضى لسبيله ودعا له وأعطاه الراية قال يا رسول اللّه أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا قال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليه من حق اللّه وحق رسوله فو اللّه لان يهدى اللّه بك رجلا واحدا خير من ان يكون لك حمر النعم فخرج على حتى ركزها تحت الحصن فاطلع يهودى من راس الحصن فقال من أنت قال على قال اليهودي غلبتم والذي انزل التوراة على موسى فما رجع حتى فتح اللّه على يديه - روى محمد بن عمرو عن جابر قال أول من خرج من حصون خيبر مبارزا الحارث أخو مرحب فقتله على رضى اللّه عنه ورجع اصحاب الحارث إلى الحصن وبرز عامر وكان رجلا طويلا جسيما فقال النبي صلعم طلع عامرا ترونه خمسة اذرع وهو يدعو إلى البراز فخرج إليه على بن أبى طالب فقتله ثم برز ياسر فبرز له على بن أبى طالب فقال له الزبير بن العوام أقسمت عليك الا خطية بينى وبينه ففعل فقالت صفية لما خرج إليه الزبير قلت يا رسول اللّه يقتل ابني فقال رسول اللّه صلعم بل ابنك يقتله إنشاء اللّه تعالى فقتله الزبير فقال(1/6074)
عليه السلام فداك عم وقال لكل نبى حوارى وحوارى الزبير وفى حديث سلمة بن الأكوع خرج مرحب يرتجز فقتله على - وروى احمد عن على قال لما قتلت مرحبا جئت برأسه إلى رسول اللّه صلعم - وروى البيهقي ومحمد بن عمرو عن جابر بن عبد اللّه ان محمد بن مسلمة قتل مرحبا والصحيح ما فى صحيح مسلم ان عليا قاتله وروى ابن اسحق عن أبى رافع مولى رسول اللّه صلعم قال خرجنا مع على رض حين بعثه رسول اللّه صلعم فلما دنى من الحصن خرج إليه اهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده فتناول على رض بابا كان عند الحصن فترس به من نفسه فلم يزل بيده وهو يقاتل حتى فتح اللّه ثم ألقاه من يده حين فرغ فلقد رايتنى فى نفر سبعة إناثا منهم نجهد على ان نقلب ذلك الباب فلم نقليه - وروى البيهقي
من طريقين عن المطلب بن زياد عن ليث بن سليم عن أبى جعفر محمد ابن على عن ابائه قال حدثنى جابر بن عبد اللّه ان عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد عليه المسلمون
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 28(1/6075)
فافتتحوها وانه جرب ذلك فلم يحمله أربعون رجل ورجاله ثقات الا ليث بن سليم هو ضعيف قال البيهقي وروى من وجه اخر ضعيف عن جابر قال اجتمع عليه سبعون رجلا وكان جهدهم ان أعاد والباب - وقال الصالحي قال ورواه الحاكم واللّه اعلم وأصاب من العموص حصن أبى الحقيق سبايا منهم صفية بنت حيى بن اخطب جاء بلال بها وبأخرى معها فمر بهما على قتلى يهود فلما راتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على راسها فلما راها رسول اللّه صلعم قال اعزبوا هذه الشيطانة وامر بصفية فخرجت خلفه والقى عليها ردائه فعرف المسلمون ان رسول اللّه صلعم اصطفاها لنفسه وقال رسول اللّه صلعم لبلال لما راى من تلك اليهودية ما راى انزعت منك الرحمة يا بلال جئت ثمه بامرأتين على قتلى رجالهما وكانت صفية قد رأت فى المنام وهى عروس بكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق ان قمر أوقع فى حجرها فعرضت روياها على زوجها فقال يا هذا الا انك تتمنين ملك الحجاز محمدا فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها فيها فاتى رسول اللّه صلعم بها وبها اثر منها فسالها فاخبرته هذا الخبر وفى رواية جاء دحية فقال يا نبى اللّه أعطيني جارية من السبي فقال اذهب فخذ جارية فاخذ صفية بنت حيى فجاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبى اللّه أعطيت دحية بنت حيى سيدة قريضة والنضير لا تصلح الا لك قال ادعوه بها فجاء بها فلما نظر إليها النبي صلعم قال خذ جارية من السبي غيرها قال فاعتقها النبي صلعم وتزوجها حتى إذا كان الطريق جهزها له أم سلمة فاهدتها له من الليل فاصبح النبي صلعم عروسا فقال من كان عنده شىء فليجىء به وبسط نطعا فجعل الرجل يجىء بالتمر وجعل الاخر يجىء بالسمن قال واحسبه قد ذكر السويق فحاسو حيسا وكان وليمة رسول اللّه صلعم قال ثابت يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها وفى الصحيحين عن عبد اللّه بن أبى اوفى قال أصابتنا مجاعة ليالى خيبر فلما(1/6076)
كان يوم خيبر وقعنا فى الحمر الانسية فاننحرناها فلما غلت القدور نادى منادى رسول اللّه صلعم ان القوا القدور ولا تأكلوا لحوم الحمر شيئا - وعن ابن عباس قال نهى رسول اللّه صلعم عن بيع المغانم حتى تقسم وعن الحبالى ان توطأ حتى يضعن ما فى بطونهن قال أ تسقي زرع غيرك وعن لحوم الحمر الاهلية وعن لحم كل ذى ناب من السباع رواه الدارقطني روى محمد بن عمر وعدة الحمر التي ذبحوها كانت عشرين أو ثلثين - قال ابن اسحق كان رسول اللّه صلعم يأخذ الأموال مالا مالا ويفتحها حصنا حصنا حتى انتهوا إلى الحصنين الوطيح والسلالم وكانا اخر حصون خيبر فتحا فجعل اليهود لا يطلعون من حصنهم حتى هم رسول اللّه صلعم ان ينصب عليهم المنجنيق حين راى انه لا يبرز منهم أحد ولا أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول اللّه صلعم اربعة عشر يوما سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلح وأرسل كنانة بن أبى الحقيق رجلا من اليهود ويقال له شماخ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 29
فصالح رسول اللّه صلعم على حقن دماء من فى حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وارضها بذراريهم ويخلون بين رسول اللّه صلعم وبين ما كان لهم من مال وارض وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة وعلى التبر الا ثوبا على ظهر انسان فقال رسول اللّه صلعم برأت ذمة اللّه وذمة رسوله ان تكتمون شيئا فصالحوه على ذلك فقبضها رسول اللّه صلعم الأول فالاول وجد من ذينك الحصنين مائة درع واربعمائة سيف وخمسمائة قوس عربية بجعابها ووجد فى الكثيبة خمسمائة قوس بجعابها روى ابن سعد والبيهقي عن ابن عمر وابن سعد عن ابن عباس فذكر الصلح كما ذكرنا ان لا يكتموه شيئا فان فعلوا فلا ذمة لهم قال ابن عباس فاتى بكنانة بن أبى الحقيق لزوج صفية والربيع اخوه وابن عمه قال رسول اللّه صلعم ما فعل مسك حيى الذي جاء به النضير وكان مسكا مملوا من الحلي قالا أذهبه النفقات و(1/6077)
الحروب فقال العهد قريب والمال اكثر من ذلك فقال بهما رسول اللّه صلعم انكما ان كتمتمانى شيئا فان اطلعت عليه استحللت به دمائكما وذراريكما قال نعم قال عروة ومحمد بن عمر فيما روى البيهقي عنهما فاخبر اللّه تعالى نبيه بموضع الكنز وقال عليه الصلاة والسلام لكنانة انك مفتر بامر السماء فدعا رجلا من الأنصار وقال اذهب إلى فراخ كذا وكذا فانظر نخلة عن يمينك ونخلة عن شمالك فائتى بما فيها فجاء بالآنية والأموال فقومت بعشرة آلاف دينار فضرب أعناقهما وسبى أهلهما بالنكث الذي نكثاه روى البخاري عن ابن عمر والبيهقي عنه وعن عروة وعن موسى بن عقبة ان خيبر لما فتحها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا دعنايا محمد نكون فى هذا الأرض نضلحها ونقوم عليها ولم يكن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا لاصحابه غلمان وكانوا لا يفرغون ان يقوموا عليها فاعطاهم رسول اللّه صلعم على ان لهم الشطر من كل زرع ونخل وشىء ما بدأ لرسول اللّه صلعم فى لفظ نقركم على ذلك ما شئنا فى لفظ ما اقركم اللّه وكان عبد اللّه بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرجها عليهم ثم يقمنهم الشطر فشكوا إلى رسول اللّه صلعم ابن رواحة وأرادوا ان يرشوا ابن رواحة فقال يا اعداء اللّه أ تطمعوني السحت واللّه لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى ولانتم ابغض إلى من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملنى بغضي إياكم وحبى إياه على ان اعدل عليكم فقالوا بهذا اقامت السموات والأرض فاقاموا بأرضهم على ذلك فلما كان زمن عمر رض غشوا المسلمين والقوا عبد اللّه بن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه ويقال بل سحروه بالليل وهو نائم على فراشه فكوع حين أصبح كأنَّه فى وثاق وجاء أصحابه فاصلحوا من يديه فقام عمر خطيبا فى الناس فقال ان رسول اللّه صلعم عامل يهود خيبر على أموالهم وقال نقركم ما اقركم اللّه وان عبد اللّه بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدى عليه من الليل ففدعت يداه و(1/6078)
ليس لنا هناك عدو غيرهم وهم تهمنا وقد رأيت اجلائهم فمن كان له همّ بخيبر فليحضر حتى يقسمها فلما اجمع على ذلك قال رئيسهم وهو أحد بنى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 30
ابى الحقيق لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا أبو القاسم وأبو بكر فقال عمر رض لرئيسهم أ تراه سقط عنه قول رسول اللّه صلعم كيف بك إذا خرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة فقاتلك هزيلة من أبى القاسم قال كذبت واجلاهم عمر روى الشيخان عن انس واحد وابن سعد وأبو نعيم عن ابن عباس وغيرهم عن جابر وابى سعيد وابى هريرة والزهري ان زينب بنت الحارث امرأة لسلام بن مسكم ابنة أخي مرحب أهدت لصفية شاة مسمومة مصلية وقد قالت أى عضو الشاة أحب إلى رسول اللّه صلعم فقيل لها الذراع فاكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور فقدمت الشاة المصلية فتناول النبي صلى اللّه عليه وسلم الذراع فانتهس منها فلاكها وتناول بشر بن البراء عظما فانتهس منه قال ابن اسحق اما بشر فساغها واما رسول اللّه صلعم فلفظها وقال ابن شهاب فلما اشترط رسول اللّه صلعم لقمة اشترط بشر فقال رسول اللّه صلعم ارفعوا ايديكم فان كتف هذه الشاة تخبرني انى بقيت فيها فقال بشر بن البراء والذي أكرمك لقد وجدت كذلك فى أكلتي فما منعنى ان الفظها الا انى أعظمت ان بفضك طعاما فلها سحت ما فى فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك ورجوت ان لا تكون اشترطها وفيها بغى فلم يقم بشر من مقامه حتى عادلونه كالطيلسان ومات واحتجم رسول اللّه صلعم كامله يومئذ حجمه أبو هند وبقي رسول اللّه صلعم حتى كان وجعه الذي توفى فيه فقال مازلت أحد من الاكلة التي أكلت من الشاة المسمومة يوم خيبر حتى كان هذا أوان قطع أبهري فتوفى رسول اللّه صلعم شهيدا فارسل رسول اللّه صلعم إلى اليهودية أ سممت هذه الشاة فقالت من أخبرك قال أخبرتني هذا الذي فى يدى و(1/6079)
هى الذراع قالت نعم قال ما حملك على ما صنعت قالت بلغت من قومى ما لم يخفك عليك فقلت ان كان ملكا استرضا منه وان كان
نبيا فسيخبر فتجاوز عنها وروى عبد الرزاق فى مصنفه عن معمر عن الزهري انها أسلمت وتركها رسول اللّه صلعم وجزم بإسلامها سليمان التيمي ولفظ بعد قولها وان كنت كاذبا أرحت الناس منك وقد استبان بي انك صادق وانا أشهدك ومن حضرك انى على دينك وان لا اله الا اللّه وان محمدا عبده ورسوله قال فانصرف رسول اللّه صلعم عنها حين أسلمت ووقع عند البزاز من حديث أبى سعيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد سواله للمرأة اليهودية واعترافها بسط يده إلى الشاة وقال لاصحابه كلوا بسم اللّه قال فاكلنا وذكرنا اسم اللّه فلم يضر أحدا منا قال الحافظ حماد الدين فيه نكارة وغرابة شديدة وذكر محمد بن عمران رسول اللّه صلعم امر بلحم الشاة فاحرق وعن جابر ان رسول اللّه صلعم لما مات بشر بن البراء امر باليهودية فقتلت رواه أبو داود وعن محمد بن عمر بأسانيد له فدفعها إلى اولياء بشر بن البراء فقتلوها قال البيهقي يحتمل انه تركها اولا وقال السهيلي تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه ثم قتلها ببشر قصاصا قال الحافظ تركها لكونها أسلمت
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 31(1/6080)
و انما اخّر قتلها حتى مات بشر لان بموته يتحقق وجوب القصاص - قصة قدوم جعفر - عن أبى موسى الأشعري قال لما بلغنا مخرج النبي صلعم يعنى من مكة ونحن باليمن خرجنا مهاجرين إليه فالقتنا سفينتنا بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبى طالب رض فقال جعفر ان رسول اللّه صلعم بعثنا وأمرنا بالإقامة فاقيموا معنا فاقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا رسول اللّه صلعم حين فتح خيبر فاسهم لنا وما قسم لاحد غاب عن فتح خيبر شيئا الا لمن شهد معه الا اصحاب سفينتنا ولما قدم جعفر قال رسول اللّه صلعم واللّه لا أدرى بايهما افرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ولما نظر جعفر إلى رسول اللّه صلعم خجل وقال رسول اللّه صلعم لاصحاب جعفر لكم هجرتان وقيل رسول اللّه صلعم جعفر بين عينة رواه البيهقي قصة قدوم أبى هريرة والادسيين وعن أبى هريرة قدمت المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس ثم جئنا خيبر وقد فتح رسول اللّه صلعم النطاة وهو محاصر لكثيبة فاقمنا حتى فتح اللّه علينا فكلم المسلمين فاشركنا فى سهمانهم رواه احمد والبخاري فى التاريخ والحاكم والبيهقي وابن خزيمة والطحاوي - قصة فدك - فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول اللّه صلعم بخيبر بعثوا إلى رسول اللّه صلعم يسألونه الصلح ان يسيرهم ويحقن لهم دفائهم ويخلو الأموال ففعل على انا إذا شئنا أخرجناكم فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت خيبر للمسلمين وكانت فداء خالصة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لانهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب فاجلاهم عمر لما اجلى يهود خيبر - قسمة خيبر - ولما كان فتح الوطيع والسلالم بالصلح فكان هذا لنوائب المسلمين واعطفى منه رسول اللّه صلعم الأشعري بين الدوسيين اصحاب السفينتين وهو المراد من قول موسى بن عقبة ان بعض خيبر كان صلحا وكان مشاورة رسول اللّه صلعم أهل الحديبية فى اعطائهم ليس استنزالهم عن شىء من حقهم وانما هى المشورة العامة وشاورهم فى الأمر قال ابن اسحق و(1/6081)
كانت المقاسم على اموال خيبر على الشق والنطاة والكثيبة وكانت الكثيبة خمس اللّه سهم النبي صلعم وذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وطعم ازواج النبي صلعم وطعم رجال مشوا بين رسول اللّه صلعم وبين أهل فدك بالصلح منهم محيصة بن مسعود أعطاه ثلثين وسقا من شعير وثلثين وسقا من تمر وكانت النطاة والشق فى أسهم الغزاة جزاها رسول اللّه صلعم ثمانية عشر سهما نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلثة عشر سهما قسمت على أهل الحديبية من شهد خيبر منهم ومن غاب عنها ولم يغب عنها الا جابر بن عبد اللّه بن حرام قسم له كسهم من حضر كانوا الفا واربعمائة رجلا ومائتى فرس كان لفرس سهما ولفارسه سهم وكان لكل رجل سهم وكان سهم رسول اللّه صلعم كسهم أحدهم وكان لكل سهم من سهام خيبر ثمانية عشر راسا جمع إلى راس مائة سهم كان على بن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 32
ابى طالب راسا والزبير بن العوام راسا وسره ذلك ابن اسحق إلى آخره - قال ابن سعد امر رسول اللّه صلعم فجزى غنائم
خيبر خمسة اجزاء فكتب فى سهم منها للّه وسائر السهمان اغفال وقسم اربعة اخمس على ثمانية عشر سهما كل مائة رجل وللخيل اربعة أسهم - قصة فتح وادي القرى - لما انصرف رسول اللّه صلعم من خيبر إلى وادي القرى فدعا أهلها إلى الإسلام فامتنعوا ففتحها رسول اللّه صلعم عنوة وغنمه بعالى اموال أهلها وأصاب المسلمون منها أثاثا ومتاعا فخمس رسول اللّه صلعم ذلك وترك الأرض فى أيدي اليهود وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر.(1/6082)
وَ أُخْرى منصوب عطفا على مغانم كثيرة يعنى أوعدكم مغانم اخرى أو عطفا على هذه يعنى عجل لكم مغانم اخرى بعد هذا أو يفعل محذوف يفسره قد أحاط اللّه بها يعنى قضى لكم مغانم اخرى وعلى التقادير كلها قوله تعالى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صفة اخرى وجاز ان يكون اخرى مرفوعا على الابتداء ولم تقدروا عليها صفة له وقوله تعالى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها خبر المبتدا أو يكون لم تقدروا عليها خبر المبتدا وقد أحاط اللّه حال من الضمير فى عليها والمراد بمغانم فارس والروم وما كانت العرب يقدر على قتال فارس والروم وكان قولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام كذا قال ابن عباس والحسن والمقاتل وقال قتادة هى مكة وقال عكرمة حنين وقال مجاهد كل ما فتح اللّه بعد ذلك وقد أحاط اللّه بها أى استولى فاظفركم أو أحاط اللّه بها علما ان يفتحها لكم وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً وان لم تقدروا عليها.
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة ولم يصالحوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم وَلا نَصِيراً ينصرهم.
سُنَّةَ اللَّهِ منصوب على المصدرية يعنى سن اللّه سنة غلبة أوليائه وأنبيائه على أعدائه قال اللّه تعالى لاغلبن انا ورسلى وقال ان حزب اللّه هم المفلحون ان حزب اللّه هم الغالبون الَّتِي قَدْ خَلَتْ أى مضت تلك السنة قديما فى الأمم السابقة مِنْ قَبْلُ هذا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغيرا.(1/6083)
وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ يعنى كفار مكة عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ قدمو فيما سبق من حديث انس ان ثمانين رجلا من أهل مكة وفى رواية سبعين هبطوا من جبل التنعيم فاخذوا فعفى النبي صلعم عنهم فنزلت هذه الآية ومن حديث عبد اللّه بن مغفل وفيه إذ خرج علينا ثلثون شابا الحديث ومن حديث مسلم بن اكوع اخترطت سيفى على اربعة الحديث وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ قرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الكفار والباقون بالتاء
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 33
على الخطاب للمؤمنين بَصِيراً فيجازى كلا على حسب ما فعل.(1/6084)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ان تطوفوه وَالْهَدْيَ وهى ما يهدى إلى مكة من الإبل والبقر والشاة مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ الهدى معطوف على الضمير المنصوب فى صدوكم وان يبلغ معطوف على عن المسجد الحرام فتقدير عن من قبيل العطف على معمولى عامل واحد بحرف واحد وجاز ان يكون ان يبلغ متعلقا بمعكوفا بتقدير من ومعكوفا حال من الهدى مَحِلَّهُ يعنى الحرام فانه موضع حلول اجله احتج الحنفية على انه لا يجوز ذبح الهدايا الا فى الحرم والمحصر يرسل الهدى إلى مكة وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ... وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ يعنى لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين أو لم تعلموهم مؤمنين ورجال مبتداء موصوف بصفات بعد لو لا الامتناعية أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال من المبتدا بتقدير المضاف والخبر محذوف يعنى هو موجودين بمكة وجواب لو لا محذوف اغنى عنه جواب لو تزيلوا يعنى لو لا كراهة ان تطؤ المؤمنين عند نصرنا وغلبتكم عليهم لعذبنا الذين كفروا بالقتل والاسر فَتُصِيبَكُمْ عطف على تطؤهم مِنْهُمْ أى من جهنم مَعَرَّةٌ قال ابن زيد اثم فان قتل الخطأ لا يخلوا عن اثم كما يدل عليه وجوب الكفارة وقال ابن اسحق غرم الدية وقيل الكفارة وقيل معناه الحرب واطلق هاهنا على المضرة مطلقا تشبيها بالحرب ومن المضرة التأسف على قتل المؤمنين وتعيير الكفار بذلك بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بان تطؤهم أو تصيبكم على سبيل التنازع أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبى جمعة جنيد بن سبع قال قاتلت النبي صلعم أول النهار كافرا وقاتلت معه اخر النهار مسلما وكنا ثلثة رجال وسبع نسوة وفينا نزلت وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ ...(1/6085)
لِيُدْخِلَ اللَّهُ متعلق بمحذوف دل عليه السياق أى كان ذلك المنع من دخول مكة عنوة ليدخل اللّه فِي رَحْمَتِهِ أى فى دينه وجنته مَنْ يَشاءُ من أهل مكة فقدا من كثير من المشركين يوم الفتح وقيل ذلك أو المعنى ليدخل اللّه المؤمنين المستضعفين فى رحمة الدنيوية من العافية وطول البقاء لَوْ تَزَيَّلُوا أى تفرقوا وامتاز المسلمون من الكفار لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أى من أهل مكة فى الدنيا بالقتل والاسر - عَذاباً أَلِيماً إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظرف متعلق بقوله عذبنا أو صدوكم أو مفعول لمحذوف أى اذكر.
فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حين صدوا رسول اللّه صلعم عن الطواف وأنكروا بسم اللّه الرحمن الرحيم وأنكروا محمدا رسول اللّه قال مقاتل قال أهل مكة قد قتلوا أبنائنا وإخواننا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 34(1/6086)
ثم يدخلون علينا فتحدث العرب انهم دخلوا علينا على رغم انفنا واللات والعزى لا يدخلونها فهذه حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ بدل من الحمية فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ حيث اطمئنوا وامتثلوا امر اللّه تعالى فى المنع عن القتال مع قدرتهم عليه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدى وابن زيد واكثر المفسرين انها لا اله الا اللّه واللّه اكبر وقال عطاء ابن أبى رباح هى لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير قال عطاء الخراسانى هى لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه وقال الزهري هى بسم اللّه الرحمن الرحيم والمال واحد واضافة الكلمة إلى التقوى لانها سبب التقوى وأساسها والمراد كلمة أهل التقوى المراد بالزامهم إياها ثباتهم عليها بترك الحمية وَكانُوا أَحَقَّ بِها من كفار مكة وَأَهْلَها يعنى كانوا أهلها فى علم اللّه تعالى ولذلك اختارهم لتائيد دينه وصحبة نبيه صلعم وهذه الآية وقوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ يبطل مذهب الروافض حيث يدعون كفر الصحابة رض ونفاقهم دمرهم اللّه تعالى - وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ حتى بما أضمره الصحابة رض من الايمان وحب رسول اللّه صلعم عَلِيماً ولما وقع الصلح وتقرر الرجوع إلى المدينة بغير دخول مكة وقد كان رسول اللّه صلعم راى رؤيا ان يدخلها كما ذكرنا فى القصة قال الصحابة رض اين روياك يا رسول اللّه فنزلت.(1/6087)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا كذا ذكر البيهقي وغيره عن مجاهد والجملة جواب قسم محذوف أورد بصيغة الماضي والمراد به المستقبل ليدل على القطع فى وقوعه قال الجوهري الصدق والكذب يكونان فى القول يعنى الخبر إذا طابق الواقع كان صدقا والا كذبا ويستعملان فى الفعل أيضا فالصدق بمعنى التحقيق قال اللّه تعالى رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه يعنى حققوا العهد وفى هذه الآية أيضا صدق فعل يعنى حقق اللّه رؤيا الرسول اللّه صلعم وعلى هذا الرؤيا بدل اشتمال من رسوله وجاز ان يكون رسوله منصوبا بنزع الخافض يعنى حقق لرسوله الرؤيا أيضا قال الجوهري الصدق قد يتعدى إلى مفعولين قال اللّه تعالى لقد صدقكم اللّه وعده وعلى هذا رسوله المفعول الأول والرؤيا مفعوله الثاني وقال البيضاوي معناه صدقه فى رؤياه قال فى المدارك حذف الجار وأوصل الفعل - بِالْحَقِّ أى متلبسا بالحق أى الحكمة البالغة حال من الرؤيا أو صفة لمصدر محذوف أى صدقا متلبسا بالحق وهو القصد إلى التمييز بين الثابت على الايمان والمتزلزل فيه وجاز ان يكون بالحق قسما اما باسم اللّه تعالى أو بنقيض الباطل وجوابه لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ وعلى الأولين هذا ما قسم محذوف وقال ابن كيسان لتدخلن من قول رسول اللّه صلعم لاصحابه حكاية عن روياه فاخبر اللّه تعالى عن رسوله انه قال ذلك وجاز ان يكون من
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 35(1/6088)
قول ملك الرؤيا حكاه اللّه تعالى وعلى التقديرين تقييده إِنْ شاءَ اللَّهُ مع كون الرسول صلعم والملك على يقين منه تادبا بآداب اللّه تعالى حيث قال اللّه تعالى ولا تقولن لشىء انى فاعل ذلك غدا الا ان يشاء اللّه قال أبو عبيدة ان بمعنى إذ مجازه إذ شاء اللّه وقال الحسين بن الفضيل يجوز ان يكون الاستثناء من الدخول لان بين الرؤيا وتصديقها كانت سنة وقد مات فى تلك السنة فمجاز الآية ليدخلن المسجد الحرام كل واحد منكم إنشاء اللّه آمِنِينَ حال من فاعل لتدخلن والشرط مفترض مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ يعنى محلقين قوم منكم جميع شعور رؤسهم ومقصرين آخرين بعض شعورها حالان من الضمير فى امنين أو حال مقدرة من فاعل لتدخلن لا تَخافُونَ حال مؤكدة لامنين أو استيناف يعنى لا تخافون بعد ذلك فَعَلِمَ الفاء للسببية عطف على محذوف تقديره اخر الدخول لحكمة فعلم من الحكمة فى التأخير ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ عطف على اخر المقدر مِنْ دُونِ أى اقرب من ذلِكَ الدخول فَتْحاً قَرِيباً يعنى فتح خيبر أو صلح الحديبية.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أى متلبسا به أو السببية أو لاجله وَدِينِ الْحَقِّ أى دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعنى جنس الأديان كلها بنسخ ما كان حقا واظهار فساد ما كان باطلا بالحجج والآيات أو بتسليط المسلمين على أهلها فى وقت من الأوقات وَكَفى بِاللَّهِ الباء زائدة شَهِيداً حال من اللّه أو تميز من النسبة يعنى كفى اللّه شاهدا أو كفى شهادة اللّه على ما وعد من الفتح أو على رسالة الرسول بإظهار المعجزات على يديه وفى هذه الآية تأكيد لما وعد من دخول المسجد الحرام وكلتاهما تاكيدان لقوله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ وما بينهما معترضات.(1/6089)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جملة مبنية للمشهود به ويجوز ان يكون رسول اللّه صفة ومحمد خبر مبتداء محذوف أى هو الذي أرسله بالهدى محمد أو مبتدأ وقوله تعالى وَالَّذِينَ مَعَهُ معطوف عليه وما بعده خبرهما والموصول مبتداء وما بعده خبره والجملة معطوف على الجملة أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ امتثالا لامر اللّه تعالى حيث قال يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وقال لا تأخذكم بهما رافة فى دين اللّه وقال ومن يتولهم منكم فانه منهم وأمثال ذلك كثيرة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يعنى يتراحمون فيما بينهم ويتوادون حبا للّه ولرسوله فان محب المحبوب محبوب فى الحديث القدسي اين المتحابون فى جلالى اليوم أظلهم تحت ظلى يوم لا ظل الا ظلى رواه مسلم عن أبى هريرة مرفوعا - وسيجيئ قوله صلعم من أحبهم فبحبى أحبهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 36(1/6090)
و نظير هذه الآية قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ رغم انف الروافض الذين يزعمون ان اصحاب محمد كانوا يتباغضون بينهم تَراهُمْ يا محمد رُكَّعاً سُجَّداً لاشتغالهم بالصلوة فى كثير من الأوقات فان الصلاة معراج المؤمنين حالان مترادفان من ضمير المنصوب فى ترهم وكذلك يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ الثواب بالجنة وروية اللّه تعالى وَرِضْواناً منه تعالى سِيماهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مبتداء وخبر والجملة خبر لما سبق مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ط حال من الضمير المستكن فى الظرف قال قوم هو نور وبياض وجوههم يوم القيامة يعرفون به انهم سجدوا فى الدنيا وهى رواية العوفى عن ابن عباس وقال عطار بن أبى رباح والربيع بن انس استنارت وجوههم فى الدنيا من كثرة الصلاة وقال شهر بن حوشب يكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر يعنى فى الاخرة وقال قوم هو السمت الحسن والخشوع والتواضع وهى رواية الوالبي عن ابن عباس وهو قول مجاهد وقال الضحاك صفرة الوجه من السهر وقال الحسن إذا راتهم حسبتهم مرضى وما هم مرضى وقال عكرمة وسعيد بن جبير هو اثر التراب على الجباه - وقال أبو العاليه لانهم كانوا يسجدون على التراب دون الأثواب يعنى تواضعا ذلِكَ المذكور مَثَلُهُمْ صفتهم فِي التَّوْراةِ قال البغوي هاهنا تم الكلام - ثم ذكر اللّه سبحانه ما فى الإنجيل من نعتهم فقال وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ إلخ وجاز ان يكون مثلهم فى الإنجيل معطوفا على مثلهم فى التوراة يعنى ذلك مذكور فى الكتابين ويكون قوله تعالى كَزَرْعٍ إلخ تمثيلا مستانفا وجاز ان يكون ذلك الاشارة مبهمة يفسرها قوله تعالى كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ الجملة مع ما عطف عليه صفات زرع قرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتح الطاء والباقون بإسكانها وهما لغتان بمعنى فروع الزرع أى أول ما خرج من الحب فَآزَرَهُ(1/6091)
فَاسْتَغْلَظَ أى صار من الرقة إلى الغلظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ جمع ساق قرأ ابن كثير سئوقه بالهمزة والباقون بغير الهمزة يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بكثافته وغلظه وقوته وحسن منظره هذين المثلين ضربهما اللّه تعالى لاصحاب محمد صلعم لكن الأول منهما يصدق على غير الصحابة أيضا من خيار الامة والثاني منهما مختص بالصحابة لا يشارك فيه أحد غيرهم فان اللّه سبحانه أرسل محمدا صلعم وحده كالزراع بذر فى الأرض فامن به أبو بكر وعلى وبلال ورجال متعددون بعدهم منهم عثمان وطلحة والزبير والسعد وسعيد وحمزة وجعفر وغيرهم حتى كان عمر متمم أربعين رجلا كزرع أخرج شطأه فكان الإسلام فى بدوّ الأمر غريبا كاد الكفار يكونون عليه لا محائه لبدا لو لا حماية اللّه تعالى فازره اللّه تعالى بمجاهدات الصحابة من المهاجرين والأنصار حين سقوا زرع الدين
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 37
بدمائهم فى حيوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعد وفاته لا سيما فى خلافة أبى بكر وعمر فاستوى الدين على سوقه وظهر على الدين كله واستغنى عن حماية غيرهم بحيث يعجب الزراع حتى قال اللّه تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً - وقال عليه الصلاة والسلام لا يجتمع أمتي على الضلالة وقال لا يزال من أمتي قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم ومن خالفهم ولاجل هذه الخصوصية سبقوا فى مضمار الفضل على كل سابق بحيث لا يمكن لاحد من الا فاضل ان يبلغ درجة أى منهم حتى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد(1/6092)
أحدهم ولا نصفه متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدري وروى احمد نحوه من حديث انس وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من أصحابي يموت بأرض الا بعث قايدا ونور الهم يوم القيامة رواه الترمذي عن بريدة وهذه الخصوصية هى مادة الفضل غالبا فيما بين الصحابة فمن كان اسبق ايمانا كابى بكر أو اكثر موازرة للدين حين ضعفه كعمر كان أفضل ممن ليس كذلك - قال اللّه تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وقال اللّه تعالى السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وقد استوفيا فضايل الصحابة عموما وخصوصا ونقلا وعقلا فى السيف المسلول واللّه تعالى أعلم - قال البغوي هذا مثل ضربه اللّه عز وجل لاصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فى الإنجيل انهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون قال قتادة مثل اصحاب محمد فى الإنجيل مكتوب انه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقيل الزرع محمد والشطأة أصحابه والمؤمنون - وروى عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال محمد رسول اللّه والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر بن الخطاب رحماء بينهم عثمان بن عفان ترهم ركعا سجدا على بن أبى طالب يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا - بقية العشرة المبشرة بالجنة كمثل زرع محمد صلى اللّه عليه وسلم أخرج شطأه أبو بكر فازره عمر فاستغلظ عثمان للاسلام فاستوى على سوقه على بن أبى طالب استقام الإسلام بسيفه يعجب الزراع - فى المدارك عن عكرمة أخرج شطأه بابى بكر إلخ نحو ما ذكر واللّه تعالى أعلم - قال البغوي قال عمر لاهل مكة بعد ما اسلم لا يعبد اللّه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 38(1/6093)
سرّا بعد هذا اليوم لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ط الضمير فى بهم عايد إلى الذين معه أو إلى شطأ من حيث المعنى فان المراد بالشطأ الذي خرج بعد الزرع الداخلون فى الإسلام والجار والمجرور متعلق بمحذوف دل عليه السياق يعنى جعلهم اللّه أشداء ورحماء وكثرهم وقويهم وقوى بهم الإسلام ليغيظ بهم الكفار يعنى غيظا للكافرين قال انس بن مالك رض من أصبح وفى قلبه غيظ على اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية وعن عبد اللّه بن مغفل المزني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه اللّه فى أصحابي اللّه اللّه لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن ابغضهم فببغضى ابغضهم ومن اذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى اللّه ومن أذى اللّه فيوشك ان يأخذه رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان سرك ان تكون من أهل الجنة فان قوما ينتحلون حبك يقرؤن لا يجاوز تراقيهم نبزهم الرافضة فان أدركتهم فجاهدهم فانهم مشركون - رواه البغوي والدارقطني وفى اسناده نظر - وقد ورد فى فضائل الصحابة عموما وخصوصا مالا يكاد يحصى - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ كلمة من للبيان والضمير يعود إلى ما يعود إليه ضمير بهم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً تنكير مغفرة واجر للتعظيم وقد انعقد الإجماع على ان الصحابة كلهم عدول وكلهم مغفور لهم - واللّه اعلم.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 39(1/6094)
سورة الحجرات
مدنيّة وهى ثمانى عشرة اية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ربّ يسّر وتمّم بالخير روى البخاري وغيره من طريق ابن جريج عن أبى مليكة ان عبد اللّه بن الزبير أخبره انه قدم ركب من بنى تميم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أبو بكر امر القعقاع بن معبد وقال عمر بل امر الأقرع بن الحابس فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي وقال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّم ُوا
اى قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا الآية قرأ يعقوب لا تقدموا بفتح التاء والدال من التقدم بحذف أحد التاءين والجمهور بضم التاء وكسر الدال من التقديم - قال البغوي هو أيضا لازم بمعنى التقديم مثل بين وتبين وقيل انه متعد والمفعول محذوف ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن أى لا تقدّموا قولا ولا فعلا - أو متروك ونزل الفعل منزلة اللازم يعنى لا يصدر منكم التقديم بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - بين يدى مستعارة مما بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه ففيه تمثيل للتقدم الزمانى بالتقدم المكاني والمعنى لا تقولوا قولا ولا تفعلوا شيئا قبل ان يحكمانه قال الضحاك يعنى فى القتال وشرائع الدين لا تقضوا امرا دون اللّه ورسوله قال أبو عبيدة يقول العرب لا تقدم بين يدى الامام وبين يدى الأب أى لا تعجل بالأمر والنهر والنهى دونه - قيل المراد بين يدى رسول اللّه وذكر اللّه تعظيما له واشعارا بان التقديم على رسول اللّه كأنَّه تقديم على اللّه تعالى فانه من اللّه بمكان يوجب إجلاله
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 40(1/6095)
إجلالا به وسوء الأدب به سوء ادب باللّه كما قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ واخرج ابن المنذر عن الحسن ان ناسا ذبحوا قبل رسول اللّه صلعم يوم النحر أمرهم ان يعيدوا ذبحا فانزل اللّه تعالى هذه الآية كذا أخرج ابن الدنيا فى كتاب الأضاحي بلفظ ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت وعن البراء بن عازب قال خطبنا رسول اللّه صلعم يوم النحر قال ان أول ما ابتدأ فى يومنا هذا ان نصلى ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ان يصلى فانما هو لحم عجله لاهله ليس من النسك فى شىء متفق عليه - وعن جندب بن عبد اللّه بلفظ صلى النبي صلعم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح ثم قال من كان ذبح قبل ان يصلى فليذبح مكانها اخرى متفق عليه وبما ذكرنا من الأحاديث احتج أبو حنيفة ومالك واحمد على انه لا يجوز ذبح الاضحية قبل صلوة الامام خلافا للشافعى حيث قال يجوز ذبح الاضحية بعد طلوع الشمس من يوم النحر إذ مضى قدر صلوة العيد والخطبتين صلى الامام أو لم يصل وقال عطاء يجوز بعد طلوع الشمس فقط وهما محجوجان بما روينا ولا دلالة فى الحديثين على ما قال مالك ان لا يجوز الذبح الا بعد الصلاة وبعد ذبح الامام ولعل مالك أخذ هذا القول من قوله تعالى لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعنى لا تذبحوا قبل ذبح الرسول والامام نايب الرسول صلعم قلنا الحديث بيان للاية فلا يشترط ما لا يستفاد من الحديث (مسئلة) قال أبو حنيفة يجوز لاهل السواد حيث لا يصلى هناك صلوة العيد ذبح الأضحية بعد طلوع الفجر الثاني خلافا للائمة الثلاثة فانهم قالوا لا يجوز الا بعد حصول اليقين بصلوة الامام عند احمد والصلاة وذبحه عند مالك وبعد مضى قدر صلوة العيد والخطبتين بعد طلوع الشمس عند الشافعي لاطلاق النصوص - وجه قول أبى حنيفة ان التأخير لاحتمال تشاغل به عن الصلاة ولا معنى(1/6096)
للتاخير فى حق القرى ولا صلوة عليه واللّه اعلم - واخرج الطبراني فى الأوسط عن عائشة ان ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلعم فانزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا الآية وقد قال رسول اللّه صلعم لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين الا رجل كان يصوم صوما فيصومه رواه اصحاب الصحاح والسنن الستة وروى اصحاب السنن الاربعة وعلقه البخاري عن عمار قال من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم عليه السلام وقال عليه الصلاة والسلام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلثين يوما وهو فى الصحيحين وعنه أبى داود والترمذي وحسنه وان حال بينكم وبين سحاب فكملوا العدة ثلثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا واللّه تعالى أعلم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 41
و أخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا ان ناسا كانوا يقولون لو انزل فى كذا وكذا فانزل اللّه لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - وَاتَّقُوا اللَّهَ ط فى تضيع حقه وحق رسول ومخالفة امره إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم.(1/6097)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كرر النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة فى الألفاظ وزيادة اهتمام ما امر به لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إذا كلمتموه وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ يعنى لا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينادى بعضكم بعضا بان تخاطبوه باسمه أو كنيته بل يجب عليكم تبجيله وتعظيمه ومراعات آدابه وخفض الصوت بحضرته وخطابه بالنبي والرسول ونحو ذلك أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أى كراهة ان تحبط أو لئلا يحبط فيكون علة للنهى وجاز ان يكون تقديره لان تحبط متعلق بالنهى واللام للعاقبة فان رفع الصوت فوق صوت النبي صلعم والجهر عليه استخفافا يؤدى إلى الكفر فعاقبته حبط العمل إذا قصد الاهانة نعوذ باللّه منها وعدم المبالات وترك المراقبة فى آدابه لا يخلوا من الحرمان من بركات صحبته فبطل عمل المصاحبة إذا لم يترتب عليه فائدته وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حال من الضمير المجرور فى أعمالكم قال البغوي قال أبو هريرة وابن عباس لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلعم الا كاخى السرار وقال ابن الزبير فيما مر من حديث رواه البخاري فى سبب نزول قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا الآية قال فما كان عمر يسمع رسول اللّه صلعم بعد هذه الآية حتى يستفهمه - وروى مسلم فى الصحيح عن انس بن مالك قال لما نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية جلس ثابت بن قيس فى بيته وقال انا من أهل النار واحتبس عن النبي صلعم فسال النبي صلعم سعد بن معاذ فقال يا أبا عمر ما شان ثابت اشتكى فقال سعد انه لجارى وما علمت له شكوى فاتاه سعد فذكره قول النبي صلعم قال ثابت أنزلت هذه الآية ولقد علمتم انى من ارفعكم أصواتا على رسول اللّه صلعم فانا من أهل النار فذكر ذلك سعد لرسول اللّه صلعم فقال بل هو(1/6098)
من أهل الجنة واخرج ابن جرير عن محمد ابن ثابت بن قيس بن شماس وكذا ذكر البغوي انه لما نزلت هذه الآية قعد ثابت فى الطريق يبكى فمر به عاصم بن عدى فقال ما يبكيك يا ثابت قال هذه الآية أتخوف ان نكون نزلت فى وانا رفيع الصوت أخاف ان يحبط عملى وان أكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول اللّه صلعم وغلب ثابت البكاء فاتى امرأته جميلة بنت عبد اللّه بن أبى بن سلول فقال لها إذا دخلت بيت فرسى فشدى على الضبة بمسمار فضربته
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 42
بمسمار وقال لا أخرج حتى تتوفانى اللّه أو يرضى عنى رسول اللّه صلعم فاتى عاصم رسول اللّه صلعم فاخبره خبره فقال اذهب فادعه لى فجاء عاصم إلى المكان الذي راه فلم يجده فجاء إلى اهله فوجده فى بيت الفرس فقال ان رسول اللّه صلعم يدعوك فقال اكسر الضبة فاتيا رسول اللّه صلعم فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت قال أنا صيت وأتخوف ان تكون هذه الآية نزلت فىّ فقال رسول اللّه صلعم اما ترضى ان تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة فقال رضيت ببشرى اللّه ورسوله لا ارفع صوتى ابدا على رسول اللّه صلعم فانزل اللّه.(1/6099)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ أى يخفضونها - عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إجلالا له أُولئِكَ مبتداء خبره الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ط والجملة خبر ان فى القاموس امتحن اللّه قلوبهم أى شرحها ووسعها وفيه أيضا محنه كمنعه وضربه واختبره كامتحنه قال البيضاوي أى جر لها للتقوى ومرتها عليها يعنى عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة أو عرفها كاينة للتقوى خالصة لها فان الامتحان سبب المعرفة - واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل أو المعنى ضرب اللّه قلوبهم بانواع المحن والتكاليف الشاقة لاجل ظهور التقوى فانه لا يظهر الا بالاصطبار عليها أو أخلصه للتقوى من امتحن الذهب إذا إذا به أو ميز بريزه من خبثه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ بغضهم الأصوات تادبا لرسول اللّه ولسائر طاعاتهم والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لان أو استيناف لبيان ما هو جزائهم اخبارا لها لهم كما اخبر عنهم بجملة مونلفة من معرفتين والمبتدا اسم الاشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة فى الاعتداد بغضهم والارتضاء له تعريضا بشناعة الرفع والجهر وان حال المرتكب لهما على خلاف ذلك وقال البغوي قال انس فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى بين أيدينا يعنى ثابت بن قيس الذي نزل فيه هذه الآية وقال له عليه السلام تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة قال فلما كان يوم اليمامة من حرب مسيلمة الكذاب راى ثابت فى المسلمين انكسارا وانهزمت طايفة منهم فقال أف لهؤلاء وقال لسالم مولى حذيفة ما كنا نقاتل اعداء اللّه مع رسول اللّه صلعم مثل ذلك ثم ثبتا وقاتلا حتى استشهد ثابت وعليه درع فراه رجل من الصحابة بعد موته فى المنام انه قال له اعلم ان فلانا رجلا من المسلمين ينزع درعى فذهب به وهى فى ناحية من العسكر عند فرس يستن؟؟؟ به فى طوله وقد وضع علّى درعى(1/6100)
برمة فأت خالد بن الوليد فاخبره حتى يسترد درعى وأت أبا بكر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 43
خليفة رسول اللّه صلعم وقل له ان علىّ دين حتى يقضى وفلان من رفيقى عتيق - فاخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وضعه فاسترد الدرع واخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فاجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن انس لا اعلم وصية اجيزت بعد موت صاحبها الا هذه واللّه تعالى أعلم واخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم رض قال جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلعم فجعلوا ينادون يا محمد صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى.(1/6101)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية وما بعدها قرأ الجمهور بضم الجيم وأبو جعفر بفتح الجيم وهما لغتان فى جمع حجرة وقال البغوي هى جمع حجر والحجر جمع حجرة فهى جمع الجمع والحجرة قطعة من الأرض احاطتها الجدر ان من الحجر بمعنى المنع والمراد حجرات نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن ابتدائية فان المناداة نشأت من جهة الوراء وفيه دلالة على رسول اللّه صلعم كان داخل حجرة منها إذ لا بد ان يختلف المبدأ والمنتهى وان مناداتهم كان من ورائها فان تعدد القصة يحمل على ان مناداتهم وقع تارة وراء بعض وتارة وراء بعض اخر منها وان اتحد القصة فمناداتهم من ورائها.(1/6102)
اما بانهم أتوه حجرة حجرة فنادوه من ورائها أو بانهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فانهم كانوا أعرابا من أهل البادية أو المعنى لا يعقلون عظمتك ومراعات الحشمة وحسن الأدب والظاهر منه ان بعضهم كانوا من العقلاء ولم يرتض بالتعجيل وانما أسند فعل البعض إلى الكل مجازا ويحتمل ان يراد بالنفي القلة إذا لقلة تقع موقع النفي العام - أخرج الثعلبي من حديث جابر ان الذي ناداه عيينة بن حصن واقرع ابن حابس وفدا على رسول اللّه صلعم فى سبعين رجلا وقت الظهيرة وكان النبي صلعم راقدا فى بعض حجرات نسائه فقالا يا محمد أخرج علينا - واخرج ابن جرير عنه لا قرع بن حابس انه اتى النبي صلعم فقال يا محمد أخرج إلينا فنزلت واخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ان رجلا جاء إلى النبي صلعم فقال يا محمد ان مدحى زين وان شتمى شين فقال النبي صلعم ذاك وهو اللّه فنزلت هذه الآية وهذا مرسل وله شاهد مرفوع من حديث البراء دون نزول الآية واخرج ابن جريج نحوه عن الحسن وذكر البغوي حديث قتادة وجابر بلفظ قال قتادة نزلت يعنى هذه الآية وما بعدها فى ناس من اعراب بنى تميم جاؤا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنادوا على الباب ويروى ذلك عن جابر قال جاءت بنو تميم فنادوا على الباب أخرج علينا يا محمد فان مدحنا زين وذمنا شين فخرج النبي صلعم وهو يقول انما ذلكم اللّه الذي مدحه زين وذمه شين فقالوا نحن ناس من بنى تميم حبسئنا وشاعرنا وخطيبنا فقال النبي صلعم لثابت بن قيس
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 44(1/6103)
ابن شماس وكان خطيب النبي صلعم قم فاجبه فقام فاجابه فقام شاعرهم فذكرا بياتا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت قم فاجبه فقام فاجابه فقام الأقرع بن حابس فقال ان محمدا ليؤتى له بكل خير تكلم خطيبنا فكان شاعركم أشعروا حسن قولا ثم دنا من النبي صلعم فقال اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد انك رسول اللّه - فقال رسول اللّه صلعم ما يضرك ما كان قبل هذا ثم أعطاهم رسول اللّه صلعم وكساهم وقد كان تخلف فى ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فاعطاه رسول اللّه صلعم مثل ما أعطاهم وازرى به بعضهم وكثر اللغط عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل فيهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآيات الأربع إلى غَفُورٌ رَحِيمٌ - وذكر البغوي عن ابن عباس انه قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية إلى بنى العنبر وامر عليهم عيينة ابن حصن الفرازي فلما علموا انه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم فسباهم عيينة وقدمهم على رسول اللّه صلعم فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول اللّه صلعم قائلا فى اهله فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى ابائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول اللّه صلعم حجرة فعجلوا قبل ان يخرج إليهم رسول اللّه صلعم فجعلوا ينادون يا محمد أخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم فقالوا يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبرئيل عليه السلام فقال ان اللّه يأمرك ان تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول اللّه صلعم أ ترضون ان يكون بينى وبينكم سيرة بن عمرو وهو غلى دينكم فقالوا نعم فقال سيرة انا لا احكم بينهم الا وعمى شاهد وهو الأعور بن بشامة فرضوا به فقال الأعور ارى ان تفادى نصفهم وتعتق نصفهم فقال صلعم قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق بعضهم وانزل اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا(1/6104)
يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا يعنى
لو ثبت صبرهم يعنى حبس نفوسهم عما تشتهيه الأهواء من التعجيل فى قضاء الحوائج بخلاف ما يقتضيه العقل من تعظيم المحتاج إليه لا سيما من هو من اللّه بمنزلة من لا يوازيه أحد حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ يعنى صبرا مغيا بالخروج إليهم - فيه اشعار إلى ان مطلق الخروج لا يصلح غاية للصبر بل ينبغى ان يصبروا حتى يتوجه إليهم ويفاتحهم بالكلام لَكانَ الصبر خَيْراً لَهُمْ من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول صلعم الموجبتين للثناء والثواب واسعاف المرام قال مقاتل لكان خيرا لهم لانك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فاقتصر على النصح والتقريع للمسببين للادب التاركين تعظيم الرسول صلعم بناء على جهلهم وقلة عقلهم وذكر محمد بن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 45(1/6105)
يوسف الصالحي ان سرية عيينة بن حصن كان إلى بنى تميم فى المحرم سنة تسع بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين منعوا الزكوة وكان السبايا على ما ذكر محمد بن عمر احدى عشر امرأة وثلثين صبيا واخرج احمد وغيره بسند جيد عن الحارث بن الضرار الخزاعي قال قدمت إلى رسول اللّه صلعم فدعانى إلى الإسلام فاقررت به ودخلت فيه ودعائى إلى الزكوة فاقررت بها وقلت يا رسول اللّه ارجع إلى قومى فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكوة فمن استجاب لى جمعت زكوته فترسل إلى الإبان كذا وكذا لياتيك فلما جمع الحارث الزكوة وبلغ الإبان احتبس الرسول فلم يأته فظن الحارث انه قد حدث فيه سخطة فدعى سروات قومه فقال لهم ان رسول اللّه صلعم كان وقت وقتا يرسل رسوله ليقبض ما عندى من الزكوة وليس من رسول اللّه صلعم الخلف ولا ارى حبس رسوله الا من سخطه فانطلقوا فناتى رسول اللّه صلعم وبعث رسول اللّه صلعم الوليد بن عقبة ليقبض ما كان عنده فل ما ان سار الوليد فرق فرجع فقال ان الحارث منع الزكوة وأراد قتلى فضرب رسول اللّه صلعم البعث إلى الحارث فاقبل الحارث بأصحابه إذا استقبل البعث قال لهم إلى اين بعثتم قالوا إليك قال لم قالوا ان رسول اللّه صلعم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم انك منعت الزكوة وأردت قتله قال لا والذي بعث محمدا بالحق ما رايته ولا أتاني فلما دخل على رسول اللّه صلعم قال منعت الزكوة وأردت قتل رسولى قال لا والذي بعثك بالحق فنزلت.(1/6106)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ إلى قوله غفور رحيم وروى الطبراني نحوه من حديث جابر بن عبد اللّه وعلقمة ابن ناحية وأم سلمة وابن جرير نحوه من طريق العوفى عن ابن عباس ومن طرق اخرى وسلمة وفى حديث أم سلمة عند الطبراني وكذا ذكر البغوي ان الآية نزلت فى وليد بن عقبة بن أبى معيط بعثه رسول اللّه صلعم إلى بنى المصطلق مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية فلما سمعه القوم تلقوه تعظيما لامر رسول اللّه صلعم فحدثه الشيطان انهم يرون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول اللّه صلعم وقال ان بنى المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول اللّه صلعم وهم ان يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فاتوا رسول اللّه صلعم قالوا يا رسول اللّه لما سمعنا برسولك خرجنا نتلقاه ونكرمه ونودى إليه ما قبلناه من حق اللّه عز وجل فبدأ له الرجوع فخشينا انه انما رده من الطريق كتاب جاء منك بغضب غضبته علينا وانا نعوذ باللّه من غضبه وغضب رسوله قال البغوي فاتهمهم رسول اللّه صلعم وبعث خالد بن الوليد خفية فى عسكر وامره ان يخفى عليهم وقال له انظر فان رأيت
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 46(1/6107)
منهم ما يدل على ايمانهم فخذ منهم زكوة أموالهم وان لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل فى الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلوة المغرب والعشاء وأخذ صدقاتهم ولم ير فيهم الا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول اللّه صلعم وأخبره الخبر فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ يعنى الوليد ابن عقبة بِنَبَإٍ أى بخبر ارتداد القوم وتنكير الفاسق ولنبأ لشيوع الحكم كأنَّه قال أى فاسق جاءكم باى نبأ - فَتَبَيَّنُوا قرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة ثم الباء الموحدة ثم التا المثناة من الفوق من التثبت بمعنى التوقف فى الحكم مالم يظهر الحال والباقون بالباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحت ثم النون من التبين بمعنى طلب البيان وظهور الحال والقراءتان متقاربان معنى وتعليق التثبت والتبين يخبر الفاسق يقتضى جواز قبول خبر الواحد العدل لعدم المانع من قبول خبره والفسق فى اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها وفى اصطلاح الشرع قد يطلق على الكافر لخروجه عن الايمان وهو الغالب فى محاورة القرآن وقد يطلق على من ارتكب الكبيرة أو أصر على الصغيرة مالم يتب وهو المراد فى هذه الآية اجماعا قلت والوليد ابن عقبة رض كان صاحبا لرسول اللّه صلعم ولم يكن فسقه ظاهرا قبل هذا الكذب المبنى على فساد ظنه واتهامه من كان له اعداء فى الجاهلية فلعل المراد بالفاسق هاهنا من لم يظهر صدقه وعدالته فيدخل فيه مستور الحال أيضا أو المراد بالفاسق من كان مخبر الشيء يدل القرينة على كذبه وان كان المخبر ظاهر العدالة فان ارتداد بنى المصطلق بعد ايمانهم عند رسول اللّه صلعم طوعا وقبولهم أحكامه ابعد احتمالا من كذب الوليد عمدا أو زعما فاسدا - أَنْ تُصِيبُوا أى كراهة ان تصيبوا أو لئلا تصيبوا بالقتل والقتال قَوْماً براء من العصيان بِجَهالَةٍ حال من فاعل تصيبوا يعنى جاهلين بحقيقة الأمر وحال القوم(1/6108)
فَتُصْبِحُوا أى تصيروا عطف على تصيبوا عَلى ما فَعَلْتُمْ متعلق بقوله نادِمِينَ وهو خبر لتصبحوا يعنى تصيروا نادمين على أصابتكم قونا براء والندامة نوع من الغم على ما صدر منك بحيث تتمنى انه لم يصدر الظاهر من سياق الآية ان بعض المؤمنين كانوا زينوا رسول اللّه صلعم الإيقاع بينى المصطلق وتصديق قول الوليد والنبي صلعم لم يطعهم وبعث خالدين الوليد للتثبت وتبيين الحال قال اللّه سبحانه خاطبهم بهذه الآية وأمرهم بالتثبت والتبيين كما فعله رسول اللّه صلعم كيلا يصبحوا نادمين وبينهم على انه لا ينبغى لهم تحريص النبي صلعم وإلجاؤه إلى ما تهوى به نفوسهم بل يجب عليهم ان يطيعوه فيما أحبوا وفيما كرهوا يدل عليه قوله تعالى.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 47(1/6109)
مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أى وقعتم فى الإثم والهلاك قال البيضاوي جملة لو يطيعكم حال من أحد ضميرى فيكم وان مع اسمه وخبره مقيدا بالحال المذكور ساد مسد مفعولى اعلموا والمعنى ان فيكم رسول اللّه فى حال يجب تغيرها وهى انكم تريدون ان يتبع رايكم ولو فعل ذلك لعنتم ولما كان غضبهم على بنى المصطلق انما هو لما سمعوا من الوليد ارتدادهم بغضا فى اللّه لا لانفسهم وكان ما سبق من الكلام موهما لوقوعهم فى الإثم واللوم استدرك اللّه سبحانه ببيان عذرهم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ط الظاهر من سياق الآية ان الفسوق أخف من الكفر وأقبح من العصيان فالمراد به الخروج من الجماعة وارتكاب البدعة فى العقائد بحد لا يكفر فهو دون من الكفر وأخبث من عصيان الجوارح ومعنى الآية لكن ما صدر منكم من ترك التثبت انما كان لحبكم الايمان وبغضكم الكفر فلا لوم عليكم ولا اثم أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ جملة معترضة وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة اشعارا بان من كان صفته مثل صفتكم فهم الراشدون.(1/6110)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ط منصوبان على العلية من حبب وكره لا من الراشدون فان الفضل فعل اللّه والراشدون كان مسببا بفعله لكنه أسند إلى ضميرهم أو على المصدرية فان تحبب الايمان فضل من اللّه وانعام وقال بعض ائمة التفسير معنى قوله ان فيكم رسول اللّه فلا تكذبوه فان اللّه يخبره فيهتك ستر الكاذب وقوله لو يطيعكم فى كثير من الأمر كلام مستانف يعنى لو يطيعكم الرسول فيما يخبرونه كاذبا لعنتم وهذا التأويل يقتضى ان يكون قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ خطابا بالوليد وأمثاله وليس كك فان الكاذب غير مخاطب بالتثبت بل السامع مخاطب به وقال بعضهم واعلموا ان فيكم رسول اللّه معناه كما مر ان لا تكذبوا ولو يطيعكم كلام مستانف خطاب لبعض المؤمنين الذين زينوا رسول اللّه صلعم الإيقاع ببني المصطلق والاستدراك خطاب لبعض اخر من المؤمنين الذين يريدون التثبت وهم المعينون بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ وهذا القول يفيد جد الا لاستلزامه انتشار الضمائر فى كلام واحد من غير قرينة وامر داع إليه والأحسن ما قال البيضاوي وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين حَكِيمٌ يفضل وينعم بالتوفيق عليهم أخرج الشيخان عن انس ان النبي صلعم ركب حمارا وانطلق إلى عبد اللّه بن أبى فقال إليك عنى فو اللّه لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار واللّه لحماره أطيب ريحا منك فغضب لعبد اللّه رجل من قومه فشتما وغضب لكل واحد أصحابه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 48
فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فنزلت فيهم.(1/6111)
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مرفوع بفعل مضمر اعنى اقتتل يفسره قوله تعالى اقْتَتَلُوا يعنى تقاتلوا أورد صيغة الجمع حملا على المعنى فان كل طائفة جمع فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ج شرطية جزائه إنشاء ولدا عطف على الانشائيات وثنى الضمير هاهنا نظرا إلى لفظ الطائفتين والإصلاح ان يمنع المبطل منها من الظلم ويدفع شبهة ويدعوهما إلى كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلعم وترك التحاسد والتباغض فَإِنْ بَغَتْ أى تعدت إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى وأبت الاجابة إلى كتاب اللّه وسنة رسوله صلعم ولا يمكن دفع ظلمها بالحبس والمنع بان كان لها منعة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ أى ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ ج عن انس قال قال رسول اللّه صلعم انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال الرجل يا رسول اللّه انصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه متفق عليه فَإِنْ فاءَتْ إلى امر اللّه بعد المقاتلة فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ فيه الإصلاح بالعدل هاهنا اشعارا بان المقاتلة الواقع قبل ذلك لا يجرمنكم على ان لا تعدلوا وَأَقْسِطُوا ط فى الأمور كلها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فيحسن جزاؤه القسط الجور والاقساط ازالة الجور بالعدل والهمزة للسلب.(1/6112)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ لانتسابهم إلى اصل واحد وهو الايمان الموجب للحيوة الابدية ولما كان منشأ هذا الأصل هو النبي صلعم كان أبا المؤمنين وأزواجه أمهاتهم وهذه الجملة تعليل وتقرير للامر بالإصلاح ولذلك كرره مرتبا عليه فقال فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين للمبالغة فى التقرير والفاء للسببية قرأ يعقوب بين إخوتكم بالتاء الفوقانية على الجمع والباقون بالياء التحتانية على التثنية وخض الأنثيين بالذكر لانهما اقل من يقع بينهما الخلاف وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تخالفوا امره لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقوكم فان التقوى سبب للتواصل والايتلاف والتراحم بينكم والتراحم موجب رحمة اللّه تعالى قال عليه الصلاة والسلام انما يرحم اللّه من عباده الرحماء رواه المجدد رضى اللّه تعالى عنه وفى الصحيحين لا يرحم اللّه من لا يرحم الناس من حديث جرير بن عبد اللّه قال البغوي يروى انها لما نزلت قرأها رسول اللّه صلعم فاصطلحما وكف بعضهم عن بعض واخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن أبى مالك قال تلاحى رجلان من المسلمين فغضب قوم هذا لهذا وقوم هذا لهذا فاقتتلوا بالأيدي والنعال فانزل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 49(1/6113)
اللّه تعالى تلك الآية ولعل هذه القصة بعينه هى السابقة - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وكذا ذكر البغوي عن السدى قال كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وان المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها فى علية له وان المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان اهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم فبعث إليهم رسول اللّه صلعم فاصلح بينهم وفاؤا إلى امر اللّه واخرج ابن جرير وذكر البغوي عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الآية نزلت فى رجلين من الأنصار وكانت بينهما مداراة فى حق بينهما فقال أحدهما لاخر لاخذن عنوة لكثرة عشيرته أو الاخر دعاه للتحاكم إلى النبي صلعم فابى فلم يزل الأمر حتى تدافعوا وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف - واخرج ابن جرير عن الحسن قال كانت الخصومة بين الحيين فيدعوهم إلى الحكم فيابون ان يجيبوا فانزل اللّه تلك الآية ولعل هذه القصة ما ذكر قتادة روى البغوي وغيره عن سالم عن أبيه ان رسول اللّه صلعم قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ومن كان فى حاجة أخيه كان اللّه فى حاجة ومن فرج عن مسلم كربة فرج اللّه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستر اللّه يوم القيامة وروى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذ له ولا يحقره التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلث مرار يحسب امرا عن الشر ان يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وفى الآيتين دليل على ان البغي لا يزيل اسم الايمان قال البغوي ويدل عليه ما روى عن الحارث الأعور أن على بن أبى طالب رض سئل عن الحمل والصفين أ مشركون هم فقال لا من الشرك فروا فقيل منافقين هم فقال لا ان المنافقين لا يذكرون اللّه الا قليلا(1/6114)
فما حالهم قال إخواننا بغوا علينا - (مسئلة) إذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة وخرجوا عن إطاعة الامام دعاهم إلى العود وكشف شبهتهم فان ابد واما يجوز لهم القتال كان ظلمهم الامام أو ظلم غيرهم ظلما لا شبهة فيه يجب على الناس ان يعينوهم حتى ينصفهم الامام ويرجع عن جوره كذا قال ابن الهمام وان لم يبدوا ذلك وتحيزوا للقتال مجتمعين حل لنا قتالهم بدا وقال الشافعي لا يجوز قتالهم حتى ابتدأ وبالقتال وهو قول مالك واحمد واكثر أهل العلم لان قتل المسلم لا يجوز الا دفعا وهم مسلمون قال اللّه تعالى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا قلنا البغي فى اللغة الطلب قال اللّه تعالى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ - والمراد هاهنا طلب ما يخل من الجور والظلم والإباء عن قبول احكام الشرع
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 50
كما فى قوله تعالى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يعنى لا تطلبوا عليهن ظلما فلا يشترط فى جواز قتالهم بداية القتال منهم وانما شرطنا منعتهم لأنه إذا لم يكن لهم منعة نقدر على(1/6115)
إلزامهم بالحبس والضرب ونحو ذلك فلا حاجة على القتال ولو شرطنا بداية القتال منهم فربما لا يمكن دفعهم لتقوى شوكتهم وتكثر جمعهم (مسئلة) يجهز على الجريح من البغاة ويتبع مولهم ان كان لهم فيئة يخاف ان يلحق بالفيئة وان لم يكن له فئة لا يجهز ولا يتبع وقال الشافعي ومالك واحمد لا يجهز ولا يتبع فى الحالين لان القتال إذا تركوه بالتولية والجراحة لم يبق قتلهم دفعا ولا يجوز قتلهم الا دفعا لشرهم روى ابن أبى شيبة عن عبد خير عن على انه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا ومن القى سلاحه فهو أمن وأسند أيضا لا يقتل أسير قلنا احتمال شرهم باق إذا خيف لحوقهم بالفيئة واصحاب الجمل لم يكن لهم فئة حين قال ذلك وما رواه الحاكم فى المستدرك والبزار فى مسنده من حديث كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمران رسول اللّه صلعم قال هل تدرى يا ابن أم عبد كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الامة قال اللّه تعالى ورسوله اعلم قال لا تجهز على جريحها ولا يقتل أسيرا ولا يقسم فيئها فاعله البزار بكوثر بن حكيم وتعقب الذهبي على الحاكم - (مسئلة) ولا مسى ذريتهم ولا يقسم مالهم اجماعا بل يحبس مالهم حتى يتوبوا روى ابن أبى شيبة ان عليا لما هزم طلحة وأصحابه امر مناديا فنادى ان لا يقتل مقبل ولا مدبر يعنى بعد الهزيمة ولا يفتح باب ولا يستحل فرج ولا مال وروى عبد الرزاق نحوه وزاد وكان على لا يأخذ مال المقتول ويقول من اعترف شيئا فلياخذه وفى تاريخ واسط بإسناده عن على انه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيرا وإياكم والنساء وان شتمن اعراضكم وسبين امراؤكم (مسئلة) ولا بأس ان تقاتلوا بسلاحهم ان احتاج إليه أهل العدل وكذا الكراع يقاتلون عليه وقال الشافعي ومالك واحمد لا يجوز استعمال سلاحهم وكراعهم لنا ما روى ابن أبى شيبة فى اخر مصنفه فى باب وقعة الجمل ان عليا قسم الجمل فى(1/6116)
العسكر ما اجافوا عليه من كراع وسلاح قال صاحب الهداية وكان قسمة للحاجة لا للتمليك لانعقاد الإجماع على عدم تملك أموالهم - (مسئلة) ما أتلف أهل البغي على أهل العدل فى حال القتال من نفس أو مال فان كان لهم منعة وتاويل مالك وأبو حنيفة واحمد فى رواية والشافعي فى الجديد الراجح انه لا يضمن وقال الشافعي فى رواية الاخرى واحمد يضمن قال البغوي قال ابن شهاب كانت فى تلك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 51(1/6117)
الفتنة دماء يعرف فى بعضها القاتل والمقتول وأتلف اموال ثم صار الناس إلى ان سكت الحرب وجرى الحكم عليهم فما علمة اقتص من أحد ولا أغرم مالا اتلفه (مسئلة) باغ قتل عادلا مدعيا حقيقة يرثه وان اقرانه على الباطل لا يرث عند أبى حنيفة وعند أبى يوسف والشافعي لا يرث الباغي العادل سواء ادعى حقيقة أو اقرانه على باطل وعادل قتل باغيا يرث اجماعا - (مسئلة) الخارجون عن إطاعة الامام إذا لم يكن لهم تاويل سواء كان لهم منعة أو لا ويأخذون اموال الناس ويقتلونهم الطريق فهم قطاع الطريق وقد مر حكمهم فى سورة المائدة ان يقتلوا ويصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفوا من الأرض (مسئلة) من كان خارجا من حكم الامام ولا منعة له يلزمه حكم اللّه بالحبس والضرب ونحو ذلك ولا يجوز قتله - قال البغوي روى ان عليا سمع رجلا يقول فى ناحية المسجد لا حكم الا اللّه فقال على كلمة حق أريد به الباطل لكم علينا ثلث لانمنعكم مساجد اللّه ان تذكروا فيها اسم اللّه عز وجل ولانمنعكم الفيء ما دامت ايديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال كذا قال محمد بلغنا عن على رض فذكر نحوه واللّه اعلم - وذكر البغوي عن ابن عباس انه كان ثابت بن قيس بن شماس فى اذنه وقرو كان إذا اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد سبقوا بالمجلس وسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فسمع ما يقول فاقبل ذات يوم وفاتته ركعة من صلوة الفجر فلما انصرف رسول اللّه صلعم من صلوة أخذ أصحابه مجالسهم فضيق كل رجل بمجلسه فلا يكاد(1/6118)
يوسع أحد لا حد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا قام قايما كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة اقبل نحو رسول اللّه صلعم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسحوا فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول اللّه صلعم بينه وبينه رجل فقال له تفسح فقال الرجل قد أصبت مجلسا فاجلس فجلس ثابت خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة عمر ثابت الرجل فقال من هذا قال انا فلان فقال ثابت ابن فلانة فذكرا ماله كان يغير بها فى الجاهلية فنكس الرجل راسه واستحى فانزل اللّه تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ فى القاموس القوم الجماعة من الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة وتدخله النساء على التبجية وفى الصحاح القوم جماعة الرجال فى الأصل دون النساء واستدل بهذه الآية حيث عطف النساء عليه ويقول الشاعر وما أدرى لست إخال أدرى أقوم ال حصن أم نساء وفى عامة القرآن أريد به الرجال والنساء جميعا وحقيقة للرجال لقوله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ على النساء كذا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 52(1/6119)
قال صاحب المدارك وقال البيضاوي هو مصدر نعت به فشاع فى الجمع أو جمع لقايم كزائر وزور والقيام بالأمور وظيفة الرجال وحيث فسر بالقبيلتين كقوم هود وقوم فرعون وقوم نوح وقوم لوط فاما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال عن ذكرهن لانهن توابع واختيار الجمع لان السخرية تغلب فى المجامع عَسى أَنْ يَكُونُوا أى من يسخر به خَيْراً مِنْهُمْ أى من يسخر استيناف وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عطف النساء على الرجال ولم يكتف بما سبق مبالغة فى النهى ولان السخرية والاستهزاء يكون فى النساء غالبا لضعف عقلهن وجهلهن قال البغوي روى عن انس انها نزلت فى نساء رسول اللّه صلعم عيّرن أم سلمة بالقصر وعن عكرمة عن ابن عباس انها نزلت فى صفية بنت حيى بن اخطب قالت لها النساء يهودية بنت يهوديين وفى رواية فقال لها رسول اللّه صلعم هلا قلت ان أبى هارون وعمى موسى وزوجى محمد عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ المز الطعن باللسان يعنى لا يعب بعضكم بعضا وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ط التنابز التفاعل من النبز بمعنى اللقب قال البيضاوي النبز مختص باللقب السوء وفى القاموس التنابز التعاير والتداعي بالألقاب يعنى لا تدع بعضكم بعضا للقب السوء قال البغوي قال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر قال الحسن كان اليهودي والنصراني يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودى يا نصرانى فنهو عن ذلك قال عطاء هو ان تقول لاخيك يا حمار يا خنزير وروى عن ابن عباس رض قال التنابز ان يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهى ان يعير بما سلف من عمله أخرج اصحاب السنن الاربعة عن أبى حبيرة بن الضحاك قال كان الرجل منها يكون له اسمان أو ثلثة فيدعى ببعضها فعسى ان يكره فنزلت ولا تنابزوا بالألقاب قال الترمذي حسن وروى احمد عنه بلفظ قال فينا نزلت بنى سلمة ولا تنابزوا بالألقاب قدم رسول اللّه صلعم للمدينة و(1/6120)
ليس فيها إلا وله اسمان أو ثلثة فكان إذا دعاه أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا يا رسول اللّه انه يغضب من هذا فنزلت بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ج أى بئس الاسم ان يقال له يهودى أو يا فاسق أو يا شارب الخمر بعد ما ان تاب عن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلعم لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر الا ارتدت عليه ان لم يكن صاحبه كذلك رواه البخاري عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم أيما رجل قال لاخيه كافر فقد باء بها أحدهما متفق عليه وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلعم من دعى رجلا بالكفر أو قال عدو اللّه وليس ذلك إلا جاء عليه متفق عليه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 53
و قيل معنى الآية ان السخرية واللمز والنبز فسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الايمان فلا تفعلوا شيئا توصفوا فيه باسم الفسوق عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلعم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر متفق عليه ورواه ابن ماجة عن أبى هريرة وعن سعد والطبراني عن عبد اللّه بن مغفل وعن عمر بن النعمان بن مقرن والدارقطني عن جابر وزاد الطبراني عن ابن مسعود وحرمة ماله كحرمة دمه وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه من السخرية واللمز والنبز فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب وحد ضمير لم يتب نظرا إلى لفظة من وجمع ضميرهم الظالمون نظرا إلى معناها نسبة المحصن إلى الزنا يوجب حد القذف اجماعا وسنذكر مسائل حد القذف فى سورة النور إنشاء اللّه تعالى ونسبة غير المحصن كالعبد والكافر إلى الزنا لا يوجب الحد لانحطاط درجتها بل يوجب التعزير لا شاعة الفاحشة ونسبة المحصن إلى غير الزنا لا يوجب حد القذف ويوجب التعذير ان كانت النسبة إلى فعل اختياري يحرم فى الشرع(1/6121)
و يعد عارا فى العرف والا لا الا ان يكون تحقيرا للاشراف فمن قال لمسلم يا فاسق يا كافر يا خبيث يا سارق يا فاجر يا مخنث يا خائن يا زنديق يا لص يا ديوث يا قرطبان يا شارب الخمر يا أكل الربوا يعزر قال ابن همام روى انه عليه السلام عزر رجلا قال لغيره يا مخنث ولو قال يا حمار يا خنزير يا كلب يا تيس يا حجام لا يعزر وقيل يعزر وقيل لا الا ان يقر لعالم أو علوى أو رجل صالح ولو قال يا لاعب بالنرد ويا عشار لا يعزر لانها لا يعد عارا عرفا وان كان محرما شرعا - (مسئلة) لا يبلغ بالتعزير ادنى الحدود عند أبى حنيفة والشافعي عفى اللّه عنهما وادنى الحدود عند أبى حنيفة رح أربعون سوطا حد الشرب فى العبد وعند أبى يوسف ثمانون حد الأحرار وعند الشافعي واحمد عشرون وقال مالك للامام ان يضرب فى التعزير أى عدد ادى إليه اجتهاده وقال احمد يعزر فى الوطي فيما دون الفرج بشبهة اكثر من ادنى الحدود ولا يبلغ أعلاها وفى قبلة اجنبية أو شتم أو سرقة دون النصاب لا يبلغ ادنى فى الحدود واللّه تعالى أعلم وذكر البغوي ان رسول اللّه صلعم إذا غزى أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهىء لهما وما يصلحها من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي رض إلى رجلين فى بعض أسفاره فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهىء لهما شيئا فلما قالا له ما صنعت شيأ قال لا اغلبتنى عيناى قالا له انطلق إلى رسول اللّه صلعم فاطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 54(1/6122)
اللّه صلعم وساله طعاما فقال رسول اللّه صلعم انطلق إلى اسامة بن زيد وقل له ان كان عنده فضل من طعام وادام فليعطك وكان اسامة خازن رسول اللّه صلعم وعلى رحله فاتاه فقال ما عندى شىء فرجع سلمان إليهما وأخبرهما فقالا كان عند اسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا لو بعثنا إلى بئر سميحة يغار مائها ثم انطلقا يتجسسان هل عند اسامة ما امر لهما به رسول اللّه صلعم فلما جاء إلى رسول اللّه قال لهما مالى ارى خضرة اللحم فى أفواهكما قالا واللّه يا رسول اللّه ماتنا ولنا يومنا هذا لحما قال ضللتم تأكلون لحم سلمان واسامة فانزل اللّه تعالى.(1/6123)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الآية قال السيوطي رواه الثعلبي بغير اسناد وروى معناه الاصبهانى فى الترغيب عن عبد الرحمن بن أبى ليلى واخرج ابن المنذر عن ابن جريج قالوا زعموا ان قوله تعالى لا يغتب بعضكم بعضا نزلت فى سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله رقادة واللّه تعالى أعلم إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل مستانف للامر والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه والهمزة بدل من الواو كأنَّه يثم الأعمال ويكسرها والمراد بالظن هاهنا ما يقابل اليقين سواء كان جانب الوجود فيه راجحا أو لا وتحقيق المقام ان الظن على اقسام منها ما يجب اتباعه وهو حسن الظن باللّه تعالى والمؤمنين والمؤمنات وما يحصل بدليل شرعى فيه شبهة حيث لا قاطع فيه من العمليات وكذا فى العلميات ان لم يعارضه قاطع من احوال المبدأ والمعاد ومنها ما يحرم اتباعه كسوء الظن بالمؤمنين والمؤمنات لا سيما بالصالحين منهم والظن فى الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع ومنها ما ليس من القسمين المذكورين كالظن فى الأمور المعاشية ونحوها - والإثم انما هو بعض الظن يعنى قسم الثاني منها واللّه سبحانه امر بالاجتناب عن كثير من الظن احتياطا ومبالغة فى اجتناب الإثم وفيجتنب عما هو اثم وعما هو يشبه به قال رسول اللّه صلعم الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهة الحديث وَلا تَجَسَّسُوا الجس فى اللغة المس باليد والتجسس تفحص الاخبار باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس والمراد هاهنا لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوا عوراتهم حتى لا يظهر عليكم ما ستره اللّه منها عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلعم قال إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو ينزل رواه ملك واحمد وابن(1/6124)
ماجة وأبو داود والترمذي وصححه وعن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 55
ابن عمران النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يا معشر من أمن بلسانه ولم يفض الايمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عورات المسلمين يتبع اللّه عوراته فيفضحه ولو فى جوف رحله رواه الترمذي وحسنه وابن حبان قال زيد بن وهب قيل لابن مسعود هل لك فى الوليد بن عقبة تقطر لحية خمرا قال نهينا عن التجسس فان يظهر لنا شىء ناخذ به وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ط أى لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء فى غيبته عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلعم قال أ تدرون ما الغيبة - قال اللّه ورسوله اعلم قال ذكر أخاك بما يكره قيل ارايت ان كان فى أخي ما أقول قال ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته وان لم يكن فيه ما تقول فقد بهته متفق عليه وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده انهم ذكروا عند رسول اللّه صلعم رجلا قال لا يأكل حتى يطعم ولا يرحل حتى يرحل فقال النبي صلعم اغتبتموه فقالوا انما حدثنا بما فيه قال حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه رواه البغوي - أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على افحش وجه مع مبالغات الاستفهام الذي معناه الإنكار المستلزم لتقرير النفي واسناد الفعل إلى أحد للتعليق وتعليق المحبة بما هو فى غاية الكراهة وتمثيل الاغتياب يأكل لحم الإنسان ولم يقتصر عليه حتى جعله أخا ولم يقتصر عليه حتى جعله ميتا وتعقب ذلك يقوله فَكَرِهْتُمُوهُ ط تقريرا وتحقيقا لذلك وجملة فكرهتموه جزاء شرط محذوف تقديره ان صح ذلك إذ عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم انكار كراهة أو هى معطوف على الاستفهام المذكور فان معناه نفى المحبة الموهوم عدم الكراهة فلدفع ذلك الوهم عطف عليه - وجاز ان تكون الفاء للسببية والماضي بمعنى المستقبل والمعنى انه لا يحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا(1/6125)
انكم تكرهونه وقال مجاهد لما قيل لهم أ يحب أحدهم ان يأكل إلخ فكانهم قالوا لا فقيل كرهتموه فكانه معطوف على محذوف والحاصل انكم كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غايبا عن انس بن مالك عن رسول اللّه صلعم قال لما خرج بي مررت بقوم لهم اظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم
قلت من هؤلاء فقال هؤلاء الذين يأكلون لحرم الناس ويقعون فى اعراضهم - رواه البغوي قال ميمون بيننا انا نائم إذا انا بجيفة زنجى وقائل يقول كل قلت يا عبد اللّه ولم أكل قال بما اغتبت عبد فلان قلت واللّه ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال لكنك استمعت ورضيت وكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا ان يغتاب عنده عن عائشة رضى اللّه عنها قلت للنبى صلعم حسبك من صفية كذا وكذا يعنى قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته رواه احمد والترمذي وأبو داود عن أبى سعيد وجابر قالا قال رسول اللّه صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 56(1/6126)
الغيبة أشد من الزنا قالوا يا رسول اللّه وكيف الغيبة أشد من الزنا قال ان الرجل يزنى فيتوب اللّه فيغفر له وان صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه (فائدة) فى كفارة الغيبة عن انس رض ان رسول الله صلعم قال ان من كفارة الغيبة ان يستغفر لمن اغتبته تقول اللهم اغفر لنا وله رواه البيهقي - (فائدة) عن خالد ابن معدان عن معاذ قال قال رسول اللّه صلعم من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله يعنى من ذنب قد تاب منه رواه الترمذي وخالد لم يدرك معاذا وَاتَّقُوا اللَّهَ ط بترك ما نهيتم عنه والندم على ما وجد منكم منه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يقبل توبتكم مبالغ فى قبول التوبة حيث يجعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له - رَحِيمٌ بالعباد لا يرضى ان يقع بعضكم فى عرض بعض - ذكر البغوي انه قال مقاتل لما كان يوم فتح مكة امر رسول اللّه صلعم بلالا حتى اتى على ظهر الكعبة واذن فقال عباد بن أسيد الحمد للّه الذي قبض أبى حتى لم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام اما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهيل بن عمرو ان يرد اللّه شيئا يغيره وقال أبو سفيان انى لا أقول شيئا أخاف ان يخبر به رب السماء فاتاه جبرئيل عليه السلام فاخبر رسول اللّه صلعم بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا فاقروا فانزل اللّه تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقر وقال.(1/6127)
يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية ولم يقل يايّها الذين أمنوا لانهم لم يكونوا أمنوا فى ذلك الوقت واخرج ابن أبى حاتم عن أبى مليكة هذه القصة مختصرا وقال ابن عساكر فى مبهماته وجدت بخط ابن بشكو إلى ان أبا بكر بن أبى داود أخرج فى تفسير له انها نزلت فى أى هذا امر رسول اللّه صلعم بنى بياضة ان يزوجوه امراة منهم فقالوا يا رسول اللّه تزوج بناتنا موالينا فنزلت الآية وقال البغوي قال ابن عباس تزلت فى ثابت بن قيس وقومه للرجل الذي لم ينفسح له ابن فلانة فقال النبي صلعم من الذاكر فلانة فقال ثابت انا يا رسول اللّه فقال انظر وجه القوم فقال ما رايت يا ثابت فقال رايت ابيض وو احمر واسود فانك لا تفضلهم الا فى الدين والتقوى فنزلت فى ثابت هذه الآية وفى الذي لم يفسح يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا - إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يعنى نوع البشر من آدم وحواء أو كل واحد منكم من اب وأم فلا مزية لاحد على غيره ولا وجه للتفاخر وجاز ان يكون تقريرا للاخوة المانعة من الاغتياب وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ كانت العرب يعتبر فى النسب ست طبقات أعلاها الشعب وهى الجمع العظيم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 57(1/6128)
المنتسبون إلى اصل واحد وهى تجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن تجمع الا فخاذ والفخذ تجمع الفصائل والفصيلة تجمع العشائر وليس بعد العشيرة حى يوصف به وقيل الشعوب من العجم والقبائل من العرب والأسباط من بنى إسرائيل وقال أبو رواق الشعوب من الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدن والقرى والقبائل من العرب الذين ينتسبون إلى ابائهم - لِتَعارَفُوا ط حذف أحد التاءين أى لتعرف بعضهم بعضا فى قرب النسب وبعده لا ليتفاخروا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ط قال قتادة فى هذه الآية ان أكرم الكرم التقوى وآلام اللوم الفجور عن سمرة قال قال رسول اللّه صلعم الحسب المال الكرم التقوى رواه احمد وترمذى وصححه وابن ماجة والحاكم وقال ابن عباس كرم الدنيا الغنا وكرم الاخرة التقوى وعن ابن عمران النبي صلعم طاف يوم الفتح على راحلة يستلم الأركان بمجحنه؟؟؟ فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطب بهم فحمد اللّه واثنى عليه وقال الحمد للّه الذي اذهب عنكم غبية الجاهلية وتكبرها الناس رجلان بر تقى كريم على اللّه وفاجر شقى هين على اللّه ثم تلى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية ثم قال أقول قولى هذا واستغفر اللّه لى ولكم رواه الترمذي والبغوي واخرج الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم إذا كان يوم القيامة امر اللّه مناديا ينادى الا انى جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فابيتم الا ان تقولوا فلان بن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم ارفع نسبى واضع نسيكم اين المتقون وعن أبى هريرة قال سئل رسول اللّه صلعم أى الناس أكرم على اللّه قال أكرمهم عند اللّه اتقاهم قالوا ليس عن هذا نسئلكم قال فاكرم الناس يوسف نبى اللّه ابن نبى اللّه بن نبى اللّه بن نبى اللّه بن خليل اللّه قالوا ليس عن هذا(1/6129)
نسألك قال فعن معادن العرب تسألون قالوا نعم قال فخياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام إذا فقهوا رواه البخاري وغيره وعنه قال قال رسول اللّه صلعم ان اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم رواه مسلم وابن ماجة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ببواطنكم وفضائلكم ذكر البغوي ان نفرا من بنى اسد قدموا على رسول اللّه صلعم فى سنة جدبة فاظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمني ن فى السر فافسدوا طرق المدينة بالقذرات واغلوا اشعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول اللّه صلعم ويقولون اتتك العرب بانفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان يمنون على النبي صلعم ويريدون الصدقة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 58
و يقولون أعطنا فانزل اللّه تعالى.(1/6130)
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ط الآية قال السدى نزلت فى الاعراب الذي ذكرهم اللّه فى سورة الفتح وهم اعراب جهينة ومزينة واسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون أمنا ليامنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفر لهم رسول اللّه صلعم إلى الحديبية تخلفوا فنزلت قالت الاعراب أمنا يعنى صدقنا قُلْ يا محمد صلى اللّه عليه وسلم لَمْ تُؤْمِنُوا فان الايمان صفة القلب عبارة عن تصديقه والإقرار ركن زائد عن الاختيار لاجراء الاحكام قال رسول اللّه صلعم الايمان ان تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وتؤمن بالقدر خيره وشره كذا فى الصحيحين من حديث عمر ابن الخطاب مرفوعا فى حديث سوال جبرئيل - وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا والمراد بالإسلام الانقياد الظاهري وكان مقتضى نظم الكلام ان يقال لا تقولوا أمنا ولكن قولوا اسلمنا أو يقال لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل عنه إلى هذا النظم احترازا عن النهى عن القول بالايمان وعن الجزم بإسلامهم مع فقد لشرط اعتباره عند اللّه تعالى - وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ط حال من فاعل قولوا أو معطوف على لم تؤمنوا للتاكيد على نفى الايمان فى الماضي والتوقع فى المستقبل وليس فى لم تؤمنوا التوقع فلا يلزم التكرار وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.(1/6131)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فى الايمان بالقلوب مخلصين والامتثال كما يدل على قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أى لم يشكوا فيما جاء به الرسول صلعم وكلمة ثم للاشعار باشتراط عدم الارتباط فى شىء من الازمنة المتراخية إلى اخر اجزاء الحيوة كاشتراط فى بداية الايمان فهى كقوله تعالى ثم استقاموا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط أى فى طاعة يجوز ان يكون مفعول جاهدوا محذوفا منويا يعنى جاهدوا العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى وجاز ان يجعل لازما مبالغة فى الجهد وجاز ان يراد بالمجاهدة العبادات القلبية والسرية والبدنية والمالية فهذه الآية لامتثال جميع الأوامر والانتهاء عن جميع المناهي اما عبارة ان كان المراد مطلق المجاهدة واما دلالة ان كان المراد به القتال مع الكفار فان من بذل نفسه وماله لاصلاح العالم واخلائه من الفساد وإعلاء كلمة اللّه وافشاء الدين فانه يصلح أو لا نفسه بإتيان المأمورات وانتهاء المناهي بالطريق الاولى أُولئِكَ الموصوفين بتلك الصفات هُمُ الصَّادِقُونَ فى ادعاء الايمان جملة مستانفة وجاز ان يكون الموصول مع صلته صفة للمبتدأ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 59
و هذه الجملة خبرا له فلما نزلت هاتان الآيتان أتت الاعراب رسول اللّه صلعم يحلفون باللّه انهم مومنون صادقون وعرف اللّه غير ذلك فانزل اللّه تعالى.(1/6132)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه بقولكم آمَنَّا ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ط حال من اللّه تعالى فى أ تعلمون اللّه - وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ عطف على اللّه يعنى ان اللّه يعلم حقيقة أسراركم ولا يحتاج إلى اخباركم فعليكم بإصلاح بواطنكم أخرج الطبراني بسند حسن عن عبد اللّه بن أبى اوفى والبزار من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن أبى حاتم مثله عن الحسن ان ناسا من العرب قالوا يا رسول اللّه اسلمنا ولم نقاتلك وقاتلك بنو فلان قال الحسن كان ذلك لما فتحت مكة فنزلت.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ط منصوب بنزع الخافض أى بان اسلموا وبتضمين الفعل معنى الاعتداد وكذا إسلامكم فى قوله تعالى قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ج وكذا ان هدكم فى قوله تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بخلق التصديق فى قلوبكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى ادعاء الايمان وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله يعنى ان كنتم صدقين فى ادعاء الايمان فللّه المنة عليكم وفيه اشارة إلى ان كلهم ليسوا صادقين فيما ادعوا ولذلك عقبه بقوله.(1/6133)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط يعنى ما غاب فيهما وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فى سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه ما فى ضمايركم قرأ ابن كثير بالتاء خطابا للاعراب داخلا فى مقولة قل والباقون بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الاعراب فهو كلام مستانف من اللّه تعالى - واخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي وسعيد بن منصور فى سننه عن سعيد بن جبير نحوه وانه قدم عشرة نفر من بنى اسد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة تسع وفيهم طلحة بن حويلة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أصحابه فسلموا وقال متكلمهم يا رسول اللّه انا اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وجئناك يا رسول اللّه ولم تبعث إلينا بعثا ونحن لمن ورائنا سلم فانزل اللّه تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا الآية - .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 60
سورة ق
مكيّة وهى خمس وأربعون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ربّ يسّر وتمّم بالخير.(1/6134)
ق قف والصحيح انه من الحروف المقطعة فقيل اسم للسورة وقيل اسم من اسماء القرآن وقال القرطبي هو مفتاح اسم اللّه القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض وقيل اشارة إلى قضى الأمر أو قضى ما هو كائن والحق انه رمز بين اللّه ورسوله صلعم لا يعلم تأويله الا اللّه وبعض الراسخين فى العلم وقد مر الكلام فى أوائل سورة البقرة قال قال عكرمة والضحاك هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضر من خضر السماء والسماء مقبية عليه وعليه كتفاها يقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة وَالْقُرْآنِ الواو للقسم وقال ابن عباس كلمة ق قسم يعنى حذف حرف القسم بايصال الفعل إليه أو إضماره وهذا الواو للعطف الْمَجِيدِ أى ذو المجد والشرف على سائر الكتب أو لكونه كلام المجيد أو لأنه من تعلمه وعلم معانيه وامتثال أحكامه بمجد وجواب القسم محذوف تقديره لقد صدق الرسول المنذر لتبعثن أو نحو ذلك وقيل جوابه قوله تعالى وما يلفظ من قول وقيل قد علمنا وقال أهل الكوفة جوابه.
بَلْ عَجِبُوا بمعنى قد عجبوا أى كفار مكة وعلى التقدير الأول هذا معطوف على محذوف تقديره والقران المجيد لقد صدق الرسول وقد أنكره الكفار بل عجبوا أَنْ جاءَهُمْ منصوب بنزع الخافض يعنى عجبوا من ان جاءهم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ليعجبهم مما ليس هو بعجب وهو ان تنذرهم أحد من جنسهم أو من قومهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 61(1/6135)
ممن عرفوا عدالته واعترفوا بها ومن كان كذلك لا يكون الا ناصحا لقومه خايفا عليهم ان ينالهم مكروه وإذا علم ان امرا مخافا أظلهم لزمه ان ينذرهم فكيف ما هو غاية المخاف وقد قال لهم رسول اللّه صلعم إذا اجتمع إليه بطون قريش ارايتكم ان أخبرتكم ان خيلا يخرج بالوادي يريد ان يغير عليكم انكم مصدقى قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فانى نذير لكم بين يدى عذاب شديد الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ والفاء للتفسير فهو بيان لتعجبهم وهذا اشارة إلى اختيار اللّه تعالى محمدا صلعم للرسالة وإضمار ذكرهم فى عجبوا أو إظهاره هاهنا للتسجيل على كفرهم بذلك وجاز ان يكون الفاء للتعقيب وهذا اشارة إلى البعث بعد الموت فهو عطف لتعجبهم مما انذروا به على عجبهم ببعث المنذر وللمبالغة فى انكار هذا التعجب وضع المظهر موضع المضمر فانهم مع علمهم بقدرة اللّه تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما أول مرة وإقرارهم بالنشأة الأول أنكروا النشأة الاخرى مع شهادة العقل بانه لا بد من الجزاء وجاز ان يكون عذا اشارة إلى المبهم يفسره.
أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ج الظرف متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده تقديره أ نرجع إلى الحيوة إذا متنا وصرنا ترابا ذلِكَ الرجع رَجْعٌ بَعِيدٌ عن الوهم والعادة أو الإمكان وانما أورد هذا اولا مبهما وثانيا مفسرا لأنه ادخل فى الإنكار أو الأول استبعاد لان يتفضل عليهم مثلهم والثاني استقصاء بقدرة اللّه تعالى عما هو أهون عليه مما يشاهدون من صنعه ثم رد اللّه تعالى انكارهم للبعث فقال.(1/6136)
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ج يعنى ما يأكل الأرض من أجسادهم بعد الموت يعنى لا يغرب من علمنا شىء فلا يتعذر علينا جمع ما نقص منها وبعثهم بعد الموت ومن قال هذه الجملة جواب للقسم قالوا للام محذوف لطول الكلام - وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أى محفوظ من الشياطين ومن ان يندرس ويتغير وقيل معناه حافظ التفاصيل الأشياء يعلم به من عنده من الملائكة وهذه الجملة حال من فاعل علمنا ثم رد اللّه تعالى انكارهم نبوة النبي صلعم فقال.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعنى النبوة الثابتة بالمعجزات إضراب من الاضراب الأول فان التكذيب بالشيء الثابت بالادلة القطعية فوق من التعجب والاستبعاد لَمَّا جاءَهُمْ ظرف متعلق بكذبوا فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ الفاء للسببية المريج المضطرب الملتبس فان تكذيبهم سبب لاضطرابهم فى القول قال قتادة والحسن من ترك الحق مرج عليه امره والتبس عليه دينه وذكر الزجاج معنى اختلاط أمرهم انهم يقولون مرة شاعر ومرة ساحر ومرة معلم ومرة مجنون ومرة مفتر والأقوال متناقصة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 62
غالبا تم رد تكذيبهم وارشدهم إلى الاستدلال على قدرته على البعث بخلق العالم فقال.
أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا الهمزة للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره اكذبوا بالبعث فلم ينظروا حين كذبوا به إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ حال من السماء أو ظرف متعلق بلم ينظروا كَيْفَ حال من مفعول بَنَيْناها ورفعناها بلا عمد وَزَيَّنَّاها بالكواكب وجملتى بنيناها وزيناها بتأويل المفرد بدل من السماء والاستفهام بكيف للتقرير والمعنى الم ينظروا إلى بنائنا السماء فوقهم وتزيينا إياها بالكواكب متكيفة بكيفية بديعة راسخة وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أى شقوق ومن زايدة والجملة حال من مفعول بنيناها أى كابنة على حال ليس لها عيوب وشقوق.(1/6137)
وَ الْأَرْضَ منصوب بفعل مقدر يفسره مَدَدْناها بطناها والجملة معطوفة على بنينها فان قيل جملة بنينها بتأويل المفرد بدل من السماء كما ذكرنا ولا يتصور ذلك فى المعطوف قلنا فى الكلام حذف وإضمار تقديره اما ان يقال أ فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها والى الأرض تحتهم كيف مددناها واما ان يقال والأرض مددناها تحتها وجاز ان يقال الجملة بتأويل المفرد معطوفة على السماء والمعنى الم ينظروا إلى مددنا الأرض وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أى جبال ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أى من كل صنف من النباتات بَهِيجٍ حسن ذا بهجة وسرور.
تَبْصِرَةً وَذِكْرى منصوبان على العلة الفائية فان المقصود من خلق الأشياء كونها تبصرة وذكرى دالة على وجود الخالق القديم القدير العليم الواجب وجوده وصفاته الكمال المنزه عن النقص والزوال لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه بالتفكر فى خلقه خص هذا لعبد لكونه هو المنتفع به.
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير النفع فَأَنْبَتْنا بِهِ أى بذلك الماء فى الأرض جَنَّاتٍ بساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ اضافة العام إلى الخاص على طريقة حق اليقين وكل الدراهم وعين الشيء يعنى الحب الذي يحصد كالبر والشعير ونحو ذلك مما يزرع ويقتات به وانما خص الحب باضافة إلى الحصيد لان المقصود من الحبوب والمنتفع به كمال الانتفاع ما يحصد ويقتات به وقيل هذه الاضافة من قبيل مسجد الجامع وصلوة الاولى بتأويل الصلاة الجامع وصلوة الساعة الاولى فالمعنى حب الزرع الذي من شانه ان يحصد كالبر والشعير ونحوهما.
وَالنَّخْلَ معطوف على جنات باسِقاتٍ طويلات أو حاملات من بسقت الشاة إذا حملت أفردها بالذكر لكثرة منافعها وفرط ارتفاعها قال رسول اللّه صلعم ان من الشجر شجرة لا تسقط ورقها وان مثلها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 63(1/6138)
كمثل المسلم فانبئونى ما هى فوقع الناس فى شجر البوادي فقال رسول اللّه صلعم هى النخلة رواه البخاري من حديث ابن عمرو قال عليه الصلاة والسلام أكرموا عمتكم النخل فانها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على اللّه من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فاطعموا نساءكم الولد الرطب فان لم يكن رطب فتمر رواه ابن أبى حاتم وأبو يعلى فى مسنده وابن عدى فى الكامل والعقيلي وابن انسى وأبو نعيم فى الطب وابن مردوية عن على رض لَها طَلْعٌ أى ثمر ومحل مسمى بذلك لأنه تطلع والطلع أول ما يظهر من قبل ان ينشق نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر جملة لها طلع نضيد حال ثان من النخيل.(1/6139)
رِزْقاً لِلْعِبادِ علته للانبات أو مصدر من غير لفظه فان الإنبات رزق وَأَحْيَيْنا بِهِ أى بالماء عطف على أنبتنا بَلْدَةً مَيْتاً أى أرضا جدبة لانماء لها كَذلِكَ أى مثل ذلك الخروج للنبات من الأرض بعد سببها الْخُرُوجُ للاموات من القبور فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم ما بين النفخين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت ثم ينزل اللّه من السماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شىء الا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة واخرج ابن أبى داود نحوه وفيه ما بين النفختين أربعون عاما واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من تحت العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعون عاما فينبت منه كل خلق بلى من انسان أو طيرا ودابة ولو مر عليهم ما رقد عرفهم قبل ذلك ما عرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم يرسل الأرواح فيزوج بالأجساد وذلك قوله تعالى إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ واخرج احمد وأبو يعلى والبيهقي عن انس قال قال رسول اللّه صلعم يبعث الناس يوم القيامة والسماء طش عليهم ثم أورد تسليته للنبى صلعم ووعيدا للكافرين بمثل ما أصاب أمثالهم بقوله.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أى ذو طش أى قبل كفار مكة قَوْمُ نُوحٍ انذر قومه الف سنة الا خمسين عاما فكذبوه فاخذهم الطوفان وهم ظالمون وأنجاه اللّه ومن أمن معه فى الفلك المشحون وَأَصْحابُ الرَّسِّ فى القاموس الرس ابتداء الشيء والبير المطوية بالحجارة وبير كانت لبقيته من ثمود كذبوا نبيهم درسوه فى بير والحفر ودفن الميت وقال البغوي الرس البير وكل ركية لم تطو بالحجارة والاجر فهو رس وقيل الرس المعدن والجمع رسائس واختلفوا فى اصحاب الرس فقال بعضهم كما قال صاحب القاموس
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 64(1/6140)
هم بقية ثمود وقال البغوي روى أبو روق عن الضحاك ان بيرا كان بحضر موت فى بلدة يقال لها حاصورا وان اربعة آلاف ممن أمن لصالح نجوا من العذاب فاتوا بحضر موت معهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمى حضر موت لان صالحا لما حضره مات فبنوا حاصورا وقعدوا على هذا البير وأمروا عليهم رجلا فاقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ثم عبدوا الأصنام وكفروا فارسل اللّه إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالا فيهم فقتلوه فى السوق فاهلكهم اللّه وعطلت بيرهم وخربت قصورهم وفيهم قال اللّه تعالى وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال سعيد بن جبير كان لاصحاب الرس نبى يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فاهلكهم اللّه وقال وهب بن منبه كانوا أهل بير واصحاب مواش يعبدون الأصنام فوجه اللّه إليهم شعيبا عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا فى طغيانهم وفى أذى شعيب عليه السلام فبيناهم حول البير فى منازلهم انهارت البير فخسف اللّه بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعا وقال قتادة والكلبي الرس بير بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فاهلكهم اللّه عز وجل وقال كتب والمقاتل والسدى الرس بير بانطاكية قتل فيها حبيب النجار وهم الذين ذكرهم فى سورة يسين وقيل هم اصحا ب أخدود الذين حفروها وقال عكرمة هم رسوا نبيهم فى البير وَثَمُودُ كذبت المرسلين إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ...(1/6141)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فجاء بناقة عشر أخرجت من صخرة فولدت ولدا مثلها وو كانت تشرب الماء كله يوما وتذر يوما فقال صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب يوم عظيم - فعقروها فاصبحوا نادمين فقال لهم صالح تمتعوا فى داركم ثلثة ايام ذلك وعد غير مكذوب فانجى اللّه صالحا والذين أمنوا معه وأخذت الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا فى ديارهم جاثمين.
وَعادٌ كذبت المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود الا تتقون انى لكم رسول أمين فاتقوا اللّه وأطيعون فاهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما فصاروا صرعى كانهم اعجاز نخل خاوية وَفِرْعَوْنُ وقومه العمالقة بعث اللّه إليه موسى وهارون وقال اذهب إلى فرعون انه طفى فقل هل لك إلى ان تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فاراه الآية الكبرى - القى عصاه فإذا هى حية تسعى وادخل يده فى جيبه خرجت بيضاء من غير سوء اية اخرى فكذب وتولى وقال انا ربكم الأعلى فاوحى اللّه إلى موسى ان اسر بعبادي ليلا واضرب بعصاك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 65(1/6142)
البحر فكان كل فرق كالطود العظيم فسار فى البحر موسى ببني إسرائيل وأنجى اللّه موسى وبنى إسرائيل واتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم فلما أدركه الغرق قال امنت انه لا اله الّا الذي امنت به بنو إسرائيل وانا من المسلمين فقال اللّه تعالى الان وقد عصبت من قبل وكنت من المفسدين فاليوم ينجيك ربك لتكونن لمن خلفك اية وَإِخْوانُ لُوطٍ كذبوا المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط الا تتقون انى لكم رسول أمين فاتقوا اللّه وأطيعون أ تأتون الذكر ان من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال انى لعملكم من القالين فانجاه اللّه واهله الا امرأته كانت من الغابرين وأمطر اللّه عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين.(1/6143)
وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ كذب المرسلين إذ قال لهم شعيب الا تتقون انى لكم رسول أمين فاتقوا اللّه وأطيعون أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا فى الأرض مفسدين قالوا انما أنت من المسحرين وما أنت الا بشر مثلنا وان نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفا من السماء ان كنت من الصادقين فكذبوه فاخذهم عذاب يوم الظلة إذ كانوا فى حر شديد وكانوا يدخلون الا سراب فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا فاظلهم اللّه سبحانه وهى الظلة فاجتمعوا إليها فامطرت عليهم نارا فاحترقوا وَقَوْمُ تُبَّعٍ ط قال البغوي قال قتادة هو تبع الحميرى كان من ملوك اليمن وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند سمى تبعا لكثرة اتباعه وكل واحد منهم سمى تبعا لأنه يتبع صاحبه وكان هذا الملك يعبد النار فاسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه ذكر محمد بن اسحق وغيره عن عكرمة عن ابن عباس وغيره قالوا كان تبع الاخر وهو أبو كرب اسعد بن مليك بن يكرب حين اقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لاخرابها واستيصال أهلها فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا ذلك من امره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه باللّيل فاعجبه ذلك وقال ان هؤلاء لكرام فبينما هو كذلك إذ جاءه حبران اسمهما كعب واسد من أحبار بنى قريظة عالمان وكانا ابني عم حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له أيها الملك لا تفعل فانك ان أبيت الا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نامن عليك عاجل العقوبة فانها مهاجر بنى يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد صلعم مولده مكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت به يكون به
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 66(1/6144)
من القتل والجراح امر كبير فى أصحابه وفى عدوهم قال تبع من يقاتله وهو نبى قالا يسير إليه قومه فيقتتلون هاهنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم انهما دعواه إلى دينهما فاجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فاتاه فى الطريق نفر من هذيل وقالوا انا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أى بيت قالوا بيت بمكة وانما تريد هذيل هلاكه لانهم عرفوا انه لم يرده أحد قط بسوء الا هلك فذكر ذلك للاحبار فقالوا ما نعلم للّه فى الأرض بيتا غير هذا البيت فاتخذه مسجد أو انسك عنده وانحروا حلق راسك وما أراد القوم إلا هلاكك لأنه ما ناوأه أحد قط إلا هلك فاكرمه واصنع عنده ما يصنع اهله فلما قالوا له ذلك أخذ النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة نزل الشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهو أول من كسى البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة واقام به ستة ايّام وطاف به وحلق وانصرف فلما دنى من اليمن ليدخلها حالت حمير بين ذلك وبينه وقالوا لا تدخل علينا وقد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال انه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار وكانت باليمن نار فى أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه فتاكل الظالم ولا تضر المظلوم قال تبع أنصفتم فخرج القوم باوثانهم وما يتقربون به فى دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار فاقبلت حتى غشيتهم فاكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما يتلوان التوراة تعرق جباهما لم تضرهما ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فاصفقت عند ذلك حمير على دينهما فمن هنالك كان اصل اليهودية فى اليمن وذكر أبو حاتم عن الرقاشي قال كان أبو كرب اسعد الحميرى من التبابعة(1/6145)
أمن بالنبي صلعم قبل ان يبعث بسبعمائة سنة وذكر لنا ان كعبا كان يقول ذم اللّه قومه ولم يذمه وكانت عائشة تقول لا تسبوا تبعا فانه كان رجلا صالحا وقال سعيد بن جبير هو الذي كسا البيت روى البغوي بسنده عن سهل بن سعد قال سمعت النبي ص يقول لا تسبوا تبعا فانه
كان قد اسلم روى البغوي بسنده عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم ما أدرى تبع أ كان نبيا أو غير نبى انتهى كلام البغوي فى سورة الدّخان كُلٌّ أى كل واحدا وكل قوم منهم أو جميعهم كَذَّبَ أفرد الضمير للفظة كل الرُّسُلَ أورد صيغة الجمع لان من كذب واحدا فقد كذب جميعهم أو لانهم كانوا كلهم لا يومنون باللّه وحده وكانوا ينكرون إرسال الرسل بالطريق الاولى فَحَقَّ وجب وحل وَعِيدِ أى وعيدي أى عذابى الموعود كل ذلك يحل بهؤلاء الكفار مكذبى الرسل اثبت الياء وصلا ورش والباقون حذفوها فى الحالين.
أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فى القاموس عى بالأمر لم يهتد لوجه مراده أو عجز عنه ولم يطلق أحكامه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 67(1/6146)
و الهمزة للانكار والفاء للعطف والتعقيب على مضمون قوله تعالى أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ قوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح إلى آخره معترضات والمستفاد انكار تعقب الخلق ما سبق ذكره والمعنى بنينا السماء بلا فروج ومددنا الأرض وألقينا فيها رواسى وأنزلنا من السماء ماء فانبتنا بها ما ذكر فلم نعى بخلقها أول مرة كما ترونه تعرفون به كيف نعى بالاعادة وليس أول الخلق باهون من إعادته والكفار مع اعترافهم بذلك وقيام الدليل لا يعترفون بالاعادة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أى خلط وشبهة والمراد به الشك واصل اللبس الستر وفى حالة الشك يختلط الحق بالباطل ويستر الحق مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أى معاد وقال رسول اللّه صلعم قال اللّه تعالى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك شتمنى ولم يكن له ذلك فاما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدأنى وليس أول الخلق باهون له علىّ من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وانا اللّه أحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد رواه البخاري عن أبى هريرة وعن ابن عباس نحوه.(1/6147)
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ أى تحدث بِهِ نَفْسُهُ صلى الوسوسة الصوت الخفي والمراد ما يخطر بالبال وما فيما توسوس موصولة والباء فى به صلة يقال صوت بكذا والضمير عايد إلى ما أو مصدرية والباء للتعدية والضمير عائد إلى الإنسان ونعلم خبر مبتداء محذوف والجملة الاسمية حال من فاعل خلقنا أو مفعوله أو كليهما وتقديره ونحن نعلم ما تحدث به نفسه به فان اللّه تعالى خلق الإنسان ووسوسة ولكل شىء عرض وجوهر والخلق بالاختيار والارادة مسبوق بالعلم ضرورة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أى إلى الإنسان مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الحبل العرق وإضافته إلى الوريد من قبيل شجرة الأراك ويوم الجمعة للبيان والجملة حال ثان من فاعل خلقنا والوريد ان عرقان مكتنفان بصفحتى العنق متصلان بالوتين يرد ان من الراس إليه قيل سمى وريد ان لان الروح يرده واختلف اقوال العلماء فى تصوير هذه الا قربية فقال علماء الظاهر المراد قرب علمه منه قال البيضاوي معناه نحن اعلم بحاله ممن كان اقرب إليه من حبل الوريد ففيه تجوز لقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبه وحبل الوريد مثل يضرب لكمال القرب يقال الموت ادنى لى من الوريد قال البغوي معناه نحن اعلم به منه لان أبعاضه واجزائه يحجب بعضها بعضا ولا يحجب عن علم اللّه شىء وعلى هذا التأويل يلزم جواز ان يقال الطبيب اقرب إلى المريض من حبل الوريد فان المريض لا يعلم بعض أحواله من الصحة والمرض ما يعلمه الطبيب ولو بالاستدلال لا سيما إذا كان شىء عديم العلم والعقل يعلم بعض أحواله وهو لا يعلم شيئا من احوال نفسه فيجوز ان يقال انا اقرب من السماء من نفسه فالاقتصار فى القول باقر بيته سبحانه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 68(1/6148)
الى خلقه بهذا المعنى غير مرضى عندى وقالت الصوفية العلية بل اللّه سبحانه اقرب إلى المخلوقات من أنفسها قربا ذاتيا لا زمانيا ولا مكانيا ولا متكيّفا بكيفية أصلا - يدرك ذلك القرب بنور الفراسة لا بالمشاعر أو الاستدلال وغاية ما يقال فى هذا المقام ان العالم من حيث انه محتاج فى الوجود والبقاء إلى الواجب يشبه نسبته إلى الواجب بنسبة الظل إلى الأصل فان الظل لا وجود له ولا بقاء الا بوجود أصله فالاصل اقرب إلى الظل من نفسه والواجب اقرب إلى الممكن من نفسه بالذات الا ترى ان الممكن ما لم ينتسب إلى الواجب لم يجب بالغير وما لم يجب لم يوجد وما لم يوجد لا يجوز حمله على نفسه حملا أوليا غلا يقال زيد ما لم يوجد يجوز حينئذ سلبه عن نفسه إذ يشترط وجود الموضوع للحمل الإيجابي وان كان حملا أوليا فوجود الممكن اقرب إلى ذات الممكن من ذاته لجواز سلب الشيء عن نفسه ما لم يوجد والمراد بالوجود هاهنا ما به الموجودية لا المعنى المصدرية فذات اللّه سبحانه اقرب إلى الممكن من ذاته فهو ابعد فى الوجدان واقرب بالذات ولما كانت الصوفية ينسبون العالم إلى دائرة الظلال والظلال إلى الصفات والصفات إلى الذات وفى الظلال مراتب كثيرة كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ان للّه سبعون الف حجاب من نور وظلمة لو كشفت لا حرقت صبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وكذا فى الصفات قال اللّه تعالى ولو ان ما فى الأرض من شحرة أقلام والبحر يمده من بعده لسبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه وقال اللّه تعالى ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق فنبأ على هذا - قال المجدد قدس سره العزيز انه سبحانه وراء الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء فى جهته القرب دون البعد يعنى ظلال الصفات اقرب إلى الممكن من الممكن وصفات اللّه تعالى اقرب إلى الممكن من ذاته ومن الظلال واللّه سبحانه اقرب إلى الممكن من ذاته ومن الظلال ومن الصفات واللّه تعالى(1/6149)
اعلم (فائدة) هذا النوع من القرب المستفاد من هذه الآية يعم الخلائق كلها حتى الكافرين وللّه سبحانه بخواص عباده قرب اخر لا يشارك النوع الأول من القرب الا اشتراكا اسميا لا حقيقيا وذلك القرب أيضا يدرك بالفراسة الصحيحة ويستفاد من الكتاب والسنة قال اللّه تعالى واسجد واقترب وقال اللّه تعالى اللّه معنا ان معى ربى عند ذى العرش مكين عند مليك مقتدر وفى فتدلى فكان قاب قوسين أو ادنى ونحو ذلك و
قال عليه الصلاة والسلام لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل ونحو ذلك وهذا القرب يسمى بالولاية ولها مراتب لا تعدو لا نحصى ولا يدل عليه كلمة لا يزال ويضاده البعد المختص بالكفار قال اللّه تعالى الا بعد العاد قوم هود الا بعد الثمود الا بعدا للقوم الظالمين - .
إِذْ يَتَلَقَّى أى يأخذ الملكان الْمُتَلَقِّيانِ الموكلان بالإنسان ومفعول يتلقى محذوف مراد يعنى يتلقى عمله ومنطقه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 69
يحفظانه ويكتبانه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ الجار والمجرور متعلق بقعيد وقعيد بدل من المتلقيان والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أى مقاعد كالجليس بمعنى المجالس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وقيل يطلق الفعيل على الواحد والكثير كقوله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير والمراد بالقعيد اللازم الذي لا يبرح الا القاعد الذي هو ضد القائم وقال مجاهد القعيد الرصيد والظرف متعلق با ذكر يعنى اذكر إذ يتلقى أو متعلق بأقرب إيذانا بانه تعالى غنى عن استحفاظ الملكين فانه اعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكنه لحكمة اقتضته والزام حجة يوم يقوم الاشهاد و.(1/6150)
ما يَلْفِظُ الإنسان من فيه مِنْ قَوْلٍ من زائدة وقول مفعول به إِلَّا لَدَيْهِ ملك رَقِيبٌ يرقب عمله ليكتب عَتِيدٌ حاضر معه الاستثناء مفرغ والمستثنى صفة لقول قال الحسن انما الملئكة يجتنبون الإنسان على حالين عند غايطه وعند جماعة وقال مجاهد يكتبان عليه حتى آتيناه فى مرضه وقال عكرمة لا يكتبان الا ما يوجر عليه أو يوزر فيه روى البغوي بسنده عن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلعم كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات امير على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه لسبع ساعات لعله يسبح ويستغفر ورواه ابن راهويه فى مسنده والبيهقي فى شعب الايمان لما ذكر اللّه تعالى استبعادهم البعث للجزاء وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه ببيان مبدأ خلق العالم من بناء السماء والأرض ومبدأ خلق الإنسان ومعاشه بقوله ولقد خلقنا الإنسان إلى هاهنا عقب ذلك قرب الموت وقيام الساعة تهديدا وتوعيدا فقال.(1/6151)
وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أى غمرته وشدته التي يغشى الإنسان ويزيل عقله جاء جاءت وما عطف عليه اعنى نفخ وجاءت وكشفنا وقال بصيغة الماضي ومعناه المستقبل للدلالة على قربه وتحقق وقوعه بِالْحَقِّ ط الباء للتعدية والمعنى أحضرت سكرات الموت الأمر المتحقق الثابت فان الدنيا وما فيها كانها سراب لا تحقق لها وما كان بعد الموت فهو امر ثابت لا مردّ له أو الوعد الحق الذي لا يحتمل تخلفه من الموت أو الجزاء فان الإنسان خلق له وجاز ان يكون حالا متلبسا بالحق ومستصحبا له والحق هو الموت وما بعده وجاز ان يكون بالحق حملة مؤكدة لما سبق يعنى هذا القول متلبس بالحق ذلِكَ اشارة إلى الحق بمعنى الموت أو الجزاء ما كُنْتَ أيها الإنسان مِنْهُ تَحِيدُ أى تميل وتفر عنه يعنى تكره الموت وتنكر الجزاء وهذه الجملة بتقدير القول حال من مقدر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 70
تقديره جاءت سكرة موت الإنسان بالحق يقال له ذلك ما كنت منه تحيد فان المراد بالموت موت الإنسان - .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة البعث ذلِكَ اشارة إلى يوم يقول لجهنم ان كان ظرفا لنفخ والا فهو اشارة إلى مصدر نفخ والمضاف محذوف يعنى وقت ذلك النفخ يَوْمُ تحقق الْوَعِيدِ والجملة مفعول يقال المحذوف يعنى يقال ذلك يوم الوعيد أخرج أبو النعيم فى الحلية عن عكرمة قال ان الذين يفرقون فى البحر فتقسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منهم شىء الا العظام فيلقها الأمواج على البر فيمكث العظام حتى تصير نخرة فتمر بها الإبل فياكل ثم يسير؟؟؟ الإبل فتبحرها ثم يجىء بعدهم قوم فينزلون منزلا فياخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم تخمد ذلك النار فتجىء ريح فيلقى ذلك الرماد على الأرض فإذا جاءت النفخة خرج أولئك واهل القبور.
وَجاءَتْ ذلك اليوم كُلُّ نَفْس ٍ(1/6152)
مؤمنة وكافرة مَعَها محلها النصب على الحال من كل لاضافة إلى ما هو فى حكم المعرفة سائِقٌ وَشَهِيدٌ أخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم فى تفاسيرهم عن عثمان بن عفان فى الآية قال سائق يسوقها إلى امر اللّه تعالى وشهيد يشهد عليها بما عملت واخرج ابن أبى حاتم والبيهقي عن أبى هريرة قال السائق الملك والشهيد العمل ذكر السيوطي فى كتاب البرزخ من حديث جابر مرفوعا فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فانتشطا كتابا معقودا فى عنقه ثم حضرا معه أحدهما سائق واخر شهيد أخرجه أبو نعيم وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا وقال البغوي وقال الضحاك السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والا رجل وهو رواية العوفى عن ابن عباس.
لَقَدْ كُنْتَ على إضمار القول يعنى يقال له لقد كنت فى الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الذي نزل بك هذا اليوم فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الحاجب لامور المعاد وهو الغفلة والانهماك فى المحسوسات والالف بها وقصور النظر عليها والرين واسودا والقلب المكي عنه بقوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وقوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ تبصر ما كنت تنكره فى الدنيا قال البغوي روى عن مجاهد يعنى نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيّئاتك حديد.
وَقالَ قَرِينُهُ أى الملك الموكل عليه عطف على يقال المحذوف هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أى حاضرها اما موصوفة والظرف صفة له وعتيد صفة بعد صفة واما موصولة خبر مبتداء والظرف صلتها وعتيد بدل منها أو خبر بعد خبر أو خبر مبتداء محذوف والاشارة اما إلى الشخص أو إلى ديوان عمله يصفى هذا شىء كاين عندى حاضرا وهذا الذي هو كائن عندى حاضرا وهذا حاضر فيقول اللّه تعالى.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 71(1/6153)
أَلْقِيا خطاب من اللّه تعالى للسايق والشهيد أو للملكين من خزنة النار أو الواحد وتثنية الفاعل بمنزلة تثنية الفعل للتاكيد أو الالف بدل من نون التأكيد الخفيفة للوصل مجرى الوقف ويؤيده ما قرىء بالنون الخفيفة - فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ معاند للحق.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أى للزكوة المفروضة وكل حق وجب فى ماله مُعْتَدٍ ظالم لا يقر بتوحيد اللّه تعالى مُرِيبٍ شاك فى اللّه وفى دينه.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الموصول مبتداء متضمن معنى الشرط وخبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ وهو النار أو الموصول بدل من كل كفار فالقياه تكرير للتاكيد الموصول مفعول يفسره فالقياه.(1/6154)
قالَ قَرِينُهُ يعنى الملك الموكل به كذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل قال سعيد بن جبير يقول الملك ذلك حين يقول الكافر رب ان الملك زاد على فى الكتابة فيقول الملك رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ يعنى ما نسبته إلى الكفر والطغيان وما زدت عليه فى الكتابة ولكون هذه الجملة جوابا بالمحذوف اعنى قول الكافر هو أطغاني وكذب على استونفت هذه الجملة كما تستانف الجمل الواقعة فى حكاية التقاؤل بخلاف الاولى اعنى وقال قرينه فانها واجبة العطف ما قبلها للدلالة على جميع مفهوماتهما فى الحصول اعنى مجىء كل نفس وقول قرينه بما قال وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ وقال بعض المفسرين المراد بالقرين الشيطان الذي قيض لهذا الكافر يعنى ان الكافر يقول أطغاني شيطانى فيقول الشيطان ربنا ما أضللته ولا اغويته ولكن كان فى ضلال بعيد فاعنته فان إغواء الشيطان انما يوثر فيمن كان مختل الرأي مايلا إلى الفجور كما قال وما كان لى عليك سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لى ولا تلومونى ولوموا أنفسكم ولهذا ترى المخلصين الكرام الصوفية العلية شمر واذيلهم وبذلوا جهدهم فى مجاهدة أنفسهم وتزكيتها كيلا تتطرق إليهم الشيطان واللّه اعلم لكن ما ذكره علماء العربية ان المعرفة إذا أعيدت فالثانى غير الأول كما فى قوله تعالى فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا معناه ان مع عسر واحد يسرين وان الأصل فى الاضافة العهد الخارجي يقتضى ان يكون المراد بقرينته ثانيا أيضا الملك الموكل به كما قال سعيد بن جبير وغيره وقال بعض المتأخرين المراد بالقرين فى كلا القرينتين الشيطان الذي قيض مع الكافر فهو له قرين ومعنى قوله هذا مالدى عتيد هذا الشخص ما عندى وفى سلطانى عتيد لجهنم هيّئته لها باغوائى ومعنى قوله ما أطغيته ولكن كان فى ضلال بعيد ان ما أطغيته كرها ولكن كان فى ضلال بعيد فاتبعنى باختياره واستجاب لى دعوتى إياه إلى الكفر والمعاصي ولم يستجب(1/6155)
دعوة رسلك.
قالَ اللّه تعالى لا تَخْتَصِمُوا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 72
لَدَيَ
اى موقف الحساب بحيث لا فائدة فيه وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان فى كتبى وعلى السنة رسلى فلم يبق لكم حجة وهو حال وفيه تعليل للنهى أى لا تختصموا عاملين بان اوعدتكم والباء زائدة وجاز ان يكون بالوعيد حالا والمفعول به قوله تعالى.
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ يعنى لا يتخلف قولى بانّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فلا تطمعوا غفرانى وقال الكلبي واختاره القراء أن المعنى لا يكذب عندى ولا يغير القول عن وجهه لانى اعلم الغيب وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ليس المراد نفى مبالغة الظلم بل نفى اصل الظلم وانما أورد صيغة المبالغة تعريضا للمخاطبين يعنى ان الكافرين فى الظلم كما فى قوله تعالى أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - .(1/6156)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ قرأ نافع وأبو بكر يقول بالياء على الغيبة والضمير عايد إلى اللّه سبحانه على نسق قوله تعالى قال لا تختصموا والباقون بالنون على التكلم ولما سبق من اللّه تعالى انه يملأ جهنم من الجنة والناس فهذا سوال منه تعالى لتصديق خبره وتحقيق وعده وَتَقُولُ يعنى جهنم فى الجواب هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان استفهام انكار ومعناه قد امتلأت فلم يبق فى موضع لم يمتل يعنى لا يتصور المزيد على هذا الامتلاء الذي حصل والصحيح انه استفهام للاستزادة لما روى الشيخان فى الصحيحين عن انس عن النبي صلعم قال لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزت فيها قدمه فينزوى بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال فى الجنة فضل حتى ينشىء اللّه تعالى لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة واخرج ابن أبى عاصم فى الستة عن أبى بن كعب قال قال رسول اللّه صلعم جهنم تسال المزيد حتى يضع الجبار تعالى قدمه فيها فينزوى بعضها إلى بعض وتقول قط قط وقال البغوي روى عن ابن عباس رض ان اللّه تعالى سبقت كلمته لاملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق اعداء اللّه إليها لا يلقى فيها فوج الا ذهب فيها ولا يملأ هاشى فتقول الست قد أقسمت لتملأنى فيضع قدمه عليها ثم يقول هل امتلأت فتقول قط قط فليس مزيد وقال البيضاوي هذا السؤال والجواب جىء بهما التخييل والتصوير يعنى انها مع اتساعها تطرح فيها من الجنة والناس فوجا فوجا حتى تمتلى لقوله تعالى لاملأن هذا على تقدير كون الاستفهام للانكار أو انها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ أو انها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثر لهم والطالب للزيادة وهذين التوجهين على تقدير كون الاستفهام للاستزادة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 73(1/6157)
و لكن لا ضرورة إلى هذا التأويل والاولى الحمل على حقيقة السؤال والجواب ولا استبعاد فى انطاقها كانطاق الجوارح ويوم اما منصوب بتقديرا ذكر مقدرا أو ظرف لنفخ وما عطف عليه على سبيل التنازع.
وَأُزْلِفَتِ أى أدنيت عطف على نفخ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ من الشرك غَيْرَ بَعِيدٍ منصوب على الظرف أى مكانا غير بعيدا وزمانا غير بعيد وعلى الحال وتذكيره لأنه صفة محذوف أى شيئا غير بعيد أو لان الجنة بمعنى البستان والغرض من هذا التقييد التوكيد كما يقال قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل.
هذا الثواب أو الا زلاف مبتداء خبره ما تُوعَدُونَ قرأ ابن كثير بالياء على الغيبة والضمير للمتقين والباقون بالتاء على الخطاب للمتقين بإضمار القول يعنى يقال لهم هذا ما توعدون لِكُلِّ أَوَّابٍ بدل من المتقين باعادة الجار وجاز ان يكون هذا مبتداء وما توعدون صفة ولكل أواب خبره والمعنى رجاع إلى اللّه عما سواه ظاهر أو باطنا وقيل رجاع من المعاصي إلى الطاعات وقال سعيد بن المسيب الذي يذنب ثم يتوب وقال الشعبي ومجاهد الذي يذكر ذنوبه فى الخلاء فيستغفر منها وقال الضحاك هو التواب وقال ابن عباس وعطاء المسبح كما فى قوله تعالى يا جبال اوّبى وقال قتادة المصلى وعن زيد بن أرقم ان رسول اللّه صلعم قال صلوة الأوابين حين ترمض الفصال رواه مسلم حَفِيظٍ يعنى دايم الحضور لا يغفل عن اللّه طرفة عين وقال ابن عباس الحافظ لامر اللّه وعند أيضا انه هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع ويستغفر منها يعنى لا يرى ذنوبه سهلا وقال قتادة حفيظ لما استودعه اللّه من حقه وقال الضحاك هو المحافظ على نفسه المتعهد لها وقال الشعبي المراقب وقال سهيل بن عبد اللّه هو المحافظ على الطاعات.(1/6158)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ مخلص مقبل على الطاعة ومحل من مجرور على انه بدل بعد بدل للمتقين أو بدل من موصوف أواب أو مرفوع على الابتداء خبره.
ادْخُلُوها على تاويل يقال لهم ادخلوها فان من معناه الجمع وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول أو صفة لمصدر أى خشية متلبسة بالغيب يعنى خشى عقابه وهو غايب من اللّه تعالى يعنى فى الدنيا حين لم يره أو غايب عن عقابه أو هو غايب عن الأعين لا يراه أحد قال الضحاك والسدى والحسن يعنى فى الخلوة حيث لا يراه أحد وتخصيص الرحمن للاشعار بانهم رجوا رحمته وخافوا عذابه أو بانهم يخشون عذابه مع علمهم بسعة رحمته لا يغترون برحمة ولا يجئرون على معاصية ووصف القلب بالانابة لان المعتبر وانما هى الانابة بالقلب بِسَلامٍ ط أى متلبسين بسلامة يعنى سالمين من العذاب والهموم وزوال النعمة أو بسلام يعنى مسلما عليكم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 74
من اللّه وملائكته ذلِكَ اشارة إلى الدخول بتقدير المضاف يعنى وقت ذلك الدخول فى الجنة يَوْمُ الْخُلُودِ يوم تقدير الخلود كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ روى الشيخان من ابن عمر عن النبي صلعم قال يدخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد فيما هو فيه وروى البخاري عن أبى هريرة مرفوعا يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت.(1/6159)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ وهو مما لا يخطر ببالهم ممالا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلعم قال ان ادنى مقعد أحدكم من الجنة ان يقول له تمن فيتمنى ويتمنى فيقول هل تمنيت فيقول نعم فيقول لك ما تمنيت ومثله معه رواه مسلم واخرج نهاد عن أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلعم وذكر حديثا طويلا قال فيه ثم يقول اللّه تعالى انى اعهدت إلى عبادى انى لا ادخل الجنة رجلا الا جعلت له فيها ما اشتهت نفسه لكم فيها ما سالتم ومثله وقال جابر وانس والمراد بالمزيد النظر إلى وجه اللّه الكريم أخرج مسلم وابن ماجة عن صهيب عن النبي صلعم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول اللّه تعالى تريدون شيأ أزيدكم فيقولون الم تبيض وجوهنا الم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية - للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وروى ابن خزيمة وابن مردوية عن أبى موسى الأشعري وكعب بن عجرة وابى بن كعب وابن مردوية وأبو الشيخ عن انس وأبو الشيخ عن أبى هريرة وكذا عن أبى بكر الصديق وابن عباس وحذيفة وابن مسعود وغيرهم عن رسول اللّه صلعم قال ان اللّه تعالى يبعث يوم القيامة مناديا ينادى الصوت يسمعه أولهم وآخرهم يا أهل الجنة ان اللّه وعدكم الحسنى وزيادة الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن واللّه تعالى أعلم .(1/6160)
وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أى قبل قومك مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ أى من قومك بَطْشاً قوة كعاد وفرعون وغيرهم وجملة هم أشد صفة لقرن فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ فى القاموس نقب فى الأرض أى ذهب كانقب ونقب قلت التشديد للتكثير والمعنى اذهبوا فى البلاد للتصرف فيها والتمتع وحينئذ الفاء للسببية فان شدة بطشهم سبب للتصرف فى البلاد أو المعنى جالوا فى الأرض كل مجال حذر الموت والفاء حينئذ لمجرد التعقيب هَلْ مِنْ مَحِيصٍ من زائدة محيص فى محل الرفع على الفاعلية أو النصب على المفعولية بفعل محذوف والاستفهام للانكار تقديره بل كان لهم محيص أو هل وجدوا لهم محيصا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 75
فكيف يغفل أهل مكة ويلههم الأمل وجاز ان يكون نقبوا معطوفا على أهلكنا والضمير عايد إلى أهل مكة والمعنى انهم ساروا فى بلاد القرون الخالية فتشوا اخبارهم ورأوا اثارهم فهل محيصا حتى يتوقعوا مثلهم.(1/6161)
إِنَّ فِي ذلِكَ السورة وان كان ضمير نقبوا راجعا إلى أهل مكة فيجوز ان يكون المشار إليه مصدر نقبوا يعنى فى سيرهم فى البلاد لَذِكْرى تذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أى قلب صاف عن الكدورات صالح لتجليات الصفات له لعينه غير متكفية بالذات مشتغل باللّه فارغ عن غيره مصدق لحديث قدسى لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن ولا يكون القلب هكذا الا بعد الفناء المصطلح للصوفية وقال ابن عباس معناه كان له عقل تسمية الحال باسم المحل وقيل المراد قلب داع يتفكر فى حقائق الأمور وكان ان كان ناقصة بمعناه أو بمعنى صار فقلب اسمه وله خبر وان كان تامة فقلب فاعله وله حال من الفاعل والجار والمجرور اعنى لمن كان إلخ متعلق بذكرى أو بالظرف المستقر اعنى فى ذلك أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ عطف على صلة من وَهُوَ شَهِيدٌ قال من فاعل القى يعنى ان السورة موعظة لمن كان له قلب سليم أو استمع القرآن وهو شهيد حاضر قلبه ولو بتكلف لا بتغافل أو شاهد يصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره قلت فالاول بيان الكاملين والثاني بيان المريدين المخلصين نظيره قوله عليه الصلاة والسلام الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك يعنى - يتصور الحضور بتكلف أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس ان اليهود أتت رسول اللّه صلعم فسالت عن خلق السموات والأرض فقال خلق اللّه الأرض يوم الأحد والبحار يوم الاثنين وخلق الجبال يوم الثلثاء وما فى هن من المنافع وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمداين والعمران والخراب وخلق اللّه يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلث ساعات بقين منه فخلق فى أول ساعة الآجال حين يموت من مات وفى الثانية التي الآفة على كل شىء ينتفع به الناس وفى الثالثة آدم واسكنه الجنة وامر إبليس بالسجود له وأخرجه منها فى اخر الساعة قالت اليهود ثم ماذا يا محمد(1/6162)
قال ثم استوى على العرش قالوا قد أصبت لو أتممت قالوا ثم استراح فغضب النبي صلعم غضبا شديدا فنزلت.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من تعب واعيا. - .
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أى اليهود ان اللّه تعالى أعيى فاستراح أو المشركون فى امر البعث فانه من قدر على خلق العالم فهو قادر على بعثهم والانتقام منهم وروى مسلم عن أبى هريرة من غير ذكر اليهود
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 76
و لا ذكر نزول الآية ولفظه أخذ رسول اللّه صلعم بيدي فقال خلق اللّه التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة فى اخر الخلق فى اخر الساعة من النهار بين العصر إلى الليل قلت لعل ذكر خلق التربة يوم السبت من غلط بعض الرواية والصحيح ان بدأ خلق العالم من يوم الأحد وتمامه يوم الجمعة كما يدل عليه قوله تعالى خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ والسبت اليوم السابع فان قيل قد صح من الأحاديث ما يدل على ان خلق آدم بعد خلق السموات والأرض والملائكة والجن بزمان طويل وكان قبل ذلك سلطنة الجن وكان إبليس فى الملائكة وكان له ملك الأرض وملك سماء الدنيا والجنة يعبد اللّه تارة فى الأرض وتارة فى السماء وتارة فى الجنة وفسر قوله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَي ْئاً مَذْكُوراً(1/6163)
انه قد اتى على آدم أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل ان ينفخ فيه الروح لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به كذا قال البغوي وغيره وهذا الحديث يدل على ان آدم خلق فى اخر الساعة من جمعة خلق فيها الملائكة والفلكيات فكيف التوفيق قلت لعل المراد بخلق آدم تقديره فى اللوح المحفوظ يدل عليه وقوله خلق فى أول ساعة الآجال حين يموت من مات وفى الثانية القى الآفة على كل شى ينتفع به الناس فانه لا يتصور ذلك بمعنى التقدير - وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يعنى صل متلبسا بحمد ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعنى صلوة الفجر وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعنى صلوة العصر وروى عن ابن عباس قال قبل الغروب الظهر والعصر هذا لعل قول ابن عباس مبنى على ان وقت الضروري للصلوتين واحد كما قال به مالك وغيره.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعنى صلوة المغرب والعشاء وقال مجاهد المراد منه صلوة الليل اىّ وقت صلى يعنى نوافل وَأَدْبارَ السُّجُودِ قرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسر الهمزة مصدر أدبر ادبار أو قرأ الآخرون بفتحها على انه جمع دبر قال البغوي قال عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب والحسن والشعبي والنخعي والأوزاعي ادبار السجود ركعتان قبل صلوة المغرب وادبار النجوم ركعتان قبل صلوة الفجر وهى رواية العوفى عن ابن عباس ورواه الترمذي عن ابن عباس مرفوعا هكذا قال اكثر المفسرين ولم يظهر لى وجه اطلاق ادبار السجود على صلوة قبل صلوة المغرب مع ان وقت الغروب تبيلها؟؟؟ ليس وقت السجود والظن ان يكون المراد من ادبار السجود النوافل الراتبة بعد الفرائض وجاز ان يكون معنى قوله تعالى سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قل سبحان اللّه و
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 77(1/6164)
بحمده روى الشيخان عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم من قال حين يصبح وحين يمسى سبحان اللّه مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه روى الشيخان عنه مرفوعا من قال سبحان اللّه وبحمده فى يوم مائة مرة حطت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر وهما عنه قال قال رسول اللّه صلعم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان جيبتان إلى الرحمن سبحان اللّه وبحمده سبحان العظيم وقال مجاهد قوله تعالى ادبار السجود هو التسبيح باللسان فى ادبار الصلوات المكتوبات عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم من سبح فى دبر كل صلوة مكتوبة ثلثا وثلثين وحمد اللّه ثلثا وثلثين وكبر اللّه ثلثا وثلثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال تمام الآية لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير غفرت خطاياه وانى كانت مثل زبد البحر رواه المسلم والبخاري ونحوه أخرج مالك وابن خزيمة.(1/6165)
وَ اسْتَمِعْ صيغة امره ما بعده بتأويل المفرد أو بتقدير المضاف مفعول به يعنى اسمع ما يملى عليك أو اسمع حديث يَوْمَ يُنادِ وفائدة قوله تعالى استمع التنبيه والتهويل وتعظيم المخبر به والظرف على التأويل الأول متعلق بفعل محذوف دل عليه يوم الخروج تقديره يخرج الناس كلهم من القبور يوم ينادى قال النقاش عن أبى ربيعة عن البزي وابن مجاهد عن قنبل ينادى بالياء فى الوقف فقط والباقون يقفون بغير ياء الْمُنادِ اثبت الياء فى الحالين ابن كثير وفى الوصل خاصة نافع وأبو عمرو والباقون حذفوها فى الحالين قال مقاتل ينادى اسرافيل بالحشر أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المقمزقة والشعور المتفرقة ان اللّه يأمركم ان تجتمعوا الفصل القضاء وكذا أخرج ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي فى هذه الآية قال يقف اسرافيل على صخرة بيت المقدس فيقول يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والاشعار المنقطعة ان اللّه يأمركم ان تجتمع لفصل الخطاب مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ متعلق بيناد يعنى من صخرة بيت المقدس وهو قريب من القبور لكونها من الأرض وهما فى وسط الأرض وقال الكلبي هى اقرب الأرض إلى السماء ثمانية عشر ميلا.(1/6166)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ بدل من يوم يناد أى الأموات يسمعون بإذن اللّه تعالى فان الأموات والجمادات فى الاستماع إذا أراد اللّه تعالى كالاحياء فان الموجودات لا تخلو عن نوع من الحيوة كما حققناه فى تفسير سورة الملك وكذا انعقد الإجماع على عذاب القبر على الروح والجسد جميعا أخرج الشيخان عن انس ان النبي صلعم وقف على قتلى بدر فقال يا فلان بن فلان يا فلان بن فلان وهل وجدتم ما وعد ربكم حقا فانى وجدت ما وعدني ربى حقا قال عمر يا رسول اللّه كيف تكلم اجراما لا أرواح فيها فقال ما أنتم باسمع لما أقول منهم غير انهم لا يستطيعون ان يرد وأعلى شيئا وقال القرطبي نفخة الاحياء تمتد وتطول فيكون أوايلها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 78
للاحياء وما بعدها للازعاج من القبور فلا يسمعون ما كان للاحياء ويستمعون ما كان للازعاج وقال السيوطي يحتمل السماع من أول وهلة للارواح وهى فى الصور قلت ما ذكر من كلام اسرافيل خطاب للعظام والجلود لا للارواح فلا فائدة فى سماع الأرواح واللّه تعالى أعلم الصَّيْحَةَ يعنى صيحة اسرافيل المذكور وقال البيضاوي لعله فى إعادة نظير كن يعنى امر تكوينى لا يشترط فيه السماع قلت لكن قوله تعالى يوم يسمعون صريح فى اثبات السماع فالاولى ما قلت بِالْحَقِّ ط متعلق بالصيحة والمراد به البعث للجزاء ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ فى الاخرة.(1/6167)
يَوْمَ تَشَقَّقُ قرأ الكوفيون وأبو عمرو بتخفيف الشين بحذف أحد التاءين والباقون بالتشديد بابدال التاء شينا والإدغام واصله يتشقق الْأَرْضُ عَنْهُمْ أى عن الأموات إذا ادعوا إلى الحساب والظرف اعنى يوم تتشقق متعلق بفعل دل عليه قوله تعالى ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ تقديره يحشرون يوم تشقق الأرض عنهم سِراعاً ط جمع سريع حال من الضمير المرفوع فى الفعل المقدر يعنى يحشرون سراعا وقيل من الضمير المجرور فى عنهم يعنى تشقق الأرض عنهم حال كونهم مسرعين فى الخروج ذلِكَ الحشر دفعة واحدة المفهوم مما سبق حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ الظرف متعلق بيسير قدم عليه للاختصاص فان ذلك لا تيسير الا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شان عن شان كما قال ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعنى كفار مكة فى تكذيبه فيه تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتهديد لهم - وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ قف تجبرهم على الإسلام انما بعثت مذكرا وداعيا - أخرج ابن جرير من طريق عمرو بن قيس الملائى عن ابن عباس قال قالوا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو خوفتنا فنزلت فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ثم أخرج عن عمر مثله مرسلا قرأ ورش وعيدي وصلا فقط والباقون يحذفونها فى الحالين يعنى لا ينفع تذكيرك بالقران الا من يخاف ما أوعدت به من عصانى من العذاب يعنى المسلمين واللّه تعالى أعلم .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 79
سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ربّ يسّر وتمّم بالخير.
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً مصدر يعنى الرياح تذر والتراب وغيره أو النساء والمولود فانهن يذرين أولاد أو الأسباب التي تذرى الخلائق من الملائكة وغيرها قرأ أبو عمرو بإدغام التاء فى الذال.(1/6168)
فَالْحامِلاتِ وِقْراً أى ثقلا مفعول به يعنى الرياح الحاملات للسحاب أو النساء الحاملات النطف والاجنة أو السحب الحاملة للمطرا واسباب ذلك.
فَالْجارِياتِ يُسْراً صفة مصدر محذوف يعنى جريا سهلا وهى الرياح الجارية فى مهابها والنساء الجاريات فى خدمته الأزواج يسرا لكونهن حاملات أو السفن الجارية فى البحر سهلا أو الكواكب التي تجرى فى منازلها.
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً مفعول به يعنى الرياح التي تقسم الأمطار بتصرف السحاب أو الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها أو ما يعمها من اسباب القسمة فان حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الاقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت فى الدلالة على كمال القدرة والا فالفاء للترتيب افعال وجواب القسم.
إِنَّما تُوعَدُونَ من البعث ما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية - لَصادِقٌ يعنى وعد صادق كعيشة راضية أى ذات رضاء.
وَإِنَّ الدِّينَ أى الجزاء من الثواب والعقاب لَواقِعٌ لكائن لا محالة من اللّه سبحانه كأنَّه استدلال بما اقسم به من الأشياء
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 80
العجيبة الدالة على كمال قدرة الصانع المختار على الاقتدار على البعث الذي أوقعه جوابا للقسم ثم عطف على الجملة القسمية الاخرى فقال.(1/6169)
وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ جمع حبيكة كطريقة وطرق أو حباك كمثال ومثل فى القاموس الحبك الشداد الاحكام وتحسين اثر الصنعة فى الثواب وحبك الرمل بضمتين حروفه الواحدة حباك ككتاب ومن الماء والشعير الجعد المنكسر منها ومن السماء طريق النجوم قال البغوي قال ابن عباس وقتادة وعكرمة ذات الخلق الحسن المستوي يقال للنساج إذا نسج الثوب فاجاد ما احسن حبكه وقال سعيد ابن جبير ذات الزينة قال الحسن حبكت بالنجوم قال مجاهد هى المتقن البنيان وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل والشعر الجعد ولكنها لا يرى لبعدها من الناس قال البيضاوي معناه ذات الطرائق والمراد اما الطرائق المحسوسة التي هى مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار ويتوسل بها إلى المعارف أو النجوم فان لها طرايق أو انها تزينها كما يزين المواشي طرايق الوشي وجواب القسم.
إِنَّكُمْ يا كفار مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ فى الرسول يعنى قولهم تارة انه شاعر وتارة انه ساحر وتارة انه مجنون أو فى القرآن انه سحرا وكهانة أو أساطير الأولين أو شعر قاله من تلقاء نفسه أو فى القيامة فبعضهم شك فيه وبعضهم استحالة وأنكره قال البيضاوي لعل النكتة فى هذا القسم تشبيه أقوالهم فى اختلافها وتنافى أغراضها بالطريق للسموات فى تباعدها واختلاف غاياتها وجاز ان يكون خطابا لاهل مكة يعم المؤمنين والكفار يعنى منكم مصدق ومنكم مكذب.(1/6170)
يُؤْفَكُ عَنْهُ أى يصرف عن الرسول والقران مَنْ أُفِكَ أى صرف فى علم اللّه تعالى يعنى من حرمه اللّه تعالى عن الايمان بمحمد صلعم والقران وجاز ان يكون ضمير عنه راجعا إلى القول المختلف ويكون عن بمعنى من يعنى يصدر افك من افك عن القول المختلف سببه ذلك ان كفار مكة إذا أراد رجل الايمان يتلقونه ويقولون انه ساحر كاذب كاهن مجنون فيصرفونه عن الايمان وهذا معنى قول مجاهد وهذه الجملة معترضة لبيان خيبة من لم يؤمن.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أى الكذابون وهم اصحاب القول المختلف من الكفار والخرص الظن والتخمين من غير دليل موجب لليقين وكلمان مبنيا على دليل صحيح لا يتصور فيه الاختلاف وذكرهم بعنوان الخراصين والجملة فى الأصل دعاء بالقتل اجرى مجرى اللعن.
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أى جهل وغفلة يغمرهم ساهُونَ غافلون عما أمروا به.
يَسْئَلُونَ محمدا صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم استعجالا إنكارا أو استهزاء أَيَّانَ أى متى يَوْمُ الدِّينِ يوم الجزاء جملة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 81
يسالون فى محل النصب على الحالية من الخراصين وجاز ان يكون لبيان علة لعنهم.
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أى يحرقون بالنار كما يفتن الذهب بالنار وعلى بمعنى الباء والظرف اما بدل من يوم الدين والمعنى يسالون متى يوم تعذبنا بالتاء يا محمد فحينئذ محله الرفع على الابتداء وفتح للاضافة إلى غير متمكن وجاز ان يكون جوابا من اللّه تعالى لسوالهم يوم حينئذ خبر لمبتداء محذوف أى هو يوم هم على النار يفتنون أو منصوب على الظرفية بفعل محذوف يعنى يقع الدين يوم هم يفتنون فعلى تقدير كونه داخلا فى السؤال قوله تعالى ذوقوا فتنتكم مرتبط بقوله تعالى قتل الخراصون يعنى يقال لهم.(1/6171)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ط أى عذابكم أو جزاء كفركم وعلى التأويل الثاني حال من الضمير المرفوع فى يفتنون بتقدير مقولا لهم هذا القول هذَا بدل من فتنتكم موصوف لقوله الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فى الدنيا تكذيبا وجاز ان يكون هذا مبتداء والموصول خبر يعنى هذا هو الذي كنتم تستعجلون والجملة تعليل لقوله ذوقوا ثم ذكر اللّه سبحانه حال المؤمنين المصدقين النبي صلعم والقران.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أى انهار جارية.
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الخير والكرامة حال من الضمير فى الظرف يعنى قابلين لما أعطاهم ربهم راضين به يعنى كل ما يأتيهم يكون حسنا مرضيا مقبولا - إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أى قبل دخول الجنة فى الدنيا مُحْسِنِينَ عابدين للّه تعالى بالحضور والإخلاص طالبين رضاه خالصة سبحانه يطلب رضاهم فهذه الجملة تعليل لما سبق ثم فسر إحسانهم وعللها بقوله.(1/6172)
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ما زائده ويهجعون خبر لكان والهجوع النوم ليلا وقليلا منصوب على الظرفية ومن الليل صفة له مبينة أو على المصدرية ومن للتبعيض ومعناه كانوا ينامون زمانا قليلا كائنا من الليل أو هجوعا قليلا فى بعض الليل وجاز ان يكون ما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية وعلى التقديرين قليلا اما منصوب على انه خبر كان وما يهجعون بدل اشتمال من الضمير المرفوع فى كانوا واما منصوب ظرف مستقر فى محل النصب على الخبر وما يهجعون فاعل للظرف والمعنى كان ما يهجعون فيه أو هجوعهم قليلا كائنا من الليل أو كانوا قليلا من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ويصلون اكثر الليل وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس معناه كانوا اقل ليلة تمر بهم الا صلوا فيها شيئا اما من أولها اما من أوسطها أو من آخرها يعنى كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا كذا قال مطرف بن عبد اللّه وقال الضحاك ومقاتل كانوا من الناس قليلا من الليل تهجعون يعنى لا ينامون
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 82
فعلى هذا قليلا خبر كان وجملة من الليل ما يهجعون مستانفة وما نافية قال البيضاوي وغيره هذا لا يجوز لان ما بعد ما لا تعمل فيما قبلها.(1/6173)
وَ بِالْأَسْحارِ يعنى فى الاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ السحر السدس الاخر من الليل وفى القاموس قبيل الصبح وطرف كل شىء يعنى انهم مع قلة هجوعهم وكثرة صلوتهم بالليل إذا سحروا أخذوا فى الاستغفار هضما لانفسهم واستقصارا لعملهم كانهم اسلفوا فى ليلتهم الجرائم ووقع عنهم التقصير فى الطاعات وفى بناء الفعل على الضمير اشعار بانهم أحقاء بذلك لوفور علمهم باللّه العظيم وخشيتهم من اللّه تعالى اللهم انى أسئلك خشية العالمين وعلم الخائفين منك ويقين المتوكلين عليك قال الحسن معناه لا ينامون من الليل إلا قلة وربما نشطوا فمدوا إلى السحر ثم أخذوا فى الاستغفار عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلعم قال ينزل اللّه إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من الذي يدعونى فاستجيب له من الذي يسالنى فاعطيه من الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه وفى رواية المسلم ثم يبسط يديه ويقول من يعترض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر وقد صح عن النبي صلعم انه كان إذا قام من الليل يتهجد يستغفر يقول اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وعدك الحق بقاؤك حق وقولك حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك امنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أنت ربنا وإليك المصير فاغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما اعلنت وما أنت اعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا اله الا أنت ولا اله غيرك متفق عليه من حديث ابن عباس وعن عبادة بن صامت قال قال رسول اللّه صلعم من تعار من الليل فقال لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وسبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر ولا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم ثم قال رب اغفر لى أو قال ثم دعا(1/6174)
استجيب له فان توضأ وصلى قبلت صلوته رواه البخاري وعن عائشة قالت كان رسول اللّه صلعم إذا استيقظ من الليل قال لا اله الا أنت سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك لذنبى واسألك رحم تك اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة انك أنت الوهاب رواه أبو داود.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ يعنى يعطون من أموالهم السائلين الذين يسألون الناس والمحرومين يعنى المتعففين عن السؤال الذين يحسبهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 83
الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف فالمحسنين يعطونهم إذا يعرفونهم بسيماهم بفقد أحوالهم كذا قال قتادة والزهري وغيرهما وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب المحروم الذي ليس له سهم من الغنيمة ولا يجرى عليه من الفيء شىء أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنيفة ان رسول اللّه صلعم بعث سرية فاصابوا غنما فجاء قوم بعد ما فرغوا يعنى من القسمة فاعطاهم الغانمون منها فنزلت هذه الآية وقال زيد بن اسلم المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته كذا قال محمد بن كعب القرظي وقرأ انا لمغرمون بل نحن محرومون.(1/6175)
وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ قال اكثر المفسرين هذه الجملة وما عطف عليه متصل بقوله تعالى انكم لفى قول مختلف وما بينهما معترضات وعندى هى معطوفة على ما سبق فى تفسير المحسنين والثناء عليهم لكن فيه وضع المظهر موضع المضمر الراجع إلى المحسنين إيذانا لتحصيل الإيقان بالاستدلال والتفكر فى الآيات تقديره وفى الأرض ايت لهم فانهم إذا ذكروا بايات ربهم لم يحبروا عليها صما وعميانا بل ينظرون بأبصارهم ويتفكرون فى خلق الأرض ودحوها كالبساط وارتفاع بعضها على الماء ليسكن عليها عباد الرحمن واختلاف اجزائها فى الكيفيات والمنافع وما خلق اللّه فيها من المعادن والنباتات والحيوانات والعيون والأنهار ويستدلون بها على وجود الصانع الواجب وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته وحكمته ثم ينظرون ببصائرهم ما يترشح عليها وعلى ما فيها من اللّه تعالى وبركات وجودها وبقائها ورحمته ويسال من فيها ما يحتاج إليه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ....(1/6176)
وَ فِي أَنْفُسِكُمْ عطف على فى الأرض يعنى وفى أنفسكم أيها الناس آيات لهم فان فى العلم الصغير اعنى نفس الإنسان كاين من الآيات كما فى العالم الكبير من بدو خلقه إلى مماته حيث كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت لحما فم نفخ فيه الروح ثم يسر اللّه سبيله إلى الخروج ثم هدى إلى سبيل معاشه رضيعا وفطاما واكتساب أقواته والتغذي بالأكل والشرب ودفع الفضول بالبول والغائط وسبيل ابقاء نوعه بالنكاح والى سبيل معاده بإرسال وإنزال الكتب واظهر فيه بدائع صنعه من اختلاف الالسنة والصور والألوان والطبائع والعقول والافهام واختلاف استعداداتهم فى قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد وصعود مدارج القرب ومعارج العرفان فينظر العارف بعض هذه الأمور بالأبصار ويقول تبارك اللّه احسن الخالقين وبعضها بالبصائر وينظر بالبصائر ما يتجلى على السرائر من التجليات الذاتية والصفاتية والظلالية ولا يتطرق
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 84
اليه مجال المقال وعبر عنه بالحديث القدسي لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحببته فإذا أحببت كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث فيقول العارف الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لو لا ان هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق أَفَلا تُبْصِرُونَ أيها الخراصون ما يبصره المحسنون الموقنون والفاء للعطف على محذوف تقديره أ تنكرون قدرة اللّه على البعث فلا تبصرون وهذه الجملة معترضة.(1/6177)
وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال ابن عباس ومقاتل يعنى المطر الذي سبب رزق وهذا مبنى على ما ورد فى الشرع ان المطر ينزل من السماء وقال البيضاوي قيل المراد بالسماء السحاب وبالرزق المطر وهذا مبنى على مذهب الفلاسفة وقال أيضا اسباب رزقكم أو تقديره عندى ان رزقكم خطاب للمحسنين الموقنين على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وفى السماء عطف على فى الأرض وفى أنفسكم عطف مفرد على مفرد ورزقكم بدل من الآيات وجاز ان يكون عطف جملة على جملة والمراد بالرزق اما الحظ والنصيب كما فى قوله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ المراد بالرزق هاهنا اما الآيات الدالة على اللّه سبحانه من الشمس والقمر والكواكب وحركاتها وما يترتب عليها من اختلاف الفصول والمنافع والمضار بدليل ذكر الآيات فى الأرض والا نفس فان الاستدلال بها والتفكر فيها حظ المحسنين الموقنين لا غير وكذا ما يترتب على الاستدلال بها والتفكر فيها من الرحمة والبركات وما ينزل على العارف من التجليات فان كل ذلك رزق المحسنين وحظ للموقنين دون من ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وهم يعمهون قال العارف الرومي قدس سره
گر نخواهد بى بدن جان تو زيست فى السماء رزقكم روزى كيست(1/6178)
و اما الرزق المأكول وحينئذ يراد بالآية التنبه والاشعار بان رزقكم بيد اللّه مكتوب فى السماء فينبغى ان لا تطلبوا الرزق من غير اللّه تعالى واعبدوا اللّه مخلصين له الدين من غير رياء وسمعة قائلين لا نسألكم عليه اجرا ان اجرى الا على اللّه لا تريد منكم جزاء ولا شكورا فعلى هذا التقدير أيضا فى الآية اشارة إلى تفسير المحسنين والثناء عليهم يعنى هم يتفكرون فى خلق السموات والأرض ويخلصون اللّه الأعمال موقنين بان رزقهم فى السماء متوكلين على اللّه وَما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم قال البغوي قال عطاء وما توعدون من الثواب والعقاب وقال مجاهد من الخير والشر وقال الضحاك من الجنة والنار قلت تفاسير هؤلاء الكرام مبنى على ان الخطاب عام للمؤمنين والكافرين ولا يصح هذا التأويل الإبان يقال مكتوب فى السماء وما توعدون لان يقال كاين فى السماء وما توعدون قان الجنة فوق سبع سموات
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 85
دون النار فانها تحت الأرضين السبع كما نطقت به الأحاديث وعلى ما قلت من التأويل ان الخطاب مختص بالمحسنين يصح القول بان ما توعدون من الثواب والجنة كاين فى السماء وقيل وما توعدون كلام مستانف وما موصولة أو مصدرية مبتداء خبره.(1/6179)
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ وعلى هذا فالضمير المنصوب لما وعلى الأول يحتمل له ولما ذكر سابقا من البعث والجزاء والرزق والوعد والوعيد مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي مثل بالرفع على انه صفة لحق والباقون بالنصب على انه حال من المستكن فى لحق أو وصف لمصدر محذوف يعنى انه لحق حقا مثل نطقكم وقيل انه مبنى على الفتح لاضافة إلى غير متمكن وهو ما ان كانت بمعنى شىء وان مع جملتها ان كانت ما زائدة ومحله الرفع شبه اللّه سبحانه الرزق وغيره مما وعد واخبر به ينطق الإنسان قال البغوي ما انكم تنطقون فتقولون لا اله الا اللّه يعنى المراد بالنطق المنطوق والخطاب ان كان للمحسنين فمنطوقه غالبا لا اله الا اللّه وان كان الخطاب عاما فشبه تحقق ما اخبر عنه يتحقق نطق الآدمي كما يقال انه لحق كما أنت هاهنا وانه لحق كما أنت تتكلم والمعنى انه فى صدقه ووجوده كالذى تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء يعنى ان كل انسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكنه ان يأكل رزق غيره حكى فى المدارك عن الأصمعي انه قال أقبلت من جامع البصرة فطلع علىّ أعرابي فقال ممن الرجل قلت من بنى اصمع قال من اين أقبلت أقلت من موضع يتلى فيه كلام اللّه الرحمن قال اتل علىّ فتلوت والذّاريات فلما بلغت قوله فى السماء رزقكم قال حسبك فقام إلى ناقة فنحرها ووزعها على من اقبل وأدبر وعمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى فلما حججت مع امر الرشيد طفقت أطوف فإذا انا بمن يستهنف بصوت رفيق فالتفت فإذا انا بالأعرابي فسلّم علىّ واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح قال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال وهل غير هذا فقرأت فورب السماء والأرض انه لحق فصاح فقال سبحان اللّه من ذا الذي اغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى إلجاؤه إلى اليمين قالها ثلثا وخرجت معها نفسه يعنى مقتضى البلاغة ان يؤكد الكلام على حسب انكار(1/6180)
المخاطب فاللّه سبحانه أورد الكلام بكمال المبالغة فى التأكيد حيث اقسم عليه وأكد بكلمة ان ولام التأكيد والاخبار بانه حق والتشبيه بما هو اجلى البديهيات وليس هذه الاشارة إلى ان الناس كانهم فى غاية الإنكار فى تقدير الرزق الموعود كاد حين فى اكتساب ما التزم اللّه سبحانه على نفسه بقوله وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غافلين عما كلفهم اللّه به وعلق به الثواب والعقاب الأيدي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 86
لا حول ولا قوة الا باللّه.(1/6181)
هَلْ أَتاكَ استفهام للتقرير يعنى قد أتاك والغرض منه تفخيم شان الحديث والتنبيه على انه اوحى إليه قبل ذلك حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيف فى الأصل مصدر ولذا يطلق على الواحد والمتعدد قال البغوي اختلفوا فى عددهم فقال ابن عباس وعطاء كانوا ثلثة جبرئيل وميكائيل واسرافيل وقال محمد بن كعب كان جبرئيل ومعه سبعة وقال الضحاك كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا وقال السدى كانوا أحد عشر ملكا على سورة الغلمان الوضاء وجوههم الْمُكْرَمِينَ فيه اشارة إلى ان ابراهيم عليه السلام أكرمهم قبل ان يعرفهم حيث خدمهم بنفسه واهله وعجل إليهم قرأ هم وذلك سنة المرسلين وداب المهتدين قال رسول اللّه صلعم من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليحسن إلى جاره وفى رواية فلا يوذ جاره ومن كان يومن باللّه واليوم الاخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليقل خيرا أو ليسكت رواه احمد والشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة من حديث أبى هريرة وفى الصحيحين من حديث أبى شريح الكعبي بلفظ من كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليكرم ضيفه جايزته يوم وليلة والضيافة ثلثة ايام فما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له ان يثوى عنده حتى يحرجه وفى الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو ان رجلا سال رسول اللّه صلعم أى الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وقيل سماهم مكرمين لانهم كانوا ملائكة كراما على اللّه تعالى قال اللّه تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ....(1/6182)
إِذْ دَخَلُوا الظرف متعلق بالحديث أو الضيف أو المكرمين والضمير راجع إلى الضيف من حيث المعنى عَلَيْهِ أى على ابراهيم عليه السلام فَقالُوا سَلاماً أى نسلم عليك قالَ ابراهيم سَلامٌ ج أى عليكم سلام عدل إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحية احسن من تحيتهم قال اللّه تعالى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً وجملة قال سلام استيناف كأنَّه فى جواب ماذا قال ابراهيم حين سلموا عليه قرأ حمزة والكسائي سلم بكسر السين وسكون اللام بغير الف والباقون بفتح السين واللام والف بعدها المعنى واحد قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أى أنتم قوم منكرون لا نعرفكم قال ابن عباس قال فى نفسه هؤلاء قوم منكرون لا نعرفهم قال أبو العالية أنكر سلامهم فى ذلك الزمان فى تلك الأرض لان السلام علم الإسلام.
فَراغَ أى ذهب ومال عطف على قال إِلى أَهْلِهِ مبادرة فى القرى فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ مشوى لأنه كان عامة ماله البقر.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بان وضع بين أيديهم لياكلوا فلم يأكلوا قالَ ابراهيم أَلا تَأْكُلُونَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 87
الهمزة للانكار ان كان بعد ما راى انهم لا يأكلون وان كان فى أول الأمر فالهمزة للعرض والحث على الاكل على طريقة الأدب.
فَأَوْجَسَ يعنى أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً ط أى خوفا لما راى اعراضهم عن طعامه عن ابن عباس انه وقع فى نفسه انهم ملائكة أرسلوا للعذاب قالُوا لا تَخَفْ ط انا رسل اللّه وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ يعنى اسحق عليه السلام عَلِيمٍ يكمل علمه إذا بلغ.(1/6183)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة فِي صَرَّةٍ أى صيحة قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وانما هو كقول القائل اقبل يشتمنى أى أخذت تصيح وعلى هذا التأويل قوله فى صرة فى محل النصب على المفعولية وان كان المراد الإقبال من مكان إلى مكان فهى فى محل النصب على الحال فَصَكَّتْ وَجْهَها قال ابن عباس لطمت وجهها يعنى جمعت أصابعها فضربت وجهها كما هو عادة النساء عند التعجب إذا انكرن شيئا وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ يعنى أ تلد عجوز عقيم وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكانت بنت تسعين سنة.
قالُوا أى الملائكة كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ ط يعنى قال ربك قولا مثل ذلك الذي قلنا وانما نخبرك من اللّه إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ فى صنعه الْعَلِيمُ بما كان وما يكون فيكون قوله حقا وفعله محكما ولما علم ابراهيم انهم ملائكة وانهم لا ينزلون مجتمعين الا لامر عظيم.
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أى ما شانكم وفيم أرسلتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنى قوم لوط كانوا يعملون الخبائث التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ويقطعون السبيل ويأتون فى ناديهم المنكر فارسل اللّه إليهم أخاهم لوطا فكفروا به وقالوا اتنا بعذاب اللّه ان كنت من الصادقين قال رب نجنى من القوم الظالمين وانصرني على القوم المفسدين فارسل اللّه إليهم الملائكة.
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ متحجر وهو السجيل - .
مُسَوَّمَةً معلمة على كل واحد منها اسم من يهلك به عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد فى الفجور قال ابن عباس يعنى للمشركين فان الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.(1/6184)
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أى فى قرى قوم لوط واضمارها مع عدم سبق ذكرها لكونها معلوما بالسياق مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بلوط عليه السلام وذلك قوله تعالى قالوا يعنى الملائكة يا لوط انا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر باهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد الا امرأتك انه مصيبها ما أصابهم - .
فَما وَجَدْنا فِيها أى فى قرى قوم لوط غَيْرَ أهل بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 88
يعنى لوطا وبناته وصفهم اللّه تعالى بالايمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن الا وهو مسلم.
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً علامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعتبرين بها وهى تلك الحجارة الواقعة فى تلك القرى أو صخر منضود فيها أو ماء اسود منتن.
وَفِي مُوسى عطف على قوله وتركنا فيها على معنى وجعلنا فى إرسال موسى اية وهذا كقوله علفتها تبنا وماء باردا يعنى وسقيتها ماء باردا وهذا اقرب وانسب مما قيل انه معطوف على قوله وفى الأرض لبعده وعدم المناسبة فى القصة إِذْ أَرْسَلْناهُ هذا الظرف متعلق بما تعلق به فى موسى يعنى جعلنا فى موسى وقت ارسالنا إياه إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة ظاهرة يعنى معجزاته كالعصاء واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين وفلق البحر.
فَتَوَلَّى أى اعرض فرعون عن الايمان بِرُكْنِهِ أى بجمعه وجنوده الذين كان ينضوبهم وَقالَ فرعون هواى موسى ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال أبو عبيدة أو بمعنى الواو والظاهر انها بمعناه فانه لما راى على يديه الخوارق قال ساحر ولما سمعه يقول ما لا يدركه عقله السقيم زعم انه مجنون وبين كلاميه منافاة وقال البيضاوي كأنَّه جعل ما ظهر منه من الخوارق منسوبا إلى الجن وتردونى انه هل حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما يعنى ان كان باختياره فهو ساحر والا فهو مجنون.
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ(1/6185)
فاغرقناهم فى اليم هُوَ مُلِيمٌ
اى ات بما يلام عليه من الكفر والعناد والتكبر والجملة حال من الضمير المنصوب فى أخذناه.
وَفِي عادٍ يعنى تركنا فى إهلاك عاد اية إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وهى التي لا خير فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا وكانت دبورا لقوله عليه الصلاة والسلام نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ يعنى جعلت الأشياء كالرماد من الرم وهى البنى؟؟؟ والتفتت.
وَفِي ثَمُودَ يعنى وتركنا فى إهلاك ثمود اية إِذْ قِيلَ لَهُمْ قال لهم صالح لما عقروا لناقة تَمَتَّعُوا فى دياركم حَتَّى حِينٍ يعنى ثلثة ايام.
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثاله واتباع صالح والايمان به - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاع ِقَةُ
قرأ الكسائي الصعقة بإسكان العين من غير الف والباقون بالألف بعد العين والصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب والصعق معركة شدة الصوت كذا فى القاموس اخذتهم بعد مضى الأيام الثلاثة وَهُمْ يَنْظُرُونَ أى يرون ذلك العذاب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 89
عيانا فاصبحوا فى ديارهم جاثمين.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ للهرب بعد نزول العذاب قال قتادة لم ينهضوا من تلك الصرعة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أى ممتنعين منه أو منتقمين منا.
وَقَوْمَ نُوحٍ قرأ أبو عمر وحمزة والكسائي قوم بالجر عطفا على ثمود يعنى تركنا فى إهلاك قوم نوح اية والباقون بالنصب على انه مفعول بفعل محذوف دل عليه السياق تقديره وأهلكنا قوم نوح مِنْ قَبْلُ أى من قبل قوم لوط وفرعون وجنوده وعاد وثمود إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الاستقامة بالكفر والمعاصي.(1/6186)
وَ السَّماءَ منصوب بفعل مضمر يفسره بَنَيْناها بِأَيْدٍ أى بقوة وقدرة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ قال ابن عباس أى قادرون ومطيقون من الوسع بمعنى الطاقة كما فى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها والجملة حال من فاعل بنينا وجملة والسماء عطف على وفى موسى وقال الضحاك معناه به الأغنياء كما فى قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وفى رواية عن ابن عباس انا لموسعون الرزق على خلقنا وقيل معناه لموسعون السماء أو ما بنينها وبين الأرض.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها أى مهدناها ليستقروا عليها والتركيب نحو ما سبق فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين قلت ليس المراد تعين تعدد التثنية بل المراد تعدد اصناف المخلوقات يعنى خلقنا من كل شىء اصناف ذات عدد فوق الواحد أدناه المثنى بل كل فرد منه ذو جهتين خير من وجه وشر من وجه معدوم بالذات واجب بالغير عاجز بالذات قادر بالغير لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكى تذكروا وتعلموا ان التعدد من خواص الممكنات والواجب بالذات لا يقبل التعدد والانقسام واجب وجوده لا يصادم وجوده العدم قادر لا عجز له.
فَفِرُّوا من كل شىء إِلَى اللَّهِ ط بالتوجه والمحبة والاستغراق وامتثال الأوامر وكسب السعادات حتى تخلصوا من النقائص والشرور وتفوزوا بالخيرات وتصعدوا مصاعد القرب والكمال والفاء للسببية فان التذكر والتدبر فى شان الممكنات والواجب تعالى يوجب الفرار منها إليه تعالى وهذه الجملة بتقدير القول من كلام الرسول صلعم ليرتبط بما بعده يعنى قل يا محمد ففروا إلى اللّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أى من عذابه المترتب على غضبه وهجرانه وبعده وعصيانه نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه نذيرا من اللّه تعالى بالمعجزات أو مبين ما يجب ان يحذر عنه.(1/6187)
وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ شريكا له فى وجوب الوجود أو فى استحقاق العبودية أو فى كونه مقصودا لكم ومجبوبا مستغلا به إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ للتاكيدا والاول لتحذير الخواص عن مطلق التوجه والمحبة بغيره تعالى والثاني
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 90
لتحذير العوام عن الشرك والمعاصي كما يدل عليه السياق يعنى ان لم تقدروا على الفرار من كل شىء حتى من أنفسكم إلى اللّه تعالى فلا تجعلوا مع اللّه الها اخر فى العبادة وامتثال الأوامر.
كَذلِكَ خبر مبتدا محذوف أى شانك مع قولك كذلك الشان للرسل من قبلك مع أقوامهم ولما كان فى التشبيه إبهاما فسره بقوله ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الضمير عايد إلى كفار مكة والمراد بالموصول كفار الأمم السابقة مفعول لاتى وفاعله مِنْ رَسُولٍ من زائدة فى النفي للاستغراق إِلَّا قالُوا استثناء مفرغ والمستثنى فى محل النصب على الحالية من فاعل اتى أو مفعوله أو كليهما يعنى ما أتاهم رسول فى حال الا حال قولهم ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدا محذوف والجملة مقولة - قالوا يعنى قالوا هذا ساحرا ومجنون كما يقول لك قومك وجاز ان يكون مشار إليه بذلك تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحرا أو مجنونا وجملة ما اتى علة للتشبيه.
أَ تَواصَوْا أى الأولون والآخرون من الكفار بِهِ بهذا القول يعنى اوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوا جميعا والاستفهام للانكار والتوبيخ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن التواصي من جميعهم بهذا القول لتباعد ايامهم إلى ان الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم فى الطغيان الحامل عليه وقوله كذلك إلى قوله طاغون معترضات لتسلية النبي صلعم وقوله فتول عنهم أى عن الكفار عطف على قل المقدرة يعنى قل ففروا إلخ.(1/6188)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أى اعرض عن مجادلتهم بعد ما كررت عليهم الدعوة فابوا للاصرار والعناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على الاعراض بعد ما بذلت جهدك فى البلاغ واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن منيع وابن راهويه والهثيم بن كليب فى مسانيدهم من طريق مجاهد عن على رض عنه قال لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم لم يبق منا أحد الا أيقن بالهلاكة إذا مر النبي صلعم ان يتولى عنا فنزلت.
وَذَكِّرْ الآية فطابت أنفسنا واخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا انه لما نزلت فتول عنهم الآية اشتد على اصحاب رسول اللّه صلعم وراوا ان الوحى قد انقطع وان العذاب قد حضر فانزل اللّه تعالى وذكر الآية كذا ذكر البغوي قول المفسرين وقوله تعالى ذكّر عطف على قوله تولّ يعنى لا تدع التذكير والموعظة فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ تعليل لقوله تعالى ذكر يعنى ان الذكر ينفع المؤمنين ويزداد لهم البصيرة وان لم ينتفع الكفار أو المعنى تنفع من قدر اللّه إيمانه.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أى الا لامرهم بعبادتي وادعوهم إليه يعنى للتكليف يؤيده قوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 91(1/6189)
كذا ذكر البغوي قول على رض قال مجاهد الا ليعرفوا والكفار أيضا يعرفون وجوده تعالى حيث قال اللّه تعالى ولئن سالتهم من خلقهم ليقولن اللّه وقيل معناه الا ليكونوا عباد إلى أو ليخضعوا لى ويتذللوا ومعنى العبادة فى اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والانس خاضع لقضاء اللّه تعالى متذلل لمشيته لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له وقيل الا ليوحدون اما المؤمنون فيوحدون فى الشدة والرخاء اما الكافرون فيوحدونه فى الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال اللّه تعالى وإذا ركبوا فى الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين قال صاحب المدارك الكفار كلهم يوحدون اللّه فى الاخرة قال اللّه تعالى ثم لم تكن فتنتهم الا ان قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين واشراكهم فى الدنيا وهى بعض أحيان وجودهم لا ينافى كونهم مخلوقين للتوحيد قلت والقول ما قال على رض ما سواه اقوال ضعيفة واهية والذي حملهم على ما قالوا ان ظاهر الآية يقتضى انهم خلقوا مرادا منهم الطاعة وتخلف مراد اللّه تعالى محال وقد قال رسول اللّه صلعم كل ميسّر لما خلق له وقال اللّه تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وقال الكلبي والضحاك والسفيان هذا خاص لاهل الطاعة من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس ما خلقت الجن والانس من المؤمنين الا ليعبدون وعندى تاويل الآية ما خلقت الجن والانس الا مستعدين العبادة صالحين لها نظيره قوله صلعم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه وينصرانه ويمجسانه كما تنتهج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول فطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه متفق عليه من حديث أبى هريرة وهذا التأويل يناسب تاويل على رض ومقتضى هذه الآية ذم الكفار لاجل اضاعتهم الفطرة السليمة هى اصل الخلقة.(1/6190)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ المراد ان شانه تعالى مع عباده ليس شان السادة مع عبيدهم فانهم انما يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل رزقهم وكسب طعامهم واللّه تعالى منزه عن ذلك وقيل معناه ما أريد منهم ان يرزقوا أحدا من خلقى ولا ان يرزقوا أنفسهم وان يطعموا أحدا من خلقى وينافى هذا التأويل اسناد الطعام إلى نفسه وأجيب بان الخلق عيال اللّه ومن اطعم عيال أحد فقد أطعمه كما جاء فى الحديث يقول اللّه يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال اما علمت انه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه انك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى رواه مسلم من حديث أبى هريرة فى حديث ذكر فيه مرضت فلم تعدنى واستسقيتك فلم تسقنى قلت هذا قول بالتجوز ومع ذلك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 92
يرد عليه ان اللّه تعالى أراد من المؤمنين وامر الناس أجمعين بأداء زكوة أموالهم رزقا للفقراء وان يطعموا أنفسهم وأهليهم ومن وجب عليهم نفقاتهم فكيف يقال ما أريد منهم ان يرزقوا اللهم الا ان يقال المقص من إيجاب الزكوة امتثال الأمر وفعل الأداء دون الترزيق ومن هاهنا قال أبو حنيفة لا يجب الزكوة على الصبى والمجنون ولكن هذا الجواب لا يستقيم فى العشر والخراج ونفقة الآباء والأولاد والزوجات فان المقصود إيصال الرزق إلى العباد ولذا تجرى فيها النيابة ويتادى بأداء ولى الصبى.(1/6191)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لجميع خلقه مستغن عنه ذُو الْقُوَّةِ على الترزيق وعلى كل ما أراد الْمَتِينُ شديدة المبالغ فى القدرة قيل فى تاويل الآية ان قوله تعالى ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ إلخ من كلام رسول اللّه صلعم مقدر بقل يعنى قل يا محمد ما أريد منهم أى من الناس من رزق نظيره لا أسألكم عليه اجرا قال بعض المحققين قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ بتقدير قل عطف على ذَكِّرْ والى قوله تعالى ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ داخل فى مقولة قل لا يقال كيف يصح ما خَلَقْتُ الْجِنَّ إلخ كلاما للرسول لانا نقول هو على طريقة قول الملك للسفير قل ان أمركم بكذا فيقول السفير بقول الملك انى أمركم بكذا وان الأمير يأمركم بكذا ومثل هذا متعارف.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك والمعاصي واضاعة الفطرة السليمة ووضع الكفران موضع العبادة التي كلفوا بها وخلقوا مستعدين لها ذَنُوباً أى نصيبا من العذاب وهو فى الأصل الدلو العظيم الذي له ذنب واستعير للنصيب أخذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء وقال الزجاج الذنوب فى اللغة النصيب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أى مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وقوم نوح وقوم لوط والفاء للسببية تعليل لقوله فتول عنهم - فَلا يَسْتَعْجِلُونِ الفاء أيضا للسببية يعنى إذا سمعت وعيدي لكفار فهو يكفيك للتسلية فلا تستعجلون فى تعذيبهم وجاز ان يكون هذا خطابا بالكفار جوابا لقولهم متى هذا الوعد ان كنتم صادقين.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعنى يوم القيامه وقيل يوم بدر الفاء للسببية مسبب لتحقق الوعيد واللّه تعالى أعلم .
فسير المظهري ، ج 9 ، ص : 93
سورة الطّور
مكّيّة وهى تسع وأربعون اية وفيها ركوعان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.(1/6192)
وَ الطُّورِ وهو الجبل بالسريانية والمراد به طور سينين جبل بمدين سمع موسى فيها كلام اللّه تعالى.
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ السطر ترتيب الحروف المكتوب والمراد به مكتوب.
فِي رَقٍّ الرق الجلد الذي يكتب استعير لما كتب فيه الكتاب مَنْشُورٍ لاجل التلاوة صفة لرق والظرف متعلق بمسطور وتقيد الكتاب بكونه مكتوبا فى زق منشور يابى كونه لوحا محفوظا فالمراد به اما القرآن أو جنس ما كتب فيه الشرائع وقال الكلبي هو ما كتب اللّه بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير القلم ومقتضى هذا القول مناسبته وعطفه على الطور وقيل المراد به دواوين الحفظة يخرج لهم يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت فى السماء السابعة حيال الكعبة يقال له الصراح حرمته فى السماء كحرمة الكعبة فى الأرض روى مسلم عن انس فى حديث المعراج وقال عليه السلام فى السماء السابعة فإذا انا بإبراهيم مسند أظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون الف لا يعودون إليه قال البغوي يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه ابدا عمارته كثرة غاشية من الملائكة قال البيضاوي المراد به الكعبة وعمارتها بالحجاج والمجاورين أو قلب المؤمن وعمارته بالمعرفة والإخلاص.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعنى السماء قال اللّه تعالى وجعلنا السماء سقفا محفوظا.(1/6193)
وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فى القاموس سجر التنور حماه والنهر ملأه وقال محمد بن إسحاق والضحاك يعنى الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس وذلك ما روى ان اللّه تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزداد بها فى نار جهنم واخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم لا يركبن رجل بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فان تحت البحر نارا أو تحت النار بحرا وعن يعلى بن امية ان النبي صلعم قال البحر جهنم واخرج أبو الشيخ فى العظمة والبيهقي من طريق سعيد بن المسيب عن على بن أبى طالب رض قال ما رايت يهود يا اصدق من فلان زعم ان نار اللّه الكبرى هى البحر فإذا كان يوم القيامة جمع اللّه فيه الشمس والقمر والنجوم ثم بعث عليه الدبور فسعرته واخرج أبو الشيخ عن كعب فى قوله تعالى والبحر المسجور قال قال البحر يسجر فيصير نار جهنم واخرج البيهقي فى الشعب عن وهب قال إذا قامت القيامة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 94
امر بالفلق فيكشف عن سقر وهى غطاءها فيخرج منه نار فإذا وصلت إلى البحر المطبق على شفير جهنم وهو البحر المسجور اسرع من طرفة عين وهو حاجزيين جهنم والأرضين السبع فيدعها جمرة واحدة وقال مجاهد والكلبي المسجور المملو ويقال سجرت الإناء إذا ملاته وقال الحسن وقتادة وأبو العالية هو اليابس الذي قد ذهب ماءه وقال الربيع بن انس المختلط العذب بالملح وروى الضحاك عن النزال بن سيرة عن على رض انه قال فى البحر المسجور وهو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سموات إلى سبع ارضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد بعد النفخة الاولى منه أربعون صباحا فينبتون فى قبورهم وهذا قول مقاتل اقسم اللّه تعالى بهذه الأشياء وجواب القسم.
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ بالكفار.(1/6194)
ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه الجملة صفة الواقع قال جبير بن مطعم قدمت المدينة لا كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلى بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله ان عذاب ربك لواقع ماله من دافع فكانما صدع قلبى حين سمعته ولم أكن اسلم يومئذ قال فاسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن الا ان أقوم من مكانى حتى يقع بي العذاب.
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أى تدور كدور ان الرحى وتنكفا باهلها تكفاء السفينة وقال قتادة تتحرك وقال عطاء الخراسانى تختلف اجزاءها بعضها فى بعض وقيل تضطرب وكل ذلك جاء معانى مور فى اللغة الذهاب المجيء والتردد والدوران والاضطراب كذا فى القاموس وهذه الآية تدل على ان السماء غير متحرك كالارض والجبال خلافا للفلاسفة والظرف متعلق لواقع.
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً عطف على تمور يعنى تسير عن وجه الأرض فتصير هباء.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أى إذا وقع ذلك الفاء للسببية فان وقوع العذاب الغير المدفوع سبب للويل لِلْمُكَذِّبِينَ بالعذاب.
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ غافلين لاهين.
يَوْمَ يُدَعُّونَ بدل من يوم تمور إلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أى دفعا بعنف وجفوة وذلك ان خزنة جهنم يغسلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم تم يدفعون إلى النار دفعا على وجوههم ويزعجون إزعاجا حتى إذا دنوا منها يقول لهم خزنتها.
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وجاز ان يكون يوم يدعون ظرفا ليقول مقدر هاهنا وهذه الجملة بتقدير يقول لهم حال من المكذبين.
أَ فَسِحْرٌ هذا عطف على هذه النار التي كنتم بها تكذبون والاستفهام للانكار والتوبيخ والفاء للتعقيب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 95(1/6195)
و المعنى أى يتعقب مشاهدة النار كونها سحرا يعنى كنتم تقولون للوحى وما يشهد من المعجزات هذا سحر وهذا مصداقه فلو كان ذلك سحرا فهذا أيضا سحر على زعمكم وتقديم الخبر لأنه المقصر بالإنكار والتوبيخ - أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذه النار كما كنتم لا تبصرون ما يدل عليه فى الدنيا وتقولون انما سكرت أبصارنا وهذا الكلام نهيكم بهم.
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ج كلمة أو للتسوية والجملتان بتقدير مستويا لكم صبركم وعدمه حال من الضمير المستكن فى اصلوها - سَواءٌ عَلَيْكُمْ ط سواء مصدر بمعنى الفاعل خبر مبتداء محذوف الأمر ان مستويان عليكم والجملة تأكيد لما سبق إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء فانه لما كان جزاء الكفر واجب الوقوع بايجاب اللّه تعالى ووعيده كان الصبر وعدمه سيئان فى عدم النفع.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ وتنكيرهما للتعظيم يعنى جنات عظيم ونعيم فخيمه.
فاكِهِينَ ناعمين متلذذين حال من الضمير فى الظرف بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إيهام ما اتهم واسناده إلى ربهم للتفخيم والتعظيم يعنى ناعمين بشىء عظيم أو بالذي هو عظيم الشان اتهم أكرم الأكرمين وأعظم العظماء وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على أتاهم ان جعل ما مصدرية أو على فى جنات أو حال من فاعل اتى أو من مفعوله أو كليهما.
كُلُوا وَاشْرَبُوا بتقدير يقال لهم خبر بعد خبر لان أو حال من المستكن فى الظرف أو الحال هَنِيئاً أى أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشرابا هنيا والهنيء ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقبه خامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى بسببه أو مقابلته وقيل الباء زائدة وما فاعل لهنيأ والمعنى هنيئكم هنيا ما كنتم تعملون أى جزاؤه وحينئذ هنيئا جملة معطوفة على كلوا مقولة قال المقدر.(1/6196)
مُتَّكِئِينَ حال من المستكن فى الظرف أى فى جنات أو فى فاكهين أو من الضمير فى كلوا واشربوا على التنازع عَلى سُرُرٍ متعلق بمتكئين مَصْفُوفَةٍ أى مصطفة - وَزَوَّجْناهُمْ عطف على خبران أو على ان والماضي فى معنى المستقبل بِحُورٍ عِينٍ الباء للالصاق فان فى التزويج معنى الوصل أو للسببية يعنى صيرناهم أزواجا بسببهن.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مبتداء وَاتَّبَعَتْهُمْ قرأ أبو عمرو اتبعناهم بقطع الالف واسكان التاء والعين من الافعال وضمير المتكلم مع الغير تعظيما والباقون بوصل الالف وفتح التاء والعين من الافتعال وتاء التأنيث الساكنة ذُرِّيَّتُهُمْ قرأ أبو عمرو ابن عامر ويعقوب ذرياتهم للمبالغة فى كثرتهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 96(1/6197)
فكسر أبو عمرو التاء منصوبا على انه مفعول ثان لاتبعناهم وضم ابن عامر ويعقوب مرفوعا على الفاعلية وقرأ الباقون ذريتهم بالتوحيد مرفوعا على الفاعلية والذرية يقع على الواحد والكثير بِإِيمانٍ حال من الضمير المنصوب أو من الذرية أو منهما وتنكيره للاشعار بانه يكفى للالحاق المتابعة فى اصل الايمان بل يكفيه الايمان الحكمي كايمان الصغر والجنون تبعا لغير الأبوين دينا أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ذرياتهم بالجمع وكسر التاء والباقون بالتوحيد وفتح التاء عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلعم ان اللّه يرفع ذرية المؤمنين فى درجة وان كانوا دوية؟؟؟ فى العمل ليقربهم عينه ثم قرأ هذه الآية رواه الحاكم والبيهقي فى سننه والبزاز وأبو نعيم فى الحلية وابن المنذر وابن جرير وابن أبى حاتم وعن على رض قال سالت خديجة النبي صلعم عن ولدين لها ماتا فى الجاهلية فقال رسول اللّه صلعم هما فى النار فلما راى الكراهة فى وجهها قال لو رأيت مكانها لا بغضتها قالت يا رسول اللّه فولدى منك قال فى الجنة ثم قال رسول اللّه صلعم ان المؤمنين وأولادهم فى الجنة وان المشركين وأولادهم فى النار ثم قرأ رسول اللّه صلعم والذين أمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان الحقنا بهم ذريتهم رواه عبد اللّه بن احمد فى زوايد المسند وفيه مجهول وانقطاع - (فصل) هذا الحديث يدل على ان أطفال المشركين فى النار والصحيح انهم فى الجنة وهذا الحديث ضعيف فيه مجهول وانقطاع وكذا ما روى احمد عن عايشة انها ذكرت لرسول اللّه صلعم عن أطفال المشركين فقال ان شئت أسمعتك تصاعدهم فى النار سنده ضعيف جدا وقيل هذا الحديث منسوخ فى حق أطفال المشركين لما روى ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت سالت خديجة رسول اللّه صلعم عن أولاد المشركين فقال هم من ابائهم ثم سالت بعد ذلك فقال اللّه اعلم بما كانوا عالمين ثم سالته بعد ما استحكم(1/6198)
الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر اخرى فقال هم على الفطرة أو قال فى الجنة وما روى ابن أبى شيبة عن انس قال قال رسول اللّه صلعم سالت ربى اللاهين من ذريات البشر فاعطانيهم قال ابن عبد البرهم الأطفال لان أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقل ولا عزم واخرج ابن جرير عن سمرة قال سالنا رسول اللّه صلعم عن أطفال المشركين فقال هم خدم أهل الجنة واخرج مثله عن ابن مسعود موقوفا وكذا روى الطيالسي عن انس مرفوعا معناه وقال بعض العلماء أطفال المشركين يمتحنون لأنه سئل رسول اللّه صلعم عن أطفال المشركين فقال اللّه اعلم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 97
بما كانوا عاملين متفق عليه من حديث أبى هريرة واللّه اعلم وَما أَلَتْناهُمْ قرأ ابن كثير بكسر اللام من باب سمع يسمع والباقون بفتح اللام من ضرب يضرب وكلاهما لغتان فى ألت يالت يعنى ما نقصنا الآباء مِنْ عَمَلِهِمْ من للتبعيض أى بعض ثواب أعمالهم مِنْ شَيْ ءٍ ط من زائدة وشىء فى محل النصب على انه مفعول ثانى لالتنا ومن عملهم خال عنه قدم عليه لتنكيره يعنى لا ينقص ثواب الآباء بإعطاء الأبناء فى إلحاقهم بهم والجملة معطوفة على الحقنا ولما كان هاهنا مظنة سوال السائل يسئل ان هذا شان من أمن واتبعه ذريته بايمان فما شان من كسب سيئة قال اللّه تعالى كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ قال مقاتل كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن محبوس فى النار لا يجاوز جزاء السيئة ممن كسب إلى غيره فلا يلحق بالكافر والفاسق ذريته من غير ان يعملوا.
وَأَمْدَدْناهُمْ عطف على زوجناهم يعنى زدناهم يعنى المتقين وقتا بعد وقت بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ من انواع التنعم.(1/6199)
يَتَنازَعُونَ من النزع يعنى الاخذ من يد الغير والتفاعل هاهنا بمعنى المجرد من عاقبت اللص وترافعنا إلى القاضي وجعلنا من المزيد فيه للدلالة من الكثرة يعنى ينزعون إلى أهل الجنة من يد الساقي فِيها أى فى الجنة كَأْساً الكأس الإناء بما فيها من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كاسا يقال كاس حال وقال شربت كاسا والمراد هاهنا كاس مملو من شراب لا لَغْوٌ وهو الباطل قال قتادة وقال مقاتل بن حيان لا فضول فِيها وقال سعيد بن المسيب لا رفث فيها وقال ابن زيد لاسباب ولا تخاصم فيها وقال القتيبي لا يذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا وَلا تَأْثِيمٌ قال الزجاج لا يجرى بينهم ما يلغى ولا ما فيه اثم كما يجرى فى الدنيا بشرب الخمر وقيل لا يأثمون فى شربها قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا لغو ولا تأثيم بالفتح فيها أعمالا للاو الباقون بالرفع فيهما الفاء لعمل لا لاجل لتكرير.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ لاجل الخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ أى مماليك مخصوص بهم أخرج ابن أبى الدنيا عن انس رض قال قال رسول اللّه صلعم ان أسفل أهل الجنة أجمعين درجة من يقوم على راسه عشرة آلاف خادم واخرج ابن أبى الدنيا عن أبى هريرة ان ادنى أهل الجنة منزلة وليس فيها دنى من تغدو ويروح عليه خمسة آلاف خادم ليس منهم خادم الا ومعه ظرف ليس مع صاحبه كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مستور فى الصدف شبهوا باللؤلؤ فى بياضهم وصفائهم وحسنهم قال البغوي روى عن الحسن انه تلا هذه الآية وقال قالوا يا رسول اللّه الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 98
و عن قتادة أيضا ذكر لنا ان رجلا قال يا نبى اللّه صلعم هذا الخادم فكيف المخدوم قال فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على ساير الكواكب واخرج عبد الرزاق وابن جرير فى تفسيرهما من مرسل قتادة نحوه.(1/6200)
وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يعنى يسال بعضهم بعضا عن أحواله واعماله فى الدنيا قال ابن عباس يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف فى الدنيا واقبل صيغة ماض بمعنى المستقبل حال بتقدير قد من الضمير المجرور فى يطوف عليهم.
قالُوا يعنى يقولون جملة مستانفة كانها فى جواب - ماذا يقول المسئولون إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أى قبل هذا فى الدنيا فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أى خائفين من عذاب اللّه.
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالتوفيق والمغفرة والرحمة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أى عذاب النار النافذة فى المسام نفوذ السموم وقال الحسن السموم اسم من اسماء جهنم.
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أى قبل ذلك فى الدنيا نَدْعُوهُ ط نعبده أى اللّه تعالى ونساله الوقاية إِنَّهُ قرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة يعنى ندعوه بانه والباقون بالكسر على الاستيناف هُوَ الْبَرُّ أى المحسن وقال ابن عباس اللطيف وقال الضحاك الصادق فيما وعد الرَّحِيمُ الكثير الرحمة.
فَذَكِّرْ الفاء للسببية فان تحقيق الوعد والوعيد من اللّه تعالى باعث على التذكير والموعظة فَما أَنْتَ الفاء للتعليل يعنى ذكر الناس لانك نبى من اللّه ولست بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أى متلبسا بنعمة ربك حال من الضمير المرفوع فان قوله ما أنت بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ فى معنى انتفى كونك كاهنا أو مجنونا والمراد بنعمة ربك النبوة والعقل السليم يعنى نبوتك ودينك يتلقى الكهانة وعقلك السليم البالغ ينافى الجنون والآية نزلت فى الذين اقتسموا أعقاب مكة يرمون رسول اللّه صلعم بالكهانة والسحر والجنون والشعر أخرج ابن جرير عن ابن عباس ان قريشا اجتمعوا فى دار الندوة فى امر النبي صلعم قال قائل منهم احبسوه فى اوثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء ما زهير والنابغة فانما هو كاحدهم فانزل اللّه تعالى.(1/6201)
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ صفة شاعر أو خبر بعد خبر لمبتداء محذوف أى هو منتظر به رَيْبَ الْمَنُونِ أى ما يتعلق النفوس من حوادث الدهر أو حوادث الموت يعنى الحوادث التي يقضى إلى الموت قالت الكفار انه يموت ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وان أباه مات شابا ونحن نرجو ان يكون موته موت أبيه أو المنون مفعول من منه إذا قطعه يكون بمعنى الدهر وبمعنى الموت سميا بذلك لانهما
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 99
تقطعان الاجل ..
قُلْ يا محمد تَرَبَّصُوا هلاكى فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ط حتى يأتي امر اللّه فيكم فتعذبوا بالسيف يوم البدر.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أى عقولهم بِهذا التناقض فى القول فان الكاهن يكون ذا فطانة ودقة نظر والمجنون مغطى عقله والشاعر ذا كلام موزون منتسق بليغ متخيل ولا يتاقى ذلك من المجنون وذلك ان عظماء قريش كانوا يوصفون بأحلامهم فازرى اللّه بعقولهم حتى قال انهم لا يتميزون بين الفطان والمجنون ولا يعرفون الحق من الباطل أَمْ هُمْ يعنى بل هم قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحد فى العناد فانهم إذا لا يجدون سبيلا إلى الإنكار فى القرآن والنبي صلعم بظهور الحجة وسطوع البرهان يقولون فيه قولا اخر مناقضا للاول.
أَمْ أى بل يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ج أى القرآن تقوله محمد صلعم يعنى اختلقه من تلقاء نفسه وليس من عند اللّه وليس الأمر كذلك بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ج بالقران عنادا أو استكبارا فيرمون بهذه المطاعن كذبا.
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أى مثل القرآن فى البلاغة واخبار الغيب إِنْ كانُوا صادِقِينَ ط فيما قالوا انه كاهن أو مجنون أو شاعر تقوله إذ فيهم كثير من الكهنة والمجانين والشعراء فهو رد للاقوال الثلاثة المذكورة بالتحدي ويجوز ان يكون ردا للتقول فقط فان ساير الأقوال ظاهر الفساد وهذا شرط مستغن عن الجزاء.(1/6202)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ قال ابن عباس يعنى من غير رب خلقهم وذلك محال فان الحادث الذي لم يكن موجودا قبل ذلك لا يتصور وجوده من غير موجد وقيل معناه أم خلقوا من أجل لا شىء من العبادة والمجازاة يعنى خلقوا عبثا وتركوا سدى لا يومرون ولا ينهون كذا قال ابن كيسان والزجاج أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ط لانفسهم وذلك فى البطلان اظهر من ان يخلقوا من غير شىء وهذه الجملة يؤيد التأويل الأول لما قبلها ولذلك عقبه بقوله.
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ بما يجب به الإيقان ويدل عليه البرهان من ان اللّه خلقهم وخلق السموات والأرض ولو أيقنوا به لما اعرضوا من عبادته.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أى خزائن رزقه فيرزقوا النبوة من يشاء أو خزائن علمه فيعلمون من هو أحق بالنبوة من غيره وبقضية الحكمة أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ط المسلطون القاهرون على الأشياء يجعلونها على حسب مشيتهم ولا يكونوا تحت امر ونهى قرأ قتيل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين وحمزة بخلاف عن خلاد بين الصاد والزاء والباقون بالصاد خالصة.
أَمْ لَهُمْ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 100
سُلَّمٌ مر تقى إلى السماء يَسْتَمِعُونَ صاعدين فِيهِ أى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كاين أو يعلموا ما هو حق من اللّه تعالى فيستمسكون به ولا يتبعوا بمحمد صلعم فان ادعو ذلك فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ط أى بحجة واضحة يصدق استماعه.
أَمْ لَهُ الْبَناتُ أى للّه تعالى بنات كما يقولون الملائكة بنات اللّه وَلَكُمُ أيها الناس - الْبَنُونَ ط فيه تسفيه لهم واشعار بان من هذا رايه لا يعد من العقلاء فضلا ممن يرتقى بروحه إلى عالم الملكوت فيطلع على الغيب.(1/6203)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ أى من التزام غرم مُثْقَلُونَ ط فلذلك لا يتبعونك مع ظهور الداعي إلى الاتباع.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ قال ابن عباس المراد منه اللوح المحفوظ المثبت فيه المغيبات فَهُمْ يَكْتُبُونَ ط منه وقيل معناه عندهم علم ما غاب عنهم حتى علموا ان ما جاء به محمد صلعم من البعث وامر القيامة والثواب والعقاب مع كونه ممكنا فى نفسه واجبا تبوته بالبرهان باطل غير واقع وقال قتادة هذا جواب لقولهم نتربّص به ريب المنون يعنى أ عندهم علم الغيب بان محمدا صلى اللّه عليه وسلم يموت قبلهم ولا يبقى له اثر ومعنى قوله فهم يكتبون أى يحكمون والكتاب الحكم كذا قال القعنبي.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ط بك ليهلكوك وهو كيدهم فى دار الندوة قال اللّه تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ يعنى يحيق بهم الكيد أو يعود إليهم وبال كيدهم وجزاؤه وهو قتلهم يوم بدر وعذابهم بالنار فى الاخرة وضع الموصول موضع الضمير للتسجيل على كفرهم والدلالة على انه هو الموجب للحكم المذكور.
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ ط يمنعهم من عذاب اللّه وينصرهم ويرزقهم سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ عن اشراكهم أو عن شركة ما يشركون قال به الخليل ما فى هذه الصورة من أم كله استفهام يعنى الإنكار وليس بعطف.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً أى قطعة مِنَ السَّماءِ ساقِطاً هذا جواب لقولهم فاسقط علينا كسفا من السماء يَقُولُوا هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ تراكم بعضها على بعض كما ان عادا لما رأو عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا يعنى لو عذبناهم بإسقاط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم حتى يهلكوا لكن الحكمة لا يقتضى استيصالهم.(1/6204)
فَذَرْهُمْ ولا تسال نزول العذاب عليهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ أى يوم عذابهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 101
الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ قرأ عاصم وابن عامر بضم الياء على البناء للمفعول أى يوم يهلكهم اللّه تعالى من الصعق والباقون بفتح الياء على البناء للفاعل من صعق يصعق أى يوم يموتون قال البيضاوي هو عند النفخة الاولى - قلت هذا ليس بشىء فانه جعل غاية لقوله ذرهم وذا لا يتصور الا ان يراد يوم يموتون.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إغناء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ط يمنعون من عذاب اللّه يوم لا يغنى بدل من يومهم.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل العموم والخصوص - عَذاباً فى الدنيا دُونَ ذلِكَ أى قبل ذلك اليوم يوم موتهم قال ابن عباس يعنى القتل يوم بدر وقال مجاهد الجوع والقحط سبع سنين وقال البراء بن عازب يعنى عذاب القبر قلت هذا على تقدير ان يراد بيومهم الذي فيه يصعقون يو م نفخة الصعق وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك.(1/6205)
وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بامهالهم وابقائك فى عنائهم وقيل معناه واصبر إلى ان يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا قال الزجاج يعنى انك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إليك بمكروه والحاصل انك بحفظنا وجمع العين لجمع الضمير وجمع الضمير للتعظيم أو يقال جمع العين للمبالغة والدلالة على كثرة اسباب الحفظ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ عطف على واصبر حِينَ تَقُومُ قال سعيد بن جبير وعطاء أى قل حين تقوم من مجلسك سبحانك اللهم وبحمدك فان كان المجلس خيرا ازدادت خيرا وان كان غير ذلك كان كفارة له عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل ان يقوم سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا أنت استغفرك وأتوب إليك كان كفارة لما بينهما رواه البغوي ورواه الترمذي والبيهقي فى الدعوات الكبير الا غفر له ما كان فى مجلسه وعن رافع بن خديج قال كان رسول اللّه صلعم بآخر عمره إذا اجتمع إليه أصحابه فاراد ان ينهض قال سبحان اللّه وبحمدك اشهد ان لا اله الا أنت استغفرك وأتوب إليك عملت سوأ أو ظلمت نفسى فاغفر لى انه لا يغفر الذنوب الا أنت استغفرك وأتوب إليك عملت سوء قال قلنا يا رسول اللّه ان هذه كلمات احدثتهن قال أجل جاءنى جبرئيل فقال يا محمد هن كفارات المجلس رواه النسائي واللفظ له وصححه الحاكم وأخرجه الطبراني فى المعاجم الثلاثة مختصرا بسند جيد وعن عبد اللّه ابن عمر بن العاص انه قال كلمات لا يتكلم بها أحد فى مجلس خبر ومجلس ذكر إلا ختم له بهن كما يتختم بالخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا أنت استغفرك وأتوب إليك رواه أبو داود
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 102(1/6206)
و ابن حبان فى صحيحه وعن أبى هريرة عن النبي صلعم قال جلس قوم مجلسا لم يذكروا اللّه فيه ولم يصلوا على نبيهم الا كانت عليهم ترة ان شاء عذبهم وان شاء غفر لهم رواه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له وابن أبى الدنيا والبيهقي وفى رواية أبى داود ومن قعد مقعدا لم يذكر اللّه فيه كانت عليهم من اللّه ترة ومن اضطجع مضطجعا لا يذكر اللّه فيه كانت عليه من اللّه ترة وما مشى أجد مشى لا يذكر اللّه فيه الا كان عليه ترة وقال ابن عباس معنى الآية صل اللّه حين تقوم من منامك وقال الضحاك والربيع إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك رواه أبو داود والترمذي ورواه ابن ماجة عن أبى سعيد وقال الترمذي هذا الحديث لا نعرفه الا من حارثة وقد تكلم فيه من قبل حفظه وقال الكلبي المراد بالآية الذكر باللسان حين تقوم من الفراش إلى ان تدخل فى الصلاة عن عاصم بن حميد سالت عائشة باى شىء كان يفتتح رسول اللّه صلعم إذا قام من الليل قالت كان إذا قام كبر اللّه عشرا وحمد اللّه عشرا وسبح اللّه عشرا واستغفر عشرا وقال اللهم اغفر لى واهدني وارزقني وعافنى ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة رواه البغوي ورواه أبو داود عن شريق الهوزلى عن عائشة بلفظ كان إذا ذهب من الليل كبر عشرا وحمد اللّه عشرا وقال سبحان اللّه وبحمده عشرا وقال سبحان الملك القدوس عشرا واستغفر عشرا وهلل عشرا ثم قال اللهم انى أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا.(1/6207)
وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أى صل له قال مقاتل يعنى صلوة المغرب والعشاء قلت والظاهر انه صلوة التهجد خص صلوة الليل بالذكر لان العبادة فى الليل أشق على النفس وابعد عن الريا ولذلك قدم الظرف على الفعل - وَإِدْبارَ النُّجُومِ ع يعنى إذا أدبرت النجوم وغابت بطلوع الصبح وقال الضحاك المراد به صلوة الفجر وقال اكثر المفسرين المراد به ركعتان قبل صلوة الفجر عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها رواه المسلم وعنها قالت لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم أشد تعاهدا منه على ركعتا الفجر متفق عليه وعن جبير بن مطعم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ فى المغرب بالطور رواه البغوي.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 103
سورة النّجم
مكّيّة وهى اثنان وستّون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/6208)
وَ النَّجْمِ إِذا هَوى قال ابن عباس فى رواية الوالبي والعوفى يعنى الثريا إذ أسقطت وهويه مغيبه والعرب يسمى الثريا نجما وجاء فى الحديث عن أبى هريرة مرفوعا ما طلع النجم قط وفى الأرض من العاهة شىء الا رفع وأراد بالنجم الثريا ذكره البغوي ورواه احمد بلفظ ما طلع النجم صباحا قط ويقوم عاهة الا ورفعت عنهم أو خفت وسنده ضعيف - وقال مجاهد نجوم السماء كلها حين تغرب واللام للجنس سمى الكواكب نجما بطلوعه وكل طالع نجم يقال نجم السن والقران والسنة وروى عن عكرمة عن ابن عباس انه الرجوم من النجوم يعنى ما يرمى به الشياطين عن استراقهم السمع وقال أبو حمزة الثمالي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة وقال ابن عباس فى رواية عطاء المراد بالنجم القرآن فسمى نجما لانها نزلت نجوما متفرقة فى ثلثة وعشرين سنة يسمى التفريق تنجيما والمفرق منجما وقال الكلبي الهوى النزول من أعلى إلى أسفل وقال الأخفش النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله تعالى والنجم والشجر يسجد ان وهويه سقوط على الأرض وقال جعفر الصادق رض يعنى محمدا صلعم إذا نزل من السماء ليلة المعراج والهوى النزول وقيل المراد بالنجم المسلم وبهويه دفنه فى القبر والظرف لا يجوز ان يكون متعلقا بفعل قسم مقدر لان القسم لا يتعدى بذلك الوقت ولا ان يكون الظرف صفة منجم لأنه جثة وظرف الزمان لا يكون صفة للجثه بل هو متعلق بحدث مقدر مضاف إلى النجم تقديره وتحرك النجم إذا هوى وقيل إذا هاهنا اسم وليس بظرف وهو بدل اشتمال من النجم مقسم به ووجه تعين هذا الوقت للقسم ان وقت الهوى أفضل اوقات النجم لأنه ان كان المراد بالنجم الثريا أو مطلق النجم فان أريد بهواه سقوط شعلة منه لرجم الشياطين - فلا شك ان رجم الشياطين مقصود من خلقة النجوم وان أريد به انتشاره يوم القيامة فذلك وقت إتمام المقاصد التي قصد بالنجوم وان أريد به غروبه فغروبه أوضح دليل على إمكانه و(1/6209)
وجود صانعه ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول من الكواكب والقمر والشمس حيث قال فلما أفل لا أحب الآفلين وان أريد به نجم القرآن وبهويه نزوله أو بالنجم محمد صلعم وبهويه نزوله من السماء ليلة المعراج فلا شك ان نزول القرآن لهداية الناس ونزول محمد صلعم بعد عروجه لهداية الخلق نعمة جليلة من اللّه تعالى لا نطير لهما وان أريد بالنجم المسلم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 104
و بهويه دفنه فى القبر فلا شك ان دفن المسلم مع إيمانه سالما عن تسويلات النفس والشيطان غانما بنعمة الايمان والأعمال الصالحة وقت كماله وزوال حظر زواله واللّه تعالى أعلم وجواب القسم.
ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ محمد صلعم عن طريق الهدى وَما غَوى ج فى اتباع طريق الباطل قيل الضلال ضد الهداية والغى ضد الرشد يعنى هو مهتد راشد وليس كما تزعمون يا معشر قريش وتنسبونه إلى الضلال والغى.
وَما يَنْطِقُ بالقران ولا بغيره عطف على ما ضل عَنِ الْهَوى ط صفة لمصدر محذوف يعنى نطقا ناشيئا عن الهوى يعنى لم يتقول القرآن من تلقاء نفسه كما يتقول الشعراء وكذا كل ما يتكلم ليس منشاؤه الهوى النفسانية بل مستند إلى الوحى جلى أو خفى وان كان باجتهاد مامور من اللّه تعالى مقرر من اللّه عليه فهو ليس عن الهوى البتة.
إِنْ هُوَ الضمير راجع إلى القرآن المعهود فى الدهن والمدلول فيما سبق من الكلام إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فليس فى هذه الآية ما يدل على انه صلعم ما كان يتكلم بالاجتهاد والجملة تعليل بقوله ما ينطق.
عَلَّمَهُ يعنى محمدا صلعم الضمير المنصوب مفعول أول لعلم والقران أو ما يوحى إليه عليه السلام مطلقا من حيث انه اسم لكلام تام قايم مقام مفعولية الثاني والثالث وفاعله شَدِيدُ الْقُوى جمع قوة والمراد به اللّه سبحانه القوى المتين.(1/6210)
ذُو مِرَّةٍ المرة القوة الشدة والاصالة والاحكام كذا فى القاموس واللّه سبحانه شديد البطش يحكم اصل كل شىء وجملة علمه مع ما عطف عليه حال من الضمير المستكن فى يوحى أو صفة بعد صفة فَاسْتَوى عطف على علمه والاستواء من المتشابهات قال السلف فى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى ان الاستواء معلوم بلا كيف وقال سهيل بن عبد اللّه التستري لا يجوز لمومن ان يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء ولنا عليه الرضا والتسليم وقال مالك بن انس الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والسؤال عنه بدعة وحاصل الآية انه كان للّه تعالى إذا علم محمدا صلعم نسبته به عليه السلام مجهول الكيفية كنسبته مع العرش المجيد والكعبة الحسناء وقد تظهر تلك النسبة للصوفية الكرام وتظهر على وجه أكمل منه يوم يرونه كما يرون القمر ليلة البدر.
وَهُوَ يعنى محمدا صلعم بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يعنى كان محمد صلعم إذا يوحى إليه فى كمال رفعة استعداده وعلو مرتبته والأفق الناحية على منتهى دايرة الإمكان حيث يكون وراء ذلك دايرة الوجوب التي لا يتصور هناك للسالك سير قدمى والجملة حال من الضمير المنصوب فى علمه.
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 105(1/6211)
بحذف المضافين ان كان مقدار قربه قاب قوسين أو ادنى وجملة ثم دنى عطف على علمه قال البغوي روينافى قصة المعراج عن شريك بن عبد اللّه بن انس ودنى الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه صلعم قاب قوسين أو ادنى قال الشيخ محمد حيات السندي فى رسالته هذا حديث غريب ومثله عن ابن عباس رواه أبو سلمة عنه واو هاهنا ليس للشك بل بمعنى بل كما فى قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ يعنى بل يزيدون قالت الصوفية العلية المراد بقوسين قوس الوجوب وقوس الإمكان فالصوفى فى مرتبة دنوه قاب قوسين يبقى فى نظره مرتبتى الوجوب والإمكان كلتيهما وفى دنوه أدنى من قوسين يستر عن بصيرته قوس الإمكان مطلقا لا يرى نفسه عينا ولا اثرا والقاب والقيبة والقاد والقيد عبارة عن المقدار وهاهنا كناية عن كمال القرب وأصله ان الحليفين من العرب كانا إذا أراد عقد الصفا والعهد خرجا بقوسيهما وألصقا بينهما يريدان بذلك انهما متظاهران يحامى كل واحد منهما عن صاحبه ومراتب الدنو والتدلي وما كنى بقاب قوسين أو بما هو ادنى منه درجات قرب للعهد من اللّه تعالى فى تجلياته سبحانه يدركه الصوفي ومن لم يذق لم يدر وقد ذكروا هذه الدرجات فى كتب التصوف فى كلماتهم اكثر مما تحصى وقال الضحاك معناه دنى محمد من ربه فتدلى يعنى فاهوى للسجود وهذا يستلزم انتشار الضمائر.
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
يعنى محمدا صلعم ما أَوْحى(1/6212)
ط من القرآن وغيره من الوحى الغير المتلو وضمائر اوحى وعبده واوحى راجعة إلى شديد القوى وهذا التفسير مروى عن انس وابن عباس وغيرهما من السلف ولا غبار عليه من حيث العربية وقالت عائشة رض واختاره اكثر المفسرين ان المراد بشديد القوى جبرئيل عليه السلام ذو مرة قال ابن عباس فى رواية أى ذو منظر حسن وقال قتادة وخلق طويل حسن فاستوى جبرئيل وهو يعنى محمد صلى اللّه عليه وسلم عطف على الضمير المرفوع المستتر فى استوى على ما اجازه الكوفيون قال البغوي استوى جبرئيل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج وقيل ضمير هو راجع إلى جبرئيل كان يأتي رسول اللّه صلعم فى صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين فساله رسول اللّه صلعم ان يره نفسه على صورة التي خلقها فاراه مرتين فى الأرض ومرة فى السماء فاما فى الأرض ففى الأفق الأعلى والمراد بالأعلى جانب المشرق وذلك ان محمدا صلعم كان بحراء فطلع له جبرئيل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر رسول اللّه صلعم مغشيا عليه فنزل جبرئيل فى صورة الآدميين وضمه صلعم إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه واما فى السماء فعند سدرة المنتهى ليلة المعراج ولم يره أحد من
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 106(1/6213)
الأنبياء على تلك الصورة الا محمد صلعم قوله تعالى ثُمَّ دَنا يعنى جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل إلى محمد صلعم لما خرّ رسول اللّه صلعم مغشيا عليه فكان منه قاب قوسين أو ادنى يعنى بل ادنى والقوس ما يرمى به فى قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس فاخبر انه كان بين جبرئيل وبين محمد صلعم مقدار قوسين قال معناه حيث الوتر من القوس وقال ابن مسعود قاب قوسين قدر ذرا عين وهو قول سعيد بن جبير وشفيق بن سلمة والقوس الذراع يقاس بها كل شىء كذا روى البخاري فى تاويل الآية عن عائشة رض وقال البغوي وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة قيل فى الكلام تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى فدنى لان التدلي سبب الدنو والظاهر ان الدنو أعم مطلقا عن التدلي فان الدنو لا يقتضى وصول الشيء إلى منتهى مسافة يريد قطعها إلى تحت بخلاف التدلي فانه ماخوذ من الدلو فان التدلي وصول الدلو إلى قعر البير وأيضا يعتبر فى التدلي الوصول إلى المنتهى مع بقاء تعلقه بالمبدأ يتال ادلى رجله من السرير وادلى دلوه والدوالي للثمر المعلق فاوحى جبرئيل إلى عبده يعنى عبد اللّه وما اوحى اللّه إليه وهذا التأويل يأباه العربية والمعقول بوجوه أحدها ان قصة جبرئيل هذه حكاية حال والكلام فى ان القرآن ليس شيأ منها مما نطقه محمد صلعم من تلقاء نفسه بل كله مما اوحى إليه من ربه وجملة شديد القوى مع ما عطف عليه من قوله فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو ادنى حال من الضمير المستكن فى قوله الا وحي يوحى وزمان الحال يتحد مع زمان صاحبه فمقتضى الكلام وقوع تلك القصة فى كل مرة اوحى إليه شىء من القرآن والا لا يجوز وقوعه حالا أو لا يجوز القول بان القرآن كله كذلك ثانيها انه يلزم حينئذ انتشار الضمائر فى قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى(1/6214)
و رجوع ضمير عبده إلى اللّه سبحانه قرينة لكونه ضميرا وحي راجعا إلى اللّه تعالى ثالثها ان الدنو أو التدلي من جبرئيل عليه السلام وكونه قاب قوسين أو ادنى ليس كما لا للنبى صلعم فان النبي صلعم كان أفضل من جبرئيل عليه السلام قال رسول اللّه صلعم وزير أى فى السماء جبرئيل وميكائيل ووجه القول بالتأويل الثاني انما هو استبعاد الاستواء والدنو والتدلي إلى اللّه تعالى ولما كان القرآن ناطقا بان منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فلا وجه للقول بهذا التأويل البعيد والاستواء والدنو والتدلي وكونه قاب قوسين أو ادنى بلا كيف على ما يليق بالتنزيه مشهود لارباب القلوب كمشاهدة القمر ليلة البدر فالاوجه فى القول ما قالوا واللّه تعالى أعلم قال سعيد بن جبير فى قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
انه اوحى إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى قوله ورفعنا لك ذكرك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 107
و قيل اوحى إليه ان الجنة لحرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى
الأمم حتى يدخلها أمتك والظاهر أن ما اوحى عام ولا وجه للتخصيص.(1/6215)
ما كَذَبَ الْفُؤادُ أى فواد محمد صلعم ما رَأى قال ابن مسعود راى محمد صلعم جبرئيل له ستمائة جناح وكذا روى عن عائشة رض وأنكرت عائشة روية النبي صلعم وبه روى البخاري عن مسروق قال قلت لعائشة يا أماه هل راى محمد صلى اللّه عليه وسلم ربه فقالت لقد يقف شعرى مما قلت اين أنت من ثلث من حدثكهن فقد كذب من حدثك ان محمد راى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير وما كان لبشر ان يكلمه اللّه الا وحيا أو من وراء الحجاب ومن حدثك انه يعلم ما فى غد فقد كذب ثم قرأت ما تدرى نفس ماذا تكسب غدا ومن حدثك انه كتم شيأ من الوحى فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك الآية ولكن راى جبرئيل فى صورته مرتين وقال ابن عباس ما كذب الفؤاد ما راى ولقد راه نزلة اخرى ان محمدا صلعم راى ربه جل وعلى بفؤاده مرتين كذا روى مسلم عنه وفى رواية الترمذي قال ابن عباس راى محمد ربه قال عكرمة قلت أ ليس اللّه يقول لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وقال ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد راى محمد ربه مرتين واخرج ابن جرير عن ابن عباس انه صلعم سئل هل رايت ربك قال رايت بفؤادى وقال انس والحسن وعكرمة راى محمد صلعم ربه يعنى بعينه قال البغوي قال عكرمة عن ابن عباس قال ان اللّه اصطفى ابراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمد صلى اللّه عليه وسلم بالر وية وروى الترمذي عن الشعبي ان كعب الأحبار قال لابن عباس ان اللّه قسم رويته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين وراى محمد صلعم مرتين قلت المراد بالروية المختلف فيها اما الروية بالبصر واما الروية القلبية المعبر عنها بالمشاهدة فغير مختص بالنبي صلعم بل يتشرف اولياء أمته صلعم أيضا وقد ادعى بعض الأولياء الروية البصرية وذلك خلاف اجماع فى حق غير النبي صلعم وهذا الدعوى مبنى على الاشتباه ووجه الاشتباه ان الصوفي(1/6216)
قد يرى ربه بقلبه وهو يقظان ويتعطل حينئذ بصره لكنه يزعم فى غلبة الحال انه يراه ببصره وانما هو يراه بقلبه وبصره معطل وقوله عليه السلام رايته بفؤادى لو ثبت لا يدل على انفى الروية بالبصر الا بالمفهوم قلت وقول ابن مسعود وعائشة شهادة على النفي وشهادة الإثبات أرجح وما احتج به عائشة على نفى رويته صلعم فلا يخفى ضعفه واما قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فقد ذكرنا فى تفسير تلك الآية فى سورة الانعام ان الدرك أخص من الروية
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 108(1/6217)
و نفى الدرك لا يستلزم نفى الروية قال اللّه تعالى فلما تراء الجمعان قال اصحاب موسى انا لمدركون قال كلا ان معى ربى وأيضا مفهوم الآية سلب عموم الدرك لا عموم سلب الدرك واما قوله ما كان لبشر ان يكلمه اللّه إلا وحيا أو من وراء حجاب ترديد بين الوحى من وراء الحجاب والوحى بلا حجاب فلا استدلال به واللّه تعالى أعلم وروى مسلم عن أبى ذر قال سالت رسول اللّه صلعم هل رأيت ربك قال نورانى أراه انى بفتح الهمزة للاستفهام يعنى كيف أراه وفى بعض الروايات نورانى منسوب إلى النور أراه فعلى الرواية الثانية يثبت الروية وعلى الرواية الاولى ليس الحديث صريحا فى نفى الروية مطلقا قلت وبعد ثبوت روية صلعم ربه بالعين كما يدل عليه حديث ابن عباس وكعب أيضا ان المراد بالروية فى الآية الروية القلبية فانها هى المتصورة عند كل وحي يوحى إليه دون الروية البصرية فانها مختصة بليلة المعراج قرأ أبو جعفر وهشام عن أبى عباس كذب بتشديد الذال من التكذيب يعنى ما كذب قلب محمد صلعم ما راى بعينه أو بقلبه بل صدقه وايقنه وهو حققه فان الأمور القدسية تدرك أو لا بالقلب ثم ينتقل منه إلى البصر والبصيرة فان ابصر مثل ما أدرك بالقلب وان قصر بصره أو بصيرته عما أدركه القلب وراى بخلافه كذبه وهذا هو المصداق الفارق بين العلوم الحقة الفائضة من الرحمن وبين الخيالات الوهمية وملتبسات الشيطانية فان الصوفي قد يلتبس عنده العلوم والإلهامات والمكاشفات القدسية المفاضة عليه من اللّه سبحانه بما يتخيله الوهم والخيال وبما القى(1/6218)
الشيطان فى أمنيته والفارق بينهما ان يرجع الصوفي إلى قلبه فان صدقه قلبه واطمأن به ورأى فى قلبه منه برد اليقين علم انه من اللّه سبحانه وان كذبه قلبه واضطرب عنده وابى عرف انه من النفس أو الشيطان قال رسول اللّه صلعم إذا جاءك فى صدرك شىء فدعه رواه احمد عن أبى امامة أو قال عليه السلام استفت قلبك وان أفتاك المفتون وقرأ الجمهور بتخفيف الذال والكذب يجىء متعديا بمعنى كذب له ومجازه ما كذب الفؤاد لمحمد صلعم فيما راى يعنى أخبره على ما فى نفس الأمر فان قيل هذه الآية يقتضى ان تصديق القلب يغاير روية القلب قلنا نعم وتحقيق المقام ان قلب المؤمن يدرك اللّه سبحانه وصفاته يمعية ذاتية غير متكيفة مترتبة على محبة ذاتية غير متكيفة ولا يراه بل روية مقتصرة على مراتب الظلال بل القلب لا يرى شيئا من ذوات الممكنات أيضا فان حصول الأشياء فى الأذهان انما هى باشباهها وظلالها لا بانفسها وما يرى ذات شىء مما يراه الا يتوسط الباصرة فروية اللّه سبحانه تيسير للمومنين فى الاخرة بتوسط الحاسة لا فى الدنيا الا ما ذكرنا من الخلاف فى حق النبي صلعم خاصة ودركه تعالى مختص بالقلوب دون الابصار فانه تعالى لا تدركه الابصار
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 109
لا فى الدنيا ولا فى الاخرة فروية القلب سواء كانت بتوسط البصر أو بلا توسط قد يعتبر به الغلط بتخليط الوهم أو تلبيس الشيطان أو زيغ البصر وطغيانه عما يراه واما دركه البسيط فلا يعتبر به شىء من ذلك ويتفرع عليه الاطمينان بالحق وتصديقه والإباء عن الباطل وتكذيبه واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.(1/6219)
أَ فَتُمارُونَهُ معطوف على محذوف قرأ حمزة والكسائي أ فتمارونه على وزن تدعونه بمعنى تغلبونه فى المرأ يقال ماريته فمريته بمعنى حادلته فغلبته وعلى هذا التقدير الكلام أ تمارونه فتمرونه عَلى ما يَرى عدى بعلى لان الفعل بمعنى الغلبة وقيل تمرون تجحدون يقال مريت الرجل حقه يعنى جحدته والمعنى أ تجادلون محمدا فتحجدون صدقه على ما يرى والتعدية بعلى حينئذ أيضا لتضمن الفعل مع الغلبة فان المجادل والجاحد يقصدان يفعلهما للغلبة على الخصم وقرأ جمهور القراء أ فتمارونه من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة أى استخرج لبنها فان كلا من المتجادلين بمرى ما عند صاحبه يستخرجه وتقدير الكلام حينئذ تنكرون قول محمد فتمارونه عن ما يرى والاستفهام للتوبيخ والإنكار يعنى لا ينبغى ....... الإنكار والجدال فيما يدعى محمد صلعم رويته وأورد صيغة المضارع استحضارا للحال الماضي وحكاية عنه وجاز ان يراد به التوبيخ على انكار كل ما أراه محمد صلعم فى الحال أو الاستقبال - .(1/6220)
وَ لَقَدْ رَآهُ يعنى واللّه لقد راى محمد صلعم ربه جل وعلا أو جبرئيل على صورته التي خلق عليها على اختلاف القولين المذكورين نَزْلَةً فعلة من النزول كجلسة من الجلوس منصوب على الظرفية من راه تقديره وقت نزلة اخرى أو على المصدرية تقديره نازلا نزلة اخرى وفى إيراد نزلة اشعار بان الروية فى هذه المرة كانت أيضا بالنزول والدنو فان روية البشر الممكن الواجب جل سلطانه انما يتصور إذا كان البشر الرائي فى الأفق الأعلى والدرجة الانس من درجات الإمكان واللّه تعالى يتنزل من مراتب التنزيه إلى نوع من درجات التشبيه فيرى من وراء حجب الظلال أو الصفات ولا يذهب عليك من مقالتى هذا حدوث امر فى جانبه تعالى ذلك علوا كبيرا بل النزول والعروج كلها فى مرتبة العلم يظهر بحدوث صفاء فى مراة قلب المتجلى له وقد مر البحث عن مثله فى سورة البقر فى تفسير قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أُخْرى هذا يدل على تعدد الروية ولا يدل على الانحصار فى المرتين فما روى عن ابن عباس وكعب الأحبار انه راى ربه مرتين محمول على بيان ادنى ما يتصور فيه التعدد وهذه الآية حكاية عن روية النبي صلعم ربه ليلة المعراج.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 110(1/6221)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى والظاهران ما حكى عن ابن عباس وكعب رويته صلعم ربه بعينه هو هذه الروية وقوله عند سدرة المنتهى ظرف متعلق يراه أو اضافة السدر إلى المنتهى اضافة موصوف إلى صفة نحو جانب الغرب ومسجد الجامع اجازه الكوفيون وتأويله عند البصريين سدرة المكان منتهى وجعل المنتهى صفة لها لأنه ينتهى إليها ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ويهبط به من فوقها فيقبض منها وينتهى إليها علم الخلائق وما خلقها غيب ويدل عليه ما يورد عليك من حديث ابن مسعود وكعب (قصة المعراج) فى الصحيحين عن انس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلعم قال بينما انا فى الحطيم مضطجعا إذا تأنى ات فشق بين هذه وهذه يعنى من ثغرة نحره إلى شعرته فاستخرج قلبى ثم أتيت بطست من ذهب مملو ايمانا فغسل قلبى ثم حشى ثم أعيد وفى رواية ثم غسل البطن بماء زمزم ثم صلى ايمانا وحكمة ثم أتيت بداية دون البغل وفوق الحمار يقال له البراق ليضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبرئيل حتى اتى السماء الدنيا فاستفتح قيل من هذا قال جبرئيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسلت إليه قال نعم قيل مرحبايه فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك وآدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالا بن الصالح ثم صعد بي حتى اتى السماء الثانية فاستفتح فذكر نحو ما ذكر فى السماء الدنيا وكذا ذكر كل السماء قال فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال هذا يحيى وهذا عيسى فسلم فسلمت عليهما فردا ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح وذكر فى السماء الثالثة يوسف وفى الرابعة إدريس وفى الخامسة هارون وفى السادسة موسى كل قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح قال عليه السلام فلما جاوزت بكى يعنى موسى قيل له ما يبكيك قال ابكى لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته اكثر ممن يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة(1/6222)
فذكر الاستفتاح وغير ذلك نحو ما مرو ذكر هناك ابراهيم قال جبرئيل هذا أبوك ابراهيم فسلم عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجروا ذا ورقها مثل أذان القيلة قال هذه سدرة المنتهى فإذا اربعة انهار نهران باطنان ونهران ظاهران قلت ما هذا يا جبرئيل قال اما الباطنان فنهران فى الجنة واما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع بي إلى البيت المعمور ثم أتيت باناء من خمر واناء من لبن واناء من عسل فاخذت اللبن فقال هى الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت علىّ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 111(1/6223)
الصلاة خمسين صلوة كل يوم فرجعت ومررت على موسى فقال بما أمرت قلت أمرت بخمسين صلوة كل يوم قال ان أمتك لا تستطيع خمسين صلوة كل يوم وانى واللّه قد جربت الناس قبلك عالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسئله التخفيف لامتك فرجعت فوضع عنى عشرا فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عنى عشرا فرجعت إلى موسى فقال مثله فامرت بعشر صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فامرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى فقال بما أمرت قلت أمرت بخمس صلوات كل يوم قال ان أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وانى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسئله التخفيف لامتك قلت سالت ربى حتى استحييت ولكنى ارضى واسلم قال فلما جاوزت نادى منادى أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى وروى مسلم عن ثابت البناني عن انس ان رسول اللّه صلعم قال أتيت بالبراق وهو دابة ابيض طويل فوق الحمار دون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء وقال ابن جرير عن أبيه قال قال رسول اللّه صلعم لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبرئيل بإصبعه فخرق بها الحجر وشد به البراق قال رسول اللّه صلعم ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرج فجاءنى جبرئيل باناء من خمر واناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبرئيل اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء وساق مثل معنى ما ذكر من الحديث قال فإذا انا بآدم فرحب بي ودعا بي بخير وقال فى السماء الثالثة فاذا(1/6224)
انا بيوسف إذا هو قد اعطى شطر الحسن فرحب بي ودعا بي بخير ولم يذكر بكاء موسى وقال فى السماء السابعة فإذا انا بإبراهيم مسند أظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون إليه وفى رواية قال جبرئيل هذا البيت المعمور يصلى فيه كل يوم سبعون الف ملك إذا خرجوا لا يعودوا اخر ما عليهم ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى فإذا اورقها كاذان القبلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشّها من امر اللّه ما غشى تغيرت فما أحد من خلق اللّه يستطيع ان ينعتها من حسنها واوحى إلى ما اوحى ففرض علىّ خمسين صلوة فى كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى قال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلوة فى كل يوم وليلة قال ارجع إلى ربك فسئله التخفيف فان أمتك لا يطيق ذلك فانى بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربى فقلت يا رب خفف عن أمتي فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمسا قال ان أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فسئله التخفيف قال فلم ازل ارجع بين ربى وبين موسى حتى قال يا محمد انهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلوة عشر فلذلك خمسون من عمّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 112(1/6225)
عمل بها كتبت له عشرا من همّ بسيئه فلم يعملها لم يكتب له بشى فان عملها كتبت سيئة واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فاخبرته فقال ارجع إلى ربك فسئله التخفيف فقال رسول اللّه صلعم فقلت قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه وفى الصحيحين عن ابن عباس عن أبى ذر يحدث عن النبي صلعم فقال ففرج عنى سقف بيتي وانا بمكة فذكر شق الصدر نحو ما ذكر ولم يذكر البراق قال ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئت إلى السماء الدنيا فقال جبرئيل لخازن السماء افتح فذكر نحوه فلما فتح علونا السماء الدنيا إذا رجل قاعد على يمينه اسودة وعلى يساره اسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبرئيل من هذا قال هذا آدم وهذه الاسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فاهل اليمين منهم أهل الجنة والاسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى فذكر انه وجد فى السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وابراهيم ولم يثبت كيف منازلهم غير انه قال وجد آدم فى السماء الدنيا وابراهيم فى السادسة قال ابن شهاب فاخبرنى ابن حزم ان ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال النبي صلعم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى اسمع فيه صريف الأقلام وقال ابن حزم وانس ففرض اللّه على أمتي خمسين صلوة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى قال ما فرض اللّه لك قلت خمسين صلوة قال فارجع إلى ربك فان أمتك لا يطيق فراجعنى فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فقلت وضع اللّه شطرها فقال ارجع إلى ربك فان أمتك لا يطيق فراجعته فقال هى خمس وهى خمسون لا يبدل القول لدىّ فرجعت إلى موسى فقال راجع ربك فقلت استحييت من ربى فانطلق بي حتى انتهى بي إلى السدرة وغشيها ألوان لا أدرى ما هى ثم ادخلت الجنة فإذا فيها جنابذا اللؤلؤ وإذا ترابها المسك وروى معمر عن قتادة عن انس ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم اتى البراق(1/6226)
ليلة اسرى به مسرجا ملجما فاصعب عليه فقال جبرئيل أ بمحمد تفعل هذا فما ركبك أحد أكرم على اللّه منه فارفض عرقا وروى مسلم عن ابن مسعود قال لما اسرى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى به إلى السدرة المنتهى وهى فى السماء السادسة إليها ينتهى ما يعرج بها من الأرض فيفيض منها وإليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها وذكر البغوي انه قال هلال بن يسار سال ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وانا حاضر فقال انها سدرة فى اصل العرش وإليها ينتهى علم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه الا اللّه قلت ومعنى قوله إليها ينتهى علم الخلائق يعنى ان بعض المخلوقات اعنى الملائكة يحضرون إلى سدرة المنتهى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 113
و لا يتجاوزها أحد من الخلائق فما ورائها غيب من كل وجه واما سدرة المنتهى فهى وان كان غيبا بالنسبة إلى البشر
فليس يغيب بالنسبة إلى بعض الملائكة وروى البغوي بسنده عن اسماء بنت أبى بكر قالت سمعت النبي صلعم يدكر سدرة المنتهى قال يسير الراكب فى ظل الغصن مائة عام ويستظل فى الغصن منها ماية الف راكب فيها فراش من ذهب كان ثمرها القلال وقال مقاتل هى شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار وجميع الألوان لوان ورقة منها وضعت فى الأرض أضاءت لاهل الأرض وهى طوبى التي ذكرها اللّه فى سورة الرعد.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ط واضافة جنة إلى المأوى أيضا من قبيل اضافة الموصوف إلى الصفة جوزها الكوفيون ويؤله البصريون بجنة المكان المأوى قال عطاء عن ابن عباس معناه جنة يأوي إليها جبرئيل والملائكة وقال مقاتل والكلبي فاوى إليها أرواح الشهداء وجنة المأوى مبتدا أو فاعل للظرف والجملة صفة لسدرة ان كانت الاضافة للعهد الذهني فى قوة النكرة والا فهى حال عنها.(1/6227)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى الظرف متعلق يراه الموصول مع الصلة فاعل يغشى استعمال الموصول للتفخيم وصيغة المضارع بمعنى الماضي والمعنى غشيها ما لا يستطيع أحد ان ينعبتها لحسنها أو لكثرة عددها أو لعدم درك كنهها وقد مر فى حديث المعراج عن انس فلما غشيتها من امر اللّه ما غشى تغيرت فما أحد من خلق يستطيع ان ينعتها من حسنها وروى مسلم عن ابن مسعود قال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب وكذا ذكر البغوي قول ابن عباس قال البغوي عن الحسن قال غشيتها نور رب العزت فاستنارت قلت لعل نور رب العزة كعزة كنى عنها بفراش من ذهب وقال مقاتل تغشيها الملائكة أمثال الغربان - وقال السدى من الطيور وروى عن أبى العالية عن أبى هريرة رض أو غيره قال غشيتها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب اللّه أمثال الغربان حتى يقعن على الشجر قلت ولا منافات بين تغشية نور رب العزة وتغشية الملائكة فان تغشية الملائكة انما هى لأجل تغشية نور رب العزة كما يدل عليه قوله غشيها من الملائكة من حب اللّه أمثال الغربان وتغشية النور من قبيل التجليات النورية واللّه تعالى أعلم قال البغوي يروى فى الحديث رايت على كل ورقة منها ملكا قايما يسبح اللّه تعالى.
ما زاغَ الْبَصَرُ يعنى ما مال بصر النبي صلعم يمينا ولا شمالا وما أخطى فى النظر بل أثبته اثباتا صحيحا وَما طَغى أى ما جاوز عن الجيوب؟؟؟ إلى يثيره اه من العشق وحالاته احرق قلبى بحراراته ما نظر العين إلى غيركم اقسم باللّه وآياته قيل معناه ما عدل عن روية العجائب التي امر برويتها - .
لَقَدْ رَأى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 114(1/6228)
اى لقد راى محمد صلعم مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى مفعول لراى ومن ايت ربه حال منه مقدم عليه ومن للتبعيض يعنى واللّه لقد راى محمد الكبرى من آيات ربه وجاز ان يكون من زائدة وآيات ربه مفعول به الكبرى صفة لها وجاز ان يكون المفعول محذوفا تقديره لقد راى شيئا من آيات ربه الكبرى والمراد بالآيات العجائب الملكوتية التي راى ها فى ليلة المعراج فى مسيره وعوده من البراق والسموات والأنبياء والملائكة والسدرة المنتهى وجنة المأوى - روى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال لقد راى من آيات ربه الكبرى قال راى جبرئيل فى صورته له ستمائة جناح وروى البخاري عنه لقد راى من آيات ربه الكبرى قال راى رفر فاخضر اسد الأفق وانما وصف تلك الآيات بالكبرى لتجليات مخصوصة فى تلك الآيات وكونها مهبط الرحمة والبركة والأفكل ممكن اية كبرى على وجود صانعه ودليل واضح مكتفى لا يحقر منها شىء قال اللّه تعالى ان الذين يدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له فان قيل هذه الآية تؤيد قول من قال ان النبي صلعم انما راى مرتين جبرئيل عليه السلام دون اللّه سبحانه لان روية الآيات غير روية الذات قلنا روية الآيات لا ينافى روية الذات بل الآيات قد ينجلى فيه الذات كما ان الشمس يتجلى فى المرآة فان قيل قد ذكرت فى تفسير قوله تعالى ما طَغى يعنى ما جاوز بصره عن المحبوب إلى غيره فكيف يتصور روية الآيات قلنا المقصود من روية الآيات انما هى الذات ومن ثم تكون الآيات مرأة للذات فحين راى الآيات جاوز نظره عنها إلى الذات وحين راى الذات لم يتجاوز عنه إلى غيره أصلا - (مسئلة) اجمع المؤمنون من أهل السنة والجماعة ان معراجه صلعم فى اليقظة حق فقيل مسراه صلعم من المسجد الحرام إلى الأقصى قطعى ثابت بقوله تعالى سبحانه الذي اسرى بعبده الآية فيكفر جاحده واما معراجه إلى السماء السابعة وما فوقها فثبت بأحاديث صحاح فيفسق جاحده ولا يكفر و(1/6229)
الصحيح ان معراجه صلعم إلى السدرة المنتهى قطعى ثابت بهذه الآية يكفر جاحده فان قيل ما رواه الشيخان فى الصحيحين عن شريك بن عبد اللّه قال سمعت انس بن مالك يقول ليلة اسرى برسول اللّه صلعم من مسجد الكعبة انه جاء ثلثة نفر قبل ان يوحى إليه وهو نائم فى المسجد الحرام وساق حديث المعراج بقصته قال فإذا هو فى السماء الدنيا بنهرين يطروان قال هذا النيل والفرات ثم مضى به فى السماء فإذا هو بنهر أخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك ازفر قال ما هذا يا جبرئيل قال هذا الكوثر الذي هيّا لك ربك وساق الحديث
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 115(1/6230)
و قال ثم عرج بي إلى السماء السابعة وقال قال موسى رب لم أظن ان يرفع على أحد ثم علابه فوق ذلك بمالا يعلمه الا اللّه حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو ادنى فاوحى إليه ما اوحى اوحى اللّه خمسين صلوة كل يوم وليلة قال فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ثم أجبته موسى عند الخمس فقال يا محمد واللّه لقد راودت بنى إسرائيل قومى على ادنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه فامتك أضعف أجساد أو قلوبا وأبدانا وابصارا وسماعا فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتقت النبي صلعم إلى جبرئيل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبرئيل فرفعه عند الخامسة فقال يا رب ان أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم فخفف عنا فقال الجبار يا محمد فقال لبيك وسعديك قال انه لا يبدل القول لدى كما فرضت عليك فى أم الكتب فكل حسنة بعشر أمثالها فهى خمسون فى أم الكتاب وهى خمس عليك فقال موسى ارجع إلى ربك فسئله فليخفف عنك أيضا قال رسول اللّه صلعم قد واللّه استحييت من ربى مما اختلف إليه قال فاهبط باسم اللّه فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام هذا لفظ البخاري ورواه مسلم مختصرا يدل على كون المعراج فى المنام قلنا طعن بعض أهل الحديث على هذا الحديث وقالوا وجدنا لمحمد بن اسمعيل ولمسلم فى كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا الا هذا وأحال الآفة فيه إلى شريك بن عبد اللّه وذلك انه ذكر فيه ان ذلك قبل ان يوحى إليه واتفق أهل العلم على(1/6231)
ان المعراج كان بعد الوحى بنحو من اثنى عشر سنة قبل الهجرة بسنة وقال بعض أهل الحديث ان هذا كان رويا فى المنام أراه عز وجل قبل الوحى وهو فى المسجد الحرام ثم عرج به فى اليقظة بعد الوحى قبل الهجرة تحقيقا لرؤياه من قبل كما انه راى فتح مكة فى المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزل قوله تعالى لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق واللّه تعالى أعلم ولما ذكر اللّه سبحانه روية النبي صلعم ربه وآيات ربه وتعلمه صلعم منه تعالى وتصديق قلبه اردفه بذلك تقبيح الكفار بقصر نظرهم على مجازه لا حقيقة لها فقال.
أَ فَرَأَيْتُمُ الاستفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره انظر تم ما تعبدونه فرايتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى هذه اسماء أصنام اتخذوها الهة يعبدونها ويزعمون الملائكة بنات اللّه ويزعمون الأصنام هياكل الملائكة ويقولون الأصنام استوطنها جنيات هن بنات اللّه واشتقوا لها اسماء من اسماء اللّه تعالى فاشتقوا من اللّه اللات ومن العزيز العزى تأنيث الأعز وقيل اللات أصله لوية على وزن فعلة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 116(1/6232)
من لوى يلوى لانهم كانوا يلوون عليها أى يطوفون حولها قلبت الواو الفا وحذفت الياء على خلاف قياس ووضعت تاء التأنيث مكانها فكتبت طويلا قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح ورويس بتشديد التاء على انه سمى به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج فلما مات كانوا عكرنا على قبره ثم كانوا يعبدونه وقال قتادة كانت اللات صنما لثقيف بالطائف وقال ابن زيد كانت بيت بنخلة تعبده قريش واما العزى قال مجاهد هى شجرة بغطفان كانوا يعبدونها وقال ابن إسحاق كانت بيتا بنخلة وكانت سدنتها وحجابها بنى شيبان حلفاء بنى هاشم كانت أعظم أصنام قريش وجميع كنانة كان عمرو بن لحى قد أخبرهم ان الرب يشتى بالطائف عند اللات ويصيف بالعزى فعظموهما وبنوالهما بيتا وكانوا يهدون إليه كما يهدون إلى الكعبة وروى البيهقي عن أبى الطفيل بعث رسول اللّه صلعم يوم فتح مكة خالد بن وليد فاتاها خالد فقطع السمرات وهدمها ثم رجع إلى رسول اللّه صلعم فقال هل رايت شيئا قال لا قال فانك لم تهدمها فرجع خالد وهو مستيقظ فلما رات السدنة خالدا انبعثوا فى الحيل وهم يقولون يا عزى خليه يا عزى عوربه والا فموتى برغم فخرجت إليه سوداء عريانة ناشرة الراس تحثوا لتراب على راسها ووجهها فجرد سيفه وهو يقول كفرانك لا سبحانك انى رايت اللّه قد أهانك فضربها بالسيف فخبر بها باثنين ثم رجع إلى رسول اللّه صلعم فاخبره قال نعم تلك العزى قد يئست ان تعبد ببلدكم ابدا وقال الضحاك هى صنم بغطفان وضعها سعد بن ظالم الغطفاني وذلك انه قدم مكة فراى صفا والمروة وراى أهل مكة يطوفون بينهما فعاد إلى بطن نخلة وقال لقومه ان لاهل مكة الصفا والمروة وليست لكم ولهم اله يعبدونه وليس لكم قالوا فما تأمرنا قال انا اصنع لكم كذلك فاخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة نقلها إلى النخلة فوضع الذي أخذ من الصفا فقال هذا الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة فقال هذه المروة ثم(1/6233)
أخذ ثلثة أحجار فاسندها إلى شجرة فقال هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول اللّه صلعم مكة فامر برفع الحجارة وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها.
وَمَناةَ قرأ ابن كثير بمد وهمزة على انه مفعلة من النوع كانهم يستمطرون الأنواع عندها تبركا بها أصله منواة قلبت الواو الفا بعد نقل حركتها إلى ما قبلها والباقون بلا مد وهمزة فهى فعلة من مناة إذا قطعه فانهم كانوا يذبحون عندها القرابين قال قتادة هى لخزاعة كانت بقديد وقالت عائشة رض فى الأنصار كانوا يهلون لمناة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 117(1/6234)
و كانت حذو؟؟؟ قديد وقال ابن زيد بيت كان ما لمشلل تعبده بنو كعب وقال الضحاك صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة وقال بعضهم اللات والعزى ومناة كانت فى جوف الكعبة يعبدونها ذكر محمد بن يوسف الصالحي فى سبيل الرشاد انه بعث رسول اللّه صلعم حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وهو بالمشلل وهو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد لست بقين من رمضان فى فتح مكة وكانت مناة للاوس والخزرج وغسان فخرج سعد فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن فقال السادن ما تريد قال هدم مناة قال وأنت ذاك فاقبل سعد يمشى إليها ويخرج امراة عريانة سوداء ثائرة الراس تدعوا بالويل وتضرب صدرها فقال السادن مناة دونك بعض غضبانك ويضربها سعد بن زيد الاشهيلى فقتلها ويقبل إلى الصنم معه أصحابه فهدموه اختلف القراء فى الوقف على اللات ومناة فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء وقال بعضهم ما كتب فى المصحف بالتاء يعنى اللات يوقف بالتاء وما كتب بالهاء يعنى مناة يوقف عليه بالهاء الثَّالِثَةَ صفة لمناة أى الثالثة للصنمين المذكورين الْأُخْرى صفة لمناة بعد صفة للتاكيد أو الاخرى من التأخير فى الرتبة واللات والعزى ومناة منصوبان على انها مفعول أول لرأيتم ومفعوله الثاني محذوف تقديره انظر تم ما تعبدونه فرأيتم اللات والعزى ومناة بنات اللّه تعالى البتة مستحقة للعبادة يعنى ليس كذلك واللّه تعالى أعلم قال الكلبي كان المشركون بمكة يقولون الأصنام والملائكة بنات اللّه وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره فقال اللّه تعالى منكرا عليهم.(1/6235)
أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قال ابن عباس وقتادة أى قسمة جايرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لانفسكم وقال مجاهد ومقاتل أى قسمة عوجا وقال الحسن غير معتدل قرأ ابن كثير ضئزى بالهمزة من ضئزة إذا ظلمه على انه مصدر لعت به مبالغة يعنى قسمة ظالمة والباقون بالياء قال الكسائي يقال ضاز يضيز ضازا وضاز يضوز ضوزا وضاز يضاز ضازا إذا ظلم ونقض قلت ليس هذا ضاز ويضوز بل هو يائي من ضاز يضير على وزن باع يبيع أو ضاز يضاز على وزن نال ينال واصل ضيزى فعلى بضم الفاء لانها صفة والصفات لا تكون الأعلى فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى أو فعلى بفتح الفاء نحو غضبى وسكرى وعطشى وليس فى كلام العرب فعلى بكسر الفاء فى النعوت وانما يكون فى الأسماء كذكرى وشعرى وانما كسر الضاد هاهنا لئلا يتقلب الياء واوا فيلتبس بناءه كذا قالوا فى جمع الأبيض بيض والأصل بضم الفاء مثل حمر وصفر.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 118(1/6236)
إِنْ هِيَ الضمير للاصنام فان كان المراد بالأصنام اجرام الحجارة فالمعنى ما تلك الحجارة باعتبار الالوهية شيئا مستحقا للالوهية إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ط جملة سميتموها إلخ وجملة ما انزل اللّه صفتان لاسماء والضمير للاصنام مبتداء والمستثنى المفرغ خبره والمعنى ما تلك الحجارة الهة الا الهة اسمية باصطلاحكم من غير داع إليه وما جعل اللّه على الوهيتها واستحقاقها للعبادة حجة وجاز ان يكون الضمير للاصنام باعتبار ما يدعى الكفار انها حقائق ملكيته أو غير ذلك حالة فتلك الأصنام وهى بنات اللّه وشفعاء فالمعنى ما هى شيئا فى الواقع الا اسماء بلا مسمى تخيلتم وجودها وسميتموها بأسماء مثل اللات والعزى وبنات اللّه وشفعاء وحالة فى الأصنام ما انزل اللّه على وجودها برهانا وجاز ان يكون الضمير راجعا إلى الأسماء المذكورة والمعنى ليست الأسماء المذكورة من اللات والعزى شيا الا اسماء مجعولة لكم من غير استحقاق ومنشأ انتزاع فانهم يطلقون اللات باعتبار استحقاقها الالوهية والعكوف عليها والعزى بعزتها ومناة لاستحقاقها التقرب إليها بالقرابين وجاز ان الضمير راجعا إلى الصفة التي يصفونها بها من كونها الهة وبنات اللّه وشفعاء يعنى ليست تلك الصفات التي تصفونها بها الا اسماء من غير حقيقة وصدق فى نفس الأمر إِنْ يَتَّبِعُونَ أى الكفار فى تسميتها إِلَّا الظَّنَّ الحاصل بتقليد الآباء من غير دليل صحيح أو المعنى الا توهما بإطلاق وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ج يعنى فاتشتهيه أنفسهم الجملة بيان أو بدل من قول ما انزل اللّه بها من سلطن فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة واشارة إلى ترك مخاطبة هولاء السفهاء كما يصرح فيما بعد بقوله فاعرض عمن تولى وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أى ما يهتدى به إلى الحق القطعي يعنى الرسول والكتاب فلم يتبعوه و(1/6237)
تركوه والجملة معترضة.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أم منقطعة ومعنى بل فيه للابتداء ومعنى الهمزة للانكار يعنى ليس للانسان كل ما يتمناه والمراد نفى طمعهم فى شفاعة الأصنام وقولهم لئن رجعت إلى ربى ان لى عنده للحسنى وقولهم لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ونحوها.
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ع الفاء للسببية والجملة تعليل للنفى المفهوم مما سبق يعنى ليس للانسان كل ما يتمناه بان الدار الاخرة والدار الاولى كل واحدة منهما مملوكة للّه مختص به يعطيهما من يشاء ويمنعهما ممن يشاء لادخل فى منعه وإعطائه لتمنى متمن ولا لشىء اخر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 119
غير إرادته تعالى.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ كاين فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من الغناء ولا ينفع فى حين من الأحيان إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ فى الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة ان يشفع أو من الناس ان يشفع له وَيَرْضى بشفاعة له مع كونهم عباد اللّه المكرمين المقربين فكيف يرجون هؤلاء شفاعة الأصنام والآية رد لقولهم هؤلاء شفعاءنا عند اللّه وقال البغوي معناه كم من ملك فى السموات ممن يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند اللّه يعنى شفاعتهم.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعنى كفار مكة والتعبير بالموصول لبيان جهلهم لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أى كل واحد منهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى حيث يقولون انها بنات اللّه لما كان هذا القول فى غاية الاستبعاد وجريا بالإنكار أورد الكلام بالاستيناف والتأكيد بان واللام جريا للسامع مجرى المنكر.(1/6238)
وَ ما لَهُمْ بِهِ أى بهذا القول مِنْ عِلْمٍ ط الجملة حال من فاعل يسمون إِنْ يَتَّبِعُونَ أى لهؤلاء الكفار الجهال إِلَّا الظَّنَّ ج الحاصل بالتقليد أو التوهم الباطل من غير دليل وهذه الجملة بيان وتأكيد لقوله ومالهم به من علم وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ج اما منصوب على المصدرية ومن الحق ظرف لغو متعلق بلا يغنى واما منصوب على المفعولية ومن الحق حال منه والمراد بالحق العلم لأنه عبارة عن الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع والواقع هو الحق والمعنى ان الظن لا يغنى من العلم شيئا من الغناء أو لا يفيد شيئا من العلم يعنى لا يقوم الظن الحاصل بالتقليد ونحوه مقام العلم الحاصل بدليل قطعى سمعى أو عقلى فلا يجوز للعاقل اتباع الظن بل يجب طلب اليقين والجملة معترضة لتقبيح الكفار فى اتباع الظن ولما كان صلابتهم فى اتباع الظن والتقليد امارة انكارهم لهذه الجملة أورد هذه الجملة بالتاكيد فان قيل جاز فى الشرع اتباع الظن فى العمليات وغالبا مسائل الفقه مستنبطة من الادلة الظنية وأيضا ثبت بأحاديث الآحاد ونحو ذلك كثير من القصص الماضية وتفاصيل نعم الجنة وعذاب جهنم وتفاصيل اخبار يوم المعاد فلو كان الظن لا يفيد شيئا من العلم لكان تعليمها عبثا ولا يجوز القول به ا ولا العمل بالفقه والاعتقاد بها - قلنا معنى هذه الآية انه لا يجوز اتباع الظن فيما يعارضه العلم الحاصل بدليل قطعى وان الظن لا يفيد فائدة العلم إذ لا شك ان الأضعف لا يصادم الا قوى فمقتضى هذه الآية ان العقائد الحقة الثابتة بالادلة القطعية العقلية أو الآيات المحكمات والاخبار المتواترات السمعية لا يجوز تركها باتباع الظن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 120(1/6239)
و يجب ما أمكن تحصيل العلم من الادلة القطعية والعمل بها وفيما لا يوجد دليل قطعى فالعقل يحكم الجزم والاحتياط يوجب العمل بدليل ظنى أى ما يفيد غلبة الظن بطريق صحيح مثلا إذا ثبت بدليل ظنى ان الوتر واجب وان صلوة الضحى سنة وان البنج حرام وان البيع بشرط فاسد ممنوع وليس هاهنا دليل قطعى يعارض هذا الظن فالعقل يحكم ان لا يترك الوتر ولا يشرب البنج ولا يباع بالشرط الفاسد مخافة العذاب وان يصلى الضحى رجاء للثواب لان احتمال جلب المنفعة عند تيقن عدم المضرة كان للاتيان واحتمال المضرة كاف للاجتناب كما ان احتمال الحية فى الحجر كاف للاجتناب عن وضع الأصابع هناك وأيضا ثبت بالادلة القطعية من الأحاديث المتواترة بالمعنى بإجماع الامة وبقوله تعالى فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين وقوله تعالى فاعتبروا يا اولى الابصار وجوب اتباع أحاديث الآحاد والقياس عند عدم معارضة ما هو أقوى منه فالظن فى المسائل الفقهية انما هى فى الطريق وبعد ثبوت الظن الصحيح وجوب العمل بها ثابت بدليل قطعى واخبار المبتدا والمعاد الثابتة بالنصوص الظنية قطعيات فى القدر المشترك منها موجبة للعلم واما تفاصيلها فغير معارضة بدليل أقوى منه فيجوز استفادة الترغيب أو الترهيب منها واللّه تعالى أعلم وقيل المراد بالحق فى الآية العذاب واللام فى الظن للعهد ومعنى الآية ان ظن الكفار الحاصل بتقليد الآباء أو التوهم لا يدفع شيئا من العذاب أو لا يدفع العذاب شيئا من الدفع.(1/6240)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعنى القرآن أو الايمان أو عن الاشتغال بذكر اللّه وَلَمْ يُرِدْ شيئا إِلَّا شهوات الْحَياةَ الدُّنْيا ط اتهمك فيها بحيث كان منتهى همته مبلغ علمه الدنيا فحسب الفاء للسببية والموصول وضع موضع المضمر لتاكيد سببية الاعراض يعنى إذا علمت جهلهم وسفاهتهم وسخافت عقلهم انهم يتبعون الظن ويتركون ما جاءهم من ربهم الهدى ويختارون عبادة حجارة لا تضر ولا تنفع ويتولون عن الاشتغال بالرحمن الواحد القهار فاعرض عنهم حيث لا تفيد دعوتك فيهم فانهم كالانعام بل هم أضل ولما كان بعض حركاتهم وسكناتهم مفيدة فى الدنيا دالة على ادراكاتهم موهمة لهم نصيبا من العقل قال اللّه تعالى لدفع ذلك الوهم قوله.
ذلِكَ يعنى امر الدنيا وكونها شبهة مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ط يعنى لا يتجاوز علمهم وعقلهم من العلم بالأمور المعاشية والتعقل بها وذلك غير معته به عند اللّه اعلم ان العلم والعقل كل منهما مخلوقة للّه تعالى على حسب ما أراد وليست الأسباب الا أسبابا عادية وليست الأسباب أسبابا حقيقة كما زعمته الفلاسفة فاللّه تعالى انشأ يخلق العلم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 121
بعد ما أراد الآيات والا فلا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيجازى كلا على حسب الضلالة واهتدائه هذه الجملة وعد ووعيد تعليل لما سبق من الأمر بالاعراض يعنى لا تهتم بهم نحن نكفيهم للجزاء.(1/6241)
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لا ملكا وخلقا عطف على الجملة السابقة يعنى هو الا علم بهم وهو إلهكم وخالقهم يفعل بهم ما يشاء وما يقتضيه الحكمة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى اللام متعلق بمضمون الجملتين السابقتين يعنى خلق العالم وميز الضال من المهتدى وحفظ أحوالهم ليجزى الذين أساءوا بالشرك والعصيان بسبب أعمالهم من الإشراك والمعاصي يجزى الذين أحسنوا أعمالهم بالإخلاص بالحسنى أى بالمثوبة الحسنى يعنى الجنة أو بالأحسن من أعمالهم وهى الإخلاص أو لسبب الأعمال الحسنى.(1/6242)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ بدل من الذين أحسنوا أو خبر لمبتداء محذوف أى هم الذين يجتنبون كَبائِرَ الْإِثْمِ قرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإثم على صيغة الاخر أو على ارادة الجنس فهو اضافة صفة إلى موصوفها نحو اخلاق ثياب والمراد بكبير الإثم الشرك فان الشرك لظلم عظيم وقرأ الباقون كبائر بصيغة الجمع اصناف افراد الكبائر إلى جنسه على طريقة كرام البشر وجياد الدرهم وقد ذكرنا تحقيق الكبائر من الذنوب فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ... وَالْفَواحِشَ اما عطف تفسيرى أو المراد ما فحش من الكبائر خصوصا قيل أريد به ما شرع فيه الحد إِلَّا اللَّمَمَ يعنى ما صدر من العبد بلا اصرار ثم تاب عنه ولا يكون له عادة واقامة عليه بل حينا بعد حين يقال فلان يفعل كذا أى حينا بعد حين كذا قال الجوهري قال البغوي وهو قول أبى هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن عطاء عن ابن عباس قال السدى قال أبو صالح سئلت عن قول اللّه عز وجل الا اللمم فقلت هو الرجل يلم بالذنب أى يقربه ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال لقد اعانك عليها الملك الكريم قال البغوي وروينا عن عطاء عن ابن عباس فى قوله تعالى الا اللمم قال قال رسول اللّه صلعم ان تغفر اللّهم تغفر جما واى عبد لك لا الما فالاستثناء متصل كما هو الأصل وقيل اللمم الصغار من الذنوب كذا فى القاموس فهو كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا قال البغوي وهو قول ابن مسعود وابى هريرة ومسروق والشعبي ورواته طاؤس عن ابن عباس روى البخاري عن ابن عباس قال ما رايت أشبه باللمم بما قال أبو هريرة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 122(1/6243)
عن النبي صلعم ان اللّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمنى وتشتهى والفرج يصدق ذلك ويكذبه ورواه سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلعم وزاد والعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا وقال الحسن بن الفضل اللمم النظرة من غير تعمد فهو مغفور فان عاد النظرة فليس بلمم وعلى هذا اللمم أخص من صغاير الذنوب وقال سعيد بن المسيب ما لم على القلب أى خطر وهذا يناسب ما قال الجوهري من قولك ألممت بكذا أى أنزلت به وقاربته من غير مواقعة وعلى هذه الأقوال الاستثناء منقطع وقال الكلبي اللمم على وجهين كل ذنب لم يذكر اللّه عليه حدا فى الدنيا ولا عذابا فى الاخرة فذلك الذي تكفره الصلاة ما لم تبلغ الكبائر والفواحش والوجه الاخر هو الذنب العظيم الذي يلم به المسلم مرة فيتوب منه قلت وقول الكلبي هذا ليس قولا مغايرا للاقوال والا يلزم عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز بل هو اختيار للقولين الأولين على وجه الاحتمال كما روى القولين المذكورين عن أبى أبى هريرة وابن عباس رض واللّه تعالى أعلم إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ يغفر لمن يشاء ما يشاء من الذنوب صغائرها وكبائرها بتوبة وبلا توبة عقب اللّه تعالى وعيد المسيئين ووعد المحسنين بهذه الآية لئلا ييئس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على اللّه تعالى كما قال به أهل الهواء من المعتزلة أخرج أبو نعيم عن على رض قال قال رسول اللّه صلعم ان اللّه تبارك وتعالى اوحى إلى بنى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عند الحساب يوم القيامة ما شاء ان أعذبه إلا عذبته وقل لاهل معصبتى من أمتك لا تلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي واللّه تعالى(1/6244)
اعلم ثم عقب ذلك قوله هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أى بصنيعكم وسعادتكم وشقائكم وما يصير إليه أموركم وافعل هاهنا بمعنى الفعيل إذ لا اعلم لاحد غير اللّه تعالى بما يصدر من الإنسان قبل وجوده كما يدل عليه قوله تعالى إِذْ أَنْشَأَكُمْ أى انشأ أباكم آدم مِنَ الْأَرْضِ فان علمه تعالى بالأشياء قديم وقد قال رسول اللّه صلعم كتب اللّه تقادير الخلائق قبل ان يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة قال وعرشه على الماء رواه مسلم من حديث عبد الله
بن عمرو قال رسول اللّه صلعم ان أول ما خلق اللّه القلم فقال له اكتب قال ما اكتب قال اكتب القدر فكتب ما كان وما هو كاين إلى الابد رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال هذا حديث غريب اسناده وقال رسول اللّه صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 123(1/6245)
ان اللّه خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره واستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار فقال رجل ففيم العمل يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلعم ان اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من اعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من اعمال أهل النار فيدخله به النار رواه مالك والترمذي وأبو داود من حديث عمر بن الخطاب وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ج معطوف على إذا نشاكم وكلا الظرفين متعلق بأعلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلعم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضفة مثل ذلك ثم يبعث اللّه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فوالذى لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها متفق عليه فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أى لا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل إذ لا علم لكم بعواقب أموركم - قال الحسن علم اللّه من كل نفس ما هى صانعة والى ما هى صائرة فلا تزكوا أنفسكم فلا تبروها عن الآثام ولا تمدحوها بحسن أعمالها وكذا قال ابن عباس قال الكلبي ومقاتل كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلوتنا وصيامنا وحجنا فانزل اللّه تعالى هذه الآية واخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبى صغير هو صديق فبلغ ذلك النبي(1/6246)
صلعم فقال كذبت يهود ما من نسمة يخلقها اللّه فى بطن امه الا انه شقى أو سعيد فانزل اللّه تعالى عند ذلك هذه الآية هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ الآية هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فانه يعلم من يختم له منكم على التقوى واخلاص العمل قبل ان يخرجكم من صلب آدم عليه السلام.
أَ فَرَأَيْتَ الاستفهام للتعجب والفاء للعطف على محذوف يعنى أ نظرت يا محمد الَّذِي تَوَلَّى عن اتباع الحق والثبات عليه يعنى الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي صلعم على دينه فعيره بعض المشركين وقال لم تركت دين الأشياخ وضللتهم قال انى خشيت عذاب اللّه فضمن الذي عاتبه ان هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه ان يتحمل عنه عذاب اللّه فرجع الوليد إلى الشرك.
وَأَعْطى الذي غيره بعض ذلك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 124
المال الذي ضمنه ومنعه فانزل اللّه تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ادبرا عن الايمان واعطى صاحبه قَلِيلًا وَأَكْدى أى بخل بالباقي كذا قال البغوي واخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه قال ان رجلا اسلم فلقيه بعض من يعيره فقال تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت انهم فى النار قال انى خشيت عذاب اللّه قال أعطني شيئا وانا احمل كل عذاب كان عليك فاعطاه شيئا فقال زدنى فتفا سر حتى أعطاه شيئا وكتب له كتابا واشهد له ففيه نزلت أ فرأيت الذي تولى الآية وقال مقاتل اعطى الوليد قليلا من الخير بلسانه ثم أكدى قطعه وامسك ولم يتم على العطية وقال السدى نزلت فى العاص بن وائل السهمي وذلك انه ربما يوافق النبي صلعم فى بعض الأمور وقال محمد بن كعب القرظي نزلت فى أبى جهل وذلك انه قال ما يأمرنا محمد إلا مكارم الأخلاق فذلك قوله تعالى وَأَعْطى قَلِيلًا من الإقرار بالحق وَأَكْدى أى لم يؤمن ومعنى أكدى قطع وأصله من الكدية وهى حجر صلب يظهر فى البير يمنع من الحفر يقول العرب أكدى الحافر واجبل إذا بلغ فى الحفر الكدية والجبل.(1/6247)
أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ استفهام للانكار فَهُوَ يَرى الفاء للسببية يعنى ان كان عنده علم الغيب فهو يعلم ان صاحبه يتحمل عنه إذا اشركه لما أخذ من ماله - .
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أى لم يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعنى اسفار التوراة.
وَصحف إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ما امره اللّه به وإثمه حتى قام يذبح ابنه وبلغ رسالات ربه واحتمل من الخلق أذى حتى صبر على نار نمرود وابتلاه ربه بكلمات فاتمهن والتوصية الإتمام وروى البغوي بسنده عن أبى امامة عن النبي صلعم قال وابراهيم الذي وفى قال صلى اربع ركعات أول النهار واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن معاذ بن انس عن رسول اللّه صلعم قال الا أخبركم لم سمى ابراهيم خليل اللّه الذي وفى انه كان يقول كلما أصبح وامسى فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون حتى ختم الآية وروى الترمذي عن أبى الدرداء وابى ذر عن رسول اللّه صلعم عن اللّه تبارك وتعالى انه قال يا ابن آدم اركع لى اربع ركعات أول النهار أكفك آخره ورواه أبو داود والدارمي عن نعيم الفطفانى واحمد عنهم وقدم موسى لان صحفه يعنى التوراة كان أشهر وأم قيل منقطعة لان من شرط المتصلة ان يليه أحد المتساويين والاخر الهمزة وهاهنا ليس كذلك قلت جاز ان يقال فى تاويل الآية أ عنده علم الغيب بتوسط الانباء أو بلا توسط بانه يتحمل عنه غيره أم ليس عنده علم الغيب الحاصل بتوسط الانباء والكتب أيضا بانه لا بتحمل أحد عن غيره والاستفهام للانكار يعنى ليس عنده علم الغيب يتحصل أحد عن غيره وعنده علم حصل بالتواتر والشهرة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 125
بما فى الكتب السماوية بعدم التحمل.(1/6248)
أَلَّا تَزِرُ أى لا تحمل نفس وازِرَةٌ نفس حاملة وِزْرَ نفس أُخْرى يعنى لا يوخذ نفس يأثم غيره ان مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشان محذوف والجملة خبره وهى مع اسمها وخبرها فى محل الجر بدلا مما فى صحف موسى أو الرفع على انه خبر مبتدا محذوف أى هو كأنَّه قيل ما فى صحفها فاجاب به قال البغوي روى عكرمة عن ابن عباس قال كانوا قبل ابراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره وكان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده حتى جاء ابراهيم فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن اللّه ان لا تزر وازرة وزر اخرى قلت لم يكن ذلك حكما شرعيا بل حكما جاهليا كما كان قبل مبعث النبي صلعم أيضا فى الأوس والخزرج كان أحد الحيين شريفا ذا ثروة من الاخرى فكانوا يقتلون بامرأة من الشريف رجلا من الاخر وبعبد حرا وبواحد اثنين حتى نزلت الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقد ذكرنا القصة فى سورة البقرة - وهذه الآية لا يخالف قوله تعالى وكتبنا على بنى إسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكانما قتل الناس جميعا وقوله صلعم من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة أخرجه احمد ومسلم من حديث جرير بن عبد اللّه رض فان ذلك للدلالة والتسبب الذي هو وزره ولذا ورد فى الحديث من غير ان ينقص من أوزارهم شيئا وكذا قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وقوله صلعم إذا انزل اللّه بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم متفق عليه من حديث ابن عمر محمول على ترك الأمر بالمعروف نحو قوله صلعم ان الناس إذا رد الظالم فلم يأخذوه على يديه أو شك ان يعمهم اللّه بعقاب رواه اصحاب السنن الاربعة من حديث أبى بكر الصديق (مسئلة) اختلف اقوال السلف فى تعذيب الميت ببكاء اهله عليه وقد ورد فى الصحيحين عن عبد اللّه بن مليكة قال توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة فجئنا لنشهدها وحضر ابن عمرو ابن عباس(1/6249)
فقال ابن عمر لعمر بن عثمان وهو مواجهه الا تلتهى عن البكاء فان رسول اللّه صلعم قال ان الميت ليعذب ببكاء اهله عليه فقال ابن عباس قد كان يقول بعض ذلك ثم حدث وقال لما ان أصيب عمر دخل صهيب يبكى يقول وا أخاه وا صاحباه فقال عمر يا صهيب أ تبكي على وقد قال رسول اللّه صلعم ان الميت ليعذب ببعض بكاء اهله عليه فقال ابن عباس فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت يرحم اللّه عمر لا واللّه ما حدث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الميت ليعذب ببكاء اهله عليه ولكن ان اللّه يزيد ا لكافر عذابا ببكاء اهله عليه وقالت عائشة حسبكم القرآن ولا تزر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 126(1/6250)
وازرة وزر اخرى قال ابن عباس عند ذلك واللّه اضحك وابكى قال ابن أبى مليكة فما قال ابن عمر شيئا قلت وتخطية عائشة عمر رض ضعيف وقد كان عمرا فقه من عائشة وكان شهادته شهادة الإثبات وتايدت حديث عمر بأحاديث اخر منها حديث المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول اللّه صلعم يقول من نيح عليه فانه يعذب بما نيح عليه - منها حديث أبى بكر الصديق عن النبي صلعم أخرجه أبو يعلى بلفظ الميت ينضج عليه الحميم ببكاء الحي ومنها حديث انس وعمر ان بن حصين عن ابن حبان فى صحيحه وحديث سمرة بن جندب عند الطبراني فى الكبير وحديث أبى هريرة عند أبى يعلى فظهران الحديث صحيح بتى الكلام فى تعارض الحديث بقوله تعالى لا تزر وازرة وزر اخرى فقال بعض العلماء ان التعذيب بالبقاء مختص بالكافر أو بمن اوصى به لا بسبب البكاء والباء للحال أى يعذب حال بكائهم عليه والقولان عن عائشة لا يصحان لان القول باختصاص التعذيب بالكافر لا يدفع التعارض لان قوله تعالى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعم المؤمن والكافر وألفاظ الحديث ببعض طرقها يابى عن كون الباء للحال الا ترى ان قوله ينضج الحميم ببكاء الحي صريح فى التعذيب فى الاخرة فان الحميم انما هو فى الجحيم لا فى الغير فكيف يتحد زمان التعذيب زمان بكاء الحي فلا يتصور كونه حالا وقيل المراد بالتعذيب توبيخ الملائكة له بما يندب به اهله الحديث الترمذي والحاكم وابن ماجة مرفوعا ما من ميت(1/6251)
يموت فتقوم نادية فتقول واجبلاه واسيداه وشبه ذلك من القول الا وكل به ملكان ينهرانه وهكذا كنت قلت وهذا التأويل أيضا لا يدفع التعارض فان التوبيخ بفعل غيره أيضا مما يمنعه لا تزر وازرة وزر اخرى وقيل المراد بالتعذيب تألم الميت بما يقع من اهله الحديث الطبراني وابن أبى شيبة عن قيلة بنت محترمة انها ذكرت عند رسول اللّه صلعم ولدا لها مات ثم بكت فقال رسول اللّه صلعم أ يغلب أحدكم ان يصاحب صويحية فيا عباد اللّه لا تعذبوا امواتكم وهذا القول عليه ابن جرير واختاره الائمة آخرهم ابن تيمية واخرج سعيد ابن منصور عن ابن مسعود انه راى نسوة فى جنازة فقال ارجعن ما زورات غير ما جورات انكن لا تفتن الاحياء وتوذين الأموات والقول الصحيح فى دفع التعارض ان الحديث فيمن كان النوح من سنته أو فيمن اوصى به أو فيمن لم يوص بتركه إذا علم ان من شان اهله انهم يفعلون فيكون التعذيب على وزره دون وزر غيره واختار البخاري هذا القول.
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أى الا سعيه يعنى كما لا يوخذ أحد بذنب غيره لا يثاب بفعل غيره أيضا عطف على ان لا تزر كلا الحكمين كانا فى صحف ابراهيم وموسى ومستدلا بهذه الآية قال الشافعي لا يثاب أحد بعمل غيره وقال أبو حنيفة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 127(1/6252)
و مالك واحمد وجمهور الخلف والسلف بخلاف ذلك فقال ابن عباس الآية منسوخة بقوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقال عكرمة انها خاصة بقوم ابراهيم وموسى فاما هذه الامة فلها ما سعت وما سعى لها - وقال الربيع بن انس المراد بالإنسان هاهنا الكافر وهذا ليس بشىء فان الكافر لا يثاب بعمل نفسه أيضا حيث قال اللّه تعالى حبطت أعمالهم وقيل اللام هاهنا بمعنى على أى ليس على الإنسان الا ما سعى وعلى هذا بكون عطف لا تزر وازرة وزر اخرى عطفا تفسير يا احتج الجمهور على وصول الثواب من غيره بالأحاديث والإجماع اما الأحاديث فمنها حديث أبى سعيد سمعت رسول اللّه صلعم يقول إذا قبض اللّه روح عبده المؤمن صعد ملكان إلى السماء قالا ربنا وكلتنا بعهدك المؤمن نكتب عمله وقد قبضته إليك فاذن لنا ان نسكن الأرض فيقول ارضى مملوة من خلقى يسبحون ولكن قوما على قبر عبدى فسبحانى وهللانى وكبرانى إلى يوم القيامة واكتباه لعبدى أخرجه أبو نعيم - وحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم وكذا أخرج احمد عن أبى امامة وجه الاحتجاج بهذا الحديث ان الصدقة الجارية وعلم ينتفع به وان كانا من سعيه ولكن دعاء الولد ليس من عمله وهو ينفعه وحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم ان اللّه ليرفع الدرجة للعبد الصالح فى الجنة فيقول يا رب انى لى هذه فيقول باستغفار ولدك لك رواه الطبراني وروى نحوه عن أبى سعيد مرفوعا وحديث ابن عباس قال قال النبي صلعم ما الميت فى قبره الا شبه الغريق المتفوت ينتظر دعوة ملحقة من اب وأم أو ولد أو صديق ثقة فإذا ألحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها وان اللّه ليدخل على القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال وان هدية الاحياء إلى الأموات(1/6253)
الاستغفار لهم رواه البيهقي والديلمي وحديث مرفوعا أمتي أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها يمحض عنها باستغفار المؤمنين لها رواه الطبراني فى الأوسط قال السيوطي وقد نقل غير واحد الإجماع على ان الدعاء ينفع الميت ودليله من القرآن قوله تعالى وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ قلت والظاهران انتفاع الأموات والاحياء بدعاء الاحياء غير مختصة بهذه الامة وقد قال نوح عليه السلام رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتي مومنا وللمؤمنين والمؤمنات وقال ابراهيم عليه السلام ساستغفر لك ربى انه كان بي حفيا وقال يوسف لاخوته لا تثريب عليكم اليوم ليغفر اللّه لكم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 128(1/6254)
قال اخوة يوسف لابيهم يا أبت استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين قال سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور رّحيم وقال موسى رب اغفر لى ولاخى وأدخلنا فى رحمتك فالظ ان المراد بقوله تعالى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى المذكور فى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى انه لا يصل لاحد ثواب حسنات غيره من الصلاة والصوم والصدقة والحج ونحو ذلك ويكون من خصوصيات هذه الامة المرحومة نسخ ذلك الحكم بقوله الحقنا بهم ذريتهم من الأحاديث حديث عائشة ان رجلا قال يا رسول اللّه ان أمي افتلتت نفسها لم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجران تصدقت عنها قال نعم متفق عليه وحديث ابن عباس ان سعد بن عبادة توفيت امه وهو غائب فاتى رسول اللّه صلعم فقال يا رسول اللّه ان أمي ماتت وانا غائب فهل ينفعها ان تصدقت عنها قال نعم قال فانى أشهدك ان حايطى صدقة عنها رواه البخاري واخرج احمد واربعة عن سعد بن عبادة انه قال يا رسول اللّه ان أمي ماتت فاى صدقة أفضل قال الماء فحفر بيرا وقال هذه لام سعد واخرج الطبراني بسند صحيح عن انس نحوه وحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم إذا(1/6255)
تصدق أحدكم بصدقة تطوعا فليجعلها عن أبويه فيكون لهما أجرها ولا ينقص من اجره شيئا واخرج الديلمي نحوه من حديث معاوية بن جندة وحديث انس سمعت رسول اللّه صلعم يقول ما من أهل بيت يموت منهم فيتصدقون عنه بعد موته الا اهدا له جبرئيل على طبق من نور ثم يقف على شفير القبر فيقول يا صاحب القبر العميق هذه هدية أهداها إليك أهلك فاقبلها فيدخل عليه فيفرح بها ويستبشر ويحزن جيرانه الذين لا يهدى إليهم شىء رواه الطبراني فى الأوسط وحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم من حج عن والديه بعد وفاتهما كتب اللّه لهما عتقا من النار وكان للمحجوج عنهما اجر حجة تامة من غير ان ينقص من اجورهما شىء وقال صلعم ما وصل ذو رحم رحمه بأفضل من حجة يدخلها عليه بعد موته فى قبره رواه البيهقي والاصبهانى بسند فيه مجهولان وعن زيد بن أرقم عن النبي صلعم من حج عن أبويه ولم يحجا فيرى عنهما وبشرت أرواحهما فى السماء وكتب عند اللّه بزا أخرجه أبو عبد اللّه الثقفي وحديث عقبة بن عامر ان امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلعم فقالت أحج عن أمي وقد ماتت قال ارايت لو كان على أمك دين فقضيته قالت بلى فامرها ان تحج رواه الطبراني وحديث انس قال جاء إلى النبي صلعم قال ان أبى مات ولم يحج حجة الإسلام فقال ارايت لو كان على أبيك دين كنت تقضيه عنه قال نعم قال فانه دين عليه فاقضبه رواه البزاز والطبراني بسند حسن وحديث أبى هريرة قال قال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 129(1/6256)
رسول اللّه صلعم من حج عن ميت فللذى حج عنه مثل اجره رواه الطبراني فى الأوسط وحديث عطاء وزيد ابن اسلم مرسلا قال جاء رجل إلى النبي صلعم فقال يا رسول اللّه أعتق عن أبى وقد مات قال نعم رواهما ابن أبى شيبة وحديث ابن عباس انه صلعم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال النبي صلعم ومن شبرمة قال أخ لى أو قريب قال أ حججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم من شبرمة رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وقال البيهقي اسناده صحيح وحديث عمرو بن العاص انه قال يا رسول اللّه ان العاص اوصى ان يعتق عنه بامه نسمة فاعتق هشام منها خمسين قال لا انما يتصدق ويحج ويعتق عن المسلم وكان مسلما بلغه رواه أبو الشيخ وحديث الحجاج بن دينار قال قال رسول اللّه صلعم ان من البر بعد البر ان تصلى عنهما مع صلوتك وتصوم عنهما مع صيامك وتصدق عنهما مع صدقتك رواه ابن أبى شيبة وقد مر حديث بريدة ان امرأة قالت يا رسول اللّه ان كان على أمي صوم شهرين أ فيجزى ان أصوم عنها قال نعم قالت فان أمي لم تحج قط أ فيجزى ان أحج عنها قال نعم رواه مسلم وحديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلعم من مات وعليه صيام صام عنه وليه متفق عليه وحديث على رض مرفوعا من مر على المقابر وقرأ قل هو اللّه أحد أحد عشر مرة ووهب اجره للاموات اعطى من الاجر بعدد الأموات رواه أبو محمد السمرقندي وحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد وإلهكم التكاثر ثم قال انى جعلت ثواب ما قرأت من كلامك لاهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا شفعاء له إلى اللّه رواه أبو القاسم سعد بن على وحديث انس ان رسول اللّه صلعم قال من دخل المقبر فقرأ سورة يسين خفف اللّه عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات أخرجه عبد العزيز صاحب الخلال بسنده وقال السيوطي قد ورد قرائة الفاتحة عند راس الميت وخواتيم البقر عند رجله من حديث ابن(1/6257)
عمر مرفوعا وقت الدفن وفواتح البقرة وخواتمها عن حديث العلاء بن اللجلاج مرفوعا وقال القرطبي فى حديث اقرءوا على موتاكم يس فقال الجمهور فى حال موته قال ابن عبد الواحد المقدسي عند القبور وقال المحب الطبري فى الحالتين واخرج ابن أبى شيبة عن عطاء قال يتبع بعد موته العتق والحج والصدقة واخرج عن أبى جعفر ان الحسن والحسين كان يعتقان عن على بعد موته واخرج ابن سعد عن القاسم بن محمد عن عائشة اعتقت عن أخيها عبد
الرحمن رقيقا من تلاده ترجوا ان ينفعه بذلك بعد موته وقال الحافظ شمس الدين ابن عبد الواحد ما زالوا فى كل مصر يجتمعون ويقرؤن لموتاهم من غير نكير فكان ذلك اجماعا واخرج
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 130
و أخرج الخلالى عن الشعبي كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤن القرآن وفى الاحياء عن احمد بن حنبل قال إذا دخلتم المقابر فاقرأوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو اللّه أحد واجعلوا ذلك لاهل المقابر فانه يصل إليهم وقال البيضاوي فى توجيه الآية انه ما جاء فى الاخبار من ان الصدقة والحج ينفعان الميت فلان التاوي له كالتائب عنه وقال بعض العلماء فى توجيهها ان انتفاع المؤمن بسعى غيره مبنى على إيمانه وهو سعى نفسه فكان سعى غيره تابعا لسعى نفسه قايما بقيامه واللّه تعالى أعلم .(1/6258)
وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى فى ميزانه يوم القيامة ان كان مؤمنا واما الكافر فيحبط أعمالهم بفوات شرطها وهى النية الخاصة للّه تعالى أو يقال الكافر يثاب عليه فى الدنيا من أريته الشيء قلت والاولى ان يقال السعى هاهنا بمعنى القصد قال فى القاموس سعى يسعى سعيا كرعى قصد وعمل ومشى وعدى وتم وكسب وقال بعض المحققين السعى المشي السريع ويستعمل للحمد فى العمل ومعنى الآية ليس للانسان الا ما قصد وأراد بفعله فهذه الآية تفيد ما يفيد قوله صلعم انما الأعمال بالنيات وان لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو المرأة نكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه متفق عليه من حديث عمر ابن خطاب رض فلا تدل هذه الآية على ان عمل أحد لا يفيد غيره كيف وصلوة الجنازة والصلاة على النبي صلعم امورتان واجبتان وضعتا لانتفاع غير الفاعل واللّه تعالى أعلم .
ثُمَّ يُجْزاهُ أى المؤمن الْجَزاءَ الْأَوْفى الأتم والأكمل.(1/6259)
وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى هذا وما عطف عليه كله فى صحف ابراهيم وموسى والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء روى البغوي بسنده عن أبى بن كعب عن النبي صلعم فى قوله تعالى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال لا فكرة فى الرب يعنى الفكرة تنتهى إلى اللّه ويتلاشى هناك قال البغوي وهذا مثل ما روى عن أبى هريرة مرفوعا تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق فانه لا تحيط به الفكرة كذا ذكر البغوي وروى أبو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس تفكروا فى كل شىء ولا تفكروا فى ذات اللّه فان بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك قلت يعنى الفكرة لا يصل إلى كرسيه فكيف إلى ذاته وهو أجل وارفع وفى رواية له عنه تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق فانكم لا تقدرون قدره وروى أبو نعيم فى الحلية عنه تفكروا فى خلق اللّه ولا تفكروا فى اللّه وروى أبو الشيخ عن أبى ذر تفكروا فى خلق اللّه ولا تفكروا فى اللّه قلت الفكر عبارة عن ترتيب مقدمات لتحصيل مطلوب فترتيب المقدمات لا يتصور الّا فى آلاء اللّه وآياته واثاره والمطلوب ذاته وهناك تنتهى الفكرة فانه ليس وراء العباد ان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 131
قربه وذاته هو الصمد الذي لا يتعمق فيه النظر ونفى الفكرة فى ذاته تعالى لا ينافى الوصول إليه بلا كيف بل قوله تعالى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المنتهى يقتضى نهاية السير إلى الذات البحت فى اللّه فى اصطلاح الصوفية انما هو السير فى الصفات والشيون والاعتبارات دون الذات البحت المعبر باللاتعين لكن هاهنا سير نظرى على ما حققه المجدد وقال اكثر المفسرين معنى الآية ان منتهى الخلق ومصيرهم إلى اللّه تعالى وقيل منه ابتداء المنة واليه انتهاء الآمال واللّه تعالى أعلم .(1/6260)
وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى يعنى خلق كل ما يعمله العباد حتى الضحك والبكاء قال عطاء بن أبى مسلم يعنى افرح واحزن وقال مجاهد اضحك أهل الجنة فى الجنة وابكى أهل النار فى النار وقال الضحاك اضحك الأرض بالنبات وابكى السماء بالمطر روى البغوي بسنده عن جابر بن سمرة قال كان اصحاب النبي صلعم يحلون فيتناشدون الشعر ويذكرون أشياء من امر الجاهلية فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعنى النبي صلعم ورواه مسلم بلفظ كانوا يتحدثون فياخذون فى امر الجاهلية فيضحكون ويتبسم صلعم وفى رواية الترمذي يتناشدون الشعر روى البغوي فى شرح السنة عن قتادة قال سئل ابن عمر هل كان اصحاب رسول اللّه صلعم يضحكون قال نعم والايمان فى قلوبهم أعظم من الجبل وقال بلال بن سعد يشتدون بين الأغراض ويضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهبانا - وروى البخاري عن عائشة ما رايت النبي صلعم مستجمعا ضاحكا حتى ارى منه لهواته انما كان يتبسم وفى الصحيحين عن جرير قال ما حجبنى النبي صلعم منذ أسلمت ولارانى الا تبسم وروى الترمذي عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء قال ما رايت أحدا اكثر تبسما من رسول اللّه صلعم وروى البخاري عن أبى هريرة قال قال أبو القاسم صلعم والذي نفسى بيده لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا وكذا روى احمد والترمذي وابن ماجة عن أبى ذر وزادوا ما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تحادون إلى اللّه.
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا ما لا روح فيه كالنقطة لنطفة جعله حيوانا والبذر جعله شجرا وقيل أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل أمات الكافر بالنكرة واحياء المؤمن بالمعرفة.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من كل حيوان.
مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ص أى تصب فى الرحم يقال منى الرجل وامنى قاله الضحاك وعطاء بن أبى رباح وقال آخرون إذا يقدر قال منيت الشيء إذا قدرته.(1/6261)
وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى قرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاة بالمد والباقون بسكون الشين بلا مدوهما مصدران
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 132
من نشأ ينشأ يعنى الخلق الثاني البعث بعد الموت يوم القيامة أورد كلمة على وهى للوجوب على المجاز لتاكيد الوعد.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى الناس بالأموال وما يدخرونه بعد الكفاية قال فى القاموس تغنى اكتفى بنفقته وفضلت فضله فادخرها والظاهران التقدير اغنى وَأَقْنى أفقر فحذف أفقر استغناء منه بدلالة الحال وقال الضحاك اغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال واقنى بالإبل والبقر والغنم وقال قتادة والحسن اقنى اخدم وقال ابن عباس اغنى واقنى يعنى اعطى فاوصى وقال مجاهد ومقاتل اقنى ارضى بما اعطى وقنع قال ابن زيدا غنى أكثروا قنى اقل وقرأ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وقال الأخفش اقنى أفقر.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهو كوكب خلف الجوزاء وهما شعر بان يقال لاحدهما العبور وللاخرى القميصا سميت بذلك لانها احقر من الاخرى والمختبرة بينهما وأراد لههنا الشعرى العبور وكانت خزاعة تعبدها وأول من سن لهم ذلك رجل من اشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وخالف قريشا فى عبادة أوثان ولما خالف رسول اللّه العرب فى الدين سموه ابن أبى كبشة لمناسبة مخالفة القوم وتخصيصها فى الذكر هاهنا للاشعار بانها مخلوقة للّه تعالى لا يستحق العبادة مثل اللات والعزى ولعل قوما عبدوها فى زمن ابراهيم عليه السلام أيضا ولذلك ورد التخصيص بذكرها فى صحف ابراهيم وموسى.(1/6262)
وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وهو قوم هود اولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه السلام اهلكوا بريح صرصر وكان لهم عقب كانوا عاد الاخرى قرأ نافع وأبو عمرو عاد لولى بحذف الهمزة وابقاء ضمتها على اللام وادغام التنوين فيها واتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة فى موضع الواو والباقون يكسرون التنوين ويسكنون اللام ويخففون الهمزة بعدها ويجوز فى الابتداء بقوله عز وجل الاولى على مذهب أبى عمرو ثلثة أوجه الاولى بإثبات همزة الوصل وضم اللام بعدها والثاني لولى بضم اللام وحذف همزة الوصل قبلها استغناء عنها بتلك الحركة وهذان وجهان جائزان فى مذهب ورش فى مثل هذه الكلمة والثالث الاولى كقراءة الجمهور بإثبات همزة الوصل واسكان اللام وتحقيق همزة فاء الفعل وكذلك يجوز فى الابتداء بهذه الكلمة على مذهب قالون ثلثة أوجه أيضا الأول بإثبات همزة الوصل وضم اللام وهمزة ساكنة عوض الواو والولي بضم اللام وحذف همزة الوصل وهمزة الواو كوجه أبى عمرو الثالث قال الداني وهو عندى احسن الوجوه واقتبسها بمذهبنا.
وَثَمُودَ قرأ عاصم وحمزة بغير تنوين ويقفان بغير الف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف وهم قوم صالح اهلكهم اللّه بالصيحة فَما أَبْقى منهم أحدا.
وَقَوْمَ نُوحٍ اهلكهم -
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 133
مِنْ قَبْلُ ط عاد وثمود إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ط من الفريقين لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على اللّه المعصية والتكذيب وإيذائهم نوحا عليه السلام يضربه حتى لا يكون به حراك ويتنفر الناس عنه.
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أى القرى التي ايتفكت أى انقلبت باهلها وهى قرى قوم لوط أَهْوى أى أسقط أهواها جبرئيل عليه السلام بعد رفعها إلى السماء.
فَغَشَّاها ما غَشَّى ج يعنى الحجارة المنضودة المسومة فيه تهويل وتعظيم لما أصابهم.(1/6263)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أى تشكك وتجادل وقال ابن عباس تكذب خطاب لكل أحد يعنى لا يجوز الشك والمجادلة فى آلاء ربك الباهرة والنعماء الظاهرة والقدرة القاهرة بعد ما سمعت احوال الأمم السابقة قيل أراد بالخطاب الوليد بن مغيرة.
هذا يعنى محمد صلعم أو القرآن نَذِيرٌ مبين مِنَ جنس النُّذُرِ الْأُولى أى المنذرين الأولين وقال الاولى على تاويل الجماعة أى من جنس النذرات الاولى قرأ حمزة والكسائي اواخر ...
هذه السورة من قوله تعالى إِذا هَوى إلى النُّذُرِ الْأُولى بالامالة واما أبو عمرو من ذلك ما كان فيه راء كاخرى وشعرى وتتمارى وما عدى ذلك بين بين وورش جميع ذلك بين بين والباقون بإخلاص الفتح.
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ج يعنى دنت الساعة الموصوفة بالدنو فى قوله تعالى اقتربت الساعة - .
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ الجملة حال من الآزفة كاشِفَةٌ ط أى مظهرة نظيره قوله تعالى لا يجليها لوقتها الا هو صفة موصوف محذوف أى نفس كاشفة وجاز ان يكون التاء فيه للمبالغة ويجوز ان يكون الكاشفة مصدرا كالباقية والعافية والمعنى ليس لها من دون اللّه كشف لا يكشفها ولا يظهرها غيره وقال عطاء وقتادة والضحاك ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها وشدايدها إذ غشيت الا اللّه تعالى يكشف عمن شاء من المؤمنين.
أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ أى القرآن عطف على محذوف تقديره أ تسمعون فمن هذا الحديث تَعْجَبُونَ إنكارا واستفهام للتوبيخ.
وَتَضْحَكُونَ استهزاء وَلا تَبْكُونَ خشوعا أو تضحكون بما تفرحون من اللذات الدنيوية ولا تبكون تحزنا على ما قصرتم فى الطاعة أو أفرطتم فى المعصية.(1/6264)
وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ أى لاهون غافلون والسمود الغفلة عن الشيء واللهو يقال دع منا سمودك أى لهوك هذا رواية الوالبي والعوفى عن ابن عباس وقال عكرمة السمود عنه الضلو؟؟؟ بلغة أهل اليمن كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وقال الضحاك اشرون بطرون وقال مجاهد غضاب معرضون وقيل معناه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 134
مستكبرون من سمد البعير فى مسيرة إذا رفع راسه كذا أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال كانوا يمرون على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وهو يصلى شامخين فنزلت وأنتم سامدون قال فى النهاية شمخ بانفه أى ارتفع تكبرا.(1/6265)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ خشوعا وتواضعا للّه وتصديقا بوعده ووعيده واعتبارا وَاعْبُدُوا ع أى اعبدوه دون غيره - الفاء للسببية عطف على ازفت الآزفة عن ابن عباس قال سجد النبي صلى اللّه عليه واله وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس رواه البخاري وعن ابن مسعود ان النبي صلى اللّه عليه وعلى اله وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير ان شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهه وقال يكفينى هذا قال عبد اللّه فلقد رايته بعد قتل كافرا متفق عليه وزاد البخاري فى رواية وهو امية بن خلف وفى لفظ البخاري أول سورة نزلت فيها سجدة النجم فسجد رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم الحديث وعن زيد بن ثابت قال قرأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله والنجم فلم يسجد فيها متفق عليه احتج بهذا الحديث من قال ان سجود التلاوة غير واجب وأجيب بانه صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم لعله لم يكن حينئذ على وضوء أو يكون حينئذ مانع من السجدة ولا يدل الحديث على نفى السجود مطلقا لكن هذا تاويل بعيد ولو كان تأخير السجود لعذر لببينه النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ويدل على عدم وجوب السجدة وقول عمر بن الخطاب رض ان اللّه لم يكتبها علينا الا ان نشاء وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة واختلاف الائمة فيه فى سورة الانشقاق واللّه تعالى أعلم - .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 135(1/6266)
سورة القمر
مكيّة وهى خمس وخمسون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
روى البغوي عن انس بن مالك ان أهل مكة سالوا رسول اللّه صلعم ان يراهم اية فاراهم القمر شقتين حتى راى حراء بينهما وكذا أخرج الشيخان فى الصحيحين وقال البغوي قال شيبان عن قتادة فاراهم انشقاق القمر مرتين كذا أخرج الترمذي بلفظ فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت اقتربت الساعة والشق القمر إلى قوله سحر مستمر واخرج الشيخان والحاكم واللفظ له عن ابن مسعود قال رايت القمر منشقا شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلعم فقالوا سحر القمر فنزلت اقتربت الساعة وانشق القمر وكذا أخرج البغوي من طرق البخاري بلفظ انشق القمر على عهد رسول اللّه صلعم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول اللّه صلعم اشهدوا قال البغوي وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد اللّه انشق القمر بمكة وقال انشق القمر ثم التأم بعد ذلك وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد اللّه قال انشق القمر على عهد رسول اللّه صلعم فقال سحركم ابن أبى كبشة فاسالوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رايناه فانزل اللّه تعالى
اقْتَرَبَتِ أى دنت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ يعنى قد حصل من آيات اقترابها انشقاق القمر.
وَإِنْ يَرَوْا يعنى الكفار آيَةً معجزة دالة على صدق النبي صلعم يُعْرِضُوا عن التأمل والايمان وَيَقُولُوا هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أى ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم مر الشيء واستمر بمعنى ذهب كقولهم قر واستقر كذا قال مجاهد وقتادة وقال أبو العالية والضحاك مستمر بمعنى قوى شديد يعلو كل سحر من قولهم مر الحبل إذا صلب واشتدوا مررته إذا أحكمت قتله واستمر الشيء إذا قوى واستحكم وقيل معناه سحر مطرد يوجد متتابعا كثيرا وقيل معناه مستبثع من استمر إذا اشتد مرارته والجملة الشرطية معترضة لبيان عادة الكفار وقوله تعالى.(1/6267)
وَ كَذَّبُوا عطف على انشق يعنى كذبوا النبي صلعم والقران وما عاينوا من قدرة اللّه تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ولم يتبعوا الوحى بعد ظهوره ذكرهما بلفظ الماضي للاشعار بانهما من عادتهم القديمة وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أى منبة؟؟؟ أى غاية من خذلان أو نصر فى الدنيا وسعادة أو شقاوة فى الاخرة فان الشيء إذا انتهى إلى غايت ثبت واستقر وكذا قال مقاتل لكل حديث منتهى وقيل معناه كل امر مقدر مستقر يعنى كاين واقع لا محالة وكل امر وعد اللّه واقع كاين
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 136
لا محالة وقال الكلبي لكل امر حقيقة ما كان منهم فى الدنيا فسيظهر وما كان منه تعالى فى الاخرة فسيعرف وقال قتادة وكل امر مستقر فى الخير يستقر باهل الخير وكل امر مستقر فى الشر يستقر باهل الشر وقيل كل امر من خير أو شر مستقر قراره فالخير مستقر باهله فى الجنة والشر مستقر باهله فى النار وقيل يستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب قرأ أبو جعفر مستقر بالجر على انه صفة امر وكل معطوف على الساعة يعنى اقتربت الساعة واقتربت كل امر مستقر باهله.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعنى كفار مكة فى القرآن مِنَ الْأَنْباءِ انباء القرون الخالية أو انباء الاخرة.
ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ما موصولة أو موصوفة أصله من تجر بقلب تاء الافتعال مع الزاء والا للتناسب وكذا مع الذال فان التاء حرف مهموس والدال والذال والزاء مهجورات ومخرج التاء والذال واحد مصدر ميمى بمعنى الأزد جار يعنى جائهم ما فيه نهى وعظة بحيث يقتضى الانتهاء من المعاصي والاتعاظ فان هلاك الأمم الطاغية الماضية المواعيد بالنار يقتضى ذلك.(1/6268)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ غايتها لا خلل فيها بدل من ما فاعل جاء أو خبر لمبتداء محذوف أى هو فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفى أو استفهام للانكار أى فلم تغن النذر أو فاى غناء يغنى النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر أى الرسول أو المصدر منه أو مصدر بمعنى الانذار - .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حيث لا ينفعهم إنذارك نسختها اية القتال يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ قرأ البزي الداعي بإثبات الياء وصلا ووقفا وأبو عمرو دورش فى الوصل فقط ويوم منصوب با ذكر والجملة مستانف وجملة يخرجون حال من مفعول بدعوا المحذوف تقديره يوم يدعوهم الداعي يخرجون أو الظرف متعلق يخرجون وجملة تخرجون مستانفة وذلك يوم القيامة - الداعي اسرافيل عليه السلام يقف على صخرة بيت المقدس يقول يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والاشعار المنقطعة ان اللّه يأمر كن ان تجمعين لفصل الخطاب رواه ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ قرأ ابن كثير بإسكان الكاف والباقون بضمه أى شىء منك قطيع لم تعهد مثله تنكره النفوس استعظاما.
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب خاشعا بفتح الخاء والف بعد وكسر الشين على الافراد والتذكير لان فاعله ظاهر غير حقيق التأنيث وقرأ ابن مسعود رض خاشعة على الأصل وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر خشعا على صيغة جمع التكسير وحسن ذلك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 137
و لا يحسن مررت برجال قايمين غلمانهم لأنه ليس على صيغة يشبه الفعل يعنى ذليلا أبصارهم حال من فاعل يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أى القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ فى الكثرة والتموج والانتشار فى الامكنة الجملة أيضا حال من فاعل يخرجون.(1/6269)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ قرأ ابن كثير الداعي بإثبات الياء فى الحالين ونافع وأبو عمرو فى الوصل فقط يعنى مسرعين مادى أعناقهم إلى صوت الداعي أو ناظرين إليه يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد جملة مستانفة.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أى قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا عليه السلام تنازع الفعلان فى المفعولية فاعمل الثاني وحذف من الأول والمعنى كذبت قوم نوح نوحا عليه السلام فكذبوه تكذيبا بعد تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب جاء قرن اخر فكذبوه وهذا إلى الف سنة الا خمسين عاما وجازان يقدر المحذوف غير المذكور فلا يكون من باب التنازع والمعنى كذبوه بعد ما كذبوا الرسل وجاز ان ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر المفعول فلا يكون من باب التنازع والمعنى صدر التكذيب قبلهم من قوم نوح فكذبوا نوحا والفاء حينئذ للتفصيل بعد الإجمال وَقالُوا عطف على كذبوا مَجْنُونٌ خبر مبتدا محذوف أى هو وَازْدُجِرَ اما عطف على مجنون يعنى قالوا هو مجنون وازدجرته الجن فخبطته وذهب بعقله كذا قال مجاهد أو عطف على قالوا يعنى وازدجروه عن التبليغ بانواع الاذية وقالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين - أخرج عبد بن حميد عن مجاهد واحدا منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق ويقول اللّهم اغفر لى لقومى فانهم لا يعلمون وكذا أخرج احمد فى الزهد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير.
فَدَعا نوح رَبَّهُ بعد ما اوحى إليه انه لن يؤمن من قومك الا من قدا من فلا تبتئس بما كانوا يفعلون أَنِّي مَغْلُوبٌ أى بانى مغلوب غلبنى قومى فَانْتَصِرْ أى فانتقم لى منهم لعذاب لبعتهم وقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب انصبابا شديدا لم ينقطع أربعين يوما وقيل معناه بماء طبق ما بين السماء والأرض.(1/6270)
وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً تميز من النسبة والمعنى فجرنا عيون الأرض لكن غير للمبالغة كأنَّه قال جعلنا الأرض كلها عيونا منفجرة فَالْتَقَى الْماءُ يعنى الافتعال بمعنى التفاعل وذلك يقتضى تعدد الفاعل لكن الماء اسم يطلق
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 138
على الواحد والكثير وأريد هاهنا فالتقى الماء ان يعنى ماء السماء وماء الأرض كذا قرأ عاصم الجحدري عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ج أى على حسب امر قد قدره اللّه تعالى فى الأزل وكتب فى اللوح أو على حال قدرت وسويت وهو ان قدر ما انزل من السماء على قدرنا أخرج من الأرض أو على امر قدره اللّه وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
وَحَمَلْناهُ يعنى نوحا عَلى سفينة ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة وَدُسُرٍ أى مسامير دسارا ودسير ذكر النعت وأقيمت مقام الاسم.
تَجْرِي حال من ذات ألواح بِأَعْيُنِنا ج أى محفوظة بحفظنا جَزاءً أى فعلنا ذلك جزاء أو جزينا قوم نوح جزاء لِمَنْ كانَ كُفِرَ أى لاجل نوح لأنه نعمة كفروها فان كل نبى نعمة من اللّه ورحمة على أمته وقيل من بمعنى ما أى جزاء لما كان كفر من أيادي اللّه ونعمة عند الكافرين أو المعنى حاجزا لما صنع بنوح وأصحابه أو المعنى فعلنا ذلك أى أغرقنا قوم نوح وأنجينا نوحا جزاء وثوابا لنوح عليه السلام.
وَلَقَدْ تَرَك ْناها
اى الفعلة المذكورة يعنى أبقينا قصتها آيَةً على قدرتنا وصدق الأنبياء يعتبر بها من بعدهم وقال قتادة الضمير المنصوب عايد إلى السفينة ولقد أبقى اللّه السفينة بأرض الجزيرة وقيل بالجودي دهرا طويلا حتى نظرها أوائل هذه الامة وهذه جملة معترضة وكذا قوله تعالى فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أى معتبر الاستفهام للاغراء والتحريض على الادكار والاتعاظ والفاء للسببية أصله مدتكر مفتعل من الدكر قلبت التاء دالا للتناسب ثم أدغمت الدال فى الدال لقرب المخرج.(1/6271)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ الاستفهام للتعظيم والتهويل والفاء للسببية فان القصة السابقة سبب للتهويل ونذر جمع نذير وقال الفراء الانذار والنذر مصدر ان كالانفاق والنفقة والإيقان واليقين وكيف خبر كان قدمت لاقتضائها صدر الكلام قرأ ورش عذابى ونذرى بإثبات الياءات فى ستة مواضع من هذه السورة.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا أى سهلنا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أى للاذكار والاتعاظ بان ذكرنا فيه انواع المواعظ والعبر والوعيد واحوال الأمم السابقة للاعتبار والمعنى يسرنا القرآن للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عادٌ قوم هود عليه السلام هودا وجميع الأنبياء فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أى انذاراتى لهم بالعذاب قبل نزوله أو لمن بعدهم فى تعذيبهم.
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردا شديد الهبوب وشديد الصوت فِي يَوْمِ نَحْسٍ شوم على الأعداء
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 139
مُسْتَمِرٍّ أى استمر شومه أو استمر عليهم حتى اهلكهم اللّه أو على صغيرهم وكبيرهم فلم يبقى منهم أحدا أو أشد مرارته قال البغوي قيل كان يوم الأربعاء اخر شهر.
تَنْزِعُ النَّاسَ أى تقلعهم من أماكنهم ثم ترمى بهم على رؤسهم فتدق رقابهم وقال البيضاوي روى انهم دخلوا فى الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعهم الريح منها وصرعتهم موتى وقال البغوي روى انها كانت تنزع الناس من قبورهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أى اصول نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ منقلع من مكانه ساقط على الأرض ذكر الصفة حملا على اللفظ والتأنيث فى قوله اعجاز نخل خاوية ونخل باسقات للمعنى قال البغوي انما قال اعجاز نخل وهى أصولها التي قطعت فروعها لان الريح كانت تبين رؤسهم من أجسادهم فتبقى الأجسام بلا رؤس.(1/6272)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرر للتهويل وقيل الأول لما حاق بهم فى الدنيا والثاني لما يحيق بهم فى الاخرة كما قال أيضا فى قصتهم لنذيقهم الخزي فى الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة اخزى.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالإنذارات والمواعظ والرسل.
فَقالُوا أَبَشَراً آدميا منصوب على المفعولية بفعل مضمر يفسره ما بعده مِنَّا صفة لبشر أى من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا بالمال والجاه واحِداً بدل من بشرا وعطف بيان له أى منفرد الا تبع له أو من احادنا دون اشرافنا نَتَّبِعُهُ الاستفهام للانكار والإنكار على كون متبوعهم مثلهم فى الجنسية ودونهم فى الانفراد لا على فعل الاتباع فانه لو كان المتبوع من الملائكة أو ملوك البشر لم ينكروا اتباعه فلا بد تقدير الفعل موخرا من المفعول فى الإضمار والتفسير تأكيد الإنكار الاتباع إِنَّا إِذاً أى إذا نتبعه لَفِي ضَلالٍ أى خطاء ذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال وهب معناه بعد من الحق وقال الفراء جنون يقال ناقة مسعودة إذا كانت خفيفة الراس هايمة على وجهها وقال قتادة معناه عناء وعذاب مما يكره منا من طاعة وقيل سعر جمع سعير قال ابن عباس معناه عذاب وقال الحسن شدة عذاب وكانهم عكسوا قول صالح عليه السلام لما قال ان تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق وسعير ونيران فقالوا ان اتبعناك انا إذا لفى ضلال وسعير.
أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ الكتاب والوحى مِنْ بَيْنِنا وفينا من هو أحق بذلك يعنون انه لم يلق عليه الذكر من بيننا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ يكذب على اللّه أَشِرٌ بطر منكر يريد ان يتعظم علينا بادعاء النبوة إضراب من نفى الفضيلة إلى ادعاء الرذيلة فيه عليه السلام.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 140(1/6273)
سَيَعْلَمُونَ غَداً حين ينزل هم العذاب وقال الكلبي يعنى يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أهم أم صالح عليه السلام قرأ ابن عامر وحمزة ستعلمون عذابنا الخطاب على الالتفات والباقون بالياء على الغيبة والجملة استيناف فى جواب ما شانهم ولما سالوا معجزة من الصالح عليه السلام على صدقه وقالوا تعنتا ان يخرج لهم ناقة حمراء عشراء من صخرة عينوها قال اللّه تعالى.
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أى مخرجوها وباعثوها فِتْنَةً لَهُمْ أى لاجل امتحانهم أو حال كونها امتحاناتهم فَارْتَقِبْهُمْ أى فانتظر يا صالح ما يصنعوا بها وَاصْطَبِرْ على اذاهم أو اصبر على ارتقابهم.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ أى مقسوم بَيْنَهُمْ يعنى بين قومك وبين الناقة لها يوم ولهم يوم أورد ضمير الجمع المذكر العاقل تغليبا كُلُّ شِرْبٍ أى نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ يحضره من كان نوبته فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها وإذا كان يوم نوبتهم حضروه دون الناقة واحتضر وحضر بمعنى واحد وقال مجاهد يحتضرون الماء إذا غابت الناقة فإذا جاءت الناقة حضر واللبن.
فَنادَوْا ثمود صاحِبَهُمْ قدار بن سالف فَتَعاطى فتناول الناقة بسيغه فَعَقَرَ فعذبناهم.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثم بين عذابهم فقال.
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم جبرئيل عليه السلام فَكانُوا أى صاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس المحتظر الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم وقيل هو الشجر اليابس الذي يتخذه من الحظير لاجل الحظيرة أو الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لما شيته فى الشتاء وقال قتادة معناه كالعظام النخرة المحترقة وقال سعيد بن جبير هو التراب يتناشر من الحائط.(1/6274)
وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أى ريحا ترميهم بالحصباء وهى الحصى الصغار وقيل الحصباء هى الحجر الذي دون ملأ الكف وقد يكون الحاصب الرامي فيكون على هذا انا أرسلنا عليهم حاصبا يحصبهم أى يرميهم بالحجارة إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء من الضمير المجرور فى عليهم نَجَّيْناهُمْ يعنى ال لوط بِسَحَرٍ أى فى سحر وهى اخر الليل أو مسحرين الجملة تعليل للاستثناء.
نِعْمَةً أى انعاما علة لنجينا مِنْ عِنْدِنا ط صفة لنعمة كَذلِكَ نَجْزِي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 141
مَنْ شَكَرَ
نعمة اللّه بالايمان والطاعة يعنى من وحد اللّه وشكر نعمة نجزيه جزاء ....
كما جزينا ال لوط ولم نعذبهم مع المشركين كذا قال مقاتل.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ يعنى انذر لوط قومه بَطْشَتَنا أى أخذتنا إياهم بالعذاب ان لم يؤمنوا مفعول ثان لانذر فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ يعنى كذبوا لوطا وشكوا بالإنذار.(1/6275)
وَ لَقَدْ راوَدُوهُ أى طلبوا لوطا ان يعرض عَنْ ضَيْفِهِ ويسلمهم إليهم حين قصدوا الفجور بهم وكانوا الملائكة فيهم جبرئيل عليه السلام على صورة الامارد أرسلهم اللّه على قوم لوط ليرسلوا عليهم حجارة من طين مسومة للمسرفين فلما قصد قوم لوط داره وعالجوا الباب ليدخلوا قالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فانا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار وقال البغوي واخرج ابن إسحاق وابن عساكر من طريق جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس ان لوطا اغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما راى الملائكة ما على لوط قالوا انا رسل ربك لن يصلوا إليك فصعقهم جبرئيل بجناحه بإذن اللّه فتركهم عمياء يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب فاخرجهم لوط عميانا لا يبصرون وذلك قوله تعالى فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أى صيرناها كساير الوجه لا يرى له شق كذا قال اكثر المفسرين وقال الضحاك طمس اللّه أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا قد رأيناهم حين دخلوا البيت فاين ذهبوا فلم يرواهم فرجعوا فقال اللّه تعالى على السنة الرسل فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أى ما أنذرتكم به على لسان لوط من العذاب.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ أى جاءهم وقت الصبح بُكْرَةً أول النهار عَذابٌ رمى الحجارة مُسْتَقِرٌّ أى يستقر بهم بعد الموت عذاب القبر حتى يسلمهم إلى النار المؤبدة - .
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ع وفائدة التكرير بعد كل قصة ان يستانفوا تنبيها واتعاظا واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه.
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ج يعنى موسى وهارون عليهما السلام ومن معهما وقيل هى الآيات التي انذرهم بها موسى واكتفى بذكر ال فرعون عن ذكره للعلم بانه اولى بذلك.(1/6276)
كَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى الآيات التسعة كُلِّها عن صفوان بن عسال قال قال يهودى لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي فقال له صاحبه لا تقل نبى انه لو سمعك لكان له اربع أعين فاتيا رسول اللّه صلعم فسالا عن تسع آيات بينات فقال رسول اللّه صلعم لا تشركوا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 142
باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولا تمشوا ببرى إلى ذى سلطان ليقتله ولا تسحروا ولا تأكلوا الربوا ولا تقذفوا محصنة ولا تولوا للفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود ان لا تعتدوا فى السبت قال فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد انك بنى قال فما يمنعكم ان تتبعونى قالا ان داود عليه السلام دعى ربه ان لا يزال فى ذريته نبى وانا نخاف ان تبعناك ان يقتلنا اليهود رواه أبو داود والترمذي والنسائي فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب يعنى أغرقناهم فى اليم ثم أدخلناهم فى النار أَخْذَ عَزِيزٍ غالب لا يغلب مُقْتَدِرٍ على الانتقام لا يعجزه ما أراد ولا يمنعه شىء عما أراد.
أَ كُفَّارُكُمْ يعنى كفار قومكم أيها المؤمنون من قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يعنى من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وال فرعون المذكورين بحلول العذاب بهم قوة وعددا أو مكانة ودينا عند اللّه والاستفهام للانكار يعنى ليسوا خيرا منهم فكيف أمنوا من مثل ما حل بهم من العذاب أَمْ لَكُمْ يا أهل مكة بَراءَةٌ وأمان من العذاب فِي الزُّبُرِ ج أى فى الكتب السماوية ان من كفر منكم وكذب الرسل لا يعذب حتى أمنوا من العذاب.
أَمْ يَقُولُونَ أى هؤلاء الكفار نَحْنُ جَمِيعٌ أى جماعة أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ ممتنع لا نرام أو منتصر من الأعداء لا تغلب أو متناصر بعضنا بعضا والتوحيد حملا على لفظ الجميع وموافقة لرؤس الاى أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال قالوا يوم بدر نحن جميع منتصر فنزلت.(1/6277)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قرأ يعقوب سنهزم بالنون على صيغة المتكلم المعروف والجمع منصوبا على المفعولية والباقون على صيغة الواحد الغائب المجهول والجمع مرفوعا على انه مسند إليه أورد الدبر مفردا فى محل الأدبار بارادة الجمع الجنس موافقة لرؤس الاى كما يقال ضربنا منهم الراس أو لان كل واحد منهم يولى دبره روى البخاري عن ابن عباس ان النبي صلعم قال وهو فى قبة يوم بدر أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان تشاء لا تعبد بعد اليوم فقال أبو بكر وأخذ بيده حسبك يا رسول اللّه ألححت على ربك فخرج وهو يثب فى الدرع وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر كنت لا أدرى أى جمع يهزم فلما كان يوم بدر رايت النبي صلعم يثب فى درعه ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر ذكره البغوي قول سعيد بن المسيب قال سمعته من عمرو أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردوية فى تفاسيرهم من مرسل عكرمة ورواه الطبراني فى مجمعه الأوسط.
بَلِ السَّاعَةُ إضراب على طريقة الانتقال إلى الأهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 143
مَوْعِدُهُمْ جميعا للعذاب وما يحيق بهم فى الدنيا فمن طلايعه وكان ليس بعذاب بالنسبة إلى ما يحيق بهم يوم القيامة ولذلك لا يعذب بعض الكفار فى الدنيا مع استحقاقهم جميعا للعذاب - وَالسَّاعَةُ أَدْهى أى أشد داهية والداهية امر فظيع لا يهدى إلى دفعه وَأَمَرُّ فذاقا من عذاب الدنيا.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أى الكافرين تعميم بعد تخصيص لبيان حال الكفار مطلقا بعد التخصيص بذكر كفار مكة فِي ضَلالٍ عن الحق فى الدنيا وَسُعُرٍ نيران فى الاخرة وقيل معنى الآية فى ضلال أى ذهاب من طريق الجنة فى الاخرة وسعر أى نار مسعرة كذا قال الحسن بن فضل وقال قتادة فى عناء وعذاب.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ أى يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ يقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أى حر النار والمها فان مسها سبب لالمها.(1/6278)
إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ منصوب بفعل مضمر يفسره خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ والجملة معترضة بين ذكر الكفار نزلت رد المخاصمة قريش روى مسلم والترمذي عن أبى هريرة قال جاءت مشركوا قريش يخاصمون رسول اللّه صلعم فى القدر فنزلت ان المجرمين فى ضلال وسعر إلى قوله انا كل شىء خلقناه بقدر يعنى خلقنا كل شىء بتقدير سابق أو مقدرا مكتوبا فى اللوح المحفوظ معلوما قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه قال الحسن قدر اللّه لكل شىء من خلقه قدره الذي ينبغى له أى يقتضيه الحكمة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلعم يقول كتب اللّه مقادير الخلائق كلها قبل ان يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة قال وكان عرشه على الماء - رواه مسلم وروى البغوي بسنده عن طاؤس بن مسلم اليماني قال أدركت ناسا من اصحاب رسول اللّه صلعم يقولون كل شىء بقدر حتى العجز والكيس وعن على بن أبى طالب قال قال رسول اللّه صلعم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه بعثني بالحق ويومن بالبعث بعد الموت ويومن بالقدر رواه الترمذي وابن ماجة عن ابن عمر قال سمعت رسول اللّه صلعم يقول يكون فى أمتي خسف ومسخ وذلك على المكذبين بالقدر رواه أبو داود وروى الترمذي نحوه وعنه قال قال رسول اللّه صلعم القدرية مجوس هذه الامة ان مرضوا لا تعودوهم وان ماتوا لا تشهدوهم رواه احمد وأبو داود وعن أبى خزامة عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه ارايت رقى تسترقى بها ودواء نتداوى بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئا قال هى من قدر اللّه رواه احمد والترمذي وابن ماجة وفى الباب أحاديث كثيرة وانعقد عليه اجماع الصحابة ومن بعدهم من
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 144
من أهل السنة والجماعة.(1/6279)
وَ ما أَمْرُنا فى تكوين الأشياء وإعدامها وإعادتها إِلَّا واحِدَةٌ أى إلا فعلة واحدة وهى الإيجاد والامحاء بلا معالجة ومعناه أو إلا كلمة واحدة وهى قوله تعالى كن فى الإيجاد والصيحة فى الاعدام والبعث كاينة فى اليسر والسرعة كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ قال الكلبي عن ابن عباس وما أمرنا بمجىء الساعة فى السرعة الا كطرف البصر نظيره قوله تعالى وما امر الساعة الا كلمح البصر أو هو اقرب.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ جمع شيع معناه المثل كذا فى القاموس يعنى أهلكنا اشباهكم فى الكفر ممن قبلكم يا أهل مكة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ بالاعتبار ممن قبله الفاء للسببية والاستفهام للحث والتحريض بمعنى الأمر يعنى لقد أهلكنا يا أهل مكة اشباهكم فاذكروا واتعظوا متصل بما سبق فى توبيخ أهل مكة وما بينهما معترضات.
وَكُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ صفة لشىء فعله المكلفون ثابت مكتوب فِي الزُّبُرِ أى فى صحائف الحفظة التي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها فيجازى بها يوم القيامة أو فى اللوح المحفوظ.
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من اعمال المكلفين أو من الخلائق وأعمالهم واجالهم مُسْتَطَرٌ أى مسطور مكتوب فى صحائف الحفظة أو فى اللوح المحفوظة فهذه الجملة بيان وتفسير وتأكيد لما سبق أو المراد بأحد الجملتين كونها مكتوبا فى صحائف الحفظة وبالأخرى فى اللوح المحفوظ واللّه تعالى أعلم .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أى انهار الجنة من الماء والخمر والعسل واللبن أو رد لفظ المفرد اكتفاء باسم الجنس موافقة لروس الاى وقال الضحاك يعنى فى الضياء السعة ومنه النهار قال البغوي قرأ الأعرج ونهر بالضمتين جمع نهار يعنى لا ليل لهم.(1/6280)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أى فى مكان لا لغو فيه ولا تأثيم يعنى الجنة أو فى مكان مرضى قال الجوهري يعبر عن فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصدق ومنه قوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ الآية وقوله تعالى لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عند ربهم وقوله تعالى أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخرجني مخرج صدق قال البغوي قال الصادق رض مدح اللّه المكان بالصدق فلا يقعد فيه الا أهل الصدق عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أى عند اللّه مالك الأشياء كلها وملكها قادر لا يعجزه شىء عندية غير متكيفة لا تدركه العقول والافهام الا من فتق اللّه غشاوة بصيرته من الكرام وفايدة التكبير فيها الإيماء إلى ان ما من شىء الا تحت ملكه وقدرته واللّه تعالى أعلم - .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 145(1/6281)
سورة الرّحمن
مكيّة وهى ثمان وسبعون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ط جواب لقول الكفار وما الرحمن فذكر اللّه تعالى انه مولى النعم الدنيوية والاخروية كلها من بدء الخلق إلى ابد الآبدين على ما يقتضيه لفظ الرحمن المبنى على كمال المبالغة فى الرحمة وقدم فى الدّكر ما هو اصل النعم الدينية وأجلها وهو تنزيل القرآن وتعليمه فانه أساس الدين وفيه صلاح الدارين ثم ذكر بعده خلق الإنسان اشارة إلى ان الإنسان انما خلق لاجل تلقى القرآن ولذلك علمه البيان ولما كان اشراكهم وعبادتهم لغير اللّه تعالى وقولهم وما الرحمن أ نسجد لما تأمرنا دليلا على انكارهم آلاء اللّه تعالى كرر التوبيخ عليهم فى السورة احدى وثلثين مرة بعد ذكر بعض الآلاء ايقاظا وتنبيها واما بعد الوعيد على الكفران زجرا ومنعا عماهم عليه واما بعد الوعد لمن خاف مقام ربه وشكر نعمائه تحريضا وتطميعا وقيل هذه الآية رد لقول الكفار انما يعلمه بشر والمعنى انه لا يستطيع البشر على تعليم مثل هذا القرآن البليغ المعجز بل علمه الرحمن الذي هو المنعم بالنعم الدنيوية والاخروية كلها بمقتضى رحمة وهذا أجل النعم المفضى إلى صلاح الدارين رحمن مبتدا والجملة خبره.
خَلَقَ الْإِنْسانَ قال ابن عباس وقتادة يعنى آدم عليه السلام علمه البيان يعنى اسماء كل شىء علمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة الف لغة أفضلها العربية وقال أبو العالية والحسن المراد جنس الإنسان.(1/6282)
عَلَّمَهُ الْبَيانَ باللسان والكتابة والفهم والافهام حتى يتميز عن سائر الحيوانات وصار قابلا للوحى وتنزيل القرآن وقال السدى علم كل قوم لسانهم الذين يتكلمون به وجاز ان يقال خلق الإنسان يعنى محمدا صلعم علمه البيان يعنى القرآن فيه بيان ما كان وما يكون من الأزل إلى الابد مطابقا لبيان من مضى من الرسل هداية للناس واية على نبوته كذا قال ابن كيسان فعلى هذا الجملتان الأخيرتان بيان وتفصيل للاولى ولهذا لم يورد العاطف بينها وكلها اخبار مترادفة للرحمن قيل ترك العاطف لكون كل منها مستقلا بالخبرية وقيل بمجيئا على نهج التحديد.
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ الحسبان اما مصدر كفغران وسبحان وكقران ورجحان ونقصان من حسبت حسبانا أو جمع للحساب كالنسبان والركبان والمعنى الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر معلوم فى منازلهم يتنسق بتلك امور الكائنات
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 146
السفلية ويختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب واوقات الصلاة والصيام والحج والزكوة وآجال الديون.
وَالنَّجْمُ أى ما ليس له ساق من النبات وَالشَّجَرُ ما له ساق يبقى فى الشتاء يَسْجُدانِ أى ينقادان اللّه طبقا فيما يريد منهما انقياد الساجدين المكلفين طوعا يقال سجودهما سجود ظلمها - قال اللّه تعالى يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ والجملتان خبران آخران للرحمن وكذا ما بعدهما مما عطف عليهما وكان حق النظم فى الجملتين ان يقال واجرى الشمس والقمر بحسبان واسجد النجم والشجر والشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له الوجوب العائد فى الخبر لكن حذف العائد منهما لوضوحه وادخل العاطف بينهما وبين ما بعدهما لاشتراكهما فى الدلالة على وجود الصانع يحكم الذي يقدر ويدبر ويغير احوال الاجرام العلوية والسفلية على نهج بديع واسلوب حكيم.(1/6283)
وَ السَّماءَ منصوب بفعل مضمر يفسره رَفَعَها أى خلقها مرفوعة وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال مجاهد أراد بالميزان العدل والمعنى امر بالعدل وأثبته فى الذمم حتى انتظم امر العالم واستقام وقال الحسن وقتادة والضحاك أراد ما يوزن الأشياء ويعرف به المقادير من الميزان والمكيال والذراع ونحو ذلك فانها سبب الاتصاف والانتصاف واصل الوزن التقدير.
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ اما مضارع منصوب بان فى قوة المصدر متعلق بوضع بتقدير اللام يعنى وضع الميزان لان لا تجاوزوا الحق فى الميزان ولا تظلموا واما صيغة نهى وان مفسرة تقديره أمران لا تطغوا فى الميزان.
وَأَقِيمُوا معطوف على تطغوا على تقدير كونه نهيا وعلى تقدير كونه مضارعا معطوف على وضع بتقدير قال الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أى قوموا وزنكم بالعدل ولا تنقصوا امر اللّه تعالى بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ومن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان ثلث مرات ولم يكتف بالضمير تشديد للتوصية وتقوية للامر باستعماله والحث عليه فويل للمطففين - (مسئلة) من اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة فاكتاله أو اتزنه ثم باعه مكايلة أو موازنة لم يجز للمشترى الثاني ان يبيعه ولا ان يأكله حتى يعيد الكيل أو الوزن لأنه يجعل ان يزيد على المشروط وذلك للبائع والتصرف فى مال الغير حرام يجب التحرز عنه وقد نهى النبي صلعم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى رواه ابن ماجة وابن اسحق من حديث جابروا على يعبد الرحمن بن أبى ليلى ورواه البزار
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 147(1/6284)
من حديث أبى هريرة وله طريقان ضعيفان عن انس وابن عباس وروى عبد الرزاق عن يحيى بن كثير ان عثمان بن عفان وحكيم بن حزام كانا يبتاعان الثمر ويجعلان فى الغرائر ثم يبيعانه بذلك الكيل فنهاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يبيعا حتى يكيلا لمن ابتاعه منهما قال ابن همام هذا الحديث حجة لكثرة طرقه وقبول الائمة إياه فانه قد قال بقولنا هذا مالك والشافعي واحمد - (مسئله) ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وان كان بحضرة المشترى لأنه ليس صاع البائع والمشترى وهو المشروط ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشترى لان الكيل من باب التسليم لأنه يصير به المبيع معلوما ولا تسليم الا بحضرته ولو كان البائع بعد البيع بحضرة المشترى قيل لا يكتفى به بظاهر الحديث فانه اعتبر صاعين والصحيح انه يكتفى به لان المبيع صار معلوما بكيل واحد ولتحقق معنى التسليم ومحل الحديث اجتماع الصفتين كما إذا اشترى المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم ان يقبضه فانه لا يصح إلا بصاعين لاجتماع الصفتين بشرط الكيل لشراء المسلم إليه لنفسه وقبض رب السلم.
وَالْأَرْضَ منصوب بفعل مضمرة تفسيره - وَضَعَها أى خلقها وخفضها مدحوة لِلْأَنامِ أى للخلق فى القاموس الأنام كسحاب وسباط داير الخلق أو الجن والانس أو جميع ما على وجه الأرض قال البيضاوي وقيل الأنام كل ذى روح قلت الظاهر ان المراد به هاهنا الجن والانس لان الخطاب معهما كما يدل عليه قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ قال ابن كيسان يعنى ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى الجملة تعليل لمضمون قوله تعالى وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ....
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمر.(1/6285)
وَ الْحَبُّ وهو ما يوكل من البذور كالحنطة والشعير وساير ما يتغذى به ذُو الْعَصْفِ وهو ورق الزرع والنبات اليابس كالتبن وَالرَّيْحانُ ج أى الرزق وهو اللب كذا قال اكثر المفسرين من قولهم خرجت اطلب ريحان اللّه قال ابن عباس كل ريحان فى القرآن فهو الرزق وقال الحسن وابن زيد وهو ريحانكم الذي يشم وهو فعلان من الروح فقلب الواو ياء وادغم ثم خفف وقيل أصله روحان قلب واوها ياء للتخفيف قرأ العامة والنخل ذات الاكمام والحب ذو العصف والريحان برفع الأسماء الثلاثة عطفا على الفاكهة وجاز ان يكون الريحان معطوفا على ذو الصف بتقدير ذو فحذف المضاف وأعرب المضاف إليه باعرابه وقرأ حمزة والكسائي والريحان بالجر عطفا على العصف وما عداه بالرفع عطفا على الفاكهة وقرأ ابن عامر والحبة والنخل ذات الاكمام والحب والعصف والريحان -
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 148
بنصب الثلاثة عطفا على الأرض وضعها على تقدير وخلق النخل ذات الاكمام وخلق الحب والعصف وخلق الريحان ويجوز ان يراد ذالريحان فحذف المضاف وأعرب المضاف إليه باعرابه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى الأنام وقوله أيها الثقلان وقيل خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب يخاطبون كذلك نظيره قوله تعالى القيا فى جهنم وإلقاء للسببية والاستفهام لتقرير الالاء وانكار تكذيبهما فان ذكر الالاء سبب لاقرارها وشكر منعها والرد عن تكذيبها وكذا الوعيد على الكفران والوعد سببان للاقرار والشكر روى الحاكم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال قرأ علينا رسول اللّه صلعم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال مالى أراكم سكوتا والجن كانوا احسن منكم رد اما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فباىّ آلاء ربكما تكذبن الا قالوا ولا بشىء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.(1/6286)
خَلَقَ الْإِنْسانَ يعنى آدم عليه السلام مِنْ صَلْصالٍ أى طين يابس به صلصلة أى تردد صوت وقيل الصلصال السنن من الطين كَالْفَخَّارِ أى الطين المطبوخ بالنار وهو الخذف قيل الفخر المباهات بالأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ومنه الفخار بمعنى الحراء لصوته إذا تقر كأنَّه تصور بصورة من يكثر التفاخر به ولا اختلاف بين هذه وبين من حماء مسنون ومن طين لازب ومن تراب لاتفاقها معنى لأنه تفيد انه خلقه من تراب ثم جعله طينا ثم حماء مسنونا ثم صلصال.
وَخَلَقَ الْجَانَّ اللام للجنس يعنى جنس الجن وقيل هو علم لابى الجن وقال الضحاك هو إبليس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ج بيان لمارج وهو الصافي من لهب النار الذي لادخلن فيه وهو فى الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب وقال مجاهد هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي تعلوا النار إذا وقدت من قولهم مرج امر القوم إذا اختلط الجملة خبر اخر للرحمن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما أفاض عليكما من أطوار خلقنكما حتى صرتما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ج مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما خبر اخر للرحمن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما فى ذلك من الفوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
مَرَجَ أى أرسل الْبَحْرَيْنِ الملح والعذب من مرجت الدابة إذا أرسلتها خبر اخر للرحمن يَلْتَقِيانِ حال من البحرين أى يتجاوزان ويتملس سطوحهما.
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 149(1/6287)
من قدرة اللّه تعالى حال اخر لا يَبْغِيانِ حال اخرى أى لا يبغى أحدهما على الاخرى بالممازجة وو ابطال الخاصية وقال قتادة لا يطغيان على الناس بالغرق وقال الحسن مرج البحرين يعنى بحر الروم وبحر الهند وعن قتادة أيضا بحر الفارس وبحر الروم بينهما برزخ يعنى الجزائر وقال المجاهد والضحاك بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما فى ذلك من المنافع وظهور قدرة اللّه تعالى جملة معترضة وقوله تعالى.
يَخْرُجُ حال اخرى من البحرين قرأ نافع وأبو عمر ويعقوب يخرج بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول من الإخراج والباقون بفتح الياء وضم الراء من المجرد مِنْهُمَا أى من البحرين العذب والملح قيل الدر انما يخرج من الملح دون العذب فقيل فى جوابه انه يخرج من مجتمع الملح والعذب وقيل لانهما لما اجتمعا صارا كالشىء الواحد فكان المخرج من أحدهما كالمخرج منهما وقيل انه جايز فى كلام العرب ان يذكر شيئين ثم يخص أحدهما بفعل كما قال اللّه تعالى يا معشر الجن والانس الم يأتكم رسل منكم وكان الرسل من الانس دون الجن وان كان المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض كما قال مجاهد والضحاك فالوجه انه إذا مطرت السماء فتحت الاصداف أفواهها فحيثما وقعت وقعت قطرة كانت لؤلؤ كذا قال ابن جرير اللُّؤْلُؤُ قرأ أبو بكر ويزيد بلا همزة والباقون بهمزة وهى كبار الدرر وَالْمَرْجانُ ج صغارها كذا فى القاموس وقال مقاتل ومجاهد على الضد يعنى اللؤلؤ صغار الدرر والمرجان كبارها وقيل المرجان الخزر الأحمر فهو نوع من الجواهر يشبه النبات والحجر وقال عطاء الخراسانى هو البسد.(1/6288)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ تعالى الْجَوارِ السفن الكبار جمع جارية الْمُنْشَآتُ قرأ حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشين أى اللائي ابتدأن وانشأن السير والباقون بفتح الشين أى المرفوعات اللاتي رفع خشبها بعض على بعض وقيل المنشآت المسخرات فِي الْبَحْرِ متعلق بالمنشئات وهى صفة للجوار وقوله كَالْأَعْلامِ ج صفة يعنى كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل الجملة معطوفة على مرج البحرين خبر للرحمن بتبعيتها وانما جعلها تابعة لها لكون الجواري تابعة للبحر.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها أى على الأرض من الحيوانات أو المركبات أو من كل شىء حتى الجبال والبحار والمعادن ومن للتغليب أو من الثقلين فانٍ يوم القيامة أو قيل ذلك متى شاء اللّه تعالى أو فان فى حد ذاته موجود بوجود مستعار من اللّه تعالى.
وَيَبْقى وَجْهُ قيل هو من المتشابهات رَبِّكَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 150
ذُو الْجَلالِ(1/6289)
اى ذو العظمة والسلطان والاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ ج الفضل العام قلت العام قلت عطف بقاء وجه ربك على فناء من الأرض وتخصيص ذكر الفناء بهم يقتضى ان المراد بالوجه هاهنا الجهة حتى يحصل المناسبة والمقارنة بين المعطوف والمعطوف عليه فان قيل معنى العطف هاهنا على المقابلة بين فناء الخلق وبقاء الخالق دون المقارنة قلنا لو كان كذلك لم يفد تقييد الفناء بمن على الأرض فالمعنى كل من على الأرض من الثقلين فانه فى حد ذاته لا يعبأ به ويبقى من جهاته جهته إلى ربه وتوجهه إليه فانه لا يطرء عليه فناء قال اللّه تعالى قل ما يعبأ بكم ربى لو لا دعاءكم وهذه الصفة من عظيم صفات اللّه تعالى روى الترمذي عن انس واحمد والنسائي والحاكم بسند صحيح عن ربيعة بن عامر قال قال رسول اللّه صلعم الظوا بيا ذالجلال والإكرام وفى الحصن الحصين انه صلعم مر برجل وهو يقول يا ذالجلال والإكرام فقال عليه الصلاة والسلام قد استجيب لك فسل والا لظاظ؟؟؟ به من كريم صفات الإنسان الجملتان خبران آخران للرحمن والعائد فى الجملة الاولى محذوف وفى الثانية وضع المظهر موضع المضمر والتقدير كل من عليها فان بافنائه أو بقهرمانة ويبقى وجهه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ منها توفيقه للتوجيه إليه تعالى ومنها ما ذكر من بقاء الرب وابقاء ما لا يحصى مما على صدد الفناء رحمة وفضلا ومنها ما يترتب على فناء الكل من الاعادة والحيوة الدائمة والنعيم المقيم.(1/6290)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط من الملائكة والانس والجن حوايجهم من المغفرة والعافية وتوفيق العبادة والتجليات والبركات والرزق وغير ذلك وقيل المراد بمن فى السموات والأرض الموجودات كلها وأورد كلمة من تغليبا فانها كلها مفتقرة إلى اللّه تعالى فى ذواتها وصفاتها وساير ما يهمها ويهمن لها والمراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء نطقا كان أو غيره كُلَّ يَوْمٍ أى وقت منصوب على الظرفية بيسأله أو بمقدر دل عليه ما بعده وما قبله يعنى يعطى مسؤلهم ويحدث امور كل يوم هُوَ يعنى اللّه تعالى فِي شَأْنٍ ج دائما ومن شانه ان يحيى ويميت ويرزق ويعز قوما ويذل آخرين ويشفى مريضا ويمرض صحيحا ويفك عانيا ويرهن فارغا ويفرج مكروها ويجيب داعيا ويعطى سائلا ويغفر ذنبا للمؤمنين ويدخل جهنم الكافرين ويعذبهم بانواع التعذيب ويدخل الجنة من خاف مقام ربه ويكرمهم بانواع التكريم أى مالا يحصى من انعامه واحداثه فى خلقه ما يشاء قال رسول اللّه صلعم من شانه ان يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين رواه ابن ماجة وابن حبان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 151(1/6291)
فى الصحيح من حديث أبى الدرداء واخرج ابن جرير مثله من حديث عبد اللّه بن منيب والبزاز مثله من حديث ابن عمر رض وروى البغوي بسنده عن ابن عباس قال ان مما خلق اللّه عز وجل لوحا فى درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر اللّه عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله عز وجل كل يوم هو فى شان قال الحسين ابن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت قال أبو سليمان الداراني فى هذه الآية كل يوم له إلى العبيد بر جديد وقال سفيان بن عيينة الدهر كله عند اللّه يومان أحدهما مدة ايام الدنيا والاخر يوم القيامة فالشان الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا الاختيار بالأمر والنهى والاحياء والاماتة والإعطاء والمنع وشان يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب وقيل شانه جل ذكره انه يخرج فى كل يوم وليلة ثلاث عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى اللّه عز وجل قال مقاتل نزلت الآية فى يهود حيث قالوا ان اللّه لا يفضى يوم السبت شيئا.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يسعف سوالكما وما يخرج لكما من ممكن العدم حينا فحينا.(1/6292)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ وقرأ حمزة والكسائي بالياء على الغيبة والضمير عايد إلى الرب والباقون بالنون على التكلم قيل معناه سنجرد لجزائكم وذلك يوم القيامة فانه تعالى لا يفعل فيه غيره قيل انه تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سافرغ لك فان المتجرد للشىء كان أقوى عليه وليس المراد منه الفراغ من شغل فانه تعالى لا يشغله شان عن شان كذا قال ابن عباس والضحاك وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والامهال وناخذ فى أمركم وقيل ان اللّه وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور ثم قال سنفرغ لكم مما وعدناكم واخبرناكم يعنى نحاسبكم وننجز لكم ما وعدناكم فيتم ذلك ونفرغ منه والى هذا ذهب الحسن ومقاتل أَيُّهَ قرأ ابن عامر أيها بضم الهاء والباقون بفتح الهاء ووقف أبو عمرو والكسائي بالألف والباقون بغير الالف الثَّقَلانِ أى الانس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أحياء وأمواتا وقال جعفر الصادق بن محمد الباقر رض لانهما مثقلان بالذنوب وقيل لانهما مثقلان بالتكليف والمناسب لهذه المعاني لثقلين التأويلات المذكورة فى قوله تعالى سنفرغ لكم اعنى التهديد أو إتمام الوعد والوعيد وإنجازهما وقال أهل المعاني كل شىء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل قال النبي صلعم انى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتى فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 152
فانهما مستعدان لصعود مدارج القرب والتجليات والمناسب لهذا المعنى ان يقال فى تاويل قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ انا نخلوا بكم خلوة لا يكون يقره من يخلو به هناك مدخل عن أبى ذر عن العقيلي قال قلت يا رسول اللّه أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة قال بلى قلت وما اية ذلك فى خلقه قال يا أبا ذر أ ليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قال بلى قال فانما هو خلق من خلق اللّه واللّه أجل وأعظم رواه أبو داود واحسن قول الشاعر بالفارسية(1/6293)
جهانى مختصر خواهم كه دروى همين جاى من وجاى تو باشد
- .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الأمر ظاهر على تاويل المتأخرين كان المراد بالفراغ التهديد ونحو ذلك فالمعنى انه فلا تكذبا بآلاء ربكما فان التكذيب يوجب التعذيب والمراد بالآلاء كل نعمة بالإنسان وان لم يكن شيئا منها مذكورا فى الآية وقيل التهديد أيضا نعمة يتزجر به المكلف وهذا تكلف.(1/6294)
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى ان قدرتم ان تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من اللّه فارين من قضائه فَانْفُذُوا فاخرجوا امر تعجيز وقيل معناه ان استطعتم ان تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا والمعنى حيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال هذا يوم القيامة أخرج ابن جرير وابن مبارك عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة امر اللّه السماء الدنيا فتشققت باهلها فيكون الملائكة على أرجائها حين يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفوا صفا دون صف فينزل الملك الا على بجنته اليسرى جهنم فإذا راها أهل الأرض ندوا فلا يأتوا قطرا من أقطار الأرض الا وجدوا سبعة صفون من الملائكة فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه وذلك قوله تعالى إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ وقوله تعالى وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وقوله تعالى يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا وقوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها يعنى ما نشقق منها فبينما كذلك إذا سمعوا الصوت فاقبلوا إلى الحساب لا تَنْفُذُونَ أى لا تقدرون على النفوذ والخروج إِلَّا بِسُلْطانٍ ج أى الا بقوة وقهر وانى لكم ذلك أو المعنى الا بسلطان منى فانه لا قدرة لاحد الا مستفادة من اللّه تعالى لا حول ولا قوة الا باللّه كما ان النبي صلعم نفذ ببدنه ليلة المعراج من السموات السبع إلى سدرة المنتهى والصوفي ينفذ من دايرة الإمكان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 153(1/6295)
الى مدارج القرب بحول اللّه وقوته وقيل معناه حيثما توجهتم كنتم فى ملكى وسلطانى أى إلى سلطانى كقوله قد احسن بي أى إلى وروى عن ابن عباس قال معناه ان استطعتم ان تعلموا ما فى السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموا الا بسلطان أى بينة من اللّه عز وجل نصبها.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فان التكذيب يوجب التعذيب وأنتم لا تقدرون على الفرار منه وقيل من آلاء اللّه التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة ومنها ما نصب من المصاعد العقلية والمعارج الثقلية واسباب الترقيات فينفذون لها إلى ما فوق السموات قال البغوي وفى الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون يا معشر الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا الآية فذلك قوله عز وجل.
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ يعنى حين بعثتم من القبور قرأ ابن كثير بكسر الشين والباقون بضمها وهما لغتان وهو اللهب الذي لا دخان فيه كذا قال اكثر المفسرين وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع من النار مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالجر عطفا على النار والباقون بالرفع عطفا على شواظ قال سعيد بن جبير والكلبي والنحاس الدخان وهو رواية عن ابن عباس فمعنى الرفع يرسل شواظ تارة ونحاس اخرى ويجوز ان يرسلا معا من غير ان يمتزج أحدهما الاخرى عن ابن جرير يرسل شواظ من نار وشىء من نحاس وجاز ان يكون نحاس فى محل الرفع مجرورا للجوار حكى؟؟؟ ان الشواظ لا يكون الا من النار والدخان جميعا وقال المجاهد وقتادة النحاس هو الصفر المذاب يصب على رؤسهم وهو رواية العوفى عن ابن عباس وقال ابن مسعود النحاس المهل فَلا تَنْتَصِرانِ أى لا تمنعان من اللّه فلا يكون لكم منه تعالى ناصر حين يسوقكم إلى المعشر.(1/6296)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فان التكذيب يوجب التعذيب وقيل من الالاء التهديد على موجبات العذاب فيجتنب منها والتميز بين المطيع والعاصي بالجزاء.
فَإِذَا انْشَقَّتِ أى انفرجت السَّماءُ فصارت أبوابا لنزول الملائكة الفاء تدل على ان إرسال شواظ من نار يكون قبل انشقاق السماء فهذا الانشقاق ليس للافناء بل لنزول الملائكة بعد البعث من القبور كما ذكرنا فى حديث الضحاك فَكانَتْ عطف على انشقت يعنى كانت السماء حينئذ وَرْدَةً أى كلون الورد الأحمر وقيل كلون الفرس الورد وهو بين الكميت والأشقر كذا فى القاموس وقال البغوي هو الأبيض الذي يضرب الحمرة أو الصفرة قال قتادة السماء اليوم خضر أو يكون لها يومئذ لون اخر إلى الحمرة قيل انها تتلون الوانا يومئذ كلون الفرس الورد يكون فى الربيع اصفر وفى أول الشتاء احمر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 154
فاذا اشتد الشتاء كان اغبر فشبه السماء فى تلونها انشقاقها بهذا الفرس فى تلونه أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال السماء تكون الوانا تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فيكون حالا بعد حال كَالدِّهانِ جمع دهن صفة وردة شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل وشبه الورد فى اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه كذا قال الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع وقال عطاء بن أبى رباح كالدهان كعصر الزيت يتلون فى الساعة الوانا وقال مقاتل كدهن الورد الصافي وقال ابن جريج يطير السماء كدهن الزيت وذلك حين يصيبها حرجهنم وقال الكلبي كالدهان كالادم الأحمر وجمعه ادهنته ودهن وجاز ان يكون خبرا بعد خبر لكانت يغنى كانت السماء متلونة كلون الورد الأحمر وكلون الفرس الورد وكانت مذابة كالدهن وهو اسم لما يدهن به وجواب الشرط محذوف المعنى فما أعظم الهول وجاز ان يكون قوله تعالى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ معترضة بين الشرط والجزاء والجزاء قوله تعالى.(1/6297)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ الضمير راجع إلى قوله إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لتقدمهم رتبة يعنى لا يسالون هل عملتم كذا حتى يدخلهم جهنم بعد السؤال لان اللّه تعالى أعلم بهم منهم والكرام الكاتبون من الملائكة كتبوا عملهم والملائكة العذاب يعرفونهم بسيماهم كما سيجيئ فيما بعد وهذا لا ينافى سوالهم لم عملتم كذا بعد ما نهتكم يدل عليه قوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ كذا قال مجاهد عن ابن عباس ونحو ذلك قال الحسن وقتادة وهو المعنى لما روى عن ابن عباس فى الجمع بين الآيتين حيث قال انه لا يسالون سوال شفعة ورحمة وانما يسالون سوال تقريع وتوبيخ وعن عكرمة عن ابن عباس فى الجمع بين الآيتين ان فى القيامة مواطن يسالون فى بعضها ولا يسالون فى بعضها وقال أبو العالية معناه لا يسال غير المجرم عن ذنب المجرم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ جملة مستانفة كانها فى جواب سائل يقول إذا لا يسئل عن ذنبه انس ولا جان فيم يعرف ملائكة العذاب المجرمين فقال يعرفهم بسيماهم وهى سواد الوجوه وزرقة العيون قال اللّه تعالى يوم تيبض وجوه وتسود وجوه أخرج المختفى؟؟؟ فى الديباج عن ابن عباس مرفوعا أخبرني جبرئيل ان لا اله الا اللّه انس للمسلم عند موته وفى قبره وحين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يقومون من قبورهم هم ينقضون رؤسهم هذا يقول لا اله الا اللّه والحمد للّه فتبيض وجهه وهذا ينادى يا حسرتا على ما فرطت فى جنب اللّه مسودة فى وجوههم وروى أبو يعلى عن ابن عباس فى قوله تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا الآية قال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 155(1/6298)
يعرف يوم القيامة بذلك لا تستطيعون القيام الا كما يقوم المتخبط واخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم وأبو يعلى عن أبى هريرة مرفوعا يبعث اللّه تعالى يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم نارا فقيل من هم يا رسول اللّه قال قال اللّه تعالى الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما انما يأكلون فى بطونهم نارا واخرج البزاز عن أبى هريرة ونحوه عن جابر يحشر المتكبرون يوم القيامة فى صورة الذرو فى الباب أحاديث كثيرة واخرج الاربعة والحاكم عن ابن مسعود مرفوعا من سال وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وفى وجهه كلاوح؟؟؟ وخناوش؟؟؟ وفى الصحيحين نحوه واخرج ابن ماجة عن أبى هريرة مرفوعا من أعان على قتل مومن بشطر كلمة لفى اللّه مكتوبا بين عينيه ايس من رحمة اللّه وروى أبو نعيم عن عمرو البيهقي عن ابنه نحوه واخرج ابن خزيمة وابن حبان وابن عمر يبعث ملقى النخامة فى القبلة يوم القيامة وهو فى وجهه واخرج الطبراني فى الأوسط عن سعد بن وقاص مرفوعا ذو الوجهين فى الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار والطبراني وابن أبى الدنيا عن انس مرفوعا من كان ذا اللسانين جعل اللّه يوم القيامة له لسانين من نار والاربعة والحاكم وابن الحبان عن أبى هريرة مرفوعا من كان عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وفى لفظ ساقط وحديث يحشر أمتي عشرة أفواج صف على صورة القردة الحديث ذكرناه فى تفسير قوله تعالى فتاتون أفواجا فى سورة عم يتساءلون وورد فى الأحاديث الصحاح يحشر الناس حاملين على أعناقهم ما أخذوه بغير حق وفى الصحيحين مرفوعا فى الغلول يجىء يوم القيامة وعلى رقبته بعير الحديث فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ أخرج البيهقي عن ابن عباس هذه الآية قال يجمع بين راسه ورجله ثم يقصف كما يقصف الحطب واخرج هناد عن الضحاك فى الآية قال يجمع بين ناصيته وقدميه فى سلسلة من وراء ظهره.(1/6299)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فان التكذيب بآلاء يفضى إلى ما ذكر من التعذيب.
هذِهِ جَهَنَّمُ مبتداء وخبره الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أى المشركون يكذبونها فى الدنيا الموصول مع الصلة صفة لجهنم والجملة مقولة ليقال المقدر وجملة يقال اما مستانفة أو حال بمعنى انه يوخذ نواصيهم وأقدامهم فى حال يقال لهم هذه جهنم التي كنتم تكذبونها - .
يَطُوفُونَ أى المجرمون بَيْنَها أى جهنم يحرقون فيها وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ بالغ إلى النهاية فى الحرارة يعنى يسعون بين الحميم والجحيم أخرج الترمذي والبيهقي عن أبى الدرداء مرفوعا يلقى على أهل النار الجوع فيستغيثون بالطعام فيتغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع ويغاثون بطعام ذى غصة فيذكرون انهم كانوا يخيرون الغصص فى الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 156
فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت فى بطونهم الحديث وروى احمد والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن أبى سعيد الخدري مرفوعا فى قوله تعالى وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال تعسكر؟؟؟ الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه الحديث وقال كعب الأحبار ان واد من اودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق به فى الاغلال فيغمسون فى ذلك الوادي حتى يتخلع أو صالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا فيلقون فى النار فذلك قوله تعالى ليطوفون بينها وبين حميم ان.(1/6300)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فان التكذيب بآلاء اللّه يوجب التعذيب قيل من قوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ إلى هاهنا مواعظ ومزاجر وتخويف وكل ذلك نعمة من اللّه لانها يزجر من المعاصي والظاهر ان هذا القول تكلف والمراد بالآلاء كل نعمة لواحد منهم من الإيجاد والإبقاء والترزيق والهداية ونحو ذلك أورد اللّه سبحانه التوبيخ بهذه الآية فى هذه السورة احدى وثلثين مرة ثمانى مرة بعد ذكر عجائب الخلقة وبدائع الصنعة على عدد الصفات الثمانية الحقيقية للّه تعالى إلى قوله كل يوم هو فى شان وتنبيها على انه لا ينبغى تكذيب آلاء من هذا شانه فى الخلق والقدرة وسبع مرات عدد أبواب جهنم بعد ذكر الوعيدات من قوله سنفرغ لكم إلى قوله يطوفون بينها وبين حميم ان تنبيها على انه لا ينبغى كفران آلاء قادر فتقم كذلك خوفا من انتقامه وثمانى مرات بعد ذكر نعيم الجنة عدد أبواب الجنة وكذلك ثمان اخر بعد ذكر جنته اخرى تنبيها على انه لا ينبغى كفران آلاء قادر منعم كذلك طمعا فى انعامه واللّه تعالى أعلم أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ فى كتاب العظمة عن عطاء ان أبا بكر الصديق رض فكر ذات يوم فى القيامة والموازين والجنة والنار فقال وددت انى كنت خضرا من هذه الخضر يأتي على بهيمة تأكلني وانى لم اخلق فنزلت.(1/6301)
وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ الآية واخرج ابن أبى حاتم عن ابن سوذب قال نزلت هذه الآية فى أبى بكر الصديق والمقام اما ظرف والمعنى خاف الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب أو موقف القائم عند ربه للحساب وقال قتادة ان المؤمنين خافوا ذلك المقام تعملوا للّه ودانوا بالليل والنهار أو مصدر ميمى والمعنى خاف قيام ربه على أحواله من قام عليه إذا راقبه كما فى قوله تعالى أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أو قيامه عند ربه للحساب فالاضافة إلى الرب للتفخيم والتهويل وقيل لفظ المقام مقحم والمعنى لمن خاف ربه جنتان مبتدا خبره لمن خاف أو فاعل للظرف والجملة الظرفية معطوفة على قوله يرسل عليكما شواظ من نار فانها مع ما يليها بيان الجزاء للشرار وهذه مع ما بعدها بيان الجزاء للخيار وكلتاهما
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 157(1/6302)
بيان لقوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ الذي هو خبر للرحمن قال الضحاك هذا يعنى الانعام بالجنتين لمن راقب اللّه فى السر والعلانية بعلمه ما عرض له من محرم تركه من خشية اللّه تعالى وما عمل من خير افضى به إلى اللّه تعالى لا يحب ان يطلع عليه أحد والآية تحتمل المعنيين أحدهما وهو الظاهران لمجموعهم جنتان قال مقاتل جنته عدن وجنة نعيم وقيل جنة للخائفين من الانس وجنة للخائفين من الجن فان الخطاب للفريقين وثانيهما ان لكل واحد من الخائفين جنتان قال محمد بن على الترمذي جنة لخوفه ربه وجنة لتركه شهوته وقيل جنة بعقيدته واخرى لعمله أو جنة يثاب بها واخرى يتفضل بها عليه وهذا التأويل مستبعد جد ويلزم منه ان يكون عدد الجنات على ضعف عدد الخائفين بل على ضعف ضعفهم لان قوله تعالى ومن دونهما جنتان معطوف على هذه الجملة فيكون لكل واحد ممن خاف مقام ربه اربع جنات وقد ورد فى الأحاديث ان الجنات كلها اربعة عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلعم جنتان من فضة آنيتها وما فيها وجنتان من ذهب آنيتها وما فيها وما بين القوم وان ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن رواه الشيخان فى الصحيحين ورواه البغوي عن عبد اللّه بن قيس عن النبي صلعم وروى احمد والطيالسي والبيهقي عن أبى موسى مرفوعا بلفظ جنات الفردوس اربع جنات من ذهب حليهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليهما وآنيتهما وما فيهما وما بينهم ان ينظروا ربهم الحديث نحوه روى البغوي بسنده عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم من خاف ادلج ومن ادلج بلغ الا ان سلعة اللّه غالية الا ان سلعة اللّه الجنة ورد أيضا بسنده عن أبى الدرداء انه سمع رسول اللّه صلعم يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وان زنى وان سرق يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلعم ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة وان زنى وان سرق يا رسول(1/6303)
اللّه قال وان رغم انف أبى الدرداء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
ذَواتا واصله ذو وللمذكر وذات أصله ذوات للمؤنث وتثنته ذواتا على الأصل ويقال فى الجمع أيضا ذوات تخفيفا ولا يستعمل شيئا منها الا مضافا فانها وضعت ليتوصل بها إلى الوصف بأسماء أجناس وهاهنا صفة للجنتان أَفْنانٍ جمع فنن وهى الغصنة التي يتشعب من فروع الشجر وتخصيصها بالذكر لانها تورق وتثمر وتمد الظل وهو قول مجاهد والكلبي وقال عكرمة ظل الاغصان على الحيطان قال الحسن ذواتا ظلال أو جمع فن والمراد به ألوان الفواكه وانواع الأشجار والثمار من قولهم افنن فلان فى حديثه إذا أخذ فى فنون منه وضروب وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والمروي عن ابن عباس.
فَبِأَيِّ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 158
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ
حيث شاؤا إلى الا عالى والأسافل والجملة صفة لجنتان يعنى فى كل واحدة من الجنة عين يعنى شىء من هذا الجنس لا ان فى كل واحدة منهما أو فى مجموعهما عينان فحسب لا مزيد عليهما وكيف قد قال اللّه تعالى فيها انهار من ماء غير أسن وانهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار من خمر لذة للشاربين وانهار من عسل مصفى فلا بد ان يكون من كل نوع من الأنواع الاربعة أنهارا كثيرة وذكر البغوي عن الحسن قال قال رسول اللّه صلعم اربع عيون فى الجنة عينان تجريان من تحت العرش التي ذكرها اللّه تعالى يفجرونها تفجيرا والاخرى الزنجبيل والأخريان نضاختان من فوق إحداهما التي ذكر سلسبيلا والاخرى التسنيم.(1/6304)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان غريب ومعروف وقيل رطب ويابس والجملة صفة اخرى لجنتان قال البغوي قال ابن عباس ما فى الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة الا وهى فى الجنة حتى الحنظل الا انه حلو كذا أخرج ابن أبى حاتم وابن المنذر عنه واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم فى مسنده وهناد فى الزهد والبيهقي عن ابن عباس قال ليس فى الدنيا مما فى الجنة الا الأسماء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ منصوب على المدح لمن خاف أو حال منه لان فى معنى الجمع بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ط صفة لفرش والإستبرق ما غلظ من الديباج أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن مسعود قال أخبرتم بالبطائن فيكف بالظواهر وذكر البغوي نحوه عنه وعن أبى هريرة واخرج أبو نعيم عن سعيد بن جبير قال ظواهرها من نور جامد وذكر البغوي انه قيل لسعيد بن جبير البطائن من إستبرق فما لظواهر قال هذا كما قال اللّه عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين وذكر البغوي عن ابن عباس قال وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس فى الأرض أحد يعرف ما الظواهر وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ حال من الضمير المستتر فى لمن خاف اسم بمعنى مجنى وهو ما يجتنى من الثمار يعنى ثمارها دانية لا يصعب تناولها واخرج سعيد بن المنصور والبيهقي وهناد عن البراء بن عازب فى قوله تعالى وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قال ان أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا أو مضطجعين على أى حال شاؤا وذكر البغوي عن ابن عباس قال تدنو الشجرة حتى يجتنبها ولى اللّه إنشاء قائما وان شاء قاعدا وذكر عن قتادة انه قال لا ترد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أى فى أماكن الجنة وقصورها التي دلت عليها الجنتان أو فى هذه الالاء المعدودة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 159(1/6305)
من الجنتين والعينين والفواكه والفرش قاصِراتُ الطَّرْفِ أى نساء قصرت أبصارهن على أزواجهن كذا أخرج البيهقي عن مجاهد لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ أى لم يجامع الا نسيان انس ولا الجنيات جن واصل الطمث الدم ومنه يقال للحيض أخرج ابن أبى حاتم والبيهقي من طرق ابن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ قال لم يدمهن يعنى بالجماع جملة لم يطمثهن حال من قاصرات الطرف وهو فاعل للظرف المستقر والجملة الظرفية صفة للجنتان وقال الزجاج وغيره فيه دليل على ان الجن يتغشى كما يتغشى الانس وقال مجاهد إذا جامع الرجل فلم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه قال مقاتل فى قوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان لانهن خلقن فى الجنة فعلى قوله هؤلاء ... من حور الجنة واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال هن نساء أهل الدنيا خلقهن اللّه فى الخلق الاخرى كما قال إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لم يطمثهن حين عدن فى الخلق الاخر انس قبلهم ولا جان وذكر البغوي قول الكلبي نحوه قرأ أبو عمرو عن الكسائي لم يطمثهن بضم الميم وأبو الحارث عنه فى الثاني كذلك قال الداني هذه قراءتى والذي نص عليه أبو الحارث كرواية الدوري وقال البغوي قرأ الكسائي إحداهما بالضم فان كسر الاولى ضم الثانية وو ان ضم الاولى كسر الثانية لما روى أبو اسحق السبيعي قال كنت أصلي خلف اصحاب على رض ...
فاسمعهم يقرؤن لم يطمثهن بالرفع يعنى بالضم وكنت أصلي خلف اصحاب عبد اللّه بن مسعود فاسمعهم يقرؤن بكسر الميم فكان الكسائي يضم إحداهما ويكسر الاخرى لئلا يخرج عن هذين الأثرين وقرأ الجمهور بكسر الميم.(1/6306)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال مرادف للجملة السابقة أخرج البيهقي عن أبى صالح والسدى فى هذه الآية قال بياض اللؤلؤ وصفاء الياقوت والمرجان قال صفاء لهن كصفاء الدر فى الاصداف والذي لا تمسه الأيدي وذكر البغوي عن قتادة قال صفاء الياقوت فى بياض المرجان عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم أول زمرة يلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يتفلون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون وفى رواية لا يسقمون آنيتهم وامشالمهم من الذهب والفضة ومجامرهم من الالوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن ولا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون اللّه بكرة وعشيا متفق عليه واخرج الترمذي وصححه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 160
هو والبيهقي عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلعم أول زمرة تدخل الجنة كالقمر ليلة البدر والزمرة الثانية كاحسن كوكب درى فى السماء لكل امرأ منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقهن من وراء الحلل واخرج الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود قال ان المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر فى الزجاجة البيضاء وذكر البغوي نحوه عن عمر بن ميمون واخرج احمد وابن حيان والبيهقي عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلعم كانهن الياقوت والمرجان قال ينظر إلى وجهها فى خدرها أصفى من المرآة ولان ادنى لؤلؤ عليها لتضىء ما بين المشرق والمغرب وانه يكون عليها سبعون ثوبا ينقدها بصرة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود عن النبي صلعم ان المرأة من أهل الجنة ليرى ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ومخها ان اللّه يقول كانهن الياقوت والمرجان فاما الياقوت فانه حجر لو دخلت فيه سلكا ثم ستصفيته لرايته من ورائه.(1/6307)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ فى العمل فى الدنيا إِلَّا الْإِحْسانُ فى الثواب فى الاخرة روى البغوي بسنده عن انس قال قرأ رسول اللّه صلعم هل جزاء الإحسان الا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم قالوا اللّه ورسوله اعلم قال عليه السلام يقول اللّه عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد الا الجنة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا اله الا اللّه وعمل بما جاء به محمد صلعم الا الجنة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما أى الجنتين المذكورين جَنَّتانِ عطف على جنتان وقوله تعالى لمن خاف مقام ربه جنتان عطف المفرد على المفرد ومن دونهما حال مقدم عليه والمعنى لمن خاف مقام ربه اربع جنات ولم يفعل هكذا ليدل على ان كون الأولين أفضل من الأخريين وجاز ان يكون من دونهما جنتان جملة معطوفة على جملة تقديره ومن دونهما جنتان لاربابهما قال ابن عباس من دونهما فى الدرج وقال ابن زيد من دونهما فى الفضل قال أبو موسى جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين رواه الحاكم والبيهقي عنه واخرج البيهقي عن أبى موسى عن النبي صلعم قال جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من ورق لاصحاب اليمين كذا ذكر البغوي قول ابن جريج واخرج البيهقي عن ابن عباس قال كان عرش اللّه تعالى على الماء ثم اتخذ لنفسه جنة ثم اتخذ فيها اخرى ثم اطبقها بلؤلؤ واحدة قال ومن دونهما جنتان قال البغوي وقال الكسائي من دونهما أى امامهما وقبلهما يدل عليه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 161
قول الضحاك الجنتان من ذهب والأخريان من ياقوت.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
مُدْهامَّتانِ أى خضرا وان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة فيه اشعار بان الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على الأرض وعلى الأولين الأشجار والفواكه دلالة على ما بينهما من التفاوت.(1/6308)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أى فوارتان بالماء وهو أيضا اقل مما وصف به الأولين لأنه ذكر هناك تجريان يعنى من فوق من العرش وهاهنا نضاختان من تحت أخرج ابن أبى حاتم عن البراء بن عازب قال عينان تجريان هما خير من نضاختان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ قال بعضهم ليس النخل والرمان من الفاكهة فان العطف يدل على المغايرة والفاكهة ما يقصد منها التفكه لا غير وثمرة النخل غذاء وثمر الرمان دواع ولهذا قال أبو حنيفة من حلف لا يأكل فاكهة فاكل رطبا أو رمانا لا يحنث وقال أكثرهم هما من الفاكهة وانما عطف تخصيصها بعد تعميم لمزيد فضلها كما عطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال نخل الجنة جذوعها زمرد اخضر ورقها ذهب احمر سعفها كسوة لاهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم واخرج ابن أبى الدنيا عن ابن عباس قال ان التمر من ثمر الجنة طولها اثنى عشر ذراعا ليس لها عجم واخرج أيضا عنه قال الرمانة من رمان الجنة يجتمع حولها بشر كثير يأكلون منها فإذا جرى على ذكر أحدهم شىء يريده وجده فى موضع يره حيث يأكل واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلعم قال نظرت الجنة فإذا الرمانة من رمانها مثل البعير المقتب.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ ج أى خيرات بالتشديد فخففت لان خير الذي بمعنى أخير لا يجمع والجملة صفة اخرى لجنتان أى فى أماكنها وقصورها قال البغوي روى الحسن عن أبيه عن أم سلمة قال قلت يا رسول اللّه أخبرني عن قوله تعالى خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه رواه الطبراني واخرج ابن المبارك عن الأوزاعي قال خيرات بذيات اللسان ولا يعزن ولا يوذين.(1/6309)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
حُورٌ وحوراء بالتحريك ان تشتد بياض العين وسواد سوادها وتشتد سود حدقتها و
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 162
و برق جفونها ويبيض ما حولها الا شدة بياضها وسوادها فى شدة بياض الجسد أو اسود أو العين كلها مثل الظباء ولا يكون فى بنى آدم بل يستعار لها كذا فى القاموس أخرج البيهقي عن أم سلمة قال قلت يا رسول اللّه أخبرني من قول اللّه تعالى حور عين قال بياض اضخام شعر العين بمنزلة الحوراء جناح النسر واخرج ابن أبى الدنيا عن ابن عمر قال لشفرات من حور العين أطول من جناح النسر واخرج الطبراني عن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلعم خلق الحور العين من الزعفران واخرج البيهقي مثله عن انس مرفوعا وعن ابن عباس ومجاهد موقوفا واخرج ابن المبارك عن زيد بن اسلم قال ان اللّه تبارك تعالى لا يخلق الحور العين من تراب انما خلقهن من مسك وكافور وزعفران واخرج ابن أبى الدنيا عن انس قال قال رسول اللّه صلعم لو ان حورا بزقت فى بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها واخرج عن ابن عباس قال ان امرأة من نساء أهل الجنة لو بصقت فى سبعة أبحر لكانت تلك الأبحر كلها احلى من العسل وعن انس عن النبي صلعم لقاب قوس أحدكم فى الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو ان امراة من نساء الجنة اطلعت إلى الأرض لاضاءت ما بينها ولملات ما بينها ريحا ولنصيفها على راسها خير من الدنيا وما فيها رواه البخاري واخرج ابن أبى الدنيا عن كعب لو ان يدا؟؟؟ من الحور دليت من السماء لاضاءت بها الأرض كما يضىء الشمس لاهل الدنيا مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ج يعنى محبوسات مستورات فى الحجال قال البغوي قصرن طرفهن وانفسهن على أزواجهن فلا تبغين بهم بدلا وروى البيهقي عن مجاهد فى هذه الآية قال محبوسات لا يبرحنه والخيمة لؤلؤة وقضة واخرج البيهقي عن انس قال قال رسول اللّه صلعم لما اسرى بي دخلت الجنة موضعا يسمى البيدح عليه(1/6310)
خيام اللؤلؤ والزبرجد الأصفر والياقوت الأحمر فقلن السلام عليك يا رسول اللّه قلت يا جبرئيل ما هذا النداء قال هؤلاء المقصورات فى الخيام استاذن ربهن فى السلام عليك فاذن لهن فطفقن يقلن نحن الراضيات فلا نسخط ابدا ونحن الخالدات فلا نظعن ابدا وقرأ رسول اللّه صلعم حور مقصورات فى الخيام والخيام جمع خيمة روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن قيس ان رسول اللّه صلعم قال ان فى الجنة خيمة من لؤلؤ مجوفه عرضها ستون ميلا فى كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون وفى الصحيحين نحوه عن أبى موسى الأشعري مرفوعا واخرج ابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن عباس قال الخيمة درة مجوفة فرسخ فى فرسخ لها اربعة آلاف مضارع من ذهب واخرج ابن جرير
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 163
و ابن أبى حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلعم الخيام درة مجوفة واخرج مثله عن عمر موقوفا وابن جرير مثله عن أبى مجلز مرسلا وقال ابن أبى حاتم عن أبى الدرداء قال الخيمة لؤلؤة فيها سبعون بابا من در واخرج هناد عن عمر بن ميمون قال الخيمة در مجوفة ومثله عن مجاهد وابن احوص واخرج ابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا عن ابن مسور لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة اربعة أبواب ندخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم يكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ولا بخرات ولا دفرات حور عين كانهن بيض مكنون.(1/6311)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ يعنى قبل اصحاب الجنتين دل عليهم ذكر الجنتين وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (فائدة) نساء الدنيا خير من الحور العين لحديث أخرج البيهقي عن أم سلمة قالت قلت يا رسول اللّه نساء الدنيا أفضل أم حور العين قال نساء الدنيا أفضل من حور العين كفضل الظهارة على البطانة قلت وبم ذلك قال بصلوتهن وصيامهن البس اللّه وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وامشاطهن الذهب يقلن الا نحن الخالدات فلا نموت ابدا الا نحن الناعمات فلا نبأس ابدا الا نحن المقيمات فلا نطقن ابدا ونحن الراضيات فلا نسخط ابدا طوبى لمن كنا له وكان لنا قلت يا رسول اللّه المرأة تزوج الزوجين والثلاثة والاربعة فى الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها منهم قال انها تخير فتختار أحسنهم خلقا فى دار الدنيا فزوجته إياه فقالت أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والاخرة واخرج هناد عن حيان بن جبلة قال ان نساء أهل الجنة إذا دخلن الجنة فضلن على الحور العين بأعمالهم فى الدنيا - .(1/6312)
مُتَّكِئِينَ حال من قوله ولمن خاف مقام ربه والمعنى لمن خاف مقام ربه جنتان كذا حال كونهم متكئين فيها على كذا لهم من دون هاتين الجنتين جنتان أخريان كذا حال كونهم متكئين على كذا أو حال من أربابهما المقدر يعنى حال كون أربابهما متكئين عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ فى القاموس الرفرف ثياب خضر يتخذ منها المجالس وبسط وفضول المجالس الفرش والوسادة وفى الصحاح ضرب من الثياب شبه بالرياض وقيل طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الاطناب والأوتاد واخرج البيهقي من طريق أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى رفرف خضر قال المجالس واخرج هناد والبيهقي عن سعيد بن جبير قال رياض الجنة قال البغوي قيل الرفرف البسط وهو قول الحسن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 164
و مقاتل والقرطبي روى العوفى عن ابن عباس قال الرفرف فضول المجالس والبسط وقال قتادة هو مجالس خضر فوق الفرش وقال ابن كيسان هى المرافق وقال ابن عيينة الزرابي وقال غيره كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ج عطف على خضر فى القاموس عبقر موضع كثير الجن وثيابها غاية الحسن ولا والعبقري الكامل من كل شىء والسيد والذي ليس فوقه شىء والشديد وضرب من البسط وقال البيضاوي منسوب إلى عبقر يزعم العرب انه اسم بلد الجن فينسيون إليه كل شىء عجيب والمراد به الجنس ولذلك جمع حسان حملا على المعنى وكذا ذكر فى الصحاح واخرج البيهقي عن ابن عباس عبقرى حسان قال الزرابي قال القتيبي كل ثوب موشى عند العرب عبقرى وقال أبو عبيدة هو منسوب إلى الأرض يعمل بها الوشي قال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبقرى ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم فى عمر رض فلم ار عبقر يا يفرى فريه.(1/6313)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قرأ ابن عامر ذو الجلال بالواو اجراء على الاسم والباقون بالياء والمعنى انه تعالى اسمه من حيث انه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته وقيل الاسم بمعنى الصفة أو مقحم روى البغوي بسنده عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلعم إذا اسلم من الصلاة لم يقعد الا مقدار ما يقول اللّهم أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذى الجلال والإكرام وروى مسلم ايضا.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 165
سورة الواقعة
مكيّة وهى ست وتسعون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يعنى إذا حدثت القيامة سماها واقعة لتحقق وقوعها متعلق بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت.
لَيْسَ لِوَقْعَتِها اللام فيه للتوقيت كما فى قوله تعالى قدمت لحيوتى يعنى ليس وقت وقوعها كاذِبَةٌ من نفس كاذبة تكذب على اللّه أو تكذب فى نفيها كما تكذب الان وجاز ان يكون اللام للاجل أى ليس لاجل وقعتها نفس كاذبة فان من اخبر عنها صدق أو ليس لها نفس تحدث صاحبها باطاقة شدتها واحتمالها من قولهم كذبت فلانا نفسه فى الخطب العظيم إذا اشجعته عليه وسولت انه يطيقه وجاز ان يكون كاذبة مصدرا كالعافية والنازلة واللاغية قال اللّه تعالى لا يسمع فيها لاغية أى لغوا والمعنى ليس لمجيئها كذب يعنى انها تقع صدقا وحقا.
خافِضَةٌ لاعداء اللّه الذين استكبروا فى الدنيا وعتوا عتوّا كبيرا رافِعَةٌ لاولياءه الذين تواضعوا للّه والاسناد مجازى إلى الزمان يعنى يوجد فيها خفض أقوام ورفع آخرين صفتان للواقعة بعد توصيفها لجملة ليس لوقعتها كاذبة على طريقه ولقد امر على اللئيم يسبنى.
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أى حركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.(1/6314)
وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أى سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها كذا قال الكلبي والحسن وابن كيسان أو المعنى فتت فتا حتى صارت كالسويق المبسوس وهو الملتوت كذا قال عطاء ومقاتل.
فَكانَتْ الجبال هَباءً أى غبارا يرى فى شعاع إذا دخل الكوة مُنْبَثًّا متفرقا.
وَكُنْتُمْ يا أمة محمد صلعم لان الخطاب معهم أَزْواجاً أصنافا كل صنف يكون أو يذكر مع صنف اخر زوج ثَلاثَةً ط الجمل الثلث معطوف على رجت ثم فسر الأصناف الثلاثة فقال.
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مبتداء يعنى الذين يوخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وقال ابن عباس هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه وقال اللّه لهم هؤلاء فى الجنة ولا أبالي وقال الضحاك هم الذين يعطون كتبهم بايمانهم فالميمنة على هذه الأقوال من اليمين ضد اليسار وقال الربيع والحسن هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم وكانت أعمارهم فى طاعة اللّه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 166
فاليمين على هذا من اليمن ضد الشوم ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ط استفهام للتعجب من عظمة شانهم عند اللّه وكمال يمنهم مبتداء وخبر والجملة خبر لما قبلة العائد المظهر موضع الضمير يعنى ما هم.
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ يعنى اصحب الشمال والعرب يسمى اليد اليسرى الشؤمي ومنه يسمى الشام واليمن لان اليمن عن يمين الكعبة والشام عن يساره وهم الذين يوخذ بهم ذات الشمال إلى النار أو كانوا على شمال آدم عند إخراج ذرية وقال اللّه تعالى لهم هولاء للنار ولا أبالي أو الذين يعطون كتبهم بشمائلها أو الشائم على أنفسهم وكانت أعمارهم فى المعاصي على اختلاف الأقوال ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ط نحو ما ذكر.(1/6315)
وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ إلى الإسلام والطاعة ومراتب القرب إلى اللّه تعالى وهم الأنبياء عليهم السلام فانهم مقدموا أهل الأديان إلى الايمان والطاعات والأمم تبع لهم ومن لحق هم من الأمم بكمال متابعتهم واكتسابهم كمالات النبوة بالتبعية والوراثة وتشرفهم بالتجليات الذاتية الصرفة الداعية وهم الصحابة رض وبعض التابعين لهم بإحسان ومن ثم قال ابن عباس السابقون إلى الهجرة هم السابقون فى الاخرة وقال عكرمة قال السابقون الأولون إلى الإسلام يعنى الصحابة وقال ابن سيرين هم الذين صلوا إلى قبلتين من المهاجرين والأنصار وقال الربيع بن انس السابقون إلى اجابة الرسول فى الدنيا هم السابقون إلى الجنة وقال على كرم اللّه وجهه السابقون إلى الصلوات الخمس فان مال الأقوال كلها انهم هم الصحابة قال على رض
سبقتكم إلى الإسلام طراء غلاما ما بلغت أوان حلمى
قال المجدد رح الصحابة رض كلهم كانوا مستغرقين فى كمالات النبوة ومن التابعين أكثرهم ومن اتباع التابعين أقلهم ثم انطمس أنوار النبوة واختفى اثارها وظهر كمالات الولاية واستعلى أنوارها السكر والشطح وكثرة الخوارق المستفادة من التجليات الصفاتية والظلية حتى إذا مضى بعد الهجرة الف سنة تدارك رحمة اللّه الواسعة أفاض كمالات النبوة بمقتضى طينة النبي صلعم على بعض اتباعه حتى اشتبه اخر الامة باولها فقال النبي صلعم مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى اوله خير أم آخره رواه الترمذي عن انس وروى رزين عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر عن جده قال قال رسول اللّه صلعم ابشروا ابشروا انما مثل أمتي مثل الغيث لا يدرى آخره خير أم اوله أو كحديقة اطعم منها فوج عاما ثم اطعم منها فوج عاما لعل آخرها فوجا ان يكون اعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا وعن الدرداء عن النبي صلعم قال خير أمتي أولها وآخرها وفى أوسطها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 167(1/6316)
الكدر رواه الحكيم الترمذي السابقون خير لما تقدم اللام فيما تقدم للجنس وهاهنا للعهد الذهني كما يقال صديقى زيد والمعنى السابقون هم الذين عرفت حالهم وكمالهم ومالهم كقول الشاعر انا أبو النجم وشعرى شعرى أو المعنى هم السابقون إلى الجنة.
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ج إلى اللّه تعالى جملة مستانفة فى جواب ما شانهم وجاز ان يكون السابقون الأول مبتداء والسابقون الثاني تأكيد له وهذه الجملة خبر.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بقوله المقربون وجاز ان يكون ظرفا مستقرا خبر لاولئك أو خبر بعد خبر لقوله السابقون.
ثُلَّةٌ خبر مبتداء محذوف هم ثلة أى كثير مِنَ الْأَوَّلِينَ يعنى من الصدر الأول من هذه الامة وهم القرون الثلاثة الصحابة والتابعين واتباعهم قال رسول اللّه صلعم خيرا متى قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم ان بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخوفون ولا يأتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم من حصين السمن متفق عليه من حديث عمران بن حصين وكذا روى مسلم عن أبى هريرة وكذا روى النسائي عن عمر رض وعند الترمذي والحاكم عن عمران بلفظ خير الناس قرنى الحديث وفى الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا بلفظ خير الناس وروى مسلم نحوه عن عائشة والطبراني والحاكم عن جعدة بن هبيرة فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري مرفوعا لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.(1/6317)
وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ط وهم ارباب كمال النبوة الذين وجدوا بعد الف سنة كما ذكرنا من قبل وقال اكثر المفسرين ثلة من الأولين يعنى من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلعم وقليل من الآخرين يعنى من أمة محمد صلعم قال الزجاج الذين عاينوا جميع النبيين من لدن آدم وصدقوهم اكثر ممن عاينوا النبي صلعم قلت وهذا التأويل بعيد جدا لاستلزامه كون الأمم السابقة اقرب إلى اللّه تعالى وأفضل من هذه الامة فان فضل الامة بكثرة الأفاضل وهذا لايتان قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله تعالى تكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقوله عليه الصلاة والسلام أنتم تنمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال الترمذي حديث حسن وروى احمد والبزاز والطبراني بسند صحيح عن جابر انه سمع النبي صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم يقول انى لارجو ان يكون من تبعني ربع أهل الجنة فكبرنا ثم قال أرجو ان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 168
يكون ثلث الناس فكبرنا ثم قال أرجو ان يكون الشطر وروى البخاري عن ابن مسعود مرفوعا أ ترضون ان تكونوا ربع أهل الجنة قلنا نعم قال والذي نفسى بيده انى لارجو ان تكونوا نصف أهل الجنة وروى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي عن بريدة قال قال رسول اللّه صلعم أهل الجنة عشرون ومائة صفا ثمانون منها من هذه الامة وأربعون من ساير الأمم واخرج الطبراني من حديث أبى موسى وابن عباس ومعوية ابن جيدة وابن مسعود نحوه.
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ خبر اخر للضمير المحذوف والوضن نسج الدرع ويستعار لكل نسج محكم أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي من طريق مجاهد عن ابن عباس فى هذه الآية قال موضونة بالذهب قال المفسرون هى موصولة منسوجة بالذهب والجواهر وقال الضحاك موضونة مصفوفة.(1/6318)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ حالان من الضمير فى على أخرج هناد عن مجاهد فى قوله متقابلين قال لا يرى بعضهم قفا بعض وكذا قال البغوي وصفهم اللّه سبحانه بحسن العشيرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة وِلْدانٌ قيل غلمان ممن ينشأ للخدمة الجملة حال اخر من الضمير مُخَلَّدُونَ أى لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون يبقون ابدا على شكل الولدان قال القراء يقول العرب لمن كبر ولمن شمط انه مخلد وقال ابن كيسان يعنى ولدانا لا يحولون من حالة إلى حالة وقال سعيد بن جبير مقرطون يقال خلد جارية إذا خلاها بالخلد وهو القرط وقال الحسن هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيات فيعاقبوا عليها فهم خدم أهل الجنة أخرج ابن المبارك وهناد والبيهقي عن ابن عمر قال ان ادنى أهل الجنة منزلا من يسعى عليه الف خادم على عمل ليس عليه صاحبه واخرج ابن أبى الدنيا عن انس مرفوعا ان أسفل أهل الجنة أجمعين من يقوم على راسه عشرة آلاف خادم وعن أبى هريرة ان ادنى أهل الجنة منزلة وليس فيها دنى من يغدو ويروح عليه خمس آلاف خادم ليس منهم خادم الا ومعه ظرف ليس مع صاحبه.
بِأَكْوابٍ الجار والمجرور مع ما عطف عليه متعلق بيطوف والأكواب جمع كوب وهى الأقداح المستديرة الأفواه لا اذن لها ولا عرى كذا أخرج هناد عن مجاهد واخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس الأكواب الجرار من الفضة وَأَبارِيقَ وهى الأقداح ذات الخراطيم سميت أباريق لبروق لونها فى الصفاء وَكَأْسٍ أى قدح فيه شراب وما لا شراب فيه فليس بكأس مِنْ مَعِينٍ خمر جارية من منبع لا ينقطع ابدا.
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 169(1/6319)
اى لا يصدع روسهم من شربها كما يصدع من شرب خمر الدنيا الجملة مع ما عطف عليه صفة كاس وَلا يُنْزِفُونَ قرأ الكوفيون بكسر الزاء من الافعال والباقون بفتحها فى القاموس نزف كعنى ذهب عقله أو سكر ومنه ولا ينزفون وفى الصحاح انزف القوم ينزف ماء بيرهم يعنى نزحه كله وانزف الشيء ابلغ من نزفه فمعنى قرائة الكوفيين لا ينفذ شرابهم ومعنى قراءة غيرهم لا يذهب عقولهم.
وَفاكِهَةٍ عطف على كاس مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أى يختارون ما يشتهون.(1/6320)
وَ لَحْمِ طَيْرٍ عطف على فاكهة مِمَّا يَشْتَهُونَ قال البغوي قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى أخرج البزار وابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلعم انك لتنظر إلى الطير فى الجنة فتشتهيه فتخير بين يديك مشويا واخرج ابن أبى الدنيا عن أبى امامة ان الرجل من أهل الجنة ليشتهى الطير فى الجنة فيخر مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولا تمسه نار فياكل منه حتى يشبع ثم يطير واخرج البيهقي عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلعم ان فى الجنة طيرا أمثال البخت قال أبو بكر انها لناعمة يا رسول اللّه قال أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر واخرج احمد والترمذي مثله من حديث انس واخرج هناد عن الحسن قال قال رسول اللّه صلعم ان فى الجنة طير كامثال البخت يأتي الر جل فياكل منها ثم يذهب كان لم ينقص منها شىء واخرج هناد وابن أبى الدنيا بسند حسن عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلعم ان فى الجنة لطيرا فيه سبعون الف ريشا فيحبى فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتغض فيخرج من كل ريشة لون ابيض من الثلج وألين من الزيد واحلى من العسل ليس فيه لون يشبه صاحبه ثم يطير ويذهب واخرج هناد عن مغيث بن سمى قال طوبى شجرة فى الجنة ليس فى الجنة دار الا يظلهم غصن من أغصانها فيه ألوان الثمرة ويقع عليها طير أمثال البخت فإذا تمنى الرجل طير ادعاه فيقع على خوانه فياكل من أحد جانبيه شواء والاخر قديدا ثم يعود طايرا يطير فتذهب.(1/6321)
وَ حُورٌ جمع حوراء عِينٌ جمع عيناء قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي بالجر عطفا على جنات بتقدير مضاف أى هم فى جنات ومضاجعة حور عين أو على أكواب لان معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب وبحور عين والباقون بالرفع على انه مبتداء محذوف الخبر أى فيها حور عين أولهم حور عين كذا قال الأخفش أو معطوف على ولدان أى يطوف عليهم حور عين أخرج مجاهد قال الحور التي يجاور فيه الطرف باد مخ ساقها من
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 170
وراء ثيابها واخرج فى حور عين قال سواد الحدقة عظم العين واخرج البيهقي عن أم سلمة قالت قلت أخبرني يا رسول اللّه عن قوله تعالى حور عين قال بيض ضخام شعر العيون بمنزلة الحور اجناح النسر قالت أخبرني يا رسول اللّه عن قوله تعالى.
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ قال رسول اللّه صلعم صفاءهن كصفاء الدر الذي فى الاصداف لم تسمه الأيدي وقوله كامثال اللؤلؤ صفة بعد صفة لحور الْمَكْنُونِ المخزون فى الصدف لم تمسه الأيدي قال البغوي يروى انه سطع نور فى الجنة قالوا ضوء ثغر حوراء ضحكت فى وجه زوجها ويروى ان الحور إذا مشت سمعت تقديس الخلاخيل من ساقها وتمجيد الا سورة من ساعديها وان عقد الياقوت يضحك من نحرها وفى رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ منصوب على المصدرية بفعل محذوف أى يجزون جزاء أو على العلية أى يفعل ذلك بهم جزاء لاعمالهم.
لا يَسْمَعُونَ فِيها أى فى الجنة حال اخر من الضمير فى على لَغْواً أى باطلا كذا أخرج البيهقي عن ابن عباس واخرج هناد عن الضحاك انه قال هزلا وَلا تَأْثِيماً أى نسبة إلى الإثم يعنى لا يقال لهم أثمتم وسىء ما صنعتم واخرج البيهقي عن ابن عباس وهناد عن الضحاك انه الكذب.(1/6322)
إِلَّا استثناء منقطع قِيلًا أى قولا سَلاماً سَلاماً ذا سلامة منصوبة على البدلية على فشوا السلام بينهم أخرج احمد والبزاز وابن حبان عن ابن عمر عن رسول اللّه صلعم قال أول من يدخل الجنة من خلق اللّه فقراء المهاجرين الذين تستربهم الثغور وتنفى بهم المكاره ويموت وحاجة فى صدره لا يستطيع بها قضاء فيقول اللّه تعالى لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتامرنا ان ناتى هؤلاء وتسلم عليهم قال انهم كانوا عبادا يعبدوننى ولا يشركون بي شيئا وتستربهم الثغور وينفى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجة فى صدره ولا يستطيع بها قضاء قال فياتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار أخرج سعيد بن منصور فى سننه والبيهقي فى البعث عن العطاء ومجاهد قال لما سال أهل الطائف الوادي يحمى لهم عسل ففعل وهو واد معجب فسمعوا الناس يقولون فى الجنة كذا وكذا قالوا يا ليت لنافى الجنة مثل هذا الوادي فانزل اللّه تعالى.
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما اصحاب اليمين فى سدر مخضود الآيات واخرج البيهقي من وجه اخر عن مجاهد قال كانوا يعجبون بوجّ ظلاله من طلح وسدر فانزل اللّه واصحاب اليمين ما اصحاب اليمين فى سدر مخضود وطلح منضود
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 171
و ظل ممدود واصحاب اليمين هم اصحاب القلوب الصافية والنفوس المطمئنة اولياء اللّه المتقون ويلحق بهم فى الاخرة عصاة المؤمنين اما بعد مغفرة ذنوبهم بفضل اللّه تعالى وشفاعة الأنبياء والصلحاء واما بعد تعذيبهم بالنار وتخليصهم من الذنوب يلتحقون بالمتقين الصالحين فان جهنم يخلص المؤمنين وينفى عنه خبث ذنوبه ورزائله كما ينفى الكبر خبث الحديد ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ط أى عظيم شانهم عند اللّه الجملة خبر مبتداء بتأويل يقال فى شانهم ما اصحاب اليمين أو جملة معترضة للتعجب والتفخيم.(1/6323)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خبر المبتدا أو خبر بعد خبر أى مقطوع شوكه أو مثنى أغصانه من كثرة الحمل فى القاموس خضد الشجر قطع شوكه ويقال خضد الغصن إذا ثناة وهو رطب أخرج البيهقي عن أبى امامة قال سال أعرابي يا رسول اللّه لقد ذكر اللّه فى القرآن شجرة يوذى صاحبها فقال رسول اللّه صلعم وما هى قال السدر فان لها شوكا فقال رسول اللّه صلعم يقول اللّه تعالى فى سدر مخضود ويخضد اللّه شوكها فيجعل مكان كل شوكة ثمرة انها تنبت ثمر اثم تفتق لثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما منها لون يشبه الاخر واخرج الطبراني مثله من حديث عتبة بن عبد واخرج البيهقي عن مجاهد فى قوله تعالى مخضود قال موفر حملا وطلح منضود الموز المتراكم.
وَطَلْحٍ قال القراء وأبو عبيدة الطلح عند العرب شجر عظام لها شوك وفى القاموس شجر عظام والموز وفى الصحاح شجر الواحد طلحة وفى البيضاوي موزاوام غيلان قال البغوي روى خالد عن الحسن قال قرأ رجل عند على رض عنه وطلح منضود قال وما شان الطلح انما هو وطلع منضود ثم قرأ طلعها هضيم قلت انها فى المصحف بالحاء أ فلا تحولها فقال ان القرآن لا يحاج اليوم ولا يحول مَنْضُودٍ يعنى متراكم بثمره بعضها على بعض أخرج ابن المبارك وهناد والبيهقي عن مسروق قال نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها اخرى والعنقود اثنا عشر ذراعا وذكر البغوي قول مسروق بلفظ أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها ثمر كله فى القاموس نضيد متاعه ان جعل بعضه فوق بعض وفى الصحاح النضيد السرير الذي ينضد عليه المتاع ومنه استعير طلح نضيد.(1/6324)
وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ ممتد منبسطة كظل قبل طلوع الشمس من الصبح أو دائم لا ينسخه الشمس والعرب يقول للشىء الذي لا ينقطع ممدودا وفى الصحيحين عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلعم قال ان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها ماية عام لا يقطعها اقرأوا ان شيئتم وظل ممدود وأخرجه احمد وزاد فى آخره وان ورقها ليحمر الجنة واخرج هناد بن سرى فى الزهد وزاد
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 172
فى آخره فبلغ ذلك كعبا فقال والذي انزل التوراة على موسى والقران على محمد لو ان رجلا راكبا على حقة أو جذعة ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغه حتى يسقط هرما ان اللّه غرسها بيده وان أفنانها من وراء سدر الجنة وما فى الجنة نهر الا وهو يخرج من اصل تلك الشجرة قال البغوي وروى عكرمة عن ابن عباس فى قوله تعالى وظل ممدود وقال شجرة فى الجنة على ساق العرش يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون فى أصلها ويشتهى بعضهم لهو الدنيا فيرسل اللّه عز وجل عليها ريحا من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو فى الدنيا.
وَماءٍ مَسْكُوبٍ أى منصب يجرى دايما من غير أخدود كأنَّه لما شبه حال السابقين المقربين فى التنعيم بأعلى ما يتصور لاهل المدن شبه حال اصحاب اليمين أكمل ما يتمناه أهل البوادي اشعارا بالتفاوت بين الحالين.
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ الأجناس.
لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ قال البغوي قال ابن عباس لا تنقطع إذا جنيت ولا تمنع من أحد أراد أخذها ويؤيده حديث ثوبان انه سمع رسول اللّه صلعم يقول لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها الا أعيد مكانها مثلها رواه البزاز والطبراني وذكر البغوي الحديث بلفظه ما قطعت من ثمار الجنة الا أبدل اللّه مكانها ضعفين وقال بعضهم لا مقطوعة بالا زمان ولا ممنوعة بالأثمان كما ينقطع اكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء ولا يتوصل إليها الا بثمن.(1/6325)
وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ط قال البغوي قال على رض وفرش مرفوعة على اسرة وقال جماعة المفسرين مرفوعة عالية أخرج احمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والبيهقي وابن أبى الدنيا عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلعم فى هذه الآية قال ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض ولفظ الترمذي ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيره ما بينهما خمس مائة عام وذكر البغوي نحوه عن أبى هريرة وقال الترمذي قال بعض أهل العلم فى تفسيره معناه ان تفاوت الفراشين فى الدرجات كما بين السماء والأرض واخرج ابن أبى الدنيا عن أبى امامة فى هذه الآية قال لو ان أعلاها سقط ما بلغ أسفلها أربعين خريفا واخرج الطبراني عنه مرفوعا لو طرح منها فراش من أعلاها لهوى إلى قرارها ماية خريف وقيل أراد بالفرش النساء والعرب تسمى المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة مرفوعة رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا أو ارتفاعهن على الأرائك يدل عليه قوله تعالى فى عقبه.
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ الضمير عايد إلى الفرش ان المراد به النساء والا فالى غير مذكور معلوم للسامع إِنْشاءً يعنى خلقناهن جديدا اما ابتداء من غير ولادة واما إعادة قال البغوي قال ابن عباس
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 173
يعنى الآدميات العجوز الشمط يقول خلقناهن بعد الهرم خلقا اخر.(1/6326)
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى ولا وجع واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي واخرج الترمذي والبيهقي عن انس عن النبي صلعم انا أنشأناهن إنشاء قال عجايز كن فى الدنيا شمطاء رمصاء واخرج ابن جرير والبيهقي عن مسلمة بن يزيد سمعت النبي صلعم يقول انا أنشأناهن إنشاء قال الشيب والابكار التي كن فى الدنيا أخرج البيهقي وابن المنذر عن الحسن قال قال رسول اللّه صلعم لا يدخل الجنة عجوز فبكت عجوز فقال رسول اللّه صلعم اخبروها انها ليست يومئذ بعجوز انها يومئذ شابة إنشاء اللّه تعالى ان اللّه تعالى يقول انا أنشأناهن إنشاء واخرج البيهقي عن عائشة قالت دخل النبي صلعم على وعندى عجوز فقال من هذه قلت احدى خالتى قال اما انه لا تدخل الجنة عجوز فدخل العجوز من ذلك ما شاء اللّه فقال رسول اللّه صلعم قال اللّه تعالى انا أنشأنا خلقا أخر وروى الطبراني فى الأوسط من وجه اخر عنها ان النبي صلعم أتته عجوز فقالت يا رسول اللّه ادع اللّه ان يدخلنى الجنة فقال ان الجنة لا يدخلها عجوز فذهب فصلى ثم رجع فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال ان ذلك كذلك إنشاء اللّه إذا أراد ادخالهن الجنة حولهن أبكارا وقال مقاتل وغيره هن الحور العين أنشأهن اللّه لم يقع عليهن ولادة فجعلناهن أبكارا عذارى وليس وجع هناك.(1/6327)
عُرُباً قرأ حمزة واسمعيل عن نافع وأبو بكر بإسكان الراء والباقون بضمها وهى جمع عروب أى عواشق لازواجهن متحببات إليهم أخرج ابن أبى حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلعم عربا قال كلامهن عربى أَتْراباً مستويات فى السن فى حديث أم سلمة عند البيهقي قالت قلت يا رسول اللّه عربا قال اترابا قالهن اللواتى قبضهن اللّه عجايز فى الدنيا ومصاء شمطاء خلقهن اللّه بعد الكبر فجعلهن عذارى قال عربا معشقا محببات اترابا على ميلاد واحد فان كلهن بنات ثلث وثلاثين وكذا أزواجهن وعن أبى هريرة رض عن النبي صلعم قال يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعدا أبناء ثلث وثلثين وهم على خلق آدم طوله ستون ذراعا فى عرضة سبعة اذرع رواه احمد والطبراني فى الأوسط وابن أبى الدنيا والبغوي بسند حسن وعن أبى سعيد عن رسول اللّه صلعم من مات من أهل الدنيا من صغير أو كبير يردد بين ثلث وثلثين سنة فى الجنة لا يزيدون ابدا وكذلك أهل النار رواه الترمذي وأبو يعلى وابن أبى الدنيا وعن معاذ بن جبل ان النبي صلعم قال يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بنى ثلث وثلثين
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 174
سنة وعن انس قال قال رسول اللّه صلعم يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستون ذراعا بذراع الملك وعلى حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى وثلث وثلثين سنة وعلى لسان محمد جردا مردا مكحلين رواه الطبراني فى الأوسط بسند جيد وعن المقداد بن الأسود مرفوعا يحشر الناس ما بين السقط وبين الشيخ الفاني أبناء ثلث وثلثين وخلق آدم وحسن يوسف وقلب أيوب وذى أفانين رواه الطبراني.
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ع متعلق بانشانا أو جعلنا أو صفة لابكارا وخبر لمحذوف اعنى هن.(1/6328)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ط خبر محذوف أى هم كثيرون من الأولين من هذه الامة وكثيرون من الآخرين منهم كذا قال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبى رباح والضحاك روى البغوي بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى هذه الآية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال قال رسول اللّه صلعم هما جميعا من أمتي واخرج مسدد فى مسنده والطبراني وابن مردوية من حديث أبى بكرة عن النبي صلعم فى قوله ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال هما جميعا من أمتي لكن قال الدارقطني فى علله هذا حديث أبى بكرة لم يثبت فمقتضى هذه الآية على هذا التأويل ان أمة محمد صلعم لن يخلو عن اصحاب اليمين كما روى الشيخان فى الصحيحين عن معاوية قال سمعت النبي صلعم يقول لا يزال من أمتي قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امر اللّه وهم على ذلك متفق عليه فان قيل يعارضه ما روى البغوي بسنده عروة بن رويم مرسلا قال لما انزل اللّه على رسوله ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر رض فقال يا رسول اللّه أمنا باللّه وبرسوله وصدقناه ومن ينجومنا قليل فانزل اللّه عز وجل ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فدعا رسول اللّه صلعم فقال قد انزل اللّه فيما قلت فقال عمر رضينا عن ربنا وتصديق نبيّنا فقال رسول اللّه صلعم من آدم إلينا ثلة ومنى إلى القيامة ثلة ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل من قال لا اله الا اللّه وكذا أخرج ابن أبى حاتم عنه مرسلا واخرج ابن عساكر فى تاريخ دمشق من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد اللّه واخرج احمد وابن المنذر وابن أبى حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبى هريرة قال لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على المؤمنين فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فان مقتضى هذا الحديث ان الثلة من الأولين من آدم عليه السلام إلى محمد صلعم وقلت لا وجه للحمل على التعارض بين(1/6329)
الحديثين فان قوله عليه الصلاة والسلام من آدم إلينا ثلة ومني
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 175
الى القيامة ثلة لا ينافى قوله عليه الصلاة والسلام هما جميعا من أمتي فانه يمكن ان يقال ان الثلة التي من محمد صلعم إلى القيامة ينقسم إلى الثلّتين ثلة من أوليهم وثلة من أخريهم والمراد بالآية كلا الثلتين من أمة محمد صلعم فان قيل لو كان ثلة من الأولين فى أمة محمد صلعم فما وجه لبكاء عمر بعد نزول قوله تعالى ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ولما شق ذلك من المسلمين قلت وجه بكائه رض الترحم على اخر هذه الامة وزعم ان الناجي من اخرى هذه الامة قليل ولذلك سلى بنزول قوله تعالى ثلة من الأولين وثلة من الآخرين يعنى إلى المقربين فى هذه الامة وان كانوا قليلا لكن اصحاب اليمين منهم كثير وكلا وعد اللّه الحسنى وليس قوله تعالى ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ناسخا لقوله تعالى ثلة من الأولين وقليل من الآخرين كما يدل عليه ظاهر الحديث فان الاخبار لا يحتمل النسخ ولان النسخ لا بد له من اتحاد المحل والآية الاولى فى المقربين من اصناف الثلاثة والثانية فى اصحاب اليمين فكيف يقال بالنسخ ويمكن ان يقال ثلة من الأولين يشتمل أصحابا لجميع الأنبياء واصحاب محمد صلعم ومن لحقهم من التابعين فانهم السابقون إلى الإسلام الأولون فيه ممن بعدهم الذين يقتقون اثارهم فى اتباع الأنبياء يؤيده قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان والآخرون هم المتأخر وهذه الامة عند قرب الساعة فالمقربون منهم قليل واما اصحاب اليمين فكثير منهم وكذا من غيرهم كما ذكرنا قول رسول اللّه صلعم انى لارجو ان يكونوا نصف أهل الجنة وقوله عليه السلام ثمانون صفا من هذه الامة وأربعون من ساير الأمم روى البخاري عن ابن عباس قال خرج علينا رسول اللّه صلعم يوما فقال عرضت على الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه رجلان(1/6330)
و النبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورايت سوادا كثير اسد الأفق فقيل لهؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون الفا يدخلون الجنة بغير حساب فقال عليه السلام الذين لا يتطيرون ولا يسترقون
و لا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون فتقدم عكاشة ابن محصن فقال أمتهم انا يا رسول اللّه قال نعم فقام اخر فقال امنهم انا قال سبقك بها عكاشة قال البغوي وروى عن عبد اللّه بن مسعود عن رسول اللّه صلعم قال عرضت على الأنبياء الليلة باتباعها حتى اتى على موسى فى كبكة بنى إسرائيل راينهم اعجبونى فقلت أى من رب هؤلاء قيل هذا أخوك موسى ومن معه من بنى إسرائيل قلت رب فاين أمتي قيل انظر عن يمينك فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال فقيل هؤلاء أمتك أ رضيت فقال رضيت ربى فقيل انظر عن يسارك فإذا الأفق قل اهل؟؟؟
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 176
بوجوه الرجال فقيل هؤلاء أمتك أ رضيت فقلت ربى رضيت رضيت فقيل ان مع هؤلاء سبعين الفا يدخلون الجنة بغير حساب عليهم فقال النبي صلعم ان استطعتم ان تكونوا من السبعين فكونوا وان عجزتم وقصرتم فتكونوا من أهل الظراب فان اعجزتم فكونوا من أهل الأفق فانى قد رأيت ثمه أناسا يتهلوشون كثيرا.
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ نحو ما مر فى التركيب والسموم الريح حارة تنفذ المسام وَحَمِيمٍ متناه فى الحرارة.
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أى دخان شديد السواد بفعول من الحمة تقول العرب اسود يحموم إذا كان شديد السواد قال الضحاك النار سوداء واهله سود وكل شىء فيها اسود وقال ابن كيسان اليحموم اسم من اسماء النار.
لا بارِدٍ كساير الظل وَلا كَرِيمٍ أى لا نافع بوجه ما أو كريم المنظر دفع بذلك ما ادلهم الظل من الاستراح.
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ فى الدنيا مُتْرَفِينَ أى متنعمين منهمكين فى الشهوات لا يتعبون أنفسهم فى الطاعات.(1/6331)
وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ج أى الذنب العظيم يعنى الشرك وقال الشعبي الحنث العظيم اليمين الغموس ومعنى هذا انهم كانوا يحلفون انهم لا يبعثون وكذبوا.
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ قرأ نافع والكسائي وأبو جعفر ويعقوب أ إذا مستفهما انا بتركه والباقون بالاستفهام فيها وهم على أصولهم فى التخفيف والتليين وقولهء إنا لمبعوثون خبرا لإذا أو كررت الهمزة على قراءة الجمهور للدلالة على انكار البعث مطلقا وخصوصا فى هذا الوقت كما ادخلت على العاطف فى قوله.
أَ وَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ للدلالة على ان ذلك أشد إنكارا فى حقهم لتقاوم زمانهم معطوف على محل اسم ان بعد مضى الخبر أو على المستكن فى مبعوثون والفصل بالهمزة حسن العطف على المستكن وقرأ نافع وابن عمرو أو بالسكون والعامل فى الظرف ما دل عليه مبعوثون لا هؤلاء للفصل بان والهمزة تقديره انبعث إذا متنا.
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ للحساب والجزاء إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أى ما وقت به الدنيا من يوم معلوم والاضافة بمعنى من كخاتم فضة والميقات ما وقت به الشيء إلى حد ومنه مواقيت الإحرام وهى الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة الا محرما كلمة إلى بمعنى اللام يعنى مجموعون لميقات يوم القيامة المعلوم المتيقن مجيئه.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا أى يا أيها الضَّالُّونَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 177
الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ(1/6332)
من الاولى للابتداء والثانية للبيان قال ابن عباس لوان قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لفسدت على أهل الأرض معاشهم فكيف من يكون طعامه رواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة والحاكم وقال عمرو الخولاني بلغنا ان ابن آدم لا ينهش من الزقوم نهشة الا نهشت منه مثلها رواه عبد اللّه بن احمد فى روائد الزهد وأبو نعيم.
فَمالِؤُنَ مِنْهَا أى من الشجر نظرا إلى معناه فان معناه الشجرة الْبُطُونَ من شدة الجوع.
فَشارِبُونَ لغلبة العطش عَلَيْهِ أى على الشجر نظرا إلى لفظه أو على الزقوم مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ قرأ نافع وعاصم وحمزة بضم الشين والباقون بفتحها وهما لغتان وقال البغوي الفتح على المصدر والضم على انه اسم بمعنى المصدر كالضعف والضعف الْهِيمِ يعنى الإبل العطاش كذا روى ابن أبى حاتم من طريق أبى طلحة عن ابن عباس جميع هيمان للذكر وهيمى للانثى كعطشان وعطشى وقيل الإبل التي بها الهيام وهوداء يصيب الإبل لا تروى معه ولا يزال يشرب حتى يهلك كذا أخرج البيهقي عن مجاهد وذكر البغوي عن عكرمة وقتادة وقال الضحاك وابن عيينة الهيم الأرض السهلة ذات الرمل قال البيضاوي هو جمع هيام بالفتح وهو الرمل الذي لا يتماسك جمع على هيم كسحب وسحاب ثم خفف وفعل به ما فعل يجمع ابيض وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الاخر من وجه فلا اتحاد و.
هذا نُزُلُهُمْ فيه تهكم كما فى قوله تعالى فبشرهم بعذاب اليم لان النزل ما يعد للنازل تكرمة له يعنى هذا أول ما يصيبهم يَوْمَ الدِّينِ ط يوم الجزاء فما ظنك بما يصيبهم بعد ما استقروا فى الجحيم.
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ بعد مالم تكونوا شيئا وأنتم تعرفون بذلك فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ أى هلا تصدقون على البعث بعد الموت فان من قدر على الإبداء قدر على الإعادة أو المعنى هلا تصدقون بالخلق متقنين محققين للتصديق بالأعمال الدالة عليه.(1/6333)
أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أى ما تقذفونه فى الأرحام من النطف.
أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ يجعلونه بشرا سويا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ الفاء العاطفة للعطف على محذوف والروية يعنى العلم ومفعوله الأول الموصول مع الصلة وهاهنا معطوف عليه ومحذوف مقدر وجملة ءانتم تخلقونه أم نحن الخالقون مفعوله الثاني لكنه معلق بالاستفهام وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلى فى ءانتم تخلقونه لافادة التخصيص ولان محل الإنكار والتقرير بالاستفهام هو المسند إليه دون النفس الخلق وتعريف الخبر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 178
فى نحن الخالقون أيضا لافادة التخصيص تقدير الكلام أ نظرتم فعلمتم ما تمنون فى الأرحام فيصير بشرا أ بكم مختص خلقه أم بنا والاستفهام لانكار نسبة الخلق إلى المخاطبين والإقرار للّه سبحانه يعنى تعلمون ان الخلق المختص بنا لا بكم.
نَحْنُ قَدَّرْنا قرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها وهما لغتان بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ يعنى قسمنا الموت عليكم كما قسمنا أرزاقكم على حسب ارادتنا فاختلف اعماركم من قصير وطويل ومتوسط أو المعنى وقتنا موت كل بوقت معين لا يستاخرون منه ولا يستقدمون وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلى لافادة التخصيص يعنى تقدير الموت وتوقيتها مختص بنا كما ان خلق كل مختص بنا فهذه الجملة مقررة لمضمون ما سبق وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ حال من فاعل قدرنا يعنى حال كوننا غير مسبوتين أى لم يسبقنا أحد فى تقديره أو حال كوننا غير مقلوبين من سبقته على كذا إذا غلبته عليه وأعجزته أو جملة معترضة والمعنى لا يسبقنا ولا معجزنا أحد فيهرب من الموت أو بغير دفنه.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ(1/6334)
متعلق بمحذوف حال من فاعل قدرنا تقديره قدرنا بينكم الموت قادرين على ان نبدل منكم أمثالكم مكانكم أو متعلق بقدرنا علة له وعلى بمعنى اللام يعنى قدرنا الموت لان نبدل منكم أمثالكم وجاز ان يكون متعلقا بمسبوقين والمعنى ما نحن بمسبوقين غير قادرين على ان نبدل أمثالكم فتخلق بدلكم وجاز ان يراد ان نبدل صفاتكم على ان أمثال جمع مثل بمعنى الصفة كما فى قوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون وقوله تعالى للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء وللّه المثل الا على وَنُنْشِئَكُمْ
عطف على نبدل يعنى قادرين على ان ننشأكم بعد الموت فِي ما لا تَعْلَمُونَ
اى فى احوال وصفات لا تعلمونها من الثواب والعذاب.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ عطف على قوله أ فرأيتم ما تمنون النَّشْأَةَ الْأُولى يعنى خلقة الإنسان من المنى ووجوده بعد ما لم يكن شيئا مذكورا فَلَوْ لا الفاء للسببية يعنى إذا علمتم النشأة الاولى فهلا تَذَكَّرُونَ ان منشىء النشأة الاولى قادر على ان ينشأ نشأة الاخرى فانها اقل صنعا لحصول المراد ولتخصيص الاجزاء وسبق المثال وفيه دليل على حجة القياس.
أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ط تبذرون حبة.
أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبتون.
لَوْ نَشاءُ جعله حطاما لَجَعَلْناهُ أى الزرع حُطاماً قال عطاء تبنالا قمح فيه وقيل هشيما لا ينتفع به فى مطعم وغذاء فَظَلْتُمْ أصله ظللتم حذف أحد اللامين تخفيفا تَفَكَّهُونَ أى تعجبون مما ينزل بكم فى زرعكم وهو قول عطاء والكلبي ومقاتل وقيل تندمون على اجتهادكم ونفقاتكم وهو قول يمان وقال الحسن تندمون على ما سلف منكم من المعصية
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 179(1/6335)
التي أوجبت تلك العقوبة وقال عكرمه تلاومون وقال ابن كيسان تحزنون وقال الكسائي هو التلهف على ما فات وهو من الاضداد قال العرب تفكهت أى فرحت وتفكهت أى حزنت قلت هو مستعار من أكل الفاكهة والتجنب عن الفاكهة قال فى القاموس تفكه تندم وبه تمتع وأكل الفاكهة وتجنب عن الفاكهة ضد.
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قرأ أبو بكر عن عاصم أ إنا بهمزتين على الاستفهام للتقرير والباقون بهمزة واحدة على الخبر والجملة بتقدير القول حال من فاعل تفكهون تقديره فظلتم تفكهون قايلون انا لمغرمون أى ملزمون غرامة ما أنفقنا والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض نكرا قال الضحاك وابن كيسان وقال البغوي قال ابن عباس وقتادة لمعذبون والغرام العذاب.
بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ أى حرمنا رزقنا إضراب بذكر الأهم فان غرامة المال أسهل من حرمان الرزق المفضى إلى الهلاك.
أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ العذب الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب واحده مزنة قيل المزن السحاب الأبيض ماءه أعذب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لقدرتنا.
لَوْ نَشاءُ جعلناه أجاجا جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا مرا كذا فى القاموس قيل هو مشتق من الأجيج وهو تلهب النار فان الماء الأجاج يحرق الفم وحذف اللام الفاصل بين جواب ما يتمحض للشروط وهو ان وبين ما يتضمن معناه وهو لو فانها ليست لشرط المحض بل سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها فى مضمونى جملتها ان الثاني امتنع لامتناع الأول لعلم السامع بمكانه أو للاكتفاء لسبق ذكرها فى قوله تعالى لجعلنه حطاما ولم يحذف فيما سبق اختصاصا لما يصدق لذاته ويكون أهم وفقده أصعب لمزيد التأكيد فَلَوْ لا هلا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم الضرورية من إيجاد الإنسان وابقائه.(1/6336)
أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ط أى توقدون من وارى النار وريا وأوريته اتقدت يعنى تخرجونها من الزناد والعرب يقدح العودين تحك أحدهما على الاخرى يسمون الأعلى زند والأسفل زندة شبهوها بالفحل والطروقة.
أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي منها الزناد وهى المرخ والعقاد يستحق المرخ على العقاد وهما خضرا وان ينقطر منهما الماء فينقدح النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ الخالقون لها ابتداء.
نَحْنُ جَعَلْناها أى نار الزناد تَذْكِرَةً فى امر البعث فان من قدر على احداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية كان اقدر على إعادة الحيوة والرطوبة الغريزية فيما كان حيا رطبا من العظام فيبس وبلى أو تذكرة للطرق فى الظلام أو تذكرة لنار جهنم حيث علقنا بها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 180(1/6337)
اسباب المعاش وعممنا إليها الحاجة لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون بها نار جهنم فانها أنموذج لها عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلعم قال ناركم جزء من سبعين جزء من نار جهنم قيل يا رسول اللّه ان كانت لكافية قال فانها فضلت عليهن بتسعة وستين جزأ كلهن مثل حرها متفق عليه وَمَتاعاً ومنفعة لِلْمُقْوِينَ ج قيل يعنى للمسافرين النازلين بالقواء وهى الأرض القفر الخالية البعيدة من العمران وانما خص ذكرهم بالانتفاع لان انتفاعهم بها اكثر من انتفاع المقيم فانهم يوقدونها ليلا ليهرب منهم السباع ويهتدى بها الضال ويستدفئون بها؟؟؟ فى البرد وغير ذلك من المنافع وهذا قول اكثر المفسرين وقال مجاهد وعكرمة المراد بالمقوين المستمتعون بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها فى الظلمة ويصطلون فى البرد ويطبخون بها وقال ابن زيد معناه للجايعين يعنى للذين خلت بطونهم من الطعام من أقوات الدار إذا خلت من سكانها يقول العرب أقويت مند كذا وكذا يعنى ما أكلت شيئا منذ كذا وقيل المراد بالمقوين الأغنياء يقال أقوى الرجل إذا قويت دابته وكثر ماله وصار إلى حالة القوة ولا شك ان فيها متاعا للاغنياء والفقراء جميعا لا إغناء بأحد عنها ولعل وجه تخصيص الذكر بالأغنياء لكثرة الطبخ عندهم ومن هاهنا قيل فلان كثير الرماد أى كثير الطبخ كثير الضيافة واللّه تعالى أعلم .(1/6338)
فَسَبِّحْ الفاء للسببية كما تذكرت بدايع صنايعه وانعاماته فتنزهه عما يقول المنكر لوحدانيته الكافرون لنعمه أو فسبحه شكرا على نعمائه أو تعجيبا من امر الظالمين فى كفران نعمائه بِاسْمِ رَبِّكَ الباء زائدة ولفظ الاسم مقحم والمعنى سبح ربك جاز ان يكون الفاء للسببية والتقدير فسبح بذكر اسمه أو بذكره فان اطلاق اسم الشيء ذكره واللّه اعلم الْعَظِيمِ فَلا أُقْسِمُ إذ الأمر ظاهر أوضح من ان يحتاج إلى قسم والفاء للسببية أو المعنى ذا قسم ولا مزيدة للتاكيد كما فى لئلا يعلم والتقرير فلانا اقسم فحذف المبتدا وأشبع فتحة لام الابتداء ويدل عليه قراءة عيسى بن عمر فلا قسم وقيل قوله لارد لما قال الكفار فى القرآن انه سحر أو شعر أو كهانة يعنى ليس الأمر كما تقولون اقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ قرأ حمزة والكسائي بموقع بإسكان الواو من غير الف على الافراد والباقون بفتح الواو والف بعدها على الجمع والمراد بمواقع النجوم ساقطها وتخصيص المغارب فى الذكر لما فى غروبها من زوال اثرها الذي هو أول على إمكانها وحدوثها ووجود موثر لا يزول تاثيره وقال عطاء بن أبى رباح أراد منازلها ومجاريها وقال الحسن أراد انكدارها وانتشارها يوم القيمة وقال ابن عباس النجوم نجوم القرآن وموضعها اوقات نزولها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 181
فانه كان ينزل على النبي صلعم نجوما متفرقا.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ جملة معترضة بين القسم وجوابه لَوْ تَعْلَمُونَ اخرى معترضة بين الصفة والموصوف لكمال الاستعظام ولو للتمنى ومفعول تعلمون محذوف يعنى ليتكم تعلمون عظمته عَظِيمٌ لما فى المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة ومن مقتضيات رحمته انه لا يترك عباده سدى.(1/6339)
إِنَّهُ يعنى ما يتلوه محمد صلعم لَقُرْآنٌ منزل من اللّه تعالى غير منقول كَرِيمٌ عزيز مكرم لأنه كلام اللّه وفضل كلام اللّه على ساير الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه رواه الترمذي والمعنى كثير الخير والنفع لاشتماله على اصول العلوم المهمة فى إصلاح المعاد والمعاش قال أهل المعاني الكريم الذي من شانه ان يعطى الخير الكثير أو المعنى حسن مرضى فى جنسه.
فِي كِتابٍ ظرف مستقر صفة لقران مَكْنُونٍ مصؤن وهو اللوح المحفوظ.(1/6340)
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قيل الضمير فى لا يمسه راجع إلى الكتاب لقربه فالمعنى لا يطلع على اللوح الا المطهرون من الكدورات الجسمانية الباعثة غالبا على المعاصي وهم الملائكة وهذا القول غير مرضى فان الانسلاخ من الكدورات الجسمانية ليس من فضائل ولا يعد تطهرا والا يلزم فضل الملائكة على البشر وهو خلاف الإجماع بل الكدورات الجسمانية هى الحاملة للتجليات الذاتية الصرفة ولذلك اختص النبوة بالبشر فالقول الصحيح ان الضمير راجع إلى القرآن فالمعنى لا يمس القرآن الا المطهرون من الأحداث فيكون بمعنى النهى والمراد بالقران المصحف سمى قرانا على قرب الجوار مجازا كما فى الحديث انه صلعم نهى ان يسافر بالقران إلى الأرض العدو مت فق عليه من حديث ابن عمر والمراد به المصحف وقد انعقد الإجماع على انه لا يجوز مس المصحف للجنب والحائض ولا لنفساؤ لا لمحدث خلافا لداود محتجا بحديث أبى سفيان انه عليه الصلاة والسلام كتب كتابا إلى هرقل وكان فيه يا أهل الكتاب تعالوا الآية ولا شك ان الكافر نجس قلنا كتب رسول اللّه صلعم ذلك العبارة من قبل نفسه امتثالا لامر اللّه تعالى لا من حيث انه كلام اللّه تعالى ومن ثم حذف لفظة قل من صدر الآية ولو كان كتب من حيث انه كلام اللّه لما حذف لفظة قل بل لا يجوز له حذفها كما لا يجوز حذفها فى الصلاة والتلاوة ولنا حديث عمرو بن حزم ان رسول اللّه صلعم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه لا يمس القرآن الا طاهر رواه الدارقطني والحاكم فى المعرفة والبيهقي فى الخلافيات وروى الطبراني من حديث حكيم بن حزام قال لما بعثني رسول اللّه صلعم إلى اليمن قال لا يمس القرآن الا وأنت طاهر تفرد به سويد بن حاتم وهو ضعيف وحسن الحار فى اسناده وفى الباب عن ابن عمر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 182(1/6341)
مرفوعا رواه الدارقطني والطبراني واسناده لا بأس به (مسئله) يجوز مس القرآن وحمله بغلاف متجاف عند أبى حنيفة رح وقال مالك والشافعي لا يجوز مع الغلاف أيضا لأنه قال اللّه تعالى انه لقران كريم وقال اللّه تعالى فى صحف مكرمة ومن التكريم ان لا يمسه غير الطاهر ولو كان عليه غلاف قلنا التكريم اثبت حرمة المس والمس لا يطلق الا إذا كان بلا حجاب وستر وانما التكريم ما ثبت بالشرع والزائد عليه تكلف (مسئله) يكره مسه بالكم أو الذيل لانهما تابعان لليد لا يجوز مس درهم فيه سورة الا بصرة لان المصحف ما كتب عليه القرآن (مسئله) ويثبت بهذه الآية بدلالة النص اعنى بالطريق الاولى عدم جواز قراءة القرآن للجنب وعليه انعقد الإجماع فان المصحف وهو القرطاس الذي كتب عليه نقوش وضع للدلالة على ألفاظ القرآن ولما ورد لا يمسه الا المطهرون فالفاظ القرآن اولى وأحرى ان لا يجرى الا على لسان المطهرين والحائض والنفساء كالخبث عند أبى حنيفة رح والشافعي واحمد لما ذكرنا وعن مالك روايتان إحداهما انها تقرء الآيات اليسيرة والتي نقلها الأكثرون من أصحابه انها تقرأ ما شاءت وهو مذهب داود هو محجوج بما ذكرنا وبحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم لا تقرء الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن رواه الدارقطني والترمذي وابن ماجة وفى اسناده اسمعيل ابن عياش وهو ضعيف وقيل انه قوى وتابعه مغيرة بن عبد الرحمن وأبو معشر بن موسى بن عقبة قال ابن الجوزي مغيرة أيضا ضعيف وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أخطأ ابن الجوزي ان ضعف مغيرة ابن عبد الرحمن وهو ثقة لكن فى طريق مغيرة عبد الملك بن مسلم ضعيف واما طريق أبو معشر ففيه منهم وأبو معشر ضعيف وله شاهد من حديث جابر رواه الدارقطني مرفوعا وفيه محمد بن الفضل متروك - (مسئله) كان القياس عدم جواز قراءة القرآن للمحدث أيضا لما ذكر لكن الاستحسان يقتضى جواز القراءة للمحدث لان الحدث لا يسرى(1/6342)
فى الفم ولذلك لم يجب المضمضة فى الوضوء بخلاف الجنابة ويدل على جواز القراءة للمحدث حديث ابن عباس انه بات ليلة عند ميمونة وهى خالته قال فاضطجعت فى عرض الوسادة ورسول اللّه صلعم واهله فى طولها فنام رسول اللّه صلعم حتى انتصف الليل أو قبله قليلا أو بعده بقليل استيقظ رسول اللّه صلعم فجلس يمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشرة الآيات
الخواتيم من سورة ال عمران ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منها الحديث متفق عليه وحديث على بن أبى طالب لم يكن يحجب النبي صلعم شىء من القرآن سوى الجنابة رواه احمد وابن خزيمة واصحاب السنن وابن حبان والحاكم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 183(1/6343)
و ابن الجار وصححه الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي فى شرح السنة (مسئله) قال البغوي وروى محمد بن الفضل عن الكلبي فى تفسير الآية قال لا يقرأ الا الموحدون قلت الموحد فى اصطلاح الصوفية من لا يكون له مقصود غير اللّه سبحانه وقال المجدد ما هو مقصود لك فهو معبود لك فان المرء يتحمل كل ذل وانكسار ومشقة لتحصيل مقصوده وذلك هو التعبد وقد قال رسول اللّه صلعم لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به رواه النووي فى اربعينه وقال عكرمة كان ابن عباس رض ينهى ان يمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء معنى الآية لا يجد طعم القرآن ونفعه الامن أمن به ومن هاهنا قال المجدد الالف الثاني ان الصوفي لا يجد بركات القرآن الا بعد فناء نفسه وتطهر من الرذائل واما قبل الغناء فقراءة القرآن له داخل فى عمل الأبرار وبعد فناء النفس وزوالها عينها واثرها فمراتب القرب إلى اللّه سبحانه منوط بتلاوة القرآن وكذا فى الاخرة بعد دخول الجنة يرتقى ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين وقال رسول اللّه صلعم يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند اخر اية تقرأها رواه احمد والترمذي وابى داود والنسائي من حديث عبد اللّه بن عمر.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة رابعة للقران وهو مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.(1/6344)
أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ يعنى القرآن أَنْتُمْ يا أهل مكة مُدْهِنُونَ الادهان فى الأصل استعمال الدهن المتليين ثم استعير للمدارة والملاينة فى الظاهر قال اللّه تعالى ودوا لو تدهن فيدهنون ثم استعمل فى النفاق وهو المراد هاهنا قال فى الفارس دهن نافق والمداهنة اظهار خلاف ما فى الضمير كالادهان وقال البغوي هو من الادهان وهو الجري فى الباطن على خلاف الظاهر ثم قيل للمكذب مدهن وان صرح بالكفر والتكذيب وكذا قال ابن عباس يعنى يكذبون وقال مقاتل بن حبان كافرون.
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أى حظكم ونصيبكم من القرآن أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال الحسن فى هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب اللّه الا التكذيب به وقال جماعة من المفسرين معناه وتجعلون شكركم انكم تكذبون كذا أخرج احمد والترمذي عن على رض عن النبي صلعم قال هيثم بن عدى ان من لغته ازدشنوة لارزق فلان بمعنى فاشكر وقيل هذا المعنى بحذف المضاف وتقديره تجعلون شكر رزقكم والمراد بالرزق حينئذ المطر وذلك انهم كانوا إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا ولا يرون ذلك من اللّه تعالى فقيل لهم تجعلون رزقكم أى شكر رزقكم انكم تكذبون
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 184(1/6345)
يعنى انكم تأتون بالكفر مكان الشكر عن زيد بن خالد الجهني قال صلى لنا رسول اللّه صلعم صلوة الصبح الحديبية فى اثر السماء كانت من الليل فلما انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه ورسوله اعلم قال قال اللّه تعالى من عبادى مومن لى وكافر فاما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب واما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومومن بالكواكب واخرج مسلم عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد رسول اللّه صلعم فقال أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر وقال بعضهم هذه رحمته وضعها اللّه وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية فلا اقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم انكم تكذبون واخرج ابن أبى حاتم عن أبى هريرة قال نزلت هذه الآيات فى رجل من الأنصار فى غزوة تبوك نزلوا الحجر فامرهم رسول اللّه صلعم ان لا يحملوا من مائها شيئا ثم ارتحل ونزل منزلا اخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى النبي صلعم فصلى ركعتين ثم دعى فارسل اللّه سبحانه فامطرت عليهم حتى استقوا منها فقال رجل من الأنصار لاخر من قومه متهم بالنفاق ويحك قد ترى ما دعى النبي صلعم فامطر اللّه علينا السماء فقال انما مطرنا بنوء كذا وكذا فنزلت وذكر ابن إسحاق ان هذه القصة كانت بالحجر وروى مسلم عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلعم قال ما انزل اللّه من السماء من بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل اللّه الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا.
فَلَوْ لا فهلا إِذا بَلَغَتِ الضمير المرفوع عايد إلى غير مذكور لفظا بل حكما فانه معلوم يقينا يعنى إذا بلغت نفس أحدكم الْحُلْقُومَ عند الموت.
وَأَنْتُمْ أيها الحاضرون حول المحتضر حِينَئِذٍ متعلق بقوله تَنْظُرُونَ حاله فى خروج الروح وحالكم معه من العجز حيث لا يمكنكم الدفع عنه ولا تملكون شيئا الجملة حال من فاعل بلغت والعائد المفعول المحذوف لتنظروا.(1/6346)
وَ نَحْنُ أَقْرَبُ قال البيضاوي معناه نحن اعلم إِلَيْهِ أى إلى المحتضر مِنْكُمْ عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى اسباب الاطلاع وقال البغوي اقرب بالعلم والقدرة والروية وقيل معناه ورسلنا الذين يقبضون روحه اقرب إليه منكم وهذه التأويلات مبنية على زعمهم بان القرب منحصر فى المكانيات والزمانيات وعدم دركهم قربا غير متكيف لكنه ثابت بالشرع مدرك بفراسة المؤمن لا يدركه العوام ولذلك استدرك بقوله وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ قربى وجملة ونحن اقرب حال ثان لفاعل بلغت.
فَلَوْ لا فهلا تأكيد لما سبق من حروف التحضيض إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أى غير مجرمين غير محاسبين بالبعث يوم القيامة يعنى غير مبعوثين بزعمكم أو غير مملوكين
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 185
غير مقهورين من دانه إذا اذله واستبعده واصل التركيب للذل والانقياد.
تَرْجِعُونَها أى النفس إلى مقرها حتى ينتفى عن محلها الموت كالبعث أو المعنى ترجونها لكونكم غير مقهورين وهذا عامل الظرف وما ورد به التخصيص بلولا وهى بما فى خيزها ودليل على جواب الشرط إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما زعمتم شرط مستغن عن الجزاء بما سبق وهو فى المعنى تأكيد للشرط السابق يعنى ان كنتم صادقين فى انكم غير مدينين كما يدل عليه حجدكم افعال اللّه وتكذيبكم باياته فلو لا ترجعون النفس إلى مقرها إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ولما سبق ذكر المحتضر المتوفى وانه مجزى مقهور للّه سبحانه غير مقدور لاحد غيره توجه النفس إلى انه ماذا يصنع به القاهر المالك القريب المسلط عليه فقال تفصيلا لمجمل أحواله.(1/6347)
فَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ اما حرف شرط تقديره مهما يكن من شىء فالمتوفى ان كان من المقربين يعنى السابقين الذين هم أفضل الأصناف الثلاثة المذكورة فى صدر السورة فله روح فروح مبتداء خبره ظرف محذوف والجملة الظرفية جزاء للشرط والجملة الشرطية لمبتداء محذوف والجملة الاسمية جزاء لشرط حذف بعد اما وأقيم جزاء الجزاء مقامه يعنى ان كان من المقربين وحذف الفاء كراهة توالى حرفى الشرط والجزاء أو اكتفى بالفاء الجزائية التي كانت فى الجزاء للشرط الثاني قرأ يعقوب فروح بضم الراء والباقون بفتحها فمن قرأ بالضم قال الحسن يخرج روحه فى الريحان وقال قتادة الروح الرحمة لانها كالسبب لحيوة المرحوم وقيل المراد به الحيوة الدائمة ومن قرأ بالفتح فمعناه الفرح والراحة كذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقال الضحاك المغفرة والرحمة وَرَيْحانٌ يعنى رزق طيب كذا قال مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل قال مقاتل هو بلسان حمير وقال آخرون الريحان الذي يشم قال أبو العاليه لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يوتى بعض من ريحان الجنة فبشم ثم يقبض روحه وقال أبو بكر الرزاق الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار.
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وهو ثانى اصناف الثلاثة المذكورة.
فَسَلامٌ لَكَ أى عليك يا صاحب اليمين مِنْ اخوانك أَصْحابِ الْيَمِينِ يسلمون عليك وقال البغوي معناه سلامة لك يا محمد منهم فلا تهتهم لهم فانهم سلموا من عذاب اللّه وانك ترى فيهم ما تحب من السلامة فترضى قال مقاتل هو ان اللّه يتجاوز عن سياتهم ويقبل حسناتهم وقال القراء وغيره فسلام لك يا محمد انهم من اصحاب اليمين أو يقال لصاحب اليمين سلام لك انك من اصحاب اليمين.
وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 186(1/6348)
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بالقران والنبي صلى اللّه عليه وسلم الضَّالِّينَ لا عن طريق الهدى يعنى اصحاب الشمال والمشامة الثالث من اصناف الثلاثة المذكورة وصفهم هاهنا بأفعالهم زجرا عنها واشعارا بما أوجب لهم أوعدهم به.
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ لا فالذى يعذبهم حميم جهنم.
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إدخال نار عظيمة.
إِنَّ هذا المذكور فى شان المحتضرين لَهُوَ حَقُّ الخبر الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ع أى فصل بذكر ربك وامره أو فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بعظمة شانه أو نزه ربك العظيم وسيجيئ مثل هذين الآيتين اخر سورة الحاقة وقد سبق منى تفسيرها وذكرت هناك مسائل تسبيحات الركوع والسجود وما ورد فيهما من الأحاديث واختلاف الائمة فلا نعيدها واللّه اعلم عن ابن مسعود قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم يصبه فاقة ابدا رواه البغوي وأبو يعلى فى مسنده والبيهقي بسند ضعيف فى شعب الايمان.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 187(1/6349)
سورة الحديد
مدنية وهى تسع وعشرون واية واربع ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ذكر هاهنا وفى الحشر والصف بلفظ الماضي وفى الجمعة والتغابن بلفظ المضارع اشعارا بان التسبيح للّه تعالى من مخلوقاته مستغرق بجميع الأوقات لا يختلف باختلاف الحالات ومجىء المصدر مطلقا فى بنى إسرائيل ابلغ فى هذه الدلالة والتسبيح يتعدى بنفسه لان معناه التنزيه والتبعيد من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد وقد يتعدى باللام مثل نصحته ونصحت له وجاز ان يكون تعديته باللام للاشعار بان إيقاع الفعل ثبت لاجل اللّه وخالصا لوجهه الكريم ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط يعم ذوى العقول وغيرهم وقيل المراد منه ما يأتي منه التسبيح ويصح وقيل المراد بالتسبيح من الجمادات ونحوها التسبيح الحالي يعنى دلالتها على تنزه الصانع تعالى عن السوء والصحيح ان شيئا من الموجودات لا يخلو عن نوع من الحيوة والعلم كما حققناه فى تفسير سورة البقر فى قوله تعالى وان منها لما يهبط من خشية اللّه فالتسبيح منها مقالى أيضا وان من شىء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حال يشعر بما هو المبتدا للتسبيح.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ج فانه هو الموجد لها والمتصرف فيها والجملة اما حال من مفعول سبح أو مستانفة يُحْيِي وَيُمِيتُ استيناف أو خبر لمحذوف أى هو أو حال من المجرور فى له وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الاحياء والاماتة وغيرهما قَدِيرٌ تام القدرة.(1/6350)
هُوَ الْأَوَّلُ قبل كل شىء ليس قبله شىء فانه هو الموجد للاشياء محدثها كلها وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الأشياء ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها فان وجوده تعالى اصل لا يحتمل الانفكاك والزوال ووجود غيره مستعار فى حكم اللّه وجود بالنظر إلى ذاته فهو الاخر بعد كل شىء ليس بعده شىء وَالظَّاهِرُ فوق كل شىء ليس فوقه فى الفهور شىء فان منشاء الظهور الوجود ولا ظهور للمعدوم ووجود كل شىء مستفاد منه وظل لوجوده فظهور كل شىء فرع لظهوره غير انه تعالى لكمال ظهوره وشعشان وجوده اختفى عن الابصار لقصورها كما اختفى الشمس عن عين الخفاش واختفى الشمس أيضا فى تصف النهار لشدة الظهور وكمال النور عن أعين الناس فمن ادنى تميز يعترف بوجوده تعالى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 188
حتى الصبيان والمجانين كما يعترف الناس لوجود الشمس فى النهار وَالْباطِنُ ج لكمال ظهوره وأيضا باطن كنه ذاته دون كل شىء ليس دونه شىء حتى عجز من دركه بصائر اولى الابصار من النبيين والصديقين الأخيار روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبى شيبة عن أبى هريرة وأبو يعلى الموصلي عن عائشة انه صلعم كان يقول وهو مضطجع اللّهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شىء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شىء أنت أخذ بناصيته اللّهم أنت الأول فليس قبلك شىء وأنت الاخر فليس يعدك شىء وأنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء اقض عنا الدين واغننا عن الفقر قال البغوي وسئل عمر رض عن هذه الآية فقال معناها ان علمه بالأول كعلمه بالاخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يستوى عنده الظاهر والخفي.(1/6351)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ط هذا من المتشابهات والأسلم فيه تفويض تأويله إلى اللّه تعالى والايمان بما أراد يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ كالبذور والقطر والكنوز والأموات وغير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع والانجرة والندور والمعادن والأموات عند الحشر وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالامطار والملائكة والاحكام والبركات وَما يَعْرُجُ فِيها كالانجرة والملائكة باعمال العباد وأرواحهم وَهُوَ مَعَكُمْ معية غير متكيفة أَيْنَ ما كُنْتُمْ ط فان نسبة جميع الامكنة إلى اللّه تعالى على السواء وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط ذكره مع الاعادة كما ذكر مع الإبداء لأنه كالمقدمة لهما وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ط بان ينقص من أحدهما ويزيد فى الاخر وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أى بمكنوناتها ذكر السيوطي فى جمع الجوامع عن على رض فى الدعاء لقضاء الحوائج ان يقرأ الفواتح من سورة الحديث وثلث آيات من اخر الحشر ثم يقول يا من كذلك وليس أحد غيره كذلك اقض حاجتى كذلك.
آمِنُوا أيها الناس بِاللَّهِ الذي شانه كما ذكرنا وَرَسُولِهِ فان الايمان باللّه على ما ينبغى لا يمكن الا بتوسط الرسل وَأَنْفِقُوا فى سبيل اللّه مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ط أى بعض الأموال التي جعلكم اللّه خلفاء فى التصرف فيها وهو مخلوق
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 189(1/6352)
مملوك اللّه تعالى أو التي استخلفكم عمن قبلكم فى تملكها والتصرف فيها وسيخلفكم فيها غيركم ذكرها اللّه سبحانه بهذا العنوان للحث على الانفاق وتوهينه على النفس فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا فى سبيله لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ الفاء للتعليل وفيه مبالغات فى الوعد حيث أورد الجملة الاسمية وأعاد ذكر الايمان والانفاق وبنى الحكم على الضمير ونكر الاجر ووصفه الكبير.(1/6353)
وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ج جملة لا تومنون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيه معنى الفعل فى مالكم أى تصنعون غير مومنين به وجملة ما لكم معترضة للتوبيخ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من الضمير فى لا تؤمنون يعنى أى عذر لكم فى ترك الايمان والحال ان الرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات والبينات وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال مرادف لما سبق أو من مفعول يدعوكم يعنى والحال انه قد أخذ اللّه ميثاقكم بالايمان قبل ذلك حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام وقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا على أنفسنا الآية أو المعنى قد أخذ اللّه ميثاقكم على لسان من قبلكم من الأنبياء وفيما سبق من الكتب ان إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قالء أقررتم وأخذتم على ذلك اصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين وقيل أخذ ميثاقكم باقامة الحجج والتمكين من المنظر قرأ أبو عمرو وأخذ بضم الهمزة وكسر الخاء على البناء للمفعول وميثاقكم بالرفع والاسناد إليه والباقون على البناء للفاعل ونصب ميثاقكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط حذف جزاءه تقديره عندى ان كنتم مؤمنين باللّه على زعمكم فامنوا باللّه والرسول فان الايمان باللّه على ما ينبغى لا يتصور الا بتوسط الرسول وذلك ان الكفار أيضا كانوا مقرين باللّه تعالى ويزعمون الأصنام شفعاء إليه تعالى فى الصحيحين عن ابن عباس قال وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلعم أمرهم بأربع ونهاهم بأربع أمرهم بالايمان باللّه وحده وقال أ تدرون ما الايمان باللّه وحده قالوا اللّه ورسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا اللّه ومحمد رسول اللّه واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وصيام رمضان وان تعطوا من المغنم الخمس ونهاهم عن اربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وقال احفظوهن وأخبروهن من وراءكم قلت تقدير الكلام عندى(1/6354)
أمرهم بأربع ونهاهم عن اربع بعد ما أمرهم بالايمان وحده ثم فسر الايمان بالشهادتين وفسر الأربع المامورة بقوله واقام الصلاة يعنى أمرهم باقام الصلاة الحديث هذا الحديث يدل ان الايمان باللّه وحده لا يتصور الا بعد الايمان بالرسول وقال البيضاوي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 190
تقدير الآية ان كنتم مؤمنين بموجب ما فان هذا موجب له لا مزيد له وقال البغوي ان كنتم مؤمنين يوما تاما فالان أحرى الأوقات ان تومنوا لقيام الحجج والاعلام ببعثه محمد صلعم ونزول القران.
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد صلعم آياتٍ بَيِّناتٍ يعنى القرآن أو غير ذلك من المعجزات الباهرة لِيُخْرِجَكُمْ هو أو عبده مِنَ الظُّلُماتِ أى الكفر والجهل إِلَى النُّورِ ط أى الايمان أو العلم وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث أرسل إليكم رسوله فانزل عليه آياته ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية.(1/6355)
وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا واى فائدة لكم يعنى لا فائدة لكم فى عدم الانفاق فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى فيما يكون قربة إليه تعالى وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط يعنى والحال ان اللّه يرث كل شىء فيها ولا يبقى لاحد مال وإذا كان كذلك فانفاقه بحيث انه يستخلف عوضا يبقى وهو الثواب اولى وترك الانفاق وجمع الأموال حتى ينتفع بها غيركم لا يفيدكم أصلا عن عائشة انهم ذبحوا شاة فقال النبي صلعم ما بقي منها يعنى بعد الانفاق قالت ما بقي منها إلا كتفا قال بقي كلها غير كتفها رواه الترمذي وصححه وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلعم أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله قالوا يا رسول اللّه ما منا أحد الا ماله أحب إليه من مال وارثه قال ماله ما قدم ومال وارثه ما اخر رواه البخاري والنسائي لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أى فتح مكة فى قول اكثر المفسرين وقال الشعبي هو صلح الحديبية وَقاتَلَ ط قبله لا يستوى افتعال بمعنى التفاعل وفاعله من أنفق مع ما عطف عليه المحذوف يعنى لا يستوى من أنفق قبل الفتح وقاتل قبله ومن أنفق بعد الفتح وقاتل بعده أُولئِكَ الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فيه أَعْظَمُ دَرَجَةً عند اللّه ثوابا وتقربا مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ الفتح وَقاتَلُوا ط حينئذ قال البغوي روى محمد ابن فضل عن الكلبي ان هذه الآية نزلت فى أبى بكر الصديق رض فانه أول من اسلم وأول من أنفق فى سبيل اللّه وروى البغوي بسند فى تفسيره المعالم عن ابن عمر قال كنت عند رسول اللّه صلعم وعنده أبو بكر الصديق رض وعليه عباءة فدخلنا فى صدرها بخلال فنزل عليه جبرئيل فقال مالى ارى أبا بكر عليه عباءة فدخلها فى صدرها بخلال فقال أنفق ماله على قبل الفتح قال فان اللّه عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أ راض أنت عنى فى فقرك هذا أم ساخط فقال رسول اللّه صلعم يا أبا(1/6356)
بكر ان اللّه عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أ راض أنت عنى فى فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 191
أسخط على ربى وانى عن ربى راض وكذا روى الواحدي فى تفسيره قلت هذه الآية بمنطوقه تدل على افضلية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على من أمن بعد الفتح وأنفق حينئذ وبمفهومه وسياقه يدل على افضلية الصديق على ساير الصحابة وافضلية الصحابة على سائر الناس فان مدار الفضل على السبقة فى الإسلام والانفاق والجهاد كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام من سن حسنة فاجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء وقد اجمع العلماء على ان أبا بكر أول من اسلم واظهر إسلامه على يده اشراف قريش وأول من أنفق الأموال العظام فى سبيل اللّه وأول من احتمل الشدائد من الكفار ومن ثم قال رسول اللّه صلعم مالا حد عندنا يد الا وقد كافيناه ما خلا أبى بكر فان له عندنا يد يكافيه اللّه تعالى بها يوم القيامة وما نفعنى مال أحد قط ما نفعنى مال أبى بكر رواه الترمذي من حديث أبى هريرة وعن ابن الزبير عن أبيه قال اسلم أبو بكر وله أربعون الفا أنفقها كلها على رسول اللّه صلعم وفى سبيل اللّه رواه أبو عمر وروى البخاري فى حديث طويل ثم يدا لابى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن وروى البخاري ان عقبة بن معيط لما راى النبي صلعم يصلى جعل رداءه فى عنقه وخنقه فاطلع أبو بكر فدفع عنه وقال أ تقتلون رجلا ان يقول ربى اللّه وقد جاءكم بالبينات وروى أبو عمر نحوه وزاد فاخذ الكفار أبا بكر فضربوه ضربا شديدا فلما رجع أبو بكر إلى داره فكان كلما وضع يده على شعره سقط شعره مع يده ويقول تباركت يا ذا الجلال وروى أبو عمرو فى الاستيعاب انه أعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون فى اللّه منهم بلال وعامر بن فهيرة وقال أبو اسحق انه لما اسلم أبو بكر اظهر إسلامه ودعى الناس إلى اللّه(1/6357)
عز وجل والى رسوله وكان أبو بكر رجلا مولفا لقومه مجيبا سهلا فجعل يدعو إلى الإسلام
من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فاسلم بدعائه فيما بلغني عثمان بن عفان رئيس بنى عبد الشمس وزبير بن العوام رئيس بنى اسد وسعد ابن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف رئيسا لبنى زهرة وطلحة بن عبد اللّه رئيس بنى تميم فجاء بهم إلى رسول اللّه صلعم حين استجابوا له واسلموا وصلوا وانكسر شوكة قبائل قريش بإسلامهم قال أبو الحسن الأشعري تفضيل أبى بكر على غيره من الصحابة قطعى قلت قد اجمع عليه السلف وما حكى عن ابن عبد البر ان السلف اختلفوا فى تفضيل أبى بكر وعلى فهو شىء غريب الفرد به عن غيره ممن هو أجل منه علما واطلاعا منهم الشافعي وقد ذكرنا ادلة تفضيل الشيخين نقلا وعقلا فى السيف المسلول
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 192(1/6358)
و له مواقف رفيعة فى الإسلام كثباته على كمال تصديقه ليلة الاسراء وجوابه للكفار فى ذلك وهجرته مع رسول اللّه صلعم وترك عياله وأطفاله وملازمته له فى الغار وساير الطريق وكلامه يوم بدر ويوم الحديبية حين اشتبه على غيره الأمر فى تأخير دخول مكة وثباته مع كمال حزنه فى وفات رسول اللّه صلعم وخطبه الناس وتسكينهم ثم قيامه فى قصة البيعة لمصالح المسلمين واهتمامه فى بعث جيش اسامة وقيامه فى قتال أهل الردة وتجهيزه الجيوش إلى العراق والشام واخر مناقبه انه فوض الخلافة إلى عمر رض وَكُلًّا قرأ ابن عامر بالرفع والباقون بالنصب أى كل واحد من الفريقين من الصحابة الذين أنفقوا قبل الفتح والذين أنفقوا بعده وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ط لا يحل الطعن فى أحد منهم ولا بد حمل مشاجراتهم على محامل حسنة واغراض صحيحه أو خطأ فى الاجتهاد وأيضا يدل صدر الآية على افضلية الصحابة على من بعدهم بسبقهم فى الإسلام والانفاق والجهاد وروى الشيخان فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ع عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر فيجازى كلا على حسبه.(1/6359)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أى يقرض عباد اللّه بحذف المضاف أو المعنى ينفق ماله فى سبيل اللّه رجاء ان يعوضه فصار كمن يقرضه فاستعير لفظ القرض لبدل على التزام الجزاء قَرْضاً حَسَناً بالإخلاص وتحرى أكرم المال وأفضل الجهات له فَيُضاعِفَهُ لَهُ أى يعطى اجره ضعافا قرأ عاصم فيضاعفه من المفاعلة منصوبا على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكانه قال يقرض اللّه أحد فيضاعفه له وقرأ ابن عامر ويعقوب فيضعفه من التفعيل منصوبا وقرأ ابن كثير فيضعفه من التفعيل مرفوعا عطفا على يقرض والباقون فيضاعفه من المفاعلة مرفوعا وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ حال من الضمير المنصوب فى فيضاعفه يعنى والحال ان ذلك الاجر المضموم إليه الأضعاف كريم فى نفسه ينبغى ان يطلب وان لم يضاعف فكيف وقد يضاعف أضعافا.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لقوله أو فيضاعفه أو متعلق بمقدر يعنى اذكر يَسْعى نُورُهُمْ أى يضىء نور التوحيد والطاعات معهم على الصراط وأينما كانوا ويكون ذلك دليلهم إلى الجنة وجملة يسعى حال من المؤمنين والمؤمنات بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ قال بعض المفسرين أراد جميع جوانبهم فعبر بالبعض عن الكل ويؤيد هذا التأويل الدعاء المأثورة عن النبي صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 193(1/6360)
فانه كان يقول إذا خرج للصلوة اللّهم اجعل فى قلبى نورا وفى بصرى نورا وفى سمعى نورا وعن يمينى نورا وعن شمالى نورا وخلفى نورا واجعلنى نورا رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وروى ابن ماجة عن ابن عباس وفى رواية عند مسلم وابى داود والنسائي وزاد فى لسانى نورا واجعل من خلفى نورا ومن امامى نورا واجعل من فوقى نورا ومن تحتى نورا اللّهم أعطني نورا فان هذا الدعاء يقتضى احاطة النور من جميع جوانبه ولعل وجه تخصيص الجهتين بالذكران السعداء يوتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين وقال الضحاك ومقاتل يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم كتبهم وقيل يجعل اللّه لهم نورا فى الجهتين اشعارا بانهم بحسناتهم سعدوا بصحايفهم البيض أفلحوا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال يوتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من كان فى إبهامه يتقدمرة ويطفى اخرى وقال قتادة ذكر لنا ان النبي صلعم قال من المؤمنين من يضىء نوره من المدينة إلى عدن والى الصنعاء فدون ذلك حتى ان من المؤمنين من لا يضىء نوره الا بين القدمين - (فصل) فى موجبات النور والظلمة أخرج أبو داود والترمذي عن بريدة وابن ماجة عن انس كليهما عن النبي صلعم قال بشر المشائين فى الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وورد مثله فى حديث سهل بن سعد وزيد بن الحارثة وابن عباس وابن عمر وحارثة بن وهب وابى امامة وابى الدرداء وابى سعيد وابى موسى وابى هريرة وعائشة رض وروى احمد والطبراني عن ابن عمر عن النبي صلعم من حافظ على الصلوات كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وروى الطبراني عن أبى سعيد مرفوعا من قرأ سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة من مقامه إلى مكة و(1/6361)
روى ابن مردوية عن ابن عمر من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عنان السماء يضىء له يوم القيامة وروى احمد عن أبى هريرة مرفوعا من تلا اية كانت له نورا يوم القيامة وروى الديلمي عن أبى هريرة مرفوعا الصلاة علىّ نور على الصراط واخرج الطبراني فى الأوسط من ذهب بصره فى الدنيا جعل اللّه له نورا يوم القيامة ان كان صالحا - وروى الطبراني عن عبادة بن صامت مرفوغا فى الحج اما حلق راسك فانه ليس من شعره يقع فى الأرض الا كانت له نورا يوم القيامة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 194
و روى البزاز عن ابن مسعود مرفوعا إذا رميت الجمار كانت به نورا يوم القيامة وروى الطبراني بسند جيد عن أبى امامة مرفوعا من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورا يوم القيامة روى البزاز بسند جيد عن أبى هريرة مرفوعا من رمى بسهم فى سبيل اللّه كان له نورا يوم القيامة وروى البيهقي فى شعب الايمان بسند منقطع عن ابن عمر مرفوعا ذاكر للّه فى السوق له بكل شعرة نور يوم القيمة وروى الطبراني عن أبى هريرة مرفوعا من فرج عن مسلم كربه جعل اللّه له يوم القيمة شعبتين من نور على الصراط يستضىء بهما عالم لا يحصيهم الا رب العزة واخرج الشيخان عن ابن عمر ومسلم عن جابر والحاكم عن أبى هريرة وابن عمرو الطبراني عن ابن زياد قالوا قال رسول اللّه صلعم إياكم والظلم فانه هو الظلمات يوم القيامة واللّه تعالى أعلم بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ يعنى يقول لهم ذلك من يلقيهم من الملائكة كانت الجملة فى الأصل فعلية تقديره يبشركم اليوم بجنات فعدلت إلى الاسمية للدلالة على الاستمرار بشرى مبتدا وجنات خبره واليوم ظرف البشرى أى المبشر به جنات أو بشركم دخول جنت تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة(1/6362)
لجنات خالِدِينَ فِيها ط حال من الجملة التي يفهم من الكلام السابق يعنى يدخلونها خالدين فيها ولا يجوز ان يكون حالا من جنات وإلا لزم جريانه على غير من هو له ذلِكَ النور والبشرى بالجنات المخلدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا بدل من يوم ترى انْظُرُونا قرأ حمزة بهمزة القطع وفتحها فى الحالين وكسر الظاء من الافعال من النظرة بمعنى المهلة كما فى قوله تعالى حكاية عن إبليس رب أنظرني إلى يوم يبعثون يعنى مهلونا جعل ثانيهم فى المشي حتى يلحقوا بهم امهالا لهم مجازا والباقون بحذف الالف فى الوصل وضمها فى الابتداء بمعنى الانتظار فى القاموس نظره وانتظره وتنظره تأنى عليه ونظرة كفرجة التأخير قال اللّه تعال ى فنظرة إلى ميسرة واللّه تعالى أعلم نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ومجزوم فى جواب الأمر أى تستضىء بكم ونمشى فى نوركم ولا يكون للمنافقين والكافرين نور يوم القيامة حيث لم يكن لهم نور الايمان فى الدنيا وهو المستفاد من القرآن ومن لم يجعل اللّه له نورا فماله من نور وبه قال الكلبي واخرج ابن أبى حاتم عن أبى امامة الباهلي قال يبعث اللّه ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث اللّه بالنور أى المؤمن بقدر أعمالهم فيتبعه المنافقون ويقولون انظرونا نقتبس من نوركم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 195(1/6363)
و أخرج عنه من وجه اخر فى حديث طويل فيه فيغشى الناس ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا أو يترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا وهو مثل ضرب اللّه فى كتابه أو كظلمات فى بحر لّجّىّ يغشاه من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نورا فماله من نور فلا يستضىء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضىء الأعمى ببصر البصير ويقول المنافقون للذين أمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا وهى خدعة اللّه التي خدع بها المنافقين قال يخدعون اللّه وهو خادعهم فيرجعون إلى المكان الذي قسم اللّه فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب الآية أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال بينهما الناس فى ظلمة إذ بعث اللّه نورا فلما راى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان دليلا لهم من اللّه إلى الجنة فلما راى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم فاظلم على المنافقين فقالوا حينئذ للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم فانا كنا معكم فى الدنيا قالوا ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا نورا هناك واخرج ابن المبارك من طريق مجاهد عن يزيد بن شجرة قال انكم تكتبون عند اللّه باسمائكم وسيماكم وو نجواكم ومجالسكم فإذا كان يوم القيامة نودى يا فلان بن فلان لا نور لك وقال البغوي ان اللّه يعطى المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطى المنافقين أيضا نورا خديعة لهم وهو قوله عز وجل وهو خادعهم فبينماهم يمشون إذا بعث اللّه ريحا وظلمة فاطفأ نور المنافقين فذلك قوله تعالى يوم لا يخزى اللّه النبي والذين أمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبايمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا مخافة ان يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين كذا أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس بلفظ ليس أحد من الموحدين الا يعطى(1/6364)
نورا يوم القيامة فاما المنافق فيطفىء نوره واما المؤمن فيشقق مما راى من اطفأ نور المنافق فهو يقول ربنا أتمم لنا نورنا والطبراني عنه نحوه واخرج مسلم واحمد والدارقطني فى الرواية من طريق ابن الزبير انه سمع جابر بن عبد اللّه فذكر حديثا طويلا وفيه ويعطى كل انسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وخسك تأخذ ما شاء اللّه ثم يطفىء نور المنافقين - والمختار عندى ان المنافقين لا يكون لهم نورا أصلا كما يدل عليه القرآن وما تقدم من الأحاديث ولعل المراد بالمنافقين الذين يعطى لهم نورا فيطفى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 196
قبل بلوغهم إلى الجنة فى الأحاديث المتاخرة اصحاب الهواء من المؤمنين كالروافض والخوارج والقرينة على هذا المراد قوله عليه السلام فى حديث ابن عباس ليس أحد من الموحدين الا يعطى نورا والموحد لا يكون الا بالشهادتين بإخلاص كما مر فى حديث وفد عبد القيس أ تدري ما الايمان باللّه وحده واللّه اعلم(1/6365)
قيل قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون وقال قتادة يقول لهم الملائكة ارْجِعُوا وَراءَكُمْ أى إلى المكان الذي قسم فيه النور كما يدل عليه حديث أبى امامة وابن عباس وذلك خديعة بهم أو المعنى ارجعوا ورائكم إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا هناك نُوراً بتحصيل الايمان والمعارف الالهية والأخلاق الفاضلة وكسب الطاعات فان هذا النور ظهور ذلك فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ بحائط لَهُ بابٌ ط يدخل فيه المؤمنون باطِنُهُ أى باطن السور أو الباب فِيهِ الرَّحْمَةُ لأنه يلى الجنة وَظاهِرُهُ أى خارج السور أو الباب مِنْ قِبَلِهِ أى من جهة الظاهرة الْعَذابُ لأنه يلى النار - قال البغوي روى عن عبد اللّه بن عمر قال ان السور الذي ذكر اللّه فى القرآن بسور له باب هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح وكان كعب يقول فى الباب الذي يسمى باب الرحمة فى البيت المقدس انه الباب الذي قال اللّه تعالى عز وجل فضرب بينهم بسور له باب الآية .
يُنادُونَهُمْ يعنى ينادى المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حجب بينهم بالسور وبقوا فى الظلمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ط فى الدنيا نصلى ونصوم قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أى اهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملوها فى المعاصي والشهوات وكلها فتنة وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدواير بمحمد صلعم الموت وقلتم يوشك ان يموت فنستريح منه وَارْتَبْتُمْ شككتم فى الدين وفيما أوعدكم به وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الأباطيل وما نكتم تتمنون من نزول الدواير بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعنى الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان أو الدنيا بان اللّه كريم لا يعذبكم أو بانه لا بعث ولا حساب وقال قتادة ما زالوا على خدعتهم من الشيطان حتى قذفهم فى النار.(1/6366)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتاء لتانيث المسند إليه والباقون بالياء لان التأنيث غير حقيقى وقد وقع الفصل أيضا مِنْكُمْ فِدْيَةٌ بدل وعوض وَلا مِنَ الَّذِينَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 197
كَفَرُوا
ط جهارا ومَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أى مكانكم الذي يقال فيه وهو اولى بكم أو ناصركم على طريقة قولهم تحية بينهم ضرب وجيع أو متوليكم أى يتولكم كما توليتم موجباتها فى الدنيا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف عن عبد العزيز بن رواد وابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان ان اصحاب النبي صلعم ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت.(1/6367)
أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا من انى الأمر يانى إذا جاء اناه وقته أَنْ تَخْشَعَ أى ترق وتلين وتخضع قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قال البغوي قال عبد اللّه ابن مسعود وما كان بين اسلامنا وبين ان عاتبنا اللّه بهذه الآية الا اربع سنين وقال ابن عباس ان اللّه استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على راس ثلثة عشر سنة من نزول القرآن واخرج ابن المبارك فى الزهد عن سفيان عن الأعمش قال لما قدم اصحاب رسول اللّه صلعم المدينة فاصابوا من العيش بعد ما كان بهم من الجهد مكانهم وفتروا عن بعض ما كانوا فنزلت أ لم يأن الآية واخرج ابن أبى حاتم عن السدى عن القاسم قال ملّ اصحاب رسول اللّه صلعم ملة فقالوا فنزل اللّه نزل احسن الحديث ثم ملواملة فقالوا حدثنا يا رسول اللّه فانزل اللّه أ لم يأن للذين أمنوا الآية وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل نزلت فى المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك انهم سالوا السلمان الفارسي ذات يوم فقالوا حدثنا عن التورية فان فيه العجائب فنزلت نحن نقص عليك احسن القصص فاخبرهم ان القرآن احسن من غيره فكفوا عن سوال سلمان ما شاء اللّه ثم عادوا فسالوا سلمان عن مثل ذلك فنزل اللّه نزل احسن الحديث فكفوا عن سواله ما شاء اللّه ثم عادوا فقالوا حدثنا عن التوراة فان فيها العجائب فنزلت هذه الآية وعلى هذا فتاويل الآية أ لم يأن للذين أمنوا فى العلانية وباللسان تخشع سرايرهم وقلوبهم لذكر اللّه وَما نَزَلَ قرأ نافع وحفص ويعقوب بتخفيف الزاء والباقون بالتشديد مِنَ الْحَقِّ أى القرآن الموصول معطوف على ذكر اللّه عطف أحد الوصفين على الاخر ويجوز ان يراد بالذكر ذكر اللّه سوى القرآن وَلا يَكُونُوا أى الذين أمنوا منصوب بان معطوف على تخشع وجاز ان يكون مجزوما على انه نهى معطوف على امر مفهومه مما سبق فان المفاد من قوله تعالى أ لم يأن للذين أمنوا ان تخشع قلوبهم ليخشع قلوب الذين أمنوا ولا يكونوا(1/6368)
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعنى اليهود والنصارى والمراد بالنهى عن مماثلة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 198
اهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى فَطالَ معطوف على أوتوا عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أى الزمان بينهم وبين أنبيائهم أو طال عليهم الزمان بطول أعمارهم فى الكفر والمعاصي فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ط معطوف على طال وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما فى كتابهم لفرط القساوة جملة اسمية معطوف على فعلية وجاز ان يكون حالا وجملة أ لم يأن مستانفة.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ط تمثيل لاحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة أو لاحياء الأموات ترغيبا فى الخشوع وزجرا عن القسوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكى يكمل عقولكم.(1/6369)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق أى المؤمنين والمؤمنات والباقون بالتشديد أى المتصدقين أدغمت التاء فى الصاد وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بطيب النفس والإخلاص عطف على معنى الفعل لان المعنى الذين صدقوا أو تصدقوا وعطف القرض الحسن على التصدق للدلالة على ان المعتبر هو التصدق بالإخلاص فان قيل عطف اقرضوا على الصلة فى المصدقين وعطف المصدقات على الموصول ويلزم فيه العطف على الموصول قبل تمام الصلة وذلك غير جائز قلنا المصدقين والمصدقات اعتبر من حيث المعنى موصولا واحد عطف على صلة اقرضوا والتقدير الناس تصدقوا واقرضوا من الرجال والنساء وجاز ان يقدر للمصدقين والمصدقات خبرا ثم يقدر موصولا اخر معطوفا عليه فيقال ان المصدقين والمصدقات يدخلون الجنة والذين اقرضوا اللّه الآية وجاز ان يكون اقرضوا معطوفا على خبر مقدر تقديره ان المصدقين والمصدقات أنفقوا أموالهم واقرضوا اللّه قرضا حسنا وعلى هذا يضاعف اما صفة لقرض أو مستانف وجاز ان يكون التقدير ان المصدقين والمصدقات فازوا وقد اقرضوا وعلى هذا يكون واقرضوا حالا ولا يرد على هذه الوجوه إشكال واللّه تعالى أعلم يُضاعَفُ لَهُمْ قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف لهم من التفعيل والباقون من المفاعلة ولم يجزم يضاعف لأنه خبر ان وهو مسند إلى لهم أو إلى ضمير المصدر وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ عطف على يضاعف أو حال من الضمير فى لهم وقد مر مثله فيما سبق.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ أى المبالغون فى الصديق أو الصدق فانهم صدقوا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 199(1/6370)
جميع اخبار اللّه تعالى ورسوله صلعم وهذه الآية تدل على جواز اطلاق الصديق على كل مؤمن ومن هاهنا قال مجاهد كل من أمن باللّه ورسوله فهو صديق وشهيد - وكذا قال عمرو بن ميمون وللصديق اطلاق اخر أخص منه وهو من اكتسب كمالات النبوة بالوراثة والتبعية وهو المعنى من قوله تعالى فاولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قلت ويمكن ان يراد فى هذه الآية أيضا هو المعنى والمراد بالموصول المعهود يعنى الصحابة رض فانهم هم الذين كانوا موجودين فى زمن النبي صلعم والحصر المستفاد من الضمير الفصل يدل على انحصار الصديقية فى الصحابة ويكون الحصر إضافيا بالنسبة إلى اكثر الناس قال المجدد رح الصحابة كلهم كانوا فى كمالات النبوة كان كل من راى النبي صلعم نظرة مع الايمان يستغرق فى كمالات النبوة وللصديق اطلاق اخر أخص من ذلك وبذلك المعنى قال على رض انا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي الاكاذب وبذلك الإطلاق قال الضحاك هم ثمانية نفر من هذه الامة سبقوا أهل الأرض فى زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلى وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب الحقه اللّه بهم لما عرف من صدق نية ومعنى الحقه بهم ان اللّه تعالى جعله صديقا بعدهم بستة سنة لا بمعنى انه دونهم فى الرتبة بل هو أفضل غير أبو بكر رضى اللّه عنه وَالشُّهَداءُ للّه وللرسول أو على الأمم يوم القيمة عطف على الصديقين وقيل مبتداء خبره عِنْدَ رَبِّهِمْ وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة فقيل هم الأنبياء لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يروى ذلك عن ابن عباس وقول مقاتل ابن حبان وقال مقاتل بن سليمان هم الذين استشهدوا فى سبيل اللّه لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى الاجر والنور الموعد ان لهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا(1/6371)
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أى خالدين فيها دون غيرهم فان الصحة تدل على الملازمة والتركيب يشعر بالاختصاص.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا مبتداء المراد ما يرغب فيه الناس فى الحيوة الدنيا بما لا يتوصل به إلى المنافع الاخرة لَعِبٌ مع ما عطف عليه خبر يعنى لا فائدة فيها فانها كانت قليلة النفع نظرا إلى ما يفيد فى الاخرة شريعة الزوال عد لعبا كأنَّه لا فائدة فيها أصلا وَلَهْوٌ يمنع الناس عمايهم لهم من الأمور الاخروية وَزِينَةٌ يتزينون به كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالأنساب وغير ذلك مما لا مزية بها عند اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 200(1/6372)
وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ط أى مباهات بكثرة الأموال والأولاد وجملة انما الحيوة الدنيا إلخ قايم مقام مفعولى اعلموا كَمَثَلِ غَيْثٍ خبر اخر للمبتداء والكاف فى محل الرفع أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ صفة الغيث تمثيل لامور الدنيا فى سرعة زوالها وقلة جدواها وانما خض الاعجاب بالكفار لان المؤمن إذا راى شيئا معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فاعجب بها والان مطمح نظره إلى محاسن الاخروية فلا يمد عينه إلى زهرة الحيوة الدنيا وقيل المراد بالكفار والزراع ذكر فى القاموس فى معنى الكافر الزراع لان معنى الكفر الستر والزراع يستر البذر فى الأرض ثُمَّ يَهِيجُ عطف على اعجب أى ثم يبس بعاهة فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ط الحطام ما يكسر باليبس كذا فى القاموس وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لاعداء اللّه لاشتغالهم عما يفيدهم فى الاخرة بما هو لعب ولهو وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ ط لاوليائه لتجافيهم عن دار الغرور وتهيئهم لدار الخلود وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن لم يستعملها الطلب الاخرة واما من استعملها الطلب الاخرة فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.(1/6373)
سابِقُوا أى سارعوا مسارعة السابقين فى المضمار بالايمان والخوف والرجاء والأعمال الصالحة إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها أى بسطها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وقال السدى كعرض سبع سموات وسبع ارضين يعنى لو وصل بعضا ببعض وإذا كان العرض كذلك نطولها اكثر منه أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ط فيه دليل على ان الجنة مخلوقة وان الايمان وحده كاف فى استحقاقها وان الايمان باللّه لا يعتد به مالم يومن برسوله ذلِكَ الموعود فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ط يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب فيه دليل على ان إدخال المؤمنين الجنة انما هو بفضل اللّه تعالى ومبنى على وعده غير واجب على اللّه تعالى كما قال به المعتزلة خذلهم اللّه أخرج أبو نعيم عن على رض قال قال رسول اللّه صلعم ان اللّه تبارك وتعالى اوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبد الحساب يوم القيامة ان شاء أعذبه إلا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم ان لا ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى برحمة منه وفضل وعن عائشة عن النبي صلعم قال سددوا قاربوا بشروا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 201(1/6374)
فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى اللّه بمغفرة ورحمته - ولمسلم من حديث جابر نحوه وقد ورد هذا من حديث أبى سعيد أخرجه احمد وابى موسى وشريك بن طارق أخرجهما البزاز وشريك بن ظريف واسامة بن شريك واسد بن كدر أخرجها الطبراني وستشكل هذا مع نحو قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وأجيب بان درجات الجنة متفاوتة تنال بتفاوت الأعمال واصل دخولها والخلود فيها بفضل اللّه ورحمته ويؤيده ما أخرجه هناد فى الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو اللّه وتدخلون الجنة برحمة اللّه وتقيمون المنازل بأعمالكم واخرج أبو نعيم عن عون بن عبد اللّه مثله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فانه لا يبعد منه التفضل بذلك وان عظم قدره - .
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ كجدب وعاهة وكائنة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض وافة وموت الأحباب صفة لمصيبة إِلَّا فِي كِتابٍ فى موضع الحال أى كاينة فى حال من الأحوال إلا حال كونها مكتوبة فى اللوح مثبة فى علم اللّه تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ط أى نخلقها والضمير للمصيبة أو للارض أو للانفس إِنَّ ذلِكَ الإثبات مع كثرتها عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ هين.(1/6375)
لِكَيْلا تَأْسَوْا أى كتب فيه لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ط منها فان من علم ان الكل مقدر لا يجوز تغيره بان عليه الأمر قرأ أبو عمر وبقصر الالف من الإتيان معا ولا بقوله تعالى ما فاتكم والباقون بالمد أي بما اعطاكم اللّه وفى قراءة الجمهور اشعار بان الفوات لا يستدعى علة فانه عدم أصلي اما الوجود والبقاء فلا يتصور إلا بعلة والمراد به نفى الاسى المانع من التسليم لامر اللّه والصبر والفرح الموجب للنظر والاختيال ولذلك عقبه بقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الجملة منصوبة على الحال كُلَّ مُخْتالٍ متكبر بنعم الدنيا فَخُورٍ به على الناس قال عكرمة ليس أحد الا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا قال جعفر الصادق يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ومالك تفرح بموجود لا يتركه فى يدك الموت.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ط منصوب على انه بدل من كل مختال أو مرفوع على انه مبتدا خبره محذوف دل عليه قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّ أى يعرض عن الانفاق فى سبيل اللّه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عنه عن إنفاقه لا يضره الاعراض عن شكره لا ينفعه التقرب إليه لشكر نعمة قرأ نافع وابن عامر بغير هو وكذلك فى مصاحفهم والباقون بضمير الفصل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 202
الْحَمِيدُ محمود فى ذاته.(1/6376)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا من الملائكة إلى الأنبياء ومنهم إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ بالحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ لتبين الحق من الباطل والعمل الصالح من الفاسد والحلال من الحرام وَالْمِيزانَ أى العدل وقال مقاتل بن سليمان وهو ما يوزن به وانزاله إنزال الأمر بالاستعمال ليسوى به الحقوق وقيل ان جبرئيل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مرقومك يزنوا به لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ج بالعدل وان لا يظلم أحد أحدا علة لانزال الكتاب والميزان وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ روى عن ابن عمر يرفعه ان اللّه انزل اربع بركات من السماء إلى الأرض الحديد والنار والماء والملح وقال أهل المعاني معنى قوله تعالى أنزلنا الحديد انشأنا وأحدثنا أى أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه وقال قطرب هذا من النزل كما يق انزل الأمير على فلان نزلا حسنا فمعنى الآية جعل ذلك نزلا لهم ومثله قوله تعالى وانزل لكم من الانعام ثمانية ازواج فِيهِ بَأْسٌ أى حرب شَدِيدٌ فان آلات الحرب متخذة منه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ إذ ما من صنعة الا والحديد آلتها وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ عطف على محذوف أى لتقاتلوا فى سبيل اللّه أعدائه وليعلم اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ وجاز ان يكون اللام صلة لمحذوف أى وأنزله ليعلم اللّه وجاز ان يكون معطوفا على مفهوم فيه بأس شديد تقديره وأنزلنا الحديد لان فيه بأسا شديدا وليعلم اللّه بِالْغَيْبِ ط حال من المستكن فى ينصره إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على إهلاك من أراد هلاكه عَزِيزٌ ع لا يحتاج إلى نصره أحد وانما امر الناس بالجهاد تفضلا على الناس ليبتغوا به مرضات اللّه واستوجبوا ثواب امتثال الأمر وإعزاز الدين أو الشهادة.(1/6377)
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ بيان وتفسير لما سبق من قوله تعالى ولقد أرسلنا رسلنا وخصا بالذكر بفضلهما وكثرة ذريتهما وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعنى فضلناهما بجعل النبوة والكتاب فى ذريتهما فان الكتب الاربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان أنزلت فى ذرية ابراهيم وهو من ذرية نوح عليهما السلام وذكر فى المدارك عن ابن عباس ان المراد بالكتاب الخط بالقلم يقال كتبت كتابا فَمِنْهُمْ أى من الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم الإرسال والفاء للسببية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أى اثار نوح وابراهيم من أرسل إليهم ولا يجوز إرجاع الضمير إلى الذرية لان الرسل المقفى بهم كانوا من ذريتهما.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 203(1/6378)
بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا الرسل أجمعين قبل محمد صلعم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وكان اخر أنبياء بنى إسرائيل وكان بعده فترة الرسل حتى بعث اللّه خاتم النبيين محمدا صلعم وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً مودة ولينا وَرَحْمَةً ط تعطفا على إخوانهم وعلى المؤمنين كما قال اللّه تعالى لتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا انا نصارى وكما قال فى صفة اصحاب النبي صلعم رحماء بينهم وَرَهْبانِيَّةً وهى المبالغة فى العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس وترك الشهوات حتى المباحة منها كالاكل بالنهار والنوم بالليل والنكاح وغيرها منسوبة إلى الرهبان فعلان من الرهب بمعنى خاف كخشيان من خشى معطوف على رافة جعلنا فى قلوبهم الميل إلى رهبانية ابْتَدَعُوها من قبل أنفسهم صفة لرهبانية وابتداعهم إياها لا ينافى جعل اللّه تعالى ميلها فى قلوبهم وجاز ان يكون رهبانية منصوبا بالفعل يفسره قوله تعالى ابتدعوها والجملة معطوفة على جعلنا فى قلوبهم رافة ورحمة وابتدعوا من قبل أنفسهم رهبانية ما كَتَبْناها أى ما كتبنا شيئا من خصائل الرهبانية عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فالاستثناء حينئذ متصل وقيل الاستثناء منقطع لعدم دخول ابتغاء مرضات اللّه فى الرهبانية والمعنى ولكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات اللّه فَما رَعَوْها أى الرهبانية النفي لسلب العموم لا لعموم السلب والمعنى فمارعوها جميعهم حَقَّ رِعايَتِها ج بل ضيعها بعضهم بترك ما التزموا على أنفسهم من المبالغة فى الرياضة أو لقصد الرياء والسمعة والميل إلى الدنيا أو بكفرهم وقولهم ثالث ثلثة أو قولهم بالاتخاذ أو بتهودهم وكفرهم بعيسى ومحمد أو بكفرهم بمحمد صلعم بعد ما استقاموا على دين عيسى قبل مبعثه فهؤلاء كلهم مارعوها حق رعايتها - فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ايمانا صحيحا وحافظوا حقوقها حتى أمنوا(1/6379)
بمحمد صلعم على ما وصى به عيسى عليه السلام مِنْهُمْ أى ممن ادعى باتباع عيسى عليه السلام أَجْرَهُمْ ج أى الاجر الموعود لهم على حسب أعمالهم فمن رعى حق رعاية الترهيب كما التزم أتاه اجر عمله ومن استقام على الدين الايمان ولكن لم يراع الرهبانية حقها أتاه اجر عمله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن اتباع عيسى وهم الذين قالوا بالتثليث وللاتخاذ أو التهود أو دخلوا فى دين الملوك واثبتوا على دين عيسى لكنهم كفروا بمحمد صلعم روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال دخلت على رسول اللّه فقال يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة نحا منهم ثلثة وهلك سايرهن فوقة وازت الملوك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 204(1/6380)
و قاتلوهم على دين عيسى فاخذوهم وقتلوهم وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بان يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين اللّه ودين عيسى فساحوا فى البلاد وترهبوا وهم الذين قال اللّه تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم فقال النبي صلعم من أمن بي وصدقنى واتبعنى فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فاولئك هم الهالكون وقال البغوي روى عن ابن مسعود قال كنت رديف رسول اللّه صلعم على حمار فقال يا ابن أم عبد هل تدرى من اين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية قلت اللّه ورسوله اعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الايمان فقاتلوهم فهزم أهل الايمان ثلث مرات فلم يبق منهم الا قليل فقالوا ان ظهرنا هؤلاء أفتونا ولم يبق للدين أحد يدعوا إليه فقالوا تعالوا فتفرق فى الأرض إلى ان يبعث اللّه النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمدا صلعم فتفرقوا فى غير ان الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية ورهبانية ابتدعوها الآية فاتينا الذين أمنوا منهم يعنى ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي صلعم يا ابن أم عبدا تدرى ما رهبانية أمتي قلت اللّه ورسوله اعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلال قال وروى عن انس عن النبي صلعم ان لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الامة الجهاد فى سبيل اللّه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت الملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التورية والإنجيل وكان فيهم مومنون يقرؤن التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين اللّه فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل الا ما بدلوا منها فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا(1/6381)
فقالت طايفة ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا ترفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم وقالت طايفة دعونا نسيح فى الأرض ونهيم ونشرب كما نشرب الوحش فان قدرتم علينا بأرض فاقتلونا وقالت طايفة ابنوا لنا دورا فى الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ففعلوا ذلك فمعنى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فجعل الرجل يقول نكون نحن فى مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذدورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بايمان الذين اقتدوا بهم فلك قومه؟؟؟
عز وجل وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها أى ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعنى الآخرين الذين جاؤا من بعدهم فاتينا الذين أمنوا منهم أجرهم يعنى الذين ابتدعوها ابتغاء مرضات اللّه وكثير منهم فاسقون
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 205
هم الذين جاؤا من بعدهم قال فلما بعث النبي صلعم ولم يبق منهم الا قليل حط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحة وصاحب الدير من ديره وأمنوا به واخرج الطبراني فى الأوسط بسند فيه من لا يعرف عن ابن عباس ان أربعين من اصحاب النجاشي قدموا فشهدوا وقعة أحد فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول اللّه انا أهل ميسرة فاذن لنا نجىء باموالنا نواسى بها المسلمين فانزل اللّه تعالى الذين آتيناهم الكتب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا أمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبرو فلما نزلت قالوا يا معشر المسلمين اما من أمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله اجر كاجوركم فانزل اللّه تعالى.(1/6382)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلعم يُؤْتِكُمْ هو وما عطف عليه مجزوم فى جواب الأمر كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ وكذا أخرج ابن أبى داود خاتم عن مقاتل قال لما نزلت أولئك يؤتون أجرهم مرتين الآية فخرمو من أهل الكتاب على اصحاب النبي صلعم فقالوا لنا أجران ولكم اجر فشق ذلك على الصحابة فانزل اللّه تعالى هذه الآية فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمنى أهل الكتاب وعلى هذه الرواية الخطاب فى قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا لاصحاب النبي صلعم عامة وحينئذ قوله وأمنوا برسوله تأكيد لما سبق يعنى أمنوا لجميع ما جاء به الرسول حق الايمان وقال البغوي واكثر المفسرين هذا خطاب أهل الكتابين من اليهود والنصارى يقول اللّه تعالى يايها الذين أمنوا بموسى وعيسى اتقوا اللّه فى محمد أمنوا برسوله محمد صلعم يؤتكم كفلين من رحمته يعنى يوتكم أجرين لايمانكم بعيسى والإنجيل وبحمد والقران وقال البيضاوي لا يبعد ان يثابوا أى اليهود أيضا على دين السابق وان كان منسوخا ببركة الإسلام وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا فى عصره وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلعم ثلثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد صلعم والعبد المملوك ادى حق اللّه وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطاها فادبها فاحسن تأديبها وعلمها فاحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ على الصراط كذا قال ابن عباس ومقاتل فهذه الآية نظيره قوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم ويروى عن ابن عباس ان النور هو القرآن وقال مجاهد هو الهدى والبيان أى يجعل لكم سبيلا واضحا فى الدين تهتدون به إلى جناب القدس وجنات الفردوس وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط ما سبق من ذنوبكم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 206(1/6383)
وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أخرج ابن جرير عن قتادة قال بلغنا انه لما نزلت يؤتكم كفلين من رحمته حسد أهل الكتاب المسلمين عليها فانزل اللّه تعالى.
لِئَلَّا يَعْلَمَ متعلق بافعال واقعة فى جواب الأمر على التنازع قيل متعلق بمحذوف تقديره أعلمكم بذلك لئلا يعلم ولا مزيدة والمعنى ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ان هى المخففة والمعنى انه لا ينالون شيئا من فضل اللّه الا بمشية اللّه تعالى ولا يقدرون على نيله باختيارهم هذه الرواية عن قتادة يناسب ما روى الطبراني عن ابن عباس وابن أبى حاتم عن مقاتل ان الخطاب فى قوله تعالى يايها الذين أمنوا اتقوا اللّه وأمنوا برسوله للمؤمنين عامة لا لاهل الكتاب وذكر البغوي قول قتادة انه حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فانزل اللّه تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب ان لا يقدرون على شىء من فضل اللّه على خلاف ما زعموا انهم أبناء اللّه وأحبائه واهل رضوانه وانهم لا يتمكنون من نيل شىء من الاجر والثواب لانهم لم يؤمنوا برسله وهو مشروط بالايمان به وعلى هذا يناسب ما ذكر المفسرون فى الآية خطاب لاهل الكتابين وقيل لا غير مزيدة والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب انه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شىء من فضل اللّه ولا ينالون واخرج ابن المنذر عن مجاهد وكذا ذكر البغوي ان لا يقدرون على شىء من فضل اللّه على خلاف ما زعموا انهم أبناء اللّه وأحبائه واهل رضوانه وانهم لا يتمكنون من نيل شىء من الاجر والثواب لانهم لم يومنوا برسله وهو مشروط بالايمان به وعلى عنه انه قال قالت اليهود يوشك ان يخرج منا نبى فيقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فانزل اللّه لئلا يعلم أهل الكتاب أى ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم انه لا يقدرون على شىء من فضل اللّه فضلا ان يتصرفوا فى أعظمه وهو النبوة ويؤيده قوله تعالى وَأَنَّ(1/6384)
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ط خبر بعد خبر لان وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ روى البخاري فى صحيحه عن ابن عمر عن رسول اللّه صلعم قال انما اجلكم فى أجل من خلا من الأمم ما بين صلوة العصر إلى مغرب الشمس وانما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عملا فقال من يعمل لى إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلوة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من صلوة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين الا فانتم الذين تعملون من صلوة العصر إلى مغرب الشمس الا لكم الاجر مرتين فغضب اليهود والنصارى فقالوا نحن اكثر عملا واقل عطاء فقال اللّه تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال اللّه تعالى فانه فضل أعطيه من شئت وروى البخاري عن أبى موسى عن النبي صلعم قال مثل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 207(1/6385)
المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استاجر قوما يعملون عملا يوما إلى الليل على اجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا فهو باطل فقال لهم الا تفعلوا بقية عملكم وخذوا اجركم كاملا فابوا وتركوا واستاجر آخرين بعدهم فقال اكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت من الاجر فعملوا حتى إذا كان صلوة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الاجر الذي جعلت لنا فيه فقال اكملوا بقية عملكم فانما بقي من النهار شىء يسير فابوا فاستاجر قوما ان يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غاب الشمس فاستكملوا اجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور واللّه تعالى أعلم قلت حديث ابن عمر حكاية عن اليهود والنصارى الذين عملوا على ما أمرهم اللّه تعالى قبل ان ينسخ دينهم فلهم أجرهم على ما وعدهم اللّه تعالى وحديث أبى موسى حكاية عن اليهود الذين كفروا بعيسى والنصارى الذين كفروا بمحمد صلعم وتركوا ما أمرهم اللّه تعالى وقد أخذ منهم الميثاق انه إذا جاءكم رسول مصدقا لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه فهؤلاء لا اجر لهم أصلا وحبط ما كانوا يعملون وفى الحديثين بشارة لامة محمد صلعم بانهم يوتون الأجور على أضعاف أجور الصالحين من الأمم الماضيين وبانهم لا يزالوا على الحق إلى يوم القيامة إنشاء اللّه تعالى وعن معاوية قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم ي قول لا يزال من أمتي قائمة بامر الله(1/6386)
لا يضرهم من خذلهم ولا خالفهم حتى يأتي امر اللّه وهم على ذلك متفق عليه اللهم اجعلنى من الامة القائمة بامرك المويدة لدينك وبحرمة نبيك واله وأصحابه أجمعين صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين برحمتك يا ارحم الراحمين روى أبو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية انه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل ان يرقد ويقول ان فيهن اية خير من الف اية قلت لعل ذلك الآية التسبيح روى النسائي عن معاوية موقوفا انهن الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى قلت ومنها على بنى إسرائيل ولم يذكرها معاوية وقد روى الترمذي والنسائي والحاكم وحتى يقرأ بنى إسرائيل والزمر خشيت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ المسبحات السبع قبل ان يرقد.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 208
سورة المجادلة
مدنية وهى اثنتان وعشرون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت تبارك الذي وسع سمعه كل شىء انى لا سمع كلام خولة ابن ثعلبة ويخفى على بعضه وهى تشتكى زوجها إلى الرسول صلعم وهى تقول يا رسول اللّه أكل مالى ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سنى وانقطع ولدي ظاهر منى اللهم انى أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهؤلاء الآيات(1/6387)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ أدغمت حمزة والكسائي وأبو عمر وهشام الدال فى السين وكلمة قد لتقريب الماضي إلى الحال ويشعر بان الرسول صلعم أو المرأة يتوقع ان اللّه يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وهو أوس بن الصامت والمجادلة الشدة فى الخصومة والمراد هاهنا شدتها فى مراجعة الكلام مثل شدة الخصمين وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ عطف على تجادلك وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ط تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للاقوال بَصِيرٌ بالأحوال قال البغوي نزلت فى خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن صامت وكانت حسنة الجسم وكان به لمم فارادها فابت فقال لها أنت على كظهر أمي ثم ندم على ما قال كان الظهار والإيلاء من طلاق الجاهلية فقال لها ما أظنك الا قد حرمت على فقالت واللّه ما ذاك طلاق فاتت رسول اللّه صلعم وعائشة رض تغسل شق راسه فقالت يا رسول اللّه ان زوجى أوس بن الصامت تزوجنى وانا شابة غنية ذات مال واهل حتى أكل مالى وأفنى شبابى وتفرق أهلي وكبرت سنى ظاهر منى وقد ندم فهل من شىء يجمعنى وإياه تنعشنى به فقال رسول اللّه صلعم حرمت عليه فقالت أشكو إلى اللّه فافتى ووحدتي قد طالت صحبتى ونفضت له بطني فقال رسول اللّه صلعم ما أراك الا حرمت عليه ولم اومر فى شانك بشىء فجعلت تراجع رسول اللّه صلعم وإذا قال صلعم حرمت عليه امتنعت وقالت أشكو إلى اللّه فاقتى وشدة حالى وان بي صبية صغار ان ضممتهم إليه ضاعوا وان ضممتهم الىّ جاعوا وجعلت ترفع راسها إلى اللّه وتقول اللهم انى أشكو إليك اللهم فانزل على لسان نبيك وكان هذا أول ظهار فى الإسلام فقامت عائشة تغسل شق راسه الاخر فقالت انظر فى امرى جعلنى اللّه فداك يا نبي اللّه فقالت عائشة اقصرى حديثك ومجادلتك اما ترين وجه رسول اللّه صلعم وكان رسول اللّه صلعم إذا انزل عليه اخذه السبات فلما قضى(1/6388)
الوحى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 209
ادعى زوجك فجاء فتلى عليه رسول اللّه صلعم قد سمع اللّه قول التي تجادلك فى زوجها الآيات قالت عائشة تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ان المرأة لتحاور رسول اللّه صلعم وانا فى ناحية البيت اسمع بعض كلامها ويخفى على بعضه إذ انزل اللّه تعالى قد سمع اللّه الآية .(1/6389)
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ قرأ عاصم فى الموضعين بضم الياء وتخفيف الظاء والف بعدها وكسر الهاء من المفاعلة وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء والف بعدها من الافاعل أصله يتظاهرون ادغم التاء فى الظاء والباقون من غير الالف من الافعل أصله تفعل - والظهار ان يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمي كان ذلك طلاقا فى الجاهلية مثبتا للحرمة المؤبدة فنقله الشرع إلى الحرمة المنتهية بالكفارة مشتق من الظهر والحق به الفقهاء تشبيها بجزء منها لا يحل له النظر إليه كان يقول أنت على كظهر أمي أو فخذها أو كفرجها وعند الشافعي لو شبهها بجزء لا يحرم نظره إليه كاليد والعين يكون الظهار أيضا كذا لو شبهها بالجدة أو العمة أو الخالة أو البنت أو بامرأة اخرى محرمة عليه بالتابيد وشرط الشافعي ان يكون تحريمها غير طارية فلاظهار عند الشافعي لو قال أنت على كظهر مرضعتى وزوجة أبى وعند أبى حنيفة يكون ظهارا لانها فى الحرمة المؤبدة كالام وكذا لو شبه من امرأته جزءا شايعا أو جزأ يعبر به عن الكل كان قال راسك على كظهر أمي أو فرجك أو وجهك أو رقبتك أو بدنك أو جسمك أو روحك أو نفسك أو نصفك أو ثلثك لانها اما يعبر بها عن جميع البدن أو يثبت الحكم فى الشائع فيتعدى إلى الكل وان قال يدك أو رجلك على كظهر أمي لا يكون ظهارا خلافا للشافعى فى اظهر أقواله وان قال أنت على كامى أو مثل أمي يرجع إلى نيته لينكشف حكمه فان قال نويت الكرامة صدق لان التكريم بالتشبيه فاش فى الكلام وان قال أردت الظهار يكون ظهارا لأنه تشبيه بجميعها وفيه تشبيه بالعضو لكنه ليس بصريح فيفتقر إلى النية وان قال أردت الطلاق كان طلاقا بائنا لأنه تشبيه بالأم فى الحرمة فكانه قال أنت على حرام ونوى به الطلاق وان لم ينو أصلا فليس بشىء لاحتمال الكرامة وقال محمد ظهار واللّه تعالى أعلم (مسئله) لو قال أنت على كظهر أمي إلى شهر مثلا لا يكون ظهارا عند(1/6390)
الشافعي فى رواية بل لغوا وفى رواية عنه يكون ظهارا وبه قال أبو حنيفة واحمد ويلزم الكفارة على هذا القول بالعزم على الوطي فى المدة وان لم يعزم حتى مضت المدة فلا كفارة عليه غير انه عند احمد ولو وطى المظاهر المظاهر منها فى المدة قبل الكفارة يا ثم ويستقر عليه الكفارة وعند أبى حنيفة يأثم ولا تستقر عليه الكفارة بل لو عزم الوطي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 210(1/6391)
ثانيا فى المدة كفر ولو مضت المدة حلت عليه بلا كفارة ولو أبانها فى المدة لا كفارة عليه وعند مالك وهو رواية عن الشافعي انه ظهار موبد وفى الباب حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال كنت امرا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يوت غيرى فلما دخل رمضان تظهرت من امراتى حتى ينسلخ رمضان فرقا من ان أصيب وفى ليلتى شيئا فاتتابع فى ذلك حتى يدركنى النهار وانا لا اقدر ان انزع فبينما هى تخدمنى إذ تكشف منها شىء فوثبت عليها فلما أصبحت غدوت على قومى فاخبرتهم خبرى وقلت انطلقوا معى إلى رسول اللّه صلعم فاخبروه بامرى فقالوا لا واللّه لا تفعل نتخرف ان ينزل فينا القرآن أو يقول فينا رسول اللّه صلعم مقالة يبقى علينا عارها ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدأ لك فخرجت حتى أتيت النبي صلعم فاخبرته خبرى فقال لى أنت بذاك فقلت انا بذاك قال أنت بذاك فقلت انا بذاك قال أنت بذاك قلت نعم فقال لى أنت بذاك فقلت انا بذاك فامض فى حكم اللّه عز وجل فانى صابر له قال أعتق رقبه قال فضربت صفحة رقبتى بيدي فقلت لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت املك غيرها قال فصم شهرين قلت يا رسول اللّه وهل اصلبني ما أصابني الا فى الصيام قال فتصدق فقلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشيا ما لنا عشا قال اذهب إلى صاحبه صدقة بنى زريق فقل له فليدفعها إليك فاطعم عنك منها وستامن تمر ستين مسكينا ثم استعن سايرها عليك وعلى عيالك قال فرجعت إلى قومى فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول اللّه صلعم السعة والبركة قد أمرني بصدقتكم إلى فادفعوها إلى رواه احمد والحاكم واصحاب السنن الا النسائي وأعله عبد الحق بالانقطاع وابن(1/6392)
سليمان لم يدرك سلمة حكى ذلك الترمذي عن البخاري ورواه الحاكم والبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وابى سلمة بن عبد الرحمن بلفظ ان سلمة بن صخر جعل امرأته على نفسه كظهر أمي ان غشيها حتى يمضى رمضان فذكر ذلك لرسول اللّه صلعم فقال أعتق رقبة الحديث احتج ابن الجوزي لهذا الحديث على كون الظهار الموقت موقتا وعلى انه إذا وطى المظاهر قبل التكفير اثم واستقرت الكفارة فى ذمته وليس فى الحديث حجة على كونها الظهار الموقت لكنه حجة على انه لا يلغو سواء كان فى الشرع موقتا أو مويدا ثم احتجاج ابن الجوزي لا يخلو عن المصادرة على المطلوب فانه لو قلنا ان الظهار الموقت لا يكون موقتا بل يكون مويدا فلا يكون الحديث حجة على استقرار الكفارة بالوطى قبل الكفارة لجواز ان النبي صلعم امره بالكفارة لتحصيل الحل بعد رمضان ولفظنا ان الكفارة لا تستقر فى الذمة بالوطى قبل التكفير بل التكفير انما هى لرفع الحرمة الثابتة بالظهار والوطي قبل التكفير موجب للاثم فقط والحرمة باقية
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 211(1/6393)
بعد ذلك ولا يحتاج إلى التكفير الا من عزم على الوطي وأراد الاستباحة بعد ذلك واما من طلقها بعد الوطي فلا حاجة إلى الكفارة كما هو مذهب أبى حنيفة رح فالحديث حجة على كون الظهار الموقت موبدا لأنه صلعم امره بصيام شهرين ان صيام شهرين لا يتصور منه الا بعد انقضاء رمضان الذي ظاهر فيه موقة إلى انسلاخه فلو كان حرمة الظهار منتهية بانتهاء رمضان لا يحتاج إلى الكفارة بعد ذلك فلا يصح قول أبى حنيفة فى الظهار الموقت ان يكون موقتا واللّه تعالى أعلم (مسئله) الظهار المعلق بشرط يصح احتج الرافعي بحديث سلمة بن صخر المذكور على صحة تعليق الظهار وتعقبه ابن الرافعة بان الذي فى السنن لا حجة فيه على جواز التعليق وانما هو ظهار موقت لا تعليق فيه لكن اللفظ المذكور عند البيهقي يشهد بما قال الرافعي (مسئله) لو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط فى العدة لا يصير مظاهرا كذا قال ابن همام (مسئله) يصح الظهار بشرط النكاح عند أبى حنيفة فإذا قال لاجنبية ان تزوجتك فانت على كظهر أمي فتزوجها ولزم كفارة الظهار ولو قال أنت على كظهر أمي فى رجب ورمضان وكفر فى رجب أجزأه عنها (مسئله) لو ظاهر فجن ثم أفاق فهو على حكم الظهار ولا يكون عائدا بالافاقة ما لم يعزم على الوطي خلافا لاجد الوجهين للشافعى واللّه تعالى أعلم - (مسئله) من قال لنسائه أنتن على كظهر أمي كان مظاهرا منهن جميعا اجماعا وهل يتعدد الكفارة فعند أبى حنيفة والشافعي يتعدد بتعدد هن وبه قال الحسن والطبراني والثوري وغيرهم وقال مالك واحمد كفارة واحدة روى ذلك عن عمر رواه البيهقي من رواية سعيد بن المسيب عنه ومن رواية مجاهد عن ابن عباس عنه وكذا روى عن على وعروة وطاؤس اعتبروه باليمين باللّه فى الإيلاء قلنا الكفارة لرفع الحرمة الثابتة بالظهار وهى متعددة بتعدد هن وكفارة اليمين لهتك حرمة اسم اللّه تعالى وهى واحدة (مسئله) لو كرر الظهار من امرأة واحدة فى(1/6394)
مجلس واحد أو مجالس متعددة يتكرر الكفارة عند أبى حنيفة وغيره لان الظهار يثبت الحرمة والنكاح باق فيصح الظهار الثاني والثالث ولا منافاة فى اجتماع اسباب الحرمة كالخمر يحرم على الصائم بعينها وللصوم واليمين الا انه إذا نوى بما بعد الأول تأكيدا فيصدق قضاء وديانة بخلاف الطلاق بانه لو نوى تأكيد الا يصدق قضاء لان حكم الظهار بينه وبين اللّه تعالى وأورد عليه انه لما ثبت بالظهار الأول الحرمة فلا يثبت بالثاني والا يلزم تحصيل الحاصل والأسباب إذا كانت من جنس واحد لا يستدعى تعدد الحرمة فلا بد ان ترتفع حرمة الظهارات المتعددة بكفارة واحدة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 212
كما ان الحدث الثابت بأسباب متعددة ترفع بوضوء واحد واللّه تعالى أعلم مِنْكُمْ حال من فاعل تظاهرون وفيه تهجين لعادة العرب فانه كان من ايمان أهل الجاهلية قيل التقييد بقوله منكم يفيد انه لا يصح الظهار من الذمي وبه قال أبو حنيفة ومالك خلافا للشافعى واحمد وهى رواية البرامكة عن أبى حنيفة لان الكافر ليس منا والحاقة بالقياس متعذر لان الظهار جناية حكمها تحريم يرتفع بالكفارة وشرك الكافر يمنع من رفع اثر الجنابة عنه بالكفارة ولانه ليس أهلا للكفارة لانها عبادة حتى اشترطت النية فلا يصح من(1/6395)
الكافر فيبقى تحريما مؤبدا أو هو غير حكمه بالنص ولقائل ان يقول ان هذه الآية غير موجبة للتحريم ولا للكفارة بل تقتضى اثم المظاهر وارتكابه منكرا من القول وزورا وانما يوجب التحريم والكفارة الآية التالية اعنى قوله تعالى الذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا وليس فيه التقييد بقوله منكم ويلزم منه صحة ظهار الذمي فالاولى ان يقال ان الحرمة بالظهار لا يمكن إثباتها الا حقا للشرع وهم غير مخاطبين بحقوق الشرع فلا يصح ظهاره كما يجوز نكاحه بلا شهودا وفى عدة كافر وإذا لم يثبت الحرمة وقت الظهار لكفره فان اسلم بعد ذلك لا يثبت الحرمة بفقد سببه واللّه تعالى أعلم - مِنْ نِسائِهِمْ التقييد بالنساء المضافة إلى المظاهرين يفيد انه لاظهار الا بالمنكوحة دون الامة المملوكة موطؤة كانت أو غيرها وهو مذهبنا ومذهب الشافعي واحمد وجمع كثير من الصحابة والتابعين خلافا لمالك والثوري فى الامة مطلقا وسعيد بن جبير وعكرمة وطاؤس وقتادة والزهري فى الامة الموطوءة لنا ان اطلاق نسائهم على الإماء وان صح لغة لكن صحة الإطلاق لا يستلزم الحقيقة بل اضافة النساء إلى رجل أو رجال حقيقة انما يتحقق فى الزوجات لأنه المتبادر ولانه يصح ان يقال لهؤلاء جواريه لا نساءه ولانه قال اللّه تعالى يايها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن والمراد بنساء المؤمنين الزوجات دون الإماء فان أولاء الجلباب على الإماء غير واجب كيف وقد قال عمر رض ألقي عنك الخمار يا دفار أ تشبهين بالحرائر ولان الظهار كان فى الجاهلية طلاقا فنقل عنه إلى تحريم منته بالكفارة ولاطلاق فى الامة ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ط على الحقيقة حتى يحرمن عليكم كما تحرم الأمهات إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وقرأ قالون وقنبل هاهنا وفى الأحزاب والطلاق اللاء بالهمزة من غير ياء وورش اللائي بياء مختلفة الكسر خلفا عن الهمزة و(1/6396)
إذا وقف صيرها ياء ساكنة والبذي وأبو عمرو بياء ساكنة بدلا من الهمزة فى الحالين والباقون بالهمزة وياء بعدها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 213
فى الحالين وحمزة إذا وقف ساكنة والبذي ساكنة بدلا من الهمزة فى الحالين والباقون جعل الهمزة بين بين على أصله وَلَدْنَهُمْ تعليل لقوله ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ... وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ فان الشرع أنكره وَزُوراً ط كذبا فان قيل الزور الكذب انما يطلق على الخبر والظهار إنشاء للتحريم لا يحتمل الصدق والكذب قلنا الظهار وان كان إنشاء لكنه فى الأصل اخبار لزعمه حرمة مويدة اطلق على قوله بالزور واللّه تعالى أعلم وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما سلف منه مطلقا وإذا أنيب عليه.(1/6397)
وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ الاختلاف فيه كما مر مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا اختلف أهل العلم فى معنى الآية فقال أهل الظاهر معنى الآية يعودون لما قالوا من لفظ الظهار يعنى كرر والفظ الظهار فلا يجب الكفارة عندهم الا بتكرار اللفظ وهو قول أبى العالية وهذا القول يرده الإجماع والأحاديث الواردة فى الباب فانه لم يرد فيه شىء من الأحاديث تعليق الكفارة بتكرار اللفظ وقال مجاهد انهم كانوا فى الجاهلية يظاهرون فمن ظاهر بعد الإسلام فقد عاد إلى ما قاله فى الجاهلية اما حقيقة أو حكما فانه من اعتقد هذا القول فكانه قاله ويرد على هذا القول ان العطف يقتضى التغاير وكلمة ثم يوجب التراخي فكيف يقال العود هو الظهار بنفسه وفسر ابن عباس العود بالندم يعنى ندموا لما قالوا وأرادوا التحليل وانما فسر العود بالندم لان معنى العود الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه كذا فى الصحاح والرجل كان راضيا بالحل ثم إذا انصرف عنه إلى التحريم فإذا ندم عن التحريم فكانه رجع إلى الحالة الاصلية من الرضاء بالحل وقال اكثر المفسرين الآية مصروفة عن الظاهر فقيل اللام بمعنى عن ومعنى يعودون لما قالوا يرجعون عما قالوا والرجوع عن هذا القول انما هو ارادة التحصيل فالمعنى أرادوا التحليل وقيل المضاف محذوف والتقدير يعودون لنقض ما قالوا ولتدارك ما قالوا أو لضد ما قالوا قال البيضاوي ويعودون لما قالوا أى إلى قولهم بالتدارك ومنه مثل عاد الغيث على ما أفسدوا معنى العود على هذا التقديرات الصيرورة عن حال اعنى عن حال السخط إلى حالة الرضا كما فى قوله تعالى حتى عاد كالعرجون القديم وحاصل معنى الآية حينئذ ثم يريدون التحليل قال الفراء يقال عاد فلان لما قال أى فيما قال وفى نقض ما قال وهذا القول يحتمل التأويلين المذكورين وعن ثعلب معناه ثم يعودون لتحليل ما حرموا وعلى هذا التقدير أيضا المضاف محذوف غير انه أراد بما قالوا(1/6398)
ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول بمنزلة المقول فيه كقوله تعالى ونرثه ما يقول أراد المقول فيه وهو المال لولد وقال أبو مسلم يعودون إلى المقول منها بامساكها واستباحتها ثم العود والرجوع عن القول المذكور يحصل بالوطى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 214
على قول الحسن وقتادة والزهري وطاؤس قالوا لا كفارة عليه ما لم يطاها كما ان لا كفارة بعد اليمين ما لم يحنث وهذا القول يرده قوله تعالى من قبل ان يتماسا فانه يوجب الكفارة قبل الوطي وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى إذ أمسكها عقيب الظهار زمانا يمكنه ان يفارقها ولم يطلقها فقد عاد ورجع عن القول المذكور ووجب عليه الكفارة وان علقها عقيب الظهار فى الحال أو مات أحد فى الوقت فلا كفارة عليه لان العود للق ول هو المخالفة وانه قصد بالظهار التحريم فإذا أمسكها فقد خالف قوله ورجع عما قاله فيلزمه الكفارة حتى قال لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها فان راجعها صار عايدا ولزمه الكفارة قلنا لا نسلم ان مقتضى الظهار التحريم بالطلاق عقيبه حتى يكون عدم إتيانه بالطلاق وإمساكها على النكاح نقضا المقتضى الظهار كما قال ومخالفته لمقتضى الظهار بل كان مقتضى الظهار فى الجاهلية الحرمة المطلقة المنافية للحل الثابت بالنكاح كما هو مقتضى الطلاق ثم صار فى الشرع مقتضاه حرمة الوطي مع بقاء النكاح المنتهية بالكفارة وشرع الكفارة رفع ذلك الحرمة فالسكوت بعد الظهار إرادته استباحة المرأة والعزم على وطيها ويمكن ان يقال المراد بالعود الوطي كما قال الحسن ومن معه لكن لما جعل اللّه تعالى الكفارة شرطا لحل الوطي لقوله تعالى من قبل ان يتماسا ظهران معنى قوله تعالى ثم يعودون لما قالوا يريدون العود لما قالوا كما فى قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة فلا يجوز القول بانه لا(1/6399)
كفارة عليه مالم يطاها فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أى فعليهم تحرير رقبة شرطا للوطى والفاء للتعقيب المجرد دون السببية وقال اكثر العلماء انها للسببية واختلفوا فى ان سبب وجوب كفارة الظهار ماذا فقال الشافعي هو الظهار والعود يعنى إمساكها عقب الظهار زمانا يمكنه ان يفارقها شرط لان فى الآية ترتب الحكم على الامرين والكفارة يتكرر بتكرر الظهار فهو السبب وقالت الحنفية الظهار لا يصلح سببا للكفارة لانها عبادة أو يغلب فيها العبادة والظهار منكر من القول وزورا ولا يكون
الحظور سببا للعبادة واللّه سبحانه علق وجوبها بالأمرين الظهار والعود فالسبب مجموعهما والظهار معصية يصلح ان يكون سببا للعقوبة والعود الذي هو إمساك بالمعروف عبادة والكفارة دايرة بين العقوبة والعبادة مجموع الامرين يصلح ان يكون سببا لها وقال فى المحيط سبب وجوبها العود فقط فانه هو المستأخر من المذكورين وعليه رتب الكفارة والظهار شرط وإذا أمكن البساطة فى العلة صير إليها لانها الأصل بالنسبة إلى التركيب والحكم قد يتكرر بتكرر الشرط كما يتكرر صدقة الفطر وسببها راس يمونه ويلى عليه ويرد هاهنا انه لو كان العزم على الوطي فقط سببا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 215(1/6400)
لوجوب الكفارة أو الظهار والعزم مجموعهما سببا للوجوب لزم ان يجب الكفارة على من ظاهر ثم عزم على الوطي ثم أبانها أو ماتت بعد العزم لوجوب السبب لكن لا يجب إذ لو وجبت لما سقطت وقد نص فى المبسوط انه لو أبانها أو ماتت بعد العزم لا كفارة عليه والتحقيق ان اطلاق الواجب فى مثل هذا المقام انما هو مجازى وقد ذكر فى اصول الفقه فى تعريف الحكم انه خطاب اللّه تعالى المتعلق بافعال المكلفين للاقتضاء أو التخيير أو الوضع فخطاب الاقتضاء الإيجاب أو الندب وخطاب التخيير الإباحة وخطاب الوضع جعل الشيء شرطا لشىء أو سببا له أو ركنا له أو مانعا عنه وخطاب الوضع دون الاقتضاء فان اللّه سبحانه جعل بهذه الكفارة سببا لرفع الحرمة الثابتة بالظهار وشرطا لاباحة الوطي كما جعل بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الوضوء شرطا لاباحة الصلاة وسببا للطهارة عن الحدث وبقوله تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجولكم صدقة الصدقة شرطا لاباحة المناجاة فليس الظهار فى الحقيقة سببا لوجوب الكفارة بل هو سبب لرفع حرمة الوطي ولا ارادة الوطي سبب لها بل النكاح سبب لوجوب حقوق الزوجية ومنها الوطي والحرمة الثابتة بالظهار مانع عنها وما هو مانع عن الحقوق الواجبة يجب إزالتها فالنكاح كما هو سبب لوجوب حقوق الزوجية سبب لازالة ما هو مانع عنها والكفارة سبب لازالة الحرمة فالنكاح السابق صار بعد الظهار سببا لوجوب الكفارة كما ان اليمين سبب للمنع عن المحلوف عليه وبعد الحنث يكون سببا للكفارة وبهذه العلاقة يطلق على الظهار انه سبب للكفارة كما يطلق على الحنث انه سبب للكفارة ولا تزوج ثان حتى لو طلقها بعد الظهار ثلاثا فعادت عليه بعد زوج اخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر فيها - (مسئله) يحرم على المظاهر دواعى الوطي أيضا كالقبلة واللمس عندنا وعند مالك والشافعي قولان الجديد الاباحة وعن احمد(1/6401)
روايتان اظهرهما التحريم لنا ان الوطي إذا حرم حرم بدواعيه كيلا يقع فيه كما فى الاستبراء والإحرام بخلاف الحائض والصائم لأنه يكثر وجودهما ولو حرم الدواعي يفضى إلى الحرج ولا كذلك الظهار والاستبراء والإحرام ولان الحرمة الثابتة بالظهار مشابهة بحرمة المحارم فيحرم الدواعي أيضا كما فيهن (مسئله) للمرأة ان يطالبه بالوطى وعليها ان تمنعه من الاستمتاع بها حتى يكفر وعلى القاضي ان يجره على التكفير دفعا للضرب عنها بحبسه فان أبى يضربه ولا يضرب فى الدين ولو قال قد كفرت صدق مالم يعرف بالكذب كذا فى الفتح القدير (مسئله) يجزء الرقبة الكافرة والمسلمة والذكر والأنثى والصغيرة والكبيرة لاطلاق الرقبة وقال مالك والشافعي واحمد فى رواية لا يجزى اعتاق الرقبة الكافرة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 216
حملا للمطلق هاهنا على المقيد الوارد فى كفارة القتل قلنا المطلق يجرى على إطلاقه والمقيد على تقييده ولا وجه لحمل أحدهما على الاخرى وبسط هذا الكلام فى اصول الفقه (مسئله) لا يجزى العميا ولا مقطوعة اليدين أو الرجلين أو يد ورجل من جهة واحدة أو مقطوعة ابهامى اليدين أو مقطوعة ثلث أصابع سوى الإبهام من كل يد ومقطوعة احدى اليدين واحدي الرجلين من خلاف والصماء التي تسمع إذا صيح يجزى والا لا والحاصل ان فائت جنس المنفعة لا يجزى والمختلة تجزى (مسئله) لا يجوز عتق المدبر من الكفارة ولا أم الولد لكون رقهما ناقصا وكذا المكاتب الذي ادى بعض كتابت وان لم يرد شيئا جاز خلافا للشافعى (مسئله) من اشترى أباه أو ابنه ينوى بالشراء الكفارة جاز عنها وكذا لو وهب له ونوى عند قبول الهبة خلافا للشافعى ولو ورث ونوى عند موت مورثه لا يجوز اتفاقا(1/6402)
و الحاصل انه إذا دخل فى ملكه بصنعه ونوى عند صنعه ذلك انه للكفارة اجزاء والا لا مسئله لو قال ان دخلت الدار فانت حرونوى عن الكفارة فان نوى وقت اليمين جاز وان نوى وقت الدخول لا يجوز مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا الضمير يرجع إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها المراد بالتماس المجامعة وفيه دليل على ان الكفارة شرط لحل الاستمتاع وان الظهار يوجب الحرمة ذلِكُمْ أى الحكم بالكفارة قبل المسيس تُوعَظُونَ بِهِ أ يزيل الحرمة الثابتة بالظهار أو لئلا يعودوا إلى الظهار مخافة الفرقة أو لان إيجاب الكفارة دليل على ارتكاب الجناية فيتعظوا بايجاب الكفارة عن ارتكاب الظهار وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة ولا يقدر على اكتسابها بالشراء اما بفقد قيمتها أو بفقد رقبة يمكن تملكها بالشراء أو لكون ماله مشغولا بالدين أو محتاجا إليه لنفقته أو لنفقة عياله عند أبى حنيفة والشافعي واحمد خلافا لمالك والأوزاعي فعندهما من ملك قيمة رقبة ويمكنه شراها يلزمه الاعتاق وان كانت قيمة مشغولة بدينه أو محتاجا إليه لنفقته ولا يجوز له الانتقال إلى الصوم لنا انه مشغول بحاجة الاصلية فكانه ليس فى ملكه (مسئله) ومن كانت له رقبة لكنه محتاج إلى خدمته فعند الشافعي واحمد له ان ينتقل إلى الصوم اعتبارا بالماء المعد للعطش يجوز له التيمم والمال المشغول بالدين وعندنا يلزمه الاعتاق ولا يجوز الانتقال إلى الصوم والفرق لنا ان الماء مامور بامساكه لعطشه واستعماله محظور عليه وكذا الدين مامور بادائه بخلاف الخادم فانه غير مامور بامساكه لخدمته (مسئله) المعتبر اليسار والعسار وقت التكفير أى الأداء وبه قال مالك وقال احمد والظاهرية وقت الوجوب وللشافعى اقوال كالقولين والثالث يعتبرا غلظ الحالين فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 217(1/6403)
اى فعليه صيام شهرين ليس فيها رمضان ولا يوم الفطر والنحر وايام التشريق لان صوم رمضان لا يقع من الظهار لما فيه من ابطال ما أوجبه اللّه وصوم الأيام المنهية لا ينوب عن الوجوب الكامل وقد قيد اللّه تعالى مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ط فان فاتت التتابع بعذرا وبلا عذر يجب الاستيناف اجماعا وان وطى المظاهر فى خلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا لا يجب الاستيناف عند الشافعي وابى يوسف رحمهما اللّه تعالى وهى رواية عن احمد لعدم فوات التتابع وهو الشرط وان كان تقديمه على المسيس شرطا ففى عدم الاستيناف تقديم البعض وفى الاستيناف تأخيرا لكل عنه وقال أبو حنيفة ومالك واحمد فى اظهر رواية يستانف لان الشرط فى الصوم ان يكون قبل المسيس وان يكون خاليا عن الجماع فيستانف فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام لمرض أو كبرا وفرط شهوة لا يصبر عن الجماع أو خوف حدوث مرض فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ط كل مسكين مدان عند أهل العراق وهو نصف صاع من أى جنس كان قال البغوي يروى ذلك عن عمرو على وعند أبى حنيفة نصف صاع من بر أو صاع من شعيرا وتمرو هو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والحاكم ومجاهد والكرخي بإسناده إلى مجاهد انه قال كل كفارة فى القرآن فهو نصف صاع من برو قال مالك مد وهو رطلان بالبغدادي وقال احمد مد بغدادى من حنطة أو دقيق ومدان من شعيرا وتمر ورطلان من خبزاى خبز حنطة وقال الشافعي مد بمد النبي صلعم وهو رطل وثلث رطل من غالب قوت البلد روى ابن الجوزي فى التحقيق بسنده عن سليمان بن يسار قال أدركت الناس وهم يعطون فى طعام المساكين مدا مدا ويروى ان ذلك يجزى عنهم والحجة لابى حنيفة مامر من حديث سلمة بن صخر وفيه اطعم منك وسقا من تمر ستين مسكينا لكن الحديث منقطع كما ذكرنا وقد روى الترمذي من حديث أبى سلمة ان سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته كظهر امه حتى يمضى رمضان الحديث و(1/6404)
فيه قال اطعم ستين مسكينا قال لا أجد قال رسول اللّه صلعم لعروة بن عمر واعطه الفرق وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا ليطعم ستين مسكينا ويمكن ان يقال ان قوله وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا أو ستة عشر صاعا من كلام الراوي والمرفوع انما هو أعطه الفرق والفرق فى اللغة الزنبيل سواء كان صغيرا أو كبيرا وعند الطبراني فى حديث أوس
بن الصامت قال فاطعم ستين مسكينا ثلثين صاعا قال لا املك ذلك الا ان تعينينى فاعانه النبي صلعم بخمسة عشر صاعا وأعانه الناس حتى بلغ ثلثين صاعا وروى أبو داود عن خولة بنت مالك قالت ظاهر منى زوجى أوس بن الصامت فجئت رسول اللّه صلعم أشكو إليه ورسول اللّه صلعم يجادلنى فيه ويقول اتقى اللّه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 218(1/6405)
فانه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قد سمع اللّه قول التي تجادلك الآية فقال يعتق رقبة فقلت لا يجد فقال يصوم شهرين متتابعين قلت يا رسول اللّه انه شيخ كبير ما به من صيام قال فيطعم ستين مسكينا قلت ما عنده شىء يتصدق به قال فانى ساعينه بفرق من تمر قلت يا رسول اللّه وانى ساعينه بفرق من تمر قلت يا رسول اللّه انى ساعينه بفرق اخر قال قد أحسنت فاذهبى فاطعمى هما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك قال والفرق ستون صاعا وقيل هو مكتل يسع ثلثين صاعا قال أبو داود وهذا أصح قال ابن همام وجه الاصحية انه لو كان ستين لم يحتج إلى معاونتها بفرق اخرى فى الكفارة واحتج الشافعي ومن معه بحديث أبى هريرة فى كفارة الصوم جاء رجل إلى النبي صلعم أفطر فى رمضان الحديث قال فاتى بفرق قدر خمسة عشر صاعا قال كله أنت وأهلك وصم يوما واستغفر اللّه رواه أبو داود من طريق هشام بن سعد عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عنه وهشام بن سعد ضعفه النسائي وغيره ورواه أبو داود من حديث اسمعيل قال وقعت امرأتى الحديث وفيه قال خمسة عشر صاعا وكذا وقع فى رواية ابن أبى حفصة ومومل قال البخاري منكر الحديث لكن قال الذهبي ومحمد بن أبى حفصة أو سلمة ضعفه النسائي وغيره وقواه غير واحد وفى رواية حجاج بن ارطاة عن الزهري عند الدارقطني بخمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا وحجاج بن ارطاة ضعيف مدلس وروى عبد اللّه بن احمد عن أبيه عن يحى انه لم ير الزهري ويؤيد هذا الحديث حديث على رض عند الدارقطني يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مدو فيه فان بخمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين قلنا قال البخاري فى الحديث اضطراب ففى بعض الروايات خمسة عشر صاعا وعند ابن خزيمة من طريق مهران خمسة عشر أو عشرون فى الصحيحين ذكر حديث أبى هريرة وليس فيه تقدير الصيعان بل فيه اتى بفرق فيه تمرو الفرق المكتل الضخم وفى مرسل سعيد بن المسيب ما بين خمسة عشر إلى عشرين وفيه عطاء(1/6406)
الخراسانى ذكره العقيلي فى الضعفاء وقال البخاري عامة أحاديثه مقلوبة وفى بعض الروايات عشرون صاعا بالجزم كذا عند الدارمي فى مرسل سعيد بن المسيب وفى حديث عائشة عند ابن خزيمة اتى بفرق فيه عشرون صاعا وهذه الأحاديث واردة فى كفارة الصوم ما احتج به أبو حنيفة وارد فيما نحن فيه والشافعي رحمه اللّه تعالى ذهب إلى اقل ما ورد فى مقدار الطعام احتياطا ولكن أصح ما ورد فى تقدير طعام المسكين حديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه فى سورة البقر فى تفسير قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أو نسك رواه الشيخان فى الصحيحين وفيه امره رسول اللّه صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 219
ان يطعم فرقا بين ستة مساكين أو يهدى شاة أو يصوم ثلثة ايام والفرق ثلثة أصوع وفى هذا الحديث عند الطبراني لكل مسكين نصف صاع تمر ولاحمد عن نهر نصف صاع طعام ولبشر بن عمر عن شعبة نصف صاع حنطة ورواية الحكم عن ابن أبى ليلى يقتضى نصف صاع من زبيب فانه قال يطعم فرقا من زبيب بين ستة مسالكين قال ابن حزم لا بد من ترجيح احدى الروايات لانها قصة واحدة فى مقام واحد قال الحافظ المحفوظ عن شعبة نصف صاع من طعام والاختلاف على كونه تمر أو حنطة لعله من تصرف الرواة اما الزبيب فلم أره الا فى رواية الحكم وقد أخرجها أبو داود وفى اسناده أبو اسحق وهو فى المغازي لا فى الاحكام إذا خالف وقيل المحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبى قلابة ولم يختلف فيه على أبى قلابة وكذا أخرج الطبراني من طريق الشعبي عن كعب وقال الحافظ وما وقع فى بعض النسخ عند مسلم لكل مسكين صاع تحريف فمن دون مسلم و(1/6407)
الصواب ما فى النسخ الصحيحة لكل مسكين نصف صاع ولما كان الإطعام فى الآية مجملا فى مقدار الواجب وما ورد من الأحاديث فى باب الظهار والصوم مضطربة فى المقدار فالحمل على هذا الحديث الصحيح المتفق عليه اولى من الحمل على صدقة الفطر فان الأمر فيه بالأداء دون الإطعام فعلى هذا مذهب أهل العراق أقوى ومذهب أبى حنيفة أحوط واللّه تعالى أعلم (مسئله) لو غداهم وعشاهم اكلتين مشبعتين بخبز حنطة ولو بغير ادام أو بخبز شعير بادام سواء كانت غداء وعشاء أو غدائين أو عشائين بعد اتحاد ستين جاز ولو غدا ستين وعشا آخرين لم يجز ولو كان ممن اطعم صبيا فطيما أو رجلا شبعان لم يجز ويشترط الإشباع قليلا أكلوا أو كثيرا ولا يشترط التمليك خلافا للشافعى ولو اعطى مسكينا واحدا ستين يوما جاز عند أبى حنيفة خلافا للجمهور وقد مرت المسائل اختلافا واستدلالا فى كفارة اليمين فى سورة المائدة (فائدة) لم يذكر اللّه تعالى قيد من قبل ان يتماسا فى الإطعام كما ذكر فى أخويه ومن هاهنا قال أبو حنيفة انه جامع المظاهر التي ظاهر منها فى خلال الإطعام لا يجب عليه الاستيناف لان اللّه سبحانه ما شرط فى الإطعام ان يكون قبل المسيس ونظر إلى عدم تقيد الإطعام بقبلية المسيس قال مالك انه من أراد التكفير بالاطعام جاز له الوطي والج مهور على انه لا يجوز له ذلك والوطي قبله الجمهور على انه يجوز له ذلك والوطي قبل التكفير حرام مطلقا لان الظهار موجب للحرمة والكفارة سبب لازالة الحرمة فما لم توجد الكفارة لا يحل له الوطي سواء كانت بالاطعام أو غير ذلك لعموم قوله صلعم فاعتزلها حتى يكفر فيما روى اصحاب السنن الاربعة عن ابن عباس رض ان رجلا ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل ان يكفر فقال عليه السلام ما حملك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 220(1/6408)
على هذا قال رايت خلخالها فى ضوء القمر وفى لفظ بياض ساقيها قال فاعتزلها حتى تكفر قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب قال المنذر رجاله ثقات مشهور سماع بعضهم عن بعض قال البغوي الإطلاق فى الطعام محمول على المقيد فى العتق والصيام وهذا مبنى على أصلهم من حمل المطلق على المقيد قلت قوله تعالى من قبل ان يتماسا فى الاعتاق والصيام ليس شرطا لجواز الكفارة وإلا لزم ان من جامع امرأته بعد الظهار قبل الكفارة ثم كفر بعد ذلك لا يجوز كفارته ولا تحل له المرأة بل هو بيان لحرمة الوطي قبل الكفارة ولعله سبحانه ترك القيد بعد الإطعام حذرا من التطويل واكتفاء بما سبق فى أخويه ولم يقتصر على أحدهما لدفع توهم اختصاصه بالخصلة الاولى لو اقتصر عليه معها وتوهم اختصاصه لو اقتصر معها فذكره مرتين تنبيه على ارادة تكريره مطلقا واللّه تعالى أعلم (مسئله) لو جامع المظاهر قبل التكفير استغفر اللّه لوقوعه فى الحرم ويكفر بعد ذلك ليحصل له الحل بعد ذلك ويرتفع الحرمة الثابتة بالظهار ولا يجب عليه بالجماع قبل التكفير كفارة اخرى وقال بعض أهل العلم يجب عليه كفارتان لنا ما مر من حديث سلمة بن صخران النبي صلعم أمرها بكفارة واحدة بعد ما جامعها قبل التكفير وحديث ابن عباس مثل ذلك وروى الترمذي وابن ماجة حديث سلمة بن صخر عن النبي صلعم فى مظاهر يواقع قبل ان يكفر قال كفارة واحدة وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال مالك فى المؤطأ فيمن يظاهر ثم يمسها قبل ان يكفر يكف عنها حتى يستغفر اللّه ويكفر ثم قال وذلك احسن ما سمعت ذلِكَ منصوب بفعل مقدر أى بينا ذلك الاحكام لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ط ذكر اللّه سبحانه الايمان وأراد به شرايعه كما فى قوله تعالى ان اللّه لا يضيع ايمانكم أى صلوتكم يعنى لتعملوا بشرائع الإسلام ترفضوا ما كنتم عليه فى الجاهلية وَتِلْكَ الكفارات حُدُودُ اللَّهِ ط يمتنع بها المكلف عن إتيان المحرمات من(1/6409)
الظهار ونحوه أو المعنى تلك الاحكام حدود اللّه لا يجوز تعديها وَلِلْكافِرِينَ الذين لا يقبلون احكام اللّه تعالى ولا يمتنعون عن المحرمات ويتجاوزون عن حدوده عَذابٌ أَلِيمٌ وهو نظير قوله تعالى ومن كفر فان اللّه غنى عن العالمين.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى يعادون اللّه ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما فان كلا من المتعادين فى حد غير حد الاخر والمعنى يضعون أو يختارون حدودا غير حدودهما كُبِتُوا قال فى القاموس كبته يكبته صرعه وأخزاه وصرفه وكسره ورد العد وبغيظه إذ له المكت الممتلى غما كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار الأمم الماضية وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ دالة على صدق الرسول صلعم وَلِلْكافِرِينَ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 221
عَذابٌ مُهِينٌ
يذهب عزهم وتكبرهم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب بالظرف المستقر اعنى للكافرين أو بمهين أو باضمارا ذكر تعظيما لليوم جَمِيعاً تأكيد للضمير المنصوب فى يبعثهم أو حال منه أى مجتمعين فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ط على رؤس الاشهاد تفضيحا لهم وتقريرا لعذابهم أَحْصاهُ اللَّهُ يعنى أحاط اللّه ما عملوا علما لم يغب منه شىء وَنَسُوهُ ط لكثرته أو لتهاونهم به عند ارتكابه وانما يحفظ من الأمور ما يستعظم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ ع لا يعزب عنه شىء.
(1/6410)
أَ لَمْ تَرَ استفهام انكار بمعنى تعلم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ط كليا وجزئيا ما يَكُونُ من كان التامة أى ما يقع مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ قرأ أبو جعفر تكون بتاء التأنيث نجوى والباقون بالياء لاجل الفصل بمن الزائدة والنجوى اسم مصدر كذا فى القاموس مشتق من النجوة وهى ما ارتفع من الأرض فان السرائر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد ان يطلع عليه والمعنى ما يقع من تناجى من الرجال ويجوز ان يقدر مضاف أو باول نجرى بمتناجين ويجعل صفة لها إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ استثناء مفرغ حال من ثلثة يعنى فى حال من الأحوال إلا حال كون اللّه تعالى جاعلهم اربعة من حيث انه معهم معية غير متكيفة وشريكهم فى الاطلاع وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ تخصيص العددين اما لخصوص الواقعة فان الآية نزلت فى تناجى المنافقين أو لان اللّه وترو اللّه يحب الوتر والثلاثة أول الأوتار التي يمكن فيها التشاور لان التشاور لا بد له غالبا من المتنازعين وواحد يتوسط بينهما ويرجح راى أحدهما والمتنازعين اما يكون من كل جانب واحدا فالمجموع ثلثة واما يكون جماعة وادنى الجماعات اثنان فالمجموع خمسة فذكر العددين وأشار إلى غيرهما من الاعداد بقوله وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ يعنى اقل عددا من الثلاثة كالاثنين وَلا أَكْثَرَ من الثلاثة أو من الخمسة كالاربعة والستة وما فوقها قرأ يعقوب بالرفع عطفا على محل نجوى قبل دخول من أو محل ادنى ان جعلت لا لنفى الجنس إِلَّا هُوَ يعنى اللّه سبحانه مَعَهُمْ معية غير متكيفة مقتضية للاطلاع على ما يجرى بينهم أَيْنَ ما كانُوا ج فان علمه تعالى ليس لقرب المكاني حتى يتفاوت باختلاف الامكنة ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ط تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحقونه من الجزاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فانه تعالى هو الخالق للذات والصفات من العلوم(1/6411)
و غيرها والمقلب للاحوال أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان قال كان بين اليهود وبين النبي صلعم موادعة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 222
فكانوا إذا مر بهم رجل من اصحاب جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن انهم يتناجون بقتله أو بما يكره وذكر البغوي نحوه وزاد وان المؤمنين حين يرونهم يتناجون كانوا يقولون ما نريهم الا وقد بلغتهم من إخواننا الذين خرجوا فى السرايا بقتل أو موت أو هزيمة فيقع ذلك فى قلوبهم فيحزنهم فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول اللّه صلعم فنهاهم النبي صلعم عن النجوى فلم ينتهوا فانزل اللّه تعالى.(1/6412)
أَ لَمْ تَرَ الم تنظرنا يا محمد إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى أى المناجاة ثُمَّ يَعُودُونَ مضارع بمعنى الماضي أى عادوا عطف على نهوا وإيراد صيغة المضارع لاستحضار صورة العود الشنيعة لِما نُهُوا عَنْهُ ولم ينتهوا يَتَناجَوْنَ عطف على يعودون قرأ حمزة يتنجون وهو يفتعلون من النجوى والباقون على وزن يتفاعلون بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أى بما هو اثم عند اللّه وعدوان على المؤمنين وتواص بمعصية الرسول وكان نفس النجوى أيضا معصية للرسول فانه عليه الصلاة والسلام نهاهم عنه أخرج احمد والبزاز بسند جيد عن ابن عمران اليهود كانوا يقولون لرسول اللّه صلعم سام عليكم ثم يقولون فى أنفسهم لو لا يعذبنا اللّه بما نقول فنزلت هذه الآية وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وهو قولهم السام عليكم والسام الموت وهم يوهمونه انهم يقولون السلام عليكم وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يعنى فيما بينهم إذا خرجوا من عند النبي صلعم أو يقولون فى قلوبهم لَوْ لا هلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ من التحية وانه ليس نبى ان كان نبيا لعذبنا اللّه به قال اللّه عز وجل حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ج عذابا يَصْلَوْنَها ج حال من ضمير حسبهم فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم عن عائشة قالت استاذن رهط من اليهود على النبي صلعم فقال السام عليكم فقلت بل عليكم السام واللعنة فقال يا عائشة ان اللّه رفيق يحب الرفق فى الأمر كله قلت أو لم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم وفى رواية عليكم ولم يذكر الواو متفق عليه وفى رواية البخاري قالت ان اليهود أتوا النبي صلعم فقالوا السام عليكم قال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم اللّه وغضب عليكم فقال رسول اللّه صلعم مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش قالت أو لم تسمع ما قالوا قال أو لم تسمعى ما قلت رددت عليهم فيستجاب لى فيهم ولا(1/6413)
يستجاب لهم فى وفى رواية لمسلم لا تكونى فاحشة فان اللّه لا يحب الفحش وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم إذ اسلم عليكم اليهود فانما يقول أحدهم السام عليكم فقل وعليك متفق عليه وعن انس قال قال رسول اللّه صلعم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم متفق عليه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال مقاتل يعنى الذين
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 223
أمنوا بألسنتهم دون قلوبهم وهم المنافقون وقال عطاء يريد الذين أمنوا بزعمهم إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما يفعله اليهود وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ بأداء الفرائض والطاعات وما يتضمن خير المؤمنين وَالتَّقْوى ج أى الاحتراز من معصية الرسول وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تفعلون وتتركون فانه مجازيكم أخرج ابن جرير عن قتادة قال كان المنافقون يتناجون بينهم وكان ذلك يغيظ المؤمنين ويكبر عليهم فانزل اللّه تعالى.(1/6414)
إِنَّمَا النَّجْوى الذي يأتونه لغيظ المؤمنين وحزنهم مِنَ الشَّيْطانِ فانه المزين لها وحاملهم عليها لِيَحْزُنَ متعلق بفعل محذوف تقديره يتناجون ليحزن أو يزين الشيطان النجوى ليحزن أو متعلق بالظرف المستقر يعنى كاين من الشيطان ليحزن الَّذِينَ آمَنُوا بتوهمهم لوصول مكروه وَلَيْسَ النجوى أو الشيطان بِضارِّهِمْ أى المؤمنين شَيْئاً من الضرر - إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ط أى بقضائه ومشيته الجملة حال من فاعل الظرف المستقر وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الفاء فى فليتوكل جواب اما المحذوفة تقديره واما على اللّه فليتوكل المؤمنون ولا يبالوا بنجوهم عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذا كنتم ثلثة فلا تتناجى اثنان دون الثالث الا باذنه فان ذلك يحزنه رواه البغوي وروى احمد والشيخان والترمذي وصححه وابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعا إذا كنتم ثلثة فلا تتناجى رجلان دون الاخرى حتى يختلطوا بالناس فان ذلك يحزنه قال البغوي قال مقاتل بن حبان كان النبي صلعم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء الناس منهم يوما وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلعم فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون ان يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي صلعم فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فاقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلعم الكراهية فى وجوههم فانزل اللّه تعالى.(1/6415)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ الآية واخرج ابن أبى حاتم عنه انها أنزلت يوم جمعة وقد جاء ناس من أهل بدر فذكر نحوه وقال البغوي قال الكلبي نزلت فى ثابت بن قيس بن شماس وقد ذكر فى سورة الحجرات قصته واخرج ابن جرير عن قتادة قال كانوا إذا راوا من جائهم مقبلا بمجلسهم عند رسول اللّه صلعم فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا توسعوا وليقسحوا بعضكم عن بعض من قولهم افسح عنى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 224(1/6416)
اى تنح فِي الْمَجالِسِ قرأ عاصم على صيغة الجمع بالألف والباقون المجلس بغير الف على التوحيد والمراد بالمجلس حينئذ الجنس أو مجلس رسول اللّه صلعم فانهم كانوا يتنافسون على القرب من النبي ويحرصون على استماع كلامه فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ج مجزوم فى جواب الأمر أى يوسع اللّه لكم فيما تريدون الوسعة من المكان والرزق والصدر ويوسع لكم الجنة روى البغوي بسنده عن عبد اللّه ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا وروى أيضا من طريق الشافعي عن جابر بن عبد اللّه ان النبي صلعم قال لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا وقال أبو العالية والقرظي والحسن هذا فى مجالس الحرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم فى الصف فيقول توسعوا فيابون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم فى الشهادة وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قرأ نافع وابن عمرو وعاصم بخلاف عن أبى بكر بضم الشين فيها ويبتدون بهمزة الوصل والباقون بكسر الشين ويبتدون بكسر الهمزة والمعنى ارفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لاخوانكم وقال البغوي قال عكرمة والضحاك كان رجال يتناقلون عن الصلاة إذا نودى بها فانزل اللّه هذه الآية معناه إذا نودى للصلوة فانهضوا لها وقال مجاهد واكثر المفسرين معناه إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة والى الجهاد والى كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا يَرْفَعِ اللَّهُ مجزوم فى جواب الأمر الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بالنصر وحسن الذكر ومهابتهم فى أعين الناس وغير ذلك فى الدنيا وايوائهم فى غرف الجنان فى الاخرة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ العلماء منهم خاصة دَرَجاتٍ ط تميز من نسبة الرفع إلى المفعول تقديره يرفع اللّه درجات الذين أمنوا فى الجنة بما جمعوا من العلم والعمل فان العمل إذا صدر من أهل العلم يوتى من الاجر ما لا يوتى غيره لأنه يقتدى به(1/6417)
دون الجاهل فله اجره واجر من يقتدى به من غير ان ينقص من أجورهم شيئا قال رسول اللّه صلعم من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من بعده من غير ان ينقص من أجورهم شى الحديث رواه مسلم من حديث جرير قال عليه الصلاة والسلام فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينار أو لا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بحظ وافر رواه احمد واصحاب السنن عن كثير بن قيس وسماه الترمذي قيس ابن كثير قال قال عليه الصلاة والسلام فضل العالم على العابد كفضل الأعلى على أدناكم رواه الترمذي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 225
من حديث أبى امامة الباهلي عن عبد اللّه بن عمر ان رسول اللّه صلعم من مجلسين فى مسجده فقال كلاهما على خير واحدهما أفضل من صاحبه اما هؤلاء فيدعون اللّه ويرغبون إليه فان شاء أعطاهم وإنشاء منعهم اما هؤلاء فيتعمون الفقه أو العلم ويعلمون الجاهل فهم أفضل وانما بعثت معلما ثم جلس فيهم رواه الدارمي قال الحسن قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم فى العلم فان اللّه يقول يرفع اللّه المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات وفى هذه الآية اشارة إلى ان النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام والنبي صلعم مصيب فيما امر وأولئك المؤمنون مثابون فيما ايتمروا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه فيه ترغيب لمن عمل وتهديد لمن لم يمتثل الأمر واستكرهه أخرج ابن أبى حاتم عن طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس ان مسلمين أكثروا المسائل على رسول اللّه صلعم حتى شقوا عليه فاراد اللّه ان يخفف عن نبيه فانزل اللّه تعالى.(1/6418)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أى إذا أردتم مناجاته فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ الرسول صَدَقَةً ط قال البغوي قال مقاتل بن حبان نزلت فى الأغنياء وذلك انهم يأتون النبي صلعم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره النبي صلعم طول جلوسهم ومناجاتهم وقال ابن عباس فى رواية ابن أبى حاتم انه لما نزلت هذه الآية صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة قال البغوي انتهوا عن مناجاته فاما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا واما أهل اليسرة فضنوا واشتد ذلك على اصحاب رسول اللّه صلعم فنزلت الرخصة قال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه الا على رض تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة وكان على يقول اية فى كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلى ولا يعمل أحد بعدي وهى اية المناجاة وروى ابن أبى شيبة فى مصنفه والحاكم فى المستدرك عن على رض ان فى كتاب اللّه اية فما عمل بها أحد غيرى كان بي دينارا فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وذكر فى المدارك عن على رض عنه قال كنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسالت رسول اللّه صلعم عشر مسائل فاجابتنى عنها قلت يا رسول ما الوفا قال التوحيد وشهادة ان لا اله الا اللّه قلت ما الفساد قال الكفر باللّه والشرك قلت ما الحق قال الإسلام والقران والولاية وإذا اهتبت إليك قلت ما الحيلة قال ترك الحيلة قلت ما علىّ قال طاعة اللّه ورسوله قلت وكيف ادعو اللّه قال بالصدق واليقين قلت وماذا أسأل قال العافيه قلت ما اصنع لنجاة نفسى قال كل حلالا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 226(1/6419)
و قل صدقا قلت ما السرور قال الجنة قلت ما الراحة قال لقاء اللّه فلما فرغت منها نزلت نسخها ذلِكَ التصدق خَيْرٌ لَكُمْ من حب المال وَأَطْهَرُ ط لذنوبكم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا الصدقة لاجل الفقر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رخص للفقراء وأجاز لهم المناجاة من غير تصدق كان هذه الجملة مخص ص لما سبق من عموم الحكم واخرج الترمذي وحسنه عن على رض قال لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لى النبي صلعم ما ترى دينار قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال انك لزهيه فنزلت.(1/6420)
أَ أَشْفَقْتُمْ الاستفهام للتقرير والمعنى خفتم الفقر من أَنْ تُقَدِّمُوا أو المعنى خفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ط ما جمع الصدقات لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي قال على فيما روى الترمذي عنه فخفف اللّه عن هذه الآية فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا التصدق لاجل الفقر أو البخل وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تجاوز عنكم ولم يعاقبكم أو المعنى رجع بكم عنها وخفف بنسخ الصدقة ورخص لكم ان لا تفعلوه وفيه اشعار بان اشفاقكم ذنب تجاوز اللّه عنه وإذ هنا بمعناه وقيل تقدير الكلام فاذ لم تفعلوا وتاب اللّه عليكم تجاوز عنكم ونسخ الصدقة قال مقاتل بن حبان كان ذلك عشر ليال وقال الكلبي ما كانت الا ساعة من النهار - فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة ولا تهاونوا فى أدائها وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى ساير الأوامر ودوموا عليها فان القيام بها كالجابر للتفريط فى ذلك وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ع ظاهرا وباطنا فيجازيكم عليه روى احمد والبزاز وابن جرير والطبراني والحاكم من حديث ابن عباس رض انه صلى اللّه عليه وسلم كان فى حجرة من حجراته وفى رواية كان فى ظل حجرة وقد كان الظل يتقلص فقال يدخل عليكم رجل جبار وفى رواية قلبه قلب جبار وينظر بعيني الشيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا ان طلع عليهم رجل ازرق اعور فدعاه رسول اللّه صلعم فقال حين راه على ما تشتمتى أنت وأصحابك فقال ذرنى آتك فانطلق فدعاهم فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا فانزل اللّه هذه الآية .(1/6421)
أَ لَمْ تَرَ أى تنظر استفهام للانكار وانكار النفي تقدير للاثبات إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ط والمراد بالموصول المنافقون وهم عبد اللّه ابن نبتل وأصحابه وبقوم غضب اللّه عليهم اليهود فهم والوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسراء النبي صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 227
ما هُمْ يعنى المنافقين مِنْكُمْ فى الدين والولاية وَلا مِنْهُمْ أى اليهود جملة ما هم منكم حال من الموصول وَيَحْلِفُونَ عطف على تولوا عَلَى الْكَذِبِ وهو ادعاء الإسلام وَهُمْ يَعْلَمُونَ ج حال من فاعل يحلفون يعنى يحلفون عالمين بانهم كاذبون لا كمن يحلف خطاء زعما منه انه صادق فيما يقول قال السدى ومقاتل نزلت فى عبد اللّه المنافق كان يجالس رسول اللّه صلعم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينما رسول اللّه صلعم فى حجرة فذائر نحو حديث ابن عباس المذكور وفيه فحلف باللّه ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبوه.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ط نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ج فى الماضي فتحزنوا على سوء العمل وأصروا عليه.
اتَّخَذُوا جملة مستانفة أو حال من فاعل يحلفون بتقدير قد أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً وقاية لدمائهم وأموالهم فَصَدُّوا الناس فى خلال امنهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طاعته والايمان به وقيل المعنى فصدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف اخر بعذابهم أو وعيد اخر بعذابهم فوق عذابهم الأول لكفرهم والثاني لصدهم كما فى قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابا فوق العذاب وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الاخرة.(1/6422)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ يوم القيمة أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أى من عذابه شَيْئاً ط من الإغناء جملة لن تغنى صفة اخرى بعذاب بحذف الرابط تقديره لهم عذاب مهين لن تغنى عنهم فى دفعه أموالهم أو مستانفة أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الظرف متعلق بقوله فلهم عذاب مهين فَيَحْلِفُونَ لَهُ أى للّه تعالى يقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ انهم منكم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ ط من الحيلة للنجاة ويزعمون ان الايمان الكاذبة ترفع على اللّه كما تروح عليكم فى الدنيا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون الغاية فى الكذب فانهم يكذبون مع عالم الغيب حيث لا ينفعهم الكذب.
اسْتَحْوَذَ غلب واستولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ جملة مستانفة فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ط واغفلهم عند تعالى بحيث لا يخافون عذاب اللّه ولا يزعمون ان اللّه مجازيهم وانه يعلم سرهم وخفاياهم أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ ط جنوده واتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ لانهم فوتوا حظهم وبدلوا نصيبهم من الجنة بالنار الموبدة وقد ورد فى الحديث الطويل عن أبى هريرة مرفوعا ان الكافر فى القبر يفرج له فرجه قبل الجنة فينظر إلى زهرتها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 228
و ما فيها فيقال له انظر إلى ما صرفه اللّه عنك ثم يفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له هذا مقعدك رواه ابن ماجة وعنه قال قال رسول اللّه صلعم ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فإذا مان فدخل النار ورث أهل الجنة منزلته فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أى فى جملة من هو أذل خلق اللّه تعالى لا يرى أحد أذل منهم.(1/6423)
كَتَبَ اللَّهُ فى اللوح قضاء ثابتا لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي قرأ نافع وابن عامر بفتح الياء والباقون بالإسكان قوله لاغلبن جواب قسم محذوف أو يقر لما كان كتب لافادة اللزوم بمعنى القسم أورد فى جواب اللام قال الزجاج غلبة الرسل على نوعين من بعث منهم بالحرب فهو غالب فى الحرب ومن لم يومر بالحرب فهو غالب بالحجة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ لا يمتنع عنه ما يريد عَزِيزٌ لا يغلب عليه أحد.(1/6424)
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مفعول ثان لتجدلن كان بمعنى العلم وان كان بمعنى المصادفة فهو حال أو صفة مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هذه الآية تدل على ان ايمان المؤمن يفسد بموادة الكافرين وان المؤمن لا يوالى الكفار وان كان قريبه قيل نزلت الآية فى أبى حاطب بن بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسياتى القصة فى سورة الممتحنة إنشاء اللّه تعالى واخرج ابن المنذر عن أبى جريج قال حدثنا ان أبا قحافة سب النبي صلعم فصكه أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبى صلعم فقال أفعلت يا أبا بكر فقال واللّه لو كان السيف قريبا منى لضربته به فنزلت لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورسوله وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أخرج ابن أبى حاتم عن ابن شودة قال نزلت هذه الآية فى أبى عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم الهدر وأخرجه الطبراني والحاكم فى المستدرك بلفظ جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لابى عبيدة يوم بدر وجعل أبو عبيدة تحيد عنه فلما كثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت وروى مقاتل بن حبان عن مرة الهمداني عن عبد اللّه بن مسعود فى هذه الآية ولو كانوا ابائهم يعنى أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد اللّه بن الجراح يوم أحد أَوْ أَبْناءَهُمْ يعنى أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز فقال دعنى يا رسول اللّه أكن فى الرعلة الاولى فقال له رسول اللّه صلعم متعناه بنفسك يا أبا بكر أَوْ إِخْوانَهُمْ يعنى مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ط يعنى عمر قتل خاله العاص بن هشام ابن المغيرة يوم بدر وعليا وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة أُولئِكَ الذين لم يوادوهم كَتَبَ أى اثبت فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أى التصديق فهى موقنة لا تدخل فيها الشك وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ(1/6425)
اى بنور من عند اللّه وبنصره سمى بنصره إياهم روحالان أمرهم يحيى به وقال السدى يعنى بالايمان وقال الربيع يعنى بالقران وحججه وقيل برحمة منه وقيل أيدهم لجبرئيل وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعة والجملة بتقدير قد حال من فاعل يدخلهم أو من مفعوله وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه بحسبهم فى الاخرة أو بما قضى اللّه تعالى عليهم فى الدنيا أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ وجنده وأنصار دينه يتبعون امره وينهون عما نهى عنه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا والاخرة الآمنون من كل مرهوب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 229
فى الصحيحين عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رض سورة الحشر قال قل سورة النضير واخرج البخاري عنه ان سورة أنفال نزلت فى بدر وسورة الحشر نزلت فى بنى النضير.
سورة الحشر
مدنية وهى اربع وعشرون اية وثلث ركوعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/6426)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بيان للموصول يعنى بنى النضير كانوا من أولاد هارون عليه السلام مِنْ دِيارِهِمْ التي كانت لهم بالمدينة قال ابن اسحق كان اجلاء بنى نضير عند مرجع النبي صلعم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه عن الأحزاب وبينهما سنتان وسبب إخراجهم ان النبي صلعم لما دخل المدينة صالح بنو النضير على ان لا تقاتلوه ولا تقاتلوهن معه فقبل ذلك رسول اللّه صلعم منهم فلما غزا رسول اللّه صلعم بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير واللّه النبي الذي وجدنا نعته فى التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحد وانهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول اللّه صلعم والمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلعم وركب كعب بن الأشرف من بنى النضير فى أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فاتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على ان يكون كلمتهم واحدة على محمد ودخل أبو سفيان فى أربعين من قريش وكعب فى أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبرئيل فاخبر النبي صلعم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وامر النبي صلعم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلم ذكرنا قصة قتله فى سورة ال عمران فى قوله تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وكان النبي صلعم اطلع منهم على خيانات منها انهم أرسلوا إلى رسول اللّه صلعم ان أخرج إلينا فى ثلثين من أصحابك وليخرج منا ثلثون حبرا حتى نلتقى بمكان نصف بيننا وبينك فسمعوا منك فان صدقوك وأمنوا بك أمنا بك كلنا فلما كان الغد غدا إليهم رسول اللّه صلعم فى ثلثين من(1/6427)
أصحابه وخرج إليه ثلثون حبرا من يهود حتى إذا برزوا فى براز من الأرض قال بعضهم لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلثون رجلا من أصحابه كلهم يحب ان يموت قبله فارسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلا أخرج فى ثلثة من أصحابك ويخرج إليك ثلثة من علمائنا فيسمعون منك فان صدقوك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 230(1/6428)
و أمنوا بك أمنا بك فخرج رسول اللّه صلعم فى ثلثة من أصحابه وخرجت ثلثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول اللّه صلعم فارسلت امرأة ناصحة من بنى النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فاخبرته ما أراد بنو النضير من الغدر برسول اللّه صلعم فاقبل أخوها سريعا حتى أدرك رسول اللّه صلعم فساره بخبرهم قبل ان يصل إليهم فرجع رسول اللّه صلعم إلى المدينة روى القصة أبو داود والبيهقي وعبد ابن حميد وعبد الرزاق بإسناد صحيح وذكروا حديثا طويلا وفيه ان بنى النضير فعلوا ذلك الغدر حين كتب إليهم قريش بعد وقعة بدر انكم أهل الحلقة والحصون وانكم لتقاتلن صاحبنا أو لتفعلن كذا وذكر البغوي هذه القصة وقال بعد ذلك فلما كان الغد غدا إليهم رسول اللّه صلعم بالكتاب فحاصرهم احدى وعشرين ليلة ومن خياناتهم ان النبي صلعم لما أتاهم يستعين فى دية الرجلين الذين قتلهما عمرو بن امية الضميري فى منصرفه من بيرمعونة فهمت اليهود ان يطرحوا على رسول اللّه صلعم حجرا من فوق الحصن فعصمه اللّه تعالى وأخبره به ذكرنا القصة فى سورة المائدة فى تفسير قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الآية ذكر ابن حميد عن عكرمة ان اللّه سبحانه لما اخبر نبيه بذلك ورجع نبى اللّه صلعم إلى المدينة قال لهم كنانة بن صوريا هل تدرون لم قام محمد قالوا لا واللّه ما ندرى وما تدرى أنت قال بلى والتوراة انى لا درى قد اخبر محمد بما هممتم به من الغدر فلا تخدعوا أنفسكم واللّه انه رسول اللّه وما قام الا انه اخبر بما هممتم وانه لاخر الأنبياء وكنتم تطمعون ان يكون من بنى هارون فجعله اللّه حيث شاء وان كتبنا والذي درسنا فى التوراة التي لم تغير ولم تبدل ان مولده بمكة وان دار هجرته يثرب وصفته بعينها ما يخالف حرفا مما فى كتابنا و(1/6429)
لكانى انظر إليكم طاعنين يتضاعى صبيانكم قد تركتم دوركم خلوفا أموالكم وانما هى شرفكم فاطيعونى فى
خصلتين والثلاثة لا خير فيها قال مادبا؟؟؟ يسلمون وتدخلون مع محمد فتامنوا على أموالكم وأولادكم وتكونوا على ما عليه أصحابه ويبقى بايديكم أموالكم ولا تخرجون من دياركم قالوا لا نفارق التوراة وعهد موسى قال فانه مرسل إليكم اخرجوا من بلدي فقولوا نعم فانه لا يستحل لكم دما ولا مالا ويبقى أموالكم ان شئتم بعتم وان شئتم امسكتم قالوا اما هذه فنعم قال سلام بن مشكم قد كنت لما صنعتم كارها وهو مرسل إلينا ان اخرجوا من دارى فلا تعقب ماضىء كلامه وأنعم له بالخروج من بلده فلما دخل النبي صلعم المدينة أرسل إلى محمد بن مسلمة فلما جاء قال اذهب إلى اليهود بنى النضير فقل لهم ان رسول اللّه صلعم أرسلني إليكم ان اخرجوا من بلدي فلما جائهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 231(1/6430)
قال ان رسول اللّه صلعم أرسلني برسالة ولست اذكرها لكم حتى أعرفكم بشىء تعرفونه فقالوا ما هو فقال أنشدكم بالتوراة التي انزل على موسى هل تعلمون انى جئتكم قبل ان يبعث محمد صلعم وبينكم التوراة فقلتم لى فى مجالسكم هنايا ابن المسلم ان شئت ان نعذبك عذبناك وان شئت نهودك هودناك فقلت بل عذبونى ولا تهودونى فانى واللّه ما اتهود ابدا فعذبتمونى فى صفحة لكم واللّه لكانى انظر إليها كانها جذعة فقلتم لى ما يمنعك من ديننا الا انه دين يهود كانك تريد الحنيفة التي سمعت بها اما ان أبا عامر الراهب ليس بصاحبها بل صاحبها الضحوك القتال فى عينيه حمرة ويأتي من قبل اليمن يركب البعير ويلبس الشملة وتجزى بالكسرة وسيفه على عاتقه ينطق بالحكمة كأنَّه وسنحيكم هذه واللّه ليكونن بقريتكم هذه سلب وقتل ومثل قالوا اللّهم نعم قد قلنا وليس به فاقد فقلت ان رسول اللّه صلعم أرسلني إليكم انكم قد نقضتم الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغد ربى وأخبرهم بما كانوا هموا به وظهور عمرو بن حجاش على البيت ليطرح عليه الصخرة ويقول اخرجوا من بلدي وقد أجلتكم عشرا فمن راى بعد ذلك ضربت عنقه فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظهرهم بالحد فبيناهم على ذلك إذا جائهم رسول عبد اللّه بن أبى بن سلول سويد واعس فقالا يقول عبد اللّه بن أبى لا تخرجوا من دياركم وأموالكم واقيموا مع حصونكم فان معى الفين من قومى وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل ان يوصل إليكم ويمدكم قريظة فانهم لم يخذ لو كم يمدكم حلفائكم من غطفان وأرسل ابن أبى كعب بن اسد القرظي يكلمه ان يمده أصحابه فقال لا ينقض رجل واحد العهد فيئس ابن أبى اخطب بن قريظة وأراد ان يلحم الأمر فيما بين النضير ورسول اللّه صلعم فلم يزل يرسل إلى حيى بن اخطب فقال حيى انا أرسل إلى محمدا علمه ان لا يخرج من ديارنا فليضع ما بدا له وطمع حيى فيما قال ابن أبى فقال له(1/6431)
سلام بن مشكم لو لا ان يسفه رايك لاعتزلتك بمن أطاعني من يهود فلا تغفل يا حيى فو اللّه انك لتعلم ونعلم من معك انه لرسول اللّه وان صفته عندنا وانما لم نتبعه لانا حسدناه حيث خرج النبوة من بنى هارون فلتقبل ما أعطانا من الأمر وتخرج من بلاده وقد عرفت انك حالفننى فى العذر به فإذا كان أو ان التمر جئنا أو جائنا إلى تمرة أو صنع ما بدا له ثم انصرف إلينا فلم يقبل حيى قوله وأرسل حيى أخاه جدى بن اخطب إلى رسول اللّه صلعم يقوله انا لا نبرح من ديارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع وامره ان يأتي ابن أبى فيخبره برسالته إلى رسول اللّه صلعم ويأمره ان يتعمل ما وعد من النضير فلما سمع رسول اللّه صلعم رسالة قول جدى بن اخطب اظهر التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وقال حاربت يهود ثم دخل جدى على ابن أبى وهو فى بيته ومعه نفر من جلسائه وقد نادى منادى رسول اللّه صلعم التف سير المظهري ، ج 9 ، ص : 232
يأمرهم بالسير إلى بنى النضير فدخل عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبى على ابنه وعلى النضر الذين معه وعنده جدى بن اخطب فليس درعه وأخذ سيفه وخرج بعد فجاء جدى إلى حيى فقال ما ورائك قال الشر ساعة أخبرت محمدا ما أرسلت به اظهر التكبير وقال حاربت يهود قال وجئت ابن أبى فلم ار عنده خبرا(1/6432)
قال انا أرسل إلى حلفاء من غطفان فيدخلون معكم فسار النبي صلعم إلى بنى النضير واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وصلى رسول اللّه صلعم العصر بفناء النضير فلما أراد رسول اللّه صلعم وأصحابه قاموا على جدر حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلهم بنو قريظة فلم يعينوهم فلما صلى رسول اللّه صلعم العشاء رجع إلى بيته فى عشرة من أصحابه استعمل على العسكر عليا ويقال أبا بكر وبات المسلمون يحاصرونهم حتى أصبحوا ثم اذن بلال فغدا رسول اللّه صلعم فى أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس فى قضاء بنى حطم فارسل حيى إلى رسول اللّه صلعم نحن نعطيك الذي سالت ونخرج من بلادك فقال رسول اللّه صلعم لا اقبله اليوم ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل الا الحلفة فقال سلام بن مشكم اقبل ويحك قبل ان تقبل شرا من ذلك قال حيى ما يكون شرا من هذا قال يسبى الذرية ويقتل القاتل مع الأموال والأموال أهون علينا فابى حيى ان يقبل يوما أو يومين فلما راى ذلك يامين بن عمير وأبو سعيد ابن وهب قال أحدهما لصاحبه واللّه انك لتعلم انه رسول اللّه فما تنظران نسلم فتامن على دمائنا وأموالنا فنزلا من الليل فاسلما وحرز أموالهما ودمائهما وحاصر رسول اللّه صلعم على قول محمد بن عمرو بن سعد والبلاذري وأبو معشر وابن حبان خمسة عشر يوما وقال ابن اسحق وأبو عمرو ست ليال وقال سليمان التيمي قريبا من عشرين ليلة وقال ابن الطلاع ثلث وعشرين ليلة وعن عائشة خمسة وعشرين وكانوا فى حصارهم يخربون بيوتهم بايديهم مما يليهم وكان المسلمون يخربون بايديهم ويحرقون حتى وقع الصلح ونزلت اليهود على ان لهم ما حملت الإبل الا الحلقة وجعل ما بين الرجل من قيس عشرة دنانير ويقال خمسة اوسق من تمر حتى قتل عمرو بن حجاش غيلة فسر رسول اللّه صلعم فقال بنو النضير ان لنا ديونا على الناس فقال عليه السلام تعجلوا فكان لابى رافع على أسيد بن حضير عشرين ومائة(1/6433)
دينارا إلى سنة فصالحة على ثمانين فخرجت بنو النضير جملوا النساء والذرية وما استقلت به الإبل من الامتعة فكان الرجل يهدم بيته عن إيجاف بابه وقبض رسول اللّه صلعم الأموال والحلقة فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا قال ابن عباس صالحهم رسول اللّه صلعم على ان يحمل كل أهل ثلثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم وللنبى صلعم ما بقي وقال الضحاك اعطى كل ثلثة نفر بعيرا ففعلوا ذلك فخرجوا من المدينة إلى الشام أى أذرعات وأريحا الا أهل ستين ال حقيق وال حيى بن اخطب فانهم لحقوا الخيبر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 233(1/6434)
و لحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ط اللام بمعنى الوقت كما فى قوله تعالى قَدَّمْتُ لِحَياتِي قال الزهري كانوا فى سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان اللّه عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ولو لا ذلك لعذبهم فى الدنيا وقال ابن عباس ومن شك ان المحشر بالشام فليقرأ هذه فكان هذا أول حشر إلى الشام قال لهم النبي صلعم اخرجوا قالوا إلى اين قال إلى ارض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى ارض الشام وقال الكلبي انما قال لاول الحشر لانهم كانوا أول من اجلى من أهل الكتاب من جزيرة العرب - ثم اجلى آخرهم عمر بن الخطاب رض وقال مرة الهمداني كان أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام فى ايام عمر وقال قتادة كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا روى البخاري من حديث انس أول اشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب من غير ذكر الآية والحشر إخراج جمع من مكان إلى اخر ما ظَنَنْتُمْ أيها المؤمنون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم حال من فاعل أخرج وَظَنُّوا أى بنو النضير عطف على ما ظننتم أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ يعنى ان حصونهم تمنعهم من بأس اللّه وسلطانه حصونهم مبتداء وما نعتهم خبر مقدم عليه والجملة خبر ان وتغير النظم وتقديم الخبر واسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط(1/6435)
وثوقهم بحصانتها وزعم انهم فى عزة ومنعة لسببها ويجوز ان يكون ما نعتهم مبتداء من القسم الثاني صفة وحصونهم فاعل له والجملة خبر ان أيضا فَأَتاهُمُ اللَّهُ أى امر اللّه وعذابه وهو الاضطرار إلى الجلاء مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا حيث القى الرعب فى قلوبهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الفزع والخوف كذا فى القاموس أو المعنى القى فيها الخوف الذي يرعيها أى يملاها كذا قال البيضاوي وفى القاموس رعبه كمنعه ملاه عطف تفسيرى على اتبعهم بيان لجهة إتيان عذابهم يُخْرِبُونَ صفة مصارع بمعنى الماضي أورد لاستحضار صورة بديعة بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ عطف على أيديهم من حيث ان تخريب المؤمنين سبب لبغضهم ونقض عهدهم فكانهم استعملوهم فيه والجملة حال من الموصول المفعول لا خرج فى قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا أو بدل اشتمال من قوله تعالى قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ كأنَّه تفسير له أو مستانفة فى جواب ما صنعوا قرأ أبو عمرو يخربون بالتشديد من التفعيل وهو ابلغ لما فيه من التكثير والباقون بالتخفيف من للافعال وقيل الأحزاب؟؟؟ التعطيل وترك الشيء خرابا والتخريب ان النبي صلعم صالحهم على ان لهم ما أقلت الإبل فكانوا ينظرون إلى الخشب فى منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يحتسنونه فيحملونه على بلهم ويخرب المؤمنون باقيها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 234(1/6436)
و قال ابن زيد كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدر ان ويقلعون الخشب حتى الأوتاد ويخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدا أو بغضا وقال قتادة كان المسلمون يخربون ما يليهم ويخربها اليهود ومن داخلها قال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع لهم المقاتل وجعلوا اعداء اللّه ينقبون دورهم فى أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرن ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها اصحاب رسول اللّه صلعم فذلك قوله تعالى يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ الآية فَاعْتَبِرُوا فانظروا واتعظوا بما نزل بهم ولا تفعلوا من الكفر والفسوق مثل ما فعلوا كيلا ينزل بكم مثل ما نزل بهم من العذاب استدلوا بهذه الآية على حجة القياس من حيث انه تعالى امر بالاعتبار والمجاوزة من اصل إلى فرع لمشاركة بينهما فى وصف يصلح سبا لذلك الحكم يا أُولِي الْأَبْصارِ يا ذوى العقول والبصائر قال محمد بن يوسف الصالحي فى سبيل الرشاد انه قال محمد بن عمر حدثنى ابراهيم بن جعفر عن أبيه قال لما خرجت بنو النضير اقبل عمرو بن سعد اليهود فاطاف بمنازلهم فراى خرابا ففكر ثم رجع إلى بنى قريظة فقال رايت اليوم عبر ارايت دار إخواننا خالية بعد ذلك العز والشرف والجلد والرأي الفاضل والعقل البارع قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل وقد وقع قبل ذلك بابن الأشرف بيانا فى بيته افتادا وقع بابن سنية سيد يهود واجلدهم وانجدهم ووقع ببني قينقاع واجلاءهم وهم جد يهود كانوا أهل عدة وسلاح ونحده فحصرهم فلم يخرج انسان راسه حتى سباهم فكلهم فيهم فتركهم على ان اجلائهم من يثرب يا قوم لقد رايتم فاطيعونى وتعالوا نتبع محمدا فو اللّه انكم لتعلمون انه بنى وقد بشرنا به علمائنا آخرهم ابن السيان أبو عمير وابن حواس هما اعلم يهود جاءا من بيت المقدس يتوكفان قدومه ثم أمرنا باتباعه وان نقربه منهما السلام ثم ماتا على دينه و(1/6437)
دفنا لحبرتنا هذه فاسكنت القوم فلم يتكلم منهم متكلم فاعاد الكلام أو نحوه وخوفهم بالحرب والسبي والجلاء فقال الزبير بن باطا والتوراة قد قرأت صفة فى كتاب باطا التوراة التي نزلت على موسى ليس فى المثاني التي أحدثنا فقال له كعب بن سعد ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه قال أنت قال فلم والتوراة ما جعلت بينك وبينه قط قال الزبير بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا فان اتبعته اتبعناك وان أبيت أبينا فاقبل عمرو بن سعدى على كعب فقال اما والتوراة التي نزلت على موسى يوم طور سينا انه للعز والشرف فى الدنيا انه لعلى منهاج موسى ونزل معه أمته فى منزله غدا فى الجنة قال كعب نقيم على عهدنا وعقدنا فلا يخضر محمد ذمتكم وننظر ما يصنع حيى فقد أخرج إخراج ذل وصغار ذلا فلا أراه يغزو محمدا فان ظفر بمحمد فهو ما أردنا وأقمنا على ديننا وان ظفر بحيي فما فى العيش خير نحو لنا من جراره قال عمرو
بن سعدى ولم تؤخر الأمر وهو مقبل قال كعب ما على هذا فوات متى أردت هذا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 235
من محمدا جابنى إليه قال عمرو بلى والتوراة انه عليه نعوتا إذا سار إلينا محمد فيخبانا فى حصوننا حتى ننزل على حكمه فيضرب أعناقنا قال كعب بن اسد ما عندى فى امره الا ما قلت ما نطيب نفسى ان أصير تابعا يقول هذا لاسرائيلى ولا يعرف لى فضل النبوة لا قدر الفعال قال عمرو بن سعدى بل لعمرى ليعرفن ذلك لك فبينماهم على ذلك لم يزعم الا بمقدم النبي صلعم قد حلت بساحتهم فقال هذا الذي قلت لك وذلك انهم نقضوا عهد رسول اللّه صلعم وحاربوه فى وقعة الخندق.
وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ فى اللوح المحفوظ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أى الخروج من الوطن لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ط بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ جملة مستانفة يعنى ان نجوا من عذاب الدنيا لا ينجون من عذاب النار فى الاخرة البتة.(1/6438)
ذلِكَ لحقهم فى الدنيا وما كانوا يصدده وما استحقوه من عذاب الاخرة بِأَنَّهُمْ أى بسبب انهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ يعذبه عذابا شديدا لأنه شَدِيدُ الْعِقابِ أخرج ابن اسحق عن يزيد بن رومان قال لما نزل رسول اللّه صلعم بنى النضير تحصنوا منه فى الحصون فامر بقطع النخل والتحريق فيها وذكر محمد بن يوسف الصالحي انه صلعم استعمل على قطعها أبا ليلى المازني وعبد اللّه بن سلام وكان أبو ليلى بقطع العجوة وكان عبد اللّه بن سلام بقطع اللون فقيل لهما ذلك فقال أبو ليلى العجوة احرق لهم وقال عبد اللّه بن سلام قد عرفت ان اللّه سيغنم أموالهم العجوة خير أموالهم فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب وضربن الخدود ودعون بالويل فجعل سلام بن مشكم يقول يا حيى العذق من العجوة بفرس فلا يطعم ثلثين سنة تقطع فارسل حيى إلى رسول اللّه صلعم كنت تنهى عن الفساد فلم تقطع النخل ووجد بعض المسلمين فى أنفسهم من قولهم وخشوا ان يكون فسادا فقال بعضهم لا تقطعوا فانه مما أفاء اللّه علينا وقال بعضهم بل نغيضهم بقطعها فانزل اللّه تعالى.(1/6439)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ كما فعل أبو ليلى ما شرطية منصوب المحل مفعول لقطعتم ومن لينة بيان له يعنى أى شىء قطعتم حال كونه من لينة فعلتم من اللون ويجمع على الألوان وقيل هو من اللين كذا ذكر فى الصحاح قال البغوي اختلفوا فى معنى اللينة فقال قوم النخل كلها لينة داخلا العجوة وهو قول عكرمة وقتادة ورواية زاذان عن ابن عباس قال كان النبي صلعم يقطع نخلهم الا العجوة واهل المدينة ما خلا العجوة من التمر الألوان واحدها لين ولينة وقال الزهري هو ألوان النخل كلها الا العجوة والبرنية وقال مجاهد وعطية هى النخل كلها من غير استثناء وقال العوفى عن ابن عباس من النخل وقال سفيان هى كرام النخل وقال مقاتل هى ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهى شديد الصفرة يرى نواة من خارج يغيب فيالضرس وكان من أجود تمر هى اعجب إليهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 236(1/6440)
و كانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن رصيف وأحب إليهم من رصيف أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها كما فعل عبد اللّه بن سلام فَبِإِذْنِ اللَّهِ خبر مبتداء محذوف يعنى فقطعه وتركه بإذن اللّه ليس فى شىء من ذلك اثم أخرج البخاري عن ابن عمران رسول اللّه صلعم حرق نخل بنى نضير وقطع وهى البويرة هذه الآية كذا روى اصحاب الكتب واخرج أبو يعلى بسند ضعيف عن جابر قال رخص وقطع النخل ثم شدد عليهم فاتوا النبي صلعم قالوا يا رسول اللّه هل علينا اثم فيما قطعنا وتركنا فانزل اللّه هذه الآية وَلِيُخْزِيَ اللّه بالاذن فى القطع الْفاسِقِينَ اليهود عطف على بإذن اللّه وعلة لمحذوف والجملة معطوفة على جملة تقريره وفعلتم أو اذن لكم لنخزى هم على فسقهم بما غاظهم منه (مسئله) من هاهنا قال أبو حنيفة رح إذا حاصر الامام حصنا للكفار جاز ان يقطع أشجارهم ويفسد زروعهم وهدم بيوتهم ويحرقها قال ابن همام هذا إذا لم يغلب على الظن انهم ماخذون بغير ذلك فان كان الظاهر انهم مغلوبون وان الفتح لا بد منه كره ذلك لأنه إفساد وفى غير محل الحاجة وما أبيح الا لها وقال احمد لا يجوز قطع أشجارهم الا بأحد الشرطين أحدهما ان يفعلوا بنا مثل ذلك ثانيهما ان يكون لنا حاجة إلى قطع ذلك لنتمكن من قتالهم وقال الشافعي يجوز إتلاف بنائهم وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم وكذا ان لم يرج حصولها لنا فان رجى ندب الترك والدليل على جواز قطع الأشجار هذا الآية والحديثين المذكورين وما روى احمد عن اسامة بن زيد قال بعثني رسول اللّه صلعم إلى قرية قال أيتها صباحا ثم حرق قال ابن الجوزي احتجاجا لمذهبه انه قد روى أصحابنا ان النبي صلعم كان إذا بعث جيشا قال لا تعود واعينا ولا تعقروا شجرا إلا شجر يمنعكم من القتال والحديثان يعنى حديث ابن عمر وحديث اسامة بن زيد محمولان على ما ذكرنا انتهى كلامه قلنا لا يجوز على ما ذكر ابن الجوزي لان بنى نضير لم(1/6441)
يقطعوا أشجار المدينة قط ولا دليل على كون القطع لحاجة القتال بل الآية صريحة فى ان الأمر بالقطع كان لخزى الفاسقين وكبت اعداء اللّه وكسر شوكتهم لا لغرض اخر لكن الظاهر ان الفتح لم يكن غالبا فى الظن حين امر النبي صلعم بقطع أشجارهم يدل على قوله تعالى ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا ما نعتهم حصونهم وما روى اصحاب احمد حجة على عدم جواز القطع ان صح لا يمكن ان يكون معارضا لكتاب اللّه المستلزم للجواز واللّه اعلم قال البغوي فلما ترك بنو النضير رياعهم وضياعهم طلب المسلمون تقسيمها بيتهم كما فعل لغنايم خيبر فبين اللّه تعالى حكمها وقال.
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ القى الرجوع وأفاء بمعنى عاد وقال الجوهري الفى الرجوع إلى حالة محمودة قال اللّه تعالى حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا ... فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولما كان الرجوع يقتضى سبق الملك قال البيضاوي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 237(1/6442)
أفاء بمعنى صير مجازا أو بم عنى رده عليه فانه كان حقيقا بان يكون له عليه السلام لان اللّه خلق الإنسان لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعة فهو جدير بان يكون للمطيعين مِنْهُمْ أى من بنى النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أى ما أجريتم على تحصيله من الوجيف بمعنى سرعة السير مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه والمعنى انه لم يلحق المؤمنين فى تحصيل ما أفاء اللّه من بنى النضير من المشقة بالحرب وإيجاف الخيل والركاب حتى يستحقوا الغنائم وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ط يقذف الرعب فى قلوبهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يريد تارة بالوسايط فى الظاهر وتارة بلا وسائط هذه الآية والأحاديث الصحيحة تدل على ان مال بنى نضير كان خالصا لرسول اللّه صلعم ثم صرفه عليه السلام حيث شاء روى الشيخان فى الصحيحين عن مالك بن أوس ابن الجدثان النضيري انه قال عمر بن الخطاب ان اللّه قد خص رسول اللّه صلعم فى هذا الفيء بشىء لم يعط أحدا غيره ثم قرأ ما أفاء اللّه على رسوله منهم إلى قوله قدير فكانت هذه خالصة لرسول اللّه صلعم يتفق عليه وعلى اهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذه ما بقي فيجعله فجعل مال اللّه وأيضا فى الصحيحين عنه انه جاء عمر حاجبه يرفا فقال هل لك فى عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد رض يستاذنون قال نعم فادخلهم فلبث قليلا ثم جاء فقال هل لك فى عباس وعلى رض يستاذنان قال نعم فلما دخلا قال عباس يا امير المؤمنين اقض بينى وبين هذا وهما يختصمان فى التي أفاء اللّه على رسوله من بنى النضير فقال الرهط يا امير المؤمنين اقض بينهما وارح أحدهما من الاخر قال اتئدوا أنشدكم اللّه الذي باذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ان رسول اللّه صلعم قال لا نورث ما تركناه صدقة يريد بذلك نفسه قالوا قد قال ذلك فاقبل عمر على علىّ وعباس(1/6443)
فقال أنشدكما باللّه هل تعلمون ان رسول اللّه صلعم قال ذلك قالا نعم قال فانى أحدثكم عن هذا الأمر ان اللّه قد خص رسول اللّه صلعم فى هذا الفيء بشىء لم يعطه أحدا غيره فقال وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ إلى قوله قدير فكانت هذه خالصة لرسول اللّه صلعم ثم واللّه ما اختارها دونكم ولا استاثرها عليكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي المال منها فكان رسول اللّه صلعم ينفق على اهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله فجعل مال اللّه فعمل بذلك رسول اللّه صلعم حيوته ثم توفى رسول اللّه صلعم فقال أبو بكر فانا ولى رسول اللّه صلعم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول اللّه صلعم وأنتم حينئذ جميع واقبل على على وعباس يذكران ان أبا بكر فيه كما يقولان واللّه يعلم انه فيها لصادق بارر أشد ثم توفى اللّه أبا بكر فقلت انا ولى رسول اللّه صلعم وابى بكر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 238(1/6444)
فقبضتها سنين من امارتى اعمل فيه بما عمل رسول اللّه صلعم وأبو بكر واللّه يعلم انى فيه صادق بارر أشد تابع للحق ثم جئتمانى كلا كما وكلمتكما واحدة وامر كما جميع فقلت لكما ان رسول اللّه صلعم قال لا نورث ما تركنا صدقة فلما بدا الىّ ان ادفعه اليكما قلت ان شئتما دفعت اليكما على ان عليكما عهد اللّه وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول اللّه صلعم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت وإلا فلا تكلمانى فقلتما ادفعه إلينا بذلك فدفعته اليكما افتلتمسان منى قضاء غير ذلك فو اللّه الذي تقوم باذنه السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فان عجزتما عنه فادفعا إلى فانا أكفيكما هما وأيضا فى الصحيحين عن عمر قال كانت اموال بنى نضير مما أفاء اللّه على رسوله مالم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول اللّه صلعم خاصة ينفق على اهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدة فى سبيل الله
.(1/6445)
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أى اموال أهل القرى بيان للاول ولذلك لم يعطف لكنه يعم الأول يعنى بنى النضير وغيره فان قيل لو كان هذا بيانا للاول لكان للانصار أيضا حقا فى فىء بنى النضير مع ان النبي صلعم لم يعط من فىء بنى النضير شيئا للانصار غير ثلثة منهم قلنا كان للانصار أيضا فيه حقا لكنهم اثروا المهاجرين على أنفسهم وجعل حقهم لهم كما سياتى قال ابن عباس فى تفسير أهل القرى وهى قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة وقال جلال الدين المحلى كان الصفراء ووادي القرى وينبع قلت والصحيح ان خيبر فتحت عنوة وقسمت بين أهل الحديبية على ثمانية عشر سهما كما مر فى سورة الفتح فَلِلَّهِ افتتاح كلام للتبرك واضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه وليس المراد منه ان سهما منه له تعالى مفردا فان الدنيا والاخرة كلها للّه تعالى وهو قول الحسن وقتادة وعطاء وابراهيم والشعبي وعامة الفقهاء وعامة المفسرين وقال بعضهم يصرف سهم اللّه تعالى فى عمارة الكعبة والمساجد وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى يعنى أقرباء رسول اللّه صلعم وهم بنو هاشم وبنو المطلب لحديث جبير بن مطعم قال لما قسم رسول اللّه صلعم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب أتيته انا وعثمان فقلنا يا رسول اللّه هؤلاء إخواننا من بنى هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك اللّه منهم ارايت إخواننا من بنى المطلب اعطيتهم وتركتنا وانما قرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول اللّه صلعم انما بنو هاشم وبنو المطلب شىء واحد هكذا وشبك بين أصابعه رواه الشافعي وفى رواية أبو داود والنسائي نحوه وفيه انا وبنو المطلب لا نفترق فى الجاهلية ولا اسلام وانما نحن وهم شىء واحد وشبك بين أصابعه وَالْيَتامى الصغار الذين لا اب لهم وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر البعيد من ماله كان المستفاد فيما مر من الآية التفسير(1/6446)
المظهري ، ج 9 ، ص : 239
ان الفيء مختص بالنبي صلعم وضم هاهنا مع رسول اللّه صلعم الأصناف المذكورة اشعارا بما يفعل الرسول صلعم فى ذلك المال ولما كان مال الفيء بحيث لا نصيب فيه لرجال بعينهم كما فى الغنائم للغانمين بل قسمة مفوض إلى رسول اللّه صلعم والى خلفائه من بعده وجاز لهم اختيار اشخاص من الأصناف المذكورة به عليه السلام منافيا لاختصاص المال به عليه السلام واللّه تعالى أعلم كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً متعلق بالظرف المستقر اعنى فللّه وللرسول قرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتاء الفوقانية على التأنيث ودولة بالرفع على الفاعلية وكان حينئذ تامة والباقون بالياء التحتانية على التذكير على ان ضمير الفاعل راجع إلى الموصول ودولة منصوب على انه خبر كان الناقصة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ط يعنى لا يكون ما يتداوله الأغنياء بينهم دون الفقراء كما كان فى الجاهلية بل جعل اللّه لرسوله صلعم ان يقسمه على ما يراه مصلحة فيما امر به ثم قال وَما آتاكُمُ اعطاكم الرَّسُولُ من الفيء فَخُذُوهُ ولا تطعموا فيما زاد على ما طابت نفسه وَما نَهاكُمْ عَنْهُ من الغلول وغيره فَانْتَهُوا ج ذكر هذه الجملة معترضة كيلا يطمع الناس من الرسول ما لا يرضاه وهذا نازل فى الفيء وهو عام فى كل ما امر به النبي صلعم ونهى عنه عن عبد اللّه بن مسعود قال لعن اللّه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه فبلغ ذلك امرأة من بنى اسد يقال لها أم يعقوب فجائت فقالت انه قد بلغني انك لعنت كيت وكيت فقال مالى لا العن من لعن رسول اللّه صلعم ومن هو فى كتاب اللّه فقالت لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال لئن كنت قراتيه لقد وجدتيه اما قرأت ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت بلى قال فانه قد نهى عنه رواه البخاري وَاتَّقُوا اللَّهَ ط فى مخالفة رسوله صلعم معترضة اخرى إِنَّ(1/6447)
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ج لمن خالفه تعليل لما سبق.
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من لذى القربى وما عطف عليه فان الرسول لا يسمى فقيرا وقد أخرج اللّه رسوله من الفقراء لقوله ينصرون اللّه ورسوله قبل هذا بدل الكل من الكل واللام فى للفقراء للعهد والمراد منه هم المذكورون اعنى ذوى القربى واليتامى والمساكين فلا يلزم ان لا يكون المذكورون سابقا مصرفا نظرا إلى المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل البدل هو المقصود بالنسبة وعندى ان الفقراء المهاجرون وما عطف عليه أعم مطلقا مما سبق فانهم استوعبوا المؤمنين إلى يوم القيامة أجمعين غنيهم وفقيرهم على ما ستذكر إنشاء اللّه تعالى فهذا بدل الكل من البعض وهو من قبيل الاشتمال وعلى كلا التقديرين فما سبق فى الذكر من ذوى القربى وما عطف عليه وان لم يكن مقصودا بالنسبة لفظا لكنها داخلة فى المقصود اعنى البدل أو عينه واللّه تعالى أعلم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 240(1/6448)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ التي بمكة وَأَمْوالِهِمْ فان كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم وفى الآية دليل على ان كفار مكة ملكوا اموال المهاجرين التي خلفوها وهاجروا عنها لان اللّه تعالى اطلق عليهم الفقراء والفقير من لا يملك شيئا وليس من لا يملك مالا وهو فى مكان لا يصل إليه فقيرا بل هو مخصوص باسم ابن السبيل ولذا عطفوا عليه فى نص الصدقة ومن هاهنا قال أبو حنيفة ومالك الكفار إذا استولت على اموال المسلمين ملكوها بشرط الاحراز بدارهم عند أبى حنيفة وبمجرد الاستيلاء عند مالك وقال الشافعي لا يملكونها وذكر ابن همام لاحمد فيه روايتين كقول أبى حنيفة وكقول الشافعي وذكر ابن الجوزي قول احمد كقول الشافعي لا غير ويويد مذهب أبى حنيفة من الأحاديث ما رواه أبو داود فى مراسيله عن تميم بن طرفة قال وجد رجل مع رجل ناقة له فارتفعا إلى النبي صلعم فاقام البينة انها له واقام الاخر البينة انه اشتراها من العدو فقال رسول اللّه صلعم ان شئت ان تأخذ بالثمن الذي اشتراها به فانت أحق والا فخل عنه ناقة والمرسل عندنا وعند اكثر أهل العلم حجة واخرج الطبراني مسندا عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة وفى سنده ياسين الزيات مضعف واخرج الدارقطني ثم البيهقي فى سننهما عن ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وسلم قال فى ما احرز العدو فاستنفذه المسلمون منهم ان وجده صاحبه قبل ان يقسم فهو أحق به وان وجد قد قسم فانشاء اخذه بالثمن فيه حسن بن عمارة قال الدارقطني متروك واخرج الدارقطني عن ابن عمر سمعت رسول اللّه صلعم يقول من وجد ماله فى الفيء قيل ان يقسم فهو له وان وجده بعد ما قسم فليس له شىء وفيه اسحق بن عبد اللّه بن فروة ضعيف وفى طريقة الاخر رشدين ضعيف أيضا أخرجه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا من أدرك ماله فى الفيء قبل ان يقسم فهو له فان أدركه بعد ان يقسم فهو أحق به بالثمن وفيه ياسين ضعيف وبه قال الشافعي و(1/6449)
احتجوا أيضا بان عمر بن الخطاب قال من أدرك ما أخذ العد وقبل ان يقسم فهو له وما قسم فلاحق له فيه الا بالقيمة وقال هذا انما روى عن الشعبي عن عمرو عن رجا بن حيوة عن عمر مرسلا وكلاهما لم يدرك عمر وروى الطحاوي بسنده إلى قبيصة بن ذويب ان عمر بن الخطاب قال فيما اخذه المشركون فاصابه المسلمون فعرفه صاحبه أى أدرك قبل ان يقسم فهو له وان جرت فيه السهام فلا شىء له وروى فيه أيضا عن أبى عبيدة مثل ذلك وروى بإسناده إلى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت مثله وروى أيضا بإسناده إلى قتادة عن جلاس ان علىّ ابن أبى طالب رض قال من اشترى ما احرز العد وفهو جائز وهذه الأحاديث وان كانت بعضها ضعيفة وبعضها مرسلة لكنها اعتضد بعضها ببعض وصارت حجة وعملا بهذه الأحاديث شرط أبو حنيفة الاحراز وقال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 241
ان ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل ان يقسم فهى لهم بغير شىء وان وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة ان أحبوا وكذا ان دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك فاخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار ان شاء اخذه بالثمن الذي اشتراه وان شاء تركه وكذا لو وهبوا لمسلم يأخذه المالك بقيمته واستدل بعض الحنفية بما فى الصحيحين انه(1/6450)
صلعم لما سئل يوم الفتح اين تنزل غدا بمكة قال هل ترك لنا عقيل من منزل وجه الاحتجاج ان عقيلا استولى عليه وهو على كفره وقيل ان الحديث انما هو دليل على ان المسلم لا يرث الكافر فان عقيلا استولى على الرباع بإرثه إياها أبا طالب فانه مات وترك عليا وجعفر مسلمين وعقيلا وطالبا كافرين فورثاه واللّه تعالى أعلم احتج الشافعي بحديث رواه احمد ومسلم فى صحيحه عن عمران بن حصين قال كانت العضباء لرجل من بنى عقيل وكانت من سوابق الحاج فاسر الرجل وأخذت العضباء معه فحبسها رسول اللّه صلعم لرجله ثم ان المشركين أغاروا على سرج المدينة وفيه العضباء وأسروا امرأة من المسلمين وكانوا إذا نزلوا يريحون إبلهم فى أفنيتهم فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد نوموا فجعلت لا تضع يدها على بعير الا رغا حتى أتت على العضباء فاتت على ناقة ذلول فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذر ت لئن اللّه عز وجل نجاها عليها لنحر بها فلما قدمت عرفت الناقة فاتوا بها النبي صلعم فاخبرت المرأة نذرها فقال رسول اللّه صلعم تبسما خبريتها أو وفيتها ان اللّه أنجاها عليها لتنحر بها ثم قال رسول اللّه صلعم لا وفاء لنذر فى معصية اللّه ولا فيما لا يملك ابن آدم وجه الاحتجاج انه لو ملكها المشركون ما أخذها رسول اللّه صلعم وما بطل نذرها وحديث رواه داود عن ابن عمر قال ذهب فرس له فاخذها الكفار فظهر عليهم المسلمون فرد عليه فى زمن رسول اللّه صلعم وابق عبد له فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون فرد عليه خالد بن وليد وفاة رسول اللّه صلعم والجواب عن الحديث الأول ان ظاهر هذا الحديث يدل على ان الكفار لم يحرزوا العضباء بديارهم حيث قال وكانوا إذا نزلوا يريحون أهلهم فى أفنيتهم وعن الحديث الثاني انا نقول على حسب مقتضى هذا الحديث حيث نقول ان المشركين إذا غلبوا على أموالنا وملكوها فظهر عليهم المسلمون ووجدها ملاكها قبل القسمة ردت تلك الأموال عليها بلا(1/6451)
شىء وبعد القسمة ردت بالقيمة وان عبدا إذا ابق فدخل إليهم فاخذوه لم يملكوه عند أبى حنيفة رح ثم إذا ظهر عليهم المسلمون يأخذ المالك القديم بغير شىء موهوبا كان أو مشترى مغنوما قبل القسمة وبعده واللّه تعالى أعلم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ يعنى ثوابا زايدا على قدر أعمالهم أضعافا كثيرة وَرِضْواناً جملة يبتغون حال مقيدة لاخراجهم بما يوجب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 242(1/6452)
تفخيم شانهم وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ يعنى دينه عطف على يبتغون وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فى ادعاء ايمانهم وحالهم على صدق دعواهم فمن قال من الروافض انهم كانوا منافقين وكانوا كاذبين فى ادعاء الايمان كفر لاستلزام انكار هذه الآية وقال قتادة هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبّا للّه ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانت فيه من شدة حتى ذكران الرجل كان يعصب الحجر على بطنه يقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها قلت وكانوا يحبون القتل فى سبيل اللّه روى البغوي فى المعالم وشرح السنة من امية بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد عن النبي صلعم انه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلعم ان فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري رض عن النبي صلعم قال ابشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل اغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة قلت لعلهم يدخلون الجنة قبل اغنياء المهاجرين بأربعين خريفا وقبل اغنياء سائر الناس بخمسمائة سنة واللّه تعالى أعلم أخرج ابن المنذر عن يزيد بن الأصم ان الأنصار قالوا يا رسول اللّه اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض يعنى الأرض المملوكة للانصار نصفين قال لا ولكن تكفونهم المئونة وتقاسمونهم الثمرة والأرض أرضكم قالوا رضينا فانزل اللّه تعالى يعنى انزل فيهم قوله.(1/6453)
وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية وروى البخاري عن أبى هريرة بلفظ قالت الأنصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخل قال لا تكفونا المؤن وتشرككم فى الثمر قالوا سمعنا واطعنا وليس ذكر نزول الآية صحيح والمعنى تبوء وادارا بحره وتمكنوا فى الايمان وهم أنصار شبه الايمان بالمقر لدوام اثباتهم عليه واثبت التبوء على الاستعارة التخييلية وجاز ان يكون الايمان منصوبا بالفعل المقدر يعنى وأخلصوا الايمان من قبيل علفتها تبنا وماء باردا يعنى وسقيتها ماء باردا وقيل المعنى تبؤوا دار الهجرة ودار الايمان وهى المدينة فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام سمى المدينة دار الايمان لانها مظهره عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول اللّه صلعم يقول ان اللّه تعالى سمى المدينة طابة رواه مسلم وعن جابر بن عبد اللّه فى حديث قال قال رسول اللّه صلعم انما المدينة كالكير تنفى خبثها وتنصع طيبها متفق عليه وروى مسلم عن أبى هريرة بمعناه مِنْ قَبْلِهِمْ أى من قبل هجرة المهاجرين وقيل تقدير الكلام والذين تبوء الدار من قبلهم والايمان يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ فى أنفسهم حاجَةً قيل المحتاج إليه يسمى حاجة والمعنى طلب حاجة وقيل المراد
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 243(1/6454)
ما يحمل عليه الحاجة من الطلب والحسد والغيظ مِمَّا أُوتُوا أى من أجل ما اعطى المهاجرون دونهم من الفيء وذلك ان النبي صلعم قسم اموال بنى النضير بين المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار الا ثلثة منهم فطابت انفس الأنصار بذلك قال محمد بن يوسف الصالحي فى سبيل الرشاد ان رسول اللّه صلعم لما تحول من بنى عوف بن عمر إلى المدينة تحول المهاجرون فتنافست فيهم الأنصار ان ينزلوا عليهم اقترعوا فيهم بالسهمان فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار الا بقرعة بينهم فكان المهاجرون فى دور الأنصار وأموالهم فلما غنم رسول اللّه صلعم بنى النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس فقال ادع لى قومك قال ثابت الخزرج يا رسول اللّه صلعم الأنصار كلها فدعى الأوس والخزرج فتكلم رسول اللّه صلعم فحمد اللّه تعالى واثنى عليه بما هو اهله ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم فى منازلهم وأموالهم وإيثارهم على أنفسهم ثم قال رسول اللّه صلعم ان احببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه تعالى على من بنى النضير وكان المهاجرون على مالهم من السكنى ومساكنكم وأموالكم وان احببتم اعطيتهم وخرجوا من دوركم فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رض وخيراهما خيرا فقالا يا رسول اللّه بل تقسمه بين المهاجرين ويكونوا فى دورنا كما كانوا ونادت الأنصار رض وجزاهم اللّه خيرا رضينا وسلمنا يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلعم اللهم ارحم الأنصار فقسم رسول اللّه صلعم ما أفاء اللّه عليه واعطى المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفيء شيئا إلا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف وأبا دجانة واعطى سعه ابن معاذ رض عنهم سيف بن أبى الحقيق وكان سيفا له ذكر عندهم وذكر البلاذري فى فتوح البلدان له ان رسول الله صلعم قال للانصار ليس لاخوانكم من المهاجرين اموال فان شئتم قسمت هذه وأموالكم بينكم وبينهم جميعا وان شئتم امسكتم(1/6455)
أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة قالوا بل اقسم هذه فيهم واقسم لهم من أموالنا ما شئت فنزلت وَيُؤْثِرُونَ أى يقدمون المهاجرين باموالهم ومنازلهم عَلى أَنْفُسِهِمْ حتى ان من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ فاقة وحاجة إلى ما يؤثر قال البغوي روى عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلعم يوم النضير للانصار فذكر نحو ما ذكر البلاذري وروى البخاري عن أبى هريرة قال اتى رجل رسول اللّه صلعم فقال يا رسول اللّه أصابني الجهد فارسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال أ لا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه اللّه فقام رجل من الأنصار فقال انا يا رسول اللّه فذهب إلى اهله فقال لامرأته هذا ضيف رسول اللّه صلعم لا تدخريه شيئا قالت واللّه ما عندى إلا قوت الصبية قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فاطقى السراج ونطوى بطوننا الليلة ففعلت وفى رواية فهيات
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 244
طعامها ونومت صبيانها ثم قامت كانها تصلح سراجها فاطفأت فجعلا(1/6456)
يريانه انهما يأكلان فباتا لهاويين؟؟؟ ثم غدا الرجل على رسول اللّه صلعم فقال لقد اعجب اللّه أو ضحك من فلان وفلانة فانزل وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ واخرج مسدد فى مسنده وابن المنذر عن أبى المتوكل الناجي ان رجلا من المسلمين فذكر نحوه وفيه ان الرجل الذي أضاف ثابت بن قيس بن شماس فنزلت فيه هذه الآية واخرج الواحدي من طريق محارب ابن دثار عن ابن عمر قال اهدى لرجل من اصحاب رسول اللّه صلعم راس شاة فقال ان أخي فلان وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليهم فلم يزل يبعث به واحد إلى اخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وروى البخاري عن انس بن مالك قال دعى النبي صلعم الأنصار إلى ان يقطع لهم البحرين فقالوا لا ان نقطع لاخواننا من المهاجرين مثلنا قال فاصبروا حتى تلقونى فانه سيصيبكم اثره بعدي وذكر البلاذري فى فتوح البلدان انه قال أبو بكر رض جزاكم اللّه يا معشر الأنصار فو اللّه ما مثلنا ومثلكم الا كما قال الغنوي جزا اللّه عنا جعفرا حين ارتعت بنا تعلنا فى الوطنين فنزلت أبوا ان يحلونا ولو ان أمنا تلقى الذي يلقون مناطلت - وروى الآجري فى كتاب الشريعة عن قيس بن أبى حازم نحوه وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الانفاق فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الشح البخل والحرص كذا فى القاموس وفى الصحاح بخل مع حرص قال البغوي فرق العلماء بين الشح والبخل روى ان رجلا قال لعبد اللّه بن مسعود انى أخاف ان أكون قد هلكت قال وما ذاك قال اسمع اللّه يقول ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون وانا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدى شىء قال عبد اللّه ليس ذاك بالشح الذي ذكره اللّه عز وجل ولكن الشح ان تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل وقال عمر ليس الشح(1/6457)
ان يمنع الرجل ماله انما الشح ان تطمع عين الرجل إلى ما ليس له وقال سعيد بن جبير الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكوة وقبل الشح الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم وقال ابن زيد من لم يأخذ شيئا نهاه اللّه عنه ولم يدعه الشح إلى ان يمنع شيئا من شىء امره اللّه به فقدوقى شح نفسه عن جابر بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلعم قال اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فان الشح أهلك من كان قبلكم حملهم ان يسفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم رواه مسلم واحمد وعن أبى هريرة انه سمع رسول اللّه صلعم يقول لا يجتمع غبار فى سبيل اللّه ودخان فى جوف عبد ابدا ولا يجتمع الشح والايمان فى قلب عبد ابدا رواه البغوي وكذا روى النسائي.
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 245(1/6458)
اى بعد المهاجرين والأنصار وهم الذين اسلموا من الصحابة بعد الفتح والمؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة يَقُولُونَ حال من فاعل جاؤا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا فى الدين الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ فان السابقين لهم حق على اللاحقين حيث اهتدوا بالايمان والشرائع يتوسطهم كما اهتدوا أولئك بتوسط النبي صلعم وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا حقد أو حسد أو بغضا لِلَّذِينَ آمَنُوا من قبل من المهاجرين والأنصار رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ع فكل من كان فى قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فانه ليس ممن عناه اللّه بهذه الآية قال ابن أبى ليلى الناس على ثلثة منازل الفقراء المهاجرين والذين تبوؤ الدار والايمان والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان فاجهد ان لا يكون خارجا من هذه المنازل روى البغوي بسنده عن عائشة قالت أمرتم بالاستغفار لاصحاب محمد صلعم يسموهم سمعت نبيكم صلعم يقول لا يذهب هذه الامة حتى تلعن آخرها أولها وروى صاحب الفصول من الامامية الاثنا عشرية إلى جعفر محمد بن على الباقر انه قال لجماعة خاضوا فى أبى بكر وعمر وعثمان انا اشهد انكم لستم من الذين قال اللّه فيهم والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الّذين سبقونا بالايمان الآية - وفى الصحيفة الكاملة انه كان من دعاء الامام على بن الحسين رض اللهم وصل على اصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصيحة والذين ابلوا البلاء الحسن فى نصره وكافئوه واسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته واستجابوا له حيث استمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد فى اظهار كلمة وقاتلوا الآباء والأبناء فى تثبيت نبوته وانتصروا به ومن كانوا منطوين فى محبة يرجون تجارة لن تبور فى مودته والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروة وانتقت منهم القرابات أو سكنوا فى ظل قرابته فلا(1/6459)
تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وارضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقة اللّهم وصل على التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان خير جزائك الحديث قال مالك بن معول قال عامر بن شرحبيل الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا اصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم فقالوا حوارى عيسى وسئلت الرفضة من شر أهل ملتكم فقالوا اصحاب محمد صلعم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلولا إلى يوم القيامة لا يقوم لهم راية ولا يثبت لهم اقدم ولا يجتمع لهم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 246(1/6460)
كلمة كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأ اللّه يسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض جهنم أعاذنا اللّه وإياكم من الهواء المضلة قال مالك بن انس من يبغض أحدا من اصحاب رسول اللّه صلعم أو كان فى قلبه عليهم غل فليس لهم حق فى فىء المسلمين ثم تلا ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى حتى اتى على هذه الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ إلى قوله تعالى رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال اكثر المفسرين الذين تبوّء الدار والايمان وللفقراء الذين جاؤا من بعدهم وعلى هذا وصف الفقر شرط لاستحقاق الفرق الثلاثة وعندى الذين تبوؤا معطوف على الفقراء ووصف الفقر ليس شرطا لاستحقاق واحد منهم كيف وابن السبيل مصرف اتفاقا مع انه لا يسمى فقيرا أو انما ذكر وصف الفقر فى المهاجرين جريا على الغالب لان اكثر المهاجرين حينئذ كانوا فقراء لا للاحتراز كما ان فى قوله تعالى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ كونهن فى الحجور ليس للاحتراز بل خرج مخرج العادة جريا على الغالب وانما قلت هكذا للاجماع على ان مال الفيء هو للمسلمين كافة غنيهم وفقيرهم يصرف فى مصالحهم ويعطى لقضاة المسلمين وعمالهم وعلمائهم وان كانوا اغنياء وكذا للمقاتلة سواء كانوا غنيا أو فقيرا - وكان أبو بكر رض يقسم المال بين الناس على السوية وكان عمر رض يفضل فى القسمة بفضلهم قال أبو يوسف فى كتاب الخراج حدثنى ابن أبى نجيح قال قدم على أبى بكر الصديق رض مال فقال من كان له عند النبي صلعم عدة فليات فجاء جابر بن عبد اللّه فقال قال لى رسول الله(1/6461)
صلعم لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا يشير بكفيه فقال له أبو بكر خذ فاخذ بكفيه ثم عده فوجده خمسمائة فقال خذ إليها الفا فاخذ الفا ثم اعطى كل انسان كان رسول اللّه صلعم وعده شيئا وبقي بقية من المال فقسمه بين الناس بالسوية على الصغير والكبير والحر والمملوك والأنثى فخرج على تسعة دراهم وثلث لكل انسان فلما كان العام المقبل جال اكثر من ذلك فقسمه بين الناس فاصاب كل انسان عشرون درهما فجاء ناس من المسلمين قالوا يا خليفة رسول اللّه انك قسمت هذا فسويت بين الناس وعن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل بفضلهم قال فقال اما ما ذكرتم من السوابق والقدم فما أعرفني بذلك وانما ذلك شىء ثواب على اللّه هذا معاش فالاسوة فيه خير من الاثرة فلما كان عمر بن الخطاب رض وجائته الفتوح فضل وقال لا اجعل من قاتل رسول اللّه صلعم كمن قاتل معه ففرض أهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار فمن شهد بدرا خمسة آلاف خمسة آلاف ولمن كان له اسلام كاسلام بدر دون ذلك أنزلهم على قدر منازلهم من السوابق قال أبو يوسف وحدثنى أبو معشر قال حدثنى عمر مولى عفرة وغيره قال لما جائت عمر بن الخطاب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 247(1/6462)
الفتوح وجائته الأموال قال ان أبا بكر رض راى فى هذا المال رايا ولى فيه راى اخر لا اجعل من قاتل رسول اللّه صلعم كمن قاتل معه ففرض للمهاجرين والأنصار فمن شهد بدرا اربعة آلاف اربعة آلاف وفرض لازواج النبي صلعم اثنى عشر الفا إلا صفية وجويرية فانه فرض لهما ستة آلاف ستة آلاف فابيا ان يقبلا فقال لهما انما فرضت لهن للهجرة فقالتا لا انما فرضت لهن لمكانهن من رسول اللّه صلعم وكان لنا مثله فعرف ذلك عمر ففرض لهما اثنى عشر الفا اثنى عشر الفا وفرض للعباس عم رسول اللّه صلعم اثنى عشر الفا وفرض لاسنامة بن زيد اربعة آلاف وفرض لعبد اللّه بن عمر ثلثة آلاف فقال يا أبت لم زدته على الفا ما كان لابيه من الفضل ما لم يكن لابى وما كان له مالم يكن لى فقال ان أبا اسامة كان أحب إلى رسول اللّه صلعم من أبيك وكان اسامة أحب إلى رسول اللّه صلعم منك وفرض للحسن والحسين خمسة آلاف خمسة آلاف اطفهما بابيهما لمكانهما من رسول اللّه صلعم وفرض لابناء المهاجرين والأ نصار الفين الفين فمر به عمرو بن أبى سلمة فقال زيدوه الفا فقال له محمد بن عبد الرحمن بن جحش ما كان لابيه أبى سلمة ما لم يكن لا بائنا وما كان له مالم يكن لنا فقال عمرانى فرضت له بابيه أبى سلمة الفين وزدته بامه أم سلمة الفا فان كانت لك أم مثل أم سلمة زدتك الفا وفرض لاهل والناس ثمانمائة فجائه طلحة بن عبيد اللّه بأخيه ففرض له ثمانمائة فمر به النضر بن انس فقال عمر افرضوا له الفين فقال ان أبا هذا يفنى يوم أحد فقال ما فعل رسول اللّه صلعم فقلت ما أراه الا قد قتل فسل سيفه وكسر غمده وقال ان كان رسول اللّه صلعم قد قتل فان اللّه حى لا يموت فقاتل حتى قتل وهذا يرعى الشاء فى مكان كذا كذا فعمل عمر بهذا خلافته قال أبو يوسف وحدثنى محمد بن اسحق عن أبى جعفر ان عمر لما أراد ان يفرض للناس وكان رايه اخر من رايهم قالوا له ابدا بنفسك فقال لا فبدأ بالاقرب فالاقرب(1/6463)
من رسول اللّه صلعم ففرض للعباس ثم لعلى حتى والى بين خمس ... حتى انتهى إلى عدى بن كعب قال حدثنا المخالد ابن سعيد عن الشعبي عمن شهد عمر بن الخطاب قال لما فتح اللّه عليه الفارس والروم جمع ناسا من اصحاب النبي صلعم فقال ما ترون فانى ارى ان اجعل عطاء الناس فى كل سنة واجمع المال فانه أعظم للبركة قالوا أضع ما رايت فانك إنشاء اللّه موفق ففرض الاعطيات فقال بمن ابدأ فقال عبد بن عوف ابدأ بنفسك فقال لا واللّه ولكن ابدأ ببني هاشم رهط النبي صلعم فكتب من شهد بدرا من بنى هاشم من مولى أو عربى لكل رجل منهم خمسة آلاف وللعباس بن عبد المطلب اثنى عشر الفا ثم فرض لمن شهد بدرا من بنى امية بن عبد الشمس ثم الأقرب فالاقرب الى
بنى هاشم ففرض للبدريين أجمعين عربيهم ومولاهم خمسة آلاف
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 248(1/6464)
و للانصار اربعة آلاف اربعة آلاف وكان أول انصارى فرض له محمد بن مسلمة ولازواج النبي صلعم عشرة آلاف ولعائشة اثنى عشر الفا ولمهاجرة حبشة اربعة آلاف اربعة آلاف ولعمر بن أبى سلمة لمكان أم سلمة اربعة آلاف فقال محمد بن عبد اللّه بن حجش لم تفضل علينا فذكر نحو ما ذكر فى الحديث السابق وللحسن والحسين خمسة آلاف لمكانهما من رسول اللّه صلعم ثم فرض للناس ثلاثمائة واربعمائة للعربى والمولى وفرض لنساء المهاجرين والأنصار ستماية واربعمائة وثلاثمائة ومائتين وفرض لا ناس من المهاجرين الفين الفين وفرض للبرقيل حين اسلم الفين وقال له دع ارضى فى يدى اعمرها وأؤدي عنها الخراج ما كانت تودى فض قال أبو يوسف وحدثنى محمد بن عمرو بن علقمة عن أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبى هريرة فذكر حديثا وفيه فرض للمهاجرين خمسة خمسة آلاف وللانصار ثلثة ثلثة آلاف ولازواج النبي صلعم اثنا عشر اثنا عشر الفا فلما اتى زينب بنت حجش مالها قالت يغفر اللّه امير المؤمنين لقد كان فى صواحباتى من هو أقوى على قسمة هذا منى فقيل ان هذا كله لك ناصرت به فصب وعطته بثوب ثم قالت لبعض من عندها ادخلى يدك لان فلان الفلان فلم تزل تعطى حتى قالت لها التي قلت تدخل يدها لا أراك تذكيرينى ولى عليك حق قالت لك ما تحت الثوب فكشفت فإذا ثمه خمسة وثمانون درهما ثم رفعت يدها فقالت اللّهم لا يدركنى عطاء لعمر بن الخطاب بعد عامى هذا ابدا فكانت أول ازواج النبي صلعم طوقابه زينب وذكر لنا انها أسخى ازواج النبي صلعم وحمل عمر زيد بن ثابت عطاء الأنصار فبدأ باهل العوالي فبدأ بينى عبد الأشهل ثم الأوس لبعد منازلهم ثم الخزرج حتى كان هو اخر الناس وهم بنو مالك بنى نجاروهم حول المسجد وقال أبو يوسف وحدثنى شيخ من أهل المدينة عن اسمعيل بن السائب بن يزيد عن أبيه قال سمعت عمر ابن الخطاب رض يقول واللّه الذي لا اله الا هو ما أحد الا وله فى هذا المال(1/6465)
حق أعطيه أو منعته وما أحدا حق به من أحد الا عبد مملوك وما انا فيه الا كاحدكم ولكن على منازلهم لنا من كتاب اللّه تعالى وقسمنا من رسول اللّه صلعم فالرجل وتلاده فى الإسلام والرجل وقدمه فى الإسلام والرجل وغناه فى الإسلام والرجل وحاجته فى الإسلام واللّه لئن بقيت لياتين الراعي لجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل ان يحمر وجهه يعنى فى طلبه وكان ديوان حمير على حدة وكان يفرض لامير الجيوش والعرى فى العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلحهم من الطعام وما يقومون به من الأمور قال وكان يفرض للمنفوس إذا ترحته امه فإذا ترعرع بلغه به مائتين فإذا بلغ زاده قال ولما راى المال قد كثر قال لئن عشت
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 249(1/6466)
الى هذه الليلة من قابل لا لحقن اخرى الناس باولادهم حتى يكونوا فى العطاء سواء قال فتوفى قبل ذلك (مسئله) اختلف الائمة ان المال الذي يحصل بلا قتال كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه خوفا وما صولحوا عليه ومال مرتد قتل أو مات ومال ذمى مات بلا وارث وزكوة بنى تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الامام وكذا خراج الأرض هل يخمس أم لا فقال أبو حنيفة ومالك واحمد فى اظهر قوليه لا يخمس بل جميعه لمصالح لما صلح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطير والجسور ويعطى قضاة المسلمين والمختسبين وعمالهم وعلماءهم منه ما يكفيهم ويدنو منه أرزاق المقاتلة وذراريهم كذا فى الهداية وفى التجنسن يعطى المعلمين والمتعلمين ويدخل فيه طلبة العلم أيضا وقال الشافعي فى القديم لا يخمس الا ما تركوه فزعا وهربوا وفى الجديد انه يخمس جميع ذلك ثم يجعل الخمس خمسة أسهم سهم منها لبنى هاشم وبنى المطلب يشرك فيه الغنى والفقير ويعطى للذكر مثل حظ الأنثيين وسهم لليتامى أو هو صغير لا اب له ويشترط فقره على المشهور وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل ويعم الأصناف الاربعة المذكور وقيل يخص(1/6467)
بالحاصل فى كل ناحية من فيها منهم وسهم لمصالح المسلمين كسد الثغوز والقضاة والعلماء ويقدم الأهم واما الأخماس الاربعة فالاظهر انها للمرتزفة وهم أجناد المرصدون للجهاد فيضع الامام ديوانا فيعطى كل واحد منهم كفاية ويقدم فى الإعطاء قريشا ومنهم بنى هاشم والمطلب ثم عبد الشمس ثم نوفل ثم عبد العزى ثم ساير البطون الأقرب فالاقرب إلى رسول اللّه صلعم ثم الأنصار ثم ساير العرب ثم العجم ولا يثبت فى الديوان أعمى ولا زمنا ولا من لا يصلح للقتال فان فضلت الأخماس الاربعة عن حاجات المرتزفة وزع عليهم على قدر مؤنتهم والأصلح انه يجوز ان يصرف بعضه فى إصلاح الثغور والكراع هذا حكم منقول الفيء واما عقارة فالمذهب ان يجعل وقفا ويقسم غلته كذلك كذا فى المنهاج ويؤيد مذهب الجمهور فى عدم التخميس ما ذكره محمد بن يوسف الصالحي فى سبيل الرشاد فى اموال بنى النضير انه قال عمر بن خطاب يا رسول اللّه الا تخمس ما أصبت فقال رسول اللّه صلعم لا اجعل شيئا جعله اللّه تعالى دون المؤمنين بقوله تعالى ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى الآية كهيئته ما وقع فيه السهمان قال ابن همام ذكروا ان قول الشافعي فى تخميس الجزية مخالف للاجماع قال الكرخي ما قال به أحد قبله ولا بعده ولا فى عصره ووجه قوله القياس على الغنيمة قال ابن همام انه صلى اللّه عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ونصارى نجران وفرض الجزية على أهل اليمن ولم ينقل منه التخميس ولو كان لنقل وروى أبو داود بسند فيه ضعف ان عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله ان ما حكم عمر بن الخطاب فراه المؤمنون عدلا موافقا لقول النبي صلعم واللّه تعالى أعلم .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 250(1/6468)
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعنى عبد اللّه بن سلول وأصحابه يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ فى الكفر أو الصداقة والموالات الَّذِينَ كَفَرُوا جهارا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم اليهود من بنى النضير والقريظة وقد ذكرنا قصة عبد اللّه بن سلول انه أرسل إلى بنى النضير رسولين وقال لا تخرجوا ان معى الفين يدخلون معكم حصنكم واخرج ابن أبى حاتم عن السدى انه قال اسلم ناس من بنى قريظة وكان منهم منافقون نزلت فيهم هذه الآية وعلى هذا المراد بالاخوة فى النسب فكان المنافقون يقولون لبنى النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أى فى قتالكم أو خذلانكم أَحَداً يعنى رسول اللّه صلعم والمؤمنين أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ يعنى ان قاتلكم الرسول صلعم والمؤمنون لَنَنْصُرَنَّكُمْ عليهم وَاللَّهُ يَشْهَدُ حال من فاعل يقولون إِنَّهُمْ أى المنافقون لَكاذِبُونَ منصوب بتقدير القول يعنى واللّه يشهد ويقول انهم لكاذبون أو هو متعلق بيشهد بتضمن القول ثم بين كذبهم بقوله.
لَئِنْ أُخْرِجُوا أى اليهود لا يَخْرُجُونَ أى المنافقون جواب للقسم لفظا وجزاء للشرط معنى وكذا قوله تعالى لا ينصرونهم مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ج وفيه معجزة حيث كان الأمر فى المستقبل كذلك فان بنى نضير اخرجوا ولم يخرج معهم عبد اللّه بن أبى بن سلول ولا منافقوا قريظة وقريظة قوتلوا وقتلوا لم ينصرهم منافقوا مدينة وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض والتقدير وقال الزجاج معناه لو قصدوا نصر اليهود لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أى كفار اليهود ولا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم وجاز ان يكون ضمير لا ينصرون راجعا إلى المنافقين.(1/6469)
لَأَنْتُمْ أيها المسلمون أَشَدُّ رَهْبَةً أى مرهوبة فِي صُدُورِهِمْ أى المنافقين مِنَ اللَّهِ حيث يومنون باللسان دون القلب مخافة الناس دون اللّه تعالى العالم بما فى الصدور ذلِكَ الخوف منكم دون اللّه تعالى بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أى لا يعرفون اللّه تعالى وعظمته وان اللّه تعالى هو النافع والضار وافعال العباد انما هى مخلوقة له تعالى فهو الحقيق بان يخشى دون غيره.
لا يُقاتِلُونَكُمْ أى الكفار والمنافقون جَمِيعاً أى مجتمعين على عزم واجتهاد ولا لقاء اللّه تعالى الرعب فى قلوبهم إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالاروب والخناديق يعنى لا يبرزون لقتالكم رهبة منكم أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ ط قرأ ابن كثير وأبو عمرو جدارا بكسر الجيم وفتح الدال والف بعدها على التوحيد وامال أبو عمر وفتح الدال والباقون بضم الجيم والدال على الجمع بَأْسُهُمْ يعنى صبرهم وشجاعتهم بَيْنَهُمْ يعنى فى مقابلة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 251
الكفار بعضهم بعضا شَدِيدٌ يعنى ليس ذلك الرهبة منكم لضعفهم وجنبهم فانهم أشد بأسا ان حارب بعضهم بعضا بل لقذف اللّه الرعب فى قلوبهم معجزة لرسوله وإظهارا لدينه فان الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب اللّه ورسوله تَحْسَبُهُمْ يا محمد جَمِيعاً مجتمعين متفقين على حربكم وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أى متشتة بسبب إلقاء الرعب فان فى حالة شدة الخوف لا يتقرر قلبه على نهج مستقيم بل قد يريد الحرب نظرا إلى مصالح دنيوية وقد يريد الفرار لاستيلاء الرعب والخوف ذلِكَ التشتت بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ج الحق من الباطل ولا يتدبرون ولا يفهمون ان هذا الرعب انما استولى عليهم لكفرهم ومحاربتهم بالنبي المحق صلعم.(1/6470)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى مثلهم أى بنى النضير كمثل الذين من قبلهم قَرِيباً يعنى أهل بدر من مشركى مكة كذا قال مجاهد وقال ابن عباس يعنى ببني قينقاع من اليهود هم قوم عبد اللّه بن سلام رض كانوا حلفاء عبد اللّه بن أبى بن سلول أو عبادة بن الصامت وغيرهما من قومهما وكانوا أشجع يهود وكانوا صاغة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ج يعنى سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول اللّه صلعم فى الدنيا وذلك انه لما قدم النبي صلعم مهاجرا وادعته اليهود كلها كتب بينه وبينهم كتابا والحق كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أمانا وشرط عليهم شروطا منهما ان لا يظاهروا عليه عدوا فلما كانت يوم بدر كانت قينقاع أول يهود ونقضوا العهد وأظهروا البغي والحسد فبينماهم على ما هم عليه من اظهار العداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب يحلب لها فباعت بسوق بنى قينقاع وجلست إلى صايغ بها لحلى فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فلم تفعل فعمد الصانع إلى طرف ثوبها من ورائها فخله بشوكة وهى لا تشعر فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصانع فقتله وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ونبذوا العهد إلى النبي صلعم واستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود وغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع وانزل اللّه سبحانه وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ على سواء فقال صلى اللّه عليه وسلم انما أخاف من بنى قينقاع فسار إليهم رسول اللّه صلعم بهذه الآية وحمل لوائه حمزة بن عبد المطلب واستخلف على المدينة أبا لبابة فتحصنوا فحاصرهم أشد الحصار فقاموا على ذلك خمسة عشر ليلة حتى قذف اللّه فى قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم رسول اللّه صلعم على ان للرسول صلعم أموالهم وان لهم النساء والذرية فكتفوا واستعمل على كنا فهم المنذرين قرامة السلمى ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول(1/6471)
اللّه صلعم وقالوا يا رسول اللّه انوى اللّه ورسوله وابرأ من حلف هؤلاء الكفار فقام إلى رسول اللّه صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 252
عبد اللّه بن أبى بن سلول حين امكنه اللّه منهم وقال يا محمد احسن فى موالى فاعرض عنه فادخل يده فى جيب درع رسول اللّه صلعم من خلفه فقال له رسول اللّه صلعم ويحك أرسلني وغضب رسول اللّه صلعم حتى رأوا بوجهه ظللا قال ويحك أرسلني قال واللّه لا أرسلك حتى تحسن إلى فى موالى اربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد صغرنى من الأحمر والأسود وتحصدهم فى الغداة واحدة انى واللّه امرأ أخشى الدوائر فقال رسول اللّه صلعم خلوهم لعنهم اللّه ولعن من معهم وتركهم من القتل وأمرهم ان يجلوا من المدينة فخرجوا بعد ثلث وولى إخراجهم منها عبادة بن الصامت وقال محمد بن مسلمة فجلعوا بأذرعات وأخذ رسول اللّه صلعم من سلاحهم ثلثة فسع ودر عين وثلثة رماح وثلثة اسياف ووجد فى منازلهم سلاحا كثيرا وفمعز الدولة الصناعة فاخذ رسول اللّه صلعم صيغة والخمس وقسم اربعة أخماسه على اصحاب فكان أول خمس بعد بدر وكان هذه الواقعة يوم السبت لنصف من شوال سنه ه على راس عشرين شهرا من مهاجرته صلعم ونزل فى عبادة بن الصامت وعبد اللّه بن أبى بن سلول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ آيات من سورة المائدة إلى قوله هم الغالبون الآية وقد ذكرنا فى المائدة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الاخرة يعنى لا ينقص عذابهم فى الاخرة بما أصابهم وبال أمرهم فى الدنيا.(1/6472)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أى مثل المنافقين عبد اللّه بن أبى بن سلول وأشباهه فى اغترار اليهود على القتال كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ قال البغوي روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب فى الفترة يقال له برصيصا يعبد فى صومعة له سبعين سنة لم يعص اللّه فيها طرفة وان إبليس اعياه فى امره الحيل فجمع ذات يوم م ردة الشياطين فقال الا أجد أحدا يكفينى امر برصيصا فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبى صلعم وجاءه فى صورة جبرئيل ليوسوس على وجه الوحى فدفعه جبرئيل إلى أقصى ارض الهند فقال الأبيض لابليس انا أكفيك فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط راسه واتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا ينقتل من صلوته الا فى عشرة ايام ولا يفطر الا فى عشرة ايام مرة فلما راى الأبيض انه لا يجيبه اقبل على العبادة فى اصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعة فراى الأبيض قايما يصلى فى هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما راى ذلك من حاله ندم فى نفسه حين لم يجبه فقال له انك ناديتنى وكنت مشتغلا عنك فما حاجتك قال حاجتى انى أحببت ان أكون معك فاتاوب بك واقتبس من علمك
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 253(1/6473)
و عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لى وادعو لك فقال برصيصا انى لفى شغل عنك فان كنت مؤمنا فان اللّه سيجعل لك فيما ادعو للمؤمنين نصيبا ان استجاب لى ثم اقبل على صلوته وترك الأبيض واقبل الأبيض يصلى فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها فلما انفتل راه قايما يصلى فلما راى برصيصا شدة اجتهاده قال ما حاجتك قال حاجتى ان تأذن لى فارتفع إليك فاذن له فارتفع إليه فى صومعته فاقام معه حولا يتعبد لا يفطر الا فى كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلوته الا فى كل أربعين يوما مرة وربما مد إلى الثمانين فلما راى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شان الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا انى منطلق فان لى صاحبا غيرك ظننت انك أشد اجتهادا مما ارى وكان بلغنا عنك غير الذي رايت فدخل من ذلك على برصيصا امر شديد وكره مفارقته للذى راى منه شدة اجتهاده فلما ودعه قال له الأبيض ان عندى دعوات اعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفى اللّه به السقيم ويعافى به المبتلى والمجنون قال برصيصا اكره هذه المنزلة لان لى فى نفسى شغلا انى أخاف ان علم به الناس شغلونى عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى اتى إبليس فقال قد واللّه أهلكت الرجل قال فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء فى صورة رجل متطيب فقال لاهله ان لصاحبكم جنونا أفا عالجه قالوا نعم فقال لهم انى لا أقوى على جنبته ولكن أرشدكم إلى من يدعو اللّه فيعا فيه انطلقوا إلى برصيصا قال عنده الاسم الأعظم الذي إذا دعا به أجاب فانطلقوا إليه فسائوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون وانطلق الأبيض إلى جارية من بنات ملوك بنى إسرائيل بين ثلثة اخوة وكان أبوهم ملكهم فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بنى إسرائيل فجاء الأبيض إلى تلك الجارية فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم فى صورة متطيب فقال لهم أ(1/6474)
تريدون ان أعالجها قالوا نعم قال ان الذي عرض لها مارد ولا يطلق ولكن سارشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعالها حتى تعلموا انها قد عوفيت وتردونها صحيحة قالوا ومن هو قال برصيصا الزاهد قالوا وكيف لنا ان يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شانا من هذا قال ابنوا صومعة إلى جنب صومعة حتى تشرفوا عليه فان قبلها والا فضعوها فى صومعة ثم قولوا هى امانة عندك فاحتسب فيها قال انطلقوا إليه فسالوه فابى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض فوضعوا الجارية فى صومعة فقالوا هذه أختنا هذه امانة فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلوته عاهن الجارية وما بها من جمال فوقعت فى قلبه ودخل عليه امر عظيم فجاءها شيطان فخنقها
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 254
فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان ثم اقبل على صلوته ثم جاءها فخنقها وكانت تكشف عن نفسها فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد ذلك واللّه تعالى غفار الذنوب والخطايا فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل(1/6475)
به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت فظهر حملها فقال له الشيطان ويحك قد افتضحت يا برصيصا فهل لك ان تقتلها وتتوب فان سالوك فقل ذهب بها شيطانها فلم اقدر عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فاخذ بطرف إزارها فبقى طرفة خارجها من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعة فاقبل على صلوته إذ جاءه إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون فى فرط الأيام يسألون عنها ويصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه فانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم فى منامه فقال ويحك ان برصيصا قد فعل بأختك كذا وكذا وانه دفنها فى موضع كذا فقال الأخ فى نفسه هذا حلم وهو من عمل الشيطان فان برصيصا خير من ذلك قال فتتابغ عليه ثلث ليال مرات ليلا فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر فلم يخبربه أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك فقال أصغرهم لاخويه واللّه لقد رايت كذا وكذا وقال الأوسط وانا واللّه قد رايت مثله ...(1/6476)
فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال أ ليس قد أعلمتكم بحالها فكانكم اتهمتموني فقالوا واللّه ما نتهمك واستحيوا منه فانصرفوا فجائهم الشيطان وقال ويحكم انها لمدفونة فى موضع كذا وان طرف إزارها خارج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا فى النوم فمشوا فى مواليهم وغلمانهم معهم الفئوس والمساجى فهدموا صومعة فانزلوه ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فاقر على نفسه وذلك ان الشيطان أتاه فقال تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف امر الملك بقتله وصلبه على خشية فلما صلب أتاه الأبيض قال يا برصيصا أ تعرفني قال لا قال انا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك ما اتقيت اللّه فى أمانتك خنت أهلها فانك زعمت انك اعبد بنى إسرائيل اما استحييت فلم يزل يعيره ثم قال فى اخر ذلك الم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت اشياهك من الناس فان مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظرايك قال فكيف اصنع قال تطيعنى فى خصلة واحدة حتى انجيك مما أنت فيه فاخذ باعينيهم واخرجك من مكانك قال وما هى قال تسجد لى قال افعل فسجد له فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صار عاقبة أمرك إلى ان كفرت
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 255(1/6477)
بربك انى برىء منك إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ انما قال ذلك رياء والا فالخشية من اللّه تعالى لم يخلق فى الشياطين وقيل المراد بالإنسان الجنس ويقول الشيطان اكفر اغراءه على الكفر إغراء الأمر المأمور وقوله انى برىء بقوله فى الاخرة مخافة ان يشاركه فى العذاب وينفعه ذلك نظيره قوله تعالى وقال الشيطان لما قضى الأمر إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ وقيل المراد بالإنسان أبو جهل قال له إبليس يوم بدر لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ يعنى من الهلاك فى الدنيا.
فَكانَ عاقِبَتَهُما أى الإنسان والشيطان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ أى نفس كل أحدكم ما قَدَّمَتْ يعنى أى شىء قدمت من عمل صالح ينجيه أو سىء يوبقه فينزع عنه ويستغفر منه لِغَدٍ ج أى ليوم القيامة سماه غدا لدنوه أو لأن الدنيا كيوم واحد والاخرة غد فى الحديث الدنيا يوم ولنا فيها صوم وَاتَّقُوا اللَّهَ ط تكرير للتاكيد أو الأول لاداء الواجبات والثاني لترك المحارم لاقترانه لقوله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وهو كالوعيد على المعاصي.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فلا يبالون بإتيان مناهيه وترك أوامره فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أى حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا أو أراهم يوم القيامة من الهول ما أنساهم أنفسهم أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون فى الفسق.(1/6478)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أى الذين استمهنوا أنفسهم فاستحقوا النار والذين استكملوا أنفسهم فاستحقوا الجنة استدل الشافعية بهذه الآية ان المسلم لا يقتل بالكافر قصاصا وليس شىء فان المراد عدم مساواتهم فى الاخرة حيث قال اللّه تعالى أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ط قيل هذا تمثيل وتخييل يعنى لو جعل فى الجبل تميزا وانزل عليه القرآن تخشع وتشقق وتصدع من خشية اللّه مع صلابته ورزانته حذرا من ان لا يؤدى حق اللّه عز وجل فى تعظيم القرآن والكافر يعرفن عما فيه من العبر كان لم يسمعها وجاز ان يقال ان الجمادات ان كانت فى الظاهر عديمات الشعور لكنها بالنسبة إلى خالقها ذات شعور وخشية قال اللّه تعالى وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقال النبي صلعم الجبل
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 256
ينادى الجبل أى فلان جبل هل مربك أحد يذكر اللّه فإذا قال نعم استبشر الحديث وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فى الآية توبيخ على عدم تفكر الإنسان وتدبره وعدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه.(1/6479)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ج قد بسطنا الكلام فى تفسير الغيب والشهادة فى سورة الجن فى تفسير قوله تعالى لا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الظاهر من كل عيب البليغ فى النزاهة عما لا يليق به السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وافة مصدر وصف به للمبالغة الْمُؤْمِنُ قال ابن عباس الذي أمن الناس من ظلم وأمن من أمن به من عذاب فهو من الامان ضد التخويف وقيل معناه المصدق لرسله بإظهار المعجزات الْمُهَيْمِنُ الشهيد على عباده بأعمالهم يقال همن يهمن إذا كان رقيبا على الشيء كذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدى ومقاتل كذا قال فى القاموس حيث قال همن على كذا إذا صار رقيبا عليه حافظا وكذا قال الخليل وقيل أصله ما من من الا من قلبت همزة الثانية ياء أو الاولى هاء ومعناه المؤمن كذا قال ابن زيد ان معناه المصدق وقال سعيد بن المسيب والضحاك وابن كيسان هو اسم من اسماء اللّه تعالى فى الكتب السماوية اللّه تعالى أعلم بتأويله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ قال ابن عباس هو العظيم وجبروت اللّه عظيمه فهو صفة ذات وقيل هو من الجبر بمعنى الإصلاح يقال جبرت الأمر وجبرت العظم إذا أصلحته بعد الكسر فهو يغنى الفقير ويصلح الكسر فى الحديث جابر العظم الكسير وقال السدى ومقاتل هو الذي يقهر الناس ويجبر على ما أراد سئل بعضهم عن معنى الجبار قال هو القهار الذي إذا أراد امرا فعل لا يقدر أحد على ان يحجره الْمُتَكَبِّرُ ط التفعل للمبالغة والكبر والكبرياء الامتناع فهو الممتنع عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا وقيل المتكبر المتعظم وقيل ذو الكبرياء وهو الملك سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ إذ لا يشاركه أحد فى شىء من ذلك.(1/6480)
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للاشياء كما قال يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق وفى القاموس المبدء الشيء المخترع على غير مثال سبق الْبارِئُ الموجد للاشياء بريا من التفاوت فى القاموس
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 257
برأ اللّه الحق كجعل برءا وبروءا خلقهم الْمُصَوِّرُ قال البغوي المماثل للمخلوق بالعلامات التي يتميز بها بعضها عن بعض يقال هذه صورة الأمر أى مثاله فاولا يكون خلقا ثم برأ ثم تصوير أو فى الصحاح ما يتنقش به الأعيان ويتميز بها عن غيرها وذلك ضربان أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الإنسان والفرس والجماد بالمعاينة قلت ومنه وما امتاز به زيد من عمرو الثاني معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص بها الإنسان من الفعل والمعاني التي خص بها شىء دون شىء والى الصورتين أشار اللّه تعالى بقوله خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ وقال صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقال فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ وقال هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ وقال عليه الصلاة والسلام ان اللّه تعالى خلق آدم على صورته فالصورة أراد بها ما خص الإنسان به من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة وبها فضله على كثير من الخلق واضافة إلى اللّه على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه تعالى عن ذلك وذلك على سبيل التشريف كقوله بيت اللّه وناقة اللّه قلت ويمكن ان يراد به خلقه تعالى على صفاته من العلم والقدرة والارادة ونحو ذلك التي بها لبس خلعة الخلافة وامتاز به عما عداه واحتمل ثقل الامانة وجاز ان يكون ضمير صورته راجعا إلى آدم يعنى خلقه على صورة لم يعط أحدا غيره واللّه تعالى أعلم لَهُ تعالى الْأَسْماءُ الْحُسْنى ط الدالة على محاسن الصفات والمعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لتنزهه عن النقائص(1/6481)
كلها وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ع الجامع للكمالات كلها فانها راجعة إلى الكمالات فى القدرة والعلم عن المعقل بن يسار ان رسول اللّه صلعم قال من قال حين يصبح ثلث مرات أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقرأ ثلث آيات من اخر سورة الحشر وكل اللّه به سبعين الف ملك يصلون عليه حتى يمسى فان مات فى ذلك اليوم مات شهيدا ومن قال حين يمسى كان بتلك المنزلة رواه الترمذي وقال حديث غريب وعن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلعم من قرأ خواتيم الحشر من ليلة أو نهار فقبض فى ذلك اليوم أو ليلة فقد أوجب الجنة رواه ابن عدى والبيهقي وسنده ضعيف.
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 258(1/6482)
سورة الممتحنة
مكّيّة وهى ثلث عشرة اية وفيها ركوعان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ذكر البغوي وغيره ان سارة مولاة أبى عمرو بن صفى بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ورسول اللّه صلعم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول اللّه صلعم أ مسلمة جئت قالت لا قال أ مهاجرة جئت قالت لا قال فما جاء بك قالت كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالى فاحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطونى وتكسونى وتحملوني فقال اين أنت من شبان مكة وكانت مغنية نايحة قالت ما طلب منى شىء بعد وقعة بدر فحث رسول اللّه صلعم بنى عبد المطلب وبنى المطلب فاعطوها نفقة وكسوها وحملوها فاتاها حاطب بن أبى بلتعة حليف بنى اسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا على ان توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب فى الكتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة ان رسول اللّه صلعم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبرئيل فاخبر النبي صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم بما فعل حاطب فبعث رسول اللّه صلعم عليا وعمارا والزبير وطلحة ومقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسانا فقال لهم انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فان بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها وان لم تدفع إليكم فاضربوا عنقها قال فخرجوا حتى أدركوها فى ذلك المكان الذي قال رسول اللّه صلعم فقالوا لها اين الكتاب فحلفت باللّه ما معها كتاب فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع فقال على واللّه ما كذبنا ولا كذب رسول اللّه وسل سيفه وقال اخرجى الكتاب والا لاجزدنك؟؟؟ ولاضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوابتها قد خباها فى شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها فرجعوا بالكتاب إلى رسول اللّه صلعم فارسل رسول اللّه صلعم إلى حاطب فاتاه فقال هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت قال واللّه ما(1/6483)
كفرت منذ أسلمت ولاغششتك منذ نصحتك ولا احببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا فيهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فاردت ان اتخذ عندهم يدا وقد علمت ان اللّه ينزل بهم بأسه وان كتابى لا يغنى عنهم من اللّه شيئا فصدقه رسول اللّه صلعم وعذره فقام عمر بن الخطاب فقال دعنى يا رسول اللّه اضرب عنق هذا المنافق فقال رسول اللّه صلعم وما يدريك يا عمر لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفى الصحيحين
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 259
عن على قال بعثنا رسول اللّه صلعم انا والزبير والمقداد بن الأسود فقال انطلقوا حتى ناتوا روضة خاخ فان بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فايتونى به فخرجنا حتى اتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا اخرجى الكتاب فقالت ما معى من الكتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب قال فاخرجته عن عقاصها فاتينا به رسول اللّه صلعم فإذا هو من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض امر النبي صلعم فقال ما هذا يا حاطب قال لا تعجل على يا رسول اللّه انى كنت امرأ ملصقا من قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فاحببت إذ فاتنى ذلك من النسب منهم ان ناخذ منهم يدا يحمون بها قرابتى وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن دينى ولا رضا بالكفر فقال النبي صلعم صدقت وفيه أنزلت هذه السورة(1/6484)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ قيل الباء زائدة كما فى قوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ والمعنى تلقون إليهم بالمودة بالمكاتبة وقال الزجاج معناه تلقون إليهم اخبار النبي صلعم بالمودة التي بينكم وبينهم والجملة حال من فاعل لا تتخذوا أو صفة لاولياء جرت على غير من هى له فلا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط فى الاسم دون الفعل وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ج يعنى القرآن والجملة حال من فاعل أحد الفعلين يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة وهو حال من فاعل كفروا استيناف لبيانه أَنْ تُؤْمِنُوا أى لان أمنتم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ط فيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ من أوطانكم جهادا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي علة للخروج وعمدة للتعليق أو حال من فاعل خرجتم يعنى خرجتم مجاهدين أو ظرف بتقدير الوقت أى خرجتم فى وقت الجهاد أو مفعول مطلق من قبيل ضربته سوطا أى خرجتم خروج جهاد وجواب الشرط محذوف دل عليه لا تتخذوا تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ق قال مقاتل بالنصيحة بدل من تلقون أو استيناف والباء زائدة صلة لتسرون أو للسببية والمعنى انه لا طايل لكم فى اسرار المودة وإلقاء الاخبار إليهم سرا بسبب المودة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وقيل اعلم بفعل مضارع والباء زائدة وما موصولة أو مصدرية وَمَنْ يَفْعَلْهُ أى اتخاذ المودة مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أى أخطأ طريق الهدى.(1/6485)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أى ياخذوكم ويظفروا بكم فى القاموس ثقفه كمنعه صادفه أو اخذه أو ظفر به أو أدركه يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أى لا ينفعكم إلقاء المودة إليهم وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أى بما يسوئكم كالقتل والضرب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 260
و الشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ط لو للتمنى والجملة بيان الوداد والماضي فى جواب ان الشرطية وان كان يفيد معنى الاستقبال ولكن أورد صيغة الماضي للاشعار بانهم ودوا ذلك قبل كل شىء وان ودادهم حاصل بالفعل.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أى قرباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ ج الذين أشركوا والذين توالون المشركين لاجلهم يَوْمَ الْقِيامَةِ ج فيه رد لعذر الحاطب بن بلتعة ومن كان يعتذر بنحو ذلك يَفْصِلُ قرأ عاصم على البناء للفاعل من الثلاثي المجرد ونافع وابن كثير وأبو عمرو على البناء للفاعل من باب التفعيل وابن عامر على البناء للمفعول منه بَيْنَكُمْ أى ليفرق اللّه بينكم حين يفر بعضكم من بعض لشدة الهول ويصير الأخلاء يومئذ اعداء الا المتقين أو المعنى يفصل بينكم أى يدخل المؤمنين الجنة والمشركين النار فمالكم تتوالونهم اليوم وترفضون حق اللّه ونبيه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه.(1/6486)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أيها المؤمنون أُسْوَةٌ اسم لما يوتسى به أى اقتداء حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين متعلق بالظرف المستقر اعنى لكم الذي هو خبر أو صفة ثانية لاسوة إِذْ قالُوا ظرف لخبر كان أو خبر لكان لِقَوْمِهِمْ الكفار إِنَّا بُرَآؤُا جمع برىء كظريف وظرفاء مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام كَفَرْنا بِكُمْ الكفر بالحقيقة ضد الايمان لأنه ستر الحق والنعمة لكن اطلق هاهنا للتبرى كما فى قوله تعالى ويوم القيامة يكفر بعضكم عن بعض وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ فينقلب العداوة والبغضاء الفة ومحبة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ قال البيضاوي وغيره استثناء من قوله أسوة حسنة وفيه إشكال فان أسوة نكرة لا يتيقن دخول المستثنى فيه حتى يكون متصلا ولا عدم دخوله حتى يكون منقطعا نظيره قوله تعالى لو كان فيهما الهة الا اللّه لفسدتا فالاولى ان يقال انه استثناء من محذوف تقديره اتبعوا اقوال ابراهيم الا قوله لابيه لاستغفرن لك كذا قال صاحب البحر المواج وعندى انه استثناء من قوله فى ابراهيم بتقدير المضاف تقديره قد كانت لكم أسوة حسنة فى قول ابراهيم الا قوله لابيه لاستغفرن لك ولعل هذا هو المراد من كلام البيضاوي فان استغفاره لابيه الكافر لا ينبغى فيه التأسي والاتباع وانما كان ذلك قبل النهى لموعدة وعدها إياه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ط هذا من تمام المستثنى ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء كل جزء منه وكلمة من زائدة وشىء فى محل النصب على المفعولية لا ملك رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا فى محل النصب بتقدير
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 261(1/6487)
القول يعنى قال ابراهيم ومن معه ربنا عليك توكلنا وهو متصل بما قبل الاستثناء إذ هو امر من اللّه للمؤمنين تتميما لما وصّهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار تقديره قولوا ربنا عليك توكلنا وتركنا موالاة الكفار والاستنصار بهم وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ المرجع.
رَبَّنا كرّ النداء بربنا لتاكيد المناجاة والاستعطاف لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى لا تسلطهم علينا فيعذبونا فيواخذونا بذلك فتكون فتنة لهم أى سببا لعذابهم وقال الزجاج يعنى لا تظهرهم علينا فيظنوا انهم على الحق وقال مجاهد لا تعذبنا بايديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك وَاغْفِرْ لَنا ما فرط منا فان المعاصي قد يكون سببا لتسليط الكفار على المؤمنين رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يقدر أحد على إيصال الشر بمن يجيره ويتوكل عليه الْحَكِيمُ الحاكم العالم المقتدر على اجابة الدعاء.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون فِيهِمْ أى فى ابراهيم ومن معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تكرير لتاكيد الحث على التأسي ولذلك صدر بانفسهم لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ أى يرجوا لقاء اللّه وثوابه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ط أى يرجوا إتيان يوم القيامة وقوله لمن كان بدل من لكم وفيه ايماء إلى ان الايمان يقتضى التأسي به عليه السلام وتركه يوذن بسوء العقيدة ولذلك عقبه بقوله وَمَنْ يَتَوَلَّ عن تأسي الأنبياء ويوالى الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عبادة وعن تأسي رسله وعن كل شىء وانما منفعة التأسي بالأنبياء راجع إلى المتاسى الْحَمِيدُ ع لاوليائه ولاهل طاعة قال البغوي قال مقاتل فلما امر اللّه تعالى بعداوة الكفار دعادى المؤمنون اقربائهم وأظهروا لهم العداوة والبراءة علم اللّه تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك انزل اللّه بتسليتهم قوله.(1/6488)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ يعنى كفار مكة مَوَدَّةً ط فانجز اللّه وعده قريبا فان الآية نزلت قبل الفتح كما ذكرنا وبعد الفتح اسلم كل من كان بمكة وصاروا اولياء الا من قتل منهم يوم الفتح كالحو يرث بن نفيد وغيره وسميناهم فى سورة النصر فان قيل كلمة الذين عاديتم عام تقتضى موالاة جميعهم وقد قتل منهم كافرا قلنا قد يطلق العام ويراد به الخاص مجازا ألم تسمع قولهم ما من عام إلا وقد خص منه البعض وقد يسند الفعل إلى الكل مجازا لوجود المسند إليه فيهم كما فى قوله تعالى فكذبوه فعقروها وَاللَّهُ قَدِيرٌ ط على ذلك وعلى كل شىء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما فرط من موالاتهم قبل النهى ولما بقي من قلوبهم من ميل الرحم أخرج البخاري عن اسماء بنت أبى بكر قالت أتتني أمي راغبة فسالت النبي صلعم أصلها قال نعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 262
فانزل اللّه تعالى.(1/6489)
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الآية واخرج احمد والبزاز والحاكم وصححه عن عبد اللّه بن الزبير قال قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها اسماء بنت أبى بكر وكان أبو بكر طلقها فى الجاهلية فقدمت بنتها بهدايا فابت اسماء ان تقبل منها أو تدخلها منزلها حتى أرسلت إلى عائشة ان سلى عن رسول اللّه صلعم فاخبرته ان تقبل هداياها وتدخلها منزلها فانزل اللّه لا ينهكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أى تكرموهم وتحسنوا إليهم قولا وفعلا بدل من الذين بدل اشتمال أى لاينهكم اللّه عن مبرتهم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ط أى تقضوا إليهم القسط والعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقال ابن عباس نزلت الآية فى خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلعم ان لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا فرخص اللّه تعالى فى مبرهم ومن هاهنا يظهر انه يجوز دفع الصدقة النافلة إلى الذمي وقد مر المسألة فى سورة البقر فى تفسير قوله تعالى ليس عليك هداهم ومن ثم امر النبي صلعم بإعطاء سارة مولاة أبى عمرو كما ذكرنا فى أول السورة واللّه اعلم.(1/6490)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ وهم الرجال المشركون من أهل مكة بعضهم سعوا فى إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ج بدل من الموصول بدل اشتمال ومن هاهنا يظهران المنهي عنه انما هو موالاة أهل الحرب دون مبرتهم يشرط ان لا يضربا لمومنين وقد قال اللّه تعالى فى الأسارى من أهل الحرب امامنا بعد واما فداء والمن نوع من البر فعلى هذا يجوز دفع الصدقة النافلة لاهل الحرب أيضا ان لم يكن فى ذلك تقويتهم على الحرب وقد قال رسول اللّه صلعم فى الكبد الحارة اجر رواه البيهقي بسند صحيح فى شعب الايمان عن سراقة بن مالك وروى عنه احمد بسند صحيح وابن ماجة بلفظ فى كل ذات كبد حرى اجر وكذا روى احمد عن ابن عمر اما دفع الزكوة إلى الكفار فلا يجوز اجماعا وسند الإجماع حديث معاذ وفيه قد فرض عليهم صدقة توخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أى أهل الحرب فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولا مفهوم لهذه الآية فانه لا يجوز موالاة أهل الذمة أيضا لعموم قوله تعالى لا تتخذوا عدوى وعدوكم اولياء وقوله تعالى لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء وقوله صلعم المرء مع من أحب واللّه تعالى أعلم روى البخاري وكذا مسلم عن عروة بن الزبير عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يخبر ان عن اصحاب رسول اللّه صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 263(1/6491)
انهم قالوا كان فيما اشترط سهيل بن عمر على النبي صلعم انه لا يأتيك منا أحد وان كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك وابى سهيل الا ذلك فكاتبه النبي صلعم فرده يومئذ أبا جندل إلى سهيل بن عمرو لم يأته أحد من الرجال إلا رده فى تلك المدة وان كان مسلما وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ممن خرج إلى رسول اللّه صلعم يومئذ وهى عاتق فجاء أهلها يسئلون النبي صلعم ان يرجعها إليهم فلم يرجعها لما انزل اللّه فيهن.(1/6492)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ج أى فاختبروهن بما غلب على ظنكم موافقة قلوبهن ألسنتهن فى الايمان فان الايمان صفة القلب ولا يعلم بما فى الصدور الا اللّه تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ علما يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالخلق وظهور الأمارات وسماه علما إيذانا بان الظن كالعلم فى وجواب العمل به فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى أزواجهن الْكُفَّارِ ط لأنه لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ لحصول الفرقة بين الكافر والمسلمة وقد مر فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ انه يقع الفرقة بين المهاجرة وبين زوجها الكافر لمجرد الخروج من دار الحرب عند أبى حنيفة لاختلاف الدارين وعند الائمة الثلاثة بعد ثلث حيض من وقت إسلامه ان دخل بها والا فمن وقت إسلامها وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ط بتجديد النكاح لعدم جواز نكاح الكافر بالمسلمة وجاز ان يكون التكرير للتاكيد قال عروة فى الحديث السابق فاخبرتنى عائشة رض ان رسول اللّه صلعم كان يمتحنهن هذه الآية يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك إلى قوله غفور رحيم قال عروة قالت عائشة رض فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها رسول اللّه صلعم قد بايعناك كلاما يكلمها به واللّه ما مست يده يد امرأة قط فى المبايعة ما بايعهن الا بقوله وقال البغوي قال ابن عباس اقبل رسول اللّه صلعم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركوا مكة على ان ما أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن اتى أهل مكة من اصحاب رسول اللّه صلعم لم يردوه إليه وكتبوا عليه كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الا سلميه مسلمة بعد الفراغ من الكتاب فاقبل زوجها مسافر من بنى مخزوم وقيل صيفى بن الراهب فى طلبها وكان كافرا فقال يا محمد اردد علىّ امراتى فانك قد شرطت(1/6493)
ان ترد علينا من أتاك منا وهذا طينة الكتاب ولم تجف بعد فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانهن ان نستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقا لرجل من المسلمين ولا رغبة عن ارض إلى ارض ولا لحدث أحدثته ولا التماس
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 264(1/6494)
للدنيا ولاخرجت الا رغبة فى الإسلام وحبا للّه ولرسوله صلعم فاستحلفها رسول اللّه صلعم على ذلك فحلفت فلم يردها واعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطى أزواجهن مهورهن واخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبد اللّه بن أبى احمد قال هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط فى الهدنة فخرج أخواها عمارة والوليد بن عقبة حتى قد ما رسول اللّه صلعم وكلماه فى أم كلثوم ان يردها إليهم فنقض اللّه العهد بينه وبين المشركين فى النساء خاصة ومنع ان يردون إلى المشركين فانزل اللّه اية الامتحان واخرج ابن أبى حاتم عن يزيد بن أبى حبيب انه بلغه انها نزلت فى اميمة بنت بشر أو امرأة أبى حسان بن الدحداحة واخرج عن مقاتل ان امرأة تسمى سعيدة كانت تحت صيفى بن الراهب وهو مشرك جاءت زمن الهدنة فقالوا ردها علينا واخرج ابن جرير عن الزهري انها نزلت عليه وهو بأسفل الحديبية كان صالحهم انه من أتاه منهم رد إليهم فلما جاءت النساء نزلت هذه الآية وَآتُوهُمْ الضمير عايد إلى الكفار والمراد أزواجهن ما أَنْفَقُوا عليهن يعنى المهور التي دفعوا إليهن وذلك لان الصلح كان جرى على ردهن فلما تعذر ردهن لو رود النهى عنه لزم رد مهورهن فلو راى الامام مصلحة على صلح مثل ما صالح النبي صلعم بالحديبية وجب رد مهر مهاجرة جاءت من الكفار قال البغوي قال الزهري ولو لا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول اللّه صلعم وبين قريش يوم الحديبية لامسك النساء لم يرد الصداق وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد واللّه تعالى أعلم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أى المهاجرات وان كان لهن ازواج فى دار الحرب لوقوع الفرقة بينهم وبينهن والآية تدل على عدم اشتراط مضى العدة كما هو فى مذهب أبى حنيفة رح خلافا لصاحبه إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى(1/6495)
مهورهن شرط إيتاء المهر فى نكاحهن إيذانا بان اعطى أزواجهن الكفار لا يقوم مقام المهر
اخرج ابن أبى منيع من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال اسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته فى المشركين فانزل اللّه تعالى وَلا تُمْسِكُوا قرأ أبو عمر ويعقوب بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال بِعِصَمِ جمع عصمة وهو ما اعتصم به من عقد الموالات والنكاح ونحو ذلك الْكَوافِرِ جمع الكافرة نهى اللّه سبحانه عن المقام على نكاح المشركات قال البغوي قال الزهري فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين بمكة مشركتين قرينة بنت أبى امية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن أبى سفيان وهما
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 265(1/6496)
على شركهما بمكة والاخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جردل الخزاعية أم عبد اللّه بن عمر فتزوجها أبو جهيم بن حذافة ابن غانم وهما على شركهما وكانت اروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد اللّه فهاجر طلحة وهى على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها فى الإسلام خالد بن سعد بن العاص بن امية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول اللّه صلعم امرأة أبى العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلعم واقام أبو العاص بمكة مشركا ثم اتى المدينة واسلم فردها على رسول اللّه صلعم وَسْئَلُوا أيها المسلمون ما أَنْفَقْتُمْ من مهر امرأة منكم لحقت بالمشركين مرتدة إذا منعوها ممن تزوجها منهم وَلْيَسْئَلُوا أى الكفار من مهور أزواجهم المهاجرات ما أَنْفَقُوا ط ممن تزوجها منكم ذلِكُمْ أى جميع ما ذكر فى الآية حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ استيناف أو حال من الحكم على حذف الضمير أو جعل الحكم حاكما على المبالغة والضمير فى يحكم عايد إليه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما يعلم خيرا لكم وما تقتضيه الحكمة قال البغوي فى قول الزهري فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم اللّه عز وجل وادوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم وابى المشركون ان يقروا بحكم اللّه فبما أمروا من أداء نفقات المسلمين فانزل اللّه.
وَإِنْ فاتَكُمْ أى ان سبقكم وانفلت منكم شَيْ ءٌ أى أحد مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فلحقت بهم مرتدة وإيقاع شىء موقع أحد للتحقير والمبالغة فى التعميم أو المعنى شىء من مهور أزواجكم إلى الكفار فلم يودوها أخرج ابن أبى حاتم عن الحسن قال نزلت هذه الآية فى أم الحكم بنت أبى سفيان ارتدت فتزوجها رجل ثقفى ولم ترتد امرأة من قريش غيرها فَعاقَبْت ُمْ(1/6497)
قال البغوي قال المفسرون معناه غنمتم فاصبتم من الكفار عقبى وهى الغنيمة وقيل معناه ظفرتم وكانت العاقبة لكم وقيل معناه اجتمعوهم فى القتال بعقوبة حتى غنمتم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مرتدات إلى الكفار منكم من الغنائم التي صارت فى ايديكم من الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أى مثل ما أنفق المؤمنون الذين ذهب أزواجهم مرتدات عليهن قال البغوي روى ابن عباس انه قال لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة رجعن إلى الإسلام فاعطى رسول اللّه صلعم أزواجهن مهورهن من الغنيمة أم الحكم بنت أبى سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة بنت أبى امية بن المغيرة اخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر ان يهاجر أبت وارتدت وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزى بن فضلة وتزوجها عمر بن عبد ود وهندة بنت أبى جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم بنت خردل كانت تحت
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 266(1/6498)
عمر بن الخطاب وقال البيضاوي وفى تفسير الآية فعاقبتم أى فجاءت عقبتكم أى نوبتكم لاداء المهر شبه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى بامر يتعاقبون فيه كما يتعاقب فى الركوب وغيره فاتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من المهر المهاجرة ولا توتوا زوجها الكافر قلت والصحيح هو التفسير الأول قال البغوي اختلف القول فى ان أداء مهر من أسلمت أزواجهن هل كان واجبا أو مندوبا وأصله ان الصلح هل كان وقع على رد النساء اولا فيه قولان أحدهما انه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لما روى انه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم فى رد النساء منسوخا بقوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار فعلى هذا كان رد المهر واجبا عوضا عن المرأة ثانيهما ان الصلح لم يقع على رد النساء لما روى انه لا يأتيك منا رجل وان كان على دينك إلا رددته ذلك لان الرجل لا يخشى عليه من الفتنة فى الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وانه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج فيه بإظهار كلمة الكفر تقية مع إخفاء الايمان فعلى هذا كان الرد مندوبا قلت والظاهر ان الصلح على رد الرجال والنساء جميعا ومن ثم إذا هاجرت نساء مؤمنات نزل قوله تعالى لا ترجعوهن إلى الكفار ولو لا ذلك فلم يكن وجه لارجاعهن إلى الكفار ولا لنزول الحكم وان رد المهر كان واجبا كما يدل عليه صيغ الأمر وقوله تعالى ذلك حكم اللّه الآية وقوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فان الايمان يقتضى إتيان ما امر اللّه به فان قيل فعلى هذا يلزم نقض العهد وهو حرام وقلنا نسخت حرمة نقض العهد فى مادة مخصوصة بقوله تعالى لا ترجعوهن إلى الكفار أو تقول هذا من قبيل نبذ العهد على السؤال قال البغوي واختلفوا فى انه هل يجب العمل به اليوم فى رد المهور إذا شرط رد النساء فى(1/6499)
معاقدة الكفار فقال يوم لا يجب وزعموا ان الآية منسوخة وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة قلت لا وجه لهذا القول ما لم يثبت بهذا الحكم ناسخ مثله فى القوة وقال قوم غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ حال من المؤمنات عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً متعلق بيبايعنك وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ على عادة الجاهلية فانهم كانوا يوادون البنات وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ أى بكذب يبهت السامع يَفْتَرِينَهُ أى يختلقته بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يعنى لا يكون له مصداق تختلقه من عند أنفسها قبل قيد بهذا توبيخا وتخويفا بان الأيدي والأرجل يشهدون يوم القيامة بما صدر من اللسان من المعاصي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 267(1/6500)
فلا تفترين بين الشهود قيل المراد به ان تلتقط ولدا وتقول لزوجها هذا ولدي منك فهو البهتان بين الأيدي والأرجل لان الولد تحمله أمها فى بطنها بين يديها وتضعه من فرجها بين رجليها وصفه بصفة الولد الحقيقي واللفظ يعم كل بهتان وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعنى فى إتيان حسنة فامرهن بها أو لانتهاء عن سيئة تنهاهن والتقييد بالمعروف مع ان الرسول صلعم لا يأمر بالمعروف تنبيها على انه لا يجوز طاعة المخلوق فى معصية الخالق قال مجاهد المراد بالمعروف ان لا يخلو المرأة بالرجال وقال سعيد بن المسيب والكلبي وعبد الرحمان بن زيد هو النهى عن النوح والدعاء بالويل وتحريق الثياب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه عند المصيبة ولا تحدث المرأة الرجال الا ذا محرم ولا تخلوا برجل غير ذى محرم ولا تسافر الا مع ذى محرم واخرج ابن الجرير والترمذي وحسنه وابن ماجة عن أم سلمة ولا يعصينك فى معروف قال النوح روى البخاري عن أم عطية قالت بايعنا رسول اللّه صلعم فقرأ علينا لا تشركن باللّه شيئا ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت أسعدتني فلانة أريد ان اجزيها فما قال لها النبي صلعم شيئا فانطلقت ورجعت وبايعها وروى مسلم عن أبى مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلعم اربع من أمتي من امر الجاهلية لا يتركونهن الفخر فى الاحساب والطعن فى الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النياحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال قطران ودرع من جرب وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلعم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعاء الجاهلية وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري قال لعن رسول اللّه صلعم النائحة والمستمعة فَبايِعْهُنَّ بضمان الثواب على الوفاء بهذه الشروط جزاء لقوله إذا جاءك المؤمنات وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ عما مضى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يمحق ما سلف من العبد عصيانه رَحِيمٌ(1/6501)
يوفق فيما يأتي روى البخاري عن عائشة قالت كان النبي صلعم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية لا يشركن باللّه شيئا قالت وما مست يد رسول اللّه صلعم يد امرأة الا امرأة يملكها وروى البغوي بسنده عن محمد بن المنكدر انه سمع اميمة بنت رقيقة تقول بايعت رسول اللّه صلعم فى نسوة فقال فيما استطعتن واطقتن فقلت رسول اللّه صلعم ارحم بنا من أنفسنا قلت يا رسول اللّه صافحنا فقال انى لا أصافح النساء انما قولى لامرأة كقوله لمائة امرأة قيل نزلت هذه الآية يوم الفتح وليس كك لما ذكرنا فى تفسير اية الامتحان حديث عائشة ان رسول اللّه صلعم كان يمتحنهن
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 268
بهذه الآية يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات إلى قوله غفور رحيم واية الامتحان قد نزلت بعد صلح الحديبية ولكن النبي صلعم يوم فتح مكة فرغ من بيعة الرجال وهو على الصفاء بايع النساء وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بامر رسول اللّه صلعم يبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبى سفيان مقنعة متنكرة مع النساء خوفا من رسول اللّه صلعم ان يعرفها فقال رسول اللّه صلعم أبايعكن على ان تشركن باللّه شيئا فرفعت هند راسها فقالت واللّه انك لتاخذ امرا ما رايناك أخذته على الرجال وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلعم ولا يسرقن فقالت هند ان أبا سفيان رجل شحيح وانى أصبت من ماله هناة فلا أدرى أ تحل لى أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شىء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلعم فقال لها وانك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا اللّه عنك فقال ولا تزنين فقالت هند أو تزنى الحرة فقال ولا تقتلن أولادهن فقالت هند ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فانتم وهم اعلم وكان ابنها حنظلة بن(1/6502)
ابى سفيان قد قتل يوم بدر فضحك فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول اللّه صلعم فقال ولا تأتين ببهتان يغترينه بين أيديهن وأرجلهن فقالت هند واللّه ان البهتان قبيح وما تأمرنا الا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا يعصينك فى معروف قالت هند ما جلنا مجلسنا هذا ولى أنفسنا ان تعصينك فى شىء فاقر النسوة بما أخذ عليهن وانما خصت النساء فى البيعة بهذا التفصيل مع ان بيعة الرجال على الإسلام يشتمل انقياد رسول اللّه صلعم فى جميع ما امر به لضعف عقلهن وقلة تفقههن لاستنباط التفصيل من الإجمال ولكثرة وقوع الأمور المذكورة من النساء الا ترى إلى كثير من النساء المسلمات يعتقدن ما يستلزم الشرك ويسرقن كثيرا من اموال الأزواج ويقتلن أولادهن بالواد والزنا من النساء أقبح من الرجال غالبا لان فيه تفويت حق الزوج مع حق اللّه تعالى ونسبة أولاد الغير إلى أزواجهن وايراثهن إياهم اموال الأزواج وانهن تأتين كثيرا بالبهتان والكذب ويكثرن اللعن ويكفرن العشير ويكثرن النياحة الدعاء بالويل وضرب الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك مالا يفعله الرجال غالبا فلذا خصهن بتفصيل هذه الشروط كما خص الرجال بشرط الجهاد الذي يختص به واللّه تعالى أعلم أخرج ابن المنذر من طريق ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال كان عبد اللّه بن عمرو زيد بن الحارث يوادون رجالا من يهود فانزل اللّه تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعنى اليهود كما يدل عليه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 269(1/6503)
قول ابن عباس المذكور وكذا قال البغوي ان ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود اخبار المسلمين يتواصلونهم فيصيبون من ثمارهم فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وقيل المراد به عامة الكفار قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ ان كان المراد بهم اليهود فهم ليعلمهم يكون محمد صلعم نبيا حقا مؤيدا بالمعجزات مكتوبا عندهم فى التورية وكفرهم به صلعم عنادا وحسدا بتسلط الشيطان وما كتب اللّه عليهم الشقاوة يئسوا من نعماء الاخرة وعلموا يقينا انه لا حظ لهم فى الاخرة مع اعتقادهم بالاخرة ونعمائها فما أصبرهم على النار أعوذ باللّه منها وان كان المراد به عامة الكفار فهم يئسوا من الاخرة بعدم ايمانهم بالغيب والثواب والعذاب كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ أى المشركين مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ان يبعثوا ويثابوا أو ينالهم خيرا بينهم وعلى تقدير كون المراد بقوم غضب اللّه عليهم عامة الكفار وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ان الكفرا يسهم فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بيئس وقيل هو ظرف مستقر بيان للكفار حال منه والمعنى كما يئس الكفار الذين صاروا فى القبور من ان يكون لهم حظ وثواب فى الاخرة كذلك يئس اليهود من الاخرة حيا فى الدنيا كذا قال مجاهد وسعيد بن جبير واللّه تعالى أعلم .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 270
سورة الصّف
مدنيّة وهى اربع عشرة اية وفيها ركوعان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد اللّه بن سلام قال قعدنا نفرا من اصحاب رسول اللّه صلعم فشداكرنا فقلنا لو نعلم أى الأعمال أحب إلى اللّه لعلمناه فانزل اللّه تعالى(1/6504)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قرأها علينا رسول اللّه صلعم حتى ختمها واخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه وذكر البغوي قول المفسرين ان المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى اللّه عز وجل لعملنا وبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فانزل اللّه تعالى ان اللّه يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين فانزل اللّه تعالى لم تقولون ما لا تفعلون واخرج ابن جرير عن أبى صالح قال قالوا لو كنا نعلم أى الأعمال أحب إلى اللّه وأفضل لعملنا فنزلت يايّها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة الآية فكرهوا الجهاد فنزلت يايّها الذين لم تقولون ما لا تفعلون واخرج ابن أبى حاتم من طريق على عن عباس نحوه واخرج ابن أبى حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس وابن جرير عن الضحاك قال أنزلت لم تقولون مالا تفعلون فى الرجل فى القتال ما لا يفعله من الضرب والطعن والقتل واخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل انها نزلت فى قوليهم يوم أحد وقال محمد بن كعب لما اخبر اللّه رسوله صلعم ثواب شهداء بدر قالت الصحابة لئن لقينا بعده قتالا لنفرغن فيه وسعنا خفروا يوم أحد فعيرهم اللّه بهذه الآية وقال ابن زيد نزلت فى المنافقين كانوا يعدون النصر للمومنين وهم كاذبون.
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ المقت أشد الغضب ونصبه على التميز من نسبة كبر إلى فاعله وهو ان تقولوا وفيه دلالة على ان قولهم هذا مقت خالص كبير عند اللّه الذي يحقر دونه كل عظيم مبالغة فى المنع من ان يقولوا كذبا ما لا يفعلوه أو يعدوا شيئا ثم لا يفوابه.(1/6505)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا أى مصطفين مصدر بمعنى الفاعل أو وصف به مبالغة وجاز ان يكون صفا مصدر بفعل محذوف والجملة حال من فاعل يقاتلون تقديره يصفون فى أنفسهم صفا لا يزالون فى القتال عن أماكنهم كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فى تراصهم من غير فرجة وبلا تحرك للفرار حال من المستكن فى الحال الأول والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه.
وَاذكر إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بنى إسرائيل يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 271
بالعصيان والرمي بالادرة وهى نفخة فى الخصيتين وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بما جئتكم بالمعجزات وانجيتكم من أهل فرعون يسومونكم سوء العذاب وجاوزت بكم البحر والعلم بالنبوة يوجب التعظيم ويمنع الإيذاء فَلَمَّا زاغُوا أى عدلوا عن الحق ولم يمتنعوا عن الإيذاء أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ هداية موصولة إلى معرفة الحق أو الجنة قال الزجاج لا يهدى من سبق فى علمه انه فاسق.(1/6506)
وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ لعله لم يقل يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ أى من قبلى مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسكن الياء ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وفتحها الباقون ومصدقا ومبشرا حالان من ضمير انى رسول اللّه والعامل فيهما وفى الرسول من معنى الإرسال لا الجار والمجرور فانه ظرف لغوصلة للرسول فلا يعمل اسْمُهُ أَحْمَدُ وهو أحد اسمى رسول اللّه صلعم افعل من الحمد يعنى اكثر حامدية للّه تعالى من غيره والأنبياء كلهم حمادون واكثر محمودية من غيره من المخلوقات والأنبياء كلهم محمودون موصوفون بالخصال الحميدة وهو صلعم اكثر مناقبا واجمع فضايلا ومحاسنا بها يستحق الحمد من غيره قال المجدد اسمه صلعم أحمد له خصوصية بنشإ الروحانية ولذلك سماه عيسى بذلك الاسم قبل نشاء العنصرية بالجسمانية واسمه عليه السلام محمد له خصوصية بنشاء الجسمانية وله ولايتان ولاية محمدية وهى ا لمحبوبية الممتزجة بالمحبة وولاية احمدية وهى المحبوبية الخالصة فعلى هذا الاولى ان يقال اشتقاه من المحمودية واللّه تعالى أعلم ذكر عيسى عليه السلام تصديقه بالأنبياء حتى يكون دليلا على صدق دعواة الرسالة فان الحق يطابق الحق والأنبياء شهداء بعضهم لبعض فذاك أول الكتب المشهورة الذي حكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم المرسلين الذي بشر به الأنبياء كلهم والتورية وغيرها من الكتب السماوية فَلَمَّا جاءَهُمْ عيسى أو احمد صلعم بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرة من احياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبالقران المعجز الباقي بمعنى الدهور والأزمان وشق القمر وغير ذلك ما لا يحصى والظرف متعلق بقوله تعالى قالُوا يعنى كفار بنى إسرائيل أو كفار قريش وغيرهم هذا سِحْرٌ قرأ حمزة ساحر اشارة إلى عيسى او(1/6507)
محمد صلعم وقرأ الباقون سحر اشارة إلى ما جاء به المعجزات مُبِينٌ ظاهر.
وَمَنْ يعنى لا أحد أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ نسبة الشريك والولد إليه وبان قالوا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 272
ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ أو قالوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ أو قال شريعة موسى شريعة موبدة إلى يوم القيمة وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ الظاهر حقيقه المقتضى له خير الدارين فيضع موضع الاجابة الافتراء على اللّه ويكذب رسله ويسمى آياته سحرا حال من فاعل افترى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعنى من كان فى علمه القديم ظالما فاللّه لا يرشده الحق والى ما فيه فلاحه.
يُرِيدُونَ حال للقوم الظالمين أو استيناف فى جواب قايل يقول ما شانهم لِيُطْفِؤُا ان يطفؤا واللام مزيدة لما فيه من معنى الارادة كما زيدت فى لا أبا لك لما فيه من معنى الاضافة أو للتعليل والمفعول به محذوف أى يريدون الافتراء ليطفؤا نُورَ اللَّهِ أى دينه بِأَفْواهِهِمْ أى بمقالاتهم الكاذبة المفتراة كمن يريد ان يطفئ نور الشمس والقمر يطفه بفيه ففيه اشارة إلى تمثيل لطيف وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أى مبلغ غايته بنشره واعلائه قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بالاضافة والباقون بالتنوين والنصب وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ كلمة لو متصلة للتسوية والجملة حال أى مستويا كراهة المشركين وعدمها يعنى انه تعالى لا يبالى فى إعلاء دينه كراهة المشركين.(1/6508)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ، محمدا صلعم بِالْهُدى أى بما يهتدى به الناس إلى الحق من القرآن والمعجزات الباهرة وَدِينِ الْحَقِّ أى دين اللّه وهو الملة الحنيفة البيضاء لِيُظْهِرَهُ بالسيف والحجة عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أى جميع الأديان وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ قد مر نظيره.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ قرأ ابن عامر بالتشديد من التفصيل للتكثير والباقون مخففا من الافعال مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كما ان تجارة الدنيا تنجى من الفقر وعذاب الجوع ونحو ذلك أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال لما نزلت يايّها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم قال المسلمون لو علمنا ما هذه التجارة لاعطينا فيها الأموال والأهلين فنزل قوله تعالى.
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ بيان للتجارة يعنى هى الجمع بين الايمان وبين المجاهدة بالأموال والأنفس سمى تجارة لان فيه مبادلة الأموال والا نفس بنعيم الاخرة ورضوان اللّه ومبادلة الأهواء يعنى العقائد الباطلة بالعلوم الحقة المكنى عنها بالايمان وفيه مرابحة صريحة أو رد لفظ الخبر والمراد به الأمر إيذانا بان هذا الشيء لا يترك واشعارا بمدح الصحابة بانهم معتادون بذاك ذلِكُمْ الجمع بين الايمان والمجاهدة خَيْرٌ لَكُمْ من الأهواء والأنفس والأموال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شرط مستغن عن الجزاء بما مضى ان كنتم تعلمون كونه خيرا فاتوا به ولا تتركوه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 273
و المعنى ان كنتم تعلمون انه خير لكم كان حينئذ خيرا لكم حيث تحبون الايمان والجهاد وفوق كل شىء.
(1/6509)
يَغْفِرْ لَكُمْ أى اللّه سبحانه ذُنُوبَكُمْ جواب للامر المدلول عليه بقوله تؤمنون وتجاهدون تقديره ان تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم أو للاستفهام المدلول عليه للاستفهام المذكور تقديره هل تقبلون ان أدلكم ان تقبلوا يغفر لكم ولا يجوز ان يكون جوابا لهل أدلكم لان مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة الا ان يقال ان الدلالة سبب للعمل والعمل يوجب المغفرة فقد رتب المسبب على سبب السبب إيذانا بقوة سببية دلالته وإرشاده صلعم للاهتداء بقوة تأثير نفسه الشريفة ووضوح امره بحيث لا يضل بعدها الا من هو أشقى الناس فى علم اللّه تعالى وأخبث الاستعداد وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً عطف الجزء على الكل فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أى استقرار وثبات يقال عدن بمكان كذا أى استقر ومنه المعدن المستقر للجوهر قال القرطبي قيل الجنات سبع دار الحلال ودار السلام ودار الخلد وجنة عدن وجنة المأوى وجنة نعيم وجنة الفردوس وقيل اربع فقط كما يدل عليه قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ...(1/6510)
وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلعم جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين ان ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن والاربعة كلها يوصف بالمأوى والخلد والعدن والسلام وهذا ما اختاره الحكيم أخرج أبو الشيخ فى كتاب العظمة عن ابن عمر قال خلق اللّه تبارك وتعالى أربعا بيده العرش وعدن والقلم وآدم ثم قال لكل شىء كن فكان واخرج ابن المبارك والطبراني وأبو الشيخ والبيهقي عن عمران بن حصين وابى هريرة قال سئل رسول اللّه صلعم عن هذه الآية وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قال قصر من اللؤلؤ فى ذلك القصر دارا من ياقوت حمراء فى كل دار سبعون بيتا من زمرد خضراء فى كل بيت سرير على كل سرير سبعون لو نأمن الطعام فى كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ويعطى المؤمن فى كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك كله اجمع ذلِكَ المغفرة وإدخال الجنة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يستحقر بالنسبة إليه كل فوز.
وَأُخْرى مرفوع على الابتداء والخبر محذوف أى ذلكم نعمة عاجلة أو منصوب بإضمار يعطيكم أو تحبون أو مجرور عطف على تجارة يعنى هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ وتجارة اخرى تُحِبُّونَها صفة لاخرى وفيه تعريض ان الناس يوثرون العاجل على الاجل نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ عاجل يعنى النصرة على قريش وفتح مكة أو فتح خيبر وقال عطاء يريد فتح فارس والروم قلت والظاهر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 274(1/6511)
ان المراد جنس النصرة والفتح فانهما يترتبان على السعى والمجاهدة من العبد قال اللّه تعالى ولينصرن اللّه من ينصره فان كان اخرى مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف فقوله نصر وفتح بدل أو بيان وجاز ان يكون اخرى مبتداء وهذا خبره وعلى قول النصب والخبر هذا خبر مبتداء محذوف أى هى نصر وفتح والجملة صفة لاخرى أو استيناف وَبَشِّرِ أيها الرسول الْمُؤْمِنِينَ بما وعدهم عليها عاجلا واحدا عطف على محذوف تقديره قل يا محمد يايّها الذين أمنوا هل أدلكم وبشرهم أو على تؤمنون فانه فى معنى الأمر كأنَّه قال أمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون وبشرهم أيها الرسول.(1/6512)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أى أنصار دينه قرأ الكوفيون وابن عامر بالاضافة والحجازيون وأبو عمرو بالتنوين ولام فى للّه على ان المعنى كونوا بعض أنصار اللّه كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ تشبيه باعتبار المعنى والمراد قل يا محمد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى أو كونوا أنصار اللّه كما كان الحواريون حين قال عيسى ابن مريم لِلْحَوارِيِّينَ قد مر تحقيق الحواريين فى سورة ال عمران مَنْ أَنْصارِي فتح الياء نافع وأسكنها الباقون أى جندى متوجها إِلَى اللَّهِ أى إلى نصر دينه قالَ الْحَوارِيُّونَ وهم أول من أمن به وكانوا اثنا عشر رجلا كما مر هناك نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ اضافة الأنصار إلى عيسى اضافة أحد المتشاركين إلى الاخرى لما بينهما من الاختصاص والاضافة إلى اللّه أى إلى دينه اضافة الفاعل إلى المفعول فَآمَنَتْ بعيسى طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ اسبقهم إلى الايمان الحواريون وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ معهم فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بالحجة أو بالحرب عَلى عَدُوِّهِمْ بعد رفع عيسى عليه السلام فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ غالبين قال البغوي قال ابن عباس لما رفع عيسى تفرق قومه ثلث فرق فرقة قالوا كان اللّه فارتفع وفرقة قالوا كان ابن اللّه فرفعه اللّه وفرقة قالوا كان عبد اللّه ورسوله فرفعه إليه واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث اللّه محمدا صلعم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة وذلك قوله تعالى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا قال وروى المغيرة عن ابراهيم قال أصبحت حجة من أمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلعم ان عيسى كلمة اللّه وروحه قلت لكن عطف قوله تعالى فَآمَنَتْ وقوله تعالى فَأَيَّدْنَا وفَأَصْبَحُوا على قوله قال الحواريون بكلمة الفاء التي للتعقيب بلا تراخ يدل على ان(1/6513)
بعضهم كفر من بعض وتأيده اللّه تعالى للمؤمنين وظهورهم على الكافرين بعد قول الحواريين ذلك بلا مهلة واللّه تعالى أعلم .
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 275
سورة الجمعة
مدنية وهى احدى عشرة اية وفيها ركوعان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ المنزه عما لا يليق الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فى ملكه وصنعه فان كل شىء يدل على وجوده وينزهه عما لا يليق بشانه وأيضا كل شىء وان كان جمادا فله نوع من الحيوة والشعور فيقر بوحدانيته ويسبحه ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعنى العرب كان أكثرهم لا يكتبون ولا يقرون رَسُولًا مِنْهُمْ أى من جملتهم اميا مثلهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ تعالى مع كونه أميا لم يعهد منه قراءة ولا تعلما وَيُزَكِّيهِمْ يظهرهم من الشرك والخبائث وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ المعجز البليغ الذي لو اجتمع الانس والجن على ان يأتون بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وَالْحِكْمَةَ الشريعة الحكمة المطابقة بشرائع الأنبياء فى الأصول المشهود عليها بالكتب السماوية بالقبول وَإِنْ كانُوا يعنى وانهم يعنى العرب كانوا مِنْ قَبْلُ بعثته صلعم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر بطلانه حيث يعهدون الحجارة ويأكلون الجيفة ويقولون ويعتقدون مالا يقبل العقل والنقل.(1/6514)
وَ آخَرِينَ عطف على الضمير المنصوب فى يعلمهم أى ويعلم اما؟؟؟ آخرين مِنْهُمْ أى كائنين من جنس الأولين حيث يدينون بدينهم ويسلكون على طريقهم قال عكرمة ومقاتل هم التابعون وقال ابن زيدهم جميع من دخل فى الإسلام إلى يوم القيمة وهى رواية ابن نجيح عن مجاهد وقال عمرو بن سعيد بن جبير وليث عن مجاهدهم العجم لحديث أبى هريرة قال كنا جلوسا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال رجل من هؤلاء يا رسول اللّه فلم يراجعه رسول اللّه صلعم حتى سال مرتين أو ثلاثا قال فينا سلمان الفارسي قال فوضع النبي صلعم يده على سلمان ثم قال لو كان الايمان عند الثريا لنا له رجال من هؤلاء متفق عليه وفى رواية عنه قال قال رسول اللّه صلعم لو كان الدين عند الثريا لذهب إليه رجل أو قال رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه قلت هذا الحديث يدل على فضل رجال من العجم وانهم ممن أريد بهذه الآية ولا دليل على نفى خيرهم على ما يدل عليه عموم الآية ولعل المراد لقوله صلعم رجال من هؤلاء أبناء فارس أكابر النقشبندية فانهم من ال بخارا وسمرقند ونحو ذلك وهم منتسبون فى الطريقة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 276(1/6515)
الى سلمان الفارسي فانهم ينتسبون إلى جعفر الصادق عن القاسم بن محمد عن سلمان عن أبى بكر الصديق عن رسول اللّه صلعم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أى لم يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم وقيل لما يلحقوا بهم فى الفضل والثواب لان التابعين ومن بعدهم لا يدركون فضل الصحابة حيث قال رسول اللّه صلعم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث أبى سعيد ويرد على هذا التأويل ان المراد لو كان كذلك لورد بصيغة المضارع أى لا يلحقوا بهم فى المستقبل من الزمان دون الماضي فان لما يقتضى نفى اللحوق فى لماضى والتوقع فى المستقبل الا ان يقال الإيراد بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق وجودهم ونفى للحوق المستفاد من كلمة لا نظرا إلى الأكثر وتوقع اللحوق نظرا إلى بعض من يأتي بعدهم ولو بعد الف سنة فكانه اشارة إلى المجدد الف ثانى وكمل خلفائه فانهم بلغوا بكمال متابعة النبي صلعم ووراثته تبعا وطفيلا أقصى كمالاته واكتسبوا كمالات النبوة والرسالة واولى العزم والخلة والمحبة والمحبوبية التي لم يتحقق بعد الصدر الأول فاشتبهوا بالصحابة فصار مثل لامة المرهومة كمثل المطر لا يدرى اوله خيرا وآخره كما قال رسول اللّه صلعم مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى اوله خير أو آخره أو كحديقة اطعم فوج منها عاما ونوج منها عاما لعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا رواه رزين وَهُوَ الْعَزِيزُ فى تمكينه رجلا اميا من ذلك الأمر العظيم الخارق للعادة وتائيده عليه الْحَكِيمُ فى اختياره وإياه من بين كافة البشر وتعليمه.
ذلِكَ أى بعثة محمد صلعم وتعليمه وتزكية الضالين فَضْلُ اللَّهِ على محمد صلعم حيث اصطفاه وجعله هاديا وعلى من اتبعه حيث هداهم وزكّهم به عليه السلام يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ عطائه ويقتضيه حكمته وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر دونه كل نعمة.(1/6516)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ علموها وكلفوا بالعمل بها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أى لم يعملوا بما فيها ولم ينتفعوا بها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً كتبا من العلم يتعب فى حملها ولا ينتفع بها وجملة يحمل حال من الحمار والعامل فيه معنى المثل أو صفة له إذ ليس المراد الحمار المعين نظيره ولقد امر على اللئيم يسبنى وهكذا كل عالم لا يعمل بعلمه قال رسول اللّه صلعم اللّهم انى أعوذ بك من علم لا ينفع رواه بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وهم اليهود كذبوا بالقران وبايات التوراة الدالة على نبوة محمد صلعم والمخصوص بالذم محذوف أى بئس مثل القوم المكذبين مثلهم أو هو
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 277
الموصول بحذف المضاف أى بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أى وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدى من سبق فى علمه انه يكون ظالما.
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أى تهودوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ فانهم كانوا يقولون نحن اولياء اللّه وأحباءه مِنْ دُونِ النَّاسِ يعنى محمدا صلعم وأصحابه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أى ادعوه من دون اللّه تعالى على أنفسكم حتى تنقلوا من دار البلية إلى دار الكرامة فان الموت جسر توصل الحبيب إلى الحبيب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى زعمكم فتمنوه وقد ذكرنا مسئلة جواز تمنى الموت وعدمه فى صورة البقر فى مثل هذه الآية .
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فانهم يعلمون علما يقينا انهم استحقوا النار الكبرى بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي وتحريف آيات التورية الناطقة ببعث محمد صلعم فكيف يتمنون الموت الموصلة إلى النار فانهم احرص الناس على حيوة يود أحدهم لو يعمر الف سنة وأشد خوفا وفرارا من الموت وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيجازيهم على ما قدموا.(1/6517)
قُلْ يا محمد إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ أيها اليهود أى تخافون أشد المخافة من ان يصيبكم فتوخذوا بأعمالكم ولا تجزون على تمنيه فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا حق بكم لا محالة لا ينفعكم الفرار منه الجملة خبر ان ذكر اللّه سبحانه ان الموكدة فى الجملة مكررا لكمال التأكيد نظرا إلى كمال إصرارهم على الكفر والمعاصي الذي كأنَّه هو الدليل على شدة انكارهم الموت والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف كأنَّه فرارهم يسرع لحوقه بهم فكانه سبب اللحوق وذلك ان الفرار من الموت موجب للغفلة عنه وفى الغفلة لا يظهر طول البقاء فى الدنيا ويظهر كأنَّه الموت جاء سريعا ومن كان ذكر الموت مشتاقا له يشق عليه البقاء فى الدنيا وينتظر الموت غالبا فيظهر عليه طول الحيوة وبعد الموت لشدة اشتياقه وجاز ان يكون الخبر محذوفا والفاء للتعليل والتقدير ان الموت الذي تفرون منه لا ينفعكم الفرار منه فانه أى لأنه ملقيكم البتة وحينئذ لا يلزم تكرار ان على حكم واحد وجاز ان يكون الموصول خبرا لان الفاء عاطفة يعطف على الخبر أو على الجملة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُود ِيَ لِلصَّلاةِ
اى إذا اذن مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان لاذا وقيل من هاهنا بمعنى فى كما فى قوله تعالى أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أى فى الأرض اختلف العلماء فى تسمية هذا اليوم بالجمعة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 278(1/6518)
مع الاتفاق على انه كان يسمى فى الجاهلية بالعروبة معناه اليوم البين المعظم من أعرب إذا بين قيل أول من سماه جمعة كعب بن لوى وهو أول من قال اما بعد كانت تجمع إليه قريش فى هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلعم ويعلمهم بانه من مولده ويأمرهم باتباعه والايمان به وينشد فى ذلك أبياتا منها قوله يا ليتنى شاهدا نجواء دعوته إذا قريش تبتغى الحق خذلانا وكان بنو اسمعيل يورخون ببناء الكعبة فلما مات كعب بن لوى ارخ الناس من موته حتى كان عام الفيل وهو مولد النبي صلعم فارخ الناس منه إلى ان هاجر النبي صلعم وكان بين موت كعب ومبعث النبي صلعم خمسمائة وستون سنة كذا فى شرح خلاصة السير وقيل سمى بالجمعة لان الخلائق يجمع فيه كذا ذكر أبو حذيفة البخاري فى المبتدا عن ابن عباس واسناده ضعيف وقيل لأنه جمع فيه خلق آدم عليه السلام روى احمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان عن سلمان رض ان رسول اللّه صلعم قال أ تدري ما يوم الجمعة قلت اللّه ورسوله اعلم قالها ثلث مرأة قال فى الثالثة هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم الحديث وله شاهد عن أبى هريرة رواه ابن أبى حاتم موقوفا بإسناد قوى واحمد موقوفا بإسناد ضعيف قال الحافظ ابن حجر وهذا أصح ويليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن سيرين بإسناد صحيح إليه فى قصة اجتماع الأنصار مع اسعد بن زرارة رض وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة صلى بهم وذكرهم فسموه يوم الجمعة وذلك قبل قدوم النبي صلعم فقيل كان ذلك بإذن النبي صلعم كما رواه الدار قطنى عن ابن عباس رض قال اذن رسول اللّه صلعم ان يجمع فكتب إلى مصعب بن عمير رض اما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسنتهم فاجمعوا فيه نساءكم وابناءكم فإذا مال النهار عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى اللّه بركعتين قال أول من جمع مصعب حتى قدم رسول اللّه صلعم وفى سنده احمد بن محمد بن غالب الباهلي وهو متهم بالوضع قال الزهري(1/6519)
و المعروف فى هذا المتن الإرسال وقيل كان ذلك باجتهاد الصحابة روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل ان يقدمها رسول اللّه صلعم وقبل ان ينزل الجمعة فقالت الأنصار ان لليهود يوما يجمعون فيه كل سبعة ايام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر اللّه ونصلى ونشكر فجعلوا يوم العروبة واجتمعوا إلى اسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ وانزل اللّه عز وجل بعد ذلك إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة قال الحافظ هذا وان كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك رض عنه قال كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم النبي صلعم المدينة اسعد بن زرارة الحديث
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 279
او كان كعب إذا سمع نداء الجمعة ترحم لا سعد بن زرارة قال عبد الرحمن بن كعب قلت لكعب كم كنتم يومئذ قال أربعون فمرسل ابن سيرين يدل على ان أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ولا يمنع ذلك ان يكون النبي صلعم علم بالوحى وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها كما فى حديث ابن عباس والمرسل بعد ذلك ولذلك جمع بهم رسول اللّه صلعم أول ما قدم المدينة - (قصّة) مقدم النبي صلعم المدينة وأول جمعة صلى روى البخاري عن عائشة رض وابن سعد عن جماعة من الصحابة ان المسلمين بالمدينة لما سمعوا بمخرج رسول اللّه صلعم من مكة كانوا يخرجون إذا صلح الصبح إلى الحرة ينتظرونه حتى تعليهم الشمس على الظلال ويوذيهم والظهيرة وذلك فى ايام حارة حتى كان اليوم الذي قدم فيه رسول اللّه صلعم حين دخلوا البيوت فإذا رجل من اليهود على أطم من اطامهم لامر ينظر إليه فنظر رسول اللّه صلعم فنادى بأعلى صوته يا بنى قبيلة يعنى الأنصار هذا صاحبكم الذي تنتظرون فثاء المسلمون فتلقوا رسول اللّه صلعم ذلك يوم الاثنين لهلال ربيع الأول أى أول ليلة وفى رواية جرير(1/6520)
بن حازم عن أبى إسحاق لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول وفى رواية ابراهيم بن سعد عن ابن اسحق لاثنى عشر ليلة خلت وعند أبى سعيد لثلث عشرة من ربيع الأول قال الحافظ الأكثر انه قدم نهارا وقع فى رواية لمسلم ليلا ويجمع بان القدوم كان اخر الليل فدخل بها نهارا فنزل رسول اللّه صلعم بهم قبا فى بنى عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم وأبو بكر حبيب بن اساف أحد بنى الحارث فصاح كلثوم بغلام له يا نجيع فقال رسول اللّه صلعم نجحت يا أبا بكر وكان لكلثوم بن هدم بقبا مربد يعنى الموضع الذي يبسط فيه التمر ليجف فاخذه رسول اللّه صلعم وبناه مسجدا فى الصحيح اقام رسول اللّه صلعم فى بنى عمرو بن عوف وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وفى رواية عبد الرزاق بنى المسجد بنو عمرو بن عوف وفى الصحيح انه صلعم اقام فيهم بضع عشر ليلة وفيه عن انس اقام فيهم اربع عشرة ليلة وقال ابن اسحق خمس ليال وقال ابن حبان اقام بها الثلثاء والارباع والخميس وخرج يوم الجمعة وقال ابن عباس وابن عقبة ثلث ليال فكانهما لم يعتد اليوم الخروج ولا الدخول وعن قوم من بنى عمرو بن عوف انه اقام اثنين وعشرين يوما روى احمد والشيخان عن أبى بكر وسعد بن منصور عن ابن الزبير وابن إسحاق عن عويمر بن ساعد وغيرهم ان رسول اللّه صلعم أرسل إلى بنى النجار وكانوا إخوانهم لان أم عبد المطلب كانت منهم فجاؤا متقلدين بالسيوف فقالوا لرسول اللّه صلعم وأصحابه اركبوا امنين مطاعين وكان اليوم يوم الجمعة فركب رسول اللّه صلعم ناقته القصوى والناس معه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 280(1/6521)
عن يمينه وشماله وخلفه منهم الراكب والماشي فاجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا يا رسول اللّه أخرجت حلالا أم تريد دارا خيرا من دارنا قال انى أمرت بقرية تأكل القرى فخلوها أى ناقة فانها مامورة فخرج رسول اللّه صلعم من قبا يريد المدينة فتلقاه الناس يقولون اللّه اكبر جاء رسول اللّه صلعم روى البيهقي عن عائشة جعل النساء والولائد والصبيان يقلن مطلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعى اللّه داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع - وروى احمد عن انس انه لما قدم رسول اللّه صلعم المدينة بعث الحبشة بحرا بها فرحا برسول اللّه صلعم روى البخاري عن البراء قال ما رايت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول اللّه صلعم فلم يمر رسول اللّه صلعم بدار من دور الأنصار الا قالوا هلم يا رسول اللّه اتى للفرد المنعة والثروة فيقول لهم خيرا ويدعوا ويقول انها مامورة خلوا سبيلها فمر ببني سالم فقام إليه عتبان بن مالك ونوفل بن عبد اللّه بن مالك وهو أخذ بزمام ناقة رسول اللّه صلعم فقال يا رسول اللّه انزل فينا العدد والعدة والحلقة ونحن اصحاب العصباء والحدائق والدرك يا رسول اللّه قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا يلجأ إلينا فجعل رسول اللّه صلعم يتبسم ويقول خلوا سبيلها فانها مامورة فقام إليه عبد اللّه بن الصامت وعباس بن فضلة فجعلا يقولان يا رسول اللّه صلعم انزل فينا فيقول بارك اللّه عليكم انها مامورة فلما اتى مسجد بنى سالم وهو المسجد الذي فى الوادي وادي وانونا قال البغوي أدركته الجمعة فى بنى سالم بن عمرو بن عوف فى بطن واد لهم قد اتخذ اليوم فى ذلك مسجدا فصلاها فى ذلك الوادي قيل كانت أول جمعة صلاها فى المدينة وأول خطبة خطبها فى الإسلام وقيل انه كان يصلى فى مسجد قباء عند ابن سعد انه صلعم لما صلى صلى معه الجمعة ماية نفس ثم أخذ رسول اللّه صلعم عن يمين الطريق فمر ببني ساعدة فقال سعد بن(1/6522)
عبادة والمنذر بن عمر وأبو دجانة هلم يا رسول اللّه إلى العز والثروة والقوة والجلد وسعد يقول يا رسول اللّه ليس من قومى اكثر غدقا ولاقم بير منى مع الثروة والجلد والعد وفيقول رسول اللّه صلعم يا أبا ثابت خل سبيلها فانها مامورة فمضى واعترضه سعد بن الربيع وعبد اللّه بن رواحة وشبر بن سعد فقالا اين يا رسول اللّه لا تجاوزنا واعترضه زياد بن لبيد وفروة بن عمر يقولان نحو ذلك فقال خلوا سبيلها فانها مامورة ثم مر
ببني عدى النجاري وهم أخواله فقال أبو سليط وصرفة بن أبى أنيس يا رسول اللّه نحن أخوالك هلم إلى العدد والمنعة مع القرابة لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول اللّه ليس أحد من قومنا اولى بك لقرابتنا بك فقال خلوا سبيلها فانها مامورة فصارت حتى وازيت دار بنى عدى
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 281(1/6523)
ابن النجار قامت إليه وجوههم ثم مضى حتى انتهى إلى باب المسجد فبركت على باب مسجد النبي صلعم فجعل جبار ابن صخر ينجسفها رجاء ان تقوم فلم يفعل فنزل رسول اللّه صلعم فقال عليه الصلاة والسلام أى بيوت أهلنا اقرب فقال أبو أيوب هذا المنزل إنشاء اللّه تعالى فنزل رسول اللّه صلعم وقال اللّهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين قال اربع مرات روى الطبراني عن ابن الزبير ينزل رسول اللّه صلعم فى منزل أبى أيوب ونزل معه زيد بن حارثة قال ابن اسحق فى المبتدا وابن هشام فى التيجان ان بيت أبى أيوب الذي نزل فيه رسول اللّه صلعم مقدمة المدينة بناه تبع الأول وكان معه اربعمائة أحبار فتعاقدوا على ان لا تخرجوا منها فسالهم تبع عن سر ذلك فقالوا انا نجد فى كتابنا ان نبيا اسمه محمد صلعم هذه دار هجرته فنحن نقيم لعلنا نلقاه فاراد تبع الاقامة معهم ثم بدأ له فعمر لكل واحد من أولئك دارا أو اشترى له جارية وزوجها منه وأعطاه ما لا جزيلا وكتب كتابا فيه إسلامه وفيه شهد على احمد انه رسول اللّه صلعم بارى النسم فلو لا عمرى إلى عمره لكنت وزيرا أو ابن عمرو ختم بالذهب ودفعه إلى كبيرهم وساله ان يدفعه إلى النبي صلعم ان أدركه والا فمن أدركه من ولده وولد ولده وبنى للنبى صلعم دارا لينزلها إذا قدم المدينة فدار الدار إلى اعلائك إلى ان صارت لابى أيوب وهو من ولد ذلك العالم واهل المدينة الذين نصروه من أولاد أولئك العلماء ويقال ان الكتاب الذي فيه الشعر كان عند أبى يوسف حتى دفعه إلى رسول اللّه صلعم وهو غريب فيما نزل رسول اللّه صلعم الفاء فى بيته واللّه تعالى أعلم - (مسئلة) قيل المراد بهذا النداء فى الآية الاذان عند قعود الامام على المنبر للخطبة لحديث ابن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة اوله إذا جلس الامام على المنبر على عهد النبي صلعم وابى بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء وتسميته(1/6524)
ثالثا باعتداد الاقامة ثانيا فعلى هذا قيل السعى إلى الجمعة وترك البيع ونحوه انما يجب بالنداء الثاني والصحيح ان السعى وترك البيع ونحوه يجب بالأذان الأول لعموم قوله تعالى إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة وصدقه على الاذان الأول أيضا فَاسْعَوْا يعنى فامضوا وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا وكذلك هى فى قراءة ابن مسعود وقال الحسن اما واللّه ما هو بالسعي عن الاقدام ولقد نهوا ان يأتوا الصلاة الا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع وعن قتادة فى هذه الآية انه قال السعى ان تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها قال اللّه تعالى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ يعنى فلما مشى معه وقال اللّه تعالى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 282
و قال اللّه تعالى ان سعيكم أى عملكم لشتى وقد نهى رسول اللّه صلعم السعى بمعنى العدو عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ايتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاتموا رواه الستة فى كتبهم وروى احمد وما فاتكم فاقضوا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ يعنى الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الامام يعنى الخطبة وَذَرُوا الْبَيْعَ أراد ترك ما يشغل عن الصلاة والخطبة وانما خص البيع بالذكر لاشتغالهم غالبا بعد الزوال فى الأسواق بالبيع والشراء فلو عقد البيع فى الطريق وهو يمشى إلى الجمعة لا بأس به ذلِكُمْ أى السعى إلى الصلاة وترك ما يشغل عنه خَيْرٌ لَكُمْ من البيع والشراء وغير ذلك إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مصالح أنفسكم شرط مستغن عن الجزاء بما مضى (مسئله) يحرم البيع عند أذان الجمعة اجماعا حيث يوجب الإثم وهل يصح انعقادا قال مالك واحمد لا ينعقد وقال أبو حنيفة والشافعي ينعقد وهذه المسألة مبنية على مسئلة اصولية فان النهى عن الافعال التي لا وجود(1/6525)
لها الا باعتبار الشرع كالصلوة فى الأرض المغصوبة والبيع ونحو ذلك بالشرط الفاسد يوجب القبح بغيره فيقتضى صحة العقد حتى يتحقق الابتلاء عند أبى حنيفة رحمه اللّه تعالى لا سيما فى البيع وقت النداء فان القبح هاهنا انما هو لامر مجاور لا فى صلب العقد أصلا فلا يكون البيع فاسدا أيضا كما يكون فاسدا بالشروط الفاسدة وعند اكثر الائمة يوجب القبح لذاته كما ان النهى عن الافعال الحسية كالزنا والسرقة يوجب القبح لذاته اتفاقا لأنه الأصل فى المنهي عنه لكن الشافعي فى هذه المسألة وافق أبا حنيفة وقال صح البيع نظرا إلى ان النهى انما هو لامر مجاور وهو الاشتغال عن الصلاة واللّه تعالى أعلم (فصل) اعلم ان الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع يكفر جاحدها اما الكتاب فهذه الآية امر فيها بالسعي ورتب الأمر بالسعي للذكر على النداء للصلوة فالظاهر ان المراد بالذكر الصلاة ويجوز ان يراد به الخطبة والاولى ان يراد به الخطبة والصلاة جميعا لصدقه عليها معا واما السنة فحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد انهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم يعنى الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا له والناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد متفق عليه وعن أبى عمرو أبى هريرة قالا سمعنا رسول اللّه صلعم يقول على أعواد المنبر لينتهين أقوام على ودعهم الجمعات أو ليختمن اللّه على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين رواه مسلم وعن ابن مسعود ان النبي صلعم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 283(1/6526)
لقد هممت ان امر رجلا يصلى بالناس ثم احرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم رواه مسلم وعن طارق بن شهاب قال قال رسول اللّه صلعم الجمعة حق واجب على كل مسلم فى الجمعة الا على اربعة مملوك أو امرأة أو صبى أو مريض رواه أبو داود وقال طارق راى النبي صلعم ولم يسمع منه قلت فالحديث مرسل صحابى وهو حجة اتفاقا قال النووي الحديث صحيح على شرط الشيخين واخرج البيهقي من طريق البخاري عن تميم الداري قال الجمعة واجبة الأعلى صبى أو مملوك أو مسافر رواه الطبراني عن الحاكم وابن مردوية وزاد فيه المرأة والمريض وعن أبى جعد الضميري وكانت له صحبة عن النبي صلعم قال من ترك ثلث جمع تهاونا بها طبع اللّه على قلبه رواه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي وحسنه ابن خزيمة وابن حبان فى صحيحيهما وعن عبد اللّه بن عمر عن النبي صلعم قال من ترك الجمعة من غير عذر كتب منافقا فى كتاب لا يمجى ولا يبدل وفى بعض الروايات ثلثا رواه الشافعي ورواه أبو يعلى بلفظ من ترك ثلث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره ورجاله ثقات وعن جابر ان رسول اللّه صلعم قال من كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فعليه الجمعة الا مريض أو مسافر أو المرأة أو صبى أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى اللّه عنه واللّه غنى حميد رواه الدار قطنى فاجمع العلماء انه فرض على الأعيان وغلط من قال هى فرض كفاية (مسئله) لا يجب الجمعة على المسافر اجماعا وحكى عن الزهري والنخعي وجوبها على المسافر إذا سمع النداء ولا عبد ولا امرأة الا فى رواية عن احمد فى العبد خاصة وقال داود ويجب واختلفوا فى المكاتب والمأذون والعبد الذي حضر مع مولاه على باب المسجد لحفظ الدابة إذا لم تخل بالحفظ والحجة فى عدم وجوب الجمعة على العبد مطلقا ما مر فى الأحاديث من الاستثناء للمملوك (مسئله) لا تجب الجمعة على الأعمى إذا لم يجد قايدا إليها بالاتفاق فان وجده وجبت عليه عند(1/6527)
مالك والشافعي واحمد وابى يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا تجب احتج الجمهور بما مر من الأحاديث إذ ليس فيه استثناء الأعمى قلنا هو داخل فى المريض والمريض وكل من كان له عذر أو خوف لا تجب عليه الجمعة اجماعا وكذلك الشيخ الكبير ومن كان متعهد المريض قالوا الأعمى إذا وجد قايدا صار قادرا كالبصير قلنا انه غير قادر بنفسه وقدرته بغيره لا يعتبر كالزمن إذا وجد من يحمله (مسئله) يجوز ترك الجمعة بعذر المطر والوحل روى البخاري فى الصحيح عن محمد بن سيرين قال قال ابن عباس لموذنه يوم
المطر إذا قلت اشهد ان
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 284(1/6528)
محمد رسول اللّه فلا تقل حى على الصلاة فقل صلوا فى بيوتكم فكان الناس استنكروا فقال فعله من هو خير منى ان الجمعة عزيمة وانى كرهت ان أخرجكم فتمشوا فى الطين والدحض (مسئله) إذا حضر الجمعة عبدا ومسافر أو امرأة أو مريض صح عنه الجمعة وسقط عنه الظهر اجماعا (مسئله) تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين إذا لم يكن فيهم حرا ومقيم إذا كانوا فى مصر عند أبى حنيفة رحمه اللّه تعالى لا بالنساء والصبيان اجماعا وعند الثلاثة لا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين ولا يتم بهم العدد بل لا بد للجمعة أربعين أحرارا مقيمين أو خمسين أو ثلثة على اختلاف الأقوال واما المعذورون بالمرض أو الخوف أو المطر والأعمى أو الزمانة فيتم بهم العدد اتفاقا لنا ان الجمعة واجبة على الرجال كلهم دون النساء اجماعا ودون الصبيان لكونهم غير مكلفين لعموم قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر اللّه ولكن رخص فى تركها العبيد والمسافرين واصحاب العذر فمن اتى منهم بالجمعة فقد اتى بالعزيمة فيصح جمعته كالمسافر إذا صام رمضان يتادى من صومه فرضه (مسئله) كره ظهر المعذور والمسبحون فى المصر بجماعة عند أبى حنيفة وقال مالك والشافعي واحمد انه لا يكره بل يسن وكذا من فاته الجمعة بلا عذر واللّه اعلم (مسئله) الخطبة شرط لانعقاد الجمعة اجماعا لقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر اللّه إذ المراد به الخطبة ومن هاهنا قال أبو حنيفة لو اقتصر فى الخطبة على تسبيحة أو تحميدة لكفى لان ذكر اللّه يعم الطويل والقصير ولا إجمال فيه وهذا الاستدلال ضعيف لاحتمال كون المراد بذكر اللّه الصلاة فالاولى ان يقال سند الإجماع على اشتراط الخطبة مواظبة النبي صلعم كما نقل إلينا متواترا أو مواظبته يقتضى اشتراط ذكر طويل يسمى فى العرب خطبة وبه قال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي واحمد على انه لو كان المراد بذكر اللّه الخطبة فالاضافة للعهد والمعنى فاسعوا إلى ذكر اللّه الذي يفعله(1/6529)
النبي صلعم فعلى هذا أيضا يشترط ان يكون ذكرا طويلا وما روى ان عثمان صعد المنبر فى أول جمعة وولى الخلافة قال الحمد للّه فارتج عليه فقال أبو بكر وعمر كان يعد ان لهذا المقام مقالات وأنتم إلى امام فعال أحوج منكم إلى امام قوال وسياتيكم الخطب بعد واستغفر اللّه لى ولكم ونزل وصلى بهم ولم ينكر عليه أحد منهم فاهل الحديث لا يعرفونه واللّه اعلم (مسئلة) يجب عند الشافعي ومالك الخطبة قايما ويجب الجلسة بين الخطبتين عند الشافعي وقال أبو حنيفة واحمد لا يجب القيام فى الخطبة ولا الجلوس بينهما والدليل على الوجوب النقل المستفيض روى مسلم عن جابر بن سمرة انه راى رسول اللّه صلعم يخطب قايما على المنبر ثم يجلس ثم يخطب قايما فقال جابر فمن أنبأك انه كان يخطب قاعدا فقد كذب فقد واللّه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 285(1/6530)
صليت معه اكثر من الفى صلوة وروى الشافعي عن جابر بن عبد اللّه كان النبي صلعم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس وروى مسلم عن جابر بن سمرة كانت للنبى صلعم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس عن ابن عمر قال كان النبي صلعم يخطب يوم الجمعة مرتين بينهما جلسة متفق عليه وروى مسلم عن كعب بن عجرة انه دخل المسجد يوم الجمعة وابن أم الحكم يخطب قاعدا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا واللّه تعالى يقول وإذا رؤا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما احتج ابن همام بهذا الحديث ان القيام ليس بواجب حيث لم يحكم كعب ولا غيره بفساد صلوة ابن الحكم فعلم انه ليس بشرط عندهم واللّه تعالى أعلم (مسئله) سن ان يشتمل الخطبة على خمسة أشياء حمد اللّه تعالى والصلاة على رسوله صلعم والوصية بالتقوى وقراءة القرآن والدعاء للمؤمنين والمؤمنات وكلها واجبة عند الشافعي ويشترط الطهارة فى الخطبتين على الراجح من مذهب الشافعي وعند الجمهور لا يشترط (مسئله) يشترط فى الخطبة حضور واحد عند أبى حنيفة لتحقيق معنى التخاطب وعند الشافعي وغيره لا يجوز للامام ان يبدئ بالخطبة قبل اجتماع العدد وهو الأربعون عند الشافعي أو خمسون أو ثلثة عند غيره فان نفر واحد منهم قبل افتتاح الصلاة لا يجوز ان يصلى الجمعة بل يصلى الظهر وان عادوا بعد قبل(1/6531)
طول الفصل بنى على ذلك الخطبة وبعد طوله استأنف الخطبة (مسئله) يحرم الكلام فى حال الخطبة لمن حضر الخطبة عند أبى حنيفة ومالك سواء سمع الخطبة أو لا يسمع وقال احمد يحرم لمن يسمعها لا من لا يسمعها والمستحب الإنصات وقال الشافعي لا يحرم على من يسمع أيضا لكنه يكره وهل يحرم الكلام على الخاطب فقال أبو حنيفة يحرم الا ان يكون امر المعروف كقصة عمر مع عثمان كذا قال ابن همام وكذا قال الشافعي فى القديم وقال مالك رح جاز الكلام للمخاطب بما فيه مصلحة الصلاة نحو ان يزجر الداخلين عن تخطى الرقاب وان خاطب إنسانا بعينه جاز لذلك الإنسان ان يجيبه كما وقع فى قصة كلام عمر وهو يخطب مع عثمان وسنذكر الحديث فى مسئلة غسل الجمعة وقال احمد يجوز للمخاطب الكلام مطلقا وقد تعارضت الأحاديث فى الباب فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبي صلعم قال إذا قلت لصاحبك والامام يخطب يوم الجمعة انصت فقد لغوت وروى احمد عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلعم من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا فهذين الحديثين يدلان على الحرمة وكذا قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون واما ما يدل على الإباحة فما روى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن كعب ان الرهط الذي بعثهم رسول اللّه صلعم إلى ابن أبى الحقيق
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 286(1/6532)
بخيبر ليقتلوه فقدموا على رسول اللّه صلعم وهو قائم على المنبر يوم الجمعة فقال لهم حين رائهم افلحت الوجوه فقالوا أفلح وجهك يا رسول اللّه قال أ قتلتموه قالوا نعم فدعى بالسيف الذي قتل به وهو قائم على المنبر فسله فقال أجل هذا طعامه فى ذباب سيفه الحديث قال البيهقي مرسل جيد وروى عن عروة نحوه ثم روى من طريق ابن عبد اللّه بن انس عن أبيه قال بعثني رسول اللّه صلعم إلى ابن أبى الحقيق نحوه وروى مسلم من حديث أبى رفاعة العدوى قال انتهيت إلى النبي صلعم وهو يخطب فقلت يا رسول اللّه رجل غريب جاء يسأل عن دينه قال فاقبل على وترك خطبة وجعل يعلمنى ثم اثم الخطبة وروى اصحاب السنن الاربعة وابن الخزيمة والحاكم من حديث بريدة قال كان النبي صلعم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان احمر ان يمشيان ويعثران فنزل رسول اللّه صلعم من المنبر فحملهما فوضعها بين يديه ثم قال صدق اللّه ورسوله انما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم اصبر حتى قطعت حديثى ورفعتهما وروى أبو داود عن جابر قال لما استوى رسول اللّه صلعم يوم الجمعة على المنبر قال اجلسوا فسمع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد فراه رسول اللّه صلعم فقال تعال يا عبد اللّه ابن مسعود عن انس ان رجلا دخل والنبي صلعم يخطب يوم الجمعة فقال متى الساعة فاومى الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام فقال النبي صلعم ماذا اعددت لها قال حب اللّه ورسوله قال انك مع من أحببت رواه احمد والنسائي وابن خزيمة والبيهقي وعن انس بينما النبي صلعم يوم الجمعة فقام أعرابي فقال يا رسول اللّه هلك المال فذكر حديث الاستسقاء متفق عليه قال الشافعي رح تعارض الأحاديث يقتضى الكراهة فى المستمع وقال أبو حنيفة أحاديث الآحاد لا يصادم قوله تعالى فاستمعوا له وانصتوا لا سيما إذا تعارضت فقال بالتحريم وذلك أحوط وقال احمد رح الآية والأحاديث لا يدل(1/6533)
على تحريم الكلام للمخاطب واللّه تعالى أعلم (مسئله) لا بأس بالكلام قبل الخطبة وبعد الفراغ لحديث انس قال كان رسول اللّه صلعم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيكلم الرجل فى الحاجة فيكلم ثم يقدم إلى مصلاه رواه احمد وقال أبو حنيفة رح يكره مطلقا محتجا بالآثار أخرج ابن أبى شيبة عن على وابن عباس وابن عمر كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الامام (مسئله) إذا جاء رجل والامام يخطب يصلى ركعتين عند الجمهور وينجوز فيهما وقال أبو حنيفة رح لا يصلى لما ذكرنا اثر على وابن عباس وابن عمرو نحو ذلك عن عروة والزهري ولقوله صلعم إذا قلت لصاحبك انصت والامام يخطب فقد لغوت قالوا هذا الحديث بدلالة النص يمنع عن الصلاة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 287
و تحية المسجد لان المنع عن الأمر بالمعروف وهو أعلى من سنة الجمعة(1/6534)
و تحية المسجد منع عنهما بالطريق الأعلى واولى ويرد عليه ان الأمر بالمعروف ان كان ذلك المعروف امرا واجبا فهو اولى من السنة واما إذا كان المعروف مستحبا فليس اولى من السنة والسكوت حين استماع الخطبة غير واجب عند الشافعي فكيف يحتج عليه بدلالة النص وللجمهور حديث جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلعم إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والامام يخطب فليركع ركعتين ويتجوز فيهما متفق عليه وفى لفظ مسلم جاء سليك العطفانى يوم الجمعة والنبي صلعم يخطب فجلس فقال له يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما وفى الباب عن أبى سعيد لابن حبان وغيره واخرج الطبراني عن أبى ذر انه اتى رسول اللّه صلعم وهو يخطب فقعد فقال رسول اللّه صلعم هل ركعت فقال لا قال قم فاركع ركعتين وأجاب ابن همام بان الدار قطنى روى فى سننه عن انس قال رجل دخل المسجد ورسول اللّه صلعم يخطب فقال له النبي صلعم قم فاركع ركعتين وامسك عن الخطبة حتى فرغ عن صلوته ثم قال أسنده عبيد بن محمد العبدى قولهم فبه ثم أخرج عن احمد بن حنبل ثنا معتمر عن أبيه قال جاء رجل الحديث وفيه ثم انتظروه حتى صلى قال وهذا المرسل وهو الصواب قال ابن همام والمرسل حجة قلت لو صح المرسل فهو واقعة حال لا يعارض اطلاق قوله صلعم إذا جاء أحدكم والامام يخطب فليركع وأيضا لا يجوز الصلاة عند أبى حنيفة رح بعد خروج الامام مطلقا ولو بعد الفراغ عن الخطبة فعلى تقدير الصلاة حين سكت رسول اللّه صامم أيضا لا يطابق الحديث مذهب أبى حنيفة رح واللّه تعالى أعلم (مسئله) اتفقوا على انه لا يجوز الجمعة فى الصحراء الا عند أبى حنيفة رح فى فناء المصر قال حيث له حكم المصر وعلى ان الجماعة شرط فى الجمعة وذلك ماخوذ من لفظ الجمعة واختلفوا فى موضع يقام فيه الجمعة وفى عدد الجماعة الذين ينعقد بهم الجمعة فقال الشافعي واحمد واسحق كل قرية استوطنها أربعون رجلا أحرارا عاقلين بالغين لا يظعنون(1/6535)
عنها شيئا ولا ضيفا الا ظعن حاجة يجب عليهم اقامة الجمعة ولا تنعقد الجمعة باقل من أربعين رجلا على هذه الصفة وقال مالك القرية إذا كانت بيوتها متصلة وفيها مسجد وسوق يجب فيها الجمعة ويعتبر فى انعقاد الجمعة عدد الغبراء بهم قرية عادة وقال أبو حنيفة رح لا يصح الجمعة الا فى مصر جامع والمصر هو كل بلد فيها سكك وأسواق ولها رساتيق ووال ينصف المظلوم من الظالم أى بقيد على الانصاف وان كان جابر أو عالم يرجع إليه فى الحوادث وقيل ما لا يسع اكبر مساجده اهله مصر والحجة لاشتراط المصر رواه ابن أبى شيبة موقوفا عن على رض لا جمعة ولا تشريق ولا صلوة فطر ولا اضحى الا فى مصر جامع أو مدينة عظيمة صححه
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 288(1/6536)
ابن حزم وضعفه احمد ويمكن الاحتجاج لاشتراط المصر وعدم جوازه فى القرى ان أهل العوالي كانوا يصلون الجمعة مع النبي صلعم كما فى الصحيح واهل قبا كانوا يصلون معه كذا روى ابن ماجة وابن خزيمة واخرج الترمذي من طريق رجل من أهل قبا من لبيه قال أمرنا النبي صلعم ان نشهد الجمعة من قباء روى البيهقي ان أهل ذى الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة ولم ينقل عن الصحابة انهم حين فتحوا البلاد واستغلوا بنصب المنابر والجمع الا فى الأمصار دون القرى ولو كان لنقل وصلوته صلعم أول جمعة فى بنى عمرو بن سليم يدل على جواز الجمعة فى قرية قريبة من المصر كما يجوز ان يصلى الجمعة فى أى ناحية من نواحى المصر فكذا يجوز فى فناء المصر واللّه تعالى أعلم ومحصل الكلام ان قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر اللّه ليس على إطلاقه اجماعا حيث لا يجوز فى البراري ولا فى كل قرية بل فى بعضها فقدره شافعى رح وغيره وقرية مخصوصة كما ذكرنا وقدر أبو حنيفة بالمصر والمصر أخص فإذا صلى الجمعة فى المصر صح الجمعة وسقط الظهر عن الذمة اجماعا وإذا صلى فى قربة دون المصر يقع الشك فى صحة الجمعة ووجوبها وسقوط الظهر فلا يجب الجمعة بالشك ولا بسقط الظهر الثابت فى الذمة يقينا بالشك واللّه اعلم وما روى الطبراني(1/6537)
و ابن عدى عنه صلعم انه قال الجمعة واجبة على كل قرية فيها امام وان لم يكونوا الا اربعة وفى رواية الا ثلثة فليس مما يجوز به الاحتجاج لأنه من رواية الحكم بن عبد اللّه ومن رواية الوليد بن محمد كلاهما عن الزهري عن أم عبد اللّه الدوسية قال الدار قطنى لا يصح هذا عن الزهري وكل من رواه عنه متروك الوليد والحكم متروكان قال احمد أحاديث الحكم كلها موضوعة وفى سند الحكم مسلمة بن على قال يحيى ليس بشئ وقال النسائي متروك وكذا حديث جابر ابن عبد اللّه مضت السنة ان فى كل أربعين فما فوق ذلك جمعة واضحى وفطر فى سنده عبد العزيز بن عبد الرحمن قال احمد اضرب على أحاديثه فانها كذب أو قال موضوعة وكذا حديث أبى امامة الجمعة على خمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة رواه الطبراني وفى اسناده جعفر بن الزبير وهو متروك وهيياج من نظام وهو متروك أيضا ورواه البيهقي وفى سنده النحاش وهو واه أيضا واما حديث ابن عباس أول جمعة جمعت بعد جمعة فى مسجد رسول اللّه صلعم بجواثا قرية بالبحرين رواه البخاري فلا يدل على جواز الجمعة فى كل قرية فان اسم القرية يشتمل المصر وغيره قال اللّه تعالى لو لا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يعنى مكة وطائف ولا شك ان مكة مصر وفى الصحاح ان جواثا حصن بالبحرين فهى مصر إذ لا يخلو الحصن عن حاكم عليهم وعالم وفى المبسوط انها مدينة بالبحرين ولما لم يروا عددا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 289(1/6538)
معينا للجماعة شرطا للجمعة فى حديث صالح للاحتجاج قال الحسن وأبو ثور تنعقد الجمعة باثنين لان اثنين فما فوقه جماعة وقال أبو يوسف ومحمد والأوزاعي ينعقد بثلاثة إذا كان فيهم دال وقال أبو حنيفة رح اربعة لان قوله تعالى فاسعوا يقتضى ثلثة وقوله إلى ذكر اللّه يقتضى ذاكرا فذلك اربعة قلت وهذا الاستدلال غير صحيح فان صيغة الجمع انما هو لكون الخطاب عامة لا لاشتراط عدد الجماعة وإلا لزم اشتراط الجماعة فى جميع المأمورات بقوله تعالى واقيموا الصلاة وأتوا الزكوة ونحو ذلك ويمكن ان يقال لا بد فى الجمعة فوق جماعة سائر الصلوات لاشتراط الجماعة فيها ولدلالة لفظ الجمعة عليه ولذا قيل الجمعة جامعة للجماعات واولى الجماعات فى الصلاة اثنان فلا بد ان يكون فى الجمعة ثلثة كما قال أبو يوسف رح ولما كان عند أبى حنيفة الجماعة شرطا والامام اخر قال لا بد ان يكون ثلثة سوى الامام واللّه تعالى أعلم (مسئله) الوالي أو اذنه شرط بصحة الجمعة عند أبى حنيفة رح خلافا لمالك والشافعي واحمد وليس على اشتراط السلطان أو اذنه دليلا يعتمد عليه وقد روى مالك رح والشافعي رح عنه وابن حبان بسنده إلى أبى عبيدة مولى بنى نظير قال شهدت العيد مع على وعثمان محصور قال الحافظ ابن حجران مدة الحصار كانت أربعون يوما وكان يصلى بهم تارة طلحة وتارة عبد الرحمن ابن عديس وتارة غيرهما قال ابن همام هذا وقعة حال فيجوز كونه عن اذنه كما يجوز كونه بغير اذنه فلا حجة فيه لفريق فيبقى قوله صلعم من تركها وله امام جائرا وعادل الا فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له فى امره الا ولا صلوة له رواه ابن ماجة وغيره حيث شرط فى لزومها الامام كما يفيده قيد الجملة الواقعة حالا قلت هذا حديث رواه ابن ماجة عن جابر مرفوعا وفيه عبد اللّه العدوى وهو واه وأخرجه البزار من وجه اخر وفيه على بن زيد بن الجدعان قال الدار قطنى ان الطريقين كلاهما غير ثابت وقال(1/6539)
ابن عبد البر هذا الحديث واهي الاسناد (مسئله) وقت الظهر شرط لاداء الجمعة عند الجمهور لانها تنوب عن الظهر ويسقط فريضة الظهر بأداء الجمعة فلا يجب ما لم يج ب الظهر وما لم يجب لا يقع من الفرض وقال احمد يجوز الجمعة قبل الزوال لحديث سهل بن سعد قال ما كنا نتغدى ولا تقيل الا بعد الجمعة وحديث سلمة بن اكوع كنا نصلى مع رسول اللّه صلعم الجمعة ثم نرجع فلا نجد للحيطان فيئا نستظل الحديثان فى الصحيحين وحديث انس بن مالك قال كنا نصلى مع رسول اللّه صلعم الجمعة ثم نرجع للقايلة رواه البخاري
و الجواب ان نفى التغدي لا يستلزم كون الجمعة قبل الزوال والاستثناء مبنى على المجاز والمعنى لا نجد للحيطان فيئا نستظل عدم طول الظل بحيث يمشى فيه الراكب والماشي وذلك لا يكون فى أول الوقت ولنا من الأحاديث ما ذكرنا سابقا ان النبي صلعم
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 290(1/6540)
كتب إلى مصعب بن عمير اما بعد فانظر اليوم الذي يجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وابناءكم فإذا مال النهار عن نظره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى اللّه بركعتين حديث انس ان النبي صلعم كان يصلى الجمعة حين يميل الشمس رواه البخاري والترمذي وقال صحيح وحديث جابر بن عبد اللّه قال كنا نصلى الجمعة ثم تذهب إلى حجالنا حين تزول الشمس رواه مسلم وحديث سلمة بن الأكوع كنا نجمع مع رسول اللّه صلعم إذا زالت الشمس الحديث رواه مسلم وعن يوسف بن مالك قال قدم معاذ بن جبل على أهل مكة وهم يصلون الجمعة والفيء فى الحجر فقال لا تصلوا حتى تفئ الكعبة من وجهها رواه الشافعي (مسئله) لو شرع الجمعة فى الوقت وحدها حتى خرج الوقت أتمها ظهرا عند الشافعي رح وقال أبو حنيفة رح يبطل صلوته ويبتدى بالظهر لان الجمعة غير الظهر لا يجوز بناء أحدهما على الاخر وسقوط الظهر بالجمعة يثبت على خلاف القياس فيراعى فيه جميع ما ورد ومنها الوقت وقال مالك رح إذا لم يصل الجمعة حتى دخل وقت العصر صلى فيه الجمعة ما لم تغرب الشمس وان كان لا يفرغ الا بعد غروبها وهو قول احمد ومذهب مالك مبنى على وقت الضروري للظهر إلى غروب الشمس كالعصر - (مسئله) يشترط عند أبى حنيفة رح لاداء الجمعة الاذن العام حتى لو ان واليا اغلق باب بلد وجمع بحشمه ومنع الناس من الدخول لا يصح الجمعة عنده خلافا لجمهور العلماء احتج ابن همام فى هذه المسألة باشارة قوله تعالى نودى للصلوة فان النداء يقتضى الاذن وهذا الاستدلال ضعيف فانه تعالى جعل النداء سببا لوجوب السعى إلى الجمعة ولا يلزم منه كون النداء شرطا لادائها كما ان قوله تعالى إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا يدل على وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن لا على كون الاستماع والإنصات شرطا لجواز القراءة حتى لا يجوز قراءة الامام فى الصلاة والخطبة ان قرأ المقتدى واللّه تعالى أعلم قلت ويمكن(1/6541)
الاستدلال على اشتراط الإعلان والاذن العام بما مران النبي صلعم كتب إلى مصعب بن عمير ليصلى بالناس الجمعة فى المدينة ولم يصل بنفسه الكريمة بمكة مع إمكان صلوته الجمعة بأصحابه فى بيته فذلك دليل على ان الإعلان والاذن العام شرط لاداء الجمعة ولم يكن ذلك مقدورا بمكة واللّه تعالى أعلم (مسئله) من كان مقيما فى قرية لا يقام فيها الجمعة أو فى برية هل يجب عليهم حضور الجمعة بالمصر قال أبو حنيفة رح ومحمد رح لا يجب عليه الجمعة مطلقا وقال أبو يوسف رح والشافعي رح واحمد رح واسحق رح ان كان يبلغهم نداء مؤذن جهورى الصوت يوذن فى وقت تكون الأصوات هادنة والرياح يجب عليهم حضور الجمعة كذا قال مالك رح لكن حده بفرسخ وربيعة باربعة أميال وقال ابن همام قال بعض العلماء قدر ميل وقيل قدر ميلين ولم يجده
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 291
الشافعي رح وعن احمد فى التحديد نحو قولهما والحجة بهذا القول عموم قوله تعالى إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا وقوله عليه السلام انما الجمعة على من سمع النداء رواه أبو داود وغيره من عبد اللّه بن عمرو فى رواية بلفظ الجمعة على من سمع النداء وقال سعيد بن المسيب يجب الجمعة على من اواه الليل وقال الزهري يجب على من كان على ستة أميال وهى رواية عن مالك وفى رواية عن أبى يوسف يجب على ثلثة فراسخ قال فى البدائع هذا حسن ولعل هذين القولين تحديد لمن اواه الليل فانه من كان على ستة أميال أو تسعة كان ذهابه ومجيئه اثنا عشرا وثمانية عشر ميلا وذلك مرحلة فان اثنى عشر ميلا ادنى المراحل غالبا وثمانية عشر أكثرهما والحجة لهذا القول حديث أبى هريرة عن النبي صلعم الجمعة على من اواه الليل إلى اهله رواه الترمذي والحديث غير قابل للاحتجاج قال احمد لما سمع هذا الحديث استغفر ربك وفى سنده حجاج بن نصير قال أبو حاتم الرازي تركوا حديثه يروى عن(1/6542)
معارك بن عباد وقال أبو حاتم أحاديثه منكرة وقال أبو درعة واهي الحديث يروى عن عبد اللّه بن سعيد المقبري قال يحيى بن سعيد الشيباني كذبه فى مجلس وقال يحيى بن معين ليس بشئ لا يكتب حديثه والاحتجاج على وجوب الجمعة على من سمع النداء وعلى من اواه الليل بصلوة أهل العوالي مع النبي صلعم وصلوة أهل قبا معه كما ذكرنا وبما روى البيهقي ان أهل ذى الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة لا يجوز لأنه لا يدل على وجوب الجمعة عليهم والظاهر انهم كانوا يجمعون مع النبي صلعم إحراز الفضيلة من غير وجوب واماما رواه الترمذي من طريق رجل من أهل قبا عن أبيه وكان من الصحابة قال أمرنا النبي صلعم ان نشهد الجمعة من قبا ففيه رجل مجهول (مسئله) إذا وقع العيد يوم الجمعة قال احمد اخر حضور صلوة العيد عنا الجمعة ويصلون الظهر وقال عطاء يسقط الجمعة والظهر معا فى ذلك اليوم فلا صلوة بعد العيد الا العصر والأصح عند الشافعي رح ان من حضر العيد من أهل القرى جاز لهم ان ينصرفوا بعد العيد ويتركوا الجمعة واما أهل البد وفلا يسقط عنهم الجمعة وقال أبو حنيفة رح ومالك لا يسقط الجمعة بصلوة العيد عمن وجب عليه الجمعة أصلا واحتج احمد بحديث زيد بن أرقم قال رسول اللّه صلعم العيد أول النهار ثم رخص فى الجمعة ثم قال من شاء ان يجمع الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع لا يجوز ان يسقط بحديث احاد وكيف ينوب النافلة عن الفريضة وفى الباب عن ابن عمر اجتمع عيد ان على عهد رسول اللّه صلعم فصلى بالناس ثم قال من شاء ان يأتي الجمعة فلياتها ومن شاء ان يتخلف فليتخلف وفيه مبدل بن على ضعيف وقبازة بن المفلس قال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 292(1/6543)
يحيى بن معين كذاب وحديث أبى هريرة نحوه وفيه بقية مدلس روى الحديثين ابن الجوزي (مسئله) من كان من أهل الجمعة وأراد السفر بعد الزوال لم يجز له الخروج الا إذا تمكن الجمعة فى طريقه أو يتضرر تخلفه عن الرفقة وقبل الزوال جاز له السفر عند أبى حنيفة رح ومالك رح وقال الشافعي رح لا يجوز مطلقا وقال احمد رح لا يجوز الا ان يكون سفر جهاد واحتج من قال بعدم الجواز بحديث ابن عمر مرفوعا من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملئكة ان لا يصحب فى سفره وفيه ابن بهيعة ضعيف واحتج من جواز السفر لمن أراد الغزو بحديث ابن عباس انه صلعم بعث عبد اللّه بن رواحة فى سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فغدا أصحابه وتخلف هو ليصلى ويلحقهم فلما صلى قال له رسول اللّه صلعم ما خلفك قال أردت ان أصلي معك وألحقهم فقال لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم رواه احمد والترمذي وأعله الترمذي بالانقطاع وقال البيهقي انفرد به الحجاج ابن ارطاة وهو ضعيف واحتج من قال بالجواز بما روى أبو داود فى المراسيل عن الزهري انه أراد ان يسافر يوم الجمعة ضحوة فقيل له فى ذلك فقال ان النبي صلعم سافر يوم الجمعة وروى الشافعي من عمر انه راى رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول لو لا ان اليوم يوم الجمعة لخرجت فقال له عمر أخرج فان الجمعة لا يحبس عن سفر وروى سعيد بن منصور ان أبا عبيد بن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة قال أبو حنيفة رح الجمعة يجب بعد الزوال فلا يجوز الخروج بعد الوجوب ويجوز قبله يدل على ذلك حديث الزهري وابن عمرو اللّه تعالى أعلم (مسئله) لا يجوز فى بلدة وان عظم اكثر من جمعة واحده عند أبى حنيفة رح وبه قال الطحاوي رح وهو مذهب مالك رح والقول القديم للشافعى رح وكذا روى اصحاب الافلاء عن أبى يوسف رح انه لا يجوز فى مصر الا ان يكون فيه نهر كبير حتى يكون كمصرين ولذا كان يأمر بقطع الجسر تبعدا فان لم يكن فالجمعة لمن سبق(1/6544)
فان صلوا معا فسدتا وعنه انه يجوز فى موضعين إذا كان المصر عظيما لا فى ثلثة وقال احمد إذا عظم البلد وكثر اهله كبغداد جاز فيه جمعتان وان لم يكن بهم حاجة إلى اكثر من جمعة لم يجز وقيل ان البغداد كان فى الأصل قرى متفرقة فى كل قرية جمعة ثم اتصلت
العمارة بينها فبقيت الجمعة على حالها والراجح المتأخر من اقوال الشافعي رح ان البلد إذ اكبر وعسر اجتماع اهله فى موضع واحد جاز اقامة جمعة اخرى بل يجوز التعدد بحسب الحاجة وعن محمد بن الحسن انه يجوز تعددها مطلقا ورواه عن أبى حنيفة رح قال السرخسي رح الصحيح من مذهب أبى حنيفة رح جواز إقامتها فى مصر واحد فى مسجدين واكثر قال ابن همام وبه ناخذ لاطلاق لا جمعة الا فى مصر شرط المصر
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 293(1/6545)
فاذا تحقق تحقق فى كل ناحية منها وجه رواية المنع انها سميت جمعة لاستدعائها استجماع الجماعات فهى جامعة لها قال الأثرم لاحمد اجمع جمعتين فى مصر قال لا اعلم أحدا فعله قال ابن المنذر لم يختلف الناس ان الجمعة لم يكن تصلى فى عهد النبي صلعم وفى عهد الخلفاء الراشدين الا فى مسجد النبي صلعم وفى تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم فى مسجد واحد من البيان بان الجمعة خلاف ساير الصلوات وانه لا يصلى الا فى مكان واحد ولا اعلم أحدا قال بتعدد الجمعة غير عطاء وذكر الخطيب فى تاريخ بغداد ان أول جمعة أحدثت فى الإسلام فى بلد مع قيام الجمعة القديمة فى ايام المعتم فى دار الخلافة من غير بناء مسجد لاقامة الجمعة وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم فى المسجد العام وذلك فى سنة ثمانين ومائتين ثم بنى فى ايام المكتفي مسجد فجمعوا فيه وذكر ابن عساكر فى تاريخ دمشق ان عمر كتب إلى أبى موسى والى عمرو بن العاص والى سعد بن أبى وقاص ان يتخذوا مسجدا جامعا ومساجد للقبائل فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع فشهد الجمعة (فائدة) قال ابن همام إذا اشتبه على الناس وجود شرائط الجمعة ينبغى ان يصلى أربعا بعد الجمعة ينوى بها اخر فرض ظهر أدركت وقته ولم أود بعد فان لم يصح الجمعة وقعت ظهره فرضا وان صحت كانت نفلا (باب) ما ورد من الاخبار فى سنن الجمعة وفى ساعة الجمعة (مسئله) غسل يوم الجمعة سنة وحكى عن مالك وداود انه واجب لحديث أبى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلعم قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم متفق عليه وحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلعم إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل متفق عليه والحديث مشهور بل متواتر عد أبو القاسم بن مندة من رواه عن نافع عن ابن عمر فبلغوا فوق ثلاثمائة وعد من رواه عن ابن عمر فبلغوا اربعة عشر صحابيا وأجيب بان الأمر للاستحباب ومعنى الوجوب اللزوم على وجه السنة بقرينة اقترانه(1/6546)
بما لا يجب فيما رواه احمد من حديث أبى سعيد مرفوعا ان الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك وان يمس من الطيب ما يقدر عليه وفى الصحيحين عن عائشة كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون كهيئتهم فقيل لهم لو اغتسلوا والدليل على عدم وجوب الغسل حديث الحسن عن سمرة قال قال رسول اللّه صلعم من توضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فذلك أفضل رواه احمد واصحاب السنن وابن خزيمة وقال الترمذي حديث حسن ورواه بعضهم عن قتادة عن الحسن عن النبي صلعم مرسلا وحديث أبى هريرة مرفوعا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 294
من توضأ فاحسن الوضوء ثم اتى الجمعة فاستمع وانصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلثة ايام رواه مسلم ولا شك ان الأحاديث الدالة على عدم الوجوب ليست فى القوة مثل أحاديث الوجوب لكن عمل الصحابة واجماع الامة على عدم الوجوب يثبت ان أحاديث الوجوب اما منسوخة أو ماولة روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمران عمر بينما هو قائم فى الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين فناداه عمر اية ساعة هذه قال انى شغلت فلم انقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على ان توضأت فقال والوضوء أيضا وقد علمت ان رسول اللّه صلعم كان يأمر بالغسل قال ابن الجوزي والرجل عثمان ولم ينكر عمر على عثمان فى ترك الغسل ولم ينكر أحد فظهر ان الغسل سنة ليس بواجب وأحاديث التي يحتج بها للوجوب ماولة وليست بمنسوخة ولو كانت منسوخة لم يقل عمران رسول اللّه صلعم كان يأمر بالغسل فان المنسوخ لا يحتج به فظهر ان الأمر للاستحباب والسنية واللّه تعالى أعلم (مسئله) سن يوم الجمعة اربع ركعات قبل الجمعة واربع بعدها عند أبى حنيفة رح وقال(1/6547)
ابو يوسف رح بعدها ست ركعات ومحمد قيل مع أبى يوسف ولا دليل على اربع قبل الجمعة الا عموم انه كان صلعم يصلى إذا زالت الشمس أربعا ويقول هذه الساعة يفتح فيها أبواب السموات فاحب ان يصعد لى فيها عمل صالح رواه ابن ماجة عن أبى يوسف بإسناد حسن والقياس على الظهر وقد صح انه صلعم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة واما الصلاة بعد الجمعة فقد صح عن ابن عمران النبي صلعم كان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى ركعتين فى بيته رواه مالك والشيخان فى الصحيحين وأبو داود والنسائي وفى سنن أبى داود عن ابن عمر انه إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلى أربعا وإذا كان بالمدينة فصلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين فقيل له كان رسول اللّه صلعم يفعل ذلك قال ابن همام فالظاهر ان السنة سنة غير ان ابن عمر لم يعلم كل ما كان يفعله النبي صلعم بمكة فإذا كان مسافرا كان يصليها فى المسجد فيعلم ابن عمرو به قال أبو يوسف رح وأبو حنيفة رح أخذا بما روى عن ابن مسعود انه كان يصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا قاله الترمذي فى الجامع واليه ذهب ابن المبارك والثوري وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلعم إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها اربع ركعات واللّه تعالى أعلم (مسئله) عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلعم قال من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 295(1/6548)
ان كان عنده ولبس من احسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فلم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء اللّه ان يركع فانصت إذا خرج الامام كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها رواه أبو داود ورواه البغوي وقال قال أبو هريرة وزيادة ثلثة ايام لان اللّه تعالى يقول من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وروى البخاري نحوه عن سلمان بغير زيادة ثلثة ايام وعن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول اللّه صلعم يقول من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة اجر صيامها وقيامها رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالاول فإذا خرج الامام طويت الصحف واستمعوا الخطبة والمهجر إلى الصلاة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة رواه البغوي وفى الصحيحين نحوه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلعم خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه ادخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة الا فى يوم الجمعة رواه مسلم وعنه قال قال رسول اللّه صلعم ان فى الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسال اللّه فيها خيرا الا أعطاه إياه متفق عليه وزاد مسلم قال وهى ساعة خفيفة وفى رواية لهما قال ان فى الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلى يسال اللّه خيرا فيها الا أعطاه إياه وعن أبى موسى الأشعري قال سمعت رسول اللّه صلعم يقول فى شان ساعة الجمعة هى ما بين ان يجلس الامام إلى ان يقضى الصلاة رواه مسلم وعن أبى هريرة قال خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثنى عن التورية وحدثته عن رسول اللّه صلعم فكان مما حدثته ان قلت قال رسول اللّه صلعم خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم(1/6549)
و فيه اهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة الا وهى مصيحة يوم الجمعة من حين يصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة الا الجن والانس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى يسأل اللّه شيئا الا أعطاه إياه قال كعب ذلك فى كل سنة يوم فقلت بل فى كل جمعة فقرأ كعب التورية فقال صدق رسول اللّه صلعم قال أبو هريرة فلقيت عبد اللّه بن سلام فحدثته بمجلسى مع كعب الأحبار وما حدثته فى يوم الجمعة فقلت قال كعب ذلك فى
كل سنة قال عبد اللّه بن سلام كذب كعب فقلت له ثم قرأ كعب التورية فقال هى فى كل جمعة فقال عبد اللّه بن سلام صدق كعب ثم قال عبد اللّه بن سلام قد علمت اية ساعة هى قال
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 296(1/6550)
اب وهريرة فقلت أخبرني ولا تضن على فقال عبد اللّه بن سلام هى اخر ساعة فى يوم الجمعة قال أبو هريرة فقلت له وكيف يكون اخر ساعة فى يوم الجمعة وقال رسول اللّه صلعم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى فيها وتلك الساعة لا يصلى فيها فقال عبد اللّه بن سلام الم يقل رسول اللّه صلعم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو فى صلوة حتى يصلى قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذاك رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي وعن أوس بن أوس قال قال رسول اللّه صلعم أن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فاكثروا على من الصلاة فان صلوتكم معروضة على قالوا يا رسول اللّه وكيف تعرض صلوتنا عليك وقد رمت قال ان اللّه تعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والبيهقي وعن أبى لبابة عن ابن المنذر قال قال النبي صلعم ان يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند اللّه وهو أعظم عند اللّه من يوم الأضحى ويوم الفطر فيه خمس خلال خلق اللّه آدم واهبط اللّه فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى اللّه آدم وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا الا أعطاه ما لم يسال حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولاسماء ولا ارض ولا رياح ولا جبال ولا بحير الا وهى مشفق من يوم الجمعة رواه ابن ماجة وروى احمد عن سعد بن معاذ ان رجلا من الأنصار اتى النبي صلعم فقال أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير قال فيه خمس خلال وساق إلى اخر الحديث وعن أبى هريرة قال قيل لاى شىء سمى الجمعة قال ان فيها طبقت طينة أبيك أدم وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة وفى آخرها ثلث ساعات منها ساعة من دعا اللّه فيها استجيب له رواه احمد وعن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلعم أكثروا الصلاة علىّ يوم الجمعة فانه مشهود يشهده الملائكة وان أحدا لم يصل علىّ الا عرضت علىّ صلوته حتى يفرغ منها قال قلت و(1/6551)
بعد الموت قال ان اللّه حرم على الأرض أجساد الأنبياء فبنى اللّه حى يرزق رواه ابن ماجة وعن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلعم ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه اللّه فتنة القبر رواه احمد والترمذي وقال هذا حديث غريب وليس اسناده بمتصل وعن انس قال كان رسول اللّه صلعم يقول ليلة الجمعة ليلة أغر ويوم الجمعة يوم أزهر رواه البيهقي فى الدعوات الكبير (فائدة) ذكر الحافظ ابن حجر فى فتح الباري فى ساعة الجمعة بضعة وأربعين قولا واختار الجزري صاحب الحصن منها ما رواه مسلم من حديث أبى موسى هى ما بين ان يخرج الامام إلى ان يقضى الصلاة واختار اكثر العلماء ما ذكر من حديث أبى هريرة عن عبد اللّه بن سلام هى اخر ساعة من يوم الجمعة
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 297
و كذا روى النسائي وغيره من حديث جابر التمسوها اخر ساعة بعد العصر قال البيهقي كان النبي صلعم يعلم هذه الساعة بعينها ثم انسيها كما انسى ليلة القدر روى ذلك ابن خزيمة فى صحيحه عن أبى سعيد قال سالنا عنها النبي صلعم فقال انى علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر قال الأثرم لا يخلو هذه الأحاديث من أحد وجهين اما ان يكون بعضها أصح من بعض واما ان يكون هذه الساعة منتقلة فى الأوقات المذكورة كما تنتقل ليلة القدر فى ليالى العشر الأخير قلت ويمكن الجمع بين حديثى أبى موسى وعبد اللّه بن سلام بان عبد اللّه بن سلام كان يحكى عن التورية ولم يكن فى زمن موسى عليه السلام يصلى صلوة الجمعة بل كانوا يعظمون السبت ويصلون فيه فإذا لم يصل صلوة الجمعة فى قرية أو بادية فالساعة فى حقهم اخر ساعة من الجمعة وإذا يصلى صلوة الجمعة فالساعة فى حقهم ساعة الصلاة كما يدل عليه حديث أبى موسى وليس غير هذين القولين قولا له سند(1/6552)
معتمد عليه واللّه تعالى أعلم (فصل) عن أبى هريرة انه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم كان يقرأ فى الركعة الاولى من صلوة الجمعة سورة الجمعة وفى الركعة الثانية سورة المنافقين رواه مسلم وعن النعمان بن بشير قال كان النبي صلعم يقرأ فى العيدين وفى الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وربما اجتمعا فى يوم واحد فيقرء بهما رواه مسلم ولابى داود والنسائي وابن حبان من حديث سمرة انه صلعم كان يقرأ فى صلوة الجمعة سبح اسم وهل أتاك حديث الغاشية وروى البغوي انه سئل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ رسول اللّه صلعم يوم الجمعة على اثر سورة الجمعة فقال كان يقرأ هل أتاك حديث الغاشية وعن أبى سعيد مرفوعا من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وله شاهد من حديث ابن عمر فى تفسير ابن مردوية (فصل) عن جابر مرفوعا لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه فى مقعده ولكن ليقل افسحوا رواه مسلم عن أرقم بن أرقم مرفوعا الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الامام كالجار فصيه رواه البيهقي وعن عبد اللّه بن عمر من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهر رواه أبو داود.
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أى أديت صلوة الجمعة فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أى الرزق امر اباحة بعد المنع لاجل الصلاة قال ابن عباس ان شئت فاخرج وان شئت فاقعد وان شئت فصل إلى العصر وقيل فانتشروا فى الأرض ليس لطلب الدنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ فى اللّه أخرجه ابن جرير من حديث انس مرفوعا وابن مردوية عن ابن عباس موقوفا
التفسير المظهري ج 9 ، ص : 298(1/6553)