انس رفعه فى قوله فنفخ فى الصور الآية قال فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول اللّه وهو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول توف نفس ميكائيل فيقول وهو اعلم من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وملك الموت فيقول توف نفس جبرئيل ثم يقول وهو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت وهو ميت فيقول مت ثم يقول انا بدأت والخلق ثم أعيده فاين الجبارون المتكبرون فلا يجيبه أحد ثم ينادى لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول هو اللّه الواحد القهار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ - واخرج البيهقي عن زيد بن اسلم قال الذي استثنى اثنا عشر جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وحملة العرش ثمانية وقال البغوي يروى انه يقبض روح جبرئيل وميكائيل ثم روح حملة العرش ثم روح اسرافيل ثم روح ملك الموت واخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان يقبض روح ميكائيل ثم روح جبرئيل ثم روح اسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت. واخرج أبو الشيخ فى كتاب العظمة عن وهب قال هؤلاء الاربعة جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت أول من خلقهم اللّه واخر من يميتهم وأول من يحييهم هم المدبّرات امرا والمقسّمات امرا. قال السيوطي لا تنافى بين هذه الروايات يعنى روايات الاستثناء لامكان الجمع بان الجميع من المستثنى.(1/4955)
قلت الأحاديث والآثار المذكورة كلها واردة فى بيان الاستثناء الواقع فى نفخة الصعق لا ما وقع فى نفخة الفزع وعندى المستثنى فى نفخة الفزع ما دل عليه قوله تعالى فيما بعد مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فانه نص فى ان المؤمنين الّذين لا يدخلون النار ويدخلون الجنة لا ينحقهم الفزع لكن عند نفخة الفزع لا يكون من الناس الا الكفار لقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تقوم الساعة الا على الأشرار - رواه احمد ومسلم عن ابن مسعود وقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله. رواه احمد ومسلم والترمذي عن انس وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت - رواه عبد الرزاق فى الجامع وقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والقران. رواه السنجري عن ابن عمر ويدل على ذلك غيرها من الأحاديث ولهذا حمل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم المستثنى على أرواح الشهداء فانهم احياء عند ربهم واما الملائكة وأرواح الأنبياء عليهم السلام فهم أيضا داخلون فى المستثنى ولا يفزعون البتة والله اعلم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 139(1/4956)
روى ابن جرير فى تفسيره والطبراني فى المطولات وأبو يعلى فى مسنده والبيهقي فى البعث وأبو موسى المديني فى المطولات وعلى بن معبد فى كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وأبو الشيخ فى كتاب العظمة حديثا طويلا عن أبى هريرة ذكر فيه فينفخ ثلاث نفخات الاولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العلمين فيأمر اللّه اسرافيل بالنفخة الاولى فيقول الله انفخ نفخة الفزع فينفخ فيفزع أهل السماء والأرض الا من شاء اللّه. إلى ان قال فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتى أقطار الأرض فتتلقاهم الملائكة فتضرب وجوهها فترجع وتولى الناس مدبرين ينادى بعضهم بعضا والذي يقول الله يوم التّناد إلى ان قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأموات يومئذ لا يعلمون بشئ من ذلك قلت يا رسول الله فمن استثنى الله فى قوله الا من شاء الله قال أولئك الشهداء و(1/4957)
انما يصل الفزع إلى الاحياء وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وقاهم اللّه من فزع ذلك اليوم وامنهم منه وهو عذاب يبعثه على اشرار خلقه يقول الله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ الآية فيمكثون فى ذلك ما شاء اللّه ثم يأمر الله اسرافيل بنفخة الصعق فصعق أهل السموات والأرض الا من شاء اللّه فيقول ملك الموت قد مات أهل السموات والأرض الا من شئت فيقول وهو اعلم فمن بقي ثم ذكر موت جبرئيل وميكائيل وحملة العرش وموت ملك الموت نحو ما تقدم من حديث انس ثم ذكر الحديث بطوله إلى دخول أهل الجنة الجنة وبقاء أهل الخلود فى النار. فان قيل هذا الفزع لا يكون الا على شرار خلق الله من شياطين الانس والجن وليس أحد منهم فى السماء فما معنى قوله تعالى فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ قلت لعل ذلك على سبيل الفرض أو يقال ان الشياطين قد يذهبون إلى السماء لاستراق السمع أو يقال المراد بالسماء السحاب ونحو ذلك فانه قد يطلق السماء على كل ما بفوقك قال الله تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ يعنى سقف بيتك أو يقال المراد بمن يفزع من أهل السماء أرواح بعض المؤمنين ويكون المراد بمن سبقت لهم الحسنى الأنبياء والمقربون الصديقون - واما المستثنى من نفخة الصعق فالقول فيه ما قال صاحب المفهم التحقيق ان المراد بالصعق
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 140(1/4958)
ما هو أعم من الموت فلمن لم يمت الموت ولمن مات الغشية وهذا من قبيل عموم المجاز وهذه الغشية يعم الأنبياء عليهم السلام الا موسى عليه السلام فانه حصل فيه تردد - روى الشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة واللفظ له عن أبى هريرة قال قال رجل من اليهود بسوق المدينة والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه وقال أ تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال قال الله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فاكون أول من رفع رأسه فإذا انا بموسى أخذ بقائم من قوائم العرش فلا أدرى ارفع راسه قبلى أو كان ممن استثنى اللّه ولمّا كان الصعق بمعنى الموت أو الغشية يعم الأنبياء فيعم الشهداء بالطريق الاولى والملائكة أيضا والمستثنى منهم جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وحملة العرش فانهم لا يموتون بالنفخة ويموتون بعد ذلك كما مرّ فى الأحاديث والله اعلم.
وَكُلٌّ أى كل واحد من أهل السماوات والأرض أَتَوْهُ أى حاضرون الموقف بعد نفخة البعث أو راجعون إلى امره كذا قرأ الجمهور بالمد وضم التاء على صيغة اسم الفاعل وقرأ حفص وحمزة « خلف أبو محمد » مقصورا وفتح التاء على صيغة الماضي ومعناه الاستقبال لتحقيق وقوعه عطف على فزع داخِرِينَ صاغرين.(1/4959)
وَ تَرَى الْجِبالَ أى تبصرها أيها الناظر وقت نفخة الفزع عطف على يوم ينفخ أو على يوم نحشران يقدر هنا ترى ما ترى تَحْسَبُها جامِدَةً أى وافقه مكانها الجملة حال من فاعل ترى ومفعوله أى تظنها قائمة غير متحركة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من الضمير المنصوب فى تحسبها يعنى تسير الجبال كسير السحاب فى السرعة حتى تقع على الأرض فتستوى بها وذلك لان الاجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد يتبين حركتها صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون جملة متقدمة لا محتمل لها غيره ويسمى تأكيدا لنفسه معنى صنع الله صنعا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ احكم خلقه وسواه على ما ينبغى إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب أى يجازى كلّا من العاصي والمطيع على خسب فعله ثم بينه فقال.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قال أبو معشر كان ابراهيم يحلف ولا يستثنى ان الحسنة لا اله الا اللّه وقال قتادة بالإخلاص وقيل هى كل طاعة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قيل من للسببية وليس للتفضيل إذ لا شىء خير من قول
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 141(1/4960)
لا اله الا اللّه فالمعنى يحصل له خير وهو الثواب والامن من العذاب من جهة تلك الحسنة وبسبيها وقال محمد بن كعب وعبد الرحمان ابن زيد من تفضيلية والمعنى فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله نظيره قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ أى يوم ينفخ فى الصور آمِنُونَ قرأ الكوفيون فزع بالتنوين للتنكير ويومئذ بالنصب على الظرفية والتنكير يفيد الاستغراق لان الجملة فى قوة النفي لان قوله امنون بمعنى لا يخافون ولا يفزعون والنكرة فى حيز النفي يفيد الاستغراق وقرأ الآخرون بلا تنوين باضافة فزع إلى يومئذ والاضافة أول على الاستغراق أو هى للعهد لتقدم ذكر الفزع فقرأ أكثرهم يومئذ بالجر للاضافة ونافع بفتح الميم على انه مبنى اكتسب البناء ممّا أضيف اليه.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أى الشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ الفاء للعطف على محذوف لا للجزاء لا تدخل على الماضي بغير قد تقديره من جاء بالسّيئة فله جزاء السّيئة أو استحق العذاب فكبّت وجوههم أى فكبوا على وجوههم فِي النَّارِ أو المراد بالوجوه أنفسهم هَلْ تُجْزَوْنَ يعنى ما تجزون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى إلا جزاؤه وفاقا لما عملوا فان الشرك أعظم الجرائم لا شىء فوقه فى السوء وجهنم أشد الاجزية فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب والتقدير ويقول لهم خزنة جهنّم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - .(1/4961)
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعنى مكة أضاف الرّب إلى البلدة تشريفا لها واشعارا بما فى الكعبة الحسناء من التجليات المختصة بها الَّذِي حَرَّمَها صفة للرب أى جعلها حرما أمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا ينفر صيدها ولا يختلا خلاها ذكر هذا الوصف منة على قريش حيث جعل مسكنهم أمنا من الفتن الشائعة فى العرب وَلَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ خلقا وملكا مع تلك البلدة عطف على حرمها أو حال من الضمير المرفوع المستكن فيها وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بتقدير الباء أى أمرت بان أكون من المنقادين لله تعالى أو ثابتين على ملة الإسلام عطف على أمرت ان اعبد.
وَأَنْ أَتْلُوَا تلاوة الدعوة إلى الايمان أو هو من التلو بمعنى الاتباع والمعنى ان اتبع الْقُرْآنَ عطف على ان أكون وجملة انّما أمرت متصلة بقوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وقال البيضاوي امر اللّه سبحانه لرسوله ان يقول لهم ذلك بعد ما بين لهم المبدا والمعاد وشرح احوال القيامة اشعارا بانه قد أتم الدعوة وادى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 142
ما كان عليه فلم يبق عليه الا الاشتغال بشأنه والاستغراق فى عبادة ربه والتقدير قل انما أمرت بكذا فَمَنِ اهْتَدى بدعوتك وعيد ربه وحده كما أمرت فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان منافعه تعود إليه فليس له ان يمن عليك وَمَنْ ضَلَّ أى أخطأ طريق الحق يتبعك بعد تمام الدعوة منك فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ يعنى لست عليكم بوكيل ولا علىّ من وبال ضلالك أصلا إذ ليس علىّ الا البلاغ - .(1/4962)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة وعلى ما وفقك من تمام التبليغ والدعوة الواجبة عليك سَيُرِيكُمْ اللّه أيها الضالون آياتِهِ القاهرة على حقيقة ما دعوتكم إليه فى الدنيا كما وقع يوم بدر من قتل وسبى وضرب الملائكة وجوههم وادبارهم وكما راوا من انشقاق القمر وتسبيح الحصا ونحو ذلك وكما يجئ من خروج الدابّة وغير ذلك نظيره قوله تعالى سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أو المعنى سيريكم آياته فى الاخرة وقال سيريكم آياته فى السماء وفى الأرض وفى أنفسكم كما سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم فَتَعْرِفُونَها أى فتعرفون انها آيات الله ولكن لا ينفعكم حينئذ المعرفة وَما رَبُّكَ يا محمد ص بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازى كلّا على حسب عمله لوقتهم - تم تفسير سورة النمل من التفسير المظهرى فى التاريخ الثاني والعشرون من شعبان سنة الخامسة بعد الف ومائتين (سنه 1205 ه) ويتلوه تفسير سورة القصص ان شاء اللّه تعالى.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 143
سورة القصص
سورة القصص مكية الا قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وفيها آيات نزلت بين مكة والمدينة وهى قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهى ثمان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ابان لازم ومتعد يعنى ظاهر فى كونه من عند الله لاعجازه أو مظهر لاحكامه ومواعيده وما فيها من القصص.
نَتْلُوا أى نقراه بقراءة جبرئيل عَلَيْكَ ويجوز ان يكون نتلوا بمعنى ننزل مجازا مِنْ نَبَإِ أى بعض نبا مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ظرف مستقر حال من نبا أى مقرونا بالصدق أو من فاعل نتلوا أى محقين أو ظرف لغو متعلق بنتلوا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم هم المنتفعون به.(1/4963)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا أى استكبر وتجبر وتعظم استيناف بيان لذلك البعض فِي الْأَرْضِ أى ارض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها أى أهل تلك الأرض شِيَعاً أى فرقا يشيعونه فيما يريد من الخدمة أو يشيع بعضهم بعضا أو فرقا أكرم منهم طائفة وهم القبط وأهان آخرين وهم بنوا إسرائيل أو أصنافا فى الخدمة استعمل كل صنف فى عمل أو أحزابا اغرى بينهم العداوة كيلا يتفقوا عليه وفى القاموس شيعة الرجل اتباعه وأنصاره والفرقة على حدة يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنوا إسرائيل الجملة حال من فاعل جعل أو استيناف يُذَبِّحُ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 144
أَبْناءَهُمْ
لان كاهنا قال يولد مولود فى بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه كذا أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أى يترك بناتهم احياء بدل من قوله يستضعف سمى ذلك استضعافا لانهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ولذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد إذ لا ينفعه القتل سواء صدق الكاهن أو كذب - .
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أى نتفضّل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ بانقاذهم من بأسه جملة نريد حكاية حال ماضية معطوفة على انّ فرعون علا من حيث انهما واقعان تفسيرا للنبأ - أو حال من فاعل يستضعف بتقدير ونحن نريد أو عطف على يستضعف والرابط بالموصوف وضع المظهر أى الذين استضعفوا موضع الضمير ولا يلزم من مقارنة الارادة للاستضعاف مقارنة المراد له لكون تعلق الارادة حينئذ تعلقا استقباليا مع ان منة الله بخلاصهم لمّا كانت قرينة الوقوع منه جاز ان يجرى مجرى المقارن وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم فى امر الدين دعاة الخير كذا قال مجاهد وقال قتادة ولاة وملوكا بدليل قوله تعالى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لما كان فى ملك فرعون وقومه.(1/4964)
وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أى ارض مصر والشام واصل التمكن ان يجعل للشئ مكانا يستقر فيه ثمّ استعير للتسليط ونفاذ الأمر وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما قرأ الأعمش والحمزة والكسائي يرى بالياء ومفتوحة وفتح الراء وامالة فتحها ورفع الأسماء الثلاثة على الفاعلية والباقون بالنون مضمومة وكسر الراء وفتح الياء بعدها ونصب الأسماء الثلاثة على المفعولية مِنْهُمْ أى من بنى إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ والحذر هو التوقي عن الضرر وذلك انهم أخبروا ان هلاكهم على يد رجل من بنى إسرائيل وكانوا على وجل منه فاراهم اللّه ما كانوا يحذرون ..
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وهى يوخابذ بنت لاوى بن يعقوب عليه السلام كذا ذكر البغوي اجمعوا على انه ليس بوحي نبوة وان النبي لا يكون الا رجلا قال قتادة قذف فى قلبها وهو الإلهام فى اصطلاح الصوفية ومن جنسه المنام الصادق الموجب لليقين واطمينان القلب وهو أيضا من قبيل الإلهام وهذه الآية تدل على ان الإلهام
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 145(1/4965)
ايضا من اسباب العلم وان كان علما ظنّيا والمعتبر الهام القلوب الزاكية والنفوس المطمئنة والفرق بين الوسوسة والإلهام بحصول اليقين واطمينان القلب أَنْ أَرْضِعِيهِ ان مفسرة لاوحينا لان فيه معنى القول أو مصدرية يعنى ارضعى موسى ما أمكنك اخفاؤه قال البغوي اختلفوا فى مدة إرضاع موسى عليه السلام امه قيل هى ثمانية أشهر وقيل اربعة أشهر وقيل ثلاثة أشهر كانت ترضعه فى حجرها وهو لا يبكى ولا يتحرك فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بان يحس به فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ فى البحر يريد النيل وَلا تَخافِي عليه الضياع وَلا تَحْزَنِي لفراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ من قريب بحيث تامنين عليه وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ روى عطاء والضحاك عن ابن عباس ان بنى إسرائيل لما كثروا بمصر واستطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم النبط فاستضعفوهم إلى ان نحاهم الله على يدى نبيه - موسى عليه السّلام - قال ابن عباس رض ان أم موسى لما دنى ولادتها وكانت قابلة من قوابل اللاتي وكّلهن فرعون بحبالى بنى إسرائيل مصافية لام موسى فلمّا ضربها الطلق أرسلت إليها وقالت قد نزل بي ما نزل فلينفعنى حبك إياي اليوم قال فعالجت قابلتها فلما ان وقع موسى عليه السلام بالأرض هالها نور بين عينى موسى عليه السّلام فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى عليه السلام فى قلبها ثم قالت يا هذه ما جئت إليك حين دعوتنى الا ومن ورائي قتل مولودك ولكن وجدت لابنك حبّا ما وجدت حب شىء مثل حبه فاحفظى ابنك فانى أراه مدونا.(1/4966)
فلمّا خرجت القابلة من عندها ابصر بعض العيون فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب قلفّت موسى فى خرقة فوضعته فى التنور وهو مسجور وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع فدخلوا فإذا التنور مسجور وراوا أم موسى ع لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لها ما ادخل عليك القابلة قالت هى مصافية لى فدخلت علىّ زائرة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لاخت موسى عليه السلام فاين الصبى قالت لا أدرى فسمعت بكاء الصبى من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه بردا وسلاما فاحتملته.
قال ثم ان أم موسى لما رات الحاج فرعون فى طلب الولدان خافت على ابنها فقذف
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 146
الله فى نفسها ان تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت فى اليم وهو النيل فانطلقت إلى رجل من قوم فرعون نجار فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها النجار ما تصنعين بهذا التابوت قالت ابن لى أخبؤه فى التابوت وكرهت الكذب قال ولم قالت أخشى عليه كيد فرعون فلما اشترت التابوت وحملته فانطلقت انطلق النجار إلى الذبّاحين ليخبرهم بامر أم موسى فلمّا هم بالكلام امسك اللّه تعالى فلم يطق الكلام وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول فلما أعياهم امره قال كبيرهم اضربوه وأخرجوه فلمّا انتهى النجار إلى موضعه رد اللّه عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضا يريد الأمناء فاتاهم ليخبرهم فاخذ لسانه وبصره فلم يطلق الكلام ولم يبصر شيئا فضربوه وأخرجوه ووقع فى واد يهوى فيه حيران فجعل عليه ان رد لسانه وبصره ان لا يدل عليه وان يكون معه ويحفظه حيث ما كان فعرف الله منه الصدق فرد الله عليه بصره ولسانه فخر للّه ساجدا فقال يا رب دلّنى على هذا العبد الصالح فدله الله عليه فخرج من الوادي وأمن به وصدقه وعلم ان ذلك من الله عزّ وجلّ.(1/4967)
و قال وهب بن منبه لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها من جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله وذلك شىء ستره اللّه لما أراد ان يمن على بنى إسرائيل فلمّا كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتش النساء تفتيشا لم يفتش قبل ذلك وحملت أم موسى ع بموسى فلم ينت بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها وكانت القوابل لا تتعرض لها فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد الا أخته مريم واوحى اللّه إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ الآية فكتمته امّه ثلاثة أشهر ترضعه فى حجرها لا يبكى ولا يتحرك فلمّا خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا قيل وضعته فى تابوت مطلّى بالقارّ من داخل ممهدا له فيه وأغلقته ثم ألقته فى البحر ليلا - قال ابن عباس وغيره فكان لفرعون يومئذ بنت ليس له ولد غيرها وكانت أحب الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا فى أمرها فقالوا لها أيتها الملكة لا تبرئى الا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيطلح به برصها فتبرا من ذلك وذا يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس - فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت ابنة فرعون فى جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها حتى تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن إذ اقبل النيل بالتابوت
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 147(1/4968)
يضربه الأمواج فقال فرعون ان هذا الشيء فى النيل قد تعلق بالشجرة ايتوني به فابتدروا بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرات فى جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجت ففتحت الباب فإذا هى بصبىّ صغير فى مهدة وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه فى ابهاميه يمصهما لبنا فالقى الله تعالى المحبة لموسى فى قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه - وأقبلت ابنة فرعون فلمّا اخرجوا الصبىّ من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان من ريقه فلطخت ببرصها فبرات فقبّلته وضمته إلى صدرها فقالت الغواة لفرعون أيها الملك انا نظنّ ان ذلك المولود الّذى تحذر منه من بنى إسرائيل هو هذا رمى به فى البحر خوفا منك ان تقتله فهمّ فرعون بقتله قالت آسية قرّة عين لّى ولك لا تقتلوه عسى ان ينفعنا أو نتّخذه ولدا وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها وقال فرعون اما انا فلا حاجة لى فيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قال يومئذ هو قرة عين لى كما هو لك لهداه الله كما هدها فقيل لاسية سميه فقالت سميته موسى لانا وجدناه بين الماء والشجر؟" فمو" هو الماء - و" سا" هو الشجر ..(1/4969)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ اللام للعاقبة تشبها لعاقبة الأمر ومواده بالغرض الباعث على الفعل لتحقق وقوعها لَهُمْ عَدُوًّا يقتل رجالهم وَحَزَناً يستعبد نساءهم قرأ « و خلف - أبو محمد » حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزاء والباقون بفتحهما وهما لغتان فى المصدر وهو هاهنا بمعنى الفاعلي إِنَّ فِرْعَوْنَ وَوزيره هامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ فى كل شىء فليس بمبدع منهم ان قتلوا الوفا لاجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون أو المعنى كانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بان ربّى عدوهم على أيديهم فالجملة اعتراض لتأكيد خطاءهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ لفرعون عطف على فالتقطه ال فرعون قال وهب بن منبه لما وضع التابوت بين يديه وفتحوه وجدوا فيه موسى فلما نظر إليه قال عبرانى من أهل الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام - وكان فرعون قد استنكح امراة من بنى إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء وكانت من بنات الأنبياء وكانت امّا للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم قالت لفرعون وهى قاعدة إلى جنبه هذا الوليد اكبر من ابن
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 148(1/4970)
سنة وانما أمرت بذبح الولد لهذه السنة فدعه يكن قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ خبر مبتدا محذوف لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع على التعظيم. وروى انها قالت أتانا من ارض اخرى ليس من بنى إسرائيل عَسى أَنْ يَنْفَعَنا علة لقوله تعالى لا تَقْتُلُوهُ فان فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رات من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبناه فانه أهل له فاطاعوها وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من الملتقطين يعنى هم لا يشعرون ان هلاكهم على يديه فاستحياه فرعون فالقى الله عليه محبته أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس مرفوعا انه قال فرعون قرّة عين لّك لالى ولو قال قرة عين لى كما هو لك لهداه الله كما هداها وقال ابن وهب قال ابن عباس لو ان عدو الله قال فى موسى كما قالت آسية عسى ان يّنفعنا لنفعه الله ولكن أبى للشقاء الذي كتبه اللّه عليه - .(1/4971)
وَ أَصْبَحَ يعنى صار عطف على قالت امراة فرعون فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أى خاليا من العقل لشدة الخوف والحزن حين سمعت وقوعه فى يد فرعون كقوله تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أى خلاء لا عقول فيها وقال اكثر المفسرين أى خاليا من كل شىء سوى ذكر موسى وهمّه وقال الحسن فارغا أى ناسيا للوحى الذي اوحى اللّه إليها حين أمرها ان تلقيه فى البحر وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فجاءه الشيطان وقال كرهت ان يقتل فرعون ولدك فيكون لك اجره وثوابه وتوليت أنت قتله فالقيته فى البحر وأغرقته - فلمّا جاءها الخبر بان فرعون أصابه فى النيل قالت انه وقع فى يد عدوه فانساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها - قلت لعل حزنها لمّا كان الهام الأولياء دليلا ظنيّا فافزعته احتمال الخطاء فى الإلهام وقال أبو عبيدة معناه فارغا من الحزن لعلمها بصدق وعد الله تعالى وأنكر القتيبي هذا وقال كيف يكون هذا والله يقول إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ان مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن واللام فارقة أى انها كادت ليظهر به أى بموسى يعنى بامره انه ابنها من شدة جزعها كما قال عكرمة عن ابن عباس رض انها كادت تقول وا ابناه وقال مقاتل لما رات التابوت يرفعه موج ويضعه اخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها وقال الكلبي كادت تظهر انه ابنها وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شبّ موسى بن فرعون فشق عليها فكادت تقول هو ابني فقيل معنى الآية وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الحزن حين سمعت ان فرعون تبنّاه فكادت لتبدى به أى بانه ابنها حيث لم تملك نفسها من شدة الفرح وروى ابن جرير وابن أبى حاتم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 149(1/4972)
عن السدىّ انه قالت اخت موسى هل أدلكم إلى آخره وجاءت بامها فاخذ موسى ثديها فكادت تقول هو ابني فعصمها الله وقال أبو عبيدة معنى الآية أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الخوف والحزن لقوله تعالى لا تخافي ولا تحزنى وان كادت لتبدى به يعنى انها لشدة وثوقها بوعد اللّه كادت ان تظهر انه ابنها أو تظهر بالوحى إليها بان الله وعدني برده الىّ وجعله من المرسلين لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ظرف لغو متعلق بقوله رَبَطْنا وهى بتأويل المصدر مبتدا خبره محذوف يعنى لو لا ربطنا على قلبها موجود أو ظرف مستقر خبر للمبتدا أى لو لا ربطنا ثابت على قلبها يعنى لو لا ربطنا بالصبر على الجزع أو على كتمان الفرح على التأويل الأول والثاني أو بالصبر على كتم اسرار الله تعالى على تاويل أبى عبيدة وجواب لو لا محذوف أيضا دل عليه ما قبله يعنى لابدت به لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ متعلق بربطنا يعنى ربطنا على قلبها بالصبر على الجزع أو على كتم الفرح لتكون من المصدقين بوعد الله أو متعلق باصبح والمعنى أصبح فؤاد امّ موسى فارغا من الخوف والحزن لتكون من المؤمنين الموقنين بوعد الله وعلى ما ذكرنا من التأويل اندفع انكار القتيبي على تاويل أبى عبيدة وجملة لو لا ان رّبطنا معترضة حينئذ قال يوسف بن حسين أمرت أم موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشرت ببشارتين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حفظها فربط على قلبها وسكن قلقها الذي وجدت من شدة الحزن أو القرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبنّى فرعون - .(1/4973)
وَ قالَتْ أم موسى عطف على أصبح لِأُخْتِهِ مريم بنت عمران قُصِّيهِ أى اتبعى اثره وتبتغى خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عطف على محذوف معطوف على قالت تقديره فقضت فبصرت له عَنْ جُنُبٍ أى عن بعد حال من أحد الضميرين المرفوع أو المجرور وفى القصة انها تمشى جانبا وننظر اختلاسا ترى انها لا تنظر وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ انها أخته وانها ترقبه.
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ عطف على بصرت والمراد بالتحريم المنع التكويني دون التكليفي والمراضع اما جمع مرضع بالضم يعنى منعنا عنه لبن كل مرضعة فلم يرتضع من أحدا هن واما جمع مرضع بالفتح على انه مصدر ميمى بمعنى الرضاع أو ظرف وهو الثدي مِنْ قَبْلُ قصصها قال ابن عباس رض ان امراة فرعون كان همها من الدنيا ان تجد له مرضعة وكانوا كلما أتوا بمرضعة لم تأخذ موسى ثديها حتى راته اخت موسى فى ذلك الحال وفى القصة ان موسى مكث ثمانى ليال لا يقبل ثديا ويصيح فَقالَتْ عطف على حرمنا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 150(1/4974)
لاجلكم صفة لاهل بيت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ أى لا يقصرون فى ارضاعه وتربيته والنصح ضد الغش وهو تصفية العمل عن شوب الفساد حال من فاعل يكفلونه قال ابن جريح والسدىّ لمّا قالت اخت موسى وهم له ناصحون أخذوها وقالوا انّك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على اهله قالت ما أعرفه وقلت وهم للملك ناصحون كذا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى وقيل انها قالت انما قلت هذا وغبة فى سرور الملك واتصالنا به وقيل انها لمّا قالت هل أدلكم على أهل بيت قالوا لها من قالت لامى قالوا لامك ابن قالت نعم هارون (و كان هارون ولد فى سنة لا يقتل فيها الوالدان) قالوا صدقت فأتينا به فانطلقت إلى أمها فاخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلمّا وجد موسى ريح امه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه قال السدىّ كانوا يعطونها اجرة كل يوم دينارا قيل انما أخذتها لانها كانت مال حربى وذلك قوله عزّ وجلّ.
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ عطف على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض معطوفة على فقالت هل ادلّكم تقديره فقالوا دلّنى فدلت على أمها فقالوا اتى بها فانطلقت فانت بها فوضعوه فى حجرها فارضعته فرضعته فسلموه إليها للارضاع فرددناه إلى امه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها برد موسى إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه عطف على تقرّ وَلِتَعْلَمَ أم موسى عطف على لا تخزن أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ برده إليها حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أى اكثر الناس لا يَعْلَمُونَ ان وعد الله حق ولو علموا ذلك لما ارتكبوا منهيات الله خوفا من وعيده وما تركوا أوامره طمعا فى وعده وفيه تعريض على أم موسى لما فرط منها حين جزعت على تأويل أصبح فؤاد امّ موسى فارغا بمعنى خاليا من الصبر وقيل يعنى لا يعلمون بهذا الوعد ولا بان هذه أخته وهذه امه فمكث عندها إلى ان فطمته فاتت به إلى فرعون فتربى عنده كما قال اللّه تعالى حكاية عنه فى سورة الشعراء أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً - .(1/4975)
وَ لَمَّا بَلَغَ موسى أَشُدَّهُ جمع شدة بمعنى القوة كالنعم جمع نعمة يعنى مبلغه الذي لا يزيد إليه نشوه قال الكلبي الأشد ما بين ثمانى عشرة سنة إلى ثلاثين سنة وقال مجاهد وغيره ثلاث وثلاثون سنة وَاسْتَوى عقله أى بلغ أربعين سنة كذا روى سعيد بن جبير عن ابن عباس وقيل استوى أى انتهى شبابه آتَيْناهُ حُكْماً أى النبوة وَعِلْماً أى معرفة بالله وباحكامه قيل ليس المراد به الاستنباء لأنه يكون بعد الهجرة فى المراجعة من هذين بل المراد به الفقه والعلم بالشرائع قلت العطف بالواو للجمع المطلق لا دليل فيه على الترتيب فالاستنباء وان كان بعد الهجرة لكن ذكره هاهنا لبيان انجاز الوعد بتمامه حيث قال إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَكَذلِكَ صفة المصدر محذوف
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 151
تقديره نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ جزاء كذلك أى مثل ذلك الذي جزينا موسى وامه على إحسانهما ..(1/4976)
وَ دَخَلَ موسى الْمَدِينَةَ عطف على لمّا بلغ أشدّه قال السدىّ هى مدينة مدين من ارض مصر وقال مقاتل كان قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر وقيل مدينة عين الشمس وقال المحلى مدينة منف دخله بعد ان غاب عنه مدة عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة وقال محمد بن كعب القرظي دخلها فيما بين المغرب والعشاء قال السدى وذلك ان موسى يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس ملابسه فركب فرعون يوما وليس عنده موسى فلمّا جاء موسى قيل له ان فرعون قد ركب فركب فى اثره فادركه المقيل بأرض منف قد خلها نصف النهار وليس فى طرقها أحد.(1/4977)
و قال ابن إسحاق كان لموسى شيعة من بنى إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به فلمّا عرف ما هو عليه من الحق راى فراق فرعون وقومه فخالفهم فى دينه حتى ذكر ذلك منه وأخافوه وخافوه وكان لا يدخل قرية الا خائفا مستخفيا فدخلها حين غفلة من أهلها - وقال ابن زيد لما عدا موسى فرعون بالعصا فى صغره وأراد فرعون قتله فقالت امراة فرعون هو صغير فترك قتله وامر بإخراجه من مدينته فلم يدخل الا بعد ان كبر وبلغ أشده ف دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها يعنى حين غفلة عن ذكر موسى من بعد نسائهم خبره وامره لبعد عهدهم به قال البغوي وروى عن على رضى اللّه تعالى فى قوله تعالى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ صفة لرجلين أى يختصمان ويتنازعان هذا مِنْ شِيعَتِهِ يعنى من بنى إسرائيل هذه الجملة مع ما عطف عليها حال من رجلين بترك الواو على طريقة كلمته فوه إلى لىّ بتقدير تقديره فوجد رجلين يقال فيهما هذا من شيعته وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أى من القبط وجاز ان يكون هذا وهذا بدلا من رجلين وقوله من شيعته ومن عدوه حال من المشار إليه والعامل فيه معنى الاشارة فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عطف على وجد عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ والاستغاثة طلب الغوث استغاث الاسرائيلى على الفرعوني فغضب موسى واشتد غضبه لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بنى إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس الا من قبل الرضاعة من أم موسى فقال للفرعونى خل سبيله فقال انما ناخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فتنازعه فقال الفرعوني لقد هممت ان احمله عليك وكان موسى قد اوتى بسطة فى الخلق وشدة القوة والبطش فَوَكَزَهُ مُوسى قرأ ابن مسعود فلكزه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 152(1/4978)
موسى ومعناهما واحد وهو الضرب بجمع الكف وقيل الوكز الضرب فى الصدر واللكز فى الظهر وقال الفراء معناهما الدفع وقال أبو عبيدة الوكز الدفع باطراف الأصابع وفى بعض التفاسير عقد موسى ثلاثا وثمانين فضربه فى صدره فَقَضى عَلَيْهِ أى قتله ودفنه فى الرمل كذا قال المحلى ومعناه فرغ من امره فكل شىء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ولم يكن الموسى قتله فندم عليه موسى وقالَ إلخ الجملة مستأنفة هذا أى القتل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ انما قال ذلك لأنه لم يكن مأمورا حينئذ بقتل الكفار أو لأنه كان مأمونا فيهم فلم يكن له اغتيالهم وهذا لم يكن مناف لعصمته لكونه خطأ وانما عدّ ذلك الأمر من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر عنه على عادة المقربين فى استعظام محقرات صدرت منهم إِنَّهُ أى الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أى ظاهر العداوة - .
قالَ جملة مستانفة رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل نفس من غير أمرك فَاغْفِرْ لِي خطيئتى فَغَفَرَ لَهُ عطف على قال أى غفر الله لموسى حقه ولم يكن القبطي معصوم الدم حتى لا يتصو ر المغفرة من غير قصاص أو عفو من المقتول أو ورثته إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم.
قالَ مستانفة اخرى رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ الباء فى بما أنعمت للقسم وجوابه ما بعده وقوله فلن أكون معطوف على محذوف تقديره اقسم بانعامك علىّ بالنبوة والمغفرة وغير ذلك تبت فلن أكون أو الباء متعلق بمحذوف تقديره ربّ اعصمني من الزلات بحق إنعامك علىّ وعلى هذا قوله فلن أكون جواب للدعاء أى ليكن منك اعصامى فعدم كونى ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس أى للكافرين وهذا لو صح لدلّ على ان الاسرائيلى ، كان كافرا وهو قول مقاتل وقال قتادة معناه لن أعين بعد هذا على خطيئة وقيل معناه لن أكون معينا لمن أدت معاونته إلى جرم - .(1/4979)
فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ التي قتل فيها القبطي عطف على فقضى عليه خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ الانتقام من ورثة المقتول أو يترقب النصر من ربه حالان من فاعل أصبح فَإِذَا للمفاجاة الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ أى يستغيثه مشتق من الصراخ قال ابن عباس اتى فرعون فقيل له ان بنى إسرائيل قتلوا منّا رجلا فخذلنا بحقنا فقال انجوا إلى قاتله ومن يشهد عليه فلا يستقيم ان يقضى بغير بينة نميناهم يطوفون لا يجدون ثبتا إذ مر موسى من الغد فراى ذلك الاسرائيلى يقاتل فرعونيّا فاستغاثه على الفرعوني
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 153
فصادف موسى وقد ندم ما كان منه بالأمس من قتل القبطي قالَ لَهُ أى للاسرائيلى مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بيّن الغواية حيث تسبّبت قتل رجل بالأمس وتقاتل اليوم رجلا اخر وتستغيثنى وقيل انما قال للفرعونى انّك لغوىّ مبين بظلمك ثم أدرك موسى الرقبة الاسرائيلى لمّا راى ظلم الفرعوني عليه فمديده لبطش الفرعوني.(1/4980)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أى لموسى والاسرائيلى لأنه لم يكن على دينهما ولان القبط كانوا اعداء بنى إسرائيل ظن الاسرائيلى انه يريد بطشه لما راى من غصته وسمع قوله انّك لغوىّ مبين قالَ الاسرائيلى يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ أو قال ذلك القبطي لما توهم من قوله انه الّذى قتل القبطي بالأمس لهذا الاسرائيلى والاول اظهر إِنْ تُرِيدُ أى ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا بالغضب فِي الْأَرْضِ أى فى ارض مصر حيث تطاول على الناس ولا تنظر العواقب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هى احسن فلمّا سمع القبطي قول الاسرائيلى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ علم ان قاتل القبطي بالأمس كان موسى انطلق إلى فرعون وأخبره بذلك فامر فرعون بقتل موسى أو سمع الناس مقالاتهم واشتهر ان موسى قتل القبطي وارتفع إلى فرعون وملئه فهموا بقتله.(1/4981)
وَجاءَ رَجُلٌ عطف على قال يا موسى قال اكثر أهل التأويل هو حزئيل مومن ال فرعون وقيل اسمه شمعون وقيل سمعا مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ ظرف مستقر صفة لرجل وليس متعلقا بجاء لان تخصيصها الحقه بالمعارف فصح ان يكون قوله يَسْعى حالا منه يعنى جاء ذلك الرجل يسرع فى مشيه فاخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى فاخبره وأنذره وقالَ يا موسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ أى يأمر بعضهم بعضا متلبسا ذلك الأمر بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أى لكى يقتلوك أو يأمر بعضهم بعضا بقتلك واللام زائدة وقيل معناه يتشاورون بك سمى التشاور ايتمار الان كلا من المتشاورين يأمر الاخر لكى يقتلوا فَاخْرُجْ من المدينة إِنِّي لَكَ متعلق بمحذوف خبر لان يعنى انى نافع لك مِنَ النَّاصِحِينَ خبر ثان ولا يجوز ان يكون لك متعلقا بناصحين لان معمول الصلة لا يتقدم على الموصول وقيل متعلق بناصحين والكلام محمول على التقديم والتأخير وقيل لك بيان لمبهم كأنَّه قال انّى من النّاصحين ثم أراد ان يبيّن
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 154
فقال لك أى انصح لك واللام فيه لتقوية عمل فعل محذوف.(1/4982)
فَخَرَجَ موسى مِنْها من تلك القرية خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ أى ينتظر الطالب من خلفه وقيل يترقب النصر من ربه فان قيل هذه الآية تدل على جواز الخوف للانبياء من غير اللّه سبحانه وقد قال اللّه تعالى فيهم وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فما التوفيق قلنا الخوف على نفسه من مقتضيات الطبعية لا ينافى النبوة والمراد بقوله تعالى لا يخشون أحدا الّا اللّه انّهم لا يبالون فى إتيان أوامره تعالى والانتهاء عن مناهيه لحوق مضرة بهم من أحد سوى اللّه تعالى بخلاف سائر الناس فانهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشية وإذا أوذي فى اللّه جعل فتنة النّاس كعذاب اللّه قالَ موسى استيناف أو حال بتقدير قد من فاعل خرج رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أى الكافرين يعنى خلصنى منهم واحفظني من لحوقهم وفى القصة ان فرعون بعث فى طلبه حين اخبر بهربه فقال اركبوا بينات الطريق فانه لا يعرف كيف الطريق - .(1/4983)
وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال الزجاج أى سلك الطريق التي يلقى فيها مدين وهى قرية سميت باسم مدين بن ابراهيم عليه السلام وكان موسى قد خرج بلا ظهر وبلا زاد وكان مدين على مسافة ثمانية ايام من مصر ولم يكن فى سلطنة فرعون ولمّا ظرف فيه معنى الشرط متعلق بقوله قالَ يعنى موسى توكلا على اللّه وحسن ظن به عَسى رَبِّي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والباقون بالإسكان أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ والجملة معطوفة على قال ربّ نجّنى واضافة سواء إلى السبيل اضافة صفة إلى موصوفه والمعنى ان يهدينى السبيل السوي الّذى لا زحمة فيه ولم يكن موسى يعرف الطريق إليها فلما قال هذا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به قال المفسرون خرج موسى من مصر ولم يكن معه الأورق الأشجار والبقل حتى يرى خضرته فى بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس رض هو أول ابتلاء من اللّه لموسى عليه السّلام ..
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أى وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ أى على الماء يعنى جانب البئر أُمَّةً أى جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أى فى مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 155(1/4984)
حال من امرأتين أو صفة لهما ان تمنعان أغنامها عن الماء لئلا تختلط باغنامهم قالَ موسى للمرءتين - ما خَطْبُكُما أى ما شأنكما حيث تمنعان مواشيكما من الماء والخطب بمعنى الشان كذا فى القاموس قيل هو مصدر بمعنى المفعول يعنى ما مخطوبكما يعنى ما مطلوبكما من هذا المنع قالَتا لا نَسْقِي أغنامنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر يصدر بفتح الياء وضم الدال على انه فعل لازم بمعنى يرجع والباقون بضم الياء وكسر الدال من الافعال يعنى حتى يصرف الرعاء مواشيهم عن الماء حذف المفعول من يسقون وتذودان ولا تسقى لان الغرض هو الفعل دون المفعول الا ترى انه انما رحمهما لانهما كانتا على الزود مع الحاجة إلى السقي لاجل ضعفهما والناس على السقي ولم يرحمهما لان مزودهما غنم وسقيهم ابل وأيضا الغرض بيان ما يدل على عفتهما واحترازهما عن مزاحمة الرجال وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ السنّ لا يقدر ان يسقى مواشيه ولذلك احتجنا إلى سقى المواشي والجملة حال من فاعل لا نسقى ووجه مطابقة جوابهما سواله انه سالهما عن سبب الذور فقالتا السبب فى ذلك انا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحيى من اختلاطهم فلا بد لنا من الذور وتأخير السقي كيلا يختلط الغنم قال البغوي اختلفوا فى اسم أبيهما فقال مجاهد والضحاك والسدى والحسن هو شعيب عليه السلام وقال وهب وسعيد بن جبير هو ثيرون بن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعد ما كف بصره فدفن بين المقام والزمزم وقيل رجل ممن أمن بشعيب عليه السلام فلما سمع موسى قولهما رحمهما.(1/4985)
فَسَقى لَهُما غنمهما قال ابن عباس زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين وقيل اقتنع موسى صخرة من رأس بئر اخرى كانت بقربها لا يطيق رفعها الا الجماعة من الناس قيل عشرة انفس ويقال انه نزع دلوا واحدا ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة فجلس فى ظلها من شدة الحرّ ولمّا طال البلاء بموسى انس بالشكوى إلى مولاه ولا بأس فى الشكوى إذا كان إلى المولى دون غيره فَقالَ موسى رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قال أهل العلم اللام بمعنى إلى يقال فقير له وفقير إليه والمراد بالانزال الإعطاء
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 156(1/4986)
يقال انزل اللّه تعالى نعمه أو نعمته على الخلق أى أعطاهم إياه وذلك قد يكون بانزال الشيء نفسه كانزال القرآن وإنزال المطر وقد يكون بانزال أسبابه والهداية إليه كما فى قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ... وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً. وأنزلت هاهنا صيغة ماض أريد به المستقبل أو بمعنى قدرت انزاله الىّ والمعنى انى ما تعطينى أو قدرت إعطاءه ايّاى مِنْ خَيْرٍ أى طعام قليل أو كثير فَقِيرٌ محتاج « 1 » سائل يعنى أعطني ما شئت قليلا أو كثيرا ولتضمنه معنى السؤال عدى باللام موضع إلى قال ابن عباس سال اللّه لقمة يقيم بها صلبه قال الباقر عليه السلام لقد قالها وانه لمحتاج إلى شق تمرة وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس لقد قال موسى عليه السلام رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وهو أكرم على اللّه وقد افتقر إلى شق تمرة قال مجاهد ما ساله الا الخير وقيل معناه انى لما أنزلت أى بسبب ما أنزلت الىّ من خير أى الدين والحكمة فقير أى صرت فقيرا فى الدنيا لاجل مخالفة فرعون فى الدين فانه كان فى سعة عند فرعون والغرض منه اظهار التبهج والشكر على ذلك - قلت وجاز ان يكون المعنى وانى إلى ما أنزلت الىّ من خير أى الدين والحكمة فقير سائل منك المزيد فيه كأنَّه قال رب زدنى علما. قلت وجاز ان يكون أنزلت مشتقا من النزل بضم النون والزاء وهو ما يعدّ للنازل من الزاد يقال أنزلت فلانا أى أضفته والمعنى إلى فقير محتاج سائل لما تعدلى من الطعام ..(1/4987)
فَجاءَتْهُ عطف على محذوف تقديره فرجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس واغناهما « احنك البعرين أشدهما أكلا منه رح » حنك بطان فقال لهما أبوهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى أغنامنا فقال لاحدهما اذهبي فادعيه لى فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ الظرف حال من فاعل تمشى وجملة تمشى حال من فاعل جاءت قال البغوي قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ليست بسلفع من النساء خرّاجة دلّاجة ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على
_________
(1) وعن عمر بن الخطاب ان موسى لمّا ورد ماء مدين وجد عليه امّة من النّاس يسقون فلمّا فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها الا عشرة رجال فإذا هو بامراتين قال ما خطبكما فحدثناه فاتى الحجر فرفعه وحده ثم استقى فلم يسق الا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثناه وتولى موسى إلى الظل وقال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ إلى اخر القصة 12 منه بزد الله مضجعة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 157(1/4988)
وجهها استحياء قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أخرج ابن عساكر وكذا ذكر البغوي انه قال أبو حازم سلمة بن دينار لما سمع موسى ذلك أراد ان لا يذهب ولكن كان جائعا فلم يجد بدّا من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكانت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقها فكره موسى ان يرى ذلك منها فقال لها امشى خلفى ودلّنى على الطريق ان اخطأت ففعلت كذالك فلمّا دخل على شعيب إذا هو قد تهيّا للعشاء فقال اجلس يا شابّ فتعشّ فقال موسى أعوذ باللّه فقال شعيب ولم ذلك الست بجائع قال بلى ولكن أخاف ان يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وانا من أهل بيت لا نطلب على عمل من اعمال الاخرة عوضا من الدنيا فقال شعيب لا واللّه يا شابّ ولكن عادتى وعادة ابائى نقرئ الضيف وو نطعم الطعام فجلس موسى فاكل قلت قوله تعالى قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا صريح فى انها دعت موسى إلى إعطاء الاجر وموسى أجاب دعوتها ومشى معها ولم يكن ذلك بعد ما أراد ان لا يذهب على ما قال أبو حازم فالاية تدل على بطلان هذه القصة فانها تدل على الإنكار بعد الدعوة وأيضا هذه القصة يعارض قول موسى فى قصة الخضر لو شئت لتّخذت عليه اجرا وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما بعث اللّه نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت يا رسول اللّه قال كنت أرعى على قراريط لاهل مكة - رواه البخاري وسنذكو قوله صلى اللّه عليه وسلم ان موسى اجر نفسه ثمان سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه - والحق ان المكروه انما هو أخذ الاجر واشتراطه على عمل هو عبادة مقصودة بنفسها أو شرط لعبادة مقصودة كالاذان والامامة وتعليم القرآن لا على ما هو مباح فى نفسه يصير طاعة بنية صالحة وقد أجاز الشافعي أخذ الاجرة على الاذان ونحو ذلك وأجاز المتأخرون من الحنفية أخذ الاجرة على تعليم القرآن واللّه اعلم.(1/4989)
فَلَمَّا جاءَهُ معطوف على جمل محذوفة تقديره فلما جاءته وقالت ما ذكر جاء موسى شعيبا عليه السّلام فلمّا جاءه أى جاء موسى عنده أى عند شعيب حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وَقَصَّ موسى عليه السلام عَلَيْهِ الْقَصَصَ مصدر بمعنى المفعول فى القاموس قص اثره قصّا وقصصا تتبعه وقص الخبر اعمل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 158
معنى الآية اخبر موسى خبره اجمع من قتله القبطي وقصد فرعون قتله قالَ شعيب لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى من فرعون وقومه وانما قال ذلك لان فرعون لم يكن سلطانه على مدين وجملة نجوت تعليل لقوله لا تخف.
قالَتْ إِحْداهُما يعنى التي استدعته يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أى اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أى خير من استعملت من قوىّ على العمل وادي الامانة تعليل سائغ تجرى مجرى الدليل على انه حقيق بالاستيجار وللمبالغة فيه جعل خير اسم انّ وذكر الفعل بلفظ الماضي وان كان المعنى على الاستقبال للدلالة على انه مجرب معروف - اخبر الخطيب فى تاريخه عن أبى ذر يرفعه انه قال لها أبوها وما أعلمك بقوته وأمانته قالت اما قوته فانه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعها الا عشرة وقيل أربعون رجلا واما أمانته فانه قال لى امشى خلفى حتى لا تصف الريح بدنك - روى عن ابن مسعود قال افرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف حيث قال عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وأبو بكر رض فى عمر رض حيث جعله خليفة فى حياته.(1/4990)
قالَ شعيب عند ذلك إِنِّي « ابو جعفر - أبو محمد » قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ اسمهما صفورة وليّا فى قول شعيب الجبائي وقال ابن إسحاق صفورة وشرقا وقال غيرهما الكبرى صفراء والصغرى اصغيرا قال وهب بن منبه زوجه الكبرى وذهب أكثرهم إلى انه زوجه الصغرى واسمها صفورة وهى التي ذهبت لطلب موسى كذا روى البزار والطبراني من حديث أبى ذر مرفوعا وكذا أخرج البخاري عن انس قال البغوي روى أبو ذر مرفوعا إذا سئلت اىّ الامرأتين انكحها إياه فقل الصغرى منهما وهى التي جاءت فقالت يابت استاجره فتزوج صغراهما عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي أى تأجر نفسك منى وتكون لى أجيرا وقال الفراء ان تجعل ثوابها من تزويجها يقول العرب أجرك يأجرك أى أثابك والمعنى على ان تثيبنى من تزويجها ان ترعى غنمى ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف على التأويلين الأولين ومفعول به على تأويل الفراء بإضمار مضاف والحجج السنون واحده حجة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أى عشر سنين فى رعى الغنم فَمِنْ عِنْدِكَ أى فذلك تفضل من عندك وتبرع وليس بواجب عليك وهذا استدعاء لعقد النكاح لانفسه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 159
إذ لو كان عقدا لقال قد أنكحتك هذه تبعين إحداهما فالظاهر انه جرى بعد ذلك العقد على واحد ة معينة منهما لكن هذه الآية تدل على ان رعى الغنم ثمان سنين جعل تمام المهر أو بعضه بانضمام مال اخر معه ويدل عليه ما رواه احمد وابن ماجة عن عتبة بن المنذر قال كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ طسم حتى بلغ قصة موسى فقال ان موسى عليه السلام اجر نفسه ثمان سنين على عفة فرجه وطعام بطنه.
((1/4991)
مسئلة) : - بهذه الآية والحديث استدل الفقهاء على انه من نكح امراة على ان يرعى الزوج غنمها جاز حيث ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قصة موسى من غير بيان نفيه فى شريعتنا وبه قال أبو حنيفة رحمة اللّه فى رواية ابن سماعة عنه ولا يجوز ذلك عند أبى حنيفة فى رواية الأصل والجامع وجه قول أبى حنيفة ان الاستدلال بهذه الآية والحديث المذكور فى هذه المسألة لا يجوز الا إذا ثبت كون العتم ملكا للبنت للاجماع على ان المهر فى شريعتنا يكون للزوجة لا لوليها والغنم كانت لشعيب عليه السلام فالاجماع دل على ان هذا الحكم كان فى شريعتهم لا فى شريعتنا وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ... وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بالزام تمام العشرة أو المناقشة فى مراعات الأوقات واستيفاء الأعمال - المشقة مشتقة من الشق بمعنى الفرق فان ما يصعب عليك يشق أى يفرق عليك اعتقادك فى اطاقته ورأيك فى مزاولته سَتَجِدُنِي « ابو جعفر - أبو محمد » قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قال عمر فى حفظ الصحبة والوفاء بما قلت وهذه الجملة تأكيد لقوله ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ والمراد بالاشتراط بمشية اللّه فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته وعدم الاتكال على نفسه لا التردد فى الوعد ..(1/4992)
قالَ موسى ذلِكَ الشرط ثابت بَيْنِي وَبَيْنَكَ مما شرطتّ علّى فلك وما شرطتّ لى من تزويج إحداهما فلى أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ اىّ منصوب بقضيت وما زائدة مؤكدة للابهام والمعنى أى الأجلين أطولهما أو اقصرهما قَضَيْتُ أى وفيتك فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ جزاء لما تضمن ايّما معنى الشرط والجملة الشرطية بدل من قوله ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يعنى لا تعتدى علّى بطلب الزيادة فكما لا أطالب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 160(1/4993)
بالزيادة عند قضاء عشر سنين كذلك لا أطالب بالزيادة عند قضاء ثمان - أو فلا أكون معتديا بترك الزيادة عليه كقولك لا اثم علىّ وهو ابلغ فى اثبات الخيرة وتساوى الأجلين فى القضاء من ان يقال ان قضيت الا قصر فلا عدوان على وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من المشارطة وَكِيلٌ قال ابن عباس فيما بينى وبينك والجملة حال ممّا سبق والوكيل هو من وكل إليه الأمر واستعمل هاهنا موضع الشاهد والرقيب ولذلك عدى بعلى وروى شداد بن أوس مرفوعا بكى شعيب النبي صلى اللّه عليه واله وسلم حتى عمى فرد اللّه بصره ثم بكى حتى عمى فرد اللّه بصره فقال اللّه ما هذا البكاء ا شوقا إلى الجنة أم خوفا من النار فقال لا يا رب ولكن شوقا إلى لقائك فاوحى اللّه إليه ان يكن ذلك فهنيئا لك لقائى يا شعيب لذلك اخدمتك موسى - ولمّا تعاقدا هذا العقد بينهما امر شعيب ابنته ان تعطى موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه واختلفوا فى تلك العصا قال عكرمة خرج بها آدم من الجنة فاخذها جبرئيل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا فدفعها اليه. وقال آخرون كانت من أس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبى الا كلمته فصار من آدم إلى نوح ثم إلى ابراهيم ثم وصلت إلى شعيب وكانت عصا الأنبياء عنده فاعطاها موسى.(1/4994)
و قال السدى كانت تلك العصا أودعها ملك فى صورة رجل فامر ابنته ان تأتيه بعصا فاتته بها فلما راها شعيب قال لها ردى هذه العصاء واتيه بغيرها فالقتها وأرادت ان تأخذ غيرها ولا تقع فى يدها الا هى حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فاعطاها موسى فاخرجها موسى معه ثم ان الشيخ ندم وقال كانت وديعة فذهب فى اثره وطلب ان يرد العصا فابى موسى ان يعطيه وقال هى عصاى فرضيا ان يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فاتاهما ملك فى صورة رجل فحكم ان يطرح العصا فمن حملها فهى له فطرح فعالجها ليأخذها فلم يطقها فاخذها موسى فرفعها فتركها له الشيخ - ثم ان موسى لما أتم الاجل وسلّم شعيب ابنته قال موسى للمرءة اطلبى من أبيك ان يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها فقال شعيب لكما كلما ولدت هذا العام على غير شيتها « كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. منه رح » قيل أراد شعيب ان يجازى موسى على حسن رعيته إكراما له ووصلة لابنته فقال انى قد وهبت لك من الجدايا التي تضع اغنامى هذه السنة كل أبلق وبلقاء فاوحى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 161
اللّه إلى موسى فى المنام ان اضرب بعصاك الماء الذي فى مسقى الأغنام فضرب بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحد منها الا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب ان ذلك رزق ساقه اللّه عز وجلّ إلى موسى فامره فوفى له بشرطه وسلم الأغنام إليه - .(1/4995)
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أى أتمه وفرغ منه روى البغوي عن سعيد بن جبير قال سالنى يهودى من أهل الحيرة اىّ الأجلين قضى موسى قلت لا أدرى حتى اقدم على خبر العرب فاسئله فقدمت فسالت ابن عباس فقال قضى أكثرهما واطيبهما ان رسول اللّه إذا قال فعل - قال البغوي روى أبو ذر إذا سئلت اىّ الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما - رواه البزار وقال مجاهد لما قضى موسى الاجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا اخر فاقام عنده عشرين سنة ثم استأذنه فى العود إلى مصر فاذن له فخرج إلى مصر وَسارَ بِأَهْلِهِ حتى إذا بلغ برية قريبا من طور سيناء فى ليلة مظلمة شديدة الشتاء وأخذ امرأته الطلق آنَسَ أى ابصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ أى من جهة التي تلى الطور ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا مكانكم وجمع الضمير ان صح ان لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون باسكانه آنَسْتُ ناراً الجملة فى مقام التعليل لامكثوا لَعَلِّي قرأ الكوفيون بإسكان الياء والباقون بفتحها آتِيكُمْ مِنْها أى من النار لاجل اضاءتها الطريق بِخَبَرٍ الطريق وكان قد أخطأ الطريق أَوْ جَذْوَةٍ قرأ عاصم بفتح الجيم « و خلف - أبو محمد » وحمزة بضمها والباقون بكسرتها ثلاث لغات قال البغوي قال قتادة ومقاتل هى العود الذي قد احترق بعضها وجمعها جذى وفى القاموس الجذوة مثلثة القبسة من النار والجمرة مِنَ النَّارِ أى نتخذه من النار ومن للابتداء أو للتبعيض وقال البيضاوي هى عود غليظ سواء كان فى راسه نارا ولم يكن ولذلك بينه بقوله من النار فمن للبيان لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أى نستدفؤن بها ..
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ أى جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ أى الوادي الذي عن يمين موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ متعلق بنودى يعنى مباركة لموسى حيث
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 162(1/4996)
كلمه اللّه تعالى هناك وبعثه نبيّا وقال عطاء يريد المقدسة مِنَ الشَّجَرَةِ بدل اشتمال من الشاطئ لانها كانت نابتة على الشاطئ قال ابن مسعود كانت شجرة اخضر تبرق وقال قتادة ومقاتل والكلبي كانت عوجة وقال وهب من العليق وعن ابن عباس انها العذب أَنْ مفسرة لنودى يا مُوسى إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقال فى طه انّى انا ربّك وفى النمل انّه انا اللّه العزيز الحكيم والمقصود واحد فهو اما رواية بالمعنى أو ذكر اللّه سبحانه فى المحكي بالصفات المذكورة كلها واقتصر فى الحكاية على بعضها كما اقتصر على بعض ما تكلم به فى كل موضع فانه ذكر فى طه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً إلخ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى وقال فى النمل بورك من فى النّار ومن حولها وسبحان إلخ.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها عطف على محذوف تقديره فالقاها فصارت ثعبانا واهتزت فلمّا راها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ يعنى كانها حية صغيرة فى سرعة حركتها وشدة اضطرابها وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ أى لم يرجع فنودى يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ عن المخاوف فانّه لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ - .(1/4997)
اسْلُكْ أى ادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أى جيب قميصك تَخْرُجْ مجزوم فى جواب الأمر بَيْضاءَ حال من المفعول المحذوف لتخرج أى تخرجها بيضاء ذات شعاع مِنْ غَيْرِ سُوءٍ متعلق ببيضاء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قرأ الكوفيون غير حفص واهل الشام بضم الراء وسكون الهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء والباقون بفتحهما وكلها لغات بمعنى الخوف قال عطاء عن ابن عباس امره اللّه ان يضم يده إليه ليذهب عنه الخوف وقال ما من خائف بعد موسى الا إذا وضع يده على صدره زال خوفه وقال مجاهد كل من فزع فضم جناحيه إليه ذهب عنه الفزع والجناح اليد كلها وقيل العضد وقيل المراد من ضم الجناح السكون والتجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فانه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمان ضمهما إليه قال البغوي أى اسكن روعك واخفض عليك جانبك لان من شأن الخائف ان يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ومثله قوله تعالى وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ يريد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 163(1/4998)
رفق بهم وقال الفراء أراد بالجناح عصا معناه اضمم إليك عصاك وقيل الرهب الكم بلغة حمير قال الأصمعي سمعت بعض العرب يقول أعطني ما فى رهبك أى ما فى كمك معناه اضمم إليك يدك مخرجا من الكم لأنه تناول العصا ويده فى كمه حين قال له اللّه تعالى خُذْها وَلا تَخَفْ والظاهر عندى ان هذا عطف تفسيرى لقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ واضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أى أدخلها فى جيبك والغرض من التكرير ترتب الامرين عليه أحدهما التجلد وضبط النفس ودفع الخوف واظهار الجراءة وهو المراد بقوله اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أى يديك المبسوطتين اللتين تتقى بهما الحية فى جيبك من الرهب أى من أجل دفع الرهب وثانيهما ظهور معجزة اخرى وهو المراد بقوله تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ويدل على هذا قوله تعالى فى سورة طه وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... آيَةً أُخْرى ... فَذانِكَ اشارة إلى العصا واليد قرأ ابن كثير وابن عمرو بتشديد النون والباقون بتخفيفها بُرْهانانِ أى حجتان قال فى القاموس البرهان بالضم الحجة وبرهن عليه اقام البرهان فهو فعلال وقيل هو فعلان من البرة يقال بره الرجل إذا ابيض ويقال برهاء وبرهرهة للمرءة البيضاء وفى القاموس ابره اتى بالبرهان أو بالعجائب وغلب الناس مِنْ رَبِّكَ أى كائنان من ربك صفة لبرهانان إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف أى مرسلا بهما إلى فرعون وَمَلَائِهِ فهو صفة بعد صفة لبرهانان أو استيناف متعلق بمحذوف أى اذهب بهما إلى فرعون وملائه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فى مقام التعليل أى لانهم كانوا أحقاء بان يرسل إليهم.
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ضمير المفعول محذوف أى يقتلونى.(1/4999)
وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وانما قال لعقدة كانت فى لسانه من وضع الجمرة فى فيه فَأَرْسِلْهُ يعنى هارون مَعِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها رِدْءاً أى معينا يقال اردأته أى أعنته حال من الضمير المنصوب وهو فى الأصل اسم مايعان به كالدفء.
قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح « 1 » الدال من
_________
(1) قرأ نافع وأبو جعفر بنقل حركة الهمزة على الدال فنافع وصلا بالتنوين ووقفا بالألف بدل التنوين وأبو جعفر فى الحالين بالألف 12 أبو محمد عفا الله عنه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 164
غير همزة والباقون بإسكان الدال والهمزة وحمزة على مذهبه فى الوقف يُصَدِّقُنِي قرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة لردا أى ردا مصدقا لى وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والضمير المرفوع عائد يعنى ان أرسلته معى يصدقنى بتقرير الحجة وازاحة الشبهة وفصاحة اللسان وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه الفعل اسناده إلى المسبب وقال مقاتل الضمير المرفوع عائد إلى فرعون والمعنى ان أرسلت معى هارون يصدقنى فرعون بحسن تقرير هارون إِنِّي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قرأ الجمهور بحذف الياء وأثبتها « و يعقوب فى الحالين - أبو محمد » ورش فى الوصل فقط يكذبونى يعنى فرعون وقومه حيث لا يطاوعنى لسانى عند المحاجة.(1/5000)
قالَ اللّه تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ أى سنقويك فان شدة العضد مستعار للتقوية فان قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد بِأَخِيكَ أى بإرسال أخيك هارون معك وكان هارون يومئذ بمصر وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أى غلبة أو حجة فَلا يَصِلُونَ أى فرعون وقومه إِلَيْكُما بمكروه بِآياتِنا متعلق بمحذوف أى اذهبا باياتنا أو بنجعل يعنى نجعل لكما بايتنا أى بالمعجزات التي نعطيكما سلطانا على الأعداء أو بمعنى لا يصلون والمعنى نمتنعون أى فرعون وقومه بايتنا أى بسبب المعجزات أو قسم جوابه لا يصلون أو بيان للغالبون فى قوله تعالى أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بمعنى انه صلة لما بنيه أو صلة له على ان اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي ..
فَلَمَّا جاءَهُمْ معطوف على محذوف تقديره فجاء موسى إلى فرعون وقومه بالآيات البينات وهى العصا واليد فلما جاءهم مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا أى العصا ونحوه إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أى مختلق لم يفعل قبله مثله أو سحر يعمله موسى ثم يفتريه على اللّه أو سحر موصوف بالافتراء كسائر انواع السحر وَما سَمِعْنا بِهذا السحر أو دعاء النبوة فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ كائنا فى ايامهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي قرأ « ابو جعفر - أبو محمد » نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْلَمُ منكم بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فيعلم انى محق وأنتم مبطلون تجحدون بالحق بعد وضوح الآيات وبعد ما استيقنت به أنفسكم ظلما وعلوّا معطوف على قالوا والمراد حكاية القولين حتى ينظر فيهما فيميز
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 165(1/5001)
الصحيح من الفاسد وقرأ ابن كثير قال موسى بغير واو العطف كذلك هو فى مصاحفهم لأنه فى جواب كلامهم فهو استيناف فى جواب ما قال موسى فى جواب قولهم وَمَنْ تَكُونُ قرأ حمزة « و خلف أبو محمد » والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لكون المسند إليه مؤنثا غير حقيقى يجوز فيه الأمران لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ عطف على من جاء بالهدى يعنى اعلم بمن تكون له عاقبة محمودة فى الدار الاخرة وقال البيضاوي المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الاصلية هى الجنة لان الدنيا خلقت مزرعة للاخرة مجازا إليها والمقصود منها الثواب والعقاب انما قصد بالعرض وقال المحققون العقبى والعاقبة يطلفان على ما يعقب الحسنات من الثواب - والعقاب والعقوبة والمعاقبة يختص بما يعقب السيّئات ويترتب عليها من العذاب قال الله تعالى خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً وقال لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ وفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وقال اللّه تعالى فَحَقَّ عِقابِ وقال شديد العقاب وقال وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعنى لا يفوزون بالهدى فى الدنيا وحسن الثواب فى الاخرة.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه باله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضى الجزم بعدمه ولذلك قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ وهو كان وزير فرعون قال له فاطبخ لى الاجر قيل هو أول من اتخذ الاجر وبنى به عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا عاليا فان التنكير للتعظيم لَعَلِّي قرأ الكوفيون « و يعقوب - أبو محمد » بإسكان الياء والباقون بفتحها أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى توهم انه لو كان لكان فى السماء ويمكن الترقي إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعنى موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِين َ(1/5002)
فيما يقولون ان للارض والسماء خالقا كان فرعون دهريا لم يعتقد وجوب استناد الممكنات إلى الواجب ويزعم انه من كان سلطانا متغلبا كان الها مستحقا للعبادة - قال البغوي قال أهل التفسير جمع هامان العملة والفعلة حتى اجتمع خمسون الف بناء سوى الاتباع والاجراء ومن يطبخ الاجر والجص ومن ينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد اللّه عزّ وجلّ ان يفتنهم فيه فلمّا فرغوا منه ارتقى فرعون وقومه فامر بنشابة « النشاب النبل الواحدة بها - قاموس منه رح » فرمى بها فى السماء فردت إليه وهى متلطخة دما فقال قد قتلت اله موسى وكان
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 166
فرعون يصعده على البرازين - فبعث اللّه جبرئيل حين غروب الشمس فضربه بجناحه وقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم الف الف رجل ووقعت قطعة فى البحر وقطعة فى المغرب ولم يبق من عمل بشئ الا هلك ..
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى بغير الاستحقاق فان الاستكبار بالحق لمن لا يكون فوقه كبير ولا مثله ولا دونه وما هو الا اللّه سبحانه خالق كل ما سواه فهو المتكبر على الحقيقة المبالغ فى الكبرياء ومن ثم قال اللّه تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى فى واحد منهما قذفته فى النار رواه احمد وأبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبى هريرة وابن ماجة عن ابن عباس ورواه الحاكم بسند صحيح عن أبى هريرة بلفظ الكبرياء ردائى فمن نازعنى فى ردائى قصمته - ورواه سمويه عن أبى سعد وابى هريرة بلفظ الكبرياء ردائى والعزّ إزاري فمن نازعنى فى شىء منهما عذبته وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ قرأ نافع ويعقوب وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم على البناء للفاعل من المجرد والباقون بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول من الإرجاع.(1/5003)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ أى القيناهم فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ احذر قومك عن مثلها.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قدوة لاهل الضلال بالحمل على الإضلال أو قدوة ورؤساء فى الدنيا بإعطاء المال والجاه يَدْعُونَ الناس إِلَى النَّارِ إلى موجباتها من الكفر والمعاصي جملة يدعون صفة لائمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ يعنى لا يدفع أحد عنهم عذاب اللّه تعالى عطف على يدعون.
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طردا عن الرحمة أو لعن اللاعنين يلعنهم اللّه والملائكة والمؤمنون عطف على جعلنا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ متعلق بمقبوحين هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أى المبعدين الملعونين قال أبو عبيدة من المهلكين وعن ابن عباس من المشوهين لسواد الوجه وزرقة العين يقال قبحه اللّه وكذا يقال شوهه اللّه إذا جعله قبيحا ويقال قبحه قبحا وقبوحا إذا أبعده من كل خير - .
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية جواب قسم محذوف مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا ما مصدرية الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 167
بَصائِرَ لِلنَّاسِ حال من الكتاب أى حال كونه موجبا للبصائر جمع بصيرة وهى نور فى القلوب يبصر به قلوبهم حقائق الأشياء من الواجب والممكن على ما هى عليه بقدر الطاقة البشرية ويميز الحق من الباطل والرشد من الغى وَهُدىً يهتدوا به إلى طريق النجاة وما فيه صلاح المعاش والمعاد وَرَحْمَةً أى حال كون الكتاب سبيلا لنيل رحمة اللّه ان جعلوا بها أو حال كونه مقتضى لرحمة اللّه الازلية عليهم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أى لكى يتذكروا أو يكونوا على حال يرجى منهم التذكر فان التذكر والخشية من ثمرات العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ - .(1/5004)
وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ من مقام موسى وهو الطور قال قتادة والسدى أى بجانب الجبل الغربي وقال الكلبي بجانب الوادي الغربي عنوا انه ليس من باب اضافة الصفة إلى الموصوف بل الموصوف محذوف قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعنى ما كنت يا محمد حاضرا إِذْ قَضَيْنا أى أوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ بالرسالة إلى فرعون وقومه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحى إليه أو على الوحى إليه وهم السبعون الذين اختاره من قومه لميقات ربه - يعنى اخبارك بقصة موسى اخبار بالغيب لا يمكن الاطلاع عليه الا بالوحى فهو معجزة لك وبرهان على دعواك النبوة ولذلك استدرك بقوله.
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أى رجالا مقارنين فى كل عصر أو أهل قرون بحذف المضاف ان كان القرن بمعنى الزمان فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعنى ولكنا أوحينا إليك لبعد الفترة واندراس العلوم وتغير الشرائع والاضطراب والتعارض فى الاخبار لما انا انشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد ووقع التكاذب والتخالف فيما بينهم فحذف المستدرك وأقيم سببه مقامه - وقال البغوي ان اللّه قد عهد إلى موسى وقومه عهودا فى محمّد صلى الله عليه وسلم والايمان به فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها فمعنى الآية ما كنت حاضرا حين عهدنا إلى موسى فى أمرك ولم يكن ذلك باستدعائك ولكنا فعلنا ذلك تفضلا ابتدائيّا حسما لاعتذار من خالفك إذا نشأنا قرونا فتطاول عليهم نظيره قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ إلى قوله أَنْ تَقُولُوا ... إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ وَما كُنْتَ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 168
ثاوِياً(1/5005)
اى مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كمقام موسى وشعيب فيهم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تذكرهم بالوعد والوعيد خبر ثان لكنت أو حال من الضمير فى ثاويا قال مقاتل يعنى لم تشهد فى أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك إلى أهل مكة وسائر الناس بالمعجزات واخبار المغيبات ولو لا ذلك لما تلوت قصصهم على هؤلاء.(1/5006)
وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أى بناحية الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى إِذْ نادَيْنا موسى ان خذ الكتاب بقوّة فالمراد بهذا وقت إعطائه التوراة وبالأول وقت استنبائه وقال وهب قال موسى يا رب أرني محمدا صلى اللّه عليه وسلم قال انك لن تصل إلى ذلك وان شئت ناديت أمته وأسمعتك صوقهم قال نعم يا رب قال اللّه تعالى يا أمة محمد فاجابوا من أصلاب ابائهم وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير نادى يا أمة محمد ص قد أجبتكم قبل ان تدعونى وأعطيتكم قبل ان تسئلونى وروى عن ابن عباس قال اللّه تعالى يا أمة محمد فاجابوا من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات لبيك اللّهم لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لك لا شريك لك قال الله تعالى يا أمة احمد ان رحمتى سبقت غضبى وعفوى عقابى قد أعطيتكم من قبل ان تسئلونى وقد أجبتكم من قبل ان تدعونى وقد غفرت لكم من قبل ان تعصونى من جاء يوم القيامة بشهادة ان لا اله الّا اللّه وان محمدا عبدى ورسولى دخل الجنة وان كان ذنوبه اكثر من زبد البحر وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أى لكن رحمناك رحمة من ربّك بإرسالك والوحى إليك واطلاعك على المغيبات أو أرسلناك أو علمناك رحمة من ربك لِتُنْذِرَ متعلق بمحذوف وهو الفعل الناصب لقوله تعالى رحمة يعنى رحمناك وأرسلناك أو علمنك لتنذر قَوْماً ما أَتاهُمْ صفة لقوم مِنْ نَذِيرٍ فاعل أتاهم بزيادة من مِنْ قَبْلِكَ والمراد بالقوم أهل مكة لم يبعث نبى بمكة بعد إسماعيل عليه السّلام وكانت دعوة موسى وعيسى وغيرهما فى بنى إسرائيل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أى لكى يتذكروا ويتعظوا متعلق بقوله لتنذر.(1/5007)
وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أى عقوبة ونقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى بسبب ما أتوا به من الكفر والمعاصي ولما كان اكثر الأعمال بتزاول الأيدي نسبت الأعمال إلى الأيدي تغليبا وان كان بعضها من افعال القلوب فَيَقُولُوا منصوب لكونه معطوفا على تصيبهم والعطف بالفاء للسببية المنبهة بان يكون سببا لانتفاء ما يجاب به لو لا الامتناعية وانه لا يصدر عنهم هذا القول
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 169
الا بعد ما أصابهم العقوبة رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ منصوب فى جواب لو لا التحضيضية تشبيها له بالأمر تقديره هلا كان منك إرسال رسول إلينا فاتباعا منا آياتِكَ وَنَكُونَ عطف على نتبع مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وجواب لو لا الامتناعية محذوفة والمعنى لو لا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين لما بعثناك إليهم رسولا وعاقبناهم بكفرهم من غير إنذار سابق على العقاب ولكن بعثناك إليهم قطعا لاعتذارهم وإلزاما للحجة عليهم نظير قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بعد الرّسل.(1/5008)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعنى القرآن أو محمدا صلى الله عليه واله وسلم رسولا مصدقا بالكتاب المعجز مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعنى كفار مكة تعنتا واقتراحا لَوْ لا هلا أُوتِيَ محمّد صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الآيات كالعصا واليد البيضا أو الكتاب جملة واحدة وهذه الجملة معطوفة على مضمون جملة سابقة ولكن بعثناك إليهم قطعا لاعتذارهم وإلزاما للحجة فلمّا جاءهم الحق إلخ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ القرآن الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات والواو للعطف على محذوف تقديره الم يكذبوا موسى ولم يكفروا بما اوتى موسى يعنى قد كذّبوا موسى وكفروا بما اوتى موسى من قبل هذا فكيف يطلبون منك مثل ما اوتى موسى يعنى ان أبناء جنسهم فى الرأى والمذهب وهم كفرة زمان موسى كفروا بما اوتى موسى وقال الكلبي لما دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل مكة إلى الإسلام بعثوا رجالا إلى أحبار اليهود بالمدينة فسالوهم عن امر محمد صلى اللّه عليه وسلم فاخبروهم ان نعته فى كتابهم التورية فرجعوا فاخبروهم بقول اليهود فكفروا يعنى أهل مكة بموسى وبما اوتى به قالوا ساحران كذا قرأ أهل الحجاز والبصرة والشام على وزن اسم الفاعل يعنون محمدا وموسى صلى اللّه عليهما وسلم وقرأ الكوفيون سِحْرانِ بكسر السين واسكان الحاء على المصدر على حذف المضاف أو جعلهما سحرين مبالغة أو عنوا بالسحرين التوراة والفرقان وعلى قول غير الكلبي قالوا يعنى كفرة زمان موسى ساحران يعنون موسى وهارون تَظاهَرا أى تعاونا يعنى محمدا وموسى بتوافق الكتابين أو موسى وهارون وَقالُوا أى كفار مكة أو كفار زمن معسى إِنَّا بِكُلٍّ أى بكل منهما أو بكل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 170
واحد من الأنبياء كافِرُونَ والظاهر قول الكلبي على ما يقتضيه السياق وبدليل قوله تعالى - .(1/5009)
قُلْ يا محمد فَأْتُوا يا أهل مكة والفاء فى جواب شرط مقدر يعنى ان كفرتم بالكتابين القرآن والتورية وقلتم انهما سحران فأتوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أى مما اوتى محمد وموسى من القرآن والتورية واضمارهما لدلالة المعنى أَتَّبِعْهُ مجزوم فى جواب الأمر يعنى ان تأتوا باهدى منهما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعواكم انهما سحران ومن جاءا بهما ساحران وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله اعنى فأتوا وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ومجئى حرف الشك التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الاهدى حذف المفعول للعلم به ولان فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدى إليه حذف الدعاء غالبا والمعنى انه ان لم يأتوا بكتاب اهدى فَاعْلَمْ انهم الزموا ولم يبق لهم حجة وأَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ إذ لو اتبعوا حجة لا توابها عند الحاجة إليها وَمَنْ أَضَلُّ يعنى لا أحد أضل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ فى موضع حال للتوكيد أو التقييد فان هواء النفس قد يوافق الحق إذا كمل ايمان المرء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به - رواه البغوي فى شرح السنة عن عبد اللّه بن عمرو وقال النووي حديث صحيح إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك فى اتباع الهوى - .(1/5010)
وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال الفراء يعنى أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا قال البيضاوي يعنى فى الانزال ليتصل التذكير أو فى النظم ليتقرر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر قال فى المدارك التوصيل تكثير الوصل وتكريره وقال ابن عباس معناه بيّنا قلت يعنى بيّن بعض الكتاب ببعض وقال قتادة وصّل لهم القول فى هذا القرآن كيف صنع بمن مضى وقال مقاتل بيّنا لكفار مكة بما فى القرآن من اخبار الأمم الماضية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد وصّلنا لهم خبر الدنيا بخبر الاخرة حتى كانهم عاينوا الاخرة فى الدنيا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أى لكى يتذكرون
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 171
متعلق بوصّلنا.
اخرج ابن جرير والطبراني عن رفاعة القرظي قال نزلت وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ فى عشرة انا أحدهم - واخرج ابن جرير عن على بن رفاعة قال خرج عشرة رهط من أهل الكتاب منهم رفاعة يعنى أباه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فامنوا قاوذوا فنزلت.(1/5011)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أى من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ أخرج ابن جرير عن قتادة قال كنا نحدث انها نزلت فى أناس من أهل الكتاب كانوا على الحق حتى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فامنوا به منهم عثمان وعبد اللّه بن سلام رض وكذا ذكر البغوي وكذا أخرج ابن مردويه عن ابن عباس واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس ان أربعين من اصحاب النجاشي قدموا فشهدوا وقعة خيبر فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم - فلمّا راوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول اللّه انّا أهل ميسرة فائذن لنا نجئى باموالنا نواسى بها المسلمين فانزل اللّه فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - واخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال لما اتى جعفر وأصحابه النجاشي أنزلهم واحسن إليهم فلما أرادوا ان يرجعوا قال من أمن من أهل مملكته ايذن لنا فلنخدم هؤلاء فى البحر ونأتى هذا النبي فنحدث به عهدا فانطلقوا وقدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشهدوا معه أحدا وحنينا وخيبر ولم يصب أحد منهم فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم ايذن لنا فلنأت ارضنا فان لنا أموالا فتجئ بها فننفقها على المهاجرين فانّا نرى بهم جهدا فاذن لهم فانطلقوا فجاءوا باموالهم وأنفقوها على المهاجرين فانزل الله فيهم الآية - وذكر البغوي عن سعيد بن جبير نحوه قال فانزل الله فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وذكر البغوي عن ابن عباس ان الآية نزلت فى ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام - ثم وصفهم اللّه تعالى فقال.(1/5012)
وَ إِذا يُتْلى يعنى القرآن عَلَيْهِمْ الظرف متعلق بقوله قالُوا آمَنَّا بِهِ أى بانه كلام اللّه عطف على يؤمنون إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استيناف لما أوجب إيمانه إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أى من قبل نزوله مُسْلِمِينَ مخلصين للّه فى التوحيد مؤمنين
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 172
بمحمد صلى اللّه عليه وسلم انه نبى وذلك لما بشر به عيسى عليه السلام حيث قال مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وكان ذكره فى التورية والإنجيل. وهذا استيناف اخر للدلالة على ان ايمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وانما هو امر تقادم عهده وجاز ان يكون هذه الجملة بيان لقوله آمَنَّا فانه يحتمل البعيد والقريب وبهذه الآية حمل على البعيد واندفع احتمال القريب ..(1/5013)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على ايمانهم بكتابهم وبالقران قبل نزوله بشهادة نبيهم وكتابهم ومرة على ايمانهم بالقران بعد نزوله بِما صَبَرُوا أى بصبرهم وبقائهم على الايمان بالقران بعد نزوله كما كان قبل نزوله بخلاف غيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون به قبل نزوله ويستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا ولم يصبروا على الايمان روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد والعبد المملوك إذا ادى حق اللّه وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطاها فادّبها فاحسن تأديبها وعلمها فاحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس يدفعون بشهادة ان لا اله الا اللّه الشرك وقال مقاتل يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو قلت وجاز ان يقال يدفعون عداوة من عاداهم بالإحسان إليهم فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وقيل معناه يدفعون بالطاعة المعصية قال اللّه تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم اتبع الحسنة السيئة يمحها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فى سبيل الخير.(1/5014)
وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أى القبي ح من القول أَعْرَضُوا عَنْهُ قال البغوي كان المشركون يسبون مؤمنى أهل الكتاب ويقولون (تبّا لكم) تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أى لنا ديننا ولكم دينكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ليس المراد التحيّة ولكنه سلام المتاركة معناه سلمتم منا لا نردكم بالشتم والقبيح لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أى لا نطلب دين الجاهلين ولا نجب دينكم الذي أنتم عليه قيل معناه لا نطلب صحبة الجاهلين
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 173
و قيل معناه لا نريد ان نكون من الجاهلين يعنون انه ان صدر منا شتمكم وسبّكم فى مقابلة ما صدر منكم شتمنا فنكون حينئذ مثلكم ونحن لا نريد ذلك نعوذ باللّه ان نكون من الجاهلين والجملة الشرطية اعنى إذا سمعوا اللّغو إلى آخره معطوف على قوله وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قال البغوي وهذا كان قبل ان يؤمر المسلمون بالقتال قلت وهذا القول من البغوي لا يطابق ما ذكر من سبب نزول الآية فان الآية نزلت امّا فى عبد اللّه بن سلام وأصحابه وكان إسلامهم بعد الهجرة واما فى اصحاب النجاشي حين قدموا مع جعفر بن أبى طالب وذلك فى غزوة خيبر سنة ست من الهجرة واما فى أربعين من أهل نجران وثمانية من أهل الشام وكل ذلك كان بعد الهجرة بعد ما أمرنا بالقتال واللّه اعلم - أخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله وسلم لعمه أبى طالب قل لا اله الا اللّه اشهد لك يوم القيامة قال لو لا تعير فى نساء قريش يقلن انه حمله على ذلك الجزع لا قررت بها عينك فانزل اللّه تعالى.(1/5015)
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته أو من أحببته لقرابته وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قال مجاهد ومقاتل بمن قدر له الهدى واخرج النسائي وابن عساكر فى تاريخ دمشق بسند جيد عن أبى سعيد بن رافع قال سالت ابن عمر عن هذه الآية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ فى أبى جهل وابى طالب قال نعم واخرج الشيخان والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد اللّه بن أبى امية بن المشيرة فقال أى عم قل لا اله الا اللّه كلمة أحاجّ لك بها عند اللّه فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى امية أ ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد انه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب اخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب وابى ان يقول لا اله الا اللّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاستغفرن لك ما لم انه عنك فانزل اللّه ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية وانزل اللّه فى أبى طالب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 174
اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس ان أناسا من قريش قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان نتبعك يتخطفنا الناس فانزل اللّه.(1/5016)
وَ قالُوا يعنى أهل مكه عطف على قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى وما بينها اعتراضات إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا قال البغوي نزلت فى الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف انه قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم انا لنعلم ان الّذى تقول حق ولكنا ان اتبعناك خفنا ان تخرجنا العرب من ارض مكة وهو معنى قوله نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا - كذا أخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس واخرج النسائي عن ابن عباس ان الحارث بن عامر بن نوفل الّذى قال ذلك والاختطاف الانتزاع بسرعة فرد الله عليهم ذلك وقال أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم نسكنهم بمكة ولم نمكّن لّهم حَرَماً آمِناً وذلك ان العرب فى الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وكان أهل مكة امنون حيث كانوا لحرمة الحرم ومن المعروف انه كان يأمن فيه الظباء من الدّياب والحمام من الحداة يُجْبى إِلَيْهِ قرأ نافع ويعقوب « و أبو جعفر أبو محمد » بالتاء الفوقانية لاجل الثمرات والباقون بالياء التحتانية للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ولان التأنيث غير حقيقى أى يجلب ويجمع إليه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ من كل جانب رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الا يوثان فكيف يعرضهم للتخويف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جهلة لا يَعْلَمُونَ لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا وقيل انه متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا أى قليل منهم يتدبرون فيعلمون ان ذلك رزق من عند اللّه إذ لو علموا لما خافوا غيره وانتصاب رزقا على المصدر من معنى يجبى فان معناه يرزق رزقا أو على الحال من الثمرات لتخصيصها بالاضافة ثم بيّن ان الأمر بالعكس فان الواجب ان يخافوا من بأس اللّه على ما هو عليه من الكفر والمعاصي بقوله.(1/5017)
وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أى من أهل قرية كانت حالهم كحالكم بَطِرَتْ أى أشرت وطغت وصفت القرية بوصف أهلها يعنى طغى أهلها بنعم اللّه ولم يشكروها قال عطاء عاشوا فى البطر فاكلوا رزق اللّه وعصوه وعبدوا الأصنام مَعِيشَتَها منصوب على الظرفية يعنى طغت مدة معيشتها فدمّر اللّه وخرّب ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خربة وهى حجر وقرى قوم لوط تعليل لما سبق من إهلاك القرى لَمْ تُسْكَنْ حال من مساكنهم والعامل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 175
فيه معنى الاشارة مِنْ بَعْدِهِمْ أى بعد ما اهلكوا إِلَّا قَلِيلًا منصوب على المصدرية أو الظرفية يعنى الا سكونا قليلا أو زمانا قليلا قال ابن عباس لم يسكنها الا مسافرا ومار طريقا يوما أو ساعة وقيل معناه لم يبق من يسكنها الا قليلا من شوم معاصيهم وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ إذ لم يخلفهم أحد يتصرف بصرفهم فى ديارهم وسائر متصرفاتهم.
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ أى لم يكن عادته إهلاك الْقُرى الكافر حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها يعنى أكبرها وأعظمها رَسُولًا ينذرهم خص الأعظم ببعثة الرسل فيها لان الرسل يبعث إلى الاشراف فان الاتباع يتبعهم فى الايمان والكفر. ومن أجل ذلك كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل اسلم تسلم والا فعليك اثم الأريسين والاشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هى أم ما حولها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل يخبرهم ان العذاب نازل بهم ان لم يؤمنوا فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو بالكفر.(1/5018)
وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ من زخارف الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها تتمتعون وتتزينون بها مدة حياتكم المنقضية وَما عِنْدَ اللَّهِ من الجنة ومراتب قربه تعالى خَيْرٌ فى نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة وَأَبْقى لأنه أبدى أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للانكار والفاء للعطف والتعقيب على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تعقلون.
أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ عطف على قوله وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى والهمزة لانكار تعقيب المعطوف للمعطوف عليه يعنى ابعد هذا التفاوت الجلى جعلتم من وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أى بالجنة فان حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ أى مدركه لا محالة لامتناع الخلف فى وعد اللّه سبحانه ولذلك عطف بالفاء المفيدة للسببية كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا المشوب بالآلام المكدر بالمتاعب المستعقب للتحسر على الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب أو العذاب وثم للتراخى فى الزمان أو الرتبة قرأ نافع « 1 » وابن عامر فى رواية والكسائي ثمّ هو بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل قال قتادة يعنى المؤمن والكافر لا يستويان بل المؤمن احسن حالا قال البغوي وكذا أخرج ابن جرير انه قال مجاهد نزلت فى النبي صلى اللّه
_________
(1) والصحيح قرأ قالون عن نافع والكسائي وأبو جعفر بخلف عنه ثمّ هو بسكون الهاء إلخ أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 176
عليه وسلم وابى جهل. واخرج من وجعه اخر عنه انها نزلت فى حمزة وابى جهل وقال البغوي قال مقاتل ومحمد بن كعب نزلت فى حمزة أو على وفى أبى أجهل وقيل نزلت فى عمار ووليد بن المغيرة.(1/5019)
وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر فَيَقُولُ الله سبحانه للمشركين أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أى تزعمونهم فى الدنيا شركائى حذف مفعولى تزعمون لدلالة الكلام عليه قلت لعل المراد بالشركاء رؤساء الكفرة الذين ترك الاتباع عبادة اللّه واختاروا عبادتهم واتباعهم وتسميتهم شركاء على سبيل الاستهزاء.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ أى وجب عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ لوجوب مقتضاه والمراد بالقول لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وغيره من آيات الوعيد يعنى قال رؤساء الكفار رَبَّنا هؤُلاءِ أى الاتباع مبتدا خبره الَّذِينَ أَغْوَيْنا الضمير المنصوب العائد إلى الموصول محذوف يعنى أغويناهم أَغْوَيْناهُمْ فغووا كَما غَوَيْنا الكاف صفة لمصدر فعل محذوف دل عليه أغويناهم تقديره فغووا غيّا كما غوينا أى مثل ما غوينا وهو استيناف للدلالة على انهم غووا باختيارهم مثل ما غوينا باختيارنا وانا لم نفعل بهم الا وسوسة وتسويلا وتسويلنا وان كان داعيا لهم إلى الكفر فقد كان دعاء اللّه تعالى لهم باقامة الحجج وبعث الرسل وإنزال الكتب اولى بالاتباع من تسويلنا وهذا كقوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الآية ويجوز ان يكون الموصول صفة وأغويناهم الخبر لاجل ما اتصل به من المقدر والملفوظ أعتى فغووا كما غوينا فافاد زيادة على الصفة وهو وان كان فضلة لكنه صار من اللوازم تَبَرَّأْنا منهم ومما اختاروا من الكفر هوى منهم إِلَيْكَ متعلق بتبرّأنا بتضمين معنى التوجه يعنى تبرأنا منهم متوجهين إليك ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أى ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا أى تبرأنا من عبادتهم إيانا.(1/5020)
وَ قِيلَ يعنى للكفار عطف على قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ... ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ لتخلصكم من العذاب والمراد بالشركاء هاهنا الأصنام ونحوها المعبودون بالباطل فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة أو لاجل ما كانوا يزعمون انهم يشفعون عند اللّه فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الاجابة والنصرة وَرَأَوُا يعنى الكفار الْعَذابَ لانفسهم ولالهتهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ جواب لو محذوف تقديره لو انهم يهتدون فى الدنيا لم يروا العذاب والأظهر ان لو للتمنى أى تمنوا انهم كانوا مهتدين.
وَيَوْمَ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 177
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
عطف على الأول فانه تعالى يسئلهم اولا سوال توبيخ عن اشراكهم وثانيا عن تكذيبهم الرسل.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أى فصارت الانباء عليهم كالعميان لا يهتدى إليهم وأصله فعموا عن الألباء ا لكنه عكس مبالغة ودلالة على ان ما يحضر الدهر انما يغيض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن حيلة إلى استحضاره والمراد بالانباء الاعذار فى تكذيب الرسل وقال مجاهد الحجج والمعنى انهم لا يجيبون بشئ ولا يأتون بحجة أم لم يكن عندهم حجة يَوْمَئِذٍ تأكيد لقوله يَوْمَ يُنادِيهِمْ قال البيضاوي وإذا كانت الرسل ينتعنون فى الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم اللّه تعالى فما ظنك بالكفار وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أى لا يسئل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة أو العلم بانه مثله.
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أى جمع بين الايمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند اللّه وعسى تحقيق على عادة الكرام أو ترجى من النائب والمعنى فليتوقع للفلاح ..(1/5021)
وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ من يشاء لما يشاء فاختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم للنبوة من بين سائر الناس قال البغوي نزلت جوابا للمشركين حين قالوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنون الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الخيرة اسم من الاختيار قائم مقام المصدر ويطلق بمعنى المفعول أيضا يقال محمد خيرة اللّه من خلقه ومعنى الآية ليس للعباد الاختيار فى ذلك حتى يقولوا لو لا أرسل إلينا فلان فهذا بمنزلة التأكيد نما سبق ولذلك خلا من العاطف ويؤيده سياق القصة انها نزلت جوابا لما قال المشركون ويناسبه قوله تعالى سُبْحانَ اللَّهِ أى تنزيها له ان ينازعه أحدا ويزاحم اختياره اختيار غيره وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أى عن اشراكهم أو مشاركة ما يشركونه به وقيل ما فى قوله ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ موصولة فى محل النصب على المفعولية ليختار والعائد محذوف والمعنى وربك يختار ما كان لهم أى للعباد فيه الخيرة أى الخير والصلاح يعنى كان إرسال محمد صلى اللّه عليه واله وسلم لهم خيرا دون إرسال غيره وعلى هذا التأويل مع ما فيه من التكلف لا حجة المعتزلة على وجوب الأصلح على اللّه تعالى بل المراد انه يفعل بفصلا ما هو خير لهم غالبا وقيل ما كان لهم الخيرة نفى لاختيار العباد رأسا ودليل على كون العباد مجبورين فى أفعالهم وهذا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 178
ايضا باطل إذ لو كان المراد ذلك لنكر الخيرة ولم يورد بلام العهد المشير إلى اختيار معين وهو اختيار الرسل كما يدل عليه سبب النزول.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ كعداوة الرسول وحقده وَما يُعْلِنُونَ كالطعن فيه.(1/5022)
وَ هُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحقها غيره تقرير لما سبق لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لأنه الجميل على الإطلاق وجمال غيره مستعار منه هو المولى للنعم كلها عاجلها وأجلها يحمده المؤمنون فى الاخرة كما حمدوه فى الدنيا يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده لاجل التكليف وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فى كل شىء قال ابن عباس حكمه لاهل طاعته بالمغفرة ولاهل معصيته بالشقاء وَإِلَيْهِ أى إلى حكمه تُرْجَعُونَ بالنشور بعد الموت.
قُلْ يا محمد ص أَرَأَيْتُمْ أخبروني يا أهل مكة إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أى دائما من السرود وهو المبالغة والميم زائدة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا تطلع عليكم الشمس مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ تطلبون فيه المعيشة ومن للاستفهام للانكار والمعنى لا اله غير اللّه يأتيكم به قال البيضاوي كان حقه هل اله فذكر بمن على زعمهم ان غيره الهة أَفَلا تَسْمَعُونَ موعظتى سماع تدبرو استبصار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً بإسكان الشمس فى وسط السّماء إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة عن تعب الاشغال أَفَلا تُبْصِرُونَ ايتنا ولعله لم يصف الضياء بما يقابل السكون لان الضوء نعمة بذاته مقصودة بنفسه ولا كذلك الليل ولان منافع اليوم اكثر من ان يذكر ولذلك قرن به أ فلا تسمعون وبالليل أ فلا تبصرون لان استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.(1/5023)
وَ مِنْ رَحْمَتِهِ من للسببية متعلق بجعل لكم قدم عليه للحصر جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أى فى الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أى من منافع الدنيا والاخرة فى النهار فهو لف ونشر مرتب وقال الزجاج يجوز ان يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضله فيهما قلت وعلى هذا انما ذكر بالليل والنهار ولم يقل وجعل لكم الزمان لتغائر أنحاء السكون والابتغاء فيهما وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أى لكى تشكروا على نعماء الله تعالى.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 179
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم يشفعون لكم وينجركم من عذاب اللّه تقريع بعد تقريع للاشعار بانه لا شىء اجلب لغضب اللّه من الإشراك به وكان الأول توبيخ على اتباعهم رؤساءهم وترك عبادة اللّه باتباعهم وهذا بيان لفساد رأيهم ورجائهم الشفاعة من الحجارة ونحوها.
وَنَزَعْنا أى أخرجنا عطف على يقول على سبيل الالتفات أو اعتراض مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبيهم فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أى حجتكم على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ فى الالوهية لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم غيبة الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ فى الدنيا من الباطل - .(1/5024)
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قال البغوي كان ابن عمه لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السّلام وموسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب عليهما السلام كذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريح - وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى ع كان أخا عمران وهما ابنا يصهر بن قاهت ولم يكن فى بنى إسرائيل اقرأ للتورية من قارون ولكنه نافق كما نافق السامري وقال جلال الدين المحلى كان ابن عمه وابن خالته فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل كان عاملا لفرعون على بنى إسرائيل فكان يبغى عليهم أى يظلمهم وقال الضحاك بغى عليهم بالشرك وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو وقيل معناه حسدهم وطلب الفضل عليهم واخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن قتادة قال كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه وكان قطع البحر مع بنى إسرائيل وكان يسمى « 1 » من حسن صوته بالتوراة لكن عدو اللّه نافق كما نافق السامرىّ ما هلكه اللّه ليغيه وانما بغى الكثرة ماله ولده - لكن قوله تعالى فى سورة المؤمن وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يدل على ان قارون لم يؤمن بموسى قط لا طاهرا ولا باطنا - قال شهر بن حوشب زاد قارون فى طول ثيابه شبرا عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا ينظر اللّه إلى من جرثوبه خيلأ - رواه البغوي وروى مسلم عن أبى هريرة عنه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه لا ينظر إلى من يجر رداءه بطرا وروى احمد والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعا قال ان اللّه لا ينظر إلى مسبل إزاره وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أى الأموال المدخرة ما إِنَّ مَفاتِحَهُ أى مفاتح صناديقه جمع مفتح بكسر الميم وهى التي يفتح بها وهذا قول قتادة ومجاهد وجماعة وقيل مفاتحة أى خزائنه
_________
(1) هكذا البياض في الأصل.(1/5025)
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 180
كما قال اللّه تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أى خزائنه وقياس واحدها الفتح لكن على هذا التأويل قوله تعالى لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ لا يدل على كثرة خزائنه غاية الكثرة فان ما يحمله أربعون من الرجال لا يبلغ غالبا اربع مائة الف درهم.(1/5026)
و قال جرير عن منصور عن خيثمة قال وجدت فى الإنجيل مفاتح خزائن قارون وقرستين بغلا ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز ويقال ان قارون اين ما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلمّا ثقلت عليه جعل من خشب فثقلت عليه فجعلت من جلود البقر على طول إصبع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا - وهذه الروايات لا يساعدها القرآن إذا لعصبة لا يطلق الا على الرجال دون البغال قال البغوي واختلفوا فى العصبة قال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة إلى العشرة وقال قتادة ما بين العشرة إلى الأربعين وكذا فى القاموس وقيل سبعون وروى عن ابن عباس رض انه قال كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال - ومعنى قوله لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أى تنتقلهم وتميل بهم إذا حملوها لثقلها وقال أبو عبيدة هذا من المقلوب تقديره ما ان العصبة لتنوء بها يقال ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا والجملة خبر ان وهى مع جملتها صلة ما وهى ثانى مفعولى اتيناه ومن الكنوز حال مقدم عليه إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ ظرف لتنوء لا تَفْرَحْ الفرح السرور وانكشاف الصدر بوجدان المرغوب والفرح المنهي عنه هو البطر بمعنى الطغيان والتكبر عن قبول الحق عند ما يرى نفسه غنيّا قال اللّه تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى فى القاموس الفرح السرور والنظر وفسر البغوي لا تفرح بقوله لا تبطر ولا مأشر ولا تمرح وانما ذلك لان الفرح بمعنى السرور عند وجدان المرغوب امر طبغى لا اختيار للعبد فيه فلا يتصور عنه النهى.(1/5027)
و قال البيضاوي والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه يحبسه حبها والرضاء بها والذهول عن ذهابها فان العلم بان ما فيها من اللذات مفارقة لا فحاله توجب التبرج ولذلك قال اللّه تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وعلل النهى هاهنا بكونه مانعا من محبة اللّه إيانا فقال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ بزخارف الدنيا المتكبرين بها غير شاكرين عليها قال بعض المحققين قد ورد ذم الفرح فى مواضع عديدة من القرآن قال اللّه تعالى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 181
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
و قال وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وقال ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بغير الحق وقال حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا - ولم يرخص فى الفرح الا فى قوله تعالى فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. وعندى ان الفرح فى الدنيا بما يفيد فى الاخرة محمود مطلقا ومامور به فى قوله تعالى فَبِذلِكَ فليفرحوا والفرح بلذّات الدنيا ان كان مقرونا بالشكر فمحمود أيضا حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر كالصائم الصابر. والفرح ان كان مقرونا بالطغيان والكفران فمذموم حقّا فالمدح والذم انما يتوجه إلى ما يتعلق به الفرح أو ما معه من الشكر أو الكفران واما نفس الفرح والسرور بدرك المرغوب فامر طبعى لا اختيار للعبد فيه فلا يتوجه إليه التكليف غير انه إذا أحب العبد اللّه صادقا لا يفرح الا بما يرضى به ربه ولا يحب اللّه الا من يحبه فلا يحب اللّه من يفرح بمرغوبه من حيث هو مرغوبه لا من حيث هو مرغوب ربه واللّه اعلم - .(1/5028)
وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من نعماء الدنيا الدَّارَ الْآخِرَةَ يعنى الجنة بان تقوم بشكرها وتنفقها فى مرضاة اللّه وَلا تَنْسَ أى لا تترك ترك المنسي نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا يعنى ما تحصل بها آخرتك فان حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا ان يعمل للاخرة فان الدنيا مزرعة الاخرة كذا قال مجاهد وابن زيد وقال السدى نصيبك من الدنيا الصدقة وصلة الرحم وقال على رضى اللّه عنه لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك ان تطلب الاخرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك - رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح واحمد فى الزهد وروى البغوي وابن حبان وأبو نعيم فى الحلية عن عمر بن ميمون الأودي مرسلا نحوه وقال الحسن أمران يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه يعنى ما يكفيه وقال منصور بن زاذان لا تنس نصيبك من الدنيا قوتك وقوة أهلك وَأَحْسِنْ إلى عباد اللّه كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أو احسن عبادة اللّه بدوام الذكر والشكر والطاعة كما احسن اللّه إليك بانعام متواتر غير منقطع بحيث لا تعدو لا تحصى وَلا تَبْغِ أى لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ قال البيضاوي نهى له مما كان عليه من الظلم والبغي وقال البغوي كل من عصى الله فقد طلب الفساد فى الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بسوء أعمالهم ..
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 182(1/5029)
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ الظرف منصوب على الحال من الضمير المرفوع عِنْدِي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وابن كثير بخلاف عنه وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ظرف مستقر صفة لعلم أو لغو متعلق باوتيته كقولك هذا عندى أى فى ظنى واعتقادي وفيه رد لقولهم أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ يعنى لم يحسن الىّ اللّه من غير استحقاق منى تفضلا محضا حتى يجب علىّ شكره والإحسان إلى عباده بل أوتيت الجاه والمال والتفوق على الناس حال كونى على علم كائن عندى أو فى اعتقادي - قيل المراد به علم الكيميا قال سعيد بن المسيب كان موسى يعلم الكيميا فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلّم كالب بن يوقنّا ثلثه وعلّم قارون ثلثه فخذعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله - وقيل عَلى عِلْمٍ عِنْدِي بالصرف فى التجارات والزراعات وانواع المكاسب قال سهل ما نظر أحد إلى نفسه فافلح والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منة اللّه فى جميع الافعال والأقوال والشقي من زين فى عينيه أقواله وأفعاله وأحواله فافتخر بها وادعاها لنفسه فسوف يهلك يوما كما خسف بقارون لما ادعى لنفسه فضلا أَوَلَمْ يَعْلَمْ جملة معترضة والاستفهام للتعجب والتوبيخ والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكر قارون ولم يعلم أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولو علم ذلك لما اغتر بماله ولم تتكبر ولو علم ان اللّه هو المهلك فهو المعطى وهو المانع لا اله غيره ولا استحقاق لاحد عليه وفيه رد لا دعائه العلم وتعظمه به بنفي هذا العلم الحلي فان اللّه قد أهلك عاد للاولى وكان أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً فان شداد بن عاد ملك الأرض كلها وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فانه تعالى مطلع(1/5030)
عليها لا يحتاج إلى السؤال والاستعلام فيعاقبهم فى الدنيا باهلاك وفى الاخرة بإدخال النار - لمّا هدوا للّه قارون بذكر إهلاك من كان قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بانه لم يكن ذلك ما يخصهم بل اللّه مطلع على ذنوب المجرمين كلهم متقدميهم ومتاخريهم معاقبهم عليها لا محالة قال قتادة يدخلون النار بغير سوال ولا حساب وقال مجاهد يعنى لا يسئل الملائكة عنهم لانهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن لا يسئلون سوال استعلام بل يسئلون سوال تقريع وتوبيخ.
فَخَرَجَ قارون يوم اعطف
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 183
على قال عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال ابراهيم النخعي خرج هو وقومه فى ثياب خضر وحمرو قال ابن زيد خرج فى سبعين الف عليهم المعصفرات وقال مجاهد خرج على براذين بيض عليها سروح الأرجوان عليهم المعصفرات وقال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سروح من ذهب عليه الأرجوان ومعه اربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاث مائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس فى الرغبة فى الدنيا يا لَيْتَ يعنى يا قوم ليت لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنوا مثله لا عينه حذرا من الحسد وذلك لما كان بنوا إسرائيل مؤمنين إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا تعليل للتمنى.(1/5031)
وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بما وعد اللّه للمومنين فى الاخرة للذين تمنوا كذا قال مقاتل وقال ابن عباس هم الأحبار من بنى إسرائيل وَيْلَكُمْ الويل مصدر بمعنى الهلاك منصوب على المصدرية يعنى هلكتم هلاكا أو على المفعولية تقديره ألزمكم اللّه هلاكا فهو فى الأصل دعاء استعمل للزجر عما لا يرتضى ثَوابُ اللَّهِ فى الآخرة خَيْرٌ مما اوتى قارون بل من الدنيا وما فيها لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً متعلق بخير أو بثواب اللّه يعنى ثواب اللّه لمن أمن خير أو متعلق ب قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى قالوا ذلك لمن أمن وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ كلام مستأنف أو حال من الضمير فى خير والضمير للكلمة التي تكلم بها الأحبار أو للثواب فانه بمعنى المثوبة أو للجنة أو للايمان والعمل الصالح فانهما فى معنى السيرة والطريقة يعنى لا يتاتى تلك الكلمة أو الثواب أو الجنة أو السيرة الا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي الزاهدون فى الدنيا.
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أى أعوان يفئى إليهم الرجل عند المصيبة الفاء للتعليل يَنْصُرُونَهُ فيدفعون عنه عذاب اللّه مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أى الممتنعين مما نزل به من الخسف يقال نصره من عدوه فانتصر إذا منعه فامتنع عطف على فما كان - قال أهل العلم بالأخبار كان قارون اعلم بنى إسرائيل بعد موسى وهارون واقرأهم للتورية وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه ان اللّه اوحى إلى موسى ان يأمر قومه يعلّقوا فى أرديتهم خيوطا اربعة فى كل طرف خيطا اخضر كلون السماء يذكرون به السماء إذا نظروا إليها ويعلمون
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 184(1/5032)
اله منزل منها كلامى فقال موسى يا رب أ فلا تأمرهم ان يجعلوا أرديتهم خضرا كلها فان بنى إسرائيل تحقر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى ان الصغير من امرى ليس بصغير فإذا هم لم يطيعونى فى الأمر الصغير لم يطيعونى فى الأمر الكبير. فدعاهم موسى وقال ان الله يأمركم ان تعلقوا على أرديتكم خيوطا حضرا كلون السماء لكى تذكروا ربكم إذا رايتموها ففعلت بنوا إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال أخا يفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكى يتميزوا عن غيرهم وهذا بدو عصيانه وبغير فلمّا قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة لهارون وهى رياسة الذبح فكان بنوا إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتاكله فوجد قارون من ذلك فى نفسه واتى موسى فقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست فى شىء من ذلك وانا اقرأ للتورية لا صبر لى على هذا فقال موسى ما انا جعلتها فى هارون بل اللّه جعلها له فقال قارون والله لا أصدقك حتى ترينى بيانه فجمع موسى رؤساء بنى إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فخرجها والقاها فى القبة التي كان يعبد اللّه فيها فجعل يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فاصبحت عصا هارون قد اهتز لهم ورق اخضر فقال قارون واللّه ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى باتباعه وجعل موسى يداديه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه فى كل وقت ولا يزيد الا عتوا وتجبرا ومعاداة حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملا من بنى إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه - قال ابن عباس فلمّا نزلت الزكوة على موسى أباه قارون فصالحه عن كل الف دينار على دينار وكل الف درهم على درهم وعن كل الف شاة على شاة وعن كل الف شىء على شىء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم يسمح بذلك نفسه فجمع بنى إسرائيل فقال لهم يا بنى إسرائيل ان موسى قد أمركم(1/5033)
بكل شىء فاطعتموه وهو الان يريد ان يأخذ أموالكم قالوا أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت فقال أمركم ان تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها مجعلا حتى نقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل فرفضوه. فدعوها فجعل لها قارون الف درهم وقيل الف دينار وقيل طستا من ذهب وقيل قال أمولك
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 185
و اخلطك بنسائى على ان تقذنى موسى بنفسك غدا إذا حضر بنوا إسرائيل فلمّا كان من الغد جمع قارون بنى إسرائيل ثم اتى موسى فقال ان بنى إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم فى براح من الأرض فقام فيهم فقال يا بنى إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ومن زنى وله امراة رجمناه حتى يموت - فقال له قارون وان كنت أنت قال وان كنت انا فقال ان بنى إسرائيل يزعمون انك فجرت بفلانة قال ادعوها فان قالت فهو كما قالت فلما ان جاءت قال لها موسى يا فلانة انا فعلت بك ما يقول هؤلاء وعظم عليها وسال بالّذى فلق البحر لبنى إسرائيل وانزل التورية الا صدقت فتداركها اللّه تعالى فقالت فى نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من ان أوذي رسول اللّه فقالت لا كذبوا ولكن جعل لى قارون جعلا على ان أقذفك بنفسي - فخر موسى ساجدا يبكى ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لى فاوحى اللّه إلى موسى انى أمرت الأرض ان تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى يا بنى إسرائيل ان اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن معه فليلث و(1/5034)
من كان معى فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون الا رجلان ثم قال موسى يا ارض خذيهم فاخذت الأرض باقدامهم وفى رواية كان سريره وفرشه فاخذته حتى غيبت سريره ثم قال خذيهم فاخذتهم إلى الركب ثم قال يا ارض خذيهم فاخذتهم إلى الأوسط ثم قال بأرض خذيهم فاخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه فى كل ذلك يتضرعون يناشده قارون اللّه تعالى والرحم حتى انه ناشده سبعين مرة وموسى فى كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا ارض خذيهم فانطبت عليهم الأرض - واوحى اللّه إلى موسى ما اغلظ قلبك له استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه اما وعزتى وجلالى لو استغاث بي مرة لاعنته وفى بعض الآثار قال لا اجعل الأرض بعدك طوعا لاحد. قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل « 1 » فى الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة وأصبحت بنوا إسرائيل يتناسقون فيما بينهم ان موسى انما دعا على قارون ليسيد بداره وبكنوزه وبامواله فدعا اللّه موسى حتى خسف بداره وبكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما
_________
(1) أى يفوض فيها والجلجلة حركة مع صوت. نهايه منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 186
كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ.(1/5035)
وَ أَصْبَحَ أى صاد الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أى منزلته بِالْأَمْسِ أى منذ زمان قريب يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ هذه اللفظة عند البصريين من وى للتعجب وكأنّ للتشبيه ومعناه ما أشبه الأمران اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يعنى الأمران سيئان مرتبطان بمشية اللّه لا لكرامة يقتضى البسط ولا لهو ان يوجب القبض. وقال الخليل وى اسم فعل للتعجب والتندم فان القوم تندموا فقالوا متندمين على ما سلف وكانّ معناه أظن ذلك وأقدره كما يقول كانّ الفرح قد أتاك أى أظن ذلك واقدره - وقال قطرب ويك بمعنى ويلك حذف منه اللام وانّ منصوب بفعل مقدر تقديره ويلك اعلم انّ اللّه يبسط ويقدر أى يوسع ويضيق وقيل ويكانّ حرف تنبيه بمنزلة الا وعن الحسن انه قال كلمة ابتداء تقديره وان اللّه وقال مجاهد معناه الم تعلم وقال قتادة الم تر وقال الفراء هى كلمة تقرير كقول الرجل اما ترى إلى صنع اللّه وإحسانه وذكر انه سمع اعرابية تقول لزوجها اين ابنك فقال ويكانّه وراء البيت يعنى اما ترينه وراء البيت لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فلم يعطنا ما عنينا لَخَسَفَ قرأ حفص ويعقوب بفتح الخاء والسين على البناء للفاعل والعامة بضم الخاء وكسر السين على البناء للمفعول بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة اللّه أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم من ثواب الاخ رة - لا يصلح هاهنا معنى ما أشبه فى ويكانّه ويصلح غير ذلك من المعاني - .(1/5036)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ صفة بعد صفة لتلك اشارة تعظيم كانّه قال تلك الدّار الاخرة التي سمعت خبرها وبلغك وصفها نَجْعَلُها خبر لتلك لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ قال الكلبي ومقاتل أى استكبارا عن الايمان وقال عطاء غلبة وقهرا على الناس وتهاونا بهم وقال الحسن يطلبون الشرف والعز عند ذى السلطان وعن علّى كرم اللّه وجهه انها نزلت فى أهل التواضع من الولاة واهل القدرة يعنى من كان من الولاة واهل القدرة متواضعا فهو لا يريد علوّا فى الأرض وَلا فَساداً قال الكلبي هو الدعاء إلى عبادة غير اللّه وقال عكرمة هو أخذ اموال الناس بغير حق وقال ابن جريج ومقاتل العمل بالمعاصي وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قال قتادة أى الجنة قلت العاقبة يستعمل فيما يعقب الحسنات ويتاب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 187
عليها كما ان العقاب يستعمل فيما يعقب السيئات وتنقم بها.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أى عشر اضعافها إلى سمع مائة ضعف والى ما شاء اللّه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع المظهر موضع المضمر تهجينا لحالهم بتكرير اسناد السيئة إليهم إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى الّا مثل ما كانوا يعملون حذف المثل واقام ما كانوا يعملون مقامه مبالغة فى المماثلة - .
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يعنى أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به كذا قال عطاء وقال البغوي قال اكثر المفسرين يعنى انزل عليك القرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يعنى إلى مكة وقدرده يوم الفتح وانما نكّره لأنه فى ذلك اليوم له شأن ومرجعا له اعتداد لغلبة رسول اللّه وقهره اعداء اللّه وظهور الإسلام وذل الشرك وهى رواية العوفى عن ابن عباس وهو قول مجاهد قال القتيبي معاد الرجل بلده لأنه ينصرف ثم يعود إلى بلده.(1/5037)
ذكر البغوي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار فى غير الطريق مخافة الطلب فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فقال له جبرئيل عليه السلام أ تشتاق إلى بلدك ومولدك قال نعم قال فان اللّه يقول إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فرده الله يوم الفتح كذا أخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك والآية نزلت بحجفة بين مكة والمدينة وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رض المعاد الموت قلت لأنه عود إلى الحالة الاصلية قال اللّه تعالى كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال الزهري وعكرمة يعنى إلى القيامة وقيل إلى الجنة كأنَّه لما حكم ب إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ أكّد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين ووعده بالعاقبة الحسنى فى الدارين.
و لمّا قال كفار مكة للنبى صلى اللّه عليه وسلم انّك لفى ضلل مبين انزل اللّه سبحانه قُلْ رَبِّي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وأبو عمرو وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها وروى أبو ربيعة عن قنبل وعن البزي أيضا بالإسكان « فهو غير ماخوذ - أبو محمد » أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والنصر يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم من منصوب بفعل يدل عليه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 188
اعلم تقديره ربى اعلم الكائنات يعلم من جاء بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وما يستحقه من العذاب والاذلال يعنى به المشركين وفى هذه الآية تقرير للوعد السابق ولذا عقبه وكذا قوله.(1/5038)
وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ أى يوحى إليك الْكِتابُ أى القرآن إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الفراء الاستثناء منقطع معناه لكن ألقاه ربك رحمة منه ويجوز ان يكون الاستثناء منفصلا مفرغا محمولا على المعنى كأنَّه قال ما القى إليك ربك الكتاب لشئ الا رحمة أى الا لاجل الرحمة فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم والتحمل عنهم والاجابة إلى طلبهم قال مقاتل وذلك حين درعى إلى دين ابائه فذكّر إلى نعمه ونهاة عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
وَلا يَصُدُّنَّكَ يعنى كفار مكة عَنْ آياتِ اللَّهِ أى عن قراءتها والعمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أى إلى معرفته وتوحيده وعبادته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمظاهرتهم.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هذا وما قبله يقطع اطماع المشركين عن مساعدته لهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تعليل للنهى كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعنى الا ذاته فان ما عداه ممكن هالك معدوم فى حد ذاته لا شىء الا ووجوده مستفاد مستعار منه تعالى قيل معناه كل عمل لغو باطل الا ما أريد به وجهه وجملة كلّ شىء تعليل لَهُ الْحُكْمُ أى القضاء النافذ فى الخلق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردونّ فى الاخرة فيجازيكم بأعمالكم.
تمت سورة القصص ويتلوه سورة العنكبوت ان شاء اللّه تعالى 28 ربيع الأول سنة 146 هجرى.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 189
سورة العنكبوت
مكّيّة وهى تسع وستون اية وقال الشعبي عشر آيات من أولها مدنيّة ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج ابن أبى حاتم عن الشعبي ان ناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة انه لا يقبل منكم اقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم.(1/5039)
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ فكتبوا إليهم انه قد انزل فيكم كذا وكذا فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلنا فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فانزل اللّه فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الآية واخرج أيضا عن قتادة قال نزلت فى ناس من أهل مكة خرجوا يريدون النبي صلى اللّه عليه وسلم فعرض لهم المشركون فرجعوا فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم فخرجوا فقتل من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا الآية وذكر البغوي عن ابن عباس قال أراد بالناس الّذين أمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم واخرج ابن سعيد وابن جرير وابن أبى حاتم عن عبيد اللّه بن عمير قال نزلت فى عمار بن ياسر إذ كان يعذب فى اللّه احسب النّاس الآية وكذا ذكر البغوي قول ابن جريح وقال قال مقاتل نزلت فى مهجع بن عبد اللّه مولى عمر بن الخطاب وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الامة قلت وهو أول من خرج من المسلمين مبارزا يوم بدر فقتله عامر بن الحضرمي بسهم وكان أول من قتل كذا فى سبيل الرشاد ولمّا جزع عليه أبواه وامرأته
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 190(1/5040)
انزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية - وقوع الاستفهام بعد الم دليل على استقلاله والمراد بالحسبان الظنّ وهو متعلق بمضمون جملة للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك يقتضى مفعولين أو ما يسدّ مسدهما كقوله ان يتركوا والاستفهام للانكار والتوبيخ وان يّقولوا تقديره لان يقولوا وهم لا يفتنون حال من فاعل يقولوا والمعنى أ ظنوا أتركهم غير مفتونين لقولهم آمنّا فالترك اوّل مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم هو الثاني كقولك حسبت ضربه للتأديب أو المعنى احسبوا أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم أمنا يعنى لا يحسبوا ذلك بل يمتحتهم اللّه بالمشاق كالمهاجرة والمجاهدة وانواع المصائب فى الأنفس والأموال والأولاد ليتميز المخلص من المنافق والثابت فى الدين من المضطر فيه ولينالوا بالصبر عليها عوالى الدرجات. وذكر البغوي ان اللّه تعالى أمرهم فى لابتداء بمجرد الايمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكوة وسائر الشرائع فشق على بعضهم فانزل اللّه هذه الآية فالمعنى احسبوا ان يتركوا على مجرد الايمان وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي فان مجرد الايمان وان كان مانعا عن الخلود فى العذاب لكن نيل الدرجات يترتب على وظائف الطاعات ورفض الشهوات.(1/5041)
وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمناشير ومنهم من قتل وابتلى بنوا إسرائيل بفرعون يسومهم سوء العذاب الجملة متصل بقوله احسب أو بقوله لا يفتنون يعنى ذلك سنة قديمة جارية فى الأمم كلها فلا ينبغى ان يتوقع خلافه أو معترضة لتسلية المؤمنين فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فى قولهم أمنا معطوف على قوله ولقد فتنّا وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ اللّه عالم ازلا ومعنى الآية ليتعلقن علمه حاليا يتميز به الذين صدقوا فى الايمان من الذين كذبوا فيه وينوط به ثوابهم وعقابهم وقيل معناه ليظهرن اللّه الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه وقال مقاتل ليرين اللّه وقيل لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أى الكفر والمعاصي فان العمل يعم افعال القلوب والجوارح أَنْ يَسْبِقُونا ان يفوتنا فلا نقدر على الانتقام منهم وان مع صلتها ساد مساد مفعولى حسب معطوف على احسب وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 191(1/5042)
و الاضراب لان هذا الحسبان ابطال من الحسبان الأول لان فى الحسبان الأول يقدران لا يمتحن لايمانه وفى هذا ان لا يجازى بمساويه وقالوا الأول فى المؤمنين وهذا فى الكافرين قلت وجاز ان يكون أم متصلة والإنكار ورد على أحد الحسبانين المتردد فيهما بالهمزة وأم والنكرة فى حيز النفي المستفاد من الإنكار يعم فالمعنى كلا الحسبانين باطلان فلا تحسبوا أيها المؤمنون ان لا تمتحنوا بل تمتحنون بالمصائب لتنالوا الدرجات الرفيعة ولا يحسب أعداؤكم ان لا يعذبهم اللّه فى الدنيا والاخرة بل يعذبهم اللّه فى الدنيا بايدى المؤمنين وفى الاخرة بعذاب من عنده والحاصل ان المؤمنين يمتحنون بالمصائب ثم يكون الغلبة لهم فى اخر الأمر ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما موصولة مرفوعة على الفاعلية أو موصوفة منصوبة على التميز من الضمير المبهم المرفوع والمخصوص محذوف أى بئس الذي يحكمونه حكمهم هذه أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا.
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس الرجاء بمعنى الخوف أى من يخشى البعث والحساب وعذاب اللّه وقال سعيد بن جبير من كان يطمع فى ثواب اللّه قلت وجاز ان يكون المعنى من كان يرجوا رؤية اللّه فيستدل بهذه الآية ان رؤية اللّه فى الدنيا غير واقع الا ما قيل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راى ربه ليلة المعراج وكان ذلك خارجا من الدنيا فمن ادعى رؤية اللّه فى الدنيا برأى العين فقد كذب فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ يعنى أجل لقائه يحذف المضاف ووقته الموعود له لَآتٍ لا محالة قال مقاتل يعنى يوم القيامة لكائن فليبادر إلى ما يحقق رجاءه وينجوه عما يخاف عنه وهذا كقوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ... وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوال العباد الْعَلِيمُ.(1/5043)
بعقائدهم وأفعالهم وَمَنْ جاهَدَ اعداء اللّه يعنى الكفار فى الحرب أو نفسه فى الكف عن الشهوات المنهية والترفع والصبر على الطاعات والشيطان فى دفع وساوسه عطف على الشرطية السابقة فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لان منفعته راجعة إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لا حاجة له إلى طاعتهم وانما كلف عبادة رحمة عليهم ومراعاة لمصالحهم الجملة تعليل لما سبق.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعنى نذهب سيئاتهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 192
بحسناتهم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر رواه مسلم وقد مر فى تفسير قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ منصوب بنزع الخافض الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أى بأحسن أعمالهم وهو الطاعة يعنى لا نضيعها وقيل معناه نعطهم اكثر مما عملوا عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى ما شاء اللّه وقيل احسن بمعنى حسن - .(1/5044)
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أمرناه بإتيان فعل ذا حسن أو كأنَّه فى ذاته حسن تفرط حسنه متلبسا ذلك الفعل بوالديه أى يبرهما ويعطف عليهما وقيل معناه ووصّينا الإنسان ذا حسن بان يبرهما أخرج مسلم والترمذي والبغوي وابن أبى حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبى وقاص وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري أحد العشرة المبشرة رضى اللّه عنه كان من السابقين الأولين وكان بارّا بامه انه لما اسلم قالت امه وهى حمنة بنت أبى سفيان بن امية بن عبد الشمس (قد امر اللّه بالبر وفى رواية) قالت ما هذا الّذى أحدثت واللّه لا اطعم طعاما ولا اشرب شرابا حتى أموت أو تكفر وفى رواية حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك ابد الدهر يقال قاتل امه فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي بإضمار القول أى وقلنا له وان جاهداك لتشرك بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بالوهيته عبر عن نفيها بنفي علم بها اشعارا بان ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وان لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بالادلة القطعية بطلانه فَلا تُطِعْهُما فى ذلك قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد والحاكم وصححه عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن أبى داؤد والنسائي عن على رضى اللّه عنه لا طاعة لاحد فى معصية اللّه انما الطاعة فى المعروف. قال البغوي ثم انها أى أم سعد مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب وقيل لبثت ثلاثة ايام كذلك فجاء سعد وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى ان شئت كلى وان شئت فلا تأكلى فلمّا أيست منه أكلت وشربت إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 193
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(1/5045)
بالجزاء عليه ونزلت أيضا فى قصة أم سعد التي فى لقمان والتي فى الأحقاف.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ من الأنبياء والشهداء والأولياء أى نجعلهم فى جملتهم ونحشر معهم أو فى مدخلهم وهى الجنة والكمال فى الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء اللّه المرسلين فان كمال الصلاح عبارة عن عدم شىء الفساد فى الاعتقاد والأعمال والأخلاق والاشغال عطف على وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ وما بينهما اعتراض - أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد اسلموا وكانوا يخفون الإسلام فاخرجهم المشركون معهم يوم بدر فاصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فاكرهوا فاستغفر لهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية فى سورة النساء فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وانه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت.(1/5046)
وَ مِنَ النَّاسِ عطف على ما سبق ذكر المؤمنين اولا ثم ذكر المنافقين مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بان عذبهم الكفار على الإسلام جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الأذى الذي لحقهم من الكفار كَعَذابِ اللَّهِ فى الاخرة أى جزع من عذاب الناس ولم يصبر فاطاع الناس وترك الإسلام كما يترك المسلمون الكفر والمعاصي بخوف عذاب اللّه فى الاخرة والجملة الشرطية عطف على صلة من قال ابن عباس رض فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزّبوا فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فنزلت ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الآية فكتبوا بذلك فخرجوا فلحقهم فنجا من نجا وقتل من قتل - واخرج عن قتادة انها نزلت فى القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ أى فتح وغنيمة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ فى الدين جواب قسم محذوف فى اللفظ وفى المعنى جزاء للشرط وهذه الشرطية معطوفة على شرطية سابقه اعنى فإذا أوذي وقيل الآية نزلت فى المنافقين ويؤيده قوله تعالى أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ الهمزة للانكار والواو للحال والإنكار راجع إلى الحال والمعنى ليس الحال انهم يقولون ذلك وليس اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 194
لعالم بما فى صدورهم بل الحال ان اللّه عالم بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإخلاص والنفاق فيجازى المنافقين على نفاقهم أو للعطف على مضمون ما سبق يعنى نافقوا ولا يخفى ذلك على اللّه.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ جواب قسم محذوف والجملة معترضة وعدا للمؤمنين ووعيدا للمن افقين أو معطوف على مضمون انكار نفى علمه تعالى تأكيد له الَّذِينَ آمَنُوا مخلصين وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فيجازى كلا على حسب ما أضمر قال الشعبي هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هنا مدنية وما بعدها مكية.(1/5047)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة كذا قال مجاهد لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا قال الكلبي ومقاتل قاله أبو سفيان لمن أمن من قريش اتبعوا ديننا وملة ابائنا عطف على ما سبق من ذكر المنافقين وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أى ان كان ذاك خطيئة أو ان كان ذاك خطيئة ان كان بعث ومواخذة أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة فى تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم تشجيعا لهم وقال الفراء لفظه امر ومعناه جزاء مجازه ان اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله تعالى فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ولمّا كان فى كلامهم تشجيعا على الكفر والمعاصي ردّ اللّه عليهم قولهم وكذبهم بقوله تعالى وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ الجملة حال من فاعل قال إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فى الاخبار بالحمل عنهم المستفاد من قولهم ولنحمل خطاياكم من الاولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أى أوزار أعمالهم التي عملوا بانفسهم جواب القسم المقدر وهو حكاية قسم لا انشائية فهو خبرية معطوفة على ما هُمْ بِحامِلِينَ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ لما تسببوا له بالإضلال وهو الحمل على المعاصي من غير ان ينقص من أوزار اتباعهم وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سوال تقريع وتبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها - .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ عطف على قوله وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم فَلَبِثَ عطف على أرسلنا فدل على انه بعد الإرسال فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء يقال لما طاف بكثرة من سيل ظلام أو نحوها طوفان يعنى فغرقوا وَهُمْ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 195(1/5048)
ظالِمُونَ بالكفر حال من مفعول أخذهم قال ابن عباس بعث نوح لاربعين سنة وبقي فى قومه يدعوهم الف سنة الا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وكان عمره الفا وخمسين سنة - أخرجه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردوية وذكره البغوي. وعن وهب انه عاش الفا واربع مائة سنة فقال له ملك الموت يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت وخرجت لم يقل تسع مائة وخمسين عاما لان اللفظ اخصر ولان المقصود بيان طول مصابرته على مكايد أمته فكان ذكر الالف افخم.
فَأَنْجَيْناهُ يعنى نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ الذين ركبوها معه من أولاده واتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وقد مر فى سورة هود وسورة الأعراف تمام القصة وَجَعَلْناها أى السفينة أو الحادثة آيَةً لِلْعالَمِينَ يتعظون ويستدلون بما.
وَإِبْراهِيمَ عطف على نوح يعنى وأرسلنا ابراهيم أو منصوب بإضمار اذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ظرف لارسلنا أى أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وامر الناس به أو بدل اشتمال منه ان قدّرا ذكر وَاتَّقُوهُ أى خافوا واحذروا عذابه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه تعليل للامر بالعبادة والتقوى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جزاؤه محذوف والتقدير ان كنتم تعملون الخير والشر وتتميزون بينهما أو كنتم تنظرون بنظر العلم دون نظر التعصب والجدال أو كنتم من اولى العلم والتميز لا يخفى عليكم ان ذلكم خير لكم مما أنتم عليه.(1/5049)
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً حجارة لا تضر ولا تنفع وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً منصوب على المصدر أى تكذبون كذبا أو تقولون قولا ذا افك فى تسميتها الهة وادعاء شفاعتها عند اللّه أو على العلية أى تخلقونها وتنحتونها للافك أو على المفعولية على ان المعنى تخلقون شيئا ذا افك والجملة معترضة لبيان شناعة حالهم وكذا ما بعده أو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث انه زور وباطل إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان وغيرها لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً دليل اخر على شرارة ذلك من حيث انه لا يجدى نفعا ورزقا يحتمل المصدر أى لا يستطيعون ان يرزقوكم ويحتمل ان يراد به المرزوق وتنكيره
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 196
للتعميم والتحقير أى لا يملكون شيئا من الرزق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كله فانه المالك لا غير وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين إلى مطالبكم مقيدين لما اعطاكم من النعم بشكره مستعدين للقائه بهما فانه إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ حال مقدرة من فاعل اشكروا - .
وَإِنْ تُكَذِّبُوا أى تكذبونى فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رسلا من قبلى فلم يضرهم تكذيبهم إياهم وانما أضر أنفسهم حيث تسبب لمّا حلّ بهم من العذاب فكذا تكذيبكم وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزيل الشك يعنى لا يضره تكذيب من كذّبه وليس الواجب عليه هداية الخلق إذ ليس ذلك فى وسعه - هذه الآية وما بعدها إلى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ جاز ان يكون من كلام ابراهيم من جملة قصته وجاز ان يكون اعتراضا بذكر شأن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفى القصة من حيث ان مساقها تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بان أباه خليل اللّه كان فى مثل حالك من مخالفة القوم وتكذيبهم إياه.(1/5050)
أَ وَلَمْ يَرَوْا قرأ أبو بكر « و خلف - وأبو محمد » وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية خطابا والباقون بالياء التحتانية غيبة الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم ينظروا ولم يروا أو الواو للحال والإنكار انكار لحال عدم الرؤية عند التكذيب تقديره فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ والحال انهم قد رأوا - كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أى كيفية بدء خلقهم قلم يعتبروا به خلقهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم يخرج طفلا ثم يتحول أحوالا حتى يموت ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى الحيوة بعد الموت معطوف على أو لم يروا لا على يبدئ فان الرؤية غير واقعة عليه ويجوز ان يأوّل الاعادة بأن ينشئ فى كل سنة مثل ما كان فى السنة السابقة من النبات والثمار ونحوها فحينئذ يعطف على يبدئ ويجوز ان يعطف على يبدئ ويجعل وقوع الرؤية على ما يدل على إمكان الاعادة رؤية عليها مجازا إِنَّ ذلِكَ الاعادة أو ما ذكر من الامرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر فى فعله إلى شىء ولا يتعب فيه.
قُلْ سِيرُوا حكاية خطاب من اللّه تعالى لابراهيم عليه السّلام بتقدير القول يعنى قلنا لابراهيم قل سيروا أو خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 197
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ(1/5051)
على اختلاف الأجناس والأحوال ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ كان القياس ان يقول (فانظروا كيف بدا اللّه الخلق ثمّ ينشئ النّشاة الآخرة) فغيره على هذا النمط لان المقصود اثبات جواز الاعادة - فلمّا قررهم فى الإبداء بانه من اللّه احتج بان الاعادة مثل الإبداء فمن كان قادرا على الإبداء لا يعجزه الاعادة فكانه قال ثم الذي أنشأ النشأة الاولى هو الذي ينشئ النّشاة الاخرة فللتنبيه على هذا المعنى ابرز اللّه اسمه وأوقعه مبتدا - قال بعض المحققين ثمّ ينشئ النّشاة الآخرة معطوف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره قل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فقد أنشأ اللّه النشاة الاولى ثم اللّه الذي أنشأ النشاة الاولى ينشئ النشاة الاخرة.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو النّشأة بفتح الشين ممدودا هاهنا وفى النجم والواقعة والباقون بإسكان الشين من غير الف ووقف حمزة على وجهين فى ذلك أحدهما ان يلقى الحركة على الشين ثم يسقطها طردا للقياس والثاني ان يفتح الشين ويبدّل الهمزة الفا اتباعا للخط قال الداني ومثله قد يسمع من العرب إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لان قدرته مقتضى ونسبة ذاته إلى الممكنات بأسرها سواء فيقدر على النشاة الاخرى كقدرته على الاولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه فى الاخرة بالنار وفى الدنيا بالخذلان أو بالحرص أو بسوء الخلق أو بالاعراض عن اللّه أو اقتراف البدعة وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته بإدخال الجنة فى الآخرة وفى الدنيا بالتأييد والقناعة وحسن الخلق والإقبال على اللّه واتباع السنة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون.(1/5052)
وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم عن ادراككم فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ان فزرتم من قضائه بالتواري فى الأرض أو الهبوط فى مهاريها أو بالتحصن فى السّماء أو القلاع الذاهبة فيها وجاز ان يكون ولا فى السماء تقديره ولا من فى السّماء عطفا على اسم ما كقول حسان
فمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء
وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يحرسكم عن بلاء يظهر فى الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم - .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته أو باياته المنزلة فى كتبه وَلِقائِهِ أى بالبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أى ييئسون منها يوم القيامة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 198
او المراد بالرحمة الجنة وهم آيسون فى الدنيا منها لانكارهم البعث وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذه ان كان من كلام ابراهيم فالتقدير قال اللّه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وان كان معترضا من اللّه تعالى فمعطوف على قوله قل سيروا لا على مقولة قل ثم رجع إلى قصة ابراهيم فقال.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عطف على أرسلنا ابراهيم إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ قال ذلك بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وأسند الفعل إلى كلهم لرضائهم به فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ معطوف على محذوف تقديره فاتفقوا على تحريقه فقذفوه فى النار فانجاه اللّه منها بان جعله بردا وسلاما إِنَّ فِي ذلِكَ الانجاء لَآياتٍ هى حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها فى زمان يسيرو إنشاء روض فى مكانها لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم هم المنتفعون بها - .(1/5053)
وَ قالَ ابراهيم لقومه عطف على قال يقوم اعبدوا اللّه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ مصدر بمعنى المفعول يعنى مودودا أو على تقدير المضاف أى سبب مودة قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « اى الايس - أبو محمد » ويعقوب بالرفع « بلا موييل - أبو محمد » مضافا إلى بَيْنِكُمْ بالجر على انه خبر مبتدا محذوف أى هى مودودة أو سبب مودة بينكم يعنى يود بعضكم بعضا ويتواصلون بسبب اجتماعكم على عبادتها - والجملة صفة أوثانا أو خبر ان على ان ما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول أى انما اتخذتموه من دون اللّه أوثانا سبب للمودة منكم وقرأ « و روح - أبو محمد » حفص وحمزة مودّة مضافا إلى بينكم منصوبا على العلية أى لتتودوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادة الأوثان وأوثانا المفعول الأول لاتخذتم ومفعوله الثاني محذوف أى اتخذتم أوثانا معبودين من دون اللّه وجاز ان يكون مودة مفعوله الثاني بتقدير مضاف أو بتأويلها بالمودودة أى اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم أو مودودة وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر مودّة منونة ناصبة بينكم منصوبا على ما ذكرنا فى قراءة حفص فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بمودة يعنى مودة بينكم تنحصر فى الدنيا وتنقطع بعده ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يكون الاخلّاء بعضهم لبعض عدوّ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا أى يقع التناكر والتلاعن بين الكفار أو بينهم وبين الأوثان والجملة معطوفة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 199
على مقولة قال وَمَأْواكُمُ جميعا أيها العابدون والمعبودون النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.(1/5054)
فَآمَنَ عطف على قال لَهُ أى لابراهيم لُوطٌ لكونه معصوما عن تكذيب الأنبياء وهو أول من صدق ابراهيم وكان ابن أخيه هاران وَقالَ ابراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من قومى إِلى رَبِّي أى إلى حيث أمرني ربى أو إلى حيث يتيسّر لى هناك عبادة ربى. أو المعنى انى مهاجر من قومى معرض عنهم متوجها إلى ربى وهى السفر فى الوطن على اصطلاح الصوفية قال المفسرون هاجر ابراهيم من كوثى (و هو من سواد كوفة) إلى حران ثم اتى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر « 1 » فنزل ابراهيم فلسطين ولوط السدوم قالوا كان ابراهيم حين هاجر ابن خمس وسبعين سنة إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يأمرنى الا بما فيه صلاحى.
وَوَهَبْنا لَهُ بعد إسماعيل إِسْحاقَ بعد ما ايس من الولادة لكبر سنه وكبر امرأته وكونها عاقرا وَيَعْقُوبَ ولد الولد نافلة وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أى ابراهيم النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ من التورية والإنجيل والزبور والفرقان وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي الدُّنْيا ج بإعطاء الولد فى غير أو انه والذرية الطّيّبة كذا قال السدىّ واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى اخر الدهر كذا قالوا - قلت لعل اجره فى الدنيا اللذة فى الذكر والفكر والعبادة للّه فوق ما يستلذون بها أهل الدنيا من المستلذات الحسنة نظيره قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أى فى عداد الكاملين فى الصلاح عطف على اتيناه اجره فى الدّنيا وغير الأسلوب من الفعلية إلى الاسمية للدلالة على استمرار الاخرة دون الدنيا.(1/5055)
وَ لُوطاً عطف على ابراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالهمزتين على الاستفهام للانكار والتوبيخ والباقون بهمزة واحدة على الخبر لَتَأْتُونَ جواب قسم محذوف الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة فى القبح ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ هذه الجملة صفة
_________
(1) عن اسماء بنت أبى بكر قالت هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم انه أول من هاجر بعد ابراهيم ولوط وعن ابن عباس قال اوّل من هاجر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى ابراهيم. وعن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كان بين عثمان ورقية وبين لوط من مهاجر 12 منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 200
للفاحشة على طريقة ولقد امر على اللّئيم يسبّنى أو حال أو مستأنفة لكونه فاحشة.(1/5056)
أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان للفاحشه وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وذلك انهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن مرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم وقيل معناه تقطعون سبيل النساء بايثار الرجال على النساء وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أى فى مجالسكم ولا يقال النادي النادي الا لما فيه اهله روى البغوي عن أبى صالح مولى أم هانى بنت أبى طالب رضى اللّه عنها قالت سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قلت ما المنكر الذي كانوا يأتون قال كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم رواه احمد والترمذي وغيرهما قوله يحذفون أهل الطريق أى يرمونهم بالبنادق قال البغوي ويروى انهم كانوا يجلسون فى مجالسهم عند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل قيل خذوهم فايّهم أصابه فهو اولى به وقيل كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرنه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك وقال القاسم بن محمد كانوا يتضارطون فى مجالسهم وقال مجاهد كان يجاهد بعضهم بعضا فى مجالسهم وعن عبد اللّه بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض وعن مكحول قال كان من اخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصغير والحذف واللوطية فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عطف على قال إِلَّا أَنْ قالُوا استهزاء ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما اوعدتنا به من نزول العذاب أو فى استقباح تلك الافعال أو فى دعوى النبوة المفهوم من التوبيخ.
قالَ لوط رَبِّ انْصُرْنِي بانزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة واستبانها لما بعدهم وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب واشعارا بانهم أحقاء بان يعجل لهم العذاب - .(1/5057)
وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بالبشارة بالولد والنافلة اعنى إسحاق ويعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية سدوم والاضافة لفظية لان معناه الاستقبال إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل لاهلاكهم بإصرارهم وتماديهم فى ظلمهم الذي هو الكفر والمعاصي.
قالَ ابراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض عليهم بان فيها من لم يظلم أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم قالُوا أى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 201
الرسل وهم الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ قرأ حمزة والكسائي بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وَأَهْلَهُ تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم وجواب عنه بتخصيص أهل القرية بمن عداه وعدى اهله أو تأقيت الإهلاك بإخراجهم عنها وفيه تأخير البيان عن الخطاب وذلك جائز وانما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إِلَّا امْرَأَتَهُ زق كانَتْ فى علم اللّه تعالى مِنَ الْغابِرِينَ الباقين فى العذاب أو فى القرية تعليل للاستثناء - .(1/5058)
وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ أى الحقه المساءة والغم بِهِمْ أى بسبب الرسل مخافة ان يقصدهم قومه بسوء وان صلة لتأكيد الفعلين واتصالهم وَضاقَ لوط بِهِمْ بسبب الرسل ذَرْعاً تميز من النسبة والذرع الطاقة يقال فلان طويل الذراع أى شديد القوة لان طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيرها والمعنى ضاق طاقته بشأنهم وتدبير أمرهم فى الحفظ عن قومه وَقالُوا أى الرسل لما راوا فيه اثر الغم والمساءة لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكّنهم منّا أو لا تخف تمكّنهم منا ولا تحزن باهلاكنا إياهم إِنَّا مُنَجُّوكَ تعليل للنهى قرأ ابن كثير « و يعقوب وخلف أبو محمد » وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وموضع الكاف نصب عند الكوفيين ويؤيده عطف وَأَهْلَكَ بالنصب وعند البصريين محل الكاف جر ونصب أهلك بإضمار فعل أى وننجى أهلك أو بالعطف على المحل البعيد للكاف فان الاضافة اللفظية فى حكم الانفصال وهو فى الأصل منصوب إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ قرأ ابن عامر بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال.
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً أى عذابا سمّى بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس أى اضطرب مِنَ السَّماءِ قال مقاتل الخسف والحصب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أى من قريات لوط آيَةً بَيِّنَةً قال ابن عباس هى اثار منازلهم الخزية وقال قتادة هى الحجارة الممطورة التي اهلكوا بها أبقاها اللّه حتى أدركها أوائل هذه الامة وقال مجاهد هى ظهور الماء الأسود على وجه الأرض وقيل هى حكايتها الشائعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون فى الآيات تدبر ذوى العقول ..
وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا إلى مدين معطوفا على ولقد أرسلنا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 202(1/5059)
نوحا أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قيل الرجاء هاهنا بمعنى الخوف يعنى خافوا عذاب اليوم الاخر أو المعنى افعلوا فعلا ترجون به ثواب الاخرة فاقيم المسبب مقام السبب وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال موكدة لعاملها وجاز ان يكون الحال منتقلة والمعنى لا تفسدوا فى الأرض على قصد الإفساد احتراز عما إذا أفسدوا على قصد الإصلاح كالقتل والجرح وتخريب الديار وقطع الأشجار فى حرب الكفار من أهل الحرب.
فَكَذَّبُوهُ فى دعوى النبوة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة وقيل صيحة جبرئيل لان القلوب ترجف فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين والمراد من دارهم بلدهم أو دورهم ولم يجمع للامن من اللبس.
وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار اذكر أو فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا معطوف على قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قرأ حمزة وحفص ويعقوب ثمود غير منصرف على تأويل القبيلة وَقَدْ تَبَيَّنَ مع ما عطف عليه جملة معترضة لَكُمْ يا أهل مكة مِنْ مَساكِنِهِمْ أى بعض مساكنهم أو المعنى قد تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ الشيطان عَنِ السَّبِيلِ أى سبيل الّذى بيّن لهم الرسل الموصل إلى الجنة وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قال مقاتل وقتادة والكلبي كانوا معجبين فى دينهم وضلالتهم يحسبون انهم على الهدى والمعنى انهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين - وقال الفراء كانوا عقلاء ذوى البصائر متمكنين من النظر والاستبصار لكنهم لم يفعلوا وقيل معناه كانوا مبينين ان العذاب لاحق بهم بأخبار الرسل لكنهم ألحوا حتى هلكوا.(1/5060)
وَ قارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوفون على عاد قيل قدم قارون لشرف نسبه وفيه اشعار بان الكفر والعصيان من شريف النسب أقبح وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ أى فائتين بل أدركهم امر اللّه بالتعذيب. من سبق طالبه إذا فاته.
فَكُلًّا أى كل واحد منهم منصوب بقوله أَخَذْنا أى عاقبناه بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أى الريح التي تحمل الحصباء وهى الحصى الضعيف وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعنى ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعنى قارون
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 203
وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعنى قوم نوح وفرعون وقومه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أى يعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعريض للعذاب.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعنى مثل الكفار فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا من الأصنام كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ فيما اتَّخَذَتْ بَيْتاً فى الوهن والخوار بل ذاك اوهن فان لهذا حقيقة وانتفاعا ما يعنى مثل دينهم كمثل بيت العنكبوت أو المعنى مثل الكفار الذين اتخذوا من دون اللّه اولياء بالنسبة إلى الموحد كمثل العنكبوت بالنسبة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجصّ والعنكبوت « 1 » يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والتاء فيه كتاء الطاغوت ويجمع على عناكيب وعكاب واعكب وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت اوهن واقل وقاية للحر والبرد منه هذه الجملة حال أو مستانفة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يرجعون إلى علم لعلموا ان هذا مثلهم وان دينهم اوهن من ذلك.(1/5061)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ على إضمار القول أى قل للكفرة انّ اللّه يعلم ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ قرأ أبو عمرو « و يعقوب - أبو محمد » وعاصم يدعون بالباء على الغيبة حملا على ما قبله من ذكر الأمم والباقون بالتاء للخطاب إلى كفار مكة وما استفهامية منصوبة بيدعون فيعلم معلقة منها ومن للتبيين أو نافيه ومن مزيدة وشىء مفعول يدعون والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل أو مصدرية وشىء مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يعلم عائده المحذوف والكلام وعيد لهم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تعليل لما سبق فان من فرط الغباوة اشراك ما لا يعدل شيئا بمن هذا شأنه وان الجماد بالاضافة إلى القادر على كل شىء البالغ فى العلم وإتقان الفعل كالمعدوم وان من هذا صفته قادر على مجازاتهم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها أى ما يعقل حسن تلك الأمثال وفائدتها إِلَّا الْعالِمُونَ الّذين يتدبرون فى الأشياء على ما ينبغى فيعقلون عن اللّه سبحانه روى البغوي عن عطاء وابى الزبير عن جابر رض انه تلى هذه الآية وَتِلْكَ
_________
(1) عن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخلت انا وأبو بكر العار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن 12
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 204
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعنه واجتنب معصية وكذا روى الثعلبي والواحدي وروى أبو داود بن الحرمي كتاب العقل من طريق الحارث بن اسامة وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات.(1/5062)
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فان المقصود بالذات من خلقها افاضة الخير والدلالة له على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق لَآيَةً دالة على وجود اللّه تعالى وعلمة وقدرته وإرادته ووحدته وتنزهه عن المناقص لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون بها.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 205
(الجزء الحادي والعشرون).(1/5063)
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أى القرآن تقربا إلى اللّه بتلاوته وتحفظا لاتعاظه وأحكامه واعتبارا بامثاله واستكشافا لمعانيه فان القاري المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لا ينكشف له أول مرة حتى يتمثل لاوامره وينتهى عن مناهيه وَأَقِمِ الصَّلاةَ المفروضة إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى هذه الجملة تعليل للامر باقامة الصلاة عَنِ الْفَحْشاءِ أى ما ظهر قبحه شرعا وعقلا وَالْمُنْكَرِ للانتهاء عن المعاصي من حيث انها تذكر اللّه وتورث للنفس خشية قال البغوي روى عن انس رضى اللّه عنه قال كان فتى من الأنصار يصلى الصلوات الخمس مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم لم يدع شيئا من الفواحش الا ركبه فوصف لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان صلاته تنهاه يوما فلم يلبث ان تاب وحسن حاله - وفى مسند إسحاق والبزار وابى يعلى عن أبى هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان فلانا يصلى بالليل فإذا أصبح سرق قال ان صلاته تنهاه. قال البغوي قال ابن عباس رض وابن مسعود فى الصّلوة منتهى ومزدجر عن معاصى فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد صلاته من اللّه الا بعدا - وقال الحسن وقتادة من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه - وقيل المراد بالصلوة القرآن كما فى قوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يعنى بالقران فى الصلاة ولا شك ان القرآن ينهى عن الفحشاء والمنكر - روى البغوي عن جابر قال قال رجل للنبى صلى اللّه عليه وسلم انّ رجلا يقرأ القرآن بالليل كله فإذا أصبح سرق قال ستنهى قراءته - وفى رواية قيل يا رسول اللّه ان فلانا يصلى بالنهار ويسرق باللّيل قال ان صلاته ستردعه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عطاء ولذكر اللّه اكبر من ان يبقى معصية والمراد بذكر اللّه الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر.(1/5064)
و انما غير عنها بالذكر
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 206
للتعليل بان اشتمالها للذكر هو السبب لكونها مفضية إلى الحسنات ناهية عن السيئات - وقد ورد فى فضل الذكر أحاديث منها حديث أبى الدرداء رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الا أنبئكم بخير أعمالكم وأذكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر اللّه - رواه مالك واحمد والترمذي وابن ماجة الا ان مالكا وقفه على أبى الدرداء وعن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه سئل أى العباد أفضل وارفع درجة عند اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات قيل يا رسول اللّه ومن الغازي فى سبيل اللّه فقال لو ضرب بسيفه الكفار حتى تنكسر وتخضب دما لكان الذاكرون اللّه كثيرا أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال الترمذي حديث غريب وعن عبد اللّه بن بسر قال جاء أعرابي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أى الناس خير قال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أى الناس خير قال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول اللّه أى الأعمال أفضل قال ان تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر اللّه - رواه احمد والترمذي وعن أبى هريرة قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسير فى طريق مكة فمر على جبل يقال له حمدان فقال سيروا هذا حمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات - رواه مسلم وعن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.(1/5065)
متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون اللّه تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء قال فيسئلهم ربهم (و هو اعلم بهم) ما يقولون عبادى قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجّدونك قال فيقول هل راؤنى قال فيقولون لا واللّه ما راوك قال فيقول كيف لو راونى قال يقولون لو راوك كانوا أشدّ لك
عبادة وأشدّ لك تمجيدا واكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسئلون قالوا يسئلونك الجنة قال يقول هل راوها فيقولون لا واللّه ما راوها قال يقول كيف لو راوها قال يقولون لو انهم راوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد طلبا وأعظم فيها رغبة قال فلم يتعوذون قال يقولون من النار قال يقول فهل راوها قال يقولون لا واللّه يا رب ما راوها قال يقول
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 207(1/5066)
فكيف لوراوها قال يقولون لو راوها كانوا أشد لها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فاشهدكم انى قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم انما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم - رواه البخاري وروى مسلم نحوه وفيه قال يقولون رب فيهم عبد خطاء انما مرّ فجلس معهم قال فيقول ولغفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم - وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا امررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال قال حلق الذكر.(1/5067)
رواه الترمذي وروى مسلم من حديث معاوية رض ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال وما اجلسكم هاهنا قالوا جلسنا نذكر اللّه ونحمده على ما هدانا للاسلام ومنّ به علينا قال ان اللّه عزّ وجلّ يباهى بكم الملائكة - وعن مالك قال بلغني ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذاكر اللّه فى الغافلين كالمقاتل خلفه الفارين وذاكر اللّه فى الغافلين كغصن اخضر فى شجر يابس وذاكر اللّه فى الغافلين مثل مصباح فى بيت مظلم وذاكر اللّه فى الغافلين يريه مقعده من الجنة وهو حى وذاكر اللّه فى الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم من بنى آدم والبهائم - رواه رزين وعن معاذ بن جبل قال ما عمل آدمي عملا انجاله من عذاب اللّه من ذكر اللّه - رواه مالك والترمذي وابن ماجه وعن أبى سعيد شهد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال لا يقعد قوم يذكرون اللّه الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللّه فيمن عنده ورواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وان ذكرنى فى ملاء ذكرته فى ملاء خير منهم متفق عليه وقال قوم معنى قوله تعالى ولذكر اللّه اكبر لذكر اللّه إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك عن ابن عباس رض وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير قال البغوي ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمعنى انه لا تقصروا فى ذكر اللّه فان ذكركم إياه يفضى إلى ذكره إياكم ولذكره إياكم أفضل من ذكركم إياه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شىء كذا قال عطاء.(1/5068)
وَ لا تُجادِلُوا يعنى لا تخاصموا عطف على أقم الصّلوة أى ولا تجادل أنت والمؤمنون أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي أى بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ الخصال يعنى بالقرءان والدعاء إلى اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 208
باياته والتنبيه على حججه فالمستثنى مفرغ أو المعنى الا بالتي هى احسن مما يفعله الكافرون يعنى معارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح فالمستثنى منقطع لان النصح ليس بمجادلة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بنبذ العهد أو عدم قبول الجزية فقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدوّهم صاغرون كذا قال سعيد بن جبير ان المستثنى أهل الحرب والباقي بعد الثنيا أهل الذمة والظاهر انه كان الحكم بحسن المجادلة قبل الأمر بالقتال لان الآية مكية فالمراد حينئذ بالذين ظلموا المفرطون فى الاعتداء والعناد والقائلون بإثبات الولد وبان يد اللّه مغلولة وبانّ اللّه فقير ونحن اغنياء فحينئذ جاز مجادلتهم بالعنف وعلى هذا قال قتادة ومقاتل هذه الآية منسوخة باية السيف وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بيان لحسن المجادلة.(1/5069)
و يحتمل ان يكون المعنى ولا تجادلوا أهل الكتاب إذا أخبروا مما ذكر فى كتبهم يعنى لا تكذبوهم الّا الّذين ظلموا منهم يعنى الا من اخبر بشئ معلوم قطعا انه كاذب فيه كقولهم بتأبيد دين موسى أو قتل عيسى أو كون عيسى ابن اللّه ونحو ذلك فحينئذ يجب تكذيبه والمباهلة عليه وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أى مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنّا باللّه وما انزل إلينا وما انزل إليكم الآية - رواه البخاري وعن أبى نملة الأنصاري انه بينما هو جالس عند رسول ال لّه صلى اللّه عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة فقال يا محمد هل يتكلم هذا الميت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا اعلم فقال اليهودي انها تتكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما حدثكم أهل الكتب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا امنّا باللّه وكتبه ورسله فان كان باطلا لم تصدقوهم وان كان حقّا لم تكذبوهم.
وَكَذلِكَ أى كما أنزلنا على من قبلك أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وحيا مصدقا لسائر الكتب الالهية وهو تحقيق لقوله فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ به يعنى مومنى أهل الكتب عبد اللّه بن سلام وأمثاله أو المعنى الذين آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كانوا يؤمنون به قبل مبعث
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 209(1/5070)
النبي صلى اللّه عليه وسلم وَمِنْ هؤُلاءِ أى من أهل مكة أو من العرب أو ممن فى عهد النبي صلى اللّه عليه واله وسلم من الكتابين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أى بالقران وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الاضافة للعهد يعنى بايات القرآن إِلَّا الْكافِرُونَ يعنى الكافرون باللّه وبالكتب كلها يعنى من كذب بالقران فقد كذب بالتوراة والإنجيل أيضا لانهما مصدقان للقران فتكذيبه تكذيب بهما فمن أنكر القرآن وادعى الايمان بالتورية فدعواه باطل قال قتادة الجحود انما يكون بعد المعرفة عرفوا ان محمدا حق والقران حق فجحدوا.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد ص عطف على كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أى من قبل ما انزل إليك الكتاب مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ ولا تكتبه بِيَمِينِكَ ذكر اليمين زيادة تصوير للمنفى ونفى للتجوز فى الاسناد إِذاً يعنى إذا كنت قاريا للكتب المتقدمة كاتبا لها لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أى الكافرون يعنى أهل مكة وقالوا لعله التقطه من كتب الأقدمين كذا قال قتادة وانما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد مع وجود المعجزات المتكاثرة وقيل معناه لا ارتياب أهل الكتاب لوجدانهم نعتك فى كتبهم بالامى كذا قال مقاتل فيكون على هذا ابطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.(1/5071)
بَلْ هُوَ أى القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ واضحة الدلالة على صدقها إضراب عما فهم فيما سبق يعنى ما هذا القرآن مختلقا من عندك ولا مخطوطا بيمينك بل هو آيات بينات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى المؤمنين الذين حملوا القرآن يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه وهى من خصائص القرآن كونه آيات بينات الاعجاز وكونه محفوظا عن التحريف والاسقاط لقوله تعالى وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وكونه محفوظا فى الصدور بخلاف سائر الكتب فانها لم تكن معجزة فكانوا يحرفون الكلم منها عن مواضعها وما كانت تقرا الا من مصحف وقال ابن عباس بل هو يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم ذوايات بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من أهل الكتاب لانهم يجدون نعته ووصفه فى كتبهم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ الظلم وضع الشيء فى غير موضعه يعنى آياتنا معجزة واضحة الدلالة على صدقها لظما ومعنى فمن جحد بها بعد وضوح اعجازها فهو الظالم المكاير للحق.
وَقالُوا عطف على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وما بينهما معترضات لَوْ لا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 210
كما انزل على الأنبياء من قبل مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى قرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص آيات على الجمع والباقون اية على التوحيد قُلْ يا محمّد ص إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أى فى قدرته مربوطا بإرادته لست أملكها فاتيكم بما تقرحون وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأنى الا الانذار وابانة بما أعطيت من الآيات.(1/5072)
أَ وَلَمْ يَكْفِهِمْ الهمزة للانكار والتوبيخ والواو للحال من فاعل فعل مقدر تقديره أ تطلبون منك اية والحال انه لم يكفهم اية قوية مغنية عما اقترحوه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ وأنت امّىّ الْكِتابَ المعجز الجامع لانواع العلوم الشريفة مطابقا لما قبله من الكتب يُتْلى عَلَيْهِمْ يدوم تلاوته عليهم متحدين به
لم يقترن بزمان وهى تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن ارم
دامت لدنيا ففاقت كل معجزة من النبيّين إذ جاءت ولم تدم
إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الّذى هو اية مستمرة مبينة لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أى تذكرة لمن همه الايمان دون التعنت هذه الآية تعليل للتوبيخ - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والدارمي فى مسنده وأبو داود فى المراسيل من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة مرسلا قال جاء ناس من المسلمين بكتف كتب فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم كفى بقوم ضلالة ان يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ. روى ان كعب بن الأشرف قال يا محمد من يشهد بانك رسول اللّه فنزلت.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يخفى عليه شىء الجملة صفة لشهيدا أو تعليل لكفى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس يعنى بغير اللّه وقال مقاتل يعنى الذين عبدوا الشيطان وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فى تجارتهم حيث اختاره الباطل على الحق واشتروا النار بالجنة هذه الجملة معطوفة على كفى.(1/5073)
وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ عطف على قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ نزلت الآية حين قال النضر بن الحارث فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى قال ابن عباس يعنى ما وعدتك ان لا أعذب قومك ولا استأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 211
القيامة كما قال بل الساعة موعدهم والسّاعة أدهى وامرّ وقال الضحاك مدة أعمارهم لانهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب وقيل يوم بدر لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب وقيل الاجل بَغْتَةً فجاة فى الدنيا كوقعة بدر أو فى الاخرة عند نزول الموت بهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ إعادة تأكيدا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ عطف على لياتينّهم بغتة يعنى سيحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. أو هى الان كالمحيطة لاحاطة الكفر والمعاصي التي يوجبها لهم واللام للعهد على وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على موجب الإحاطة أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لمحيطة أو لمقدر مثل كان كيت وكيت مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أى من جميع جوانبهم وَيَقُولُ قرأ نافع والكوفيون بالياء يعنى ويقول اللّه أو بعض ملائكته بامره والباقون بالنون على التكلم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ أى جزاء ما كنتم تَعْمَلُونَ يا عِبادِيَ قرأ أبو عمرو « و يعقوب وخلف - أبو محمد » وحمزة والكسائي بحذف الياء فى الوصل وفتحها الباقون فى الوصل وأثبتوها ساكنه فى الوقف الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي
قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها بإسكانها واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ(1/5074)
ايّاى منصوب بفعل مضمر يفسره الشرطية الواقعة بعدها والفاء جزاء شرط محذوف تقديره ان لم تستطيعوا ان تعبدونى فى الأرض التي كنتم فيها فاعبدونى فى ارض غيرها فحذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول حتى صار الضمير المتصل منفصلا وأفاد تقديمه معنى الاختصاص وصار فاياى اعبدوا ثم أضمر الفعل الناصب وفسره بقوله فاعبدونى ليفيد التأكيد كانّه قال فاعبدونى فاعبدونى قال مقاتل والكلبي نزلت فى ضعفاء المسلمين بمكة يقول ان كنتم بمكة فى ضيق من اظهار الايمان فاخرجوا إلى ارض غيرها يمكن لكم فيها اظهار الايمان كالمدينة ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
و قال مجاهد إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
فهاجروا وجاهدوا فيها وقال سعيد بن جبير إذا عمل فى ارض بالمعاصي فاخرجوا منها ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
و قال عطاء إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
و كذلك يجب على كل من كان فى بلده يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك ان يهاجر إلى حيث يتهيا له العبادة وقيل نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى من الجوع ان هاجرنا فانزل اللّه هذه الآية لم يعذرهم بترك الخروج
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 212
قال مطرف بن عبد اللّه إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
اى رزقى لكم واسع فاخرجوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فرّ بدينه من ارض إلى ارض ولو شبرا استوجب الجنة وكان رفيق ابراهيم ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم رواه الثعلبي من حديث الحسن مرسلا.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أى واجد حرارته وكربه لا محالة كما يجد الذائق طعم المذوق فلا تقيموا دار الشر أى خوفا من الموت بل لا بد لكم من الاستعداد لها بعبادة اللّه ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم بأعمالكم فهاجروا فى سبيل اللّه نجازيكم عليه قرأ أبو بكر باليا على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ففيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.(1/5075)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ قرأ حمزة والكسائي لنثوينّهم بالتاء المثلثة ساكنة وتخفيف الواو وبالياء من غير همزة يقال ثوى الرجل وأثويته إذا أنزلته منزلا والباقون بالباء الموحدة وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها أى لننزلهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أعالي قال صاحب البحر المواج لنبوّئنّهم بالباء الموحدة فعل متعد إلى مفعول واحد ومجرده لازم وغرفا منصوب بنزع الخافض ليس مفعولا ثانيا له الا على تضمينه معنى لننزلن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله تقديره عرف الجنة أو أجرهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على ذية المشركين والهجرة للذين إلى غير ذلك من المحن والشاق لاجل مرضاة اللّه وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعتمدون على ان يرزقهم من حيث لم يحتسبوا - قال البغوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقنا اذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة فقالوا كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ محتاجة إلى الغذاء من البهائم والطيور لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا معها ولا تدخر لغد قال سفيان بن على بن أرقم ليس شىء من خلق اللّه يدخر الا الإنسان والفارة والنمل اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ حيثما كنتم يعنى انها مع ضعفها وعدم ادخار أرزاقها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء فى انه لا يرزقها وإياكم الا اللّه تعيشون كما تعيشون وتموتون كما تموتون فاجتهادكم عبث فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوالكم سمع
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 213(1/5076)
قولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة الْعَلِيمُ بما فى قلوبكم من ضعف اليقين أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم والبيهقي وابن عساكر بسند ضعيف وكذا ذكر البغوي عن ابن عمر قال دخلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حائطا من حوائط الأنصار فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال يا ابن عمر كل فقلت لا أشتهيها يا رسول اللّه قال لكنى أشتهيها وهذه صبح رابعة منذ لم اطعم طعاما ولم أجده فقلت انا للّه المستعان قال يا ابن عمر لو سالت ربى لاعطانى مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر رض إذا عمرت وبقيت فى قوم يحيئون رزق سنة ويضعف اليقين قال فو اللّه ما برحنا ولارمنا حتى نزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ الآية . عن انس قال ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد. رواه الترمذي وصححه وعن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغذ وخماصا وتروح بطانا - رواه الترمذي وابن ماجة وعن ابن مسعود - قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس من شىء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار الا قد أمرتكم به وليس من شى يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة الا قد نهيتكم عنه وان روح القدس نعت فى روعى ان نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها الا فاتقوا اللّه واجملوا فى الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق ان تطلبوا بمعاصي اللّه فانه لا يدرك ما عند اللّه الا بطاعته - رواه البغوي فى شرح السنة وذكره فى المعالم - .(1/5077)
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى أهل مكة شرط فى جواب قسم محذوف مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جملة استفهامية واقعة بتأويل المفرد فى محل النصب على المصدرية لقوله سالتهم تقديره سالتهم هذا السؤال لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فاعل لفعل محذوف تقديره ليقولنّ خلقهن اللّه وقوله ليقولن جواب للقسم لفظا وجزاء للشرط بمعنى يعنى واللّه لا يقولن الا هذا الجواب لما تقرر فى العقول من انتهاء الممكنات إلى واحد واجب لذاته فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعنى فكيف يصرفون عن توحيدهم بعد إقرارهم بذلك.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يحتمل ان يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على التعاقب فى الزمان وان يكون على
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 214
وضع الضمير موضع من يشاء أى ويقدر لمن يشاء منهم لان من يشاء منهم غير معين وكان الضمير مبهما مثله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) يعلم مصالح كل شىء ومفاسده قال اللّه تعالى ان من عبادى المؤمنين لمن يسئلنى الباب من العبادة فاكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الغناء ولو أفقرته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الفقر ولو أغنيته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الصحة ولو أسقمته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لا يصلح إيمانه الا السقم ولو اصححته لافسده ذلك انى أدبر امر عبادى بعلمي فى قلوبهم انى عليم خبير - رواه البغوي فى حديث طويل عن انس وسنذكره فى سورة الشورى إنشاء اللّه تعالى.(1/5078)
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى أهل مكة عطف على لان سالتهم والكلام فيه مثل ما مرّ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعنى أهل مكة معترفون بان موجد الأشياء كلها بسائطها ومركباتها أصولها وفروعها هو اللّه لا غير ومع ذلك يشركون به فى العبادة بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك عن مثل هذه الضلالة أو على تصديقك واظهار حجتك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ « 1 » قبح صنيعهم وتناقض أقوالهم حيث يقرون بانه المبدأ لكل ما عداه ومع ذلك يشركون به اخس الموجودات وأعجزها.
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا اشارة تحقير إِلَّا لَهْوٌ وهو ما يشغله عما يغنيه فان اشتغال المرء بالدنيا يشغله عما يفيده فى الحيوة المؤبدة وَلَعِبٌ أى عبث سميت بها لانها فانية وما يفعل المرء فى الحيوة الدنيا من الطاعات فهى ليست من الدنيا بل هى من امور الاخرة لظهور ثمرتها فيها وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أى دار الحيوان يعنى ليس فيها الا الحيوة لامتناع طريان الموت عليها أو جعلت ذاتها حيوة للمبالغة والحيوان مصدر بمعنى الحيوة أصله حييان قلبت الياء الثانية واو أو هو ابلغ من الحيوة لما فى بناء فعلان من الدلالة من الحركة والاضطراب اللازم للحيوة ولذلك اختير عنها هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فناء الدنيا وبقاء الاخرة لم يؤثروا الدنيا على الاخرة.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وخافوا الغرق متصل بما دل عليه شرح حالهم أى هم على ما وضعوا من الشرك والعناد إذا ركبوا فى الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى يدعون
_________
(1) وفى الأصل لا يعلمون -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 215(1/5079)
كائنين فى صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون الا اللّه ولا يدعون سواه لعلمهم بانه لا يكشف الضر الا اللّه فَلَمَّا نَجَّاهُمْ اللّه إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أى فاحبؤا المعاودة إلى الشرك عطف على الشرطية السابقة - قال عكرمة كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها فى البحر وقالوا يا رب يا رب وعلى قوله مخلصين له الدين على الحقيقة يعنى كانوا عند الشدائد يخلصون الدين للّه ويتركون الشرك وعند النجاة يعودون إلى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذا لام الأمر ومعناه التهديد والوعيد كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى ليجحدوا نعمة اللّه فى انجائه إياهم وقيل هى لام كى أى يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة الانجاء أو المعنى لا فائدة لهم فى الإشراك الا الكفر والتمتع بما يستمتعون به فى العاجلة من غير نصيب فى الاخرة على خلاف عادة المؤمنين المخلصين فانهم يشكرون نعمة اللّه إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة وَلِيَتَمَتَّعُوا قرأ ابن كثير « و خلف - أبو محمد » وحمزة والكسائي وقالون عن نافع بسكون اللام فهو لام الأمر على قراءتهم والباقون بكسر اللام نسقا على قوله ليكفروا وحينئذ يحتمل لام الأمر ولام كى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك حين يعاقبون.(1/5080)
أَ وَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم ينظروا ولم يروا أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا مكة حَرَماً مصونا عن النهيب والتعدي آمِناً اهله عن القتل والسبي وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ عطف على جملة محذوفة مفهومة عما سبق تقديره انّا جعلنا مكّة حرما آمنا لا يغار ولا يتعرض أهلها وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ - وقد كان العرب يختلسون الناس قتلا وسبيا ولا يتعرضون أهل مكة أَفَبِالْباطِلِ الهمزة للانكار والفاء للتفريع على مضمون ما سبق يعنى أنعم اللّه على أهل مكة هذه النعمة وهم بعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها مما لا يقدر عليه الا اللّه سبحانه بالباطل يعنى بالأصنام أو بالشيطان وجاز ان يكون المراد بالباطل كل شىء سوى اللّه لقوله صلى الله عليه وسلم الا ان احسن القول قول لبيد الا كلّ شىء ما خلا اللّه باطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره وتقديمه للاهتمام أو الاختصاص على طريق
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 216
المبالغة وقيل المراد بنعمة اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم والقران.
وَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لاحد اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان زعم ان له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ أى الرسول والقران لَمَّا جاءَهُ فى كمّا تشفيه لهم بانهم لم يتوقفوا ولم يتاملوا حين مجئ الرسول بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوا أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ استفهام تقرير للثواء يعنى الا يستوحبون الثواء أى القرار فى جهنم وقد افتروا على اللّه وكذّبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو تقرير لاجترائهم يعنى الم يعلموا ان فى جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة.(1/5081)
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا الجهاد بذل الوسع والطاقة والمراد الذين بذلوا وسعهم بطاقتهم فى محاربة الكفار ومخالفة النفس والهوى فِينا أى فى ابتغاء مرضاتنا ونصرة ديننا وامتثال أو أمرنا والانتهاء عن مناهينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أى سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا وصولا بلا كيف أو لنرينهم سبل الخير ونوفّقهم سلوكها قال اللّه تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وعن أبى الدرداء انه قال معناه والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وعن عطاء والّذين جاهدوا فى رضائنا لنهدينّهم سبل ثوابنا وعن الجنيد الَّذِينَ جاهَدُوا فى التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص وقال سفيان بن عيينة إذا اختلف الناس فانظروا إلى ما عليه أهل الثغور فان اللّه قال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال الحسن أفضل الجهاد مخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض وَالَّذِينَ جاهَدُوا فى طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به. وقال سهيل بن عبد اللّه والّذين جاهدوا فى اقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة وقال ابن عباس رض والّذين جاهدوا فى طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا وفى الحديث من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم قوله لنهدينهم سبلنا جواب قسم محذوف والجملة القسمية خبر للموصول والموصول المبتدا مع خبره عطف على الّذين أمنوا وعملوا الصّلحت وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والاعانة فى الدنيا والثواب والمغفرة فى العقبى وقالت الصوفية ان اللّه لمع
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 217(1/5082)
المحسنين معية غير متكيفة يدركها بصائر أهل البصائر - هذه الجملة عطف على والّذين جاهدوا وجاز ان يكون حالا من فاعل لنهدينّهم والعائد وضع الظاهر موضع الضمير تقديره وانّا لمع المحسنين والتصريح باسمه تعالى لمزيد التأكيد واللّه اعلم تم تفسير سورة العنكبوت من التفسير المظهرى (و يتلوه تفسير سورة الروم ان شاء اللّه تعالى) فى التاسع من رجب من السنة السادسة بعد الف ومائتين سنة 1206 هج واللّه اعلم.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 218
سورة الرّوم
مكيّة وهى ستون اية رب يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ويحيى بن يعمر وقتادة قال ابن شهاب بلغنا ان المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل ان يخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقولون تشهدون « اى الروم - أبو محمد » انهم أهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس وانكم تزعمون ستغلبوننا بالكتاب الذي انزل على نبيكم فكيف غلبت المجوس الروم وهم أهل الكتاب فستغلبكم كما غلبت فارس الروم « 1 » .
الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أى ادنى ارض العرب منهم لانها الأرض المعهودة عندهم أو فى ادنى ارضهم من العرب واللام بدل من الاضافة قال عكرمة هى أذرعات وكسكر وقال مجاهد ارض الجزيرة وقال مجاهد « 2 » الأردن وفلسطين وَهُمْ أى الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ مصدر مبنى للمفعول أى من
_________
((1/5083)
1) أخرج الترمذي والحاكم وصححه عن ابن عباس فى هذه الآية انه قال كان المشركون يحبون ان يظهر فارس على الروم لانهم كانوا اصحاب أوثان - وكان المسلمون يحبون ان يظهر الروم على فارس لانهم كانوا اصحاب كتاب فلمّا غلبت الروم ذكروه لابى بكر فذكره أبو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم امام انهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا اجعل بيننا وبينك أجلا فان ظهرنا كان لنا كذا وان ظهرتم كان لكم كذا وكذا وكذا فجعلا بينهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال الا جعلته (أراه قال) دون العشرة فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ - قال سفيان سمعت انهم ظهروا عليهم يوم بدر - ولهذا الحديث طرق متعددة مستفيضة عن ابن مسعود والبراء بن عازب وينار بن مكرم الأسلمي 12 منه نور اللّه مضجعه -
(2) هكذا فى الأصل لعلهم نقلوا عن مجاهد قولين أو صدر هذا من سبق قلم - أبو محمد عفا اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 219
بعد ان غلبوا على صيغة المجهول سَيَغْلِبُونَ على فارس.(1/5084)
فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى السبع وقيل ما بين الثلاث إلى التسع وقيل ما دون العشرة وقال الجوهري تقول بضع وبضعة عشر رجلا فإذا جاوزت العشرين لا تقول بضع وعشرون ولهذا يخالف ما جاء فى الحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الايمان بضع وسبعون شعبة قال البغوي كان بين فارس والروم قتال فكان المشركون يودّون غلبة فارس على الروم لان أهل فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لانهم كانوا أهل كتاب فبعث كسرى يعنى پرويز بن هرمز بن نوشيروان جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهريزاد وبعث قيصر جيشا وامّر عليهم رجلا يقال له يحيس فالتفتا ما ذرعات الشام وبصرى (و هواد فى الشام إلى ارض العرب والعجم) فغاب فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين انكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا أهل فارس على إخوانكم من الروم فان قاتلتمونا لنظهرن عليكم فانزل اللّه تعالى هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه إلى الكفار فقال فرحتم بظهور إخوانكم فو اللّه ليظهرن الروم على فارس على ما أخبرنا بذلك نبينا فقال أبيّ بن خلف الجمحي كذبت فقال أنت أكذب يا عدو اللّه فقال اجعل بيننا وبينك أجلا انا جئك (و المناحبة المراهنة) على عشر قلائص منى وعشر قلائص منك فان ظهر الروم على فارس غرمت وان ظهر فارس على الروم غرمت ففعلوا وجعل الاجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره بذلك (و ذلك قبل تحريم القمار) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما هكذا ذكرت انما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزائده فى الخطر وماده فى الاجل فخرج أبو بكر فراى ابيّا فقال لعلك ندمت قال لا أزايدك فى الخطر وامادك فى الاجل فجعل مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين وقيل إلى سبع سنين قال قد فعلت - فلمّا خشى(1/5085)
أبيّ بن خلف ان يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال انى أخاف ان تخرج من مكة فاقسم لى كفيلا فكفل له عبد اللّه بن أبى بكر ابنه فقال لا واللّه لا أدعك حتى تعطينى كفيلا فاعطاه - ثم خرج إلى أحد فرجع أبيّ بن خلف إلى مكة فمات بمكة من جراحته التي جرحه النبي حين بارزه - فظهرت
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 220
الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناجئتهم وقيل كان يوم بدر قال الشعبي لم يمض تلك المدة مدة عقد المناحبة بين أهل مكة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف والمسلمين وصاحب قمارهم أبى بكر الصديق (و كان ذلك قبل تحريم القمار) حتى غلبت الروم فارس وربطوا خير لهم بالمدائن وبنوا للرمية فقمر أبو بكر ابيّا وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به وحمله إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم تصدق به واخرج الترمذي من حديث أبى بكر نحوه.
(مسئلة) : - قال أبو حنيفة العقود الفاسدة كعقد الربوا وغيرها جائزة فى دار الحرب بين المسلمين والكفار مستدلا بقصة أبى بكر ولان اموال الكفار غير معصوم يجوز أخذها ما لم يكن غدرا بعد الاستيمان.(1/5086)
قال البغوي وكان سبب غلبة الروم على فارس على ما قال عكرمة ان شهريزاد بعد ما غلب الروم لم يزل يطيئهم ويخرّب مدائنهم حتى بلغ الخليج - فبينا اخوه فرخان جالس على سريره يشرب فقال لاصحابه لقد رأيت انى جالس على سرير كسرى فبلغت حكمته كسرى فكتب إلى شهريزاد إذا أتاك كتابى فابعث الىّ راس فرخان فكتب إليه أيها الملك انك لن تجد مثل فرخان وان له نكابة وصوتا فى العدو فلا تغفل - فكتب إليه ان فى رجال فارس خلقا منه فعجل الىّ برأسه فكتب فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريدا إلى أهل الجيش انى قد نزعت منكم شهريزاد واستعملت عليكم فرخان ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة امر فيها بقتل شهريزاد فقال إذا ولّى فرخان الملك وانقاد له اخوه فاعطه الصحيفة - فلمّا قرأ شهريزاد الكتاب قال سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع الصحيفة فقال ايتوني بشهريزاد فقدمه ليضرب عنقه فقال لا تعجل علىّ حتى اكتب وصيتي قال نعم فدعى بالسقط وأعطاه ثلاث صحائف وقال كل هذا راجعت فيك لسرى وأنت تريد ان تقتلنى بكتاب واحد فرد الملك إلى أخيه فكتب شهريزاد إلى قيصر ملك الروم ان لى إليك حاجة لا يحملها البريد ولا يبلغها الصحف فالقنى ولا تلقنى الا فى خمسين روميا فانى ألقاك فى خمسين فارسيّا فاقبل قيصر فى خمسين روميا « 1 » وجعل يضع العيون بين يديه فى الطريق وخاف ان يكون قد مكر حتى أتاه عيون له انه ليس معه الا خمسون
_________
(1) وفى الأصل خمسين الف روميا 12
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 221(1/5087)
رجلا ثم سقط لهما والقيافى قبة ديباج ثم ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين فدعوا بترجمان بينهما فقال شهريزاد ان الذين خربوا مدائنك انا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وان كسرى حسدنا وأراد ان اقتل أخي فابيت ثم امر أخي ان يقتلنى فقد خلقنا جميعا فنحن تقاتله معك فقال قد أصبتما ثم استأثر أحدهما على صاحبه ان السر بين اثنين فإذا جاوزهما فشا فقتلا الترجمان معا بسكينهما فادليت الروم على فارس عند ذلك فابتغوهم فقتلوهم ومات كسرى وجاء الخبر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية ففرح هو ومن معه فذلك قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الآية - وقرئ غلبت بالفتح على صيغة المعروف وسيغلبون بالضم ومعناه ان الروم غلبوا على ارض فارس والمسلمون سيغلبونهم - وفى السنة التاسعة من غلبة الروم غذاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا يكون الغلب مصدرا مبنيّا للفاعل مضافا إلى الفاعل ويؤيد هذه القراءة ما أخرج الترمذي عن أبى سعيد قال لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فاعجب ذلك المؤمنين فنزلت الم غُلِبَتِ الرُّومُ ....(1/5088)
بِنَصْرِ اللَّهِ بفتح الغين واخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه وهذه قراءة شاذة والاولى هى المتواترة ولعل النبي صلى اللّه عليه وسلم لما غلب الروم على فارس علم بالوحى الغير المتلو انه غلبت اليوم الروم على فارس فى ادنى الأرض وهم أى الروم من بعد ان غلبوا على الفارس سيغلبهم المؤمنون فقرأ على ما رواه الترمذي عن أبى سعيد بفتح الغين من غلبت على البناء وسيغلبون على البناء للمفعول واللّه اعلم لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ أى قبل غلبة الروم على فارس حين كونهم مغلوبين وَمِنْ بَعْدُ أى بعد غلبهم عليهم حين كونهم غالبين ليس شىء منهما الا بقضائه وقدره هذه الجملة تعليل لقوله سيغلبون وَيَوْمَئِذٍ أى يوم إذا كان الغلبة للروم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ من له كتاب على من ليس له كتاب وظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين وغلبتهم فى رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم فى دينهم. قال السدى فرح النبي صلى اللّه عليه وسلم بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك - قال جلال الدين المحلى فرح المسلمون بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبرئيل بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه - هذه الجملة معطوفة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 222
على قوله وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء اخرى وَهُوَ الْعَزِيزُ ينتقم من عباده بتسليط غيرهم عليهم تارة الرَّحِيمُ ويرحمهم ويتفضل عليهم بتضرهم اخرى.
وَعْدَ اللَّهِ أى وعد اللّه وعدا مصدر مؤكد لنفسه لا ما قبله وهو قوله وهم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فى معنى الوعد لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم.(1/5089)
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى امور معاشهم كيف يكتسبون وكيف يتجرون وكيف يزرعون ونحو ذلك وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هى المستقر ابدا هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم هم الثانية تكرير للاولى أو مبتدا وغافلون خبره والجملة خبر الاولى والرابطة إعادة لفظ المبتدا نحو الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الاخرة وهذه الجملة محققة لمضمون الجملة السابقة بدل من قوله لا يَعْلَمُونَ تقريرا وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها دون العلم بجميعها فان من العلم بظاهر معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وافعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهرا واما باطنها انها مجاز إلى الاخرة ووصلة إلى نيلها وأنموذج لاحوالها واشعارا بانه لا فرق بين عدم العلم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا.
أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا الهمزة للتوبيخ والواو للعطف على محذوف تقديره اقصروا نظرهم على ظاهر من الحيوة الدنيا ولم يتفكروا فِي أَنْفُسِهِمْ أى لم يحدثوا التفكر فيها حتى يظهر لهم بعض بواطنها أو المعنى أو لم يتفكروا فى امر أنفسهم فانها اقرب إليهم من غيرها وامراة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له فى الممكنات بأسرها فان الإنسان عالم صغير حتى يعلموا ويقولوا ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أى ما خلقها باطلا عبثا بغير حكمة بالغة بل خلقها مقرونة مصحوبة بالحكمة وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعنى ما خلقها للخلود بل لاجل معين ينتهى عنده وبعده قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب قال اللّه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ يدل على ان تركهم غير راجعين عبث فمن تفكر فى نظام السموات والأرض
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 223(1/5090)
و ما بينهما يحكم ان خالقه حكيم والحكيم لا يفعل العبث والحكمة فى خلقها معرفة الخالق وصفاتها ولو لا البعث والنشور والثواب والعقاب يستوى العارف والكافر فمن تفكر فيها يكتسب العلم بالاخرة فلا يكون من الغافلين وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لاجل غباوتهم وعدم تفكرهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أى بجزائه عند انقراض الدنيا لَكافِرُونَ أى لجاحدون يحسبون ان الدنيا ابدية ولا بعث ولا حساب.(1/5091)
أَ وَلَمْ يَسِيرُوا الهمزة للانكار والتوبيخ وانكار النفي اثبات وتقرير والواو للعطف على محذوف تقديره الم يخرج أهل مكة من ديارهم ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا منصوب فى جواب النفي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كيف فى محل النصب على انه خبر كان قدم عليه لما له صدر الكلام والجملة فى محل النصب على انه مفعول لينظروا يعنى انهم قد ساروا فى أسفارهم ونظروا إلى اثار الّذين كذّبوا الرسل من قبلهم فدمروا عل ى تكذيبهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود وغيرهم فان القرون الماضية كانوا أشد قوة وأطول أعمارا واكثر اثارا من القرون التالية - هذه الجملة مع ما عطف عليه مستأنفة فى جواب كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَأَثارُوا الْأَرْضَ مع ما عطف عليه عطف على كانوا أى قلّبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وكربوها للزرع وغير ذلك وَعَمَرُوها أى الأرض عمارة أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها منصوب على انه صفة مصدر محذوف يعنى عمروها عمارة اكثر من عمارة أهل مكة إياها فانهم فى واد غير ذى زرع لا تبسط لهم فى غيرها وفيه تهكم بهم حيث كانوا مفترين بالدنيا مفتخرين بها وهم أضعف حالا فى الدنيا فان مدارها على التبسط فى البلاد والتسلط على العباد والتصرف فى أقطار الأرض بانواع العمارة وهم ضعفاء يلجئون إلى واد لا نفع لها ولو لا رحلتى الشتاء والصيف لهم إلى اليمن والشام لماتوا جوعا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عطف على كانوا أشدّ منهم قوة فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ معطوف على جملتين محذوفتين معطوفتين على جاءتهم تقديره جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم فدمرهم اللّه فى الدنيا فما كان اللّه ليظلمهم أى ما كان صفة اللّه ظلمهم فان اللام لام الجحود وان بعدها مقدرة يعنى ما كان صفة اللّه ان يفعل بهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 224(1/5092)
ما يفعل الظلمة من التعذيب بغير جرم ولا تذكير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما ادى إلى تدميرهم.
ثُمَّ أى بعد التدمير فى الدنيا عطف على جملة مقدرة وهى فدمرهم اللّه ثم كانَ عاقِبَةَ قرأ أهل الحجاز والبصرة بالرفع على انه اسم كان وخبره ما بعده أو محذوف كما سنذكر واهل الكوفة والشام بالنصب على انه خبر كان والاسم ان كذّبوا الَّذِينَ أَساؤُا من الأعمال تقديره ثم كان عاقبتهم فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على بعض ما يقتضى تلك العاقبة السُّواى تأنيث أسوأ كالحسنى تأنيث احسن يعنى الخصلة التي تسؤهم أو عقوبة هى أسوأ العقوبات أو هو مصدر كالبشرى نعت به مبالغة قيل السّوآء اسم من اسماء جهنم كما ان الحسنى اسم من اسماء الجنة أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كذّبوا وان كذّبوا مع ما عطف عليه منصوب على العلية لقوله ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا - السُّواى تقديره لان كذبوا وجاز ان يكون بدلا أو عطف بيان السّواى يعنى ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب يعنى حملهم تلك السيئات على ان كذبوا بايات اللّه.(1/5093)
عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء فى قلبه فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وان زاد زادت حتى تعلو قلبه ذلكم الران الّذى ذكر اللّه فى كتابه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ رواه احمد والترمذي والنسائي وغيرهم وجاز ان يكون ان كذبوا مع ما عطف عليه خبر كان والسواى مصدر أساءوا أو مفعوله والمعنى ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة ان طبع اللّه على قلوبهم حتى كذبوا بايات اللّه ويجوز ان يكون السّواى مصدرا ومفعولا للفعل وان كذّبوا تابعا لها بدلا أو عطف بيان والخبر محذوف للابهام والتهويل تقديره ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ فعلوا السيئات أى التكذيب جهنم وما لا يعرف ما أعد لهم من العذاب فيها وجاز ان يكون مفسرة للاساءة فان الاساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة لمعنى القول - .
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أى يخلقهم ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ أى الخلق يبعثهم بعد الموت ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجزيهم بأعمالهم قرأ أبو بكر بالياء للغيبة لان الضمير عائد إلى الخلق والباقون بالتاء التفاتا من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 225
فى المقصود.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف متعلق بقوله يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ والجملة معطوفة على قوله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قال قتادة والكلبي أى ييئسون من كل خير وقال مجاهد يغتضحون وقال الفراء ينقطع كلامهم وحجتهم فى القاموس البلس محركة من لا خير عنده والمبلس الساكت على ما فى نفسه وابلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي وقال الجزري فى النهاية المبلس الساكت من الحزن أو الخوف والإبلاس الحيرة.(1/5094)
وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أى من الذين اشركوهم باللّه سبحانه فى العبادة على زعم انهم يشفعون لنا عند اللّه فهم لا يكونون لهم شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب اللّه أورد بصيغة الماضي لتحقق وقوعه وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أى يحجدون بآلهتهم حين يئسوا منهم - وقيل معناه كانوا فى الدنيا بسبب شركائهم كافرين باللّه تعالى.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف متعلق بيتفرّقون يَوْمَئِذٍ بدل من يوم تقوم الساعة أو تأكيد له أى يوم إذا كانوا مبلسين وكانوا بشركائهم كافرين يَتَفَرَّقُونَ قال مقاتل يتفرقون بعد الحساب سيق المؤمنون إلى الجنة والكافرون إلى النار ثمّ لا يجتمعون ابدا ثم فصله بقوله.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أى ارض ذات ازهار وانهار من رياض الجنة يُحْبَرُونَ قال ابن عباس رض يكرمون وقال مجاهد وقتادة ينعمون وقال أبو عبيدة يسرون والحبرة السرور وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتخبير التحسين وفى النهاية للجزرى الحبرة بالفتح النعمة وسعة العيش والحبرة بالكسر وقد يفتح الجمال والهيئة الحسنة وفى القاموس نحوه وفى حديث أبى موسى لو علمت انك يا رسول تسمع لقراءتى لحبرتها لك تحبيرا أى حسنت صوتى بها - قال البغوي وقال الأوزاعي عن يحيى بن كثير يحيرون هو السّماء فى الجنة وكذا أخرج هناد والبيهقي عن يحيى بن كثير فى هذه الآية وقال الأوزاعي إذا أخذ فى السماع لم تبق شجرة فى الجنة الا ورفت وقال ليس أحد من خلق اللّه احسن صوتا من اسرافيل فإذا أخذ فى السماع قطع على أهل سبع سموت صلاتهم وتسبيحهم - واخرج ابن عساكر عن الأوزاعي فى هذه الآية قال هو السماء إذا أراد أهل الجنة ان يطربوا اوحى اللّه تعالى إلى رياح يقال لها العفافة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 226(1/5095)
فدخلت فى اجام قصيب اللؤلؤ الرطب فحركته فضرب بعضه بعضا فتطرب الجنة فإذا طربت لم يبق شجرة فى الجنة الا ورقت - واخرج الطبراني والبيهقي عن أبى امامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من عبد يدخل الا ان تجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيان بأحسن صوت سمعه الانس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتحميد اللّه وتقديسه واخرج البيهقي عن ابن عباس رض انه سئل فى الجنة غناء قال الكرار من مسك عليها يمجدون اللّه تعالى بصوت لم يسمع الاذن مثله قط - قلت الطرب بالشعر والغناء فى الدنيا لا يحصل الا بذكر المحبوب بكلام موزون فى صوت حسن موزون ولا شك ان الناس إذا فازوا يرؤية جمال اللّه سبحانه ولاجمال فوق جماله فلا محبوب لهم غيره فيطربون بسماع ذكره بصوت حسن موزون وفى بعض الأحاديث ان الحور العين يغنّين لازواجهن بأصوات ما سمعها أحد قط فيكون ممّا يغنّين
نحن الخيرات الحسان ازواج قوم كرام
و مما يغنّين
نحن الخالدات فلا نموتن نحن الامنات فلا نخافن
نحن المقيمات فلا نطحن(1/5096)
كذا أخرج الطبراني عن ابن عمر رض مرفوعا واخرج الطبراني والبيهقي وابن أبى الدنيا عن انس نحوه وعن مالك بن دينار عند احمد فى الزهد يقول اللّه لداؤد عليه السلام مجدنى بذلك الصوت الحسن فيندفع داود بصوت ستقرع نعيم أهل الجنة وعن أبى هريرة عند الاصبهانى مرفوعا ان اللّه تعالى ليوصى إلى شجرة الجنة ان اسمعي عبادى الذين شغلوا أنفسهم عن المعازف والمزامير بذكرى فيسمعهم بأصوات ما سمع الخلائق مثلها قط بالتسبيح والتقديس. وفى الباب أحاديث كثيرة واخرج الحكيم فى نوادر الأصول عن أبى موسى رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له ان يسمع صوت الروحانيين قال يا رسول اللّه ما الروحانيون قال قراء أهل الجنة واخرج دينورى عن مجاهد قال ينادى مناد يوم القيامة ان الذين كانوا ينزهون أصواتهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان قال فيحلهم اللّه فى رياض من مسك فيقول للملائكة اسمعوا عبادى تحميدي و
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 227
تمجيدى واخبروهم ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - وروى الديلمي عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا مثله.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أى البعث والقيامة فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه.(1/5097)
فَسُبْحانَ اللَّهِ مصدر لفعل محذوف تقديره فسبحوا للّه سبحانا حذف الفعل وأضيف المصدر إلى المفعول والفاء للسببية والتفريع على ما سبق من صفاته تعالى من الإبداء والاعادة وغيرها والمراد بالتسبيح الصلاة يعنى صلوا للّه حِينَ تُمْسُونَ أى حين تدخلون فى المساء صلوة المغرب شكرا لما أنعم اللّه من تمام النهار بالسلامة والنعمة والدخول فى الليل للسكون والراحة - بدا بذكر صلوة المغرب لتقدم الليل على النهار فى اعتبار الشهور والأيام وَحِينَ تُصْبِحُونَ شكرا لما أنعم اللّه عليه من تمام الليل بالسلامة والراحة والدخول فى النهار لكسب المعاش والمعاد ذكر صلوة الصبح بعد المغرب لمقابلة الصباح بالمساء.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس أى يحمدون أهل السموات والأرض ويصلون له الجملة حال من اللّه أو معترضة وَعَشِيًّا أى اخر النهار عن عشى العين إذا نقص نورها عطف على يصبحون يعنى صلوا صلوة العصر صلوة الوسطى - ولما كان ذلك وقت اشتغال الناس بامور الأسواق قدم ذكرها على ذكر الظهر اهتماما يعنى لا بد لكم من الاشتغال بالصلوة حين اشتغال الناس بامور الدنيا كيلا تكونوا من الذين لا يلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه وَحِينَ تُظْهِرُونَ أى تدخلون فى الظهيرة يظهر عليكم صولة الشمس ويذكركم حر نار جهنم وحر ذكائها يوم القيامة - خص هذه الأوقات لما تظهر فيها قدرته وتتجدد نعمته ولما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه واستحقاقه الحمد والشكر ممن له نميز من أهل السموات والأرض ذكر فى هذه الآية أربعا من الصلوات الخمس وقيل حين تمسون اشارة إلى المغرب والعشاء جميعا أخرج ابن جرير والطبراني والحاكم قول ابن عباس ان الآية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون كناية عن المغرب والعشاء جميعا -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 228(1/5098)
و قال البغوي قال نافع بن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس فى القرآن قال ابن عباس نعم وقرأ هاتين الآيتين وقال جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها.
عن ابن عباس رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم من قال حين يصبح وحين يمسى سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ إلى قوله.(1/5099)
وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته فى يومه ذلك ومن قالهن حين يمسى أدركه ما فاته فى الليلة - رواه أبو داؤد وعنه عليه السّلام من سره ان يكتال له بالقفيز الا وفى فليقل فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ الآية - رواه الثعلبي من حديث انس بسند ضعيف جدا عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من قال سبحان اللّه وبحمده فى يوم مائة مرة حطت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر متفق عليه وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسى سبحان اللّه ويحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال مثل ما قال أو زاد عنه متفق عليه وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان إلى الرحمان سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم - متفق عليه وعن جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار رضى اللّه عنها ان النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها (و كان اسمها برة) فخرج وهى فى المسجد فرجع بعد ما تعالى النهار وقال مازلت فى مجلسك هذا منذ خرحت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك اربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان اللّه وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته - رواه مسلم وعن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل الكلام اربع سبحان « 1 » اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر وفى رواية أحب الكلام إلى اللّه اربع
_________
((1/5100)
1) عن ابن عباس رض قال قال عمر رض بن الخطاب اما الحمد للّه فقد عرفناه فقد يحمد الخلائق بعضهم بعضا واما لا اله الا اللّه فقد عرفناها فقد عبدت الالهة من دون اللّه واما اللّه اكبر فقد يكبر المصلى واما سبحان اللّه فما هو فقال رجل من القوم اللّه اعلم فقال لقد شقى عمر ان لم يكن يعلم ان اللّه اعلم فقال على رض يا امير المؤمنين هو اسم ممنوع ان ينتحله أحد من الخلائق واليه مفزع الخلق واجب ان يقال له فقال هو كذلك. منه رحمه اللّه - [.....]
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 229
سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر لا يضرك بايتهن بدأت - رواه مسلم وعن أبى ذر قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اىّ الكلام أفضل قال ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه وبحمده - رواه مسلم وعن جابر رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قال سبحان اللّه العظيم وبحمده غرست له نخلة فى الجنة رواه الترمذي.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالانسان من النطفة والطائر من البيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ النطفة والبيضة من الحيوان أو يعقب الحيوة بالموت وبالعكس وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أى يبسها وَكَذلِكَ أى مثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ من قبوركم احياء بعد الموت فلم تنكرونه بعد ما تشاهدون نظيره فهى تعليل للبعث قرأ « و خلف وابن ذكوان بخلاف عنه أبو حمد » حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل والباقون يضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول ..
وَمِنْ آياتِهِ أى من آيات قدرته تعالى على البعث أَنْ خَلَقَكُمْ أى خلق أصلكم آدم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إذا للمفاجاة مضاف إلى الجملة والعامل فيه معنى المفاجاة والمعنى ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين فى الأرض بعد ما كنتم جمادا بلا حس وحركته.(1/5101)
وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من للابتداء لان حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء من نطف الرجال أو للبيان لانهن من جنسهم لا من جنس اخر أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوا لها فان الجنسية علة الضم والاختلاف سبب التنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أى بين الرجال والنساء أو بين افراد الجنس مَوَدَّةً وَرَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لامر المعاش أو بان تعيّش الإنسان موقوف على التعاون المحوج إلى التواد والتراحم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فى عظمة اللّه وقدرته فيعلمون ما فى ذلك من الحكم ومن التناسل.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أى لغاتكم بان علّم كل صنف لغة وألهمه واقدره عليها أو أجناس نطقكم واشكاله وكيفيات أصواتكم بحيث لا يكاد يلتبس صوت أحد بغيره وَأَلْوانِكُمْ أى ألوان الجلد من السواد والبياض وغيرها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 230
او مشخصات الأعضاء وهياتها وألوانها وحلاها بحيث لا يلتبس أحد بغيره إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لا يكاد يخفى على عاقل من ملك أو انس أو جن وقرا حفص بكسر اللام خصهم بالذكر لانهم أحقاء بالمعرفة قال اللّه تعالى.
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ منامكم فى زمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية وَابْتِغاؤُكُمْ المعاش والمعاد مِنْ فَضْلِهِ فى كلا الزمانين أو المعنى منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بالزمانين والفعلين بعاطفين اشعارا بان كلّا من الزمانين وان خص بأحدهما فهو صالح للاخر عند الحاجة ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واستبصار فان الحكمة فيه ظاهرة.(1/5102)
وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدر بان أو الفعل فيه نزل منزلة المصدر كقوله تسمع للمعيدى خير من ان تراه أو صفة لمحذوف تقديره اية يريكم بها البزق خَوْفاً من الصاعقة وفى حالة السفر وَطَمَعاً فى الغيث إذا كنتم فى منازلكم ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فان إراءتهم يستلزم رؤيتهم إلى البرق للخوف أو الطمع أو الفعل مذكور بحذف المضاف أى لاراءة خوف وطمع أو بتأويل الخوف والطمع بالاخافة والاطماء كقولك فعلته رغما للشيطان أو على الحال مثل كلمته شفاها وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالانبات بَعْدَ مَوْتِها أى يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أى يستعملون عقولهم فيدركون كمال قدرة الصانع وحكمته.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أى يبقيان فى حيزيهما بِأَمْرِهِ أى بإقامته لهما وإرادته ببقائهما ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ الجملة معطوفة على ان تقوم بتأويل المفرد كانّه قال ومن آياته قيام السماء والأرض ثم خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة وثم لتراخى زمانه أو لعظم ما فيه وقوله مِنَ الْأَرْضِ قال البغوي اكثر العلماء على انه متعلق بتخرجون وقال البيضاوي هذا لا يجوز لان ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله بل متعلق بقوله دعاكم كقوله دعوته من أسفل الوادي - أخرج ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي فى قوله تعالى وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال يقف اسرافيل على صخرة بيت المقدس فيقول يا أيها العظام النخرة والجلود المتمزقة والاشعار المتقطعة ان اللّه يأمرك ان تجتمع لفصل الحساب - وإذا الثانية للمفاجاة ولذلك ناب مناب الفاء فى جواب الاولى ظرف مضاف إلى الجملة والعامل فيه معنى المفاجاة تقديره ففاجأتم وقت خروجكم.(1/5103)
وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا كُلٌّ أى كل واحد منها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 231
لَهُ قانِتُونَ مطيعون قال الكلبي هذا خاص بمن كان منهم مطيعا والصحيح انه عام لبيان قهرمانه والمراد الانقياد فى الأوامر التكوينية قال ابن عباس كل مطيع له فى الحيوة والموت والبعث ونحو ذلك وان عصوا فى العبادة أخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة قال تعجب الكفار من احياء الموتى فنزلت.(1/5104)
وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الإهلاك وَهُوَ الاعادة وتذكير الضمير لتذكير الخبر أو الاعادة بمعنى ان يعيد أَهْوَنُ عَلَيْهِ الجملة حال من فاعل يعيد أو معطوفة على ما سبق قال الربيع بن خيثم والحسن وقتادة والكلبي أهون بمعنى هين ولا شىء على اللّه بعزيز ويجئ افعل بمعنى الفعيل وهو رواية العوفى عن ابن عباس. وقال مجاهد وعكرمة وهو أهون على طريق ضرب المثل أى هو أيسر عليه على ما يقع فى عقر لكم فان فى عقول الناس الاعادة أهون من الإنشاء وقيل هو أهون عليه عندكم وقيل هو يعنى العود أهون على الخلق فانهم فى العود يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من ان يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى ان يصيروا رجالا ونساء وهذا معنى رواية حبان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه كالقدرة العامّة والحكمة التامّة قال ابن عباس هى انه ليس كمثله شىء - واخرج عبد الرزاق وابن أبى حاتم انه قال قتادة فى قوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال شهادة ان لا اله الا اللّه قلت أراد به الوصف بالوحدانية فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يصف به ما فيهما نطقا ودلالة وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب فى ملكه وخلقه لقادر على كل شىء لا يعجزه شىء من الإبداء والاعادة الْحَكِيمُ الذي يجرى الافعال على ما يقتضيه الحكمة - أخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان أهل الشرك يكبّون اللهم لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملكت فنزلت.(1/5105)
ضَرَبَ اللّه أى بيّن لَكُمْ أيها المشركون مَثَلًا كائنا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أى شبها منتزعا من أحوالكم فانها من اقرب الأمور إليكم وهو هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أى من ممّا ليككم مِنْ شُرَكاءَ لكم فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها فَأَنْتُمْ وهم فِيهِ سَواءٌ فى التملك والتصرف يتصرفون فيه كتصرفكم تَخافُونَهُمْ ان تتصرفون فيها دونهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 232
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أى أمثالكم فى الحرية - والاستفهام للانكار يعنى ليس الأمر كذلك وانها معارة لكم مع انهم بشر مثلكم فكيف تجوزون كون الحجارة التي هى أعجز المخلوقات شركاء لخالق الأرض والسموات كَذلِكَ أى تفصيلا مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ نبيّنها فان التمثيل ما يكشف المعاني ويوضحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أى يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال واخرج جويبر مثل ما أخرج الطبراني فى سبب نزول الآية عن داود بن أبى هند عن أبى جعفر محمد بن على عن أبيه عليهم السّلام.
بَلِ اتَّبَعَ إضراب من مضمون الكلام السابق يعنى ليس اللّه شريك بل اتبع الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتعريضها للعذاب بالاشراك باللّه أَهْواءَهُمْ فى الشرك بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من فاعل اتبعوا يعنى جاهلين بما يجب عليهم فَمَنْ يَهْدِي أى إياه الفاء للسببية والاستفهام للانكار إذا اتبعوا أهواءهم ولم يقبلوا هدى اللّه فلا أحد يهديهم وضع المظهر يعنى قوله مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ موضع الضمير اشعارا بان اللّه أضلهم فمن يقدر على هدايته وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم عن آفاتها.(1/5106)
فَأَقِمْ الفاء للسببية يعنى لما ثبت وحدانيته تعالى وظهر ان المشركين انما اتبعوا أهواءهم جاهلين فاقم أنت وَجْهَكَ أى أخلص بوجهك لِلدِّينِ أى للاسلام حَنِيفاً مائلا إليه مستقيما عليه غير ملتفت عنه إلى غيره فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب على الإغراء أى الزموا فطرة اللّه أى خلقته والمراد به دينه يعنى الإسلام كذا قال ابن عباس رض وجماعة من المفسرين فالاية خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ولامته بتبعيته فالاية بمنزلة التأكيد أو التفسير لما قبله سماه فطرة لكونه لازما لكل مخلوق كما يدل عليه قوله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم مستعدين لها متمكنين على إدراكها وقيل المراد به العهد المأخوذ من آدم وذريته بقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى قالوا كل مولود فى العالم مولود على ذلك الإقرار وهو الحنيفة التي وقعت الخلفة عليها وقد مرّ ما ورد فى هذا الباب فى تفسير هذه الآية فى سورة الأعراف عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه أو ينصرانه أو يمحبسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاع هل تحسون فيها من جدعاء ثم قرأ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ متفق عليه يعنى كل مولود يولد فى مبدا الخلقة على الجبلة السليمة والطبع المهيا لقبول الحق فلو ترك عليها لاستمر على
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 233(1/5107)
لزومها لان هذا الدين مركوز فى العقول السليمة حسنه وانما يعدل عنه من يعدل لافة من الآفات كتقليد الآباء قوله تعالى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الظرف المستقر خبر اللّه والجملة الخبرية معناه النهى يعنى لا تبدلوا دين اللّه قال مجاهد وابراهيم النخعي الزموا فطرة اللّه واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك - وقيل فطرة اللّه منصوب على المصدرية لفعل دل عليه ما بعده يعنى فطر اللّه الناس فطرة التي فطرهم عليها حكى عن عبد اللّه بن مبارك قال معنى الحديث كل مولود يولد على الفطرة أى على خلقته التي جبل عليها فى علم اللّه من السعادة أو الشقاوة وكل منهم صائر فى العاقبة إلى ما فطر اللّه عليها وعامل فى الدنيا بالعمل المشاكل لها وعلى هذا معنى قوله تعالى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يعنى ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة لا يتبدل فلا يكون الشقي سعيدا ولا السعيد شقيّا عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. متفق عليه وعن أبى الدرداء قال بينما نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نتذاكر ما يكون إذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوه فانه يصير إلى ما جبل عليه.(1/5108)
رواه احمد والمعنى على هذا التأويل ان اللّه فطر كلّا على فطرة لا يتبدل وقد فطرك ومن معك سعداء فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كأنَّه تعليل وتشجيع على الإخلاص وجاز ان يكون فطرة اللّه على هذا التأويل منصوبا بتقدير ملتزمين فطرة اللّه التي فطركم عليها فوضع الظاهر يعنى لفظ الناس موضع الضمير اشعارا بان الناس كلهم مغطورون على فطرة غير تاركوها فانتم اقيموا وجوهكم للدين قال عكرمة ومجاهد يعنى لا تبدلوا خلق اللّه والمراد منه تحريم اخصاء البهائم ذلِكَ اشارة إلى الدين المأمور بالإقامة أو الفطرة على التأويل الأول الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الذي لا اعوجاج
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 234
فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لا يَعْلَمُونَ استقامة لعدم تدبرهم.(1/5109)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أى راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد اخرى وقيل معناه منقطعين إليه من غيره من الناب منصوب بفعل مقدر وهو كونوا بدليل عطف لا تكونوا عليه أو حال من الضمير فى الزموا أو ملتزمين الناصب المقدر لفطرت اللّه أو فى أقم لان الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته صدّرت بخطاب الرسول لتعظيمه كما فى قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يدل عليه قوله وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين يعنى تقرقوا واختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف اهوائهم قرأ حمزة والكسائي فارقوا يعنى تركوا دينهم الّذى أمروا به وَكانُوا شِيَعاً فرقا تشايع كل امامها الذي اخترع لهم دينا قيل المراد به أهل البدع من هذه الامة حيث تركوا دين الحق واتبعوا أهواءهم واطلق عليهم لفظ المشركين لكونهم ممن اتخذ الهه هواه عن عبد اللّه بن عمرو رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم فى النار الا واحدة قيل من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه وأصحابي - رواه الترمذي كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ من الاعتقاد فَرِحُونَ مسرورون ظنّا بانهم على الحق روى الدارمي عن ابراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك عن الأوزاعي قال قال إبليس لاوليائه من أى شىء تأتون بنى آدم فقالوا من كل شىء فقال فهل تأتونهم من قبل الاستغفار فقالوا هيهات ذاك شىء قرن بالتوحيد قال لابثن فيهم شيئا لا يستغفرون منه قال فبث فيهم الأهواء.(1/5110)
وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ يعنى كفار مكة ضُرٌّ قحط وشدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعون إليه من دعاء غيره ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من الشدة أو خصبا ورحمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجاء فريق منهم بالاشراك بربهم الذي عافاهم ونسبوا معافاتهم إلى غيره - عن زيد بن خالد الجهتى قال صلى لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلما انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه ورسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن وكافر فاما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب واما
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 235
من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب متفق عليه وعن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما انزل اللّه من السماء بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل اللّه الغيث فيقول بكوكب كذا وكذا. رواه مسلم.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وقيل للامر بمعنى التهديد لقوله تعالى فَتَمَتَّعُوا غير ان فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتيعكم.
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أم منقطعة بمعنى بل والهمزة والاستفهام للانكار عطف على كلّ حزب بما لديهم فرحون وجاز ان يكون متصلة معطوفة على مقدر تقديره أ يشركون بلا حجة أم أنزلنا عليهم سلطانا قال ابن عباس يعنى حجة وعذرا وقال قتادة كتابا وقيل ذو سلطان يعنى ملكا معه برهان أو رسولا مؤيدا بالمعجزة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ نطقا أو دلالة كقوله تعالى كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أى باشراكهم وصحته أو بالأمر الذي بسببه يشركون به وبالوهيته والاستفهام فى أم أنزلنا للتقرير يعنى حمل المخاطب على الإقرار بانهم يشركون بلا حجة.(1/5111)
وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحة وسعة فَرِحُوا بطروا بِها بسببها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ اشدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى بشوم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجاءوا القنوط من رحمته وهذا خلاف وصف المؤمن فانه يشكر عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة ويصبر ويحتسب.
أَ وَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى يضيق فما لهم بطروا فى السراء ولم يشكروا وقنطوا فى الضراء ولم يرجعوا إلى اللّه راجين مغفرته بالندم والتوبة وترك المعصية ولم يصبروا ولم يحتسبوا كالمؤمنين إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يستدلون بهما على كمال القدرة والحكمة.
فَآتِ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت ان قبض الرزق والبسط من اللّه تعالى فات ذَا الْقُرْبى مصدر بمعنى القرابة حَقَّهُ من البر والصلة والنفقة الواجبة بقوله تعالى وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ وقد مرّ بحث نفقة المحارم فى تفسير تلك الآية فى سورة البقرة وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ المسافر الّذى ليس معه ما له وكان له مال فى وطنه اتهم حقوقهم من مال الزكوة ابتغاء مرضات
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 236
اللّه ورجاء من فضله فى الدنيا والاخرة ذلِكَ الإيتاء خَيْرٌ من إيثار اللذات لانفسهم لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أى ذاته أو جهته يعنى يقصدون به رضاءه ويرجون ثوابه دون من يؤتى رياء وسمعة وَأُولئِكَ عطف على الموصول أو على ذلك هُمُ الْمُفْلِحُونَ دون غيرهم فانهم اشتروا بالدنيا الفانية العقبى الباقية.(1/5112)
وَ ما آتَيْتُمْ بالمد عند الجمهور يعنى ما أعطيتم أكلة الربوا مِنْ رِباً زيادة محرمة فى المعاملة أو عطية مباحة من هدية أو هبة يتوقع بها مزيد مكافاة وعلى هذا التأويل سمى العطية بالربا باسم المطلوب وهو الزيادة - وقرأ ابن كثير ما آتيتم فى الموضعين مقصورا أى ما جئتم به من إعطاء زيادة محرمة أو عطية مباحة يتوقعون بها مزيد مكافاة لِيَرْبُوَا قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء للخطاب مضمومة والباء المضمومة واسكان الواو أى لتربوا أنتم وتصيرون ذا زيادة فِي أَمْوالِ النَّاسِ أى اموال المعطين أو المعطى لهم وقرأ الباقون ليربوا بالياء التحتانية المفتوحة وفتح الواو أى ليزيدوا فى أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا يزيدوا عنده ولا يبارك فيه.(1/5113)
قال البغوي اختلفوا فى معنى الآية فقال سعيد بن جبير رض ومجاهد وطاءوس وقتادة واكثر المفسرين هو الرجل يعطى غيره العطية ليثيب اكثر منها وهذا جائز حلال ولكن لا يثاب عليه يوم القيامة وهو معنى قوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وكان هذا حراما على النّبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله تعالى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وقال الضحاك هو الرجل يعطى قريبه أو صديقه لتكثير ماله ولا يريد به وجه اللّه وقال الشعبي هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه اللّه فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لأنه لا يريد به وجهه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو امراة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أى ما أعطيتم من صدقة أو فعلتم أداء الزكوة تُرِيدُونَ به وَجْهَ اللَّهِ ذاته أو ثوابه ورضاءه فَأُولئِكَ يعنى الذين يؤتون الزّكوة هُمُ الْمُضْعِفُونَ أى الذين يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى ما لا نهاية له ويضاعف لهم أموالهم ببركة الزكوة أو المعنى هم ذووا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 237
الأضعاف من الثواب نظيره المقوي والموسر لذى القوة واليسار - وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة والالتفات فيه للتعظيم كأنَّه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفا لح الهم أو للتعميم كأنَّه قال من فعل ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ والراجع منه محذوف ان جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به وقال الزجاج تقديره تاهلها هم المضعفون.(1/5114)
اللَّهُ مبتدا وما بعده خبره الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ... هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أى ممن اشركتموها باللّه من الأصنام وغيرها والاستفهام للانكار أى ليس شىء منها مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ذكر اللّه سبحانه لوازم الالوهية وأثبتها لنفسه ونفاها عن غيره مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ثم استنتج من ذلك تقدسه عن ان يكون له شريكا فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قرأ « و خلف أبو محمد » حمزة والكسائي بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية وجاز ان يكون الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة للّه وهَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ خبره والرابط من ذلكم لأنه بمعنى من أفعاله تقديره اللّه الّذى خلقكم هل من شركائكم من يفعل شيئا من أفعاله. من الاولى والثانية تفيد ان شيوع الحكم فى جنس الشركاء والافعال والثالثة مزيدة لتعميم النفي وكل منها مستقلة لتعجيز الشركاء.(1/5115)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق والقتال والجدال ومحق البركات والظلم وكثرة المضار والأمراض والضلال والرياح المفسدة فى البحار ومصادمة الدواب فى البحار. وقال البغوي أراد بالبر البوادي والمفاوز وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن عكرمة انه قال العرب يسمى المصر يحرا يقول احدبت البر وانقطعت مادة البحر وقال عطية وغيرها البر ظهر الأرض من الأمصار وغيرها والبحر هو البحر المعروف وقلة المطر كما تؤثر فى البر تؤثر فى البحر فتخلوا جواف الاصداف لان الصدف إذا جاء المطر ترتفع إلى وجه البحر وتفتح فاه فما يقع فى فيه من المطر صار لؤلؤا وقال ابن عباس ومجاهد الفساد فى البر قتل ابن آدم أخاه وفى البحر غصب الملك الجابر السفينة أخرج الفريابي وابن المنذر رض وابن أبى حاتم عن مجاهد انه قال ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ بقتل قابيل أخاه وفى البحر بان ملك عمان جلندى كان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وقال الضحاك كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتى ابن آدم شجرة « اى ذات أفق أى ذات كلاء وأنيق حسن معجب »
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 238(1/5116)
الا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلمّا قتل قابيل هابيل اقشرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا أجاجا وقصد الحيوان بعضه بعضا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أى بشوم معاصيهم أو بكسبهم إياه يعنى وقع القحط والجدب بمكة بشوم معاصى أهلها حتى أكلوا العظام والجيف لِيُذِيقَهُمْ قرأ قنبل بالنون على التكلم والباقون بالياء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أى بعض جزائه فان تمام الجزاء فى الاخرة واللام للعلة أو العاقبة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أى لكى يرجعوا من أعمالهم الخبيثة متعلق بقوله لِيُذِيقَهُمْ قال قتادة امتلأت الأرض ظلما وضلالة قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم فلمّا بعث رجع راجعون من الناس - .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أى من قبلكم لتروا منازل الذين ظلموا خاوية كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ الجملة حال بتقدير قد أو استيناف للدلالة على ان سوء عاقبتهم كان لظهور الشرك وغليته فيهم أو كان الشرك فى أكثرهم وما دونه من المعاصي فى قليلهم فاهلكوا جميعا بشوم الجار السوء أو بتركهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جملة قل سيروا تأكيد من حيث المعنى ليذيقهم لدلالة على اذاقة العذاب.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ حذرا عما لحق بمن قبلك فالفاء للسببية لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ فى الاستقامة وهو دين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أى لا يقدر أحد ان يرده مِنَ اللَّهِ متعلق بيأتي أو بمردّ لأنه مصدر على معنى لا يرده اللّه لتعلق إرادته بمجيئه يمكن ان يكون المراد بذلك اليوم يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا والظاهر ان المراد به يوم القيامة يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أصله يتّصدّعون أى يتضرفون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فى السّعير أو فريق يعذب فى الدنيا وفريق لا يعذب كيوم بدر.(1/5117)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أى وباله فى الدنيا والاخرة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أى يسوون منازل حسنة فى القبور وفى الجنة.
لِيَجْزِيَ اللّه متعلق بيمهدون الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ظاهر موضع الضمير لبيان مناط جزائهم مِنْ فَضْلِهِ متعلق بيجزى قال ابن عباس رض ليثيبهم اللّه اكثر من ثواب أعمالهم اقتصر على جزاء المؤمنين للاشعار بانه المقصود بالذات وان اللّه انما يريد الاثابة الا من أبى وظلم على نفسه واختار النار
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 239
لاجل كفرهم كما يدل عليه قوله إِنَّهُ أى اللّه لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فهم بكفرهم لم يستحقوا تفضله وقال الشيخ جلال الدين قوله ليجزى متعلق بيصّدّعون وقد ذكر جزاء الفريقين فان قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ معناه انه يعاقبهم واللّه اعلم.(1/5118)
و قوله من فضله دالّ على ان الاثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر قلت ويؤيده ما أخرج احمد فى الزهد عن أبى الحارث قال اوحى اللّه تعالى إلى داود انذر عبادى الصالحين فلا يعجبوا بانفسهم ولا يتكلوا على أعمالهم فانه ليس عبد من عبادى أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلى الا عذبته واخرج أبو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تبارك وتعالى اوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء أعذبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي - واخرج الطبراني عن واثلة بن الأسقع رضى اللّه عنه يبعث اللّه يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول اللّه تبارك وتعالى باىّ الامرين أحب إليك ان اجزى بعملك أو بنعمتي عليك قال أى رب أنت اعلم انى لم اعصك قال خذوا عبدى بنعمة من نعمى فما يبقى له حسنة الا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك ورحمتك.(1/5119)
و أخرج البزار عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من اللّه تعالى يقول اللّه تعالى لاصغر نعمة من ديوان النعم خذى منك من العمل الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول وعزتك ما استوعبت ويبقى الذنوب وقد ذهب العمل الصالح كله فإذا أراد اللّه تعالى ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت ولك حسناتك وتجاوزت عن سياتك ووهبت لك نعمتى واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر رضى اللّه عنهما ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من قال لا اله الا اللّه كان له بها عهدا عند اللّه ومن قال سبحان اللّه كتب له بها مائة الف حسنة فقال رجل يا رسول اللّه كيف نهلك بعد هذا قال والّذى نفسى بيده ان الرجل ليجىء يوم القيامة بعمل لو وضع على جبل لاثقله فتقوم نعمة من نعم اللّه تعالى فكان كله يستنفد ذلك كله يوما يتفضل اللّه به من رحمته
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 240
و أخرج الشيخان عن عائشة وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى اللّه بمغفرته ورحمته - وعند مسلم عن جابر نحوه وقد ورد هذا أيضا من حديث أبى سعيد أخرجه احمد ومن حديث ابن أبى موسى وشريك بن طارق أخرجهما البزار ومن حديث شريك بن طريف واسامة بن شريك واسد بن كرز أخرجها الطبراني.(1/5120)
و هاهنا إشكالان أحدهما انه لا يبقى حينئذ فائدة فى الطاعة وترك المعصية فان اللّه تعالى لو لم يتفضل عذّب أهل الطاعة ولو تفضل غفر أهل المعصية وادخل الجنة وثانيهما انه معارض لقوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فانه يدل على ان دخول الجنة مسبب بالأعمال - والجواب عن الأول ان الطاعة يقتضى محبة اللّه عبده حيث قال اللّه تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن اللّه سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته رواه البخاري عن أبى هريرة فى حديث طويل والمحبة يقتضى التفضل والتفضل سبب لجلب كل خير ودفع كل ضرر وعن الثاني بان للجنة منازل تنال فيها بالأعمال فان درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال واما اصل دخولها والخلود فيها فبفضل اللّه ورحمته يؤيده ما أخرجه هناد فى الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو اللّه وتدخلون الجنة برحمة اللّه وتقسمون المنازل بأعمالكم واخرج أبو نعيم عن عون بن عبد اللّه مثله واللّه اعلم ..
وَمِنْ آياتِهِ دلائل قدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ من الشمال إلى الجنوب وبالعكس ومن المشرق إلى المغرب وبالعكس على حسب إرادته من غير محرك كما يشهد به الحس قرأ حمزة « 1 » والكسائي الرّيح على ارادة الجنس مُبَشِّراتٍ بالمطر حال من الرياح وَلِيُذِيقَكُمْ المذوقات من الحبوب والثمار وغيرها معطوف على معنى مبشرات كانّه قال ليبشركم وليذيقكم أو على محذوف تقديره يرسل
_________
(1) هذا وهم لانهم جمعوا على قراءته بالجمع والمختلف فيه الرّيح فتثير والذي وقع بعد هذا فقرأه بالتوحيد ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف - أبو محمد عفاء اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 241(1/5121)
الرياح ليذهب عنكم الحر والسموم وليذيقكم مِنْ رَحْمَتِهِ من للابتداء وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بالرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا الأرباح بالتجارة فى البحر مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أى ولتشكروا نعم اللّه فيها فتجلبوا ثمراته فى الدنيا والاخرة جملة من آياته متصل بقوله اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الآية ..
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالدلالات الواضحات على صدقهم فامن بهم قوم وكفر بهم آخرون يدل عليه قوله انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
اى عذبنا الذين كفروا بهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
معطوف على جملة محذوفة تقديره ونصرنا الذين أمنوا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
و فيه اشعار بان الانتقام من الكفار كان لاجل نصر المؤمنين واظهار كرامتهم. فان قيل هذه الآية تدل على وجوب نصر المؤمنين تفضلا فيلزم منه ان لا يغلب الكفار عليهم قط وقد يرى خلاف ذلك - قلنا اللام والاضافة فى نصر المؤمنين للعهد والمراد ان المؤمنين الذين جاهدوا الكفار خالصا لاعلاء كلمة اللّه والموعود من اللّه ان ينصرهم ولو بعد حين وعن أبى الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه الا كان حقّا على اللّه ..
... ان يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الآية كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
. أخرجه الترمذي وحسنه وأخرجه إسحاق بن راهويه والطبراني وغيرهما من حديث اسماء بنت يزيد وقد يوقف على حقّا على انه متعلق بالانتقام.(1/5122)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ متصلا تارة فِي السَّماءِ أى فى سمتها كقوله تعالى وفرعها فى السماء كَيْفَ يَشاءُ حال من مفعول يبسط أى سائرا أو واقعا مطبقا أو غير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا تارة اخرى « بخلاف عن وهب وأبو جعفر - أبو محمد » قرأ ابن عامر بسكون السين على انه مخففا أو جمع كسقة أو مصدر وصف به فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فى التارتين فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعنى بلدهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بمجئى الخصب.
وَإِنْ كانُوا مخففة من الثقيلة يعنى وانهم كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر خفف المكي و « بضريان - أبو محمد و » البصري ينزل مِنْ قَبْلِهِ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 242
تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم وليس فى قراءة ابن مسعود كلمة من قبله لَمُبْلِسِينَ اللام فارقة وقيل ان نافية واللام بمعنى الا والمعنى وما كانوا من قبله الا آيسين.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعنى اثار الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وقرأ الجمهور اثر رحمت اللّه مفردا على ارادة الجنس كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالانبات بَعْدَ مَوْتِها أى يبسها إِنَّ ذلِكَ الذي قدر على احياء الأرض بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى يحييهم بعد ما يميتهم فما وجه انكاركم أيها الكفار بعد ما تشاهدون ما يماثله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ان نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على السواء.(1/5123)
وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً موجبا ليبس الأرض فَرَأَوْهُ أى راوا الأثر أو الزرع فانه مدلول عليه بما تقدم مُصْفَرًّا واللام جواب قسم مقدر لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ بنعمة اللّه جواب للقسم سدّ مسد الجزاء مبنية حال الكفار لقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم - والنظر السوي يقتضى ان يتوكلوا على اللّه ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس المطر عنهم ولا ييئسوا من رحمة اللّه. وان يبادروا إلى الشكر والاستدانة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولا يفرطوا فى الاستبشار وان يصبروا على بلائه إذا ضرب بزرعهم آفة ولا يكفروا نعمه.
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى « 1 » وهم مثلهم لسدهم عن الحق مشاعرهم وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ قرأ ابن كثير لا يسمع بالياء على الغيب على البناء للفاعل من المجرد ورفع الصم والجمهور على صيغة الخطاب من الافعال ونصب الصم الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
_________
(1) أخرج مسلم عن انس رض بن مالك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثة ايام حتى جيفوا ثم أتاهم فقام يناديهم فقال يا امية بن خلف يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا فسمع عمر صوته فجاء فقال يا رسول اللّه تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون يقول اللّه إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فقال والّذى نفسى بيده ما أنتم باسمع منهم ولكنهم لا يطيقون ان يجيبوا - وروى مثله عن ابن عمر قلت إذا صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان الموتى تسمع كلام الحي فمعنى قوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى باختيارك وقدرتك كما أنت تسمع الحىّ على ما جرى به عادة اللّه تعالى لكن اللّه تعالى يسمع الموتى كلام الاحياء إذا شاء أو انك لا تسمع الموتى سماعا تترتب عليه الفائدة 12 منه نور اللّه مرقده -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 243(1/5124)
قيد الحكم به ليكون أشد استحالة فان الأصم المقبل وان لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا.
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ أى الكفار قرأ حمزة تهدى بصيغة المضارع سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الابصار أو لعمى قلوبهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ سماع إفهام وقبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فان ايمانهم يدعوهم إلى تلقى اللفظ وتدبر المعنى ويجوز ان يراد بالمؤمن المشارف للايمان أو من قدر اللّه له الايمان فَهُمْ مُسْلِمُونَ لما تأمرهم به ..
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أى ابتداؤكم ضعف أى ضعف الطفولية أو جعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أو المعنى خلقكم من اصل ضعيف وهو النطفة أى ذى ضعف كقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ أى ضعف الطفولية قُوَّةً أى شبابا ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً هرما وَشَيْبَةً قرأ أبو بكر وحمزة من ضعف فى المواضع الثلاثة بفتح الضاد وكذلك روى حفص عن عاصم فيهن غير انه ترك ذلك واختار الضم اتباعا منه لرواية حدثه بها الفضل بن مرزوق عن عطية العوفى عن عبد اللّه بن عمر رض انه صلى اللّه عليه وسلم اقرأ ذلك بالضم وردّ عليه الفتح - كذا أخرج أبو داؤد والترمذي عن ابن عمر رض وهذه الرواية ضعيفة كذا قال الداني وما رواه حفص عن عاصم عن ائمته أصح والباقون بضم الضاد فيهن كذا قال الداني وقال البغوي فى التفسير قرأ حفص بضم الضاد وفتحها والآخرون بفتحها وهما لغتان فالضمة لغة قريش والفتح لغة تميم وفى القاموس الضعف بالفتح فى الرأي وبالضم فى البدن يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضعف والقوة والشباب والشيب وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على كل ما يشاء.(1/5125)
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أى القيامة سميت بها لانها تقوم فى اخر ساعة من ساعات الدنيا أو لانها يقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالكواكب للزهرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف المشركون ما لَبِثُوا فى الدّنيا والقبور بدليل قوله تعالى.
لَقَدْ لَبِثْتُمْ ... إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ... غَيْرَ ساعَةٍ من الزمان استقلوا مدة لبثهم اضافة إلى مدة عذابهم فى الاخرة أو نسيانا أو لان ما مضى صار كان لم يكن قال اللّه تعالى كَذلِكَ أى مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق كانُوا فى الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق حيث
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 244 كانوا يشركون باللّه ويقولون ان لا بعث وَقالَ عطف على يقسم المجرمون الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ أى الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردّا لقولهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ زمانا كتب اللّه لكم لبثه فِي كِتابِ اللَّهِ أو زمانا كائنا فى كتاب اللّه أى مكتوبا فيه مدة لبثكم أو لبثتم لبثا كائنا فى كتاب اللّه أى اللوح المحفوظ أو صحف الملائكة الموكلين بالأرحام حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله الحديث - أو القرآن وهو قوله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ متعلق بقوله لبثتم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذى كنتم تنكرونه فى الدنيا جملة معترضة أو جواب شرط محذوف تقديره ان كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث أى فانتم مبطلون وقد تبين بطلان انكاركم وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ انه حق لتفريطكم فى النظر.(1/5126)
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقى ومفصول وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى لا يطلب منهم العتبى أى الرضاء كذا فى القاموس يعنى لا يطلب منهم موجبات رضاء اللّه منهم من التوبة والطاعة كما طلب منهم فى الدنيا من قولهم استعتبني فلان فاعتبته أى استرضانى فارضية أو المعنى لا يطلب رضاؤهم باللّه كما يطلب من المؤمنين رضاؤهم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يقول لاهل الجنة هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فيقول اما أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وما أفضل من ذلك فيقول احلّ لكم رضوانى فلا أسخط بعده - متفق عليه وقال اللّه تعالى وَلَسَوْفَ يَرْضى ..
وَلَقَدْ ضَرَبْنا أى بيّنّا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أى انواع الحكايات التي هى فى الغرابة كالامثال مثل صفة المبعوثين من الكفار يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة وعدم استغنائهم. أو بينّا لهم من كل مثل ينبّههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 245
جواب قسم محذوف بِآيَةٍ من آيات القرآن أو معجزة كعصا موسى لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط غباوتهم وقساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول والمؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ أى قائلون بالأباطيل.
كَذلِكَ أى طبعا مثل ذلك الطبع الذي طبعنا على قلوب كفار مكة الّذين قالوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد اللّه أو لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فان الجهل المركب يمنع عن ادراك الحق ويوجب تكذيب المحق.(1/5127)
فَاصْبِرْ على اذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك واظهار دينك على سائر الأديان حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أى لا يجملنك على الخفة والقلق أو لا يحملنك على الجهل واتباعهم فى الغى الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم وإيذائهم - تم تفسير سورة الروم خامس عشر رجب سنة الف ومائتين وست والحمد للّه رب العالمين ويتلوه إنشاء اللّه تعالى سورة لقمان والحمد للّه.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 246
سورة لقمان
مكّية وهى اربع « 1 » وثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذى حكمة أو وصف الكتاب بصفة اللّه عز وجلّ على الاسناد المجازى والاضافة بمعنى من.
هُدىً وَرَحْمَةً قرأ حمزة بالرفع على انه خبر بعد خبر لتلك أو خبر لمحذوف أى هى هدى ورحمة والحمل على المبالغة كزيد عدل أو بحذف المضاف أى ذات هدى والباقون بالنصب على الحال من الآيات والعامل فيه معنى الاشارة لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بيان لاحسانهم أو تخصيص بهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتؤكيد ولما جعل بينه وبين خبره.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فائزون مقاصدهم لاستجماعهم العقيدة والعمل الصالح.
اخرج جويبر عن ابن عباس قال اشترى النضر بن الحارث قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام الا انطلق به إلى قينة فيقول أطعميه واسقيه وغنيه هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وان تقاتل بين يديه فنزلت.(1/5128)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أى ما تلهى وتشتغل عما يفيد من الأحاديث التي لا اصل لها والأساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحيك وفضول الكلام - والاضافة بيانية بمعنى من ان أراد بالحديث المنكر أو تبعيضية أيضا بمعنى من ان أراد به الأعم منه. واخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس انها نزلت فى رجل من قريش اشترى
_________
(1) وفى الأصل تسع وثلاثون صدر هذا من سبق قلم لا شك فيه. لان آياتها ثلاث وثلاثون عند أهل الحجاز واربع وثلاثون للباقى - أبو محمّد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 247(1/5129)
جارية مغنية وروى البغوي عن أبى سلمة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل تعليم المغنيات وأثمانهن حرام وفى مثل هذا نزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء الا بعث اللّه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب ولا يزالان يضربان بارجلهما حتى يكون هو الذي يسكت - أخرج الترمذي وغيره عن أبى امامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير فى تجارة فيهن وثمنهن حرام وفى مثل هذا أنزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ - وقال البغوي قال مقاتل والكلبي نزلت فى النضر بن الحارث بن كلدة كان يتّجر فيأتى الحيرة ويشترى بها اخبار الأعاجم ويحدث بها قريشا ويقول ان محمدا يحدنكم بحديث عاد وثمود وانا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار واخبار الاكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فانزل اللّه هذه الآية - وكذا أخرج البيهقي فى شعب الايمان عن ابن عباس رض وقال مجاهد يعنى القينات والمغنين ومعنى الآية على هذا مَنْ يَشْتَرِي ذات لهو أو ذا لهو الحديث أو المعنى من يشتري لهو الحديث أى يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن - قال مكحول من اشترى جارية ضرابة لتمسكها لعنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصلّ عليه لان اللّه تعالى قال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية - وعن ابن مسعود رض وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث الغناء والآية نزلت فيه وقال أبو الصهباء البكري سالت ابن مسعود عن هذه الآية قال هو الغناء واللّه الذي لا اله الا هو يردّدها ثلاث مرات - وقال ابن جريج هو الطبل قلت مورد النص وان كان خاصّا وهو الغناء أو قصص الأعاجم لكن اللفظ عام والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ومن اقال قتادة(1/5130)
هو كل لهو ولعب وقال الضحاك هو الشرك.
(مسئلة) : - اتخاذ المعازف والمزامير حرام باتفاق فقهاء « 1 » الأمصار عن ابى
_________
(1) فى المتفق ضرب المزامير واستماعها حرام وفى الفتاوى الكبرى يحرم ضرب الطبل واستماعه لأنه من الملاهي الا طبول الحراب والقافلة لان فيها اعلاما للغزاة والرفقاء وانه طاعة وفى الملتقط ومن الناس من يقول لا بأس بالغناء فى الأعراس والوليمة الا ترى انه لا يأس بضرب الدف فى الأعراس والوليمة وان كان فى ذلك نوع لهو وانما لم يكن به بأس لأنه فيه اظهار النكاح واعلانيه وبه امر صاحب الشرع حيث قال أعلنوا النكاح ولو بالدّف وكذلك الفتوى - وفى الذخيرة ومنهم من قال لا بأس بالدّفّ فى الأعياد روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان جالسا فى بيته يوم العيد وفى دهليزه جاريتان تغنيان بالدّف فجاء أبو بكر وقال لهما أ تغنّيان فى دهليز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عليه السّلام دعهما فان هذا اليوم يوم عيد 12 قدس سره -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 248(1/5131)
هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمارة - رواه البغوي وعن أبى مالك الأشعري انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يشربون الناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ويضرب على رؤسهم المعازف والقينات يخسف اللّه بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان وأصله فى صحيح البخاري وعن على بن أبى طالب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل وما هى يا رسول اللّه قال إذا كان المغنم دولا والامانة مغنما والزكوة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعقّ امه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات فى المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شرة وشربت الخمر ولبست الحرير واتخذت القينات والمعازف ولعن اخر هذه الامة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا - رواه الترمذي وقال غريب - (مسئله) : - قالت الفقهاء الغناء حرام بهذه الآية لكونه لهو الحديث وبما ذكرنا من الأحاديث. وقالت الصوفية كان من الرجال ذى قلب مطمئن بذكر اللّه فارغا عن غيره لا يلتفت إلى ما سوى اللّه ولا يكون المغنى محلّا للشهوة وكان المجلس خاليا عن الأغيار ولا يكون وقت صلوة أو نحوها جاز له السماع بل يستحب لان فى السماع خاصية انه يستعمل به نار المحبة الجامدة المستورة فى القلب وذلك هو السبب لحرمته فى حق العامة فان العوام قلوبهم مشغولة بحب النساء أو الغلمان فعند السماع يشتعل ذلك المحبّة ويشغلهم عن ذكر اللّه فكان فى حقهم لهو الحديث ومن كان قلبه مشغولا بمحبة اللّه وذكره فارغا عن غيره يكون السماع فى حقه موجبا لاشتغال
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 249(1/5132)
محبة اللّه فيكون فى حقه مستحبا « 1 » - والجواب عن النصوص ان الآية ناطقة بالحرمة لما هو لهو الحديث وسماع الصوفية ليس منه والأحاديث الموجبة لحرمة الغناء مخصوصه بالبعض لورود أحاديث اخر دالة على الإباحة فحملنا أحاديث حرمة الغناء على ما كان منه على قصد اللهو لا لغرض مشروع داعيا إلى الفسوق - فلنذكر الأحاديث الدالة على اباحة الغناء بل على اباحة ضرب الدف أيضا منها حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فدخل حين بنى علىّ فجلس على فراشى كمجلسك منى فجعلت جويريات لنا يضر بن بالدف ويندبن من قتل من ابائى يوم بدر إذ قالت إحداهن.
و فينا نبى يعلم ما فى غد فقال دعى هذه وقولى ما كنت تقولين رواه البخاري وروى ابن ماجة نحوه وفيه اما هذا فلا تقولوه لا يعلم ما فى غد الا اللّه - وعن عائشة قالت زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كان معكم لهو فان
_________
((1/5133)
1) فى شرح الكافي واعلم ان المكروه من السماع عند علمائنا ما يكون على سبيل اللهو وارادة العصيان بان يجتمع الفساق على ذلك ويتركون الصلاة وقراءة القرآن - واما ما كان من أهل الصلاة واهل القرآن من جملة الصالحين فسماع هؤلاء حلال بلا خلاف بين علمائنا إذ لا يريدون بذلك الا وجه اللّه وحضوره ويذكرون اللّه فى خوف الاخرة وكل ذلك محمود غير مذموم والتواجد والرقص أيضا غير مذموم لهذا المعنى - وفى شرح البزدوى المسمى بالنوري صنفه أبو القاسم بن محمد بن عبد اللّه الدمشقي - اعلم ان السماع انما يختلف علماءنا فى حقه فهو ما كان على سبيل اللهو واللعب يجتمع الفساق وشاربوا الخمر وتركوا الصلاة - فاما من سمع السماع وهو صالح دائم الصلاة لا تارك الورد وقراءة القرآن فهو حلال بلا خلاف بين علمائنا وكذلك الرقص والتواجد وفى الاقناع ان السماع يحصل به رقة القلب والخشوع واثارة الشوق إلى لقاء اللّه تعالى والخوف من سخطه وعذابه والمفضى إلى ذلك قربة فإذا كان السماع هكذا فكيف يكون فيه شائبة اللهو والهواء وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي فى العوارف والسماء يستجلب الرحمة من اللّه الكريم واللّه اعلم - وفى فتاوى الخلاصة يجب ان يعلم ان التغنّى لا يناس الغير مكروه عند عامة المشايخ ومنهم من جوز ذلك فى العرس والوليمة واما التغنّى لدفع الوحشة عن نفسه لا يكره عند البعض وبه أخذ الامام السرخسي والمكروه عندهم ما يكون على سبيل اللهو ومنهم من يقول جميع ذلك مكروه وبه أخذ الامام خواهر زاده وفى الجامع المضمرات قال ذكر فى النافع والذخيرة ان المتغني إذا لم يسمع غيره ولكن يسمع نفسه لازالة الوحشة فلا بأس به وقال سمعت الشيخ الامام الاجل نجم الدين رحمه اللّه انه قال لو سمعه من جاريته يباح له ذلك واحاله إلى واقعات الحسانيته وفى العوارف أو زوجته كذا فى فتاوى ابراهيم شاهى - وفى المحيط ذكر محمّد فى السير(1/5134)
الكبير عن انس بن مالك انه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان يتغنى 12 منه برد اللّه تربته
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 250
الأنصار يعجبهم اللهو - رواه البخاري وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلنوا هذا النكاح واجعلوا فى المساجد واضربوا عليه بالدّفوف رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب وعن عائشة قالت كانت عندى جارية من الأنصار زوجتها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عائشة الا تغنين فان هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء رواه ابن حبان فى صحيحه وعن ابن عباس قال أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اهديتم الفتاة قالوا نعم قالوا أرسلتم معها من تغنّى قالت لا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الأنصار قوم فيه غزل فلو بعثتم معها من يقول اتيناكم فحيانا وحياكم. رواه ابن ماجة وعن عامر ابن سعد قال دخلت على قرظ بن كعب وابى مسعود الأنصاري فى عرس وإذا جوار تغنين فقلت أى صاحبى رسول اللّه واهل بدر يفعل هذا عندكم فقالا اجلس ان شئت فاستمع معنا وان شئت فاذهب فانه قد رخص لنا فى اللهو عند العرس - وعن عائشة ان أبا بكر رضى اللّه عنه دخل عليها وعندها جاريتان فى ايام منى تدففان وتضربان والنبي صلى اللّه عليه وسلم متفس بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فانها ايام عيد (تلك ايام منى) رواه البخاري وعند ابن ماجة ان لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان امرأة قالت يا رسول اللّه انى نذرت ان اضرب على رأسك بالدف قال أو فى بنذرك - رواه أبو داود وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا وفاء لنذر فى معصية اللّه رواه مسلم وروى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لمّا قدم المدينة ونزل فى بنى نجارا صبرن جوار من بنى النجار يتغنين ويقلن(1/5135)
نحن جوار من بنى نجار يا حبذا محمدا من جار
رواه ابن ماجة عن انس وفيه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اللّه يعلم انى لاحبكن - وروى البيهقي عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة جعل النساء والولاية والصبيان يقلن شعر
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعى اللّه داع
ايها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 251
و روى احمد عن انس اما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعن محمد بن حاطب الجمحي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدّف فى النكاح - رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة فظهر ان المحرم من الغناء ما يدعوا إلى الفسق ويشغل عن ذكر اللّه وما ليس كذلك فليس بحرام « 1 » غير انه لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا عن الصحابة رضى اللّه عنهم استماع الغناء تقربا إلى اللّه تعالى ولاجل ذلك ما اختار الكرام من النقشبندية وغيرهم ارتكابه وان لم يرتكبوا الإنكار عليه واللّه اعلم - لِيُضِلَّ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى عن دينه أو ذكره وقراءة كتابه قرأ ابن كثير وأبو عمرو « و رويس يخلف عنه - أبو محمد » ليضلّ بفتح الياء على صيغة المجرد بمعنى يلبث على ضلاله ويزيد فيه بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن وقال قتادة بحسب المؤمن الضلالة ان يختار حديث الباطل على حديث الحق وَيَتَّخِذَها أى آيات اللّه قرأ حمزة « و خلف - أبو محمد » والكسائي ويعقوب « 2 » وحفص بالنصب عطفا على قوله ليضل والباقون بالعطف على قوله يشترى بالرفع هُزُواً مهزوّا به سخرية أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) ذو اهانة.(1/5136)
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى لا يتوجه إليه مُسْتَكْبِراً متكبرا الجملة الشرطية عطف على يشترى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال من المستكن فى ولّى أو مستكبرا أو استئناف كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ قرأ نافع اذنه « 3 » بلفظ المفرد على ارادة الجنس وَقْراً ثقلا مانعا من السماع بدل من كان لّم يسمعها أو حال من المستكن فى لم يسمعها أو استئناف فَبَشِّرْهُ أى أخبره وذكر البشارة على التهكم بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) يحيق به.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) أى نعيم الجنات عكس للمبالغة.
خالِدِينَ فِيها حال مقدر من الضمير فى لهم أو من جنات والعامل ما تعلق به اللام أى مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها وَعْدَ اللَّهِ أى وعد اللّه وعدا
_________
(1) فى الاحياء السماع فى اوقات السرور تأكيدا للسرور وتهيجا له مباح ان كان ذلك السرور مباحا كالغناء فى ايام العيد وفى العرس وفى وقت قدوم الغائب وفى الوليمة والعقيقة وعند ولادة الولد وختانه وعند حفظ القرآن - قلت وكذا عند تفويض الولد للمقرى لاجل التعليم 12 عنه أنار اللّه برهانه
(2) هذا سهو لان يعقوب قرأ بالرفع بلا خلاف كابى عمرو - 12 أبو محمد عفا اللّه عنه
(3) هذا ليس بشئ قرأ نافع اذنيه بإسكان الذال لا بالإفراد. 12 أبو محمد عفا اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 252
مصدر مؤكد لنفسه لكون ما قبله وعد حَقًّا أى حق ذلك الوعد حقا مصدر موكد لغيره لان كون الوعد حقا امر مغائر لنفس الوعد وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل شىء لا يمنعه شىء من انجاز وعده ووعيده الْحَكِيمُ (9) الذي لا يفعل الا ما يقتضيه الحكمة.(1/5137)
خَلَقَ السَّماواتِ صفة للحكيم بحذف الموصول تقديره الذي خلق أو حال من الضمير المستتر فيه بتقدير قد أو اس تئناف فى محل التعليل بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها جملة ترونها صفة لعمد والضمير راجع إليه وهو صادق بان لا عمد لها أصلا أو الضمير راجع إلى السموات والجملة لا محل لها من الاعراب وقد سبق فى الوعد وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا راسخات كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أو لان لا تميد بكم وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) أى من كل صنف حسن كثير المنفعة فيه التفات من الغيبة إلى التكلم كأنَّه استدل به على عزته التي هى كمال قدرته وحكمته التي هى كمال العلم ومهّد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله.
هذا أى ما ذكرت مما تعاينون خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الفاء للسببية يعنى كل ما ترونه مخلوق للّه تعالى فما ذا خلق الهتكم حتى استحقوا مشاركته فى العبادة ماذا منصوب بخلق أو ما استفهام انكار مبتدا وذا بمعنى الذي مع صلته خبره فارونى معلق عن العمل وما بعده سد مسدّ المفعولين بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) إضراب عن تبكيتكم إلى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على من له ادنى تأمل ووضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على انهم ظالمون.(1/5138)
وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ بن باعور بن ناخور بن تارخ وهوازر كذا قال البغوي وقال قال وهب كان ابن اخت أيوب عليه السلام وقال مقاتل ذكر انه كان ابن خالة أيوب عليه السّلام - وذكر البيضاوي وغيره انه عاش حتى أدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتى قبل مبعثه ثم ترك الفتيا بعد مبعثه وقال الا اكتفى إذا كفيت وقال الواقدي كان قاضيا فى بنى إسرائيل وفى الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة واحمد فى الزهد وابن أبى الدنيا فى كتاب المملوكين وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وكذا ذكر البغوي عن خالد الربعي وقال قال مجاهد كان عبدا اسود عظيم الشفتين متشقق القدمين وقال قال سعيد بن المسيب كان خياطا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 253(1/5139)
و قيل كان رعى غنم واللّه اعلم الْحِكْمَةَ فى القاموس وهى العدل والعلم والحلم والنبوة والقران والإنجيل والمراد بالحكمة فى قوله صلى اللّه عليه وسلم ان من الشعر لحكمة هو العلم وما ورد فى قوله صلى اللّه عليه وسلم الا وفى رأسه حكمة المراد به العقل وكل من المعاني المذكورة يحتمل المقام قال البغوي اتفق العلماء على انه كان حكيما أى فقيها عليما ولم يكن نبيّا الا عكرمة فانه قال كان نبيّا وتفرد بهذا القول واخرج ابن أبى حاتم عن وهب بن منبه انه سئل أ كان لقمان نبيّا قال لا لم يوح إليه وكان رجلا حكيما وكذا أخرج ابن جرير عن مجاهد - وقال بعضهم خيّر لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة قال البغوي وروى انه كان نائما فى نصف النهار فنودى يا لقمان هل لك ان يجعلك اللّه خليفة فى الأرض فتحكم بين الناس بالحق فاجاب الصوت فقال ان خيرنى ربى قبلت العافية وان عزم على فسمعا وطاعة فانى اعلم ان فعل ذلك أعانني وعصمنى فقالت الملائكة بصوت (لا يراهم) لم يا لقمان قال لان الحكم باشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان ان أصاب لقمان فبالحرىّ ان ينجو وان أخطأ أخطأ طريق الجنة ومن يكن فى الدنيا ذليلا خير من ان يكون شريفا ومن يختار الدنيا على الاخرة تفته الدنيا ولا يصيب الاخرة - فعجبت الملائكة من حسن نطقه فنام نومه فاعطى الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها - ونودى داود عليه السّلام بعدها فقبلها ولم يشترط ما شرط لقمان فهوى فى الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو اللّه عنه وكان يوازره لقمان لحكمته وهذه الرواية تدل على انه ليس المراد بالحكمة العدل فى الحكم بين الناس ولنعم ما قال الجزري فى النهاية فى تفسير الحكمة انها عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم قلت أفضل الأشياء ذات اللّه تعالى قال اللّه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وقال عزّ وجلّ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قل اللّه وأفضل علم لا(1/5140)
يعتريه الغفلة وهو العلم الحضوري فان العلم الحصولى لا ينفك عن غفلة وأيضا لا يمكن درك اللّه سبحانه بالعلم الحصولى فانه حصول صورة الشيء فى الذهن وهو سبحانه منزه عن الصورة والتحيز بل العلم الذي يتعلق بذات اللّه سبحانه هو فوق العلم الحضوري والعلم الحضوري الذي يتعلق بذات العالم بالنسبة إلى ذلك العلم كالحصولى بالنسبة إلى الحضوري وهو من
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 254
خصائص قلب الإنسان ومن ثم وقع فى الحديث القدسي لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن ويحصل ذلك لاخص الخواص من اولياء اللّه واللّه اعلم - أخرج الحاكم والبيهقي فى شعب الايمان عن انس ان لقمان كان عبدا لداود وهو يسرد الدروع فلم يسئله عنها فلمّا أتمها لبسها وقال نعم لبوس الحرب أنت فقال الصمة حكمة وقليل فاعله - وروى انه سئل اىّ الناس شر قال الذي لا يبالى ان راه الناس مسيئا - واخرج ابن أبى شيبة واحمد وابن جرير عن خالد الربعي قال كان عبدا حبشيّا نجارا فقال له سيده اذبح شاة وائتني بأطيب مضغتين منها فاتى باللسان والقلب ثم بعد ايام امر بان يأتى بأخبث مضغتين منهما فاتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال هما أطيب شىء إذا طابا وأخبث شىء إذا خبثا - أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ الظاهر ان تقديره وقلنا له ان اشكر للّه على ما اعطاك من الحكمة و(1/5141)
قال اكثر المفسرين ان مفسرة فان فى إيتاء الحكمة معنى القول - قلت وتوجيه ذلك ان إيتاء الحكمة عبارة عن تعليمها والتعليم يكون بالقول غالبا فالمعنى اتيناه الحكمة أى أمرناه بالشكر وهذا يدل على ان الحكمة هو الشكر وإيتاء الحكمة الأمر بالشكر والمراد بالأمر الأمر التكويني دون التكليفي فان امر التكليفي يعم لقمان وغيره وهو لا يستلزم حصول الشكر بخلاف التكويني فانه يستلزمه كما يستلزم إيتاء الحكمة حصولها وتفسير الحكمة بالشكر مبنى على المجاز فان الشكر لازم للحكمة فيجوز اطلاق أحدهما على الاخر مبالغة مجازا والشكر عبارة عن اظهار النعمة وضده الكفران وهو ستر النعمة وفى القاموس الشكر بالضم عرفان الإحسان قيل هو مقلوب عن الكشر أى الكشف فانه اظهار النعمة وهو ثلاثة اضرب شكر القلب تصور النعمة وشكر اللسان الثناء على النعمة وشكر الجوارح مكافات النعمة بالطاعات - قيل أصله من عين شكر أى ممتلية فالشكر على هذا الامتلاء من ذكر النعم ونعمته ومن أجل هذا قال اللّه تعالى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ووصف اللّه تعالى فى القرآن رجلين من عباده بالشكر أحدهما ابراهيم قال فيه شاكرا لّانعمه وثانيهما نوح حيث قال إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال فى النهاية الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية فيثنى من المنعم بلسانه ويديب نفسه فى طاعته ويعتقد انه مولاها وهو من شكرت الإبل شكرا إذا أصاب مرعى فسمنت عليه - وجاز
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 255(1/5142)
ان يكون تقديره وقلنا له ان اشكر للّه على ما اتيناك من الحكمة وغيرها وَمَنْ يَشْكُرْ اللّه فَإِنَّما يَشْكُرُ اللّه لِنَفْسِهِ أى لنفع نفسه فان الشكر قيد للموجود وصيد للمفقود وموجب تقرب إلى الرب المعبود وثواب فى دار الخلود قال اللّه تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ الآية وَمَنْ كَفَرَ نعمة اللّه فَإِنَّ وباله عليه واللَّهَ غَنِيٌّ عن شكره لا يحتاج إليه حَمِيدٌ (12) حقيق بالحمد وان لم يحمد ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.
وَاذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ اسمه أنعم أو اشكم أو ماثان وَهُوَ يَعِظُهُ حال من لقمان يا بُنَيَّ تصغير اشفاق قرأ ابن كثير بإسكان الياء وحفص بفتح الياء والباقون بكسرها لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ متعلق بلا تشرك وجاز ان يكون قسما جوابه ما بعده قيل كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى اسلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) تعليل للنهى الظلم وضع الشيء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان أو بزيادة واما بعدول عن وقته أو مكانه - ويقال على التجاوز عن الحق قليلا كان التجاوز أو كثيرا ولهذا يستعمل فى الذنب الصغير والكبير ولا شك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فانه وضع العبادة فى موضع لا يحتمل صلاحيتها أصلا وتسوية من لا نعمة الا منه بمن لا يصلح الانعام مطلقا.(1/5143)
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أى أمرناه ان يبرّهما ويشكرهما جملة معترضة بين قصة لقمان حَمَلَتْهُ أُمُّهُ معترضة فى معترضة مؤكدة للتوصية فى حق الام خاصة عن أبى هريرة قال قال رجل يا رسول اللّه من أحق بحسن صاحبتى قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فادناك متفق عليه وقال عليه السّلام ان اللّه حرم عليكم عقوق الأمهات متفق عليه فى حديث للمغيرة وَهْناً كائنا عَلى وَهْنٍ صفة لوهن وهو حال من فاعل حملته تقديره ذات وهن أو يوهن وهنا قال ابن عباس معناه شدة على شدة وقال الضحاك ضعفا على ضعف وقال مجاهد مشقة على مشقة فان المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف والرضاع ضعف وَفِصالُهُ أى فطامه فِي عامَيْنِ أى فى انقضاء عامين وكانت ترضع فى تلك المدة واحتج بهذه الآية الشافعي وأبو يوسف ومحمد ان أقصى مدة الرضاع حولان وقد ذكرنا مسئلة الرضاع فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 256
وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الآية وفى سورة النساء فى تفسير قوله وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ أَنِ اشْكُرْ لِي تفسير لوصينا أو بدل من والديه بدل اشتمال وَلِوالِدَيْكَ قال سفيان بن عيينة فى هذه الآية من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر اللّه ومن دعا لوالديه فى ادبار الصلوات الخمس فقد شكر لوالديه إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) المرجع فيه وعد ووعيد يعنى اجازيك على شكرك وكفرك.(1/5144)
وَ إِنْ جاهَداكَ عطف على قوله ان اشكر عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاق الإشراك يعنى فكيف وأنت تعلم بطلان الإشراك بالادلة القاطعة فَلا تُطِعْهُما فى ذلك فان حق اللّه غالب على حق كل ذى حق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاطاعة للمخلوق فى معصية الخالق - رواه احمد والحاكم وصححه عن عمران والحكيم ابن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن أبى داؤد والنسائي عن علىّ نحوه وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا صحابا مَعْرُوفاً يرتضيه الشرع والعقل.
(مسئلة) يجب بهذه الآية الانفاق على الأبوين الفقيرين وصلتهما وان كانا كافرين عن اسماء بنت أبى بكر قالت قدمت علىّ أمي وهى مشركة فى عقد قريش فقلت يا رسول اللّه ان أمي قدمت علىّ وهى راغبة أ فأصلها قال نعم صليها - متفق عليه - وقد مرّ فى سورة العنكبوت ان هاتين الآيتين نزلتا فى سعد بن أبى وقاص وامه.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ دين مَنْ أَنابَ أى اقبل إِلَيَّ وأطاعني وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قال عطاء عن ابن عباس يريد اللّه سبحانه به أبا بكر وذلك حين اسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمان بن عوف وقالوا قد صدّقت هذا الرجل وامنت به قال نعم هو صادق فامنوا به ثم حملهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى اسلموا فهؤلاء سالفة الإسلام اسلموا بإرشاد أبى بكر قال اللّه تعالى وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعنى أبا بكر.
(مسئلة) لا يجوز إطاعة الوالدين إذا امرا بترك فريضة أو إتيان مكروه تحريما لان ترك الامتثال لامر اللّه والامتثال لامر غيره اشراك معنى ولما روينا من قوله عليه السّلام لاطاعة للمخلوق فى معصية الخالق - ويجب إطاعتهما إذا امرا بشئ مباح لا يمنعه العقل والشرع - وهل يجب إطاعتهما ان امرا بترك إكثار الذكر
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 257(1/5145)
و النوافل وكسب الأموال فوق الحاجة ونحو ذلك والظاهر عندى انه لا يجب ذلك لان اللّه سبحانه امر باتباع سبيل من أناب إليه وإكثار النوافل وترك ما لا يعنيه وترك الدنيا والتبتل إلى اللّه سبيل المنيبين لا محالة - ولا شك ان الصحابة رضوان اللّه عليهم تركوا الأوطان وهاجروا وبذلوا أنفسهم وأموالهم على خلاف مرضاة ابائهم وأمهاتهم وقد قال اللّه تعالى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فكيف يجوز ترك المجاهدة فى سبيل اللّه مع النفس والشيطان لابتغاء مرضاة الآباء والأمهات - أخرج الحاكم عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال قال أبو قحافة لابى بكر أراك يعتق رقابا ضعافا فلو انك اعتقت رجالا اجلد يمنعونك ويقومون دونك فقال يا أبت انما أريد ما عند اللّه فنزلت وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى حين أعتق بلالا وعامر بن فهير وأم عميس وزبيرة ونحوهم - وهاجر أبو بكر مع اربعة آلاف درهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يترك لاهله شيئا على خلاف مرضاة أبيه كما ذكرنا فى قصة هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سورة التوبة فى تفسير قوله تعالى إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ...(1/5146)
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أى مرجعك ومرجعهما فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) فاجازيك على إسلامك واجازيهما على كفرهما هذان الآيتان معترضتان فى أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهى عن الشرك كأنَّه قال ووصينا بمثل ما وصى لقمان وذكر الوالدين للمبالغة فى ذلك فانهما مع كونهما تلوا الباري فى استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز ان يستحقا الطاعة فى الإشراك فما ظنك بغيرهما.
يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بكسرها إِنَّها أى الخصلة من الاساءة أو الإحسان وقال قتادة الضمير راجع إلى الخطيئة وذلك ان ابن لقمان قال لابيه يا أبت ان عملت الخطيئة حيث لا يرانى أحد كيف يعلمها اللّه فقال انها إِنْ تَكُ فى الصغر مثلا مِثْقالَ وزن حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ اسم تك ضمير مستتر وخبره مثقال على قراءة الجمهور بالنصب وقرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » مثقال بالرفع على انه اسم تك وهى تامة وتأنيث الفعل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 258(1/5147)
لاضافة المثقال إلى الحبة وضمير انها للقصة على هذه القراءة فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يعنى فى أخفى مكان واحرزه كجوف صخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض وقال قتادة فى صخرة فى جبل وقال ابن عباس هى صخرة تحت الأرضين السبع وهى التي يكتب فيها اعمال الفجار وخضرة السماء منها وقال السدىّ خلق اللّه الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره اللّه عزّ وجلّ فى القرآن ن والقلم والحوت فى الماء على ظهر صفاة « الصخرة والحجر الا ملس 12 نهاية منه رح » والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة (و هى الصخرة التي ذكرها لقمان ليست فى السماء ولا فى الأرض) والصخرة على الريح يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يحضرها فيحاسب عليها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفى ودقيق خَبِيرٌ (16) عليم بكنه كل شىء قال الحسن معنى الآية هو الإحاطة بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها قال البغوي وفى بعض الكتب ان هذه الكلمة اخر ما تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها.
يا بُنَيَّ قرأ حفص والبزي « و قتل باسكاء أبو محمد » بفتح الياء والباقون بكسرها أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والأذى بسبب الأمر والنهى أو غير ذلك إِنَّ ذلِكَ أى الصبر أو كل ما امره مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) أى من الأمور التي عزمه اللّه أى قطعه قطع إيجاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير الأمور عوازمها أى فرائضها التي عزم اللّه عليك بفعلها والعزم فى الأصل عقد القلب على إمضاء امر فالعزم على هذا مصدر بمعنى المفعول أو المعنى من الأمور التي يعزم عليها بجد لوجوبها.(1/5148)
وَ لا تُصَعِّرْ قرأ نافع وأبو عمرو « و خلف - أبو محمد » وحمزة والكسائي ولا تصاعر من المفاعلة وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب بتشديد العين من غير الف خَدَّكَ لِلنَّاسِ أى لا تمل عنهم ولا تولهم صفحة وجهك تكبرا قال ابن عباس تقول لا تتكبر فتحقر وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أى فرحا وبطرا مصدر وقع موقع الحال أى يمرح مرحا أو العلة أى لاجل المرح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ متبختر فى مشيه فَخُورٍ (18) على الناس علة للنهى نشر على غير ترتيب اللف لرعاية القافية.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أى توسط فيه فوق الدبيب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 259
لانه دليل الخيلاء ومشى المتكبرين ودون الاسراع لأنه مشى السفهاء ويذهب البهاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن - أخرجه ابن عدى وأبو نعيم فى الحلية من حديث أبى هريرة وأخرجه ابن عدى أيضا من حديث أبى سعيد وابن عمرو المراد بالاسراع المنهي ما يكون بجد فوق مشيه الطبعي واما الاسراع على عادته دون الخبب فمحمود روى ابن سعد عن يزيد بن مرثد انه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا مشى اسرع حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه - وروى الطبراني والبيهقي عن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليكم بالسكينة عليكم ... بالقصد فى المشي بجنائزكم واخرج الستة قوله صلى اللّه عليه وسلم اسرعوا بالجنازة فان يك صالحة يتقدمونها وان يكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم - فهذه الأحاديث تدل على ان المراد بالاسراع ما ذكرت والمراد بالقصد هو الاسراع دون الخبب.(1/5149)
وَ اغْضُضْ قال مقاتل أى اخفض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ يعنى أوحشها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تعليل لغضّ الصوت يعنى ان صوت الحمير منكر جدّا لكونه جهيرا جدّا فلا يكن صوتك مثل صوتها أول صوتها زفير وآخرها شهيق وهما صوت أهل النار قال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول فى قوله تعالى إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هى العطسة القبيحة المنكرة قال وهب تكلم لقمان باثنى عشر الف باب من الحكمة وأدخلها الناس فى كلامهم وقضاياهم ..
أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ لاجل نفعكم ما فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم والبحار والجبال من الأرض وَما فِي الْأَرْضِ من المعادن والنباتات والحيوانات بان مكّنكم من الانتفاع بها بوسط أو بغير وسط وَأَسْبَغَ أى أتم وأكمل عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وحفص بفتح العين وضم الهاء على الجمع والاضافة والباقون بسكون العين وبالتاء منونة على صيغة الواحد بارادة الجنس ظاهِرَةً مع ما عطف عليه حال من نعمه والنعمة الظاهرة هى المحسوسة من حسن الصورة وتسوية الأعضاء والرزق والعافية وغيرها من نعماء الدنيا والإسلام والرسول والقران وتخفيف الشرائع وتوفيق اتباع الرسول وظهور الإسلام والنصر على الأعداء وَباطِنَةً من القلب والعقل والحواس الباطنة وحسن الأخلاق والامداد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 260(1/5150)
بالملائكة والإلهام بالاعتقاد الحق وستر الذنوب وعدم التعجيل فى العقوبة ونور معرفة اللّه ونار عشقه ورسوله وشفاعة رسوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ النبي صلى اللّه عليه وسلم عطف على وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وما بينهما معترضات فِي اللَّهِ فى توحيده وصفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من الدليل قال البغوي نزلت فى النضر بن الحارث وابى بن خلف وأشباههما وَلا هُدىً راجع إلى الرسول وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) منزل من اللّه بل بالتقليد كما قال اللّه تعالى.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا لانتبع ما انزل اللّه بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فيه منع من التقليد فى اصول الدين قال اللّه تعالى أَيتبعون بتقدير يعنى قل ا يتبعون آباءهم وَلَوْ كانَ الواو للحال أو للعطف على مقدر يعنى لو لم يكن ولو كان الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ الضمير اما لهم أو لابائهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) بإلقاء حسن التقليد أو حسن الإشراك فى قلوبهم والاستفهام للانكار والتعجب.
وَمَنْ يُسْلِمْ « 1 » وَجْهَهُ أى توجهه إِلَى اللَّهِ واقبل بشراشره عليه يعنى لا يفعل فعلا ولا يترك شيئا الا ابتغاء مرضاته ويفوض امره إليه وَهُوَ مُحْسِنٌ فى اعماله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه يعنى بالحضور التام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى يعنى تمسك باوثق ما يتمسك به واعتصم باقوى ذريعة لا يحتمل انقطاعه تمثيل لطيف للمتوكل على المتشبث بالعروة الوثقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) إذا لكل صائر اليه.(1/5151)
وَ مَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه إلى اللّه فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ تقديره فقد أضرّ نفسه وأوبقه ولا يضرك شيئا لا فى الدنيا ولا فى الاخرة ولمّا كان عدم الضّرر موجبا لعدم الحزن أورده فى مورده قرأ نافع لا يحزنك بضم الياء وكسر الزاء من الأحزان إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فى الدارين فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالتعذيب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) من الاعتقادات والخطرات فضلا عما فى الظاهر فيجازى كلّا على حسب اعتقاده وعمله.
نُمَتِّعُهُمْ أى نملهم ليتمتعوا قَلِيلًا أى تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فى الدنيا إلى انقضاء اجالهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أى نلجئهم ونردهم فى الاخرة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أى عذابا يثقلهم ثقل الاجرام الغلاظ وهو عذاب النار.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ
_________
(1) في الأصل ومن أسلم.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 261
وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من اسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى الإقرار به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما الزمهم وألجأهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ان ذلك يلزمهم وإذا نبهوا عليه لم يتنبهوا.(1/5152)
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا فلا يستحق العبادة غيره إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن حمد الحامدين الْحَمِيدُ (26) المستحق للحمد وان لم يحمد أخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار وكذا ذكر البغوي انه قال نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا - فلمّا هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا الم يبلغنا عنك انك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا - إيانا تريد أم قومك فقال كلّا عنيت قالوا الست تتلو فيما جاءك انا أوتينا التورية وفيها تبيان كل شىء فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هى فى علم اللّه قليل فانزل اللّه تعالى.(1/5153)
وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ يعنى لو ثبت كون الأشجار كلها أقلاما وتوحيد شجرة لان المراد تفصيل الآحاد وَالْبَحْرُ المحيط يَمُدُّهُ أى يزيده وينصب فيه مِنْ بَعْدِهِ أى من خلفه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ فاعل يمدّه قرأ أبو عمرو يعقوب البحر بالنصب عطفا على اسم انّ أو بإضمار فعل يفسره يمدّه والباقون بالرفع عطفا على انّ ومعمولها وعلى هذا يمدّه حال - وجاز ان يكون البحر مبتدأ وما بعده خبره والجملة مستانفة أو فى محل النصب على انه حال فان قيل ليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال قلت هو كقولك جئت الجيش قادم ونحو ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظرف وكان مقتضى الكلام ان يقال ولو ان الأشجار أقلام والبحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر لكن اغنى عن ذكر المداد قوله يمدّه لأنه من مد الدوات وأمدها - وقال البغوي فى الآية إضمار تقديره وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يكتب بها كلمات اللّه ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ المعبر بها عن معلومات اللّه بتلك الأقلام وبذلك المداد ولا بأكثر من ذلك بالغا ما بلغ لان معلوماته تعالى غير متناهية لا يمكن نفادها ولذلك اختار صيغة جمع القلة للاشعار بان ذلك لا يفئ بالقليل فكيف بالكثير إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شىء حَكِيمٌ (27) لا يخرج عن علمه وحكمته امر واخرج ابن جرير عن عكرمة قال سال أهل الكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الروح فانزل اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 262(1/5154)
تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فقالوا تزعم انا لم نؤت من العلم الا قليلا وقد أوتينا التورية وهى الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فنزلت هذه الآية فعلى ما ذكرنا من الروايات فى سبب النزول الآية مدنية وقيل الآية مكية وانما امر اليهود وفد قريش ان يسئلوا رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكة - واخرج أبو الشيخ فى كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال قال المشركون انما هذا الكلام يوشك ان ينفد فنزل وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الآية .
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ أجمعين إِلَّا كَنَفْسٍ أى الا كخلق نفس واحِدَةٍ وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن ويكفى لوجود الكل تعلق إرادته مع قدرته الذاتية فلا يتعذر عليه خلق الكل كما لا يتعذر عليه خلق نفس واحدة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ (28) يبصر كل شىء لا يشغله ادراك بعضها عن ادراك بعض اخر فكذلك الخلق أو المعنى انّ اللّه سميع لاقوال المشركين ان لا بعث بصير بأعمالهم.
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ عطف على يولج أو حال بتقدير قد الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ واحد من النيرين يَجْرِي فى السماء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى وقت معين وهو يوم القيامة الفرق بينه وبين قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى ان الاجل منتهى الجري وثمه غرضه حقيقة أو مجازا وكلا المعنيين حاصل فى الغايات وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) عطف على قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ وجملة أَلَمْ تَرَ متصل بقوله أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ مقرر له.(1/5155)
ذلِكَ الذي ذكر من سعة عمله وشمول قدرته وعجائب صنعه بِأَنَّ أى بسبب ان اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت أى الواجب وجوده وجميع كمالاته أو الثابت ألوهيته وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ أبو عمرو وحفص وحمزة « و يعقوب وخلف - أبو محمد » والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب مِنْ دُونِهِ من الالهة الْباطِلُ المعدوم فى حد ذاته أو الباطل دعوى الالوهية فيه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ المترفع على كل شىء والمتسلط عليه الْكَبِيرُ (30) الظاهر الباهر كبرياؤه ومن كان هذا شأنه يجب ان يكون علمه وقدرته شاملا لجميع الأشياء ..
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ متصل بقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ ... بِنِعْمَتِ اللَّهِ أى بإحسانه فى تهية أسبابه وهو استشهاد اخر على باهر قدرته و
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 263
شمول انعامه والباء للصلة أو للحال لِيُرِيَكُمْ اللّه مِنْ آياتِهِ أى بعض دلائل قدرته من عجائب البحر الذي أدركتموه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) يعنى صبار على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر فى الآفاق والأنفس ويعرف النعم ويشكر عليها مانحها - أو المراد لايات للمؤمنين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر ونصف فى الشكر - رواه البيهقي فى شعب الايمان عن انس يعنى يشكر فى السراء ويصبر فى الضراء.(1/5156)
وَ إِذا غَشِيَهُمْ أى علاهم وغطاهم الظرف متعلق يدعوا اللّه فيه معنى الشرط والجزاء والجملة معطوفة على تجرى فى البحر خبر لانّ وضمير غشيهم راجع إلى أهل الفلك رابط بين الاسم والخبر مَوْجٌ فى البحر كَالظُّلَلِ جمع الظلة شبّه بها الموج يأتى منه شىء بعد شىء قال مقاتل كالجبال وقال الكلبي كالسحاب دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بان ينجيهم ولا يدعون غيره لما تقرر فى الأذهان انه لا كاشف لضر الا اللّه سبحانه ويزول بما غلبهم من الخوف الشديد ما ينازع الفطرة السليمة من الهوى والتقليد فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ متعلق بنجاهم بتضمين معنى أوصلهم وجملة فلمّا نجّاهم معطوفة على إذا غشيهم فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قيل هو جواب لمّا والظاهر ان جواب لمّا محذوف وهذا دليل عليه تقديره فلمّا نجاهم إلى البرّ اختلفوا فمنهم شاكر لنعمة اللّه ومنهم كافر ومنهم مقتصد يعنى متوسط فى الكفر لانزجاره بعض الانزجار وكان بعض الكفار أشدّ افتراء وأشد قولا من بعض فذكر المقتصد لدلالته على جانبه كذا قال الكلبي معنى المقتصد وقال أكثرهم معنى المقتصد المقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد لما قيل ان الآية نزلت فى عكرمة بن أبى جهل هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة لان أنجانا اللّه من هذه لارجعن إلى محمد ولاضعن يدى فى يده فسكنت الرياح فرجع إلى مكة والنبي صلى اللّه عليه وسلم ثمه واسلم وحسن إسلامه والتقدير على هذا فمنهم مقتصد ومنهم كافر يدل عليه قوله وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا المنزلة أى بحقيقتها أو بدلائل قدرتنا ومنها الانجاء من الموج إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ أى غدار فانه نقض العهد الفطري أو العهد الذي عاهد فى الشدة والختر أسوأ الغدر كَفُورٍ (32) للنعم.(1/5157)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أى احذروا عذابه وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي أى لا يغنى والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ الراجع إلى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 264
الموصوف محذوف أى لا يجزى فيه والد مؤمن عن ولده الكافر وَلا مَوْلُودٌ مؤمن عطف على والد هُوَ جازٍ صفة لمولود يعنى ولا يجزى مولود مؤمن من شأنه ان يكون هو جاز عَنْ والِدِهِ الكافر متعلق بلا يجزى وانما قيدنا بالكافر لان المؤمن يشفع للمؤمن قال اللّه تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقال اللّه جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ شَيْئاً منصوب على المصدرية أى لا يجزى شيئا من الاجزاء وجاز ان يكون مولود مبتدأ خبره هو جاز عن والده وتغير النظم للتاكيد فان هذه الجملة واردة على نهج من التأكيد لم يرد عليه المعطوف عليه لان الجملة الاسمية أكد من الفعلية وقد انضم إلى ذلك لفظ المولود وفيه تأكيد اخر لان المولود انما يطلق على من ولد بلا واسطة والولد يطلق عليه وعلى ولد الولد كما فى قوله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فإذا كان المولود لا ينفع أباه فلا ينفع أجداده بالطريق الاولى - ووجه إيراده على التأكيد ان الخطاب كان للمؤمنين فى ذلك الزمان وغالبا مات اباؤهم على الكفر فاريد حسم اطماعهم من ان ينفعوا آباءهم بالشفاعة فى الاخرة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والثواب والعقاب حَقٌّ لا يمكن تخلفه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الفاء للسببية الْحَياةُ الدُّنْيا بزينتها فانها فانية ولذّاتها ضعيفة مشوبة بالمكاره وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ فى حلمه وامهاله الْغَرُورُ (33) الشيطان بان يرجيكم المغفرة فيجسركم على الذنوب.(1/5158)
اخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن مجاهد مرسلا قال جاء رجل من أهل البادية وسماه البغوي الحارث بن عمرو بن الحارث بن محارب بن حفصة فسال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الساعة أى وقتها وقال امراتى حبلى فاخبر ما تلد وبلادنا مجدبة فاخبرنى متى ينزل الغيث وقد علمت باىّ ارض ولدتّ فاخبرنى اين أموت فانزل اللّه تعالى.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أى علم وقت قيامها جملة مستأنفة فى جواب متى يكون ذلك اليوم وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ متى شاء لا يعلم نزولها الا هو وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ اذكر أم أنثى لا يعلمها غيره وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا اللّه لا يعلم أحد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 265(1/5159)
ما يكون فى غد الا اللّه ولا يعلم ما فى الأرحام الا اللّه ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة الا اللّه ولا تدرى نفس باى ارض تموت الا اللّه ولا يدرى أحد متى يجئى المطر الا اللّه رواه احمد والبخاري وروى البغوي فى تفسير هذه الآية عن ابن عمر بهذا اللفظ ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال مفاتح الغيب خمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وفى الصحيحين فى قصة سوال جبرئيل فى حديث أبى هريرة فى خمس يعنى انّ السّاعة لا يعلمهن الا اللّه ثم قرأ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية - واخرج ابن أبى شيبة فى المصنف عن خيثمة ان ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل من هذا قال ملك الموت فقال كانّه يريدنى فمر الريح ان يحملنى ويلقينى بالهند ففعل فقال الملك كان دوام نظرى إليه تعجبا منه إذ أمرت ان اقبض روحه بالهند وهو عندك واللّه اعلم.
و انما جعل العلم للّه والدراية للعبد لان فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين فى القاموس دريته علمته أو لضرب من حيلة فعنه اشارة إلى ان العبد ان عمل حيلة وبذل فيها وسعه لم يعرف ما هو لاحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره ما لم يحصل له علم بتعليم من اللّه تعالى بتوسط الرسل أو بنصب دليل عليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلها خَبِيرٌ (34) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها حكى ان منصورا راى فى منامه ملك الموت وسأله عن مدة عمره فاشار إليه بأصابعه الخمس فعبرها المعبرون بخمس سنين أو بخمسة أشهر أو بخمسة ايام فقال أبو حنيفة هو اشارة إلى هذه الآية فان هذه العلوم الخمسة مختصة باللّه تعالى واللّه اعلم.(1/5160)
تم تفسير سورة لقمان من التفسير المظهرى ليلة الثانية والعشرين من رجب سنة الف ومائتين وست سنه 1206 ه ويتلوه تفسير سورة السجدة ان شاء اللّه تعالى.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 266
سورة السّجدة
مكّيّة وهى ثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ان جعل اسما للسورة أو القرآن فهو مبتدا خبره.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ على انه بمعنى المنزل والاضافة من قبيل اخلاق ثياب والا فهو خبر مبتدا محذوف أى هذا تنزيل أو مبتدا خبره لا رَيْبَ فِيهِ فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حالا من الضمير فى فيه لان المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ويجوز ان يكون خبرا ثانيا أو خبرا اولا ولا ريب فيه اعتراضا لا محل له والضمير فى فيه راجع إلى مضمون الجملة كانّه قيل لا ريب فى كونه منزلا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أو الخبر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ولا ريب فيه حال من الكتاب أو اعتراض ومن ربّ العلمين متعلق بتنزيل والضمير فى فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله تعالى بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فانه تقرير له ونظم الكلام على هذا انه أشار اولا إلى اعجازه بقوله الم ثم رتب عليه ان تنزيله من رب العالمين وقور ذلك بنفي الريب عنه ثم اضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه فان أم منقطعة بمعنى بل والهمزة للانكار ثم اضرب عنه إلى اثبات انه الحق المنزل من اللّه وبيّن المقصود من تنزيله فقال لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إذ كانوا أهل الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم وجملة ما اتهم صفة لقوم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) بانذارك إياهم.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَا لْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما(1/5161)
اللّه مبتدا والموصول مع صلته خبره فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها يوم الأحد وآخرها الجمعة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 267
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عطف على خلق وقد بسطنا الكلام فى الاستواء على العرش فى سورة يونس وذكرنا فى سورة الأعراف أيضا ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ يعنى إذا جاوزتم مرضاته لا ينصركم فى مواطن النصر والشفيع متجوز به للناصر فإذا أخذ لكم لم يبق لكم ولى ولا ناصر استيناف أو حال من فاعل استوى أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) بمواعظ اللّه الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تتذكرون.(1/5162)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف أو حال من فاعل استوى أو خبر بعد خبر للّه أو خبر أول والموصول مع صلته صفة للّه وما لكم حال يعنى يدبر امر الدنيا مِنَ السَّماءِ أى بأسباب سماوية نازلة اثارها إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ أى يصعد إِلَيْهِ ويثبت فى علمه موجودا أو المعنى يدبر الأمر أى يحكم بالأمر وينزل الوحى مع جبرئيل أو ينزل القضاء والقدر مع الملك المؤكل به من السماء إلى الأرض ثم يعرج أى يصعد جبرئيل أو غيره من الملائكة إليه أى إلى اللّه يعنى إلى حيث يرضاه فِي يَوْمٍ من ايام الدنيا والمراد باليوم هاهنا مطلق الوقت لا بياض النهار لان نزول الملائكة وصعودها غير مختص بالنهار كانَ مِقْدارُهُ حال بتقدير قد أى وقد كان مقدار عروجه ونزوله أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) يعنى لو سار أحد من بنى آدم لم يقطعه الا فى الف سنة لكن اللّه بكمال قدرته جعل نزوله وعروجه فى طرفة عين - قال البغوي هذا وصف عروج الملائكة ونزولها من السماء إلى الأرض واما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هى مقام جبرئيل يقول يسير جبرئيل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين الف سنة فى يوم من ايام الدنيا أى برهة من الزمان هذا كله معنى قول مجاهد والضحاك - قلت وجاز ان يكون المراد فى الآيتين المسافة التي بين الأرض والسدرة المنتهى على اختلاف سير السائرين فانه ورد فى حديث العباس بن عبد المطلب عند الترمذي بعد ما بين السماء والأرض اما واحدة واما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة وفى حديث أبى هريرة عند احمد والترمذي مسافة ما بينهما وبين كل سمائين خمس مائة سنة ولا وجه لتطبيقهما الا باعتبار اختلاف سير السائرين واللّه اعلم.(1/5163)
و قيل معنى الآية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أى امر الدنيا مِنَ السَّماءِ أى بأسباب سماوية
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 268
كالملائكة وغيرها نازلة اثارها إلى الأرض ثم يرجع الأمر والتدبير إليه وحده بعد فناء الدنيا وانقطاع امر الأمراء وحكم الحكام فى يوم كان مقداره الف سنة وهو يوم القيامة لما روى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ونصف يوم واما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أراد به أيضا يوم القيامة - روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدى زكوة كنزه الا احمى عليه فى نار جهنّم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم اللّه بين عباده فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرى سبيله اما إلى الجنة واما إلى النار الحديث - ووجه التطبيق بين الحديثين ان يوم القيامة يختلف طوله بالنسبة إلى الاشخاص يكون ذلك اليوم على بعض الناس مقدار خمسين الف سنة وعلى بعضهم مقدار الف سنة وعلى بعضهم أخف من ايام الدنيا أخرج الحاكم والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا طول ذلك اليوم على المؤمنين كمقدار بين الظهر والعصر - وكذا ذكر البغوي قول ابراهيم التيمي واخرج أبو يعلى وابن حبان والبيهقي بسند حسن عن أبى سعيد قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال والذي نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا - وقال البغوي قال ابن أبى مليكة دخلت انا وعبد اللّه بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله عن هذه الآية وعن قوله تعالى خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فقال له ابن عباس ايام سماه اللّه تعالى لا أدرى ما هى و(1/5164)
اكره ان أقول فى كتاب اللّه ما لا اعلم - واخرج البيهقي من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال هذا فى الدنيا وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فهذا يوم القيمة جعله اللّه على الكافر مقدار خمسين الف سنة - واختار جلال الدين المحلى هذه الرواية فى تفسيره وقيل يقضى قضاء الف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الالف لالف اخر - وقيل يدبر الأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحى ثم لا يعرج إليه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 269
خالصا كما يرتضيه الا فى مدة متطاولة لقلة المخلصين فى الأعمال.
ذلِكَ المدبر الخالق للسموات والأرض وما بينهما مبتدا خبره عالِمُ الْغَيْبِ أى ما غاب عن الخلق وَالشَّهادَةِ أى ما حضر عندهم فيدبر الأمور على وفق الحكمة الْعَزِيزُ الغالب على امره الرَّحِيمُ (6) على العباد فى تدبيره وفيه ايماء بانه يراعى المصالح تفضلا وإحسانا صفتان لعالم الغيب والشهادة أو خبر ثان وثالث لذلك.(1/5165)
الَّذِي أَحْسَنَ الموصول مع الصلة صفة بعد الصفتين المذكورتين أو خبر رابع لذلك كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ « و أبو جعفر ويعقوب - أبو محمد » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكون اللام فهو بدل اشتمال من كلّ شىء يعنى احسن خلق كل شىء موافرا عليه ما يستعده ويليق به على وفق الحكمة كذا قال قتادة وقال ابن عباس أتقنه وأحكمه أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ قال اما ان است القردة ليست بحسنة ولكنه احكم خلقها وقال مقاتل أى علم كيف يخلق كل شىء من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلم - وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على صيغة الماضي على انه صفة لشئ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم عليه السلام مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ سميت به لانها تنسل منه أى تنفصل مِنْ سُلالَةٍ أى نطفة سميت سلالة لانها تسل من الإنسان مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ضعيف بدل من سلالة أو بيان له.
ثُمَّ سَوَّاهُ أى الإنسان قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغى وَنَفَخَ فِيهِ أى فى الإنسان مِنْ رُوحِهِ الضمير اما راجع إلى الإنسان أو إلى الذي احسن خلق كلّ شىء تشريفا وإظهارا بانه خلق عجيب له شأن عظيم ممكن له نسبة بما لا مثل له ولا كيف وَجَعَلَ لَكُمُ التفات من الغيبة إلى الخطاب السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا بعد ما كنتم نطفا بغير سمع وبصر وتعقّل قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9) ما زائدة مؤكدة للقلة أى شكرا قليلا أو فى زمان قليل تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه وتعبدونه.(1/5166)
وَ قالُوا أى منكرى البعث عطف على جعل لكم السّمع وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أى غبنا فيها يعنى صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض بحيث لا يتميز بينهما وأصله من قولهم ضل الماء فى اللبن إذا اختلط به وغاب فيه قرأ ابن عامر « و أبو جعفر - أبو محمد 3 » إذا بهمزة واحدة على الخبر والعامل فيه ما دل عليه أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 270
جَدِيدٍ
و هو نبعث ونجدّد خلقا قرأ نافع والكسائي ويعقوب انّا بهمزة واحدة على الخبر - والقائل أبى بن خلف والاسناد إلى جميعهم لرضائهم به والاستفهام لانكار البعث استبعادا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أى بما بعد البعث من الجزاء كافِرُونَ (10) لمّا ذكر كفرهم بالبعث اضرب عنه إلى ما هو ابلغ منه وهو انهم كافرون بجميع ما يكون فى الاخرة.(1/5167)
قُلْ يا محمّد يَتَوَفَّاكُمْ أى يستوفى نفوسكم لا يترك منها شيئا أو لا يبقى منكم أحدا والتفعل والاستفعال يستعمل أحدهما مقام الاخر يقال تقصّيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته مَلَكُ الْمَوْتِ وهو عزرائيل عليه السلام روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأمراض والإرجاع كلها بريد الموت ورسول الموت فإذا حان الاجل اتى ملك الموت فقال أيها العبد كم خبر بعد خبروكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد انا الخبر ليس بعدي خبر وانا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعا أو مكرها ولمّا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون واللّه ما ظلمت له أجلا ولا أكلت له رزقا بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فو اللّه ان لى عودات وعودات حتى لا أبقى فيكم أحدا الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أى وكل بقبض أرواحكم وله أعوان من الملائكة وقد ذكرنا الأحاديث الواردة فى ملك الموت وأعوانه فى تفسير سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ.
(مسئلة) ملك الموت لا يعلم بوقت أحد ما لم يؤمر به أخرج احمد وابن أبى الدنيا عن معمر قال بلغنا ان ملك الموت لا يعلم متى يحضر أجل الإنسان حتى يؤمر بقبضه واخرج ابن أبى الدنيا عن ابن جريج قال بلغنا انه يقال لملك الموت اقبض فلانا فى وقت كذا فى يوم كذا.
((1/5168)
مسئلة) ملك الموت يظهر للمؤمن بأحسن صورة وللكافر باقبحها أخرج ابن أبى الدنيا عن ابن مسعود وابن عباس قالا لمّا اتخذ الله ابراهيم خليلا سال ملك الموت ان يأذن له ان يبشر له بذلك فاذن له فجاء ابراهيم فبشره فقال الحمد للّه ثم قال يا ملك الموت أرني كيف تقبض أنفاس الكفار قال يا ابراهيم لا تطيق ذلك قال بلى قال فاعرض فاعرض ثم نظر فإذا برجل اسود ينال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار وليس من شعرة فى جسده الا فى صورة رجل يخرج من فيه ومسامه لهب النار فغشى على ابراهيم ثم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 271
أفاق وقد تحول ملك الموت فى الصورة الاولى - فقال يا ملك الموت لو لم يبق الكافر من البلاء والحزن الا صورتك لكفاه فارنى كيف تقبض أرواح المؤمنين قال فاعرض فاعرض ثم التفت فإذا هو برجل شاب احسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فى ثياب بيض فقال يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند الموت من قرة عين والكرامة الا صورتك هذه يكفيه واخرج عن كعب ان ابراهيم أراه ملك الموت الصورة التي يقبض بها المؤمن قال فراه من النور والبهاء شيئا لا يعلمه الا اللّه والتي يقبض بها الكفار الفجار فرعب ابراهيم رعبا حتى أرعدت فرائصه والصق بطنه بالأرض وكادت نفسه تخرج.
((1/5169)
مسئلة) كيف يكون الموت سوى الآدميين أخرج أبو الشيخ والعقيلي فى الصغاء والديلمي عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آجال البهائم وحشاش الأرض كلها فى التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض اللّه أرواحها وليس إلى ملك الموت من ذلك شىء وله طريق اخر أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر مثله قال ابن عطية والقرضى معنى ذلك ان اللّه تعالى يعدم حياتها بلا مباشرة ملك الموت - قلت جعل ملك الموت وأعوانه للانسان إكراما للمؤمنين واهانة وتعذيبا للكافرين واخرج الخطيب فى تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس قال وكّل ملك الموت يقبض أرواح الآدميين فهو الذي يقبض أرواحهم وملك فى الجن وملك فى الشياطين وملك فى الوحش والطير والسباع والحيتان والنمل فهو اربعة املك والملائكة يموتون فى الصعقة الاولى وان ملك الموت يلى قبض أرواحهم ثم يموت فامّا الشهداء فى البحر فان اللّه يلى قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت لكرامتهم عليه حيث ركبوا سيح البحر فى سبيله - وفيه جويبر ضعيف جدّا والضحاك عن ابن عباس منقطع ولاخره شاهد مرفوع أخرجه ابن ماجة عن أبى امامة سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اللّه وكل ملك الموت بقبض الأرواح الا شهداء البحر فان اللّه يتولى قبض أرواحهم - قلت فشهداء بحر العشق والمعرفة اولى بذلك الكرامة واللّه اعلم.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) يعنى بعد الموت يصعد بروح المؤمن ملائكة الرحمة إلى السموات حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة وبروح الكافر ملائكة العذاب حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له فيطرح روحه طرحا وقد مر الحديث فى سورة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 272
الانعام أو المعنى ترجعون بعد الحشر احياء إلى موقف الحساب فيجزى كل نفس بما عملت وقد مرّ ثم ذكر اللّه سبحانه حالهم بعد الحشر فقال.(1/5170)
وَ لَوْ تَرى يا محمّد إِذِ الْمُجْرِمُونَ أى المشركين الذين قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ ... ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ حال من الضمير فى المجرمون عِنْدَ رَبِّهِمْ ندامة وحزنا يقولون حال من فاعل ناكسوا أو حال مرادف له أو استيناف فى جواب ما يقولون حينئذ رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا وكنا مكذّبيه وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك فيما كذّبناهم وقيل معناه أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ عملا صالِحاً مجذوم فى جواب الدعاء إِنَّا مُوقِنُونَ (12) الان بما كنا شاكّين فيه قبل وجواب لو محذوف تقديره لرايت امرا فظيعا ويجوز ان يكون لو للتمنى والمضي فى لو وإذ لكون الثابت فى علم اللّه بمنزلة الواقع ولا يقدر لترى مفعول لان المعنى لو يكون منك رؤية فى هذا الوقت أو يقدر ما دل عليه صلة إذ يعنى لو ترى نكوس رءوسهم.(1/5171)
وَ لَوْ شِئْنا ان نؤتى كل نفس هداها أى ما يهتدى به إلى الايمان والعمل الصالح وخلق الانقياد للرسول باختياره قلبا وقالبا أو المعنى لو شئنا هداية كل نفس لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ عاقلة من الجن والانس هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أى ثبت قضائى بعدم هدايتهم وعدم اهتدائهم وكون مصيرهم إلى النار أو سبق وعيدى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اللام فيهما للعهد والمراد المجرمون من الفريقين الذين مرّ ذكرهم بدليل قوله أَجْمَعِينَ (13) عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم وعن علىّ رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما منكم من أحد الا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة قالوا يا رسول اللّه أ فلا نتكل على كتابنا وندع العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة واما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى الآية متفق عليه وعن عبد اللّه ابن عمرو قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفى يده كتابان فقال أ تدرون
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 273(1/5172)
ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول اللّه الا تخبرنا فقال للذى فى يمينه هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء أهل الجنة واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء لاهل النار واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول اللّه ان كان امر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وان عمل اىّ عمل وان صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وان عمل اىّ عمل ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربّكم من العباد فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ - رواه الترمذي - وجملة لاملانّ جواب قسم محذوف وبيان للقول المذكور بتقدير هو أو بدل عنه وجاز ان يكون حق القول فى حكم القسم يقال حقّا لافعلن كذا فعلى هذا يكون لاملانّ جوابا له وقال مقاتل المراد بالقول هو قوله تعالى لابليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وفى هذه تصريح بان عدم ايمانهم مسبب بعدم المشيّة - وحق القول اما تقرير لعدم المشية والمعنى ولكن شئت كفرهم ومصيرهم إلى النار أو تعليل لعدم المشية بسبق القضاء ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله.(1/5173)
فَذُوقُوا الفاء للسببية يعنى لما حقّ القول منّى كذلك فيقول لهم خزنة جهنم إذا دخلوها ذوقوا عذاب جهنم بِما نَسِيتُمْ أى بسبب نسيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ يعنى البعث والرجوع إلى اللّه أى إلى موقف حسابه هذا صفة ليومكم حتى عملتم موجبات العذاب إِنَّا نَسِيناكُمْ أى تركناكم من الرحمة أو فى العذاب ترك المنسى وفى استينافه وبناء الفعل على ان واسمها تشديد فى الانتقام منهم وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) كرر الأمر للتوكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي كما علله بتركهم تدبر امر العاقبة والتفكر فيها دلالة على ان كل منهما يقتضى ذلك وهذه الآية حجة لنا على الجبرية والقدرية - اما على الجبرية فلقوله بما نسيتم حيث جعل سبب ذوق العذاب نسيانهم وتركهم الايمان والأعمال الصالحة باختيارهم واما على القدرية فانهم يقولون ان اللّه يشاء من عباده كلهم الايمان والأعمال الصالحة وهم تركوا الايمان بمشيتهم واختيارهم فالاية تدل على انه لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين.
إِنَّما يُؤْمِنُ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 274
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أى وعظوا خَرُّوا وقعوا على وجوههم خوفا من عذاب اللّه سُجَّداً أى ساجدين وَسَبَّحُوا أى نزهوا عما لا يليق به كالعجز عن البعث بِحَمْدِ رَبِّهِمْ متلبسين بحمده يعنى حامدين له شكرا على ما وفقهم للاسلام وأتاهم الهدى قائلين سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) عن الايمان والطاعة.(1/5174)
تَتَجافى حال من فاعل سبحوا أى ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أى الفرش التي ينامون عليها يَدْعُونَ حال من الضمير المجرور فى جنوبهم وهو فاعل تتجافى على طريقة دابر هؤلاء مقطوع مصبحين رَبَّهُمْ خَوْفاً من سخطه وعذابه وَطَمَعاً فى رحمته وثوابه أخرج هناد عن اسماء بنت يزيد رضى اللّه عنها قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجمع اللّه يوم القيامة الناس فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادى اين الذين كانوا يحمدون اللّه تعالى فى السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الخلق فيحاسبون - واخرج ابن راهويه وأبو يعلى فى مسنديهما من حديثها نحوه وفيه ينادى اولا بصوت يسمع الخلائق سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم قال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة العلماء هم المتهجدون الذين يقومون لصلوة الليل روى احمد والترمذي وابن ماجة وابن أبى شيبة وابن راهويه فى مسنديهما والحاكم عن معاذ قال قلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى من النار قال لقد سالت من عظيم وانه يسير على من يسره اللّه عليه تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلوة الرجل فى جوف الليل ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يعملون ثم قال الا ادلّك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول اللّه قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا نبى اللّه فاخذ بلسانه وقال كف عليك هذا فقلت يا نبى اللّه وانا لمواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ و(1/5175)
هل يكب الناس فى النار على وجوههم أو على
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 275
مناخرهم الا حصائد ألسنتهم.
و عن أبى مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها اللّه لمن الان الكلام واطعم الطعام وتابع الصيام وصلّى بالليل والناس نيام - رواه البيهقي فى شعب الايمان - وروى الترمذي عن على نحوه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللّه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل - رواه مسلم وروى احمد الفصل الا خير بلفظ أفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة فى جوف الليل وروى البغوي عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عجب ربنا عن رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه واهله إلى صلوته فيقول اللّه لملائكته انظروا إلى عبدى ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه واهله رغبة فيما عندى وشفقة ممّا عندى ورجل غزا فى سبيل اللّه فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه فى انهزامه وماله فى الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول اللّه لملائكته انظروا إلى عبدى رجع رغبة فيما عندى وشفقة عما عندى حتى أهريق دمه وروى البغوي عن أبى هريرة ما قال ابن « 1 » رواحة
و فينا رسول اللّه يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات انّ ما قال واقع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع(1/5176)
و قد ذكرنا ما ورد من الأحاديث فى فضائل صلوة الليل فى تفسير سورة المزّمّل واخرج الترمذي وصححه عن انس ان هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نزلت فى انتظار الصلاة التي تدعى العتمة - وقال البغوي قال انس نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار كنا نصلى المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى العشاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وقال عن انس أيضا قال نزلت فى أناس من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يصلون من صلوة المغرب إلى صلوة العشاء - أخرجه ابن مردوية عن انس وأصله فى سنن أبى داؤد وهو قول أبى حاتم ومحمد بن المنكدر وقالا هى صلوة الأوابين روى ابن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلا من صلى ما بين المغرب والعشاء فانها صلوة الأوابين واخرج البزار بسند ضعيف
_________
(1) هذا فى كتب الرجال هو عبد اللّه بن رواحة الخزرجي شاعر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفى الأصل ابن أبى رواحة 12
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 276
عن بلال قال كنا نجلس فى المجلس وناس من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ - وقال البغوي عن أبى الدرداء وابى ذر - وعبادة بن صامت هم الذين يصلون العشاء الاخرة والفجر فى جماعة وروى مسلم واحمد عن عثمان رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى العشاء فى جماعة فكانما قام نصف الليل ومن صلى الصبح فى جماعة فكانما صلى الليل كله - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو يعلمون ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا - رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد والنسائي.(1/5177)
وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) قيل أريد به الصدقة المفروضة وقيل عام فى وجوه الخير.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ لا ملك مقرّب ولا نبى مرسل ما أُخْفِيَ لَهُمْ قرأ حمزة ويعقوب بياء ساكنة على انه مضارع أخفيت ويؤيده قراءة ابن مسعود نخفى بالنون والباقون بفتحها على انه ماض مبنى للمفعول مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ من زائدة وقرّة أعين فى محل النصب على قراءة حمزة وفى محل الرفع على قراءة الجمهور أى ممّا تقربه أعينهم عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ متفق عليه قال هذا ما لا تفسير له جَزاءً منصوب على المصدرية أو على العلية يعنى يجزون جزاء وأخفى للجزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) ذكر البغوي واخرج الواحدي وابن عساكر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه انه كان بين على بن أبى طالب رضى اللّه عنه والوليد بن عقبة بن أبى معيط تنازع وكلام فى شىء فقال الوليد لعلى عليه السلام اسكت فانّك صبى وانا واللّه ابسط منك لسانا وأشجع منك حبانا واملا منك حشوا فى الكتيبة فقال على اسكت فانك فاسق فانزل اللّه تعالى.
أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً واخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله واخرج الخطيب فى تاريخه وابن عدى من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس مثله واخرج الخطيب وابن عساكر من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس انها نزلت فى على بن أبى طالب وعقبة بن أبى معيط وذلك بسباب كان بينهما والاستفهام للانكار
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 277(1/5178)
و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ يستوي علىّ ولى اللّه المرتضى ووليد عدو اللّه أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كان كَمَنْ كانَ فاسِقاً يعنى خارجا عن أهل الايمان لا يكون ذلك لا يَسْتَوُونَ (18) فى الشوف والمثوبة أورد صيغة الجمع لان المراد جنس المؤمن والكافر والجملة تقرير لانكار الاستواء ولمّا كان الاستواء مجملا فصّله بقوله.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى فانها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة يأوى إليها المؤمنون ويأبى عن دخولها الكافرون باختيارهم الشرك باللّه نُزُلًا وو هو ما يعد للضيف حال من جنات وهو فاعل للظرف بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) أى بسبب أعمالهم.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أى كفروا فَمَأْواهُمُ النَّارُ استبدلوها بجنات المأوى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) اهانة لهم وزيادة فى غيظهم.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ عطف على ماوهم النّار مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى يعنى عذاب الدنيا قال أبيّ بن كعب والضحاك والحسن وابراهيم يعنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوالبي عن ابن عباس وقال عكرمة أراد بها الحدود وقال مقاتل الجوع سبع سنين بمكة حين أكلوا الجيف والعظام والكلاب وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدىّ دُونَ أى قبل الْعَذابِ الْأَكْبَرِ يعنى العذاب الاخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) إلى الايمان يعنى من بقي منهم بعد القحط وبعد البدر.(1/5179)
وَ مَنْ أَظْلَمُ لا أحد اظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ولم يتدبر فيها وثم لاستبعاد الاعراض عن مثل هذه الآيات مع فرط وضوحها وإرشادها إلى السعادة فى الدارين إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) فكيف بمن كان هو اظلم من كل ظالم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ جواب قسم محذوف وهو مع ما عطف عليه معترضة بين قوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وبين قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يعنى كما اتيناك القرآن اتينا قبل ذلك موسى الكتب يعنى التورية فَلا تَكُنْ يا محمد فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْ لِقائِهِ أى الكتاب مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف يعنى من ان لقيت الكتاب إلى القرآن فانه غير مبتدع ممّا لم يكن قبل حتى ترتاب فيه - أو من ان لقى الموسى الكتاب بالرضاء والقبول كذا قال السدىّ واخرج
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 278(1/5180)
الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قال لقاء موسى ربه وقيل معناه لا تكن فى شك من لقائك موسى أى ليلة المعراج قاله ابن عباس وغيره - روى الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال رايت ليلة اسرى بي موسى رجلا أدما طوالا جعدا كانّه من رجال شنوأة ورايت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الراس ورايت مالكا خازن النار والدجال فى آيات أراهن اللّه إياه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ - وعن ابن عباس قال سرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمررنا بواد فقال اىّ واد هذا فقالوا وادي الأزرق قال كانى انظر إلى موسى فذكر من لونه وشعره واضعا إصبعيه فى اذنيه له جؤار « رفع الصوت والاستغاثة - منه رح » إلى اللّه بالتلبية مارّا بهذا الوادي - قال ثم سرنا حتى اتينا على ثنية فقال اىّ ثنية هذه فقالوا مرشا أو لغت فقال كانى انظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته حلبته مارّا بهذا الوادي ملبيا - رواه مسلم وقد ذكر فى سورة بنى إسرائيل فى حديث المعراج ان النبي صلى اللّه عليه وسلم راى موسى فى السماء السادسة ومراجعته فى امر الصلاة - وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمّا اسرى بي إلى السماء رايت موسى يصلى فى قبره وَجَعَلْناهُ يعنى الكتاب الذي انزل على موسى وقال قتادة يعنى موسى كذا أخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال جعل موسى هدى لبنى إسرائيل هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (24) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أى من بنى إسرائيل أَئِمَّةً قادة فى الخير يقتدى بهم يعنى الأنبياء الذين كانوا فيهم وقال قتادة اتباع الأنبياء يَهْدُونَ النّاس إلى ما فيه من الاحكام بِأَمْرِنا إياهم أو بتوفيقنا لهم لَمَّا صَبَرُوا قرأ « و رويس - أبو محمد » حمزة والكسائي لما بكسر اللام وتخفيف الميم أى لصبرهم(1/5181)
و الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر - وفيه دليل على ان الصبر يورث امامة الناس وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) لامعانهم فيها بالنظر.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيميز المحق من المبطل متصل بقوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) من امر الدين.
أَ وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف والفاعل ضمير راجع إلى ربّك أو ما دل عليه قوله كَمْ أَهْلَكْنا تقديره الم يعتبروا بمن سبقهم ولم يهد لهم ربك أو كثرة إهلاكه مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 279
الماضية بسبب كفرهم يَمْشُونَ أهل مكة فى أسفارهم فِي مَساكِنِهِمْ أى مساكن المهلكين إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ دلالات على قبح ما فعلوا من الكفر والمعاصي وعلى قدرتنا على الانتقام أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أ يعرضون عن ايتنا فلا يسمعون سماع تدبر واتعاظ.(1/5182)
أَ وَلَمْ يَرَوْا الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا ولم يروا أى لم يعلموا بل قد علموا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي جرز نباتها أى قطع وازيل فَنُخْرِجُ بِهِ أى بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أى من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتين والورق وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا يلقون انظارهم فلا يبصرون ما ذكرنا فيستدلون به على كمال قدرتنا وفضلنا وعلى انا قادرون على بعثهم بعد الموت - أخرج ابن جرير وذكره البغوي عن قتادة قال قال الصحابة للمشركين ان لنا يوما أو شك ان نستريح فيه ونتنعم ويحكم اللّه بيننا وبينكم - قلت لعلهم يعنون يوم القيامة الذي يحكم اللّه فيه بين العباد وقال الكلبي يعنون فتح مكة وقال السدىّ يوم بدر لان اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم كانوا يقولون ان اللّه ناصرنا ومظهرنا عليكم فقال المشركون استهزاء متى هذا الفتح فنزلت.
وَيَقُولُونَ يعنى كفار مكة عطف على مضمون أَفَلا يُبْصِرُونَ فان نفى أبصار آيات القدرة انكار للقدرة يعنى ا ينكرون القدرة ويقولون استهزاء مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) فيما تقولون فبينوا لنا وقته.(1/5183)
قُلْ يا محمد جملة مستأنفة فى جواب ماذا أقول لهم حين قالوا ذلك يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ المتبادر منه ان المراد بيوم الفتح يوم القيمة لان ايمان ذلك اليوم لا ينفع البتة ومن حمل الفتح على فتح مكة أو يوم بدر قال معناه لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقتلوا أو ماتوا على الكفر ايمانهم حين راووا العذاب بعد موتهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) أى يمهلون ووجه تطبيق هذا الجواب بسوالهم عن يوم الفتح ان سوالهم ذلك كان استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء فاجيبوا على حسب ما عرف من عرضهم فى سوالهم - فكانّ التقدير لا تستعجلوا به ولا تستهزءوا فكانّى بكم وأنتم فى ذلك اليوم وأمنتم به فلم ينفعكم ايمانكم واستنظرتم فى درك العذاب فلم تنظروا.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت حالهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 280
و ما لهم فاعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم قال ابن عباس نسختها اية السيف وَانْتَظِرْ موعدى لك بالفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) بك حوادث الزمان وقيل انتظر عذابنا فيهم فانهم ينتظرون ذلك.(1/5184)
عن أبى هريرة قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ فى الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ - وعن جابر قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ رواه احمد والترمذي والدارمي وقال الترمذي هذا حديث صحيح وعن خالد بن معدان قال بلغني فى الم تنزيل ومثله فى تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ان رجلا كان يقراهما ما يقرأ شيئا غيرهما وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت رب اغفر له فانه كان يكثر قراءتى فشفعها الرب تعالى فيه وقال اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة - وقال أيضا انها تجادل عن صاحبها فى القبر تقول ان كنت من كتابك فشفعنى فيه وان لم أكن من كتابك فامحنى عنه وانها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له فتمنعه من عذاب القبر وقال فضلتا على كل سورة فى القرآن بستين حسنة - رواه الدارمي وعن ابن عباس قوله صلى اللّه عليه وسلم من قرأ الم تنزيل وتبارك الملك اعطى من الاجر كانما احيى ليلة القدر - رواه الثعلبي وابن مردوية وروى ابن مردوية عن ابن عمر نحوه - قال السيوطي هذا حديث موضوع واللّه اعلم تم تفسير سورة الم تنزيل يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب من السنة السادسة بعد الف وماتين سنه 1206 ويتلوه ان شاء اللّه تعالى سورة الأحزاب.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 281(1/5185)
سورة الأحزاب
مدنيّة وهى ثلاث وسبعون اية قال أبيّ بن كعب لذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين اية قال فو الذي يحلف به أبيّ ان كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ولقد قرأنا منها اية الرجم الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم - ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال ان أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة ابن ربيعة دعووا النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى ان يرجع عن قوله على ان يعطوه شطرا من أموالهم وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة ان لم يرجع قتلوه فانزل اللّه تعالى.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآية ناداه بالنبي ولم يقل يا محمد وامره بالتقوى تعظيما وتفخيما لشأن التقوى - وقال البغوي نزلت الآية فى أبى سفيان بن الحرب وعكرمة ابن أبى جهل وابى الأعور عمرو بن سفيان السلمى وذلك انهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم الامان على ان يكلموه - فقام معهم عبد اللّه بن أبى سعد وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم (و عنده عمر بن الخطاب) ارفض ذكر الهتنا اللات والعزى ومناة وقل ان لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك فشق على النبي صلى اللّه عليه وسلم قولهم فقال عمر يا رسول اللّه ايذن لى فى قتلهم فقال انى قد اعطيتهم الامان فقال اخرجوا فى لعنة اللّه وغضبه فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يخرجوهم من المدينة فانزل اللّه تعالى هذه الآية - قيل الخطاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمراد به الامة وقال الضحاك معناه اتق ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم وقيل الخطاب للنبى صلى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 282(1/5186)
اللّه عليه وسلم للامر بالثبات عليه ليكون مانعا عمّا نهى عنه بقوله وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكة يعنى أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وَالْمُنافِقِينَ من أهل المدينة عبد اللّه ابن أبى وعبد اللّه بن سعد وطعمة بن أبيرق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخلقه ومصالحهم ومفاسدهم حَكِيماً (1) لا يحكم الا على وفق الحكمة.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من التوحيد والإخلاص للّه هذه الجملة بمنزلة التأكيد للتقوى وعدم إطاعة الكفار إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) قرأ أبو عمرو بالياء فى يعملون خبيرا ... يعملون بصيرا للغيبة والضمير عائد للكافرين والمنافقين يعنى ان اللّه خبير بمكائدهم يجازيهم عليها وقرأ الباقون بالتاء خطابا للنبى صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فان الأمر بالتقوى وان كان بصيغة الواحد لكن المراد هو وأمته وعلى هذا الجملة تأكيد لامتثال الأمر طمعا فى حسن الجزاء وخوفا عن قبحه.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أى ثق به وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) موكولا إليه الأمور كلها تذييل وقال الزجاج عطف على توكل لفظه خبر ومعناه امر أى اكتف باللّه وكيلا تميز من النسبة أى اكتف باللّه وكيلا يعنى اكتف بوكالته وفى صيغة الأمر اشعار على التعليل للامر بالتوكل والاكتفاء يعنى من كان اللّه مع كمال علمه وقدرته ورحمته موكولا إليه أموره لا يحتاج إلى توكيل غيره فتوكيل أموره إلى غيره سفه واللّه اعلم.(1/5187)
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ من زائدة وهو فى محل النصب على انه مفعول أول لجعل ولرجل مفعوله الثاني فِي جَوْفِهِ ظرف لغو أو صفة لقلبين اعلم ان القلب معدن للروح الحيواني ومنبع للقوى بأسرها وذلك يمنع التعدد إذ لو كان لرجل قلبان فاما ان يفعل بكل واحد منهما شيئا واحدا من افعال القلوب فالثانى فضلة لا حاجة إليه واما ان يفعل بكل واحد غير ما يفعل به الاخر وحينئذ يفضى إلى التناقض ذكر البغوي وكذا أخرج ابن أبى حاتم عن السدىّ وابن نجيح عن مجاهد انها نزلت فى أبى معمر جميل بن معمر الفهري كان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الا وله قلبان وكان يقول ان لى قلبين اعقل بكل واحد منهما أفضل مما عقل محمد - فلما انهزم قريش يوم بدر وانهزم فيهم أبو معمر لقيه أبو سفيان واحدي نعليه فى يده والاخرى برجله فقال له يا أبا معمر ما حال الناس قال انهزموا قال مالك احدى نعليك بيدك والاخرى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 283(1/5188)
برجلك قال أبو معمر ما شعرت الا انهما فى رجلى فعلموا يومئذ انه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده واخرج ابن أبى حاتم من طريق خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة قالوا كان رجل يدعى ذا القلبين فنزلت فيه واخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس مثله ومن طريق قتادة عن الحسن مثله وزاد وكان يقول نفسى يأمرنى ونفسى ينهانى - واخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال قام النبي صلى اللّه عليه وسلم فخطر خطرة فقال المنافقون الذين معه الا ترى ان له قلبين قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فانزل اللّه تعالى هذه الآية - وقال الزهري ومقاتل هذا مثل ضربه اللّه عز وجل للمظاهر من امرأته وللمتبنّى ولد غيره يقول فكما لا يكون لرجل قلبان لامتناع اجتماعهما لا تكون امراة المظاهر امّا له لامتناع اجتماع النسبتين ولا يكون ولد غيره ولدا له لامتناع اجتماع النسبتين - وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي قرأ قالون « و يعقوب - أبو محمد » وقنبل اللّاء هنا وفى المجادلة والطلاق بالهمزة « الحقيقة - أبو محمد » من غير ياء « و أبو جعفر - أبو محمد » وورش بياء مختلسة « اى بهمزة سلمة بغير ياء - أبو محمد » الكسرة خلفا من الهمزة وإذا وقف صيرها ياء ساكنة والبزي وأبو عمرو « بخلاف عنه ما وصلا والوجه الثاني لها ورش أبو محمد » بياء ساكنة بدلا من الهمزة فى الحالين والباقون بالهمزة بعدها ياء فى الحالين وحمزة إذا وقف جعل الهمزة بين بين على أصله ومن همز منهم ومن لم يهمز أشبع التمكين للالف فى الحالين الا ورشا « و من معه - أبو محمد » فان المد والقصر جائز ان عنه تُظْهِرُونَ قرأ عاصم بضم التاء وتخفيف الظاء والف بعدها وكسر الهاء من المفاعلة وحمزة و « خلف - أبو محمد » الكسائي بفتح التاء والهاء وبالألف مخففا من التفاعل بحذف احدى التاءين وقرأ ابن عامر بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء وبالألف أيضا من التفاعل لكن بإدغام التاء بعد القلب(1/5189)
بالظاء والإسكان فى الظاء والباقون بفتح التاء والهاء « المشددة - أبو محمد » وتشديد الظاء بغير الف من التفعل بإدغام التاء فى الظاء على ما بيّنّا مِنْهُنَّ عدى التظاهر بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا فى الجاهلية فعدل فى الشرع إلى الحرمة المنتهية بالكفارة أُمَّهاتِكُمْ صورة المظاهر ان يقول الرجل لزوجته أنت علىّ كظهر أمي وقد ذكرنا مسائل الظهار فى سورة المجادلة - قال البيضاوي ذكر الظهر فى الظهار للكناية عن البطن الذي هو عموده فان ذكره تقارب ذكر الفرج أو للتغليظ فى التحريم فانهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء وَما جَعَلَ اللّه أَدْعِياءَكُمْ أى الذين تبنيتهم جمع دعى على الشذوذ وكان قياسه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 284
دعوى كجرحى جمع جريح لأنه فعيل بمعنى مفعول كانّه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه كتقىّ وأتقياء وسخى وأسخياء وشقى وأشقياء أَبْناءَكُمْ فلا يثبت بالتبني شىء من احكام النبوة من الإرث وحرمة النكاح وغير ذلك - وفى الآية ردّ لما كانت العرب تقول من ان اللبيب الأريب له قلبان والزوجة المظاهر منها تبين من زوجها وتحرم عليه كالام ودعى الرجل ابنه يرثه ويحرّم بالتبني ما يحرم بالنسب وقد كان النبي صلى(1/5190)
اللّه عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي وتبنّاه قبل الوحى وأخا بينه وبين حمزة بن عبد المطلب - فلما تزوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش بعد ما طلقه زيد وكانت امرأته وقال المنافقون تزوج محمد امراة ابنه وهو ينهى عن ذلك انزل اللّه تعالى هذه الآية ذلِكُمْ اشارة إلى كل ما ذكر قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يعنى لا حقيقة لها فى الأعيان كقول الهاذىّ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يعنى ماله حقيقة فى الأعيان تطابق قوله وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) أى يرشد إلى سبيل الحق - روى الدارمي عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهل بن عمرو (و كانت تحت أبى حذيفة بن عتبة ابن ربيعة) عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت ان سالما مولى أبى حذيفة يدخل علينا وانا فضل « 1 » وانما نراه ولدا وكان أبو حذيفة تبنّاه كما تبنى النبي صلى اللّه عليه وسلم زيدا فانزل اللّه تعالى.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ يعنى انسبوهم إلى ابائهم الذين خلقوا من نطفهم افراد للمقصود من أقواله الحقة هُوَ الدعاء لابائهم أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل لقوله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ واقسط اسم تفضيل أريد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ فى الصدق واخرج البخاري عن ابن عمر قال ما كنا نقول زيد بن الحارثة الا زيد بن محمد صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل القرآن ادعوهم لابائهم هو اقسط عند اللّه فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ حتى تنسبوا إليه فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أى فهم إخوانكم فى الدين وأولياءكم فقولوا هذا أخي فى الدين ومولائى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى اثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أى فيما نسبتم المتبنّى إلى المتبنّى مخطئين قبل النهى أو بعده على النسيان أو سبق اللسان وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ
_________
((1/5191)
1) فضل أى مبتذلة فى ثياب مهنتها يقال تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها أو كانت فى ثوب واحد فهى فضل والرجل فضل أيضا 12 نهايه منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 285
قُلُوبُكُمْ أى لكن الجناح فيما تعمّدت قلوبكم أو لكن ما تعمّدت قلوبكم ففيه الجناح عن سعيد بن أبى وقاص وابى بكرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام - رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد وأبو داؤد وابن ماجة وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ادعى إلى غير أبيه أو أنتما إلى غير مواليه فعليه لعنة اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة - رواه أبو داؤد وقال السيوطي صحيح وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) يعفوا عن المخطئ قال البيضاوي اعلم ان التبنّي لا عبرة له عندنا (يعنى عند الشافعي رحمه اللّه) وعند أبى حنيفة رحمه اللّه يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الذي يمكن الحاقه به - وهذا سهو منه فان عند أبى حنيفة رحمه اللّه لا يعتق المملوك بقوله تبنيتك وجعلتك ابني وكذا لا يثبت النسب إذا قال لمجهول النسب تبنيتك وجعلتك ابني بل عنده ان السيد إذا قال لعبده هذا ابني يعتق عليه سواء كان يولد مثله لمثله اولا تصحيحا لكلامه وحملا له على المجاز كانّه قال هذا حرّ إطلاقا للسبب على المسبّب إذ النبوة سبب للحرية لقوله صلى اللّه عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه رواه احمد واصحاب السنن وقد خالف أبا حنيفة صاحباه فيما إذا قال لعبده هو اكبر سنا منه هذا ابني قانهما قالا لا يعتق بناء على خلافية فى الأصول ان المجاز عنده خلف عن الحقيقة فى التكلم دون الحكم فإذا صح التكلم بالحقيقة صح التجوز عنده وعتق عليه وعندهما خلف له فى الحكم فإذا لم يمكن الحكم بالحقيقة لم يصح التجوز خلفا ولم يعتق عليه ومن قال لمجهول النسب هذا ابني وهو بحيث يمكن ثبوت النسب منه يثبت نسبه(1/5192)
لكونه ماخوذا بإقراره والتزام النسب خالص حقه ولاجل ذلك من قال لمجهول النسب هذا أخي لا يثبت نسبه من أبيه غير انه إذا مات المقر بالنسب على الغير مصرّا على إقراره ولم يكن له وارث اخر يرث المقر له منه لعدم المزاحم وهو مقدم على بيت المال عندنا لا على أحد من الورثة وان كانوا من ذوى الأرحام ولا على الموصى له بجميع المال واللّه اعلم.
قال البغوي قيل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو الناس إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من ابائنا وأمهاتنا فنزلت.
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى من بعضهم لبعض فى نفوذ الحكم عليهم ووجوب طاعته عليهم فلا يجوز
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 286(1/5193)
إطاعة الآباء والأمهات فى مخالفة امر النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو اولى بهم فى الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه - قال ابن عباس وعطاء يعنى إذا دعاهم النبي إلى شىء ودعتهم أنفسهم إلى شىء كانت طاعتهم للنبى اولى بهم من طاعتهم لانفسهم وذلك لأنه عالم بمصالحهم ومفاسدهم بتعليم اللّه تعالى ولا يأمرهم ولا يرضى منهم الا ما فيه صلاحهم ونجاحهم قال اللّه تعالى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بخلاف أنفسهم فانّها امّارة بالسوء الا من رحم اللّه وهى ظلوم جهول فيجب عليهم ان يكون اللّه أحب إليهم من أنفسهم فامره انفذ عليهم من أمرها وشفقته أوفر من شفقتها عليها - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين متفق عليه من حديث انس وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما من مؤمن الا وانا اولى به فى الدنيا والاخرة اقرءوا ان شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فايما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فانا مولاه - رواه البخاري وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فى تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا فى النظر إليهن والخلوة بهن فانه حرام فى حقهن كما فى حق الاجنبيات قال اللّه تعالى وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين ولا لاخوتهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم - قال الشافعي تزوج الزبير اسماء بنت أبى بكر وهى اخت أم المؤمنين عائشه ولم يقل هى خالة المؤمنين - قلت وزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بناته بعلى وعثمان قال البغوي روى الشعبي عن مسروق ان امرأة قالت لعائشة يا امه فقالت لست لك بام انما انا أم رجالكم - وكذا أخرج البيهقي فى سننه فبان بهذا انه تعالى أراد تحريم النكاح وفى(1/5194)
قراءة أبيّ بن كعب وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو اب لّهم يعنى فى الدين فان كل نبى اب لامته من حيث انه اصل فيما به الحيوة الابدية ولذلك صار المؤمنون اخوة وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أى فى حكم اللّه أو فى اللوح المحفوظ أو فى القرآن وهو هذه الآية أو اية المواريث يعنى فى التوارث ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فايما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ صلة لاولى ومن
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 287(1/5195)
تفصيلية والآية ناسخة لما كان فى ابتداء الإسلام التوارث بالهجرة والموالاة فى الدين قال البغوي ... قال قتادة كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وقال الكلبي أخي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الناس وكان يواخى بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الاخر عصبة حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ - وهذه الآية بعمومه حجة لنا على الشافعي فى توريث اولى الأرحام ممن ليس بذي فرض ولا عصبة عنه عدم ذوى الفروض والعصبات وعند عدم أحد من اولى الأرحام يوضع المال فى بيت المال إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ أى اصدقائكم من المؤمنين والمهاجرين مَعْرُوفاً أى وصية فالموصى له من الأصدقاء اولى من الورثة وهذا عام خص منه البعض بالسنة والإجماع فهو اولى من الورثة فى ثلث المال دون كله وهذا استثناء من أعم ما يقدر الاولويّة فيه من النفع أو منقطع وذلك ان اللّه لمّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح ان يوصى بمن يتولاه بما أحب من الثلث - وقيل من فى قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيانية والمعنى وَأُولُوا الْأَرْحامِ من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعنى لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ أى اقربائكم وصية وان كانوا من غير أهل الايمان والهجرة قال البغوي هذا قول قتادة وعكرمة وعطاء - قلت وعلى هذا يخلوا فعل من اللام والاضافة ومن التفضيلية ثم كون اولى الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم اولى ببعض لا يقتضى نفى التوارث بين المسلم والكافر لا بالمنطوق وهو ظاهر ولا بالمفهوم لان كون المؤمن اولى لا يدل على نفى ميراث كافر من مؤمن عند
عدم وارث مؤمن واللّه اعلم كانَ ذلِكَ أى ما ذكر فِي الْكِتابِ أى فى اللوح المحفوظ أو القرآن وقيل فى التورية مَسْطُوراً (6) ثابتا مرقوما.(1/5196)
وَ اذكر إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ أجمعين مِيثاقَهُمْ عهودهم حين اخرجوا من صلب آدم قال أخذ اللّه ميثاقهم على ان يعبدوا اللّه ويدعوا الناس إلى عبادته وينصر بعضهم بعضا وينصحوا لقومهم وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خصهم بالذكر بعد التعميم لفضلهم لكونهم اصحاب الشرائع والكتب واولى العزم من الرسل وقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم عليهم فى الذكر تعظيما له واشعارا بما اخبر عنه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 288
عليه وسلم حيث قال كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث رواه سعد عن قتادة مرسلا ورواه البغوي متصلا عن قتادة عن الحسن عن أبى هريرة وقال قال قتادة وذلك قول اللّه عزّ وجلّ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الآية فبدأ به صلى اللّه عليه وسلم قبلهم - وروى ابن سعد وأبو نعيم فى الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن أبى الجدعاء والطبراني فى الكبير عن ابن عباس بلفظ كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً عهدا على الوفاء بما عهدوا غَلِيظاً (7) شديدا عظيم الشان أو مؤكدا بالايمان والتكرير لبيان هذا الوصف.
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أى فعلنا ذلك ليسئل اللّه يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عمّا قالوه لقومهم أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فان مصدق الصادق صادق أو المؤمنين الذين صدقوا عهودهم حتى اشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) عطف على أخذنا من جهة ان بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لاثابة المؤمنين أو على ما دل عليه قوله لِيَسْئَلَ كانّه قال فاثاب للمؤمنين وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً ....(1/5197)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ ظرف لنعمة جُنُودٌ أى كفار قريش وغطفان ويهود قريظة كانوا زهاء اثنى عشر الف حتى حاصروا المسلمين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خندقا حولهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعنى الصبا روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور أرسل اللّه عليهم ريحا باردة فى ليلة شاتية فقطعت الأوتاد واطناب الفساطيط واطفأت النيران واكفأت القدور وجالت الخيل بعضها فى بعض وَجُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها حتى كثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم والقى الرعب فى قلوبهم حتى كان سيد كل قوم يقول يا بنى فلان هلموا الىّ فإذا اجتمعوا عنده قال النجا النجا أبيتم فانهزموا من غير قتال ولم تقاتل الملائكة يومئذ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أيها المؤمنون من حفر الخندق والتهيؤ للقتال هذا على قراءة الجمهور واما على قراءة البصريين فالمعنى وكان اللّه بما يعمل المشركون من التحزب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 289
و المحاربة بَصِيراً (9) رائيا وكان ذلك الوقعة فى شوال سنة اربع من الهجرة كذا فى مواهب اللدنية من قول موسى بن عقبة بعد ثمانية أشهر من اجلاء بنى النضير وكان اجلاؤهم وتفرقهم فى البلاد ولحوق سلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع وحيى بن اخطب وغيرهم بخيبر فى ربيع الأول سنة اربع والمشهور انه فى شوال سنة خمس من الهجرة كذا قال محمد بن إسحاق.(1/5198)
قال البغوي قال محمد بن إسحاق حدثنى يزيد بن رومان مولى ال الزبير عن عروة بن الزبير وعن عبد اللّه بن كعب بن مالك وعن الزهري وعاصم بن عمرو بن قتادة وعن عبد اللّه بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن محمد بن كعب القرظي وغيرهم من علمائنا دخل حديث بعضهم بعضا ان نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق وحيى بن اخطب وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وهودة بن قيس وأبو عامر الوائىّ فى نفر من النضير ونفر من بنى وائل (و هم الذين حزبوا الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا انا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال لهم قريش يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم اولى بالحق منه (قال فهم الذين انزل اللّه فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) فلمّا قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطو إلى ما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاجمعوا لذلك - ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى ذلك واخبروهم انهم سيكونون معهم عليه وان قريشا قد بايعوهم فاجابوهم.
قلت روى انه كان رجال بنى نضير وبنى وائل نحوا من عشرين رجلا فقال لهم أبو سفيان بن حرب مرحبا بكم أحب الرجال عندنا من عاهدنا على عداوة محمد فقالوا لابى سفيان اختر لنا خمسين رجلا من بطون قريش وتكون منهم حتى ندخل نحن وأنتم فى أستار الكعبة ونلزق صدورنا بجدران الكعبة ثم نحلف على ان نتفق على عداوة محمد وتكون كلمتنا واحدة ونتعاهد على ان نحارب محمدا ما بقي منا رجل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 290(1/5199)
واحد ففعلوا ذلك - ولما قدم اليهود على غطفان بعد المعاهدة مع قريش حرضوهم على القتال مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ووعدوهم على ذلك بتمر سنة ما كان على نخيل خيبر وقيل بنصف ذلك فأجاب عيينة بن حصين الفزاري رئيس غطفان قولهم بذلك الشرط أى بشرط إعطاء تمر سنة وكتب عيينة إلى حلفائه من بنى اسد فجاءوا عنده - قال البغوي فخرجت قريش قائدهم أبو سفيان بن حرب وغطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر فى بنى فزارة والحارث بن عوف بن أبى حارثة المزي فى بنى مرة ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع.
قلت روى ان أبا سفيان جمع العسكر اربعة آلاف رجل واعطى رأيته عثمان بن أبى طلحة وكان فى عسكرهم ثلاث مائة فرس والف بعير حين خرجوا من مكة ونزلوا مر الظهران واجتمع هناك اسلم وأشجع وبنو مرّة وبنو كنانة وفزارة وغطفان حتى صاروا عشرة آلاف وساروا بأجمعهم إلى المدينة ولذلك سمى غزوة الأحزاب.(1/5200)
قال البغوي فلمّا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يومئذ حر فقال يا رسول اللّه انا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحكموه قلت روى انه صلى اللّه عليه وسلم لما سمع الخبر قال حسبنا اللّه ونعم الوكيل وجمع أسراء المهاجرين والأنصار واستشارهم فى ذلك وأشار سلمان بضرب الخندق فاستحسنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستخلف على المدينة عبد اللّه بن أم مكتوم وخرج غازيا واعطى لواء المهاجرين زيد بن حارثة ولواء الأنصار سعد بن عبادة وخرج معه ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار - قلت روى ان معهم ستة وثلاثون فرسا وخرج معه صبيان لم يبلغوا الحلم فردهم إلى المدينة من كان منهم لم يبلغ خمسة عشر سنة وأجاز منهم للقتال من كان منهم ابن خمسة عشر سنة منهم عبد اللّه بن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وبراء بن عازب فطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم موضعا لاجل الخندق فى بعض أطراف المدينة فاختار موضعا بقرب جبل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 291
سلع جعل جبل سلع على ظهر العسكر وخط خطّا للخندق بينه وبين الكفار - قال البغوي أخبرنا عن عبد اللّه بن عمرو بن عوف عن أبيه قال خط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامّ الأحزاب ثم قطع لكل عشر أربعين ذراعا - قال احتج المهاجرون والأنصار فى سلمان الفارسي وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلمان منا أهل البيت.(1/5201)
قال عمر بن عوف كنت انا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار فى أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا بجنب ذى باب أخرج اللّه من بطن الخندق صخرة مردة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلت يا سلمان ارق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فان راى ان نعدل عنها فان المعدل قريب واما ان يأمرنا بامره فانا لا نحب ان نجاوز خطه فرقى سلمان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية - قال فخرجت صخرة بيضاء من مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بامرك فانا لا نحب ان نجاوز خطك فهبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة التي فى الخندق فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المعول من سلمان فضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكانّ مصباحا فى بيت جوف مظلم فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح وكبّر المسلمون ثم ضربها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الثانية فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها - فاخذ بيد سلمان ورقي فقال سلمان بابى أنت يا رسول اللّه لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى القوم فقال رأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم قال ضربت ضربتى الاولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لى قصور الحيرة ومدائن كسرى كانها أنياب الكلاب وأخبرني جبرئيل عليه السّلام ان أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربة الثانية فبرق الذي رايتم أضاءت لى منها قصور الحمرة من الروم كانها أنياب الكلاب فاخبرنى جبرئيل ان أمتي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 292(1/5202)
ظاهرة عليها فابشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد للّه الذي موعده صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون الا تعجبون من محمد يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وأنتم انما تحفرون الخندق من الغرق لا تستطيعون ان تبرزوا قال فنزل القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وانزل فى هذه القصة قل اللّهمّ مالك الملك الآية .
روى البخاري فى الصحيح عن انس قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون فى غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلمّا راى ما بهم من النصب والجوع قال
ان العيش عيش الاخرة فاغفر الأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له
نحن الذين بايعوا محمّدا هلى الجهاد ما بقينا ابدا
و روى أيضا فى الصحيح عن البراء بن عازب رضى اللّه عنه قال لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايته ينقل تراب الخندق حتى وارى على الغبار جلد بطنه وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول
اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فانزل سكينة علينا وثبت الاقدام ان لاقينا
ان الاولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ثم يمدّ صوته بآخرها وفى رواية واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا إلى آخره قلت وروى ان سلمان كان رجلا قويا يعمل فى الخندق عمل عشرة من الرجال ويروى انه كان يحفر الخندق كل يوم خمسة اذرع فى عمق خمسة اذرع فاصابه عين من قيس بن أبى صعصعة فصرع فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قيسا ان يتوضأ لسلمان ويجعل وضوءه فى اناء ويضل به سلمان ويلقى الإناء خلفه منكوسا ففعلوا ذلك فبرئ سلمان.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 293(1/5203)
و روى احمد والبخاري فى الصحيح عن جابر بن عبد اللّه قال كنا يوم الخندق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعرضت لنا كدبة « بضم الكاف القطعة الصلبة الصماء - منه رح » شديدة فجاءوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا هذه كدية من الجبل عرضت فقال انا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة ايام لا نذوق ذواقا فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المعول فعادت كثيبا اهيل أو اهيم فقلت يا رسول اللّه ايذن لى البيت فقلت لامراتى انى رايت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمصا شديد اما فى ذلك صبر فعندك شىء فاخرجت لى جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن « 1 » فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغى وقطعتها فى برمتها « البرمة القدر - منه رح » والعجين قد انكسر « 2 » والبرمة بين الأثافي « الحجارة التي توضع عليها القدر - منه رح » فى قدر كادت ان تنضج ثم ولّيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت لا تفضحنى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبمن معه فجئته فساررته فقلت طعيم لى يا رسول اللّه فقم أنت ورجل أو رجلان قال كم هو فذكرت له قال كثير طيب قل لها لا تنزع البرمة والخبز من التنور حتى اتيكم واستقر صحافا ثم صاح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا أهل الخندق ان جابرا صنع لكم سورا « 3 » فحى « 4 » هلابكم - فقلت ويحك « 5 » جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم فقالت بك « 6 » وبك هل سألك فقلت نعم فقالت اللّه ورسوله اعلم فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ادخلوا ولا تضاغطوا « اى لا تزوحموا - منه رح » فاخرجت له عجينا فبسق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيها وبارك ثم قال يا جابر ادع خابزة فلتخبز معك واقدحى « اى اغرقى - منه رح » من برمتك ولا تنزلوها - وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم يخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع فلم يزل(1/5204)
يكسر الخبز ويغرف اللحم حتى شبعوا وهم الف - قال جابر فاقسم باللّه لاكلوا حتى تركوه وانحرفوا وان برمتنا لتغط « 7 » كما هى وان عجيننا ليخبز كما هو ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلى واهدى فان الناس أصابتهم مجاعة فلم نزل
_________
(1) الشاة التي يعلقها الناس فى منازلهم - نهاية منه رح
(2) أى لان ورطب وتمكن من الخبز - منه رح
(3) أى طعاما يدعو إليه الناس واللفظ فارسية - نهاية جزرى منه رح [.....]
(4) حى هلا كلمة استدعاء فيها حث أى هلموا مسرعين - نهاية منه رح
(5) ويح كلمة ترحم - منه رح
(6) أى جعل اللّه بك كذا وكذا أو فعل بك كذا وكذا والموحدة متعلق بمحذوف 12 نهاية منه رح
(7) أى تفلى وتفور - منه رح -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 294
نأكل ونهدى يومنا - قلت وقد صح انهم قد فرغوا من امر الخندق فى ستة ايام.(1/5205)
قال البغوي رجعنا إلى حديث ابن إسحاق فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش بمجتمع الاخبال من دومة الجرف والغابة فى عشر آلاف من أحابيشهم « 1 » ومن تابعهم من أهل التهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقم ى إلى جانب أحد - وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع فى ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هنا لك عسكره والخندق بينه وبين القوم وامر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام. « الاجنبية المرتفعة كالحصون - نهادينه رح » وخرج عدو اللّه حيى ابن اخطب من بنى النضير حتى اتى كعب بن اسد القرظي صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم وكان قد وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على قومه وعاهده ذلك فلما سمع كعب بحيي بن اخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فابى ان يفتح له فناداه حيى يا كعب افتح لى فقال ويحك يا حيى امر اشوم انى قد عهدتّ محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أر منه الا الوفاء والصدق قال ويحك افتح أكلمك قال ما انا بفاعل قال واللّه ان غلقت دونى الا لخشيتك ان أكل معك منها فاحفظ الرجل ففتح له الباب فقال يا كعب جئتك بعز الدهر ببحر « اى مرتفع منه رح » طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى انزلتهم بمجتمع الاسبال من دومة وغطفان على قادتها وسادتها حتى امسى بذنب نقمى إلى جانب أحد فتعاهدونى وتعاقدونى ان لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال كعب بن اسد جئتنى واللّه بذل الدهر وبجهام قد أهرق « اى صب 12 منه رح » ماؤه برعد وبرق ليس فيه شىء فدعنى ومحمدا وما انا عليه فانى لم ار من محمّد الا صدقا ووفاء فلم يزل حيى بن اخطب بكعب يقتله « 2 » فى الذروة والغارب حتى سمح له على ان أعطاه من اللّه عهدا وميثاقا لان رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا ان ادخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك - فنقض كعب بن اسد عهده وبرئ ممّا كان(1/5206)
_________
(1) احياء من القارة انضموا إلى بنى ليث فى محاربتهم قريشا - نهاية منه رح
(2) يفتله فى الذروة والغارب هذا مثل وأصله فى البعير يستصعب عليك فتأخذ القراد من ذروته وغاب سنامه وتفتل هناكه فيجد البعير مهرة فيستأنس عند ذلك فضرب هذا الكلام مثلا فى المراوضة والمخاتلة والذروة والغارب أعلى ظهر البعير يعنى لم يخل يخدعه 12 منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 295(1/5207)
عليه فيما بينه وبين محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما انتهى إلى رسول اللّه الخبر والى المسلمين بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سعد بن معاذ أحد بنى الأشهل وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بنى ساعدة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد اللّه ابن رواحة أخو بنى الحارث بن الخزرج وخوّات بن جبير أخو بنى عمرو بن عوف فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغني عن هؤلاء القوم أم لا فان كان حقّا الحنوا الىّ لحنا « 1 » أعرفه لا تفتوا « اى لا تكسروا قوائهم بإدخال الرعب فى قلوبهم - منه رح » أعضاد الناس وان كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به الناس فخرجوا حتى أتوهم فوجدوا على أخبث ما بلغهم منهم ومالوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا لا عقد بيننا وبين محمد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه فقال سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم اربى « أزيد - منه رح » من المشاتمة ثم اقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا عضل « 2 » والقارة لعذر عضل والقارة باصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه اكبر ابشروا يا معشر المسلمين وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم « 3 » النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف كان محمد يعدنا ان ناكل كنوز كسرى وقيصر واحدنا لا يقدر ان يذهب إلى الغائط ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وحتى قال أوس بن قبطى أحد بنى حارثة يا رسول اللّه إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وذلك على ملا من رجال قومه فاذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فانها خارجة من المدينة - قلت روى انه لما نقض كعب عهده الذي كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعزم على ذلك جمع اشراف قومه منهم زبير بن بلطا ونباش بن قيس وعقبة(1/5208)
بن زيد وغيرهم وأخبرهم بذلك لاموه أشد ملامة وكرهوا ذلك حتى ندم كعب على ذلك ولكن لم ينفعه لما كان ذهب عنان الأمر من يده وكان ذلك ما أراد اللّه إهلاك قريظة وروى الشيخان فى الصحيحين عن الزبير بن العوام رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يأتى بنى قريظة فيأتينى بخبرهم فانطلقت فلما رجعت جمع لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبويه فقال فداك أبى وأمي -
_________
(1) اللحن قول يفهم المخاطب ويخفى على غيره - منه رح
(2) العضل المنع والشدة - منه رح
(3) أى ظهر النفاق - منه رح.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 296
قلت وكان إرسال الزبير إلى بنى قريظة قبل إرسال سعد وسعد إليهم روى انه لما جاء الزبير من بنى قريظة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبره بانهم يصلحون حصونهم ويسدون الطرق والثغور ويجمعون دوابهم ومواشيهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لكل نبى حواريا وحواريى الزبير.(1/5209)
قال البغوي فاقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب الا الرمي بالنبل والحصى - فلمّا اشتد البلاء على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرسل إلى عيينة بن حصين وابى الحارث ابن عمرو وهما قائدا غطفان فاعطاهما ثلث ثمار المدينة على ان يرجعا بمن معهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم يصنع الشهادة وذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه فقالا يا رسول اللّه أ شيء أمرك اللّه به لا بد لنا من عمل به أم امر تحبه فتصنعه أم شىء تصنعه لنا قال بل لكم واللّه ما اصنع ذلك الا انى رايت العرب قدر منكم عن قوس واحدة وكالبوكم « 1 » من كل جانب فاردتّ ان اكسر عنكم شوكتهم فقال لهم سعد بن معاذ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك باللّه وعبادة الأوثان لا نعبد اللّه ولا نعرفه وهم لا يطمعون ان يأكلوا تمرة الا قرى أو بيعا فحين أكرمنا اللّه بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ومالنا بهذا حاجة واللّه لا تعطهم الا السيف حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وبينهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانت وذلك فتناول سعد الصحيفة فمحى ما فى الكتاب ثم قال ليجتهدوا علينا قلت وروى ان أسيد ابن حضير قال ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اولا ثم قال مثله سعد وسعد وكان عيينة بن حصين أطال رجله فى ذلك المجلس فقال له أسيد يا عين الهجرس اطو رجلك ولو لا مهابة مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوضعت رمحى فى خاسرتك فانقلب عيينة والحارث خائبين وعلموا ان لا يكون لهم سلطان على المدينة وحيث راوا قوة الأنصار وشدتهم تزلزلوا - قال البغوي فاقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعدوهم فحاصروهم ولم يكن
_________
((1/5210)
1) اشتدوا عليكم وأصله من الكلب والصفار - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 297
بينهم قتال الا فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بنى عامر بن لوى وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب المخزوميان ونوفل بن عبد اللّه وضرار بن الخطاب ومرداس بن لوى أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا القتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بنى كنانة وقالوا تهيئوا للحرب يا بنى كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ثم اقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما راوه قالوا واللّه ان هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا « اى قصدوا - منه رح » مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحمت فجالت بهم فى المسبحة بين الخندق والسلع - وخرج على بن أبى طالب رضى اللّه عنه فى نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعيق « اى لسرع منه رح » نحوهم وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى اثبت الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلمّا وقف هو وخيله قال له علىّ يا عمرو انك كنت تعاهد اللّه لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين الا أخذت منه إحداهما قال أجل قال له على ابن أبى طالب فانى أدعوك إلى اللّه والى رسوله والى الإسلام قال لا حاجة لى بذلك قال فانى أدعوك إلى النزال قال لم يا ابن أخي فو اللّه ما أحب ان أقتلك قال على لكن واللّه أحب ان أقتلك فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه ثم اقبل على علىّ فتناولا وتجادلا فقتله علىّ وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبد السياق بن عبد الدار أصابه سهم فمات عنه بمكة ونوفل بن عبد اللّه بن المغيرة المخزومي وكان قد اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال يا معشر العرب قتله احسن من هذه فنزل له علىّ فقتله فغلب المسلمون - فسالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يبيعهم(1/5211)
جسده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا حاجة لنا فى جسده وثمنه فشأنكم فخلى بينهم وبينه.
قالت عائشة أم المؤمنين كنا يوم الخندق فى حصن بنى حارثة وكان احرز حصون المدينة وكان سعد بن معاذ معنا فى الحصن وذلك قبل ان يضرب علينا الحجاب فخرج سعد ابن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وبيده حربقة « 1 » وهو يقول
_________
(1) أى جعل لنفسه علامة تعرف بها البراز للحرب - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 298
يا ليت قلاملا يدرك الهيجاء جمل لا بأس بالموت إذا حان الاجل(1/5212)
فقالت امه الحق « 1 » يا بنى فقد واللّه أخرت فقلت لها يا أم سعد واللّه لوددتّ ان درع سعد كانت أسبغ مما هى وخفت عليه حيث أصاب السهم قالت امه يقضى اللّه ما هو قاض فرمى يومئذ بسهم قطع منه الا كحل رماه حيان بن قيس الغرفة أحد بنى عامر بن لوى فلما أصاب السهم قال خذها واما ابن الغرفة فقال سعد وجعك اللّه فى النار ثم قال سعد اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش فابقنى له فانه لا قوم أحب الىّ ان اجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة وكانوا حلفاؤه ومواليه فى الجاهلية - قال مجاهد ومحمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عباد قال كانت صفية بنت عبد المطلب فى رقاع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة ما بينها وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون فى نحور عدوهم لا يستطيعون ان ينصرفوا إلينا عنهم إذ أتانا ات فقلت يا حسان ان هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وانى واللّه ما امنه ان يدخل عورتنا من ورائنا من اليهود وقد شغل عنّا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب واللّه لقد عرفت وما انا بصاحب هذا فلمّا قال لى ذلك ولم ار عنده شيئا احتجزت « اى شدوت الميزر » ثم أخذت عمودا ثم نزلت عن الحصن إليه فضربت عنقه بالعمود حتى قتلته فلمّا فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل عليه فاسلبه فانه لم يمنعنى من سلبه الا انه رجل قال مالى بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب - قلت روى ان بنى قريظة أرادوا ان يبيتوا على المدينة وطلبوا فى ذلك مددا من قريش فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه(1/5213)
و سلم سلمة بن اسلم مع مائتى رجل وزيد بن حارثة مع ثلاث مائة رجل حتى يحرسوا بقاع المدينة وحصونها - وروى ان عباد بن بشر مع أصحابه كانوا يحرسون كل ليلة خيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) يعنى أى پسر بشتاب وبا رسول كريم ملحق شو وبخدا كه تو دير كردى - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 299
و كان المشركون يريدون ان يجاوزوا الخندق والصحابة يمنعونهم برمى السهام والحجارة وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرس بنفسه الكريمة روى الشيخان فى الصحيحين عن عائشة قالت سهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال ليت لى رجلا صالحا يحرسنى إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال سعد قال ما جاء بك قال وقع فى نفسى خوف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجئت احرسه فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم نام وفى رواية قالت عائشة أحب سعدا من يوم كان يحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ايام الخندق كان من الخندق موضعا يخاف عبور الكفار من ذلك الموضع كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرس ذلك الموضع وإذا اشتد عليه البرد يأتينى ويستد فأبى ثم يذهب ويحرس ويقول لا أخاف على العسكر الا من هذا الموضع فجاءنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرة ليستد فأبى وقال ليت لى رجلا صالحا يحرسنى الليلة حتى أنام إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال سعد قال احرسنا ذلك الموضع ففعل فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سمعت صوت نفسه.(1/5214)
و روى عن أم سلمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يحرس بنفسه الكريمة وكان البرد شديدا فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ليلة من الليالى صلى فى خيمته ثم ذهب يحرس فقال هؤلاء فرسان المشركين حول الخندق فنادى عباد بن بشير فقال لبيك يا رسول اللّه فقال هل معك أحد فقال نعم رجال من قومى يحرسونك فقال اذهب برجال قومك فان رجالا من المشركين حول الخندق يريدون ان يبيتوا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم فذهب عباد بن بشير بأصحابه إلى الخندق فإذا أبو سفيان ورجال من المشركين دخلوا فى مضيق الخندق والمسلمون يرمونهم بالسهام والحجارة فلحقهم عباد بن بشير قال عباد فرميتهم مع المؤمنين حتى انهزم المشركون فرجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلى فلمّا فرغ من الصلاة أخبرته الخبر فقالت أم سلمة فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سمعت صوته ولم ينتبه حتى اذن بلال للصبح فخرج فصلى بالناس وكانت أم سلمة تقول اللهم ارحم عباد بن بشير وعن أم سلمة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 300(1/5215)
رضى اللّه عنها قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نائما فى خيمته فإذا انتصفت الليل ارتفعت الأصوات وسمعت يقولون يا خيل الله اركبوا وكان هذا فى تلك الغزوة شعار المهاجرين (و فى رواية كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا بيتوا أى الكفار فشعاركم حم لا ينصرون ووجه الجمع ان هذا كان شعار الأنصار وذلك شعار المهاجرين) فانتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النوم وخرج من خيمته على رجال كانوا يحرسون خيمته منهم عباد بن بشير فسأله ما تلك الأصوات وامر عبادا ان يأتي بالخبر فذهب عباد وانتظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى اتى وقال يا رسول اللّه هذا عمرو بن عبد ود مع جمع من المشركين يحاربون مع المؤمنين يترامون بالسهام والحجارة فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيمته ورفع سلاحه فخرج وركب الفرس وسار إلى المعركة بجمع من الصحابة ثم رجع بعد ساعة فرحان وقال قد ذهب اللّه بشرهم وانهزم بجراحات كثيرة - فاضطجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونام حتى سمعت صوت نفسه ثم ارتفعت الأصوات مرة ثانية فانتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال يا عباد انظر ما تلك الأصوات فذهب عباد ثم رجع وقال يا رسول اللّه هذا إضرار بن الخطاب بجمع من المشركين يحارب المسلمين بالنبال والحجارة فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليه سلاح وذهب هناك وحاربهم حتى أصبحوا ثم رجع وقال انهزموا بجراحات كثيرة - قالت أم سلمة كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة مريسع وخيبر وحديبية وفتح مكة وحنين وما كان شىء منها أشد وأشق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة الخندق وأصاب المسلمون فى تلك الغزوة جراحات كثيرة وكان بردا شديدا وعشرة.(1/5216)
و روى ان يوما من الأيام اجتمعت الكفار وأخذوا حوالى الخندق وحاربوا حربا شديدا حتى غابت الشمس ولم يجد النبي صلى اللّه عليه وسلم فرصة للصلوة حتى فات عنه صلوة الظهر والع صر والمغرب فصلاها فى وقت العشاء - روى الترمذي والنسائي عن أبى عبيدة عن أبيه عبد اللّه بن مسعود انه قال ان المشركين شغلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن اربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء اللّه فامر بلالا فاذّن ثم اقام فصلى الظهر ثم اقام فصلى العصر ثم اقام فصلى المغرب ثم اقام
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 301(1/5217)
فصلى العشاء قال الترمذي ليس بإسناده بأس الا ان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع وروى النسائي فى سننه عن أبى سعيد الخدري قال حبسنا يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك فانزل اللّه تعالى وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاقام فصلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى المغرب كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى العشاء كما كان يصليها قبل ذلك وذلك قبل ان ينزل فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً ورواه ابن حبان فى صحيحه ولم يذكر فيه العشاء لانها كانت فى وقتها وذكرها فى الرواية الاخرى باعتبار انها تأخرت عن وقتها المعتاد واخرج البزار عن جابر بن عبد اللّه انه صلى اللّه عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلوة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى ذهب ساعة من الليل فامر بلالا فاذّن واقام فصلى الظهر ثم امره فاذّن واقام فصلى العصر ثم امره فاذّن واقام فصلى المغرب ثم امره فاذّن واقام فصلى العشاء ثم قال ما على ظهر الأرض قوم يذكرون اللّه فى هذه الساعة غيركم - وفيه عبد الكريم بن أبى المخارق مضعف وفى الصحيحين عن جابر ابن عبد اللّه ان عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسبّ كفار قريش وقال يا رسول اللّه ما كدتّ ان أصلي حتى كادت الشمس تغرب قال النبي صلى اللّه عليه وسلم واللّه ما صليتها فنزلنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلوة وتوضأ نالها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب وفى الصحيحين عن علىّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال يوم الخندق ملا اللّه عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس - وفى رواية لمسلم ثم صلاها بين المغرب والعشاء - وهذه الأحاديث جاز ان يكون وقائع مختلفة لان ايام وقعة الخندق كانت كثيرة و(1/5218)
جاز ان يكون واقعة حال واحد ويمكن الجمع بينها كما لا يخفى.
(مسئلة) إذا فاتت صلوات يوذّن للاولى ثم يقيم لكل صلوة والاولى ان يؤذّن ويقيم لكل صلوة كما يدل عليه حديث البزار واللّه اعلم.
و لمّا اشتد البلاء على المؤمنين دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الكفار فاستجاب اللّه دعاءه روى البخاري فى الصحيح عن عبد اللّه بن أبى اوفى قال
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 302
دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الأحزاب قال اللّهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللّهم اهزمهم وزلزلهم - قلت وروى عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه انه صلى اللّه عليه وسلم دعا على الأحزاب ثلاثة ايام متتابعات فى مسجد الفتح قيل هو يوم الاثنين والثلثاء والأربعاء فاستجاب اللّه دعاءه يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فرايتا الفرح فى وجهه قال فما ناب لنا نائبة ودعانا اللّه تعالى فى تلك الساعة الا استجاب اللّه دعاءنا.(1/5219)
قال البغوي ثم نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه انى قد أسلمت وان قومى لم يعلموا بإسلامي فمرنا بما شئت فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ان استطعت فان الحرب خدعة - قلت وفى رواية قال نعيم يا رسول اللّه ايذن لى ان أقول ما شئت فاذن له - فخرج نعيم بن مسعود حتى اتى بنى قريظة وكان لهم نديم فى الجاهلية فقال لهم يا بنى قريظة قد عرفتم ودى إياكم خاصة قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم ان قريشا وغطفان جاءوا للحرب قد ظاهرتموهم عليه وان قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بكدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم ولا تقدرون ان تتحولوا منه إلى غيره وان قريشا وغطفان أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة ان راوا نهزة وغنيمة أصابوها وان راوا غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به ان خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من اشرافهم يكون بايديكم ثقة على ان تقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه « 1 » فقالوا لقد أشرت بنصح ثم خرج حتى اتى قريشا فقال لابى سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودى إياكم وبرائى من محمد وقد بلغني امر رايت حقّا ان أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علىّ قالوا نفعل قال لتعلمن ان معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه انا ندمنا على ما صنعنا فهل يرضيكم عنا من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فيضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم فارسل إليهم ان نعم فإذا بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا
_________
(1) المناجزة فى الحرب المبارزة نهاية منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 303(1/5220)
إليهم منكم رجلا واحدا - ثم خرج حتى اتى غطفان فقال يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتى وأحب الناس الىّ ولا أراكم تتهمونى قالوا صدقت قال فاكتموا علىّ قالوا نفعل ثم قال لهم مثل ما قال القريش وحذرهم ما حذرهم.
فلمّا كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان ممّا صنع اللّه لرسوله ان أرسل أبو سفيان ورقة بن غطفان وعكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان إلى بنى قريظة وقالوا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه - فارسلوا إليهم اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فاصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بايدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا فانا نخشى ان ضرتكم الحرب واشتد عليكم القتال ترجعون إلى بلادكم وتتركونا والرجال فى بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد - فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان لتعلمن واللّه ان الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق فارسلوا إلى بنى قريظة واللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فان كنتم تريدون فاخرجوا فقاتلوا - فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا ان الذي ذكر نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم الا ان يقاتلوا فان وجدوا فرصة انتهزوها « اغتنموا ها منه رح » وان كان غير ذلك اشمأزوا « اجتمعوا - منه رح » إلى بلادهم دخلوا بينكم وبين الرجل فى بلادكم فارسلوا إلى قريش وغطفان اما واللّه لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فابوا عليهم فخذل اللّه بينهم وبعث عليهم الريح فى ليلة شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.(1/5221)
فلمّا بلغ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا روى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن ابراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتحا من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد اللّه رايتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي قال كيف تضعون قال واللّه لقد كنا نجهر قال الفتى واللّه لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا فقال حذيفة يا ابن أخي واللّه لقد رايتنى ليلة الأحزاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال من يقوم فيذهب إلى هؤلاء
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 304(1/5222)
القوم فيأتينا خبرهم ادخله اللّه الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هويّا « 1 » من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هويّا من الليل ثم التفت إلينا فقال من رجل فيقوم فينظر لنا ما فعل القوم على ان يكون رفيقى فى الجنة فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد - فلمّا لم يقم أحد دعانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا حذيفة فلم يكن لى بد من القيام حين دعانى فقلت لبيك يا رسول اللّه وقمت حتى أتيته وان جنبىّ لتضطربان فمسح رأسى ووجهى ثم قال ايت هؤلاء القوم حتى تأتى بخبرهم فلا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ ثم قال اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته فاخذت سهمى وشددتّ علىّ اسلابى ثم انطلقت امشى نحوهم كانى امشى فى حمام فذهبت فدخلت فى القوم قد أرسل اللّه عليهم ريحا وجنودا وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء وأبو سفيان قاعد يصطلى « 2 » فاخذت سهمى فوضعت فى كبد قوسى فاردتّ ان ارميه فلو رميته أصبته فذكرت قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم" لا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ" فرددتّ سهمى فلما راى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود اللّه بهم لا تقرّبهم قدرا ولا نارا ولا بناء فقام وقال يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم جليسه فلينظر من هو فاخذت بيد جليسى فقلت من أنت فقال سبحان اللّه اما تعرفنى انا فلان بن فلان فإذا برجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش انكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنوا قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فانى مرتحل ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما اطلق عقاله الا وهو قائم وسمعت غطفان فعلت ما فعلت قريش فاستمروا راجعين(1/5223)
الى بلادهم قال فرجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانّى امشى فى حمام فاتيته وهو قائم يصلى فلمّا سلم أخبرته بخبر القوم فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل قال فلمّا أخبرته وفرغت وزرت وذهب عنى الدفاء أدناني النبي صلى اللّه عليه وسلم فاتانى
_________
(1) الهوى بالفتح الحين الطويل من الزمان وقيل هو مختص بالليل - منه رح [.....]
(2) الاصطلاء الاستدفاء بالنار - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 305
عند رجليه والقى علىّ طرف ثوبه والزق صدرى ببطن قدميه فلم ازل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان.(1/5224)
قلت وعند ابن جرير وابن أبى حاتم عن قتادة لما بعث اللّه على عسكر المشركين ريحا وكبّرت الملائكة فى جوانب العسكر قال طليحة بن خويلد الأسدي امّا محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجا « 1 » النجا فانهزموا من غير قتال - قلت قال الشيخ عماد الدين بن كثير فى تفسيره انه لو لا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رحمة للعالمين ما تركت الريح أحدا من الكفار الا جعلته كالرميم كما جعلت عادا الريح العقيم وفى رواية فى حديث حذيفة انه قال لما رجعت من عسكر الكفار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايت فى أثناء الطريق عشرين فارسا بيضاء عمائمهم قالوا لى قل لصاحبك ان اللّه سبحانه كفاك ودفع عنك شر أعدائك. وروى الشيخان فى الصحيحين عن جابر يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير انا ثم قال من يأتينا بخبر القوم قال الزبير انا ثم قال من يأتينا بخبر القوم قال الزبير انا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ان لكل نبى حوارى وحوارى الزبير وروى البخاري فى الصحيح عن سليمان بن صرد يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول حين اجلى الأحزاب عنه الان نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم - وروى أيضا فى الصحيح عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا « رجع - منه رح » قفل من الغزو أو الحج أو العمرة ببلدة يكبر ثلاث مرات ثم يقول لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق اللّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده - قال محمد بن عمر استشهد فى غزوة الخندق ستة رجال من المسلمين وقتل من المشركين أيضا ستة ..(1/5225)
إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إذ جاءتكم مِنْ فَوْقِكُمْ أى من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم اسد وغطفان عليهم مالك بن عوف النظري وعيينة بن حصين الفزاري فى الف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي فى بنى اسد وحيى بن اخطب فى يهود بنى قريظة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعنى من بطن الوادي من قبل المغرب وهم كنانة
_________
(1) النجا السرعة أى اسرعوا سرعة - نهاية منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 306
و قريش عليهم أبو سفيان بن حرب فى قريش ومن تبعهم وأبو اعور عمرو بن سفيان السلمى من قبل الخندق وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أى مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا « 1 » من العدو وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعبا فان الرية تنتفخ من شدة الروع فترتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهى طرف الحلقور وهذا مثل يعبر عنه عن شدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) أنواعا من الظن فظن المنافقون استيصال محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لما سبقهم من الوعد فى إعلاء دينه ولحق ضعاف القلوب التزلزل - قرأ أبو بكر واهل المدينة وابن عامر الظّنونا الرّسولا السّبيلا بإثبات الالف وصلا ووقفا لانها مثبة فى المصاحف وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الف فى الحالين على الأصل والباقون بالألف فى الوقف لموافقة رءوس الاى واتباع الخط وبغير الف فى الوصل على الأصل.
هُنالِكَ أى فى ذلك الوقت ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أى امتحنوا ليمتاز المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وهم معقب بن قشير وعبد اللّه بن أبيّ وأصحابه وإذ بدل من هنالك.(1/5226)
وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد وجبن ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) قال البغوي هذا قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع ان يجاوز رحله هذا واللّه الغرور وأخرجه ابن أبى حاتم عن السدىّ قال فقال رجل يعنى منافق من الأنصار يدعى بشير بن معتب فذكر نحوه.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أى من المنافقين وهو أوس بن قبطى وأصحابه يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعنى المدينة وقال أبو عبيدة اسم ارض مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ناحية منها قال البغوي ورد فى بعض الاخبار ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى ان تسمى المدينة يثرب وقال هى طابة كانّه كره هذا اللفظ لأنه مشتق من ثربه يثربه وثرّبه وعليه واثربه لامه وعيّره بذنبه والمثرب القليل العطاء كذا فى القاموس لا مُقامَ لَكُمْ قرأ الجمهور بفتح الميم أى لا موضع قيام لكم هاهنا وقرأ حفص بالضم على انه مكان أو مصدر من اقام فَارْجِعُوا إلى منازلكم عن القتال ورفاقة محمد صلى اللّه عليه وسلم أو لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا
_________
(1) شخوص البصر ارتفاع الأجفان إلى فوق وتحديد النظر - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 307
الى الشرك وأسلموه لتسلموا أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ وهم بنو حارثة وبنو سلمة يَقُولُونَ حال من فاعل يستأذنون إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أى غير حصينة يجئ عليها العدو والسارق فكذّبهم اللّه وقال وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ أى ما يريدون بذلك القول الكاذب إِلَّا فِراراً (13) من القتال.(1/5227)
وَ لَوْ دُخِلَتْ المدينة أى دخل هؤلاء الأحزاب عَلَيْهِمْ فى المدينة أو فى بيوتهم وحذف الفاعل ايماء بان دخول هؤلاء الأحزاب وغيرهم فى اقتضاء الحكم المترتب عليه سواء مِنْ أَقْطارِها أى جوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أى الشرك أو مقاتلة المسلمين لَآتَوْها قرأ أهل الحجاز بالقصر أى لجاءوها وفعلوها والباقون بالمد أى لاعطوا ما سئلوا من الفتنة وَما تَلَبَّثُوا بِها أى بالفتنة يعنى بإتيانها واعطائها إِلَّا يَسِيراً (14) أى زمانا يسيرا يعنى زمان السؤال والجواب كذا قال اكثر المفسّرين وقيل معناه ما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر الا زمانا قليلا ثم يهلكون أو يجلون.
وَلَقَدْ كانُوا عاه َدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ
غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ عدوهم الْأَدْبارَ أى لا ينهزمون قال يزيد بن رومان وهم بنو حارثة هموا يوم أحد ان يقتلوا بنى سلمة فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا اللّه ان لا يعودوا لمثلها وقال قتادة هم أناس قد غابوا عن وقعة بدر ولمّا راوا ما أعطاه اللّه أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا اللّه قتالا فلنقاتلنّ فسلق اللّه إليهم ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) عن الوفاء به يجازى عليه.
قُلْ لهم يا محمّد لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لأنه من حضر اجله لا بد له من ان يموت سواء بالقتل أو حتف انفه ومتى لا يحضر اجله لا يموت قطعا وَإِذاً أى إذا فررتم لا تُمَتَّعُونَ فى الدنيا حيّا إِلَّا قَلِيلًا (16) أى تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا وقيل معناه ان نفعكم الفرار فرضا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع الا قليلا لكون الدنيا فانية لا محالة.(1/5228)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أى من عذابه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أى عذابا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً يعنى ومن ذا الذي يصيبكم بسوء ان أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما فى قوله متقلدا سيفا ورمحا وجاز ان يكون حمل الثاني على الأول لما فى العصمة من معنى المنع وَلا يَجِدُونَ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 308
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا
قريبا ينفعهم وَلا نَصِيراً (17) يدفع عنهم الضر.(1/5229)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ من التعويق بمعنى التصريف والعوق الصرف والعائق الصارف عن الخير والمراد الذين يصرفون الناس عن ملازمة النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم المنافقون وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكنى المدينة هَلُمَّ أى قربوا أنفسكم إِلَيْنا ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فانا نخاف عليكم الهلاك قال قتادة هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبّطون أنصار النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقولون لاخوانهم ما محمد وأصحابه الا أكلة رأس وكانوا لحما لالتقمه أبو سفيان وأبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فانه هالك - وقال مقاتل ان اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه فانهم ان قدروا فى هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وانا مشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هلم إلينا فاقبل عبد اللّه بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بابى سفيان ومن معه وقالوا لان قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ما عنده خير ما هو الا ان يقتلنا هاهنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعنون اليهود فلم يزدادوا المؤمنون بقول المنافقين الا ايمانا واحتسابا فنزلت تلك الآية قوله تعالى وَلا يَأْتُونَ أى المنافقون الْبَأْسَ أى الحرب إِلَّا قَلِيلًا (18) أى اتيانا قليلا أو زمانا أو بأسا قليلا فانهم كانوا يعتذرون ويثبّطون المؤمنين ما أمكن لهم أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون الا قليلا رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل للّه لكان كثيرا وقيل انه تتمة كلامهم ومعناه ولا يأتى محمد وأصحابه حرب الأحزاب ولا يقادمونهم الا قليلا.(1/5230)
أَشِحَّةً جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل يأتون أو المعوّقين أو على الذم يعنى بخلا عَلَيْكُمْ بالمعاونة أو النفقة فى سبيل اللّه أو الظفر والغنيمة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ فى احداقهم من الخوف كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أى كنظر المغشى عليه أو كدوران عينيه أو مشبهين وشبهة بعينيه وذلك ان من قرب موته وغشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص أبصارهم لشدة الخوف فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ قال ابن عباس يعنى نقصوكم وتناولوكم بالنقص و
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 309
الغيبة وقيل آذوكم ورموكم فى حالة الا من وقال قتادة بسطوا ألسنتهم منكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا قد شهدنا معكم القتال فلستم أحق منا بالغنيمة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ نصب على الحال أو الذم وليس بتكرير لان كلا منهما مقيد من وجه أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا بقلوبهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ يعنى أبطل اللّه أعمالهم يعنى لم يعتد بها لعدم الإخلاص وحسن النية وانما الأعمال بالنيات كذا قال مجاهد وَكانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) هيّنا لان تعلق الارادة يكفى لوجود كل ممكن لاراد لفعله.(1/5231)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أى هؤلاء لجبنهم يظنون ان الأحزاب لم يذهبوا ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كررة ثانية يَوَدُّوا تمنوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ يعنى لو ثبت انهم خارجون إلى البد ويقال بدا يبدا بدوا وبداوة إذا خرج إلى البادية فِي الْأَعْرابِ حال من الضمير فى بادون أو خبر بعد خبر لان أى كائنون فى الاعراب يَسْئَلُونَ كل قادم من المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ أى عما جرى عليكم جملة يسئلون خبر بعد خبر أو حال مترادف أو متداخل وجواب لو محذوف يعنى لكان خيرا وَلَوْ كانُوا يعنى هؤلاء المنافقين فِيكُمْ ولم يفروا من عندكم فى هذه الكرة وكان قتال ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) رياء وخوفا من التعيير كذا قال مقاتل.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون فِي رَسُولِ « 1 » اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الاسوة معناه القدوة وهو ما يقتدى به والمراد هاهنا ان لكم فى شان رسول اللّه خصلة حسنة من حقها ان يؤسى بها كالثبات فى الحرب ومقاساة الشدائد - أو هو يعنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكم قدوة يحسن التأسي به كقولك فى البيضة عشرون منّا حديد أى فى البيضة هذا القدر من الحديد وقيل هو فعلة من الايتساء كالقدوة من الاقتداء اسم وضع موضع المصدر
_________
(1) عن ابن عباس ان عمر أكب على الركن فقال انى لاعلم انك حجر ولو لم ار حبيبى صلى اللّه عليه وسلم قبّلك واستلمك ما استلمتك ولا قبّلتك لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وعن يعلى بن منبه قال طفت مع عمر فلما كنت عند الركن الذي يلى الباب مما يلى الحجر أخذت بيده ليستلم قال ما طفت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت بلى قال فهل رايته يستلمه قلت لا قال فابعد عنك فان لك فى رسول اللّه أسوة حسنة - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 310(1/5232)
اى لكم برسول اللّه اقتداء حسن أى تنصرون دين اللّه كما هو ينصر وتصبرون على ما يصيبكم كما هو يصبر كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم أيضا كذلك واستنوا بسنته لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أى يرجوا ثواب اللّه ولقائه ونعيم الاخرة كذا قال ابن عباس أو ايام اللّه واليوم الاخر خصوصا وهذا كقولك أرجو زيدا وفضله وقال مقاتل أى يخشى اللّه ويخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وقوله لِمَنْ كانَ صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدل من لكم والأكثر على ان الضمير المخاطب لا يبدل منه وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) فى السراء والضراء قرن بالرجاء كثرة الذكر المودي إلى دوام الطاعة فان المؤسى بالرسول من كان كذلك ..
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بقوله تعالى فى سورة البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فان الآية يتضمن ان المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء ولعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبرهم بوقعة الأحزاب قبل وقوعه وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فيما اخبر به وَما زادَهُمْ تحزب الأحزاب إِلَّا إِيماناً أى تصديقا بما جاء به الرسول عليه السّلام وَتَسْلِيماً (22) لامره وقدره.(1/5233)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أى قاموا بما عاهدوا رسول اللّه من الثبات معه فى القتال مع اعداء الدين من صدقنى إذا قال لك الصدق فان العاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أى فرغ من نذره ووفى بعهده فلم يبق فى ذمته شىء ما عاهده يعنى صبر على الجهاد والطاعة حتى استشهد أو مات والنحب النذر والنحب أيضا الموت يقال قضى نحبه أى اجله فقتل على الوفاء يعنى حمزة وأشباهه وقيل قضى نحبه أى بذل جهده فى الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان فى مسيرة يومه وليلته اجمع وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الفراغ من نذره يرجو ان يموت على الوفاء وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه تَبْدِيلًا (23) شيئا من التبديل روى الشيخان والترمذي وابن أبى شيبة والطيالسي وابن سعد والبغوي عن انس بن مالك ان انس بن النضر عم انس بن مالك غاب عن بدر فشق عليه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 311(1/5234)
و قال أول مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غبت عنه لان أشهدني اللّه قتال المشركين ليرين اللّه ما اصنع فلمّا كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال انس بن النضر اللهم انى اعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء يعنى أصحابه وابرا إليك مما فعل هؤلاء يعنى المشركين فانتهى إلى رجال من المهاجرين والأنصار قد القوا ما بايديهم فقال ما يجلسكم قالوا قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم استقبل القوم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد انا معك قال سعد فاستقبل انس القوم فلم أستطع ان اصنع ما صنع انس فقال يا سعد (و فى لفظ يا أبا عمرو) ها لريح الجنة ورب النضر إني لاجد ريحها دون أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل فوجدوا فى جسده بضعا وثمانين ضربة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قال انس ووجدنا قد مثل به المشركون فما عرفه أحد منّا الا أخته بشامّة ببنانه فكنا نرى أو نظنّ ان هذه نزلت فيه وفى أشباهه رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ - وروى البغوي عن خباب بن الأرت قال هاجرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمنا من مضى لم يأكل من اجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد شيئا نكفن فيه الا نمرة فكنا إذا وضعنا على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعنا على رجليه خرج رأسه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضعوها مما يلى رأسه واجعلوا على رجليه الاذخر ومنا من انبعث له ثمرته فهو يهديها - وروى الترمذي عن جابر بن عبد اللّه قال نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد اللّه فقال من أحب ان ينظر إلى رجل يمشى على وجه الأرض وقد قضى نحبه « 1 » فلينظر إلى هذا -
_________
((1/5235)
1) عن عيسى بن طلحة قال دخلت على عائشة أم المؤمنين وعائشة بنت طلحة وهى تقول لاسماء بنت أبى بكر انا خير منك وابى خير من أبيك فجعلت اسماء تشمها وتقول أنت خير منى فقالت عائشة الا أقضي بينكما قالتا بلى قال فان أبا بكر دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أنت عتيق من النار قالت فمن يومئذ سمّى عتيقا ثم دخل طلحة فقال أنت يا طلحة ممن قضى نحبه - واخرج الترمذي عن معاوية قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول طلحة ممن قضى نحبه - منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 312
و روى البخاري عن قيس بن حازم قال رايت يد طلحة شلاء وقى بها النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد - وروى الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم من حديث الزبير مرفوعا أوجب طلحة.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ فى العهود بِصِدْقِهِمْ أى جزاء صدقهم أو بسبب صدقهم وهو الوفاء بالعهد وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ان يموتوا على الكفر والنفاق فيعذبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ان تابوا وأخلصوا دينهم للّه قوله لِيَجْزِيَ متعلق بقوله صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ تعليل للمنطوق والمعرض به كانّ المنافقين قصدوا بالتبديل التعذيب كما قصد المخلصون بالوفاء الثواب إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) لمن تاب.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أى الأحزاب من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ أى كائنين بغيظهم متغيظين لعدم نيلهم بما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً أى ظفرا ولا مالا حال بعد حال يتداخل أو يعاقب وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملئكة وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا فى ملكه على احداث ما يريده عَزِيزاً (25) فى انتقامه.(1/5236)
وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أى عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنوا قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ أى من حصونهم جمع صيصة وهى ما يحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبى وشوكة الديك والحائك صئصة وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أى الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال فعند ابن إسحاق انهم كانوا ست مائة وبه جزم أبو عمرو فى ترجمة سعد بن معاذ وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبع مائة وقال السهيلي المكثر يقول انهم ما بين ثمان مائة إلى تسع مائة وفى حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح انهم كانوا اربع مائة مقاتل فيحتمل فى طريق الجمع ان يقال ان الباقين كانوا اتباعا وقد حكى ابن إسحاق انه قيل انهم كانوا تسع مائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وهم النساء والذراري وكانوا سبع مائة وخمسين وقيل تسع مائة وذكر فى سبيل الرشاد ان السبي كان الفا من النساء والصبيان.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ مزارعهم وَدِيارَهُمْ حصونهم وَأَمْوالَهُمْ من النقود والأجناس والمواشي وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد قال مقاتل وابن زيد يعنى خيبر وقال قتادة كنا نحدث انها مكة وقال الحسن فارس والروم وقال عكرمة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 313(1/5237)
كل ارض يفتح إلى يوم القيامة وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27) فيقدر على ذلك (قصة غزوة بنى قريظة) قال محمد بن عمر عن شيوخه لما انصرف المشركون عن الخندق خاف بنوا قريظة خوفا شديدا وروى احمد والشيخان مختصرا والبيهقي والحاكم وصححه مطولا عن عائشة وأبو نعيم والبيهقي من وجه اخر عنها وابن عابد عن حميد بن هلال وابن جرير عن ابن أبى اوفى والبيهقي عن عروة وابن سعد عن الماجشون وعن يزيد بن الأصم ومحمد بن عمر عن شيوخه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين لمّا رجعوا عن الخندق مجهودين وضعوا السلاح ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيت عائشة ودعا بماء فاخذ يغسل رأسه وذكر البغوي انه صلى اللّه عليه وسلم كان عند زينب بنت جحش وهى تغسل رأسه وقد غسلت شقه - قالت عائشة فسلّم علينا رجل ونحن فى البيت قال محمد بن عمر وقف موضع الجنائز فنادى عذيرك « 1 » من محارب فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فزعا فوثب وثبة شديدة فخرج إليه فقمت فى اثره انظر من خلل الباب فإذا هو دحية الكلبي فيما كنت ارى وهو ينفض الغبار عن رأسه (فقال ابن إسحاق معتجرا بعمامة) « الاعتجار لف العمامة دون التلحي - منه رح » فقال يا رسول اللّه ما اسرع ما حللتم عذيرك من محارب عفا اللّه عنك قد وضعتم السلاح ما وضعت الملئكة منذ نزل بك العدوّ وفى لفظ منذ أربعين ليلة وما رجعنا الان الا من طلب القوم حتى بلغنا حمراء الأسد يعنى الأحزاب وقد هزمهم ان اللّه يأمرك بقتال بنى قريظة وانا عامد إليهم بمن معى من الملائكة لا زلزل بهم الحصون فاخرج بالناس - قال حميد بن هلال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فى أصحابي جهدا فلو انظرتهم أياما فقال انتهض إليهم فو اللّه لادقنهم كدق البيض على الصفا « الحجارة - منه رح » ثم لاضغضفنّها - « اى لاحركن - منه رح » قالت عائشة فلمّا دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت من ذاك(1/5238)
الرجل الذي كنت تكلمه قال ورايته قلت نعم قال بمن تشبهينه قلت بدحية الكلبي قال ذاك جبرئيل أمرني ان امضى إلى بنى قريظة - قال حميد فادبر جبرئيل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار فى زقاق بنى غنم من الأنصار قال انس فيما رواه البخاري كانّى انظر إلى الغبار ساطعا وقال قتادة فيما رواه ابن عابدان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث يومئذ مناديا ينادى « يعنى يار كبان خيل اركبوا - منه رح » يا خيل اللّه اركبي وامر بلالا فاذّن
_________
(1) يعنى هات من يعذرك فعيل بمعنى الفاعل - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 314
فى الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا ببني قريظة - وروى الشيخان عن ابن عمر والبيهقي عن عائشة وابن عقبة والطبراني عن كعب بن مالك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لاصحابه عزمت عليكم ان لا تصلوا صلوة العصر - ووقع فى مسلم فى حديث ابن عمر صلوة الظهر الا ببني قريظة فادرك بعضهم صلوة العصر وفى لفظ صلوة الظهر فى الطريق فقال بعضهم لا نصليها حتى نأتى بنى قريظة انا لفى عزيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما علينا من اثم فصلوا العصر ببني قريظة حين وصلوها بعد غروب الشمس وقال بعضهم بل نصلى لم يرد منا ان ندع الصلاة فصلوا فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يعنف واحدا من الفريقين.
(فائدة) وجه الجمع بين حديث صلوة الظهر وصلوة العصر ان طائفة منهم راحت بعد طائفة قيل للطائفة الاولى لا يصلين الظهر الا ببني قريظة وقيل للطائفة الاخرى لا يصلين العصر - وقيل فى وجه الجمع انه صلى اللّه عليه وسلم قال لاهل القوة أو لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر وقال لغيرهم أحد العصر.
((1/5239)
مسئلة) هذا الحديث يدل على ان المجتهد لا اثم عليه ان اخطأ حيث لم يعنف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أحد من الفريقين من صلّى فى الطريق ومن لم يصل - قال فى زاد المعاد ما حاصله ان كلّا من الفريقين مأجور بقصده الا ان من صلّى فى الطريق جاز الفضيلتين فضيلة امتثال الأمر فى الاسراع فى المشي إلى بنى قريظة لان المراد بامره صلى اللّه عليه وسلم - ان لا يصلوا الا فى بنى قريظة المبالغة فى الاسراع مجازا وفضيلة امتثال الأمر فى المحافظة على الوقت واللّه اعلم.
و دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علىّ بن أبى طالب فدفع إليه لواءه وكان اللواء على حاله لم يحل عن مرجعه من الخندق فابتدره الناس - « اى سارعوا إليه - منه رح » قال محمد بن عمرو بن سعد وابن هشام والبلاذري استعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم قال محمد بن عمرو خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسبع يقين من ذى القعدة قال البغوي سنة خمس من الهجرة ولبس السلاح والدرع والمغفر والبيضة وأخذ قناه « الرمح - منه رح » بيده وتقلد الترس وركب فرسه اللحيف وحف به أصحابه قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل وكانت ستة وثلاثين فرسا فسار فى أصحابه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 315
و الخيل والرجال حوله قال ابن سعد وكان معه ثلاثة آلاف.
((1/5240)
مسئلة) هذه القصة تدل على جواز البداية بالقتال فى الشهر الحرام لكن خطبته صلى اللّه عليه وسلم فى حجة الوداع وفيها المنع من القتال فى الأشهر الحرم متاخر عنه ولعل اللّه سبحانه أحل لرسوله ذلك القتال فى أشهر الحرم كما أباح له القتال فى حرم مكة ساعة من النهار عام الفتح - ويمكن ان يقال ان هذا ليس بداية بالقتال بل كانت البداية من بنى قريظة حيث ظاهروا قريشا ومن معهم واللّه اعلم روى الطبراني عن أبى رافع وابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما اتى بنى قريظة ركب على حمار عرى يقال له يعفور والناس حوله - وروى الحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن عائشة ومحمد بن عمرو عن شيوخه وابن إسحاق ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ بنفر من بنى النجار بالصّورين « 1 » فيهم حارثة بن النعمان قد صفوا عليهم السلاح فقال هل مرّ بكم أحد قالوا نعم دحية الكلبي مرّ على بغلة عليها رحاله عليها من إستبرق وأمرنا بحمل السلاح فاخذنا سلاحنا فصففنا وقال هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطلع عليكم الان قال حارثة بن النعمان وكنا صفين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذاك جبرئيل بعث إلى بنى قريظة لتزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب فى قلوبهم وسبق على بن أبى طالب فى نفر من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو قتادة روى محمد بن عمر عن أبى قتادة قال انتهينا إلى بنى قريظة فلمّا راينا أيقنوا بالشر وغرز علىّ الراية عند اصل الحصن فاستقبلونا فى صياصيهم يشتمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأزواجه قال أبو قتادة وسكتنا وقلنا السيف بيننا وبينكم وانتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزل قريبا من حصنهم على بئرانا « 2 » بأسفل حرّة « ارض ذات حجارة - منه رح » بنى قريظة فلمّا راه على رضى اللّه عنه رجع إليه وأمرني ان الزم اللواء فلزمته وكره ان يسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اذاهم وشتمهم فقال يا رسول اللّه لا عليك(1/5241)
ان لا تدنوا من هؤلاء الاخابيث فقال أ تأمرني بالرجوع فقال أظنك سمعت منهم أذى قال نعم فقال لوراونى لم يقولوا من ذلك شيئا - فسار
_________
(1) تثنية صور بالفتح ثم السكون اسم للنخل المجتمع الصغار وموضع فى أقصى بقيع الغرقد مما على طريق بنى قوينمة 12 منه رحمه اللّه
(2) بالضم وتخفيف النون وقيل بالفتح والتشديد كحتى - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 316(1/5242)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقدّمه أسيد بن حضير فقال يا اعداء اللّه لا نبرح عن حصونكم حتى تموتوا جوعا انما أنتم بمنزلة ثعلب فى جحر فقالوا يا ابن الحضير نحن مواليك دون الخزرج فقال لا عهد بينى وبينكم ولا إلّ ودنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وترسنا عنه ونادى بأعلى صوته نفرا من اشرافهم حتى أسمعهم فقال أجيبوا يا اخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت هل أخزاكم اللّه انزل بكم نقمته أ تشتموني فجعلوا يحلفون ما فعلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفى لفظ ما كنت فاحشا واجتمع المسلمون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشاء وبعث سعد بن عبادة بأحمال تمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان طعامهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم الطعام التمر - وغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سحرا وقدّم الرماة فاحاطوا بحصون يهود وراموهم بالنبل والحجارة وهم يرمون من حصونهم حتى امسوا فباتوا حول الحصون وجعل المسلمون يعتقبون يعقب بعضهم بعضا فما برح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم براميهم حتى أيقنوا الهلكة وتركوا رمى المسلمين فقالوا دعونا نكلمكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم فانزلوا نباش بن قيس فكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ان ينزلوا على ما نزلت عليه بنوا النضير من الأموال والحلقة ونخرج من بلادك بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل الا الحلقة فابى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل فابى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا ان ينزلوا على حكمه - وعاد نباش إليهم بذلك فلمّا عاد نباش إلى قومه وأخبرهم الخبر قال كعب بن اسد يا معشر بنى قريظة واللّه قد نزل بكم ما ترون وانى اعرض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا ما شئتم منها قالوا وما هى قال نبائع هذا الرجل ونصدقه فو اللّه لقد تبين(1/5243)
لكم انه نبى مرسل وانه الذي تجدونه فى كتابكم فتامنون به على دمائكم وأموالكم ونسائكم واللّه انكم لتعلمون ان محمدا نبى وما منعنا معه من الدخول الا الحسد للعرب حيث لم يكن نبيّا من بنى إسرائيل فهو حيث جعله اللّه تعالى - ولقد كنت كارها لنقض العهد والعقد ولكن البلاء والشوم من هذا الجالس يعنى حيى بن اخطب (و كان حيى دخل معهم فى حصنهم حين رجعت منهم قريش
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 317(1/5244)
و غطفان وفاء لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه) أ تذكرون ما قال لكم ابن جوّاس حين عليكم تركت الخمر والحمير والتأمير وحنت إلى الشفاء والتمر والشعير قالوا وما ذاك - قال انه يخرج بهذه القرية نبى فان يخرج وانا حى اتبعه وانصره وان خرج بعدي فاياكم ان تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه وقد أمنتم بالكتابين كلاهما الأول والاخر واقرءوه منى السّلام واخبروه انى مصدق به - قال فتعالوا فلنبايعه ولنصدقه فقالوا لا نفارق حكم التورية ابدا ولا نستبدل به غيره - قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلّتين بالسيوف لم نترك ثقلا حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد فان نهلك نهلك ولم نترك ورائنا فصلا نخشى عليه وان نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء قالوا لا نقتل هؤلاء المساكين فما خير فى العيش بعدهم - قال فان أبيتم عن هذه فان الليلة ليلة السبت وانه عسى محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة « غفلة - منه رح » قالوا نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان من قبلنا الا من قد علمت فاصابه ما لم يخف عليك من المسخ - فقال ما بات منكم منذ ولدته امه ليلة واحدة من الدهر جازما - فقال ثعلبة وأسيد ابنا سعية واسد بن عبيد ابن عمهم وهم نفر من هذيل ليسوا من بنى قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك وهو بنوا عم القوم يا معشر بنوا قريظة واللّه انكم لتعلمون انه رسول اللّه وان صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا وعلماء بنى النضير هذا أولهم يعنى حيى بن اخطب مع خبر بن الهيّان اصدق الناس عندنا(1/5245)
هو اخبر بصفته عند موته قالوا لا نفارق التورية فلما راى هؤلاء النفر آباءهم نزلوا تلك الليلة فى صبحها فاسلموا وأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم - وقال عمرو بن سعد يا معشر يهود انكم خالفتم محمدا على ما خالفتموه عليه فنقضتم عهده الذي كان بينكم وبينه ولم ادخل فيه ولم اشرككم فى غدركم فان أبيتم فاثبتوا على اليهودية واعطوا الجزية فو اللّه ما أدرى يقبلها أم لا قالوا فنحن لا نقر للعرب « خرج وخراج ما يؤذى كلّ سنة - منه رح » بخرج فى رقابنا يأخذونه القتل خير من ذلك قال فانى برئ منكم وخرج تلك الليلة مع ابني سعية فمرّ بحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليهم محمد بن سمة فقال محمد من هذا قال عمرو بن سعد قال محمد اللهم لا تحرمنى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 318
عشرة الكرام وخلّى سبيله فخرج حتّى اتى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبات حتى أصبح فلمّا أصبح غدا فلم يدر اين هو حتى الساعة فسئل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ذاك رجل نجاه اللّه بوفائه.(1/5246)
قال أهل المغازي ثم انهم بعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ابعث إلينا أبا لبابة (أحد بنى عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس) نستشير فى أمورنا فارسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم فلما راوا قام إليه الرجال وجهش « اى اسرع متباليا 16 منه رح » إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه فرقّ لهم فقالوا يا أبا لبابة أ ترى ان ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه انه الذبح - قال أبو لبابة فو اللّه ما زالت قدماى حتى عرفت انى خنت اللّه ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى ارتبط فى المسجد على عمود من عمده وقال لا أبرح من مكانى حتى أموت أو يتوب اللّه على ما صنعت وعاهدتّ اللّه ان لا أطأ ارض بنى قريظة ابدا ولا ارى فى بلد خنت اللّه ورسوله فيه ابدا وبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذهابى وما صنعت فقال دعوه حتى يحدث اللّه فيه ما شاء لو كان جاءنى استغفرت فإذا لم يأتنى وذهب فدعوه وانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال أبو لبابة ثم ان اللّه انزل توبة أبى لبابة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فى بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يضحك فقلت بم تضحك يا رسول اللّه اضحك اللّه سنك قال تيب على أبى لبابة فقلت الا أبشره بذلك قال بلى ان شئت قالت فقمت إلى باب حجرتى (و ذلك قبل ان يضرب عليهن الحجاب) فقلت يا أبا لبابة ابشر فقد تاب اللّه عليك فثار « اى قاموا - منه رح » الناس ليطلقوه قال لا واللّه حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يطلقنى بيده فلمّا مرّ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خارجا إلى الصبح أطلقه - روى حماد بن سلمة عن علىّ بن زيد بن جدعان عن على بن الحسين عليهما السلام ان فاطمة(1/5247)
عليها السلام جاءت تحله فقال انى حلفت ان لا تحلني الا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فاطمة بضعة منى - على بن جدعان ضعيف ورواية على بن الحسين مرسلة قال أبو لبابة واذكر رؤيا رايتها فى النوم ونحن محاصرون بنى قريظة كانى فى حماة « طين اسود متغيرة - منه رح » أسنة فلم أخرج منها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 319(1/5248)
حتى كدتّ أموت من ريحها ثم ارى نهرا جاريا فارانى اغتسلت فيه حتى استقيت وأراني أجد ريحا طيبا فاستعبرتها أبا بكر فقال لتدخلن فى امر تغتم له ثم يفرج عنك فكنت اذكر قول أبى بكر وانا مرتبط فارجو ان ينزل اللّه توبتى - قال فلم ازل كذلك حتى ما اسمع الصوت من الجهد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر قال ابن هشام اقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته وقت كل صلوة فتحله حتى يتوضأ ويصلى ثم ترتبط - (قال ابن عقبة زعموا انه ارتبط قريبا من عشرين ليلة قال فى البداية وهذا أشبه الأقاويل وقال ابن إسحاق اقام مرتبطا خمسا وعشرين ليلة وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد ان يذهب لحاجته فإذا فرغ أعادت الرباط والظاهر ان زوجته تحله مرة وابنته اخرى وانزل اللّه فى توبة أبى لبابة وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - قال البغوي وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف اللّه فى قلوبهم الرعب فلما جهدهم الحصار نزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكتفوا رباطا وجعل على كتافهم محمد بن سلمة ونحوا ناحية واخرج النساء والذرية من الحصون واستعمل عليهم عبد اللّه بن سلام وجمعت أمتعتهم ووجدوا فيها الفا وخمس مائة سيف وثلاث دروع والفى رمح والفا وخمس مائة ترس وجحفة وأثاثا كثيرا وآنية كثيرة وخمرا وسكرا فهريق ذلك كله ولم يخمسه ووجد من الجمال النواضح عدة ومن الماشية شيئا كثيرا فجمع هذا كله وتنحى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجلس - ودنت الأوس الى(1/5249)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه حلفاؤنا دون الخزرج وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبيّ وهبت لهم ثلاث مائة حاسر « من لا وزع له منه رح » واربع مائة دارع « صاحب درع - منه رح » وقد ندم حلفاءنا على ما كان من نقضهم العهد فهبهم لنا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساكت لم يكلم حتى أكثروا عليه وألحّوا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما ترضون ان يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم قالوا بلى قال فذلك إلى سعد بن معاذ وقال ابن عقبة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ - وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 320(1/5250)
فى خيمة امراة من المسلمين يقال لها رفيدة فى مسجده صلى اللّه عليه وسلم وكانت تداوى الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة « 1 » الذي ليس له من يقوم بامره وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب - فلمّا جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحكم إلى سعد خرجت الأوس حتى جاءوه فحملوه على حمار عربى بشنذة « 2 » من ليف وعلى الحمار قطيفة فوق الشنذة وخطامه « الخطام ما يقاد به الدابة - منه رح » من ليف وكان رجلا جسيما فخرجوا حوله يقولون يا أبا عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد ولّاك امر مواليك لتحسن فيهم فاحسن فيهم فقد رايت ابن أبيّ وما صنع فى حلفائه وأكثروا وهو ساكت لا يتكلم حتّى إذا أكثروا عليه قال قد ان « بالفتح والمد ونا وقرب - منه رح » لسعدان لا يأخذه فى اللّه لومة لائم فقال الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري وا قوماه وقال غيره نحو ذلك ثم رجع الضحاك إلى الأوس فنعى بهم رجال بنى قريظة قبل ان يصل إليهم سعد كلمته التي سمع منه - وفى الصحيحين فلما دنا سعد من المسجد أى الذي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعده فى بنى قريظة ايام حصارهم للصلوة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوموا إلى سيدكم وفى لفظ إلى خيركم فاما المهاجرون من قريش فيقولون انما أراد الأنصار واما الأنصار فيقولون عم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين وعند احمد قوموا إلى سيدكم فانزلوه وكان رجال من بنى عبد الأشهل يقولون قمنا له على أرجلنا صفين وفى حديث جابر عند ابن عائذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احكم فيهم يا سعد فقال اللّه ورسوله أحق بالحكم قال عليه السلام أمرك اللّه ان تحكم فيهم - وقالت الأوس الذين بقوا عنده يا أبا عمرو ان رسول اللّه قد ولاك الحكم فى امر مواليك فاحسن فيهم فقال سعد أ ترضون حكمى لبنى قريظة(1/5251)
قالوا نعم قد رضينا بحكمك وأنت غائب اختيارا منا لك ورجاء ان تمنّ علينا كما فعل غيرك بحلفائه بنى قينقاع واثرنا عندك اثرنا وأحوج ما كان اليوم إلى مجازاتك فقال سعد ما أتوكم جهدا فقالوا ما يعنى بقوله هذا ثم قال سعد عليكم عهد اللّه وميثاقه ان احكم
_________
(1) الضيعة ترك وضيع مصدر ضاع الشيء صيعا أى تركتهم الضائع الذي ليس له من يقوم بامره 12 منه رح
(2) بشين معجمة فنون فذال مفتوحات شبه الا كاف يجعل لمقدمته اعوجاج 12 منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 321
فيهم ما حكمت قالوا نعم قال سعد وعلى من هاهنا للناحية التي فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معرض عنها إجلالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم قال سعد فانى احكم فيهم ان يقتل كل من جرين عليه الموسى وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم ويكون الديار للمهاجرين والأنصار - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة « السموات قال أى الأعز اتى سموما بالرقيع لانها مرقومة بالنجوم منه رح » ارقعة - وفى رواية قال عليه السلام بذلك طرقنى الملك سحرا - وكان سعد بن معاذ فى الليلة التي فى صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد دعا اللّهم ان كنت أبقيت من حرب قريش فابقنى لها فانى لا قوم احبّ الىّ ان أقاتلهم من قوم كذبوا رسولك وآذوه وأخرجوه وان كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنّا وعنهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة فاقر اللّه سبحانه عينيه منهم.(1/5252)
فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الخميس لتسع ليال وقيل لخمس خلون من ذى الحجة وامر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحبسوا فى دار رملة بنت الحارث من بنى النجار - فلمّا أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غدا إلى سوق المدينة التي هى سوقها اليوم فامر بأخدود فخذت فى السوق ما بين موضع دار أبى الجهم العدوى إلى أحجار الزيت بالسوق فكان أصحابه يحضرون وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه أصحابه ودعا برجال بنى قريظة فكانوا يخرجون يضرب أعناقهم فى تلك الخنادق فقالوا لكعب بن اسد وهم يذهب بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إرسالا يا كعب ما ترى محمدا يصنع بنا قال ما يسوءكم ويلكم على كل حال لا تعقلون الا ترون الداعي لا ينزع وانه من ذهب منكم لا يرجع هو واللّه السيف قد دعوتكم إلى غير هذا فابيتم قالوا ليس هذا بحين عتاب لو لا انا كرهنا ان نرمى برأيك ما دخلنا فى نقض العهد الذي كان بيننا وبين محمد قال حيى بن اخطب اتركوا التلاوم فانه لا يرد عنكم شيئا واصبروا للسيف وكان الذي قتلهم على بن أبى طالب والزبير بن العوام رضى اللّه عنهما ثم اتى حيى بن اخطب مجموعة يداه إلى عنقه عليه حلة فقاحية قد لبسها للقتل ثم عمد إليها فشقها انملة انملة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 322(1/5253)
لئلا يسلبه إياها أحد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اطلع الم يمكنى اللّه منك يا عدو اللّه قال بلى واللّه انا ما لمت نفسى فى عداوتك وقد التمست العز فى مظانة فابى اللّه الا ان يمكنك منى ولقد قلقلت « حركت - منه رح » كل مقلقل ولكنه من يخذل اللّه يخذل ثم اقبل على الناس فقال أيها الناس لا بأس بامر اللّه كتاب اللّه وقدره ملجمة « القتل وموضعه - منه رح » على بنى إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحسنوا أساراهم وأقيلوهم واسقوهم حتى يبردوا فاقتلوا من بقي لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السيف وكان يوما صائفا فقيلوهم وسقوهم فلمّا أبرد وأراح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتل من بقي واتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكعب بن اسد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما تنفعتم بنصح ابن جوّاس لكم وكان مصدقا بي اما أمركم باتباعى وان رايتمونى ان تقرءونى منه السلام قال بلى والتورية يا أبا القاسم ولو لا ان يعيرنى اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك ولكنه على دين يهود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدمه فاضرب عنقه وامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتل كل من أنبت منه روى احمد واصحاب السنن عن عطية القرظي قال كنت غلاما فوجدونى لم أنبت فخلّوا سبيلى وروى الطبراني عن اسلم الأنصاري قال جعلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أسارى بنى قريظة فكنت انظر إلى فرج الغلام فان رايته أنبت ضربت عنقه وان لم أره جعلته فى مغانم المسلمين وكان رفاعة بن شمول القرظي رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر اخت سليط بن قيس وكانت احدى خالات النبي صلى اللّه عليه وسلم يعنى خالة جده عبد المطلب فان امه كانت من بنى النجار وكانت سلمى قد صلّت للقبلتين فقالت يا نبى اللّه بابى أنت وأمي هب لى رفاعة فانه زعم سيصلّى ويأكل لحم الجمل فوهبه لها فاستحيته فاسلم بعد ولم(1/5254)
تزل ذلك الداب حتى قتلوا إلى ان غاب الشفق ثم رد عليهم التراب فى الخندق كل ذلك بعين سعد بن معاذ فاستجاب اللّه دعوته رضى اللّه عنه - ولم يقتل من نسائهم الا امرأة واحدة من بنى النضير يقال لها بنانة كانت تحت رجل من بنى قريظة يقال له الحكم وكان يحبها وتحبه فلما اشتد عليهم الحصار بكت إليه وقالت انك لمفارقى فقال هو والتورية ما ترين وأنت
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 323
امرأة فدلّى عليهم هذه الرحى فانا لم نقتل منهم أحدا بعد وأنت امرأة وان يظهر محمد علينا فانه لا يقتل النساء وانما اكره ان تسبى فاحبّ ان تقتل وكانت فى حصن الزبير بن باطا فدلّت الرحى من فوق الحصن وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون فى فيئة فلمّا راها القوم انفضوا
و تدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه ومات - روى عروة عن عائشة انها قالت واللّه انها لعندى تحدث وتضحك ظهرا لبطن ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف وفى رواية وهى تقول سراة بنى قريظة يقتلون إذ هتف هاتف باسمها اين فلانة قالت انا واللّه قلت ويلك مالك قالت اقتل قلت لم قالت حدث أحدثته قالت فانطلقت فضرب عنقها بخلاد بن سويد وكانت عائشة تقول لا انسى طيب نفس بنانة كثرة ضحكها وقد عرفت انها تقتل.
((1/5255)
مسئلة) هذا الحديث حجة لمن حكم بالقصاص على القتل بالمثقل وعليه الجمهور وقال أبو حنيفة لا قصاص بالمثقل ولو رماه بابا قبيس لقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تود فى النفس وغيره الا بحديدة وقد مرّ الخلاف فى هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ - وروى محمد بن إسحاق عن الزهري ان الزبير بن باطا القرظي وكان يكنى أبا عبد الرحمن قدم على ثابت بن قيس بن شماس فى الجاهلية يوم بعاث لاخذه فجر ناصية ثم خلّى سبيله فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال ثابت يا أبا عبد الرحمان هل تعرفنى قال وهل يجهل مثلى لمثلك قال انى أريد ان أجزيك بيدك عندى قال ان الكريم يجزى قال ثم اتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه قد كان للزبير عندى يد وله على منة فاحببت ان أجزيه بها فهب لى دمه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو لك فاتاه فقال له ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد وهب لى دمك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فاتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه اهله وولده قال فهم لك فاتاه فقال له ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك قال أهل بيت فى الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فاتى ثابت رسول اللّه صلى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 324(1/5256)
اللّه عليه وسلم فقال ما له يا رسول اللّه قال هو لك فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطاني مالك فهو لك - فقال أى ثابت ما فعل الذي كان وجهه مراة صينية « منسوبة إلى الصين - منه رح » حسنة يتراى فيه عذار الحي كعب بن اسد قال قتل قال فما فعل سيد الحاضر والبادي سيد الحيّين كليهما يحملهم فى الحرب ويطعهم فى المحل حيى بن اخطب قال قتل قال فما فعل « مقدمته الحرب ادلة - منه رح » مقدمتنا إذا شددنا وحاشيتنا إذا كررنا عزّالة بن شمول قال قتل - قال فما فعل المجلسان يعنى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو ابن قريظة قال ذهبوا فقتلوا - قال فانى أسئلك بيدي عندك يا ثابت الا ما ألحقتني بالقوم فو اللّه ما فى العيش بعد هؤلاء من خير ارجع إلى دار قد كانوا حلولا فيها فاخلد فيها بعدهم لا حاجة لى فى ذلك ولكنى يا ثابت انظر إلى امراتى وولدي فاطلب إلى صاحبك فيهم ان يطلقوا وان يردوا أموالهم فطلب ثابت من النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل الزبير وماله وولده فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اهله وماله الا السلاح - قال الزبير يا ثابت أسئلك بيدك عندى الا ألحقتني بالقوم فما انا بصابر للّه فتلة « 1 » دلو ناضح حتى القى الا حبة - قال ابن إسحاق فقدمه ثابت فضرب عنقه وقال محمد بن عمر قال ثابت ما كنت لا قتلك قال الزبير لا أبالي من قتلنى فقتله الزبير بن العوام رضى اللّه عنه - ولمّا بلغ أبا بكر الصديق رضى اللّه عنه قوله" القى الاحبة" قال يلقاهم فى نار جهنم خالدا مخلدا.(1/5257)
ثم قسم اموال بنى قريظة ونساءهم وأموالهم على المسلمين وكان أول فئى وقع فيه السهمان وكان المسلمون ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين وكان سهمان الخيل والرجال على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما للفرس سهمان ولصاحبه سهم وقاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة افرس فلم يضرب السهم الا لفرس واحد - وهذا حجة لابى حنيفة ومالك والشافعي حيث قالوا لا سهم الا لفرس واحد وقال أبو يوسف ومحمد واحمد يسهم لفرسين ولا يسهم لاكثر من ذلك اجماعا وقد مرّ
_________
(1) فتلة دلو ناضح قال ابن إسحاق بالفاء والتاء الفوقانية أى مقدار ما يأخذ الرجل الدلو الذي خرجت من البئر فيصبها فى الحوض ثم يفتلها أى يردها إلى موضعها - وقال ابن هشام انما هو بالقاف والموحدة وقال بل الدلو هو الذي يأخذها من المستقى - ولفظ الخبر عند أبى عبيد فلست صابرا عنهم افراغه دلوا - 12 منه نور اللّه مرقده -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 325
المسألة فى سورة الأنفال - وأسهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخلاد بن سويد وقد قتل تحت الحصن وأسهم لسنان بن محصن ومات ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محاصرهم وكان يقاتل مع المسلمين - وهذا حجة للائمة الثلاثة حيث قالوا الغنيمة لمن شهد الوقعة وان مات قبل هزيمة الكفار وإحراز الغنيمة بدار الإسلام وقد روى ابن أبى شيبة بسند صحيح الغنيمة لمن شهد الوقعة موقوفا على عمر وأخرجه الطبراني مرفوعا وموقوفا والموقوف أصح وروى الشافعي موقوفا على أبى بكر وفيه انقطاع وقال أبو حنيفة لا يتاكد الحق فى الغنيمة الا بالاحراز بدار الإسلام فمن مات أو قتل قبل الاحراز لا سهم له ولا يورث منه - والمدد إذ الحق بدار الحرب بعد الوقعة قبل الاحراز بدار الإسلام يسهم لهم وقد مر مسئلة المدد فى سورة الأنفال.
((1/5258)
مسئلة) وفى هذه القصة حجة للجمهور على أبى حنيفة حيث قالوا للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وقال أبو حنيفة سهم له وسهم لفرسه وقد مرّ المسألة فى سورة الأنفال واللّه اعلم.
(فائدة) أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من السبي خمسا فكان يعتق ويهب منه من أراد وكذلك النخل عزل خمسه وكل ذلك يسهم عليه خمسة اجزاء وصار الخمس إلى محمية بن جز الزبيدي ثم قسم اربعة أخماس على الناس واعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النساء اللاتي حضرن القتال ولم يسهم لهن وهن صفية بنت عبد المطلب وأم عمارة نسية وأم سليط وأم العلاء الانصارية والسميرى بنت قيس وأم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع - وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طائفة مع السبايا مع سعد بن عبادة يشترى بهم سلاحا وخيلا كذا قال محمد بن عمر وقال ابن إسحاق بعث سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من بنى قريظة فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا - واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمان بن عوف طائفة فاقتسما يقال لما قسم جعل الشوابّ على حدة والعجائز على حدة ثم خير عبد الرحمان عثمان فاخذ العجائز فربح عثمان مالا كثيرا وذلك لأنه كان يوجد عند العجائز من المال ولم يوجد عند الشواب - قال ابن سيرة وانما لم يؤخذ ما جاءت به العجائز فيكون فى الغنيمة لأنه لم يوجد معهن الا بعد شهر أو شهرين - وجعل عثمان على كل من اشتراه من سبيهم شيئا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 326(1/5259)
موقتا فمن جاء منهن بالذي وقت لهن عتق فلم يتعرض لهن - ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يفرق فى القسم والبيع بين النساء والذرية وقال لا يفرق بين الام وولدها حتى يبلغ قيل يا رسول اللّه ما بلوغه قال تحيض الجارية - ويحتلم الغلام - رواه الحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت عنه صلى اللّه عليه وسلم قال لا تفرقوا بين الام وولدها فقيل إلى متى قال إلى ان يبلغ الغلام وتحيض الجارية - وقال ابن الجوزي قال الدار قطنى فى سنده عبد اللّه بن عمر بن حسان ضعيف الحديث رماه على بن المديني بالكذب وروى الترمذي عن أبى أيوب الأنصاري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من فرق بين والدة وولدها فرق اللّه بينه وبين أحبته يوم القيامة - وقال الترمذي حديث حسن غريب وصححه الحاكم على شرط مسلم وفيه نظر لان فى سنده حيى بن عبد اللّه ولم يخرجه فى الصحيح واختلف فيه ولذا لم يصححه الترمذي وروى الحاكم فى المستدرك عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملعون من فرق بين والدة وولدها - وقال اسناده صحيح وفيه طليق بن محمد يرويه تارة عنه عن عمران بن حصين وتارة عنه عن أبى بردة وتارة عن طليق عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسلا - قلت ويمكن الجمع بان طليقا لعله سمعه عمران وعن أبى بردة كليهما فيرويه تارة عنه وتارة عنه وتارة مرسلا وقال ابن القطان لا يصح الحديث لان طليقا لا يعرف حاله قال ابن همام يريد خصوص ذلك والا فللحديث طرق كثيرة وشهرة وألفاظه توجب صحة المعنى المشترك وهو منع التفريق وروى الدار قطنى بسنده عن ميمون بن أبى شعيب عن على عليه السلام انه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فرد البيع - ورواه أبو داود ورده بالانقطاع بين ميمون ابن أبى شعيب وعلى قال ابن الهمام ان الإرسال عندنا لا يضر ورواه الحاكم وصحح اسناده ورجحه البيهقي.
((1/5260)
مسئلة) ومن هاهنا قال أبو حنيفة لا يجوز ان يفرق بالبيع أو الهبة أو نحوهما بين مملوكين صغيرين وكذا بين صغير وكبير يكون بينهما رحم ومحرمية وكذا بين كبيرين كذلك عند احمد وقال مالك لا يفرق بين الام وولدها خاصة وقال الشافعي لا يفرق بين صغير وبين أبويه وان عليا - وجه قول مالك ان الحديث المذكور ورد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 327(1/5261)
فى المنع من التفريق بين الام وولدها خاصة والحق الشافعي بالأم الأصول مطلقا - ووجه قول أبى حنيفة واحمد فى المنع من التفريق بين اثنين بينهما رحم ومحرمية ان فى بعض الأحاديث ورد المنع فى غير الأصول والفروع أيضا عن على عليه السّلام قال وهب لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا على ما فعل غلامك فاخبرته قال رده رده قال الترمذي حديث حسن غريب وتعقبه أبو داود بانه من رواية ميمون بن أبى شعيب عن على وهو لم يدرك عليّا قلنا فهو مرسل والمرسل عندنا حجة وأخرجه الحاكم والدار قطنى من طريق اخر عن عبد الرحمان بن أبى ليلى عن على قال قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم سبىّ فامرنى ببيع أخوين فبعتهما وفرقت بينهما ثم أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبرته فقال أدركها فارتجعهما ولا تبعهما الا جميعا ولا تفرق بينهما وصححه الحاكم على شرط الشيخين ونفى ابن القطان العيب عنه وقال هو اولى ما اعتمد عليه فى هذا الباب ومن طريق اخر عند احمد والبزار قال ابن همام فيه انقطاع لكن لا يضر على أصلنا على ما عرف وروى الدار قطنى عن طليق بن عمران عن أبى بردة عن أبى موسى قال لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وأخيه وإذا ثبت المنع من التفريق بين أخوين أيضا ظهر ان علة المنع الرحم مع المحرمية ولا يمنع من التفريق المحرمية بالرضاع ونحو ذلك ولا رحم بلا محرمية كابن العم لأنه ليس فى معناه.
((1/5262)
مسئلة) من فرق بين والدة وولدها يأثم لكن ينعقد البيع وينفذ عند أبى حنيفة ومحمد وعند مالك والشافعي واحمد لا ينعقد بل هو باطل وكذا لا ينعقد البيع فى غير قرابة الولاد أيضا عند احمد وقال أبو يوسف يفسد البيع فى قرابة الولاد خاصة وعنه انه يفسد مطلقا سواء كان قرابة ولاد أو غيرها ومبنى الخلاف على خلافية اصولية فان النهى عن الشرعيات بلا قرينة يوجب البطلان عندهم ويوجب الفساد عند أبى حنيفة وصاحبيه لكن أبا حنيفة ومحمدا قالا ان النهى فى هذا البيع انما هو لمعنى مجاور كالبيع وق ت أذان الجمعة فلا يوجب الفساد بخلاف ما كان لوصف لازم - وجه قول أبى يوسف انه صلى اللّه عليه وسلم امر عليّا برد البيع والارتجاع وذا لا يمكن
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 328
الا عند فساد العقد وحمل أبو حنيفة الارتجاع على طلب الا قالة.
(مسئلة) يجوز التفريق ان كانا بالغين كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت وقال احمد لا يجوز عملا بإطلاق الاخبار المذكورة وردّ ابن الجوزي حديث عبادة كما ذكرنا ولنا أيضا حديث سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع أبى بكر فغزونا فزارة إلى ان قال فجئت بهم إلى أبى بكر وفيهم امرأة معها ابنة لها من احسن العرب فنفلنى أبو بكر ابنتها فقدمت المدينة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا سلمة هب لى المرأة قلت هى لك فقدى بها أسارى ثلاثة - وما روى انه صلى اللّه عليه وسلم فرق بين مارية القبطية أم ابراهيم بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسيرين أختها أهداهما المقوقس ملك الاسكندرية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوهب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمان بن حسان - ذكر الحديث ابن عبد البر فى الاستيعاب وذكر البزار ان هذا الحديث فى صحيح ابن خزيمة واللّه اعلم.
((1/5263)
مسئلة) إذا كان مع الصغير أبواه لا يبيع واحدا منهم ولو كان أم وأخ أو أم وعمة أو خالة أو أخ جاز البيع سوى الام فى ظاهر الرواية لان شفقة الام تغنى عمن سواه ولو كان له ستة اخوة ثلاثة كبار وثلاثة صغار فباع مع كل صغير كبيرا جاز ولو كان مع الصغير جدة وعمة وخالة جاز بيع العمة والخالة ولو كان معه عمة وخالة بدون جدة لا يباع الا معا - والأصل انه إذا كان معه عدد بعضهم ابعد من بعض جاز البيع سوى الأقرب وان كانوا فى درجة واحدة فان كانوا من جنسين مختلفين كالاب والام والخالة والعمة لا يفرق بل يباع الكل أو يمسك الكل وان كانوا من جنس واحد كالاخوين والعمين جاز ان يمسك مع الصغير واحدا منهم ويبيع ما سواه واللّه اعلم.
(مسئلة) ذكر فى سبيل الرشاد انه كان يباع الام وولدها الصغار من سبى بنى قريظة من اليهود ومن المشركين من العرب وإذا كان الولد صغيرا ليس معه أم لم يبع من المشركين ولا من اليهود الا من المسلمين وذا لان الصغير إذا سبى مع أحد أبويه يعتبر كافرا فيجوز بيعه من الكافر مشركا كان أو يهوديا فان الكفر ملة واحدة -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 329
و ان سبى لا مع أحد أبويه يعتبر مسلما بتبعية الدار واللّه اعلم واستشهد يوم بنى قريظة خلاد بن سويد ومنذر بن محمد.
((1/5264)
فائدة) اصطفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لنفسه ريحانة بنت زيد بن عمرو بن حذافة من بنى النضير المتزوجة فى بنى عمرو بن قريظة وكانت جميلة فعرض عليها الإسلام فابت فعزلها ووجد فى نفسه فارسل إلى ابن سعية فذكر له ذلك فقال ابن سعية فداك أبى وأمي هى تسلم فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها لا تبتغى قومك فقد رايت ما ادخل عليهم حيى بن اخطب فاسلمى يصطفيك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاجابت إلى ذلك فبينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال ان هاتين لنعلا ابن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة فجاءه فقال يا رسول اللّه لقد أسلمت ريحانة فسرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك وكانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى توفى عنها وهى فى ملكه وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرص عليها ان يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول اللّه بل تتركنى فى ملكك فهو أخف علىّ وعليك فتركها واللّه اعلم.
(فائدة) ولمّا انقضى شأن بنى قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ قالت عائشة فحضره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر فو الذي نفس محمد بيده انى لا عرف بكاء أبى بكر من بكاء عمرو انى لفى حجرتى وكانوا كما قال اللّه تعالى رحماء بينهم.
((1/5265)
مناقب سعد بن معاذ) عن انس قال لمّا حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته وذلك لحكمه فى بنى قريظة فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ان الملائكة كانت تحمله - رواه الترمذي وعن جابر قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول اهتز عرش الرحمان لموت سعد بن معاذ - متفق عليه وعن البراء ابن عازب قال أهديت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويتعجبون من لينها فقال أ تعجبون من لين هذا لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها وألين - متفق عليه - ذكر البغوي وغيره ان ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم سالنه من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة فى النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 330
صلى اللّه عليه وسلم والى ان لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلّق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه فقال عمر لا علمكم ما شأنه فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه أ طلّقت نساءك قال لا قلت يا رسول اللّه انى دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخبرهم انك لم تطلقهن قال نعم ان شئت فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتى لم يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه ونزلت وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ فكنت انا استنبطت ذلك الأمر فانزل اللّه تعالى.(1/5266)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أى السعة والتنعم فيها وزخارفها فَتَعالَيْنَ اصل تعال ان يقوله من كان فى مكان مرتفع لمن كان فى مكان دونه ثم كثر حتى استوت فى استعماله الامكنة كلها بمعنى اقبل الىّ والمعنى هاهنا اقبلن بارادتكن واختياركن لطلب الطلاق أُمَتِّعْكُنَّ أى اعطكن المتعة وَأُسَرِّحْكُنَّ أى أطلقكن سَراحاً طلاقا جَمِيلًا (28) من غير ضرار.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ أى مراتب القرب إلى اللّه ومرضاته وَقرب رَسُولَهُ وَنعماء الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ يعنى لمن أرادت رضوان اللّه ورسوله والدار الاخرة فانها هى المحسنة إذ الإحسان ان تعبد ربك بالحضور كانك تراه أَجْراً عَظِيماً (29) قال البغوي وكانت تحت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت أبى بكر وحفصة بنت عمرو أم حبيبة بنت أبى سفيان وأم سلمة بنت امية وسودة بنت زمعة واربع من غير قريش زينب بنت جحش الاسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيى بن اخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية - ولمّا نزلت اية التخيير بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت اللّه ورسوله والدار الاخرة ورات الفرح فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتابعنها على ذلك - قال قتادة فلمّا اخترن اللّه ورسوله شكرهن على ذلك وقصره عليهن فقال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 331(1/5267)
اخرج مسلم واحمد والنسائي من طريق أبى الزبير عن جابر قال اقبل أبو بكر ليستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يؤذن له ثم اقبل عمر فاستاذن فلم يوذن له ثم اذن لهما فدخلا والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس وحوله نساؤه واجما « 1 » ساكتا قال فقال عمر لا قولن شيئا اضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لو رايت بنت خارجة سالنى النفقة فقمت إليها فوجأت « اى ضربت يحاء يضرب - منه رح » عنقها فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال هن حولى كما ترى يسئلننى النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأء عنقها وقام عمر إلى حفصة يجاء عنقها كلاهما يقولان لا تسئلنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابدا ما ليس عنده - ثم اعتزلهن شهرا وتسعا وعشرين ثم نزلت هذه الآية - قال فبدا بعائشة قال يا عائشة انى أريد ان اعرض عايك امرا احبّ ان لا تعجلى فيه حتى تستشير أبويك فقال وما هو يا رسول اللّه فتلا عليها الآيات فقالت أفيك يا رسول اللّه استشير ابوىّ بل اختار اللّه ورسوله والدار الاخرة أسئلك ان لا تخبر امرأة من نسائك قال لا تسئلنى امراة منهن الا أخبرتها ان اللّه لم يبعثنى جحودا ولا مفتنا ولكنه بعثني مبشرا معلما وفى الصحيح عن الزهري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اقسم ان لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فاخبرنى عروة عن عائشة قالت فبدانى فقلت يا رسول اللّه انك أقسمت ان لا تدخل علينا شهرا فانك بتسع وعشرين اعدهن قال ان الشهر تسع وعشرون.
(فائدة) قال البغوي اختلف العلماء فى هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق حتى يقع الطلاق بنفس اختيارها نفسها أم لا فذهب الحسن وقتادة واكثر أهل العلم انه لم يكن تفويض الطلاق بل خيرهن فى طلب الطلاق فان اخترن الدنيا فارقهن بدليل قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ - وذهب قوم إلى انه كان تفويض الطلاق لو اخترن انفسهن كان طلاقا.
((1/5268)
مسئلة) إذا قال الزوج لامراته اختاري ونوى بذلك ان تطلق نفسها ان شاءت فلها ان تطلق نفسها مادامت فى المجلس فان قامت منه أو أخذت فى عمل
_________
(1) الوجم ككتف صاحب العبوس المطرق لشدة الحزن وجم كوعد وجما ووجوما سكت على غيظه 12 قاموس منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 332(1/5269)
اخر خرج الأمر من يدها لأنه تمليك الفعل منهيّا والتمليكات يقتضى جوابا فى المجلس كما فى البيع قال صاحب الهداية لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضى اللّه عنهم وقال ابن همام قال ابن المنذر اختلفوا فى الرجل يخير زوجته فقالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس فان قامت من مجلسها فلا خيار لها روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود رضى اللّه عنهم وفى أسانيدها مقال وبه قال جابر بن عبد اللّه وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور واصحاب الرازي - وقالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس وبعدها وهو قول الزهري وقتادة وابى عبيدة وابن نصر قال ابن المنذر وبه نقول لقوله صلى اللّه عليه وسلم لعائشة لا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك وحكى صاحب المغني هذا القول من الصحابة عن على رضى اللّه عنه وأجاب ابن الهمام عن قول ابن المنذر ان الرواية عن على لم يستقر فقد روى عنه قول الجماعة كذا نص محمد فى بلاغاته حيث قال بلغنا عن عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وجابر رضى اللّه عنهم فى الرجل يخير امرأته ان لها الخيار مادامت فى مجلسها ذلك فإذا قامت من مجلسها فلا خيار لها ولم يرو عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك فكان اجماعا سكوتيا وقوله فى أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقى الامة بالقبول مع ان رواية عبد الرزاق عن جابر وابن مسعود جيدة - واما التمسك بقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تعجلى فضعيف لأنه ليس فى الآية تخيير الطلاق وتفويضه كما يدل عليه قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا.
(مسئلة) لا بد من النية فى قوله اختاري لأنه يحتمل تخيرها فى نفسها ويحتمل تخيرها فى تصرف اخر غيره.
((1/5270)
مسئلة) إذا قال الزوج اختاري فقالت اخترت نفسى فالمروى عن عمرو ابن مسعود وابن عباس انها تقع واحدة رجعية وبه أخذ الشافعي واحمد لان قوله اختاري بمنزلة قوله طلقى نفسك وقولها اخترت نفسى بمنزلة قوله طلقت نفسى والواقع بها رجعى اجماعا وبان الكتاب دل على ان الطلاق يعقب الرجعة الا الثالث - وروى عن زيد بن ثابت انه يقع الطلقات الثلاث وبه أخذ مالك فى المدخول بها وفى غيرها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 333
يقبل منه دعوى الواحدة وجه قول زيد ان اختيارها يقتضى ثبوت اختصاصها بها بحيث لا يكون لزوجها إليها سبيل من غير رضاءها والا لا يحصل فائدة التخيير إذا كان له ان يراجعها فى الحال شاءت أو أبت وذلك الاختصاص لا يتصور الا فى البائن والطلاق يعقب الرجعة بالكتاب الا ان يكون ثلاثا فيقع الثلاث وثبت عن على رضى اللّه عنه ان الواقع به واحدة بائنة وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه لما ذكرنا ان اختصاصها بنفسها لا يتصور الا بالبينونة والبينونة قد يكون بواحدة اجماعا كالطلاق بمال والطلاق قبل الدخول فيحمل عليه لحصول المقصود ولا وجه لجعله ثلاثا بعد حصول المقصود بواحدة - وقد روى الترمذي عن ابن مسعود وعمر ان الواقع بها بائنة كما روى عنهما الرجعية فاختلف الرواية عنهما - قلت البينونة يتنوع إلى غليظة وخفيفة فان نوى بها الزوج الغليظة لا بد ان يقع به ثلاثا - لكن أبا حنيفة رحمه اللّه يقول ان قوله اختاري لا يدل على البينونة بل يفيد الخلوص والصفاء والبينونة يثبت فيه اقتضاء فلا يعم بل يقدر بقدر الضرورة بخلاف أنت بائن ونحوه فلا يقع الثلاث بقوله اختاري وان نوى الثلاث لان النية انما تعمل فيما يحتمله اللفظ ويقع بقوله أنت بائن ثلاثا ان نوى الثلاث وبخلاف قوله اختاري اختاري اختاري لان تعدد اللفظ يدل على تعدد المقصود.
((1/5271)
مسئلة) لو قالت اخترت زوجى بعد ما قال لها اختاري لا يقع شىء عند الجمهور لان الزوج لم يطلقها بل جعل أمرها باختيارها وهى لم تختر الطلاق بل اختارت ابقاء النكاح - وعن على رضى اللّه عنه انه يقع رجعية كأنَّه جعل نفس اللفظ ايقاعا قال ابن همام لكن قول عائشة خيّرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخترناه ولم يعدّه علينا شيئا - رواه الستة وفى لفظ الصحيحين فلم يعدد يفيد عدم وقوع شىء كما قاله الجمهور - قلت لما ذكرنا فيما سبق ان تخيير ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن تخييرا للطلاق بل كان تخييرا فى طلب انطلاق فلا يكون قول عائشة حجة على ما قاله الجمهور واللّه اعلم.
(مسئلة) ولا بد من ذكر النفس فى كلامه أو كلامها حتى لو قال اختاري فقالت اخترت لا يقع الطلاق لان هذا اللفظ ليس لفظا للطلاق فكان القياس
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 334(1/5272)
ان لا يقع بها شىء لان التمليك فرع ملك المملك والزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ لكنا تركنا القياس وقلنا بوقوع الطلاق باختيارها بإجماع الصحابة والإجماع انما هو فى المفسّر من أحد الجانبين بالنفس ولان قوله اختاري مبهم يحتمل تخيرها فى نفسها وتخيرها فى تصرف اخر غيره - والمبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم ولا تعيين مع الإبهام - ولمّا كان وقوع الطلاق بقوله اختاري معدولا عن سنن القياس مقتصرا على مورد الإجماع لا يكتفى بالنية وان كان مع القرينة الحالية دون المقالية لعدم الإجماع هناك - وقال الشافعي واحمد يكتفى بالنية مع القرينة الحالية بعد ان نوى الزوج وقوع الطلاق به وتصادقا عليه وقال أبو حنيفة النية بدون احتمال اللفظ يلغوا والا لوقع بجرد النية مع لفظ لا يصلح له أصلا كاسقنى وانما تركنا القياس بموضع الإجماع. قلت لكن قوله النية بدون احتمال اللفظ يلغو ليس فى محله فان لفظ اختاري واخترت بدون ذكر النفس يحتمل تخيرها الطلاق واختارها إياه وغير ذلك وان لم تكن نصّا فيه ولذلك لو قال اختاري فقالت اخترت نفسى يقع الطلاق ان نوى الزوج لان كلامها مفسرة وما نواه الزوج من محتملات كلامه - وكذا لو قال اختاري اختيارة فقالت قد اخترت طلقت أيضا لان الهاء فى اختيارة ينبئ عن الاتحاد وو الانفراد واختيارها نفسها يتحد مرة ويتعدد اخرى فصار مفسرا من جانبه.
((1/5273)
مسئلة) ولو قال الزوج اختاري فقالت انا اختار نفسى فهى طالق والقياس ان لا يطلق لان هذا مجرد وعد أو يحتمله فصار كما إذا قال طلقى نفسك فقالت انا اطلق نفسى قال صاحب الهداية وجه الاستحسان قول عائشة لابل اختار اللّه ورسوله واعتباره صلى اللّه عليه وسلم جوابا منها - لا يقال ذكر فيما سبق ان قصة عائشة لم يكن تخييرا فى التطليق بل فى طلب الطلاق لانا نقول مقصودنا يحصل باعتباره صلى اللّه عليه وسلم جوابا للاختيار سواء كان الاختيار متعلقا بالتطليق أو طلب التطليق - ولان قولها انا اختار نفسى حكاية عن حالة قائمة وهو اختيار نفسها بخلاف قولها - طلق نفسى لان جمله على الحال متعذر لأنه ليس حكاية عن حالة قائمة واللّه اعلم.
يا نِساءَ النَّبِيِّ التفات من الغيبة إلى الخطاب مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس أراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 335(1/5274)
قرأ ابن كثير وابن عامر نضعّف بالنون على التكلم وكسر العين وتشديدها بغير الف من التفعيل والعذاب بالنصب على المفعولية - والباقون بالياء التحتانية على الغيبة وو فتح العين على صيغة المجهول والعذاب بالرفع على انه مفعول ما لم يسم فاعله فيقرأ أبو جعفر « و يعقوب - أبو محمد » وأبو عمرو بتشديد العين بلا الف من التفعيل والباقون بالتخفيف والالف من الافعال ضِعْفَيْنِ أى ضعفى عذاب غيرهن والضعف من الألفاظ المتضائفة التي يتوقف فهمه على شىء اخر كالنصف والزوج وهو تركب قدرين متساويين و- معنى أضعفت الشيء وضعّفته واحد وهو ضمت إليه مثله وكذا ضاعفته - والضعفين المثلين الذين يضم أحدهما إلى صاحبه كالزوجين فان أحدهما يضاعف الاخر ويزاوجه - وقد يطلق الضعف على مجموع المثلين كما فى قوله تعالى حكاية عن الاتباع من الكفار فاتهم عذابا ضعفا من النّار أى مثلى ما نحن فيه من العذاب لانهم ضلوا وأضلونا - وإذا أضيف الضعف إلى عدد يراد به ذلك العدد مع مثله فضعف عشرة عشرون وضعف مائة مائتان وضعف الواحد اثنان وإذا أضيف الضعفين إلى واحد يّثلثه وفى القاموس ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه أو الضعف المثل إلى ما زاد يقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله لأنه زيادة غير محصورة - وفسّر الجزري فى النهاية الضعف الواقع فى حديث أبى الدحداح بانه مثلى الاخر وقال يقال ان أعطيتني درهما فلك ضعفه أى درهمان وربما قالوا فلك ضعفاه وقيل ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه - وقال الزهري الضعف فى كلام العرب المثل فما زاد وليس بمقصور على مثلين فاقل الضعف محصور فى الواحد وأكثره غير محصور ومنه الحديث يضعف صلوة الجماعة على صلوة الفذ خمسا وعشرين درجة وقال اللّه تعالى فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً أى يزاد عليها يقال ضعّفت الشيء وأضعفته وضاعفته إذا زدته قال البغوي ضعّف وضاعف لغتان مثل بعّد وباعد قال أبو عمرو و(1/5275)
ابو عبيد ضعّفته إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله - وشدد أبو عمرو هاهنا لقوله تعالى ضعفين وقوله تعالى ضعفين منصوب على المفعولية لان التضعيف والمضاعفة يتضمنان معنى التصيير أو على المصدرية من قبيل ضربته ضربتين أو ضربته سوطين أو على الحال من العذاب ووجه تضعيف العذاب ان الذنب منهن مع توافر النعمة أقبح ولذلك جعل حد الحر ضعف حد العبد ولان
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 336
فى صدور الذنب منهن هتك حرمة مصاحبة سيّد البشر صلى اللّه عليه وسلم وذلك أشد وأقبح وَكانَ ذلِكَ أى تضعيف العذاب عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) جملة معترضة.
وَمَنْ يَقْنُتْ القنوت الطاعة قرأ يعقوب من تأت وتقنت بالتاء « 1 » الفوقانية فيهما نظرا إلى المعنى والباقون بالياء التحتانية نظرا إلى كلمة من يعنى من يدم على الطاعة مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ قرأ حمزة « و خلف - أبو محمد » والكسائي بالياء التحتانية حملا على لفظة من والباقون بالتاء الفوقانية نظرا إلى المعنى صالِحاً منصوب على المصدرية أو المفعولية نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أى مثلى اجر غيرها مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضاء النبي صلى اللّه عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة قال مقاتل مكان كل حسنة عشر حسنات - قرأ حمزة « و خلف - أبو محمد » والكسائي يؤتها بالياء التحتانية على ان فيه ضمير اسم اللّه تعالى والباقون بالنون على التكلم وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) أى جليل القدر وهو الجنة زيادة على أجرها قلت وذلك لانهن يرزقن بمتابعة النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يرزق النبي صلى اللّه عليه وسلم ..(1/5276)
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ أى ليست كل واحدة منكن أو المعنى لم توجد جماعة واحدة من جماعات النساء مثلكن فى الفضل كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وجملة لستن تعليل لمضمون ما ذكر واصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع فى النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير قال ابن عباس أى ليس قدر كن عندى مثل قدر غير كن من النساء الصالحات أنتن أكرم علىّ وثوابكن أعظم لدىّ - هذه الآية تدل على فضلهن على سائر النساء ويعارضها قوله تعالى فى حق مريم ابنة عمران انّ اللّه اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ والقول بان المراد من نساء العالمين نساء زمانه يأباه ما رواه الترمذي عن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى اللّه عليه وسلم وآسية امراة فرعون فالواجب ان يقال ان النساء فى قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ من حيث انكن ازواج سيد البشر صلى اللّه عليه وسلم يعنى ليست أحد من النساء شريكة لكنّ فى هذا الفضل والجمهور على ان أفضل نساء
_________
(1) هذا ليس بشئ بل قرأهما يعقوب بالياء كالجمهور - أبو محمّد رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 337(1/5277)
العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخديجة بنت خويلد خير نساء الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وعائشة الصديقة بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم روى الشيخان فى الصحيحين واحمد والترمذي وابن ماجة عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وان فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام - وفى الصحيحين عن على رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد - وفى رواية كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض وفى الصحيحين من حديث عائشة عن فاطمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين - وعن حذيفة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال ان هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه ان يسلم علىّ ويبشرنى بان فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفة حكم اللّه ورضاع رسوله شرط استغنى عن الجزاء بما مضى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ الفاء للسببية يعنى إذا ثبت فضلكن على سائر النساء بشرط التقوى فلا بد ان لا يظهر منكن ما ينافى التقوى من الخضوع بالقول للرجال يعنى ان تكلم المرأة مع الرجل الأجنبي كلاما لينا بما تطمعه منها - وذكر الجزري فى النهاية نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يخضع الرجل لغير امرأته ان يلين لها بالقول بما يطمعها منه - والخضوع الانقياد والمطاوعة وذكر أيضا فى النهاية ان رجلا مرّ فى زمان عمر رضى اللّه عنه برجل وامراة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه فاهدره عمر رضى اللّه عنه(1/5278)
اى ليّنا بينهما الحديث وتكلما بما يطمع كلّا منهما من الاخر وروى الطبراني بسند حسن عن عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى ان يكلم النساء الا بإذن أزواجهن وروى الدار قطنى فى الافراد عن أبى هريرة انه صلى اللّه عليه وسلم نهى ان يتمطى الرجل فى الصلاة أو عند النساء الا عند امرأته وجواريه فَيَطْمَعَ فى الفجور منصوب فى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 338
جواب النهى بان المقدرة بعد الفاء الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أى شائبة من النفاق فان المؤمن الكامل الذي مطمئن بالايمان ويرى برهان ربه لا يطمع فيما حرمه اللّه تعالى والذي إيمانه ضعيف كان فيه شائبة النفاق يشتهى إلى ما حرم اللّه عليه - وفى غير المتواتر من القراءة فيطمع مجزوم عطفا على محل النهى فهو نهى لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول.
(مسئلة) المرأة مندوبة إلى الغلظة فى المقال إذا خاطبت الا جانب لقطع الاطماع وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) يعنى ما يعرفه حسنا بعيدا من الريبة.(1/5279)
وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وعاصم بفتح القاف من قرّ يقرّ بكسر العين فى الماضي وفتحها فى الغابر أصله اقررن حذفت الراء الاولى ونقلت حركتها إلى القاف واستغنى عن همزة الوصل والباقون بكسر القاف من قرّ يقرّ قرارا بفتح العين فى الماضي وكسرها فى الغابر وهما لغتان فيه ومعناهما واحد وكذا تعليلهما واحدة - امر بالقرار فى البيوت وعدم الخروج بقصد المعصية كما يدل عليه قوله تعالى وَلا تَبَرَّجْنَ فانه عطف تفسيرى وتأكيد معنى وليس فى الآية نهى عن الخروج من البيت مطلقا وان كان للصلوة أو الحج أو لحاجة الإنسان كما زعمه الذين فى قلوبهم مرض من الروافض حتى طعنوا فى الصديقة الكبرى بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انها خرجت من بيتها إلى مكة وذهبت منها إلى البصرة فى وقعة الجمل وكان خروجها إلى مكة للحج وبعد خروجها استشهد عثمان رضى اللّه عنه واظهر أهل المصر فتنة فى المدينة حتى هرب منها طلحة وزبير رضى اللّه عنهما ولحقا بعائشة وأشارا بالخروج للاصلاح ذات البين ولمّا أبت احتجا بقوله تعالى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فخرجت إلى البصرة ووقع الصلح بين من كان معها ومن كان مع على رضى اللّه عنهما ثم اثار نار الفتنة عبد اللّه بن سبأ اليهودي المنافق الذي تزىّ بزى شيعة علىّ رضى اللّه عنه حتى وقع القتال بين المسلمين فى وقعة الجمل وقد ذكرنا القصة فى كتابنا السيف المسلول - والتبرج من البروج بمعنى الظهور والمراد بها اظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال وقال ابن نجيح التبرج « اى التكبر والاعجاب بنفسه - منه رح » التبختر قال البيضاوي فى تفسيره لا تبخترن فى مشيتكن تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى منصوب على المصدرية أى تبرجا مثل تبرج الجاهلية
التفسير المظهري ج 7 ، (1/5280)
ص : 339
الاولى والمراد بالجاهلية الاولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق بعد الإسلام - قال الشعبي هى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقال أبو العالية هى زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصها من الدر غير مخيط للجانبين فيرى خلقها فيه وقال الكلبي كان ذلك فى زمن نمرود الجبار كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشى وسط الطريق ليس عليها شىء غيره وتعرض نفسها على الرجال وروى عكرمة عن ابن عباس الجاهلية الاولى فيما بين نوح وإدريس وكان الف سنة وكان سبطين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والاخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحا وفى النساء دمامة « بالفتح : القصر والقبح - نهايه رح » وكان النساء السهل صباحا وفى الرجال دمامة وان إبليس اتى رجلا من أهل السهل واجر نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يدمو الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذوا عيدا يجتمعون إليه فتبرج النساء للرجال وتزين الرجال لهن وان رجلا من أهل الجبل هجم عليهم فى عيدهم ذلك فراى الرجال والنساء وصباحتهن فاتى أصحابه فاخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وقد تذكر الاولى وان لم يكن لها اخرى كقوله تعالى أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ولم يكن لها اخرى أو المعنى الجاهلية التي كانت قبل زمانكم وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى كل ما امرتنّ به ونهيتنّ عنه فان ذلك هو التقوى الذي هو شرط افضليتكن على سائر نساء العالمين إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ كلام مستأنف يعم حكمه نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم وغيرهن من أولاده صلى اللّه عليه وسلم ولقصد التعميم أورد ضمير(1/5281)
المذكر وقد أورد اللّه سبحانه هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق يعنى انما يريد اللّه سبحانه فيما امركن به ونهاكن عنه لاذهاب الرجس يعنى عمل الشيطان من الإثم والقبائح الشرعية والطبعية الذي ليس فيه مرضاة اللّه تعالى عنكن وعن غيركن من أهل البيت أَهْلَ الْبَيْتِ بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم منصوب على النداء أو المدح قال عكرمة ومقاتل أراد باهل البيت نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ورضى عنهن لانهنّ فى بيته وهو
رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 340(1/5282)
وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ - رواه ابن أبى حاتم وروى ابن جرير عن عكرمة نحوه وهم استدلوا بسياق الآية وسباقها لكن القول بتخصيص الحكم يهن يأباه ضمير المذكرين وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهما إلى انهم على وفاطمة والحسن والحسين رضى اللّه عنهم لحديث عائشة قالت خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليه مرط « يعنى عليه صورة الرجل - منه رح » يعنى عليه صورة الرجل - منه رح مرحل من شعر اسود فجاء الحسن ابن على فادخله ثم جاء الحسين بن على فدخل معه ثم جاءت فاطمة فادخلها ثم جاء على فادخله ثم قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً - رواه مسلم وحديث سعد بن أبى وقّاص قال لمّا نزلت هذه الآية نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي رواه مسلم وحديث واثلة بن الأسقع انه صلى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الآية وقال لعلى وفاطمة وابنيهما اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتى فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا - واخرج الترمذي وغيره عن عمر بن أبى سلمة وابن جرير وغيره عن أم سلمة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا لما نزلت هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ فحللهم بكساء فقال اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم وطهرهم تطهيرا - وهذه الأحاديث ونحوها لا تدل على تخصيص الحكم بهؤلاء الاربعة رضى اللّه عنهم ويأباه ما قبل الآية وما بعدها ويأباه العرف واللغة لان الأصل فى استعمال أهل البيت لغة النساء واما الأولاد وغيرهم(1/5283)
فانها يطلق عليهم تبعا لان لهم بيوتا متغائرة غالبا وقد قال اللّه تعالى حكاية عن قول الملائكة لسارة امرأة ابراهيم عليه السلام أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ والحق ما ذكرنا ان الآية يعم جميع أهل البيت وان كان سوق الكلام للنساء عن أم سلمة رضى اللّه عنها قالت فى بيتي أنزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قالت فارسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى فاطمة وعلى والحسن والحسين فقال هؤلاء أهل بيتي فقلت يا رسول اللّه اما انا من أهل البيت قال بلى ان شاء اللّه - رواه البغوي وغيره هذا الحديث يدل على ان أهل البيت يعم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 341(1/5284)
كلهم وكلمة ان شاء اللّه للتبرك وقال زيد بن أرقم أهل بيته من حرم عليه الصدقة ال على وال عقيل وال جعفر وال عباس وال الحارث بن عبد المطلب وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) من نجاسة الآثام بالحفظ فى الدنيا والمغفرة فى الاخرة - بين اللّه سبحانه انه انما نهاهن وامرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسوله المأثم وليتصفوا بالتقوى - استعار للذنوب الرجس وللتقوى الطهارة لان عرض المقترف بالمعاصي ملوث كما يتلوث بدنه بالنجاسة والمتقى نقى كالثوب الطاهر النقي - ولكمال المناسبة بين الآثام والارجاس قال أبو حنيفة يتنجس الماء المستعمل للقربة أو لرفع الحدث ولما ثبت انه صلى اللّه عليه وسلم قال من توضأ فاحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره متفق عليه من حديث عثمان وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء الحديث - رواه مسلم احتجت الروافض بهذه الآية على ان عليّا وفاطمة والحسن والحسين معصومون وهم الخلفاء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دون غيرهم وعلى ان إجماعهم ومن دونهم من الائمة حجة قالوا إذا أراد اللّه تطهيرهم فهم معصومون لان مراد اللّه تعالى لا ينفك عن الارادة والأثيم غير طاهر والعصمة شرط للامامة وأبو بكر وعمر وعثمان غير معصومين بالإجماع فهم الائمة لا غيرهم. وهذا الاستدلال باطل بوجوه الأول ان الآية غير مختص حكمها بعلى وفاطمة وابنيهما كما ذكرت بل هى نازلة فى(1/5285)
أمهات المؤمنين ل كن هؤلاء الكرام داخلون فى حكمهن والثاني ان الآية لا تدل على العصمة وقد ورد مثل ذلك فى اية الوضوء لجميع الامة حيث قال ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لا يقال مقتضى اية الوضوء ان اللّه يريد ان يطهر أبدانكم من الأنجاس والأحداث ان توضأتو ومقتضى هذه الآية يريد اللّه ان يطهركم من الآثام فاين هذا من ذلك لانا نقول انها من واد واحد فان اللّه كما يريد ان يطهر أبدان المؤمنين إذا توضؤا واستعملوا الماء فى مواضعه كذلك يريد ان يطهر أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم من الآثام ان اتقوا ولذلك بين لهم طريقة استعمال الماء لطهارة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 342
الظاهر وبين لهم التقوى بقوله فَلا تَخْضَعْنَ لطهارة الباطن فكما ان طهارة ظاهر البدن يتوقف على اختيار العبد فى استعمال الماء كذلك الطهارة من الآثام يتوقف على اختياره التقوى واللّه اعلم والثالث ان العصمة ليست بشرط الامامة بل يجوز ان يكون الامام غير معصوم مع وجود المعصوم فيهم الم تر ان اللّه تعالى جعل الملك والامامة لطالوت مع وجود النبي المعصوم فيهم وهو اشموئيل وداود عليهما السّلام إذ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ انّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً إلى قوله تعالى وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ واللّه اعلم ..(1/5286)
وَ اذْكُرْنَ عطف على اطعن اللّه ورسوله وما بينهما اعتراض للتعليل ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعنى القرآن وَالْحِكْمَةِ يعنى الوحى الغير المتلو وهو السنة وقال مقاتل يعنى احكام القرآن ومواعظه وقال البيضاوي يعنى اذكرن الكتاب الجامع بين الامرين وهو تذكير لما أنعم اللّه عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحى وما شاهدن من برحاء الوحى مما يوجب قوة الايمان والحرص على الطاعة حثا على الايتمار والانتهاء فيما كلفن به إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً بكم يعظكم ويعلمكم ما يصلح فى الدين خَبِيراً (34) بكل شىء يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح ان يكون أهل بيته وفى صحبته قال اللّه تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ واللّه اعلم ذكر البغوي ان ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم قلن يا رسول اللّه ذكر اللّه الرجال فى القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به انا نخاف ان لا يقبل منا طاعة اللّه فانزل اللّه تعالى.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وروى الطبراني وابن مردوية عن ابن عباس نحوه واخرج ابن سعد عن قتادة نحوه واخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال النساء يا رسول اللّه ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات فنزلت ورواه ابن جرير من حديث قتادة مرسلا واخرج الترمذي وحسنه عن أم عمارة الانصارية انها أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت ما ارى كل شىء الا للرجال وما نرى النساء يذكرن بشئ فنزلت وذكر البغوي انه قال مقاتل قالت أم سلمة بنت أبى امية وأنيسة بنت الكعب الانصارية للنبى صلى اللّه عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء فى شىء من كتابه نخشى ان لا يكون فيهن خيرا فنزلت هذه الآية وروى ان اسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 343(1/5287)
جعفر بن أبى طالب فدخلت على نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت هل نزل فينا شىء من القرآن قلن لا فاتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه ان النساء فى خيبة وخسارة قال ومم ذلك قالت انهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فانزل اللّه تعالى هذه الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أى المنقادين لحكم اللّه ورسوله المفوضين أمورهم إلى اللّه المتوكلين عليه من الرجال والنساء وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين أمن الناس من يوابقهم من الرجال والنساء وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعة من الفريقين وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ فى القول والعمل اعنى عاملين أعمالا يصدق من يثنى عليها وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ فى المصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي واتباع الشهوات وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين غير متكبرين من الرجال والنساء وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ مما رزقهم اللّه ابتغاء مرضاة اللّه وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ فرضا ونفلا وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ فروجهن عما لا يحل وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ اللّه تعالى بقلوبهم وألسنتهم « 1 » .
قال البغوي قال مجاهد لا يكون العبد من الذّاكرين اللّه كثيرا حتى يذكر اللّه قائما وقاعدا ومضطجعا يعنى لا يفتر ذكرهم فى حين من الأحيان - قلت وذلك لا يتصور الا بعد فناء القلب واستغراق القلب فى الذكر وحصول الحضور الدائم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات - رواه مسلم من حديث أبى هريرة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من شىء أنجى من عذاب اللّه من ذكر اللّه قالوا ولا الجهاد فى(1/5288)
_________
(1) عن معاذ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان رجلا ساله فقال اىّ المجاهدين أعظم اجرا فقال أكثرهم للّه ذكرا قال فاىّ الصائمين أعظم اجزا قال أكثرهم للّه ذكرا ثم ذكر الصلاة والزكوة والحج والصدقة كل ذلك ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أكثرهم للّه ذكرا فقال أبو بكر لعمر يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجل 12 منه نور اللّه مرقده - [.....]
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 344(1/5289)
سبيل قال ولا الجهاد فى سبيل اللّه الا ان يضرب بسيفه حتى ينقطع رواه البيهقي فى الدعوات الكبير من حديث عبد اللّه بن عمرو عن أبى سعيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل أى العباد أفضل وارفع درجة عند اللّه يوم القيامة قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات قيل يا رسول اللّه ومن الغازي فى سبيل اللّه قال لو ضرب بسيفه فى الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما فان الذاكر للّه أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال هذا حديث غريب وعن مالك قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول ذاكر اللّه فى الغافلين كالمقاتل خلف الفارّين وذاكر اللّه فى الغافلين كغصن شجر اخضر فى شجر يابس وذاكر اللّه فى الغافلين مثل مصباح فى بيت مظلم وذاكر اللّه فى الغافلين يريه اللّه مقعده من الجنة وهو حىّ وذاكر اللّه فى الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم والفصيح بنوا آدم والأعجم بهائم - رواه رزين - قال البغوي قال عطاء بن أبى رباح من فرض امره إلى اللّه فهو داخل فى قوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ومن أقر بأن اللّه ربه ومحمدا رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل فى قوله وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ومن أطاع اللّه فى الفرائض والرسول فى السنة فهو داخل فى قوله وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل فى قوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ومن صبر على الطاعة وخاف من المعصية وصبر على الرزية فهو داخل فى قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل فى قوله الْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ومن تصدق فى كل أسبوع بدرهم فهو داخل فى قوله وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ومن صام فى كل شهر ايام البيض (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) فهو داخل فى قوله وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ومن حفظ فرجه عمالا(1/5290)
يحل له فهو داخل فى قوله وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ومن صلى الصلوات الخمس فهو داخل فى قوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ - قال البيضاوي عطف الإناث على الذكور ضرورى لاختلاف الجنسين وعطف الزوجين على الزوجين لتغائر الوصفين ليس بضرورى ولذلك ترك فى قوله تعالى مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ إلخ وفائدته الدلالة على ان الاعداد والموعود لهم للجمع بين هذه الصفات
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 345
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما صدر منهم من الذنوب وَأَجْراً عَظِيماً (35) على طاعتهم واللّه اعلم - أخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال خطب النبىّ صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش وهو يريد لزيد بن الحارثة فظنت انه يريدها لنفسه فلمّا علمت انه يريدها لزيد أبت فانزل اللّه تعالى.(1/5291)
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية فرضيت وسلمت قال البغوي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اشترى زيدا فى الجاهلية بعكاظ فاعتقه وتبناه فلمّا خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضيت وظنت انه يخطبها لنفسه فلما علمت انه يخطبها لزيد أبت وكرهت وكذلك أخوها عبد اللّه بن جحش كره ذلك (و كانت أم زينب وأخيها اميمة بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) واخرج ابن جرير من طريق عكرمة ومثله من طريق العوفى عن ابن عباس قال خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه وقالت انا خير منه حسبا فانزل اللّه تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ يعنى عبد اللّه بن جحش وَلا مُؤْمِنَةٍ يعنى زينب بنت جحش يعنى لا يجوز لاحد إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً يعنى امر امرا على وجه التختم أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ يعنى ان يختاروا من أمرهم ما شاء وابل يجب عليهم ما أمرهم اللّه به وان يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار اللّه ورسوله - وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة لوقوعهما نكرتين فى حيز النفي وجمع الثاني للتعظيم قرأ الكوفيون وهشام يكون بالياء التحتانية لاجل الفصل بين الفعل وفاعله والباقون بالتاء الفوقانية لاجل التأنيث والخيرة والخيار بمعنى واحد وهذه الآية دليل على ان مطلق الأمر للوجوب ويستفاد من هاهنا ان العالم ومن له فضل من حيث الدين كفؤ للعلوى وغيره من الشرفاء - واخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد قال نزلت الآية فى أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط وكانت أول من هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبى صلى اللّه عليه وسلم فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هى وأخوها وقالا انما أردنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فزوّجنا غيره فنزلت وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36)
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 346(1/5292)
بين الانحراف عن الصواب فان كان عصيان ردّ وانكار فهو ضلال كفرون كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فضلال فسق جملة فقد ضلّ تعليل لجزاء الشرط المحذوف تقديره يهلك فقد ضلّ.
قال البغوي فلما نزلت هذه الآية وسمعت زينب بنت جحش وأخوها رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذلك أخوها فانكحها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيدا فدخل بها وساق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وإزارا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر ومكثت عنده حينا ثم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتى ذات يوم لحاجة فابصر زينب قائمة فى درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش فوقعت فى نفسه وأعجبه حسنها فقال سبحان اللّه مقلب القلوب فانصرف فلمّا جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد فالقى فى نفسه كراهتها فى الوقت واتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انى أريد ان أفارق صاحبتى فقال مالك ارايت منها شيئا قال لا واللّه يا رسول اللّه ما رايت منها إلا خيرا ولكنّها تتعظّم علىّ لشرفها وتؤذيني بلسانها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم امسك عليك زوجك واتّق اللّه فى أمرها كذلك روى ابن جرير عن أبى زيد فانزل اللّه تعالى.(1/5293)
وَ اذكر إِذْ تَقُولُ يا محمد الآية واخرج الحاكم عن انس قال جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم امسك عليك أهلك فنزلت وإذ تقول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أى هداه للاسلام ورزقه مصاحبتك والقى فى قلبك محبته والرحمة عليه وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإنفاق والاعتاق وهو زيد بن حارثة رضى اللّه عنه أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعنى زينب بنت جحش وَاتَّقِ اللَّهَ فى أمرها فلا تطلقها فان الطلاق من ابغض المباحات وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ قوله أَمْسِكْ مقولة تقول وجملة تخفى معطوف على قوله تَقُولُ يعنى وكنت تسرّ فى نفسك ما اللّه مظهره أخرج البخاري عن انس ان هذه الآية نزلت فى شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة قال الحسن أعجبه قول زيد وأخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك فى نفسه حياء وكرما
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 347
و قيل وقع فى قلبه انه لو فارقها زيد تزوجها وقال ابن عباس حبها وقال قتادة ودّ انه طلقها.(1/5294)
و قال البغوي روى سفيان بن عيينة عن على بن زيد بن جدعان قال سالنى على ابن الحسين زين العابدين عليهما السلام ما يقول الحسن فى قوله عزّ وجلّ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبى اللّه انى أريد ان أفارق زينب أعجبه ذلك فقال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ قال على بن الحسين ليس كذلك كان اللّه تعالى قد اعلمه انها ستكون من أزواجه وان زيدا سيطلقها فلما جاء زيد وقال انى أريد ان أطلقها قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فعاتبه اللّه وقال لم قلت امسك عليك زوجك وقد أعلمناك انها ستكون من أزواجك - وهذا هو الاولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لان اللّه تعالى أعلم ان يبدئ ويظهر ما أخفاه ولم يظهر اللّه غير تزويجها منه فقال زَوَّجْناكَها فلو كان الذي أضمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محبتها أو ارادة طلاقها لكان يظهر ذلك وانما أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استحياء ان يقول لزيد التي تحتك وفى نكاحك ستكون امراتى - قال البغوي وهذا قول مرضى حسن وان كان القول الاخر وهو انه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها زيد لا يقدح فى حال الأنبياء لان العبد غير ملوم على ما يقع فى قلبه فان مثل هذه الأشياء ما لم يقصد لا اثم فيه لان الود وميل النفس من طبع البشر - وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ امر بالمعروف وهو حسنة لا اثم فيه - قلت بل هو أعظم اجرا فانه امر بالمعروف على خلاف طبعه قال اللّه تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وما قال الحسن يؤيده قوله صلى اللّه عليه وسلم حين راى زينب سبحان اللّه مقلب القلوب فانها تدل على انه تعالى قلّب قلب(1/5295)
النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى ان يتزوجها بعد ما كان فى قلبه ان يزوجها زيدا وَتَخْشَى النَّاسَ عطف على تخفى يعنى تخاف لائمة الناس ان يقولوا امر رجلا ان يطلق امرأته وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ الجملة حال من فاعل تخشى قال عمرو ابن مسعود وعائشة رضى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 348(1/5296)
اللّه عنهم ما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اية هى أشد من هذه الآية وروى عن مسروق قال قالت عائشة لو كتم النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئا مما اوحى إليه لكتم وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ - قال البغوي لم يرد اللّه بهذه الآية انه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يخشى اللّه فانه صلى اللّه عليه وسلم قال انى أخشاكم وأتقاكم - قلت وقد قال اللّه تعالى فى شأن الأنبياء كلهم يَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر ان اللّه أحق بالخشية فى عموم الأحوال وفى جميع الأشياء قلت فمعنى الآية انك تخشى لائمة الناس وتخشى اللّه أشد خشية من خشية الناس فان اللّه أحق ان تخشاه فمن أجل خشية الناس والحياء منهم أخفيت ما أضمرت ومن أجل خشية اللّه أمرت بالمعروف ولم تترك شيئا مما أمرك اللّه به ولا منافاة بينهما ومعنى قوله تعالى لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ انهم لا يخشون أحدا فيما يفضى خشيتهم ترك امتثال امر اللّه تعالى واما خشية الناس حياء فيما عدا ذلك فحسن فان الحياء من الايمان متفق عليه مرفوعا من حديث ابن عمر وفى الصحيحين عن عمران بن حصين قوله صلى اللّه عليه وسلم الحياء خير كله - وعن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان الحياء والايمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الاخر - وفى رواية ابن عباس فإذا سلب أحدهما تبعه الاخر - رواه البيهقي فى شعب الايمان وروى مالك عن زيد بن طلحة مرسلا وابن ماجة والبيهقي فى شعب الايمان عن انس وابن عباس انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء واللّه اعلم - واخرج مسلم واحمد والنسائي وأبو يعلى وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردوية وذكره البغوي وهذا لفظ البغوي عن انس انه(1/5297)
قال لمّا انقضت عدة زينب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها علىّ فانطلق زيد حتى أتاها وهى تخمّر عجينها قال زيد فلمّا رايتها عظمت فى صدرى حتى ما أستطيع ان انظر إليها حين علمت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهرى ونكصت على عقبى فقلت يا زينب أرسلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذكرك قالت ما انا بصانعة حتى أو امر ربى فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً فسير المظهري ، ج 7 ، ص : 349(1/5298)
الاية وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودخل عليها بغير اذن فقال لقد رايتنا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس وبقي رجلان يتحدثون فى البيت بعد الطعام فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويسلمن عليه ويقلن يا رسول اللّه كيف وجدت أهلك فقال ما أدرى انا أخبرت ان القوم قد خرجوا أو أخبروني فانطلق حتى دخل البيت قال انس فذهبت ادخل معه فالقى السّتر بينى وبينه ونزل الحجاب - قوله تعالى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها أى من اهله وهى زينب بنت جحش وطرا أى حاجة بحيث ملّها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها قيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق زَوَّجْناكَها أى جعلنها زوجتك روى البخاري واحمد والترمذي والحاكم وابن مردوية وعبد بن حميد والبيهقي فى سننه عن انس انه قال كانت زينب تفخر على ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم وتقول زوجكن اهاليكن وزوجنى اللّه من فوق سبع سماوات وفى لفظ ان اللّه تولّى نكاحى وانتنّ زوجكن اولياؤكن قال البغوي قال الشعبي كانت زينب تقول للنبى صلى اللّه عليه وسلم انى لادل عليك بثلاث ما من نسائك امراة تدل بهن جدى وجدك واحد وانى أنكحنيك اللّه فى السماء وان السفير لجبرئيل عليه السّلام وعن انس قال ما أولم النبي ما أولم بزينب أولم بشاة وعن انس قال أولم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فاشبع المسلمين خبزا ولحما لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أى ضيق بالتحريم فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ جمع دعىّ وهو المتبنى يعنى زوجناك زينب امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم ان زوجة المتبنى حلال وان كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امراة ابن الصلب فانها لا تحل للاب - وفيه دليل على ان حكم الرسول وحكم الامة واحد ما لم يقم دليل على تخصيص الحكم بالنبي صلى اللّه(1/5299)
عليه وسلم إِذا قَضَوْا أى الأدعياء مِنْهُنَّ أى من أزواجهم وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أى قضاؤه مَفْعُولًا (27) مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ متعلق بمضمون من حرج لا من لفظه لان معمول المجرور لا يتقدم على الجار
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 350
مِنْ حَرَجٍ أى ضيق من زائدة وحرج اسم كان فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أى فيما قسم له وقدر له من عدد النساء من قولهم فرض له فى الديوان ومنه فروض العسكر لارزاقهم وقيل معنا فيما أحل له سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لفعل محذوف أى سنّ اللّه سنّة أو منصوب بنزع الخافض أى كسنّة اللّه أو على الإغراء أى التزموا سنة اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء الماضين قال الكلبي أراد داؤد عليه السّلام حيث جمع بينه وبين المرأة التي هواها فكذلك جمع بين محمد صلى اللّه عليه وسلم وزينب وقيل أشار بالسنّة إلى النكاح فانه سنّة الأنبياء وقيل أشار إلى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليه السّلام وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) أى قضاء ماضيا لا محالة.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا من قبل أو مدح لهم منصوب أو مرفوع وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ كما أنت تخشى اللّه ولا تخشى غيره فيما أمرك اللّه به ونهاك عنه وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) كافيا للمخاوف أو محاسبا فينبغى ان لا يخشى الا منه.
اخرج الترمذي عن عائشة انها قالت لما تزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم زينب قال الناس تزوج حليلة ابنه فانزل اللّه تعالى.(1/5300)
ما كانَ مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه وسلم أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعنى ليس محمد صلى اللّه عليه وسلم أبا لزيد ابن حارثة فيحرم عليه نكاح زوجته - فان قيل كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وابراهيم وكذلك الحسن والحسين فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للحسن ان ابني هذا سيد قلنا ان أبناء الرسول صلى اللّه عليه وسلم ماتوا صغارا لم يبلغوا مبلغ الرجال واطلاق الابن على الحسنين عليهما السلام على التجوز وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وكل رسول اب لامته لكن لا من حيث النسب حتى يحرم عليه ما يحرم بالنسب بل من حيث الشفقة والنصيحة وَخاتَمَ قرأ عاصم بفتح التاء على الاسم بمعنى الاخر والباقون بكسر التاء على وزن فاعل يعنى الذي ختم النَّبِيِّينَ حتى لا يكون بعده نبى قال ابن عباس يريد اللّه سبحانه انه لو لم يكن اختم به النبيين لجعلت ابنه بعده نبيّا وروى عطاء عن ابن عباس ان اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 351(1/5301)
لما حكم ان لا نبى بعده لم يعطه ولدا ذكرا يعنى رجلا - أخرج ابن ماجة من حديث ابن عباس انه صلى اللّه عليه وسلم قال فى ابراهيم حين توفى لو غاش لكان نبيّا - ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا ينزل يكون على شريعته مع ان عيسى عليه السّلام صار نبيّا قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم وقد ختم اللّه سبحانه الاستنباء بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبقاء نبى سابق لا ينافى ختم النبوة وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40) فيعلم من يليق به ختم النبوة وكيف ينبغى شأنه عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثلى ومثل الأنبياء كمثل قصر احسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه الا موضع تلك اللبنة فكنت انا سددتّ موضع اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل - وفى رواية فانا اللبنة وانا خاتم النبيين - متفق عليه وعن جبير بن مطعم رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان لى اسماء انا محمد وانا احمد وانا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر وانا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى وانا العاقب الذي ليس بعده نبى متفق عليه وعن أبى موسى الأشعري قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسمى لنا نفسه اسماء فقال انا محمد واحمد والمقفى والحاشر ونبى التوبة ونبى الرحمة - رواه مسلم - .(1/5302)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) قال ابن عباس لم يفرض اللّه على عباده فريضة الا جعل لها حدّا معلوما ثم عذّر أهلها فى حال العذر غير الذكر فانه لم يجعل له حدّا ينتهى إليه ولم يعذر أحدا فى تركه الا مغلوبا على عقله فامر به فى الأحوال كلها فقال فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وقال اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً بالليل والنهار فى البر والبحر والصحة والسقم فى السر والعلانية - وقال مجاهد الذكر الكثير ان لا ينساه ابدا قلت وهذا لا يتصور الا بعد فناء القاب ودوام الحضور.
وَسَبِّحُوهُ أى صلوا له بُكْرَةً يعنى صلوة الصبح وَأَصِيلًا (42) قال الكلبي يعنى صلوة الظهر والعصر والعشاءين وقال مجاهد يعنى قولوا سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر ولا حول ولا قوة الا باللّه العلىّ العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته وقيل المراد بالذكر الكثير هذه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 352(1/5303)
الكلمات يقولها الطاهر والمحدث والجنب - قلت امر اللّه سبحانه اولا بتعميم الذكر ابدا بحيث لا ينساه ثم خصه باوقات مخصوصة فالمراد بالأول هو الذكر الخفي والحضور الدائم وبالثاني الذكر الجلى والعبادات الراتبة من الفرائض والسنن - وقيل خص اوّل النهار وآخره بالذكر لان ملائكة الليل والنهار يجتمعون فيها - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون فى صلوة الفجر وصلوة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسئلهم ربهم (و هو اعلم بهم) كيف تركتم عبادى فيقولون تركناهم وهم يصلون واتيناهم وهم يصلون - متفق عليه وقيل بُكْرَةً وَأَصِيلًا معمولان للفعلين على سبيل التنازع والفعلان كلاهما متوجهان إليهما يعنى اذكروه بكرة وأصيلا وسبّحوه بكرة وأصيلا يعنى أدوا الصلوات وسائر العبادات ذاكرا للّه حاضرين غير غافلين عن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزال اللّه عزّ وجلّ مقبلا على العبد وهو فى صلاته ما لم يلتفت وإذا التفت انصرف عنه رواه احمد وأبو داود والنسائي والدارمي - قال البغوي قال انس لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر ما خصك اللّه بشرف الا وقد أشركنا فيه فانزل اللّه تعالى.(1/5304)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ واخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه قال البغوي الصلاة من اللّه رحمة ومن الملئكة استغفار وقيل الصلاة من اللّه على العبد اشاعة الذكر الجميل له فى العباد وقيل الثناء عليه - وفى القاموس الصلاة الدّعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من اللّه تعالى على رسوله وعبادة فيها ركوع وسجود - وهذه العبارة تقتضى كونها لفظا مشتركا فمن أجاز استعمال اللفظ المشترك فى الأكثر من معنى واحد أجاز ان يكون معناه ان اللّه يرحم عليكم وملائكته يستغفرونه لكم - واما عند الجمهور فلا يجوز عموم المشترك فيقال المراد بالصلوة هاهنا المعنى المجازى المشترك بين المعنيين الحقيقيين وهو العناية لصلاح أمركم وظهور شرفكم ويسمى عموم المجاز - وقال كثير من أهل اللغة الصلاة هو الدعاء يقال صليت عليه أى دعوت له قال عليه السّلام إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب وان كان صائما فليصل أى ليدع لاهله وقال اللّه تعالى صَلِّ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 353
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ(1/5305)
و انما سميت الأركان المخصوصة صلوة لاشتمالها على الدعاء وهو قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ تسمية الكل باسم الجزء والصلاة من اللّه تعالى على عباده ان يطلب من نفسه لاجل عباده الرحمة والمغفرة ويناسب الطلب من نفسه الإيجاب من نفسه على نفسه المستفاد من قوله تعالى كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فان الإيجاب والطلب بمعنى واحد فان الطلب حتما هو الإيجاب والمراد بالإيجاب الالتزام تفضلا وإذا أريد بالصلوة هاهنا الدعاء لا يلزم عموم المشترك - قال البغوي قال النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت بنوا إسرائيل لموسى أ يصلي ربنا فكبر هذا الكلام على موسى فاوحى اللّه إليه ان قل لهم انى أصلي وان صلاتى رحمتى وسعت كل شىء لِيُخْرِجَكُمْ يعنى انه برحمته ودعاء الملائكة يديم إخراجكم مِنَ الظُّلُماتِ أى ظلمات الكفر والمعاصي إِلَى النُّورِ أى نور الايمان والطاعة ويمكن ان يقال ليخرجكم ساعة بعد ساعة ابدا من ظلمات البعد إلى نور القرب ومن استوى يوماه فهو مغبون وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإعلاء قدرهم واستعمل فى دعائهم الملائكة المقربين الجملة معطوفة على الصلة أى الّذى يصلّى عليكم والذي كان بالمؤمنين رحيما.(1/5306)
تَحِيَّتُهُمْ أى تحية المؤمنين منه تعالى أضيف الصدر إلى المفعول أى يجبون منه تعالى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يعنى يوم لقائهم إياه سبحانه يعنى عند الموت أو الخروج من القنبر أو دخول الجنة أو عند رؤية اللّه سبحانه سَلامٌ أى يسلم اللّه عليهم تحية ويسلمهم اللّه من جميع المكاره قال البغوي روى عن البراء بن عازب قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يعنى يوم يلقون ملك الموت سلام أى لا يقبض روح مسلم الأسلم عليه - وعن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرأك السلام وقيل يسلم عليهم الملائكة ويبشرهم حين اخرجوا من قبورهم وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يعنى الجنة ورؤية اللّه ورضوانه.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك أخرج ابن المبارك عن سعيد ابن المسيب قال ليس من يوم الا ويعرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم ولذلك يشهد عليهم أو شاهدا لامتك مصدقا لهم حين يشهدون للرسل على الأمم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 354
بالتبليغ أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلّغت فيقول نعم فيدعى أمته فيقال لهم هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير ما أتانا أحد فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته الحديث - وفى الباب أحاديث كثيرة فهو حال مقدرة كقولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا وَمُبَشِّراً بالجنة من أمن بالرسل وَنَذِيراً (45) بالنار لمن كذب الرسل.(1/5307)
وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ أى إلى توحيده وطاعته أو إلى جنته أو لقائه الغير المتكيفة بِإِذْنِهِ أى بامره وتيسيره قيد به الدعوة إيذانا بانه امر صعب لا يتاتى الا بمعونة من جناب قدسه خصوصا الدعوة إلى لقائه فان إيصال العبد إليه تعالى امر لا يمكن الا بفضله قال اللّه تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... إِلى « 1 » صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ - عن ربيعة الجرشى قال اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقيل له لتنم عيناك ولتسمع اذنك ولتعقل قلبك قال فنامت عينى وسمعت إذ ناى وعقل قلبى قال فقيل لى سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال فاللّه السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة - رواه الدارمي وَسِراجاً مُنِيراً (46) سماه سراجا لأنه يستضاء به ويهتدى به كالسراج يستضاء به ويهتدى به فى ظلمة الليل يعنى انه صلى اللّه عليه وسلم كان بلسانه داعيا إلى اللّه وبقلبه وقالبه كان مثل السراج يتلون المؤمنون بألوانه ويتنورون بانواره كالعالم يتنور بنور الشمس والبيت بالسراج - ولاجل ذلك اختصت الصحابة رضى اللّه عنهم بمزيد الفضل على الناس فان علومه التي تلقتها الامة من لسانه لم يتفاوت فيه الناس من الصحابة وغيرهم بل رب مبلغ اوعى من سامع - واما التنوّر بانواره فانه وان كان حاصلا للناس بتوسط أصحابه واصحاب أصحابه إلى يوم القيامة لكن ليس النائب فيه كالشاهد بل مثله كمثل بيت تنوّر بنور الساحة
_________
(1) هكذا فى الأصل وفى القرآن بعد مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ جمع المؤلف قدس سرّه جملتين من مقامين - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 355(1/5308)
التي تنوّرت بنور الشمس لاجل مقابلتها واين هذا من ذلك واللّه اعلم - عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص قلت أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى التورية قال أجل واللّه انه لموصوف فى التورية ببعض صفته فى القرآن يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للاميين أنت عبدى ورسولى سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر لن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا اللّه ويفتح به أعينا عمياء واذنا صماء وقلوبا غلقاء - رواه البخاري وكذا الدارمي عن عطاء بن سلام نحوه واللّه اعلم - أخرج البيهقي فى دلائل النبوة عن الربيع بن انس انه قال لما نزلت ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ثم نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال رجال من المؤمنين هنيئا لك يا رسول اللّه قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وكذا أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن وقال انس الفضل الكبير الجنة والجملة معطوفة على انّا أرسلناك.(1/5309)
وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك تحريض له على ما هو عليه من مخالفتهم وَدَعْ أَذاهُمْ قال ابن عباس وقتادة يعنى اصبر على إيذائهم إياك فالمصدر مضاف إلى الفاعل والمعنى اجعل إيذاءهم إياك فى جانب ولا تبال به ولا تخف منه وقال الزجاج يعنى لا تجادلهم ولا تتصد على اذاهم يعنى لا تؤذهم فالمصدر مضاف إلى المفعول وعلى هذا قيل انه منسوخ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فانه يكفيك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يعنى إذا جعلت اللّه موكولا إليه أمورك فهو يكفيك لا يدع حاجة لك إلى غيره قال البيضاوي وصف اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بخمس صفات وقابل كلّا منها بخطاب يناسبه فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لان ما بعده كالتفصيل له وقابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين والنذير بالنهى عن مراقبة الكفار والمبالاة بأذاهم والداعي إلى اللّه بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه والسراج المنير بالاكتفاء به فانه من إنارة برهانا على جميع خلقه كان حقيقا ان يكتفى به عن غيره.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 356(1/5310)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ خص المؤمنات بالذكر مع ان نكاح المؤمنين بالكتابيات ايض ا جائز وحكمهن فى الطلاق قبل الدخول مثل حكم المؤمنات ايماء إلى ان اللائق بالمؤمنين ان ينكح المؤمنة دون الكتابية ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ قال البغوي فيه دليل على ان الطلاق قبل النكاح غير واقع لان اللّه رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامراة اجنبية إذا نكحتك فانت طالق أو قال كل امرأة انكحها فهى طالق فنكحها لا يقع الطلاق وهو قول على وابن عباس ومعاذ وجابر وعائشة رضى اللّه عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد ابن جبير وعروة والقاسم وطاءوس والحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار ومجاهد والشعبي وقتادة واكثر أهل العلم وبه قال الشافعي وكذا قولهم فى الاعتاق المعلق بالملك - وروى عن ابن مسعود انه يقع الطلاق وهو قول ابراهيم النخعي واصحاب الرأى اعنى أبا حنيفة وأصحابه وقال ربيعة والأوزاعي ومالك ان عين امراة يقع وان عمم امراة لا يقع وروى عن عكرمة عن ابن عباس انه قال كذبوا على ابن مسعود وان كان قالها فزلة من عالم وان قال فى الرجل ان تزوجت فلانة فهى طالق يقول اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن - واستدل البغوي بحديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاطلاق قبل النكاح - قلت أخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه وقال انا متعجب من الشيخين كيف اهملاه وهو على شرطهما - وقال احمد ان علق طلاق الاجنبية بالنكاح ينعقد وان علق العتاق بالملك فعن احمد فيه روايتان - وقال مالك ان خص بلدا أو قبيلة أو صنفا أو امرأة وعلق طلاقها بالنكاح ينعقد وان عمم مطلقا لا ينعقد - واحتج ابن الجوزي لمذهب احمد بستة أحاديث - أحدها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ليس(1/5311)
على رجل طلاق فيما لا يملك ولاعتاق فيما لا يملك ولا بيع فيما لا يملك - رواه ابن الجوزي من طريق احمد ورواه اصحاب السنن وقال الترمذي هو احسن شىء روى فى هذا الباب ورواه البزار بلفظ لاطلاق قبل نكاح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 357
و لا عتق قبل ملك - قال البيهقي فى الخلافيات قال البخاري هذا أصح شىء فى الباب - ثانيها حديث عمرو بن شعيب عن طاؤس عن معاذ بن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يجوز طلاق ولا عتاق ولا بيع ولا وفاء نذر فيما لا يملك - رواه الدار قطنى وروى الدار قطنى من طريق اخر عن ابراهيم أبى إسحاق الضرير عن يزيد بن عياض عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا طلاق الا بعد نكاح وان سميت المرأة بعينها قال الحافظ ابن حجر منقطع ويزيد بن عياض متروك وذكر الذهبي فى استيعاب اسماء الرجال قال مالك يزيد بن عياض كذاب وقال يحيى بن معين ضعيف ليس بشئ وقال احمد بن صالح كان يضع للناس يعنى الحديث وقال البخاري ومسلم منكر الحديث وقال أبو داود ترك حديثه وقال النسائي متروك وقال فى موضع اخر كذاب - ثالثها ما رواه الدار قطنى قال حدثنا بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان عن أبى ثعلبة الخشني قال قال لى عم لى اعمل بي عملا حتى أزوجك لبنتى فقلت ان تزوجتها فهى طالق ثلاثا ثم بد إلى ان أتزوجها فاتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فسالته فقال لى تزوجها فانه لاطلاق الا بعد نكاح فتزوجتها فولدت لى اسعد وسعيدا - قال الذهبي فى الميزان قال النسائي وغيره بقية بن الوليد إذا قال حدثنا وأخبرنا فهو ثقة قال غير واحد كان مدلسا فإذا قال عن فليس بحجة وثور بن يزيد ثقة صحيح الحديث مشهور بالقدر وهذا رواية بقية بلفظ عن وطعن ابن همام على هذا وقال فيه على بن قرين كذبه احمد قلت ما رواه ابن الجوزي ليس من طريق الدار قطنى وليس فيه على بن قرين و(1/5312)
اللّه اعلم.
رابعها حديث ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه سئل عن رجل انه قال يوم أتزوج فلانة فهى طالق قال طلق ما لا يملك - رواه الدار قطنى وفيه أبو خالد الواسطي وهو عمرو بن خالد قال الذهبي ضعفه أبو حاتم وقال ابن همام قال احمد وابن معين كذاب ورواه ابن عدى عن نافع عنه بلفظ لا طلاق الا بعد نكاح قال ابن حجر اسناده ثقات.
خامسها حديث طاؤس عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 358
لا نذر الا فيما اطيع اللّه فيه ولا يمين فى قطعة رحم ولا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك رواه الدار قطنى ورواه الحاكم من طريق اخر وفيه من لا يعرف كذا قال ابن حجر وروى الحاكم عن ابن عباس ما قالها ابن مسعود وان كان قالها فزلة من عالم فى الرجل يقول ان تزوجت فلانة فهى طالق وقد قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن - وقيل لا يصح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا طلاق قبل نكاح وأصح شىء فيه حديث المنكدر عن طاؤس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسلا.(1/5313)
سادسها حديث عائشة قالت بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان ابن حرب على نجران اليمن فكان فيما عهد إليه ان لا يطلق الرجل ما لا يتزوج ولا يعتق ما لا يملك - قال ابن حجر قال ابن أبى حاتم فى العلل حديث منكر ورواه الحاكم من طريق الحجاج ابن منهال عن هشام الدستوائى عن عروة عن عائشة مرفوعا قال ابن الجوزي وقد روى نحو هذا من حديث على وجابر ولكنها طرق مجتنبة بمرة - قلت اما حديث على فرواه ابن ماجة عنه يرفعه لا طلاق قبل النكاح وفيه جويبر وهو ضعيف واما حديث جابر فقد ذكرنا من قبل وفى الباب حديث المسور بن مخرمة انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل الملك - وجه قول أبى حنيفة ان المعلق بالشرط ليس بطلاق فان التعليق بالشرط مانع من ان يكون السبب سببا دون الحكم فقوله ان دخلت الدار فانت طالق وكذا قوله ان نكحتك فانت طالق يمين مانع من دخول الدار ومن النكاح الذين هما شرطان لوجود الطلاق فهو مانع من الطلاق فلا يصلح ان يكون سببا موجبا للطلاق لتمانع الوصفين اعنى كونه مانعا وكونه سببا لكن له عرضة ان يصير طلاقا عند الحنث وهو وجود الشرط وإذا لم يكن طلاقا فلا يجوز الاحتجاج بالآية والأحاديث الناطقة بنفي الطلاق قبل النكاح واما حديث ابن عمر وحديث أبى ثعلبة الخشني فلا يصح شىء منهما وقد ذكرنا وجه القدح فيهما فان قيل إذا لم يكن المعلق بالشرط طلاقا فما وجه الفرق بين قوله للاجنبية ان دخلت الدار فانت طالق وان نكحتك فانت طالق حيث ينعقد الثاني دون الأول قلنا وجه الفرق ان اليمين ما يكون مانعا من الفعل اما بخوف الإثم كما فى اليمين باللّه تعالى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 359(1/5314)
و اما بخوف الوقوع فيما لا يريد من الطلاق أو العتاق أو نحو ذلك ولا شك ان تعليق الطلاق والعتاق بالملك يصلح مانعا من التملك بخلاف تعليق الطلاق والعتاق للاجنبية بدخول الدار حيث لا يصلح ان يكون مانعا لها من دخول الدار فلا يصلح ان يكون يمينا كما لا يصلح ان يكون طلاقا فيلغو - قال ابن همام ومذهبنا مروى عن عمرو ابن مسعود وابن عمرو أخرج ابن أبى شيبة فى مصنفه عن سالم والقاسم ابن محمد وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والزهري والأسود وابى بكر بن عبد الرحمان ومكحول الشامي فى رجل قال ان تزوجت فلانة فهى طالق أو لو أتزوجها فهى طالق أو كل امرأة أتزوجها فهى طالق قالوا هو كما قال وفى لفظ يجوز عليه ذلك وقد نقل مذهبنا أيضا عن سعيد بن المسيب وعطاء وحماد بن أبى سليمان وشريح رحمهم اللّه وقال الشافعي المعلق بالشرط تطليق والتعليق ليس مانعا من سببية السبب بل هو مانع من الحكم كالبيع بشرط الخيار وحديث أبى ثعلبة الخشني نص فيه مفسر وقد ذكره ابن الجوزي بسنده ولم يتعرض بالطعن عليه وهو غير متهم فى اظهار الحق وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا طلاق قبل النكاح وما فى معناه الظاهر انه منع أو نفى لتعليق الطلاق بالنكاح واما تنجيز الطلاق قبل النكاح فلا يتصور من عاقل وبطلانه ظاهر فلا يحمل عليه كلام الحكيم الرسول الكريم صلى اللّه عليه وسلم فانه حينئذ فى قوة قول من يقول لا يجب الصلاة على من لم يولد بعد - مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أى تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ايام يتربصن فيها تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها هذا حكم اجمع عليه الامة وفى قوله تعالى فما لكم دلالة على ان العدة حق الرجال لانها لصيانة الماء وعدم وقوع الشك فى النسب والنسب إلى الرجال - ومن هاهنا قال أبو حنيفة انه إذا طلق ذمى ذمية وكان معتقدهم انه لا عدة فلا عدة عليها واما إذا كان معتقدهم وجوب العدة يجب عليها(1/5315)
العدة والحربية إذا خرجت إلينا مسلمة فلا عدة عليها وان تزوجت على الفور جاز نكاحها لان الحربي يلحق بالجمادات حتى كان محلا للتملك فلا حق له الا ان تكون حاملا لان فى بطنها ولد ثابت النسب - وعن أبى حنيفة انه يجوز النكاح ولا يطاها كالحبلى من الزنى والاول أصح فَمَتِّعُوهُنَّ أى أعطوهن
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 360
ما يستمتعن به قال ابن عباس هذا إذا لم يسم
لها صداقا فلها المتعة فان كان قد فرض لها صداق فلها نصف الصداق ولا متعة لها فالاية على قول ابن عباس مخصوصة وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ومرجع القولين واحد يعنى لا متعة وجوبا ولا استحبابا لمن طلّقت قبل المسيس وقد سمى لها مهرا - وقيل هذا امر ندب فالمتعة لها مستحب مع نصف المهر وروى عن الحسن وسعيد بن جبير ان المتعة لها واجب بهذه الآية ونصف المسمّى بما فى البقرة وقد ذكرنا الخلاف فى وجوب المتعة واستحبابها ومقدارها فى سورة البقرة فلا نعيده وَسَرِّحُوهُنَّ أى اخرجوهن من بيوتكم وخلوا سبيلهن إذ ليس لكم عليهن من عدة سَراحاً جَمِيلًا (49) من غير ضرار ..(1/5316)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يعنى مهورهن لان المهر اجر على البضع وتقييد الاحلال له بإعطائها انما هو خرج على حسب الواقع ومخرج عادة النبي صلى اللّه عليه وسلم فانه كان يعطهن مهورهن معجلة أو لايثار الأفضل ولا مفهوم له اجماعا وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ يعنى رد اللّه عليك من الكفار بان تسبى فتملك مثل صفية وجويرية وهذا القيد ليس للاحتراز أيضا ولا مفهوم لها عند القائلين بالمفهوم لان مارية أم ابراهيم لم تكن مسبية بل كانت مما اهدى إليه مقوقس وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعنى نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعنى نساء بنى زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وكلمة مع للموافقة فى نفس الفعل لا بحسب الزمان كما فى قوله تعالى سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
و المراد المهاجرات مطلقا قال البغوي فمن لم يهاجر منهن لم يجز نكاحها أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من طريق السدى عن أبى صالح عن ابن عباس عن أم هانى بنت أبى طالب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة خطبنى فاعتذرت إليه فعذرنى فانزل اللّه هذه الآية فلم أحل له لانى لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقا « 1 »
_________
(1) وعن أبى صالح مولى أم هانى قال خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم هانى بنت أبى طالب فقالت يا رسول اللّه انى مرتمة وبنى صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه فقال اما الان فلا ان اللّه انزل علىّ يايّها النّبىّ انّا أحللنا لك أزواجك إلى قوله الّتى هاجرن معك ولم تكن من المهاجرات - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 361(1/5317)
و روى ابن أبى حاتم من طريق إسماعيل بن أبى خالد عن أبى صالح عن أم هانى قالت نزلت فىّ هذه الآية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يتزوجنى فنهى عنى إذ لم أهاجر - قال البغوي ثم نسخ شرط الهجرة فى التحليل وقيل المراد بالهجرة الإسلام أى اسلمن معك قال رسول اللّه المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه - رواه البخاري وبتأويلهم ذلك يدل على انه لم يكن نكاح غير المسلمة من اليهودية والنصرانية حلالا له عليه الصلاة والسلام وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ قال البغوي فاما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها له واختلفوا فى انه هل كان حلالا له نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر فذهب جماعة إلى انه لا يحلّ له ذلك لقوله تعالى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وقد ذكرنا تأويل بعضهم قوله تعالى اللَّاتِي هاجَرْنَ معك بالإسلام شرط مستغن عن الجزاء بما مضى وقوله وامرأة منصوب بفعل فسره ما قبله يعنى ونحل لك امراة مؤمنة أو عطف على ما سبق ولا يدفعه التقييد بان التي للاستقبال فان معنى الاحلال الاعلام بالحل أى أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب نفسها لك ولا تطلب مهرا ان اتفق ولذلك نكرها إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها شرط للشرط الأول معنى تقديره ان أراد النّبىّ ان يستنكح الواهبة نفسها أحللنا له ان وهبت نفسها فان هبتها نفسها شطر للنكاح فانها بمنزلة الإيجاب منها لا توجب له حلها ما لم يرد النبي نكاحها فانها جارية مجرى القبول بها يتم النكاح فالحل موقوف على كلا الشرطين وهما شطرا العلة أى النكاح والعدول من الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا ثم الرجوع إليه بقوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حيث يجب عليهم المهر بالوطى أو الموت وان لم يذكر إيذان بانه مما خص به لشرف نبوته وتقرير(1/5318)
لاستحقاق الكرامة لاجله وخالصة مصدر مؤكد على وزن عافية أى خلص إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك وهذا التأويل انما يتصور إذا كانت القيود احترازية والظاهر انه حال من الضمير فى وهبت والمعنى انه وهبت حال كونها خالصة لك بلا مهر أو صفة لمصدر محذوف أى هبة خالصة - أخرج ابن سعد عن عكرمة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 362
فى قوله تعالى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية قال نزلت فى أم شريك الدوسية واخرج ابن سعد عن منير بن عبد اللّه الدوسي ان أم شريك عزية بنت جابر بن حكيم الدوسي عرضت نفسها على النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانت جميلة فقبلها فقالت عائشة ما فى امراة حين تهب نفسها لرجل خير قالت أم شريك فانا تلك فسماها اللّه مؤمنة فقال وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فلمّا نزلت هذه الآية قالت عائشة ان اللّه يسرع لك فى هواك.(1/5319)
اخرج ابن سعد عن أبى رزين قال همّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يطلق من نسائه فلمّا راين ذلك جعلنه فى حل من انفسهن يؤثر من يشاء على من يشاء منهن فانزل اللّه تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية وقوله تعالى خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على انه كان من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم ان ينعقد النكاح فى حقه بغير مهر وذلك هو المراد بقوله تعالى إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ يعنى ان زوجت نفسها بغير مهر كما ان الزيادة على اربع من النساء كان من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم وقيل هذه الآية تدل على ان انعقاد النكاح بلفظ الهبة كان من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا يجوز ذلك لغيره قال البغوي وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي قالوا لا ينعقد النكاح لغير النبي صلى اللّه عليه وسلم الا بلفظ النكاح والتزويج - قلت وبه قال احمد وذكر فى ترجمة الآية فى اختلاف الائمة قول احمد انه ينعقد النكاح بلفظ الهبة مع ذكر المهر - وقال أبو حنيفة رح انعقاد النكاح بلفظ الهبة ليس من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم بل يجوز نكاح كل أحد بلفظ الهبة والبيع والصدقة والتمليك وكل لفظ وضع لتمليك العين مؤبدا ولا يجوز بلفظ الاجارة والاعارة وقال الكرخي يجوز بلفظ الاجارة والاعارة أيضا لان الثابت بهما تمليك المنفعة وذلك فى النكاح أيضا وقد اطلق اللّه سبحانه لفظ الاجرة على المهر حيث قال أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ قلنا الاجارة والاعارة ليسا سببين لملك المتعة فلا طريق للاستعارة هناك ولا بلفظ الوصية لانها توجب الملك مضافا إلى ما بعد الموت وعن الطحاوي انه ينعقد به النكاح لأنه يثبت به ملك الرقبة فى الجملة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 363(1/5320)
و عن الكرخي انه قيد الوصية بالحال فان قال أوصيت لك بنتي هذه الان ينعقد لأنه صاربه مجازا عن التمليك قلنا الاضافة ماخوذ فى مفهوم الوصية وعدمه فى النكاح فيتضادان - وقال قوم لا ينعقد النكاح الا بلفظ النكاح أو التزويج فى حق النبي صلى اللّه عليه وسلم أيضا كما لا يصح فى حق الامة لقوله تعالى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وانما اطلق لفظ الهبة فى الآية على النكاح مجازا.(1/5321)
قال البيضاوي محتجا بهذه الآية على مذهب الشافعي ان اللفظ تابع للمعنى وقد خص النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمعنى اجماعا وهذا القول غير سديد فان جواز اطلاق لفظ الهبة فى النكاح انما هو بطريق المجاز ولا وجه لتخصيص التكلم بالمجاز بحضرة الرسالة صلى اللّه عليه وسلم والنكاح يصلح ان يكون معنى مجازيا للفظ الهبة ولا اختصاص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم لمعناه المجازى - فان قيل معناه الحقيقي غير مراد فى الآية البتة لان المعنى الحقيقي للهبة تمليك العين وهو غير مراد بل المراد تمليك البضع بغير عوض فإذا اختص به معناه المجازى واللفظ تابع للمعنى فلا يجوز لغيره صلى اللّه عليه وسلم النكاح بلفظ الهبة مجازا - قلنا المعنى المجازى للهبة غير منحصر فى تمليك البضع بغير عوض بل يجوز ان يطلق لفظ الهبة وأريد به تمليك البضع مطلقا سواء كان بعوض أو بغير عوض وقال ابن همام انما الكلام فى تحقق طريق المجاز فنفاه الشافعي بناء على انتفاء ما يجوز به التجوز اما اجمالا فلانه لو وجد لصح ان يتجوز بلفظ كل منهما عن الاخر بان يقال نكحتك هذا الثوب مرادا به وهبتك أو ملكتك وليس فليس واما تفصيلا فلان التزويج هو التلفيق وضعا والنكاح الضم ولا ضم ولا ازدواج فى المالك والمملوك ولذا يفسد النكاح عند ورود ملك أحد الزوجين على الاخر ولو كان لم ينافه تأكد به - ولنا على الشافعي اولا النقض الإجمالي وهو انه لو لا العلاقة المصححة للمجاز بين الهبة والنكاح لما جاز نكاح النبي صلى اللّه عليه وسلم بلفظ الهبة وذلك جائز ولمّا ثبت العلاقة المصححة للمجاز بينهما وبين النكاح بلا عوض ثبت بينها وبين مطلق النكاح أيضا لوجود الأعم فى ضمن الأخص وثانيا ان معنى الحقيقي للهبة تمليك العين وتمليك العين سبب لملك المتعة فى محلها بواسطة ملك الرقبة وملك المتعة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 364(1/5322)
فى محلها هو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز - واما عدم جواز استعارة النكاح لتمليك العين فلما ذكر فى الأصول انه لا يجوز استعارة اسم المسبب للسبب عندنا الا إذا كان المقصود من السبب شرعيته كالبيع لملك الرقبة وليس ملك المتعة الذي هو موجب النكاح هو المقصود من التمليك بل ملك الرقبة - وقوله لا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوك ممنوع واللّه اعلم.
قال البغوي اختلفوا فى انه هل كانت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له قال ابن عباس ومجاهد لم تكن عنده امراة الا بعقد نكاح أو ملك يمين وقوله ان وهبت نفسها للنّبىّ على طريق الشرط والجزاء وقال آخرون كانت عنده منهن قال الشعبي هى زينب بنت خزيمة الانصارية يقال لها أم المساكين وقال قتادة ميمونة بنت الحارث وقال على بن الحسين عليهما السّلام والضحاك ومقاتل هى أم شريك بنت جابر من بنى اسد أخرج ابن سعد وابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن على بن الحسين وابن سعد عن عكرمة انها أم شريك بنت جابر وقال عروة بن الزبير هى خولة بنت حكيم من بنى سليم.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا أى ما أوجبنا عَلَيْهِمْ أى على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ من شرائط النكاح ووجوب القسم والمهر بالوطى حيث لم يسم وان لا يتزوجوا اكثر من اربع وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء وغيره بان يكون الامة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية وان يستبرا قبل الوطي وما وسع اللّه الأمر فيهن فى العدد وعدم وجوب القسم والجملة معترضة لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متعلقة بقوله خالصة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما يعسّر التحرز عنه رَحِيماً (50) بالتوسعة فى مضانّ الحرج.
اخرج الشيخان فى الصحيحين عن عائشة انها كانت تقول اما تستحيى المرأة ان تهب نفسها فانزل اللّه.(1/5323)
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الآية فقالت عائشة ارى ربك ليسارع لك فى هواك وفى لفظ قالت عائشة كنت أعار على اللاتي وهبن انفسهن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقول أ تهب المرأة نفسها فلما انزل اللّه تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية قلت ما ارى ربك الا يسارع فى هواك - قرأ نافع وحمزة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 365(1/5324)
و الكسائي وحفص ترجى بإسكان الياء بغير همز والباقون بهمزة مضمومة أى تؤخر من تشاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ منهن قال البغوي اختلف المفسرون فى معنى الآية فاشهر الأقاويل انها فى القسم بينهن وذلك ان التسوية فى القسم بينهن كان واجبا عليه فلمّا نزلت هذه الآية سقط عنه فصار الاختيار إليه فيهن قال أبو زيد وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى اللّه عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن النبي صلى اللّه عليه وسلم شهرا حتى نزلت اية التخيير فامره اللّه عزّ وجلّ ان يخيرهن بين الدنيا والاخرة وان يخلى سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت اللّه ورسوله على انهن أمهات المؤمنين فلا ينكحن ابدا وعلى انه يؤوى إليه من يشاء منهن ويرجى من يشآء منهن فيرضين به قسم لهنّ أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أو فضّل بعضهن فى النفقة والقسم فيكون الأمر فى ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط - قلت وليس هذا من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم بل الحكم كذلك فى الامة أيضا فمن كان تحته نساء وقال لهن من شاء منكن حقوق النكاح من النفقة والتسوية فى القسم فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا ومن رضى منكنّ ان تبقى فى نكاحى بلا مطالبة فى النفقة على ان أؤاوي الىّ من أشاء منكن وأرجى منكن من أشاء سواء اقسم لكن أو لم اقسم أو اقسم لبعض دون بعض أو أفضل بعضكن على بعض فى النفقة والكسوة والقسم فقلن له نحن نختارك وتركنا حقنا فى النفقة والقسم يكون الأمر فى ذلك إليه يفعل كيف يشآء واللّه اعلم قال البغوي واختلفوا فى انه هل أخرج أحدا منهن عن القسم فقال بعضهم لم يخرج أحدا بل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع ما جعل اللّه له من ذلك يسوى بينهن فى القسمة الاسودة فانها رضيت بترك(1/5325)
حقها من القسم وجعل يومها لعائشة - وقيل أخرج بعضهن روى ابن جرير عن منصور عن أبى رزين قال لما نزل التخيير أشفقن ان يطلقهن فقلن يا رسول اللّه اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ منهن فارجى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 366
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعضهن وأوى إليه بعضهن وكان ممن أوى إليه عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة فكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمسا أم حبيبة وسودة وصفية وميمونة وجويرية وكان يقسم لهن ما يشاء روى البخاري عن معاذة عن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يستأذن فى يوم المرأة منّا بعد ان أنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الآية فقلت لها ما كنت تقولين قالت كنت أقول له ان كان ذاك الىّ فانى لا أريد يا رسول اللّه ان اوثر عليك أحدا - وقال مجاهد معناه ترجى من تشاء منهن يعنى تعزل منهن من تشاء بغير طلاق وتردّ إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد - وقيل معناه تطلّق منهن من تشاء وتمسك منهن من تشاء وقال الحسن معناه تترك نكاح من شئت وتنكح من تشاء من نساء أمتك وقال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره ان يخطبها حتى يتركها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقيل معناه تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي وهبن انفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبل روى البغوي عن هشام عن أبيه قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن انفسهن للنبى صلى اللّه عليه وسلم فقالت عائشة اما تستحيى امراة ان تهب نفسها للرجل فلمّا نزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقلت يا رسول اللّه ما ارى ربك الا يسارع فى هواك - وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أى طلبت وأردت ان(1/5326)
تؤوي إليك امراة ممن عزلتهن عن انفسهن فَلا جُناحَ أى لا اثم عَلَيْكَ فى شىء من ذلك ذلِكَ التفويض إلى مشيتك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أى اقرب إلى قرة أعينهن وعدم حزنهن ورضائهن جميعهن لان حكم كلهن فيه سواء ثم من أويت منهن إليك وجدت ذلك تفضلا ومن عزلت منهن علمت انه بحكم اللّه وعلمت منك تفضلا أيضا حيث أبقيت فى نكاحك من غير حاجة منك إليها وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فاجتهدوا فى إحسانه وفيه وعيد لمن لم ترض منهن بمشية رسوله صلى اللّه عليه وسلم - وقيل معناه اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من امر النساء والميل إلى بعضهن وانما خيرناك فيهن تيسيرا لك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً (51) لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 367
بان يتقى أخرج ابن سعد عن عكرمة قال لما خيّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أزواجه واخترن اللّه ورسوله انزل اللّه تعالى.(1/5327)
لا يَحِلُّ قرأ أبو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية لان تأنيث الجمع غير حقيقى لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أى بعد هذا اليوم حتى لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح اخرى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل حذفت احدى التاءين من مضارع التفعل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ من مزيدة لتأكيد النفي يعنى لا يجوز لك ان تطلق منهن واحدة وتنكح مكانها اخرى قال البغوي وذلك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما خيرهن واخترن اللّه ورسوله شكرهن اللّه وحرم على نبيه من النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن والاستبدال بهن وهذا قول ابن عباس وقتادة - واختلفوا فى انه هل أبيح له من بعد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد واحمد وعبد بن حميد وأبو داؤد فى ناسخه والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت لم يمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحل اللّه ان يتزوج من النساء ما شاء الا ذات محرم بقوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فان تلك الآية وان تقدمها قراءة مسبوق بها نزولا - واخرج ابن أبى حاتم عن أم سلمة مثله واخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله وذكر البغوي قول انس مات رسول اللّه على التحريم - وقال البغوي قال عكرمة والضحاك معنى الآية لا يحل لك النساء بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها وقيل لابى بن كعب لو مات نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم كان له ان يتزوج قال وما يمنعه من ذلك قيل قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال انما أحل اللّه له ضربا من النساء فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية ثم قال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ - قال أبو صالح أمران لا يتزوج اعرابية ولا عربية ويتزوج من نساء قومه من بنات العمّ وبنات(1/5328)
العمّة وبنات الخال وبنات الخالة ان شاء ثلاث مائة وقال مجاهد لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا ان تبدل بالمسلمات غيرهن يقول لا يكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية الا ما ملكت يمينك أحل له
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 368
ما ملكت يمينه من الكتابيات ان يتسرى بهن - وروى عن الضحاك معنى ان تبدّل بهن أى ولا ان تبدل بازواجك اللاتي فى حبالتك أزواجا غيرهن بان تطلقهن وتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللاتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين اخترنه فاما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه وقال ابن زيد فى قوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ انهم كانوا يتبادلون فى الجاهلية بأزواجهم يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتى بان تنزل لى عن امرأتك وانزل لك عن امراتى فانزل اللّه تعالى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ يعنى لا تبادل بازواجك غيرك بان تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته الا ما ملكت يمينك فلا بأس بان تبدل بجاريتك ما شئت واما الحلائل فلا - عن أبى هريرة قال دخل عيينة بن حصين على النبي صلى اللّه عليه وسلم بغير اذن وعائشة رضى اللّه عنها عنده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاين الاستيذان قال يا رسول اللّه ما استأذنت على رجل من مصر منذ أدركت ثم قال من هذه الحميرى إلى جنبك قال هذه عائشة أم المؤمنين قال عيينة أ فلا انزل لك عن احسن الخلق فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تعالى قد حرّم ذلك فلمّا خرج قالت عائشة من هذا يا رسول اللّه قال هذا أحمق مطاع وانه على ما ترين لسيد قومه وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أى حسن الأزواج المستبدلة وهو حال من فاعل تبدل دون مفعوله وهو قوله من ازواج لتوغله فى التنكير وتقديره مفروضا إعجابك بهن قال البغوي يعنى ليس لك ان تطلق أحدا من نسائك وتنكح بدلها اخرى ولو أعجبك جمالها قال ابن عباس(1/5329)
انها بنت عميس الخثعمية امراة جعفر بن أبى طالب رضى اللّه عنه فلمّا استشهد جعفر أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يخطبها فنهى عن ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ محل ما الرفع استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء وقيل
الاستثناء منقطع قال ابن عباس ملك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك مارية يعنى أم ابراهيم وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52) فتحفظوا أمركم ولا تتجاوزوا عمّا حد لكم.
(مسئلة) قال البغوي فى الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 369
من النساء عن جابر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا خاطب أحدكم امرأة فان استطاع ان ينظر إلى ما يدعوا إلى نكاحها فليفعل رواه أبو داود وعن المغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكما - رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وعن أبى هريرة ان رجلا أراد ان يتزوج امرأة من الأنصار فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم انظر إليها فان فى أعين نساء الأنصار شىء - رواه مسلم قال الحميدي فان فى أعينهن صفرة واللّه اعلم.
اخرج الشيخان فى الصحيحين عن انس قال لمّا تزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فإذا كأنَّه يتهيؤا للقيام فلم يقوموا فلمّا راى ذلك قام فلمّا قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم انهم قاموا فانطلقت فجئت فاخبرت النبي صلى اللّه عليه وسلم انهم انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت ادخل فالقى الحجاب بينى وبينه فانزل اللّه تعالى.(1/5330)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية وذكر البغوي حديث ابن شهاب عن انس انه كان ابن عشر سنين مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة قال أمهاتي يواطينى على خدمة النبي صلى اللّه عليه وسلم فخدمته عشر سنين وتوفى النبي صلى اللّه عليه وسلم وانا ابن عشرين سنة وكنت اعلم الناس بشأن الحجاب حين نزل كان أول ما نزل فى مبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح النبي صلى اللّه عليه وسلم بها عروسا فدعى القوم فاصابوا من الطعام الحديث - فذكر مثل رواية البخاري وفى رواية للبخارى قال انس كنت اعلم الناس بهذه الآية اية الحجاب لما أهديت زينب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم كانت معه فى البيت صنع طعاما ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فانزل اللّه تعالى تلك الآية وضرب الحجاب وقام القوم - وفى رواية له قال انس أو لم حين بنى النبي صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم فارسلت على الطعام داعيا فيجئ القوم فياكلون ويخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 370(1/5331)
فدعوت حتى ما أجد أحدا ادعوه فقلت يا نبى اللّه ما أجد أحدا ادعوه فقال ارفعوا طعامكم وبقي ثلاثة رهط يتحدثون فى البيت فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه فقالت وعليك السّلام ورحمة اللّه كيف وجدت أهلك بارك اللّه لك فذهب إلى حجر نسائه كلّهن يقول لهن كما قال لعائشة ويقلن له كما قالت ثم رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم فإذا ثلثة رهط فى البيت يتحدثون وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم شديد الحياء فخرج منعطفا نحو حجرة عائشة فما أدرى أخبرته أو اخبر ان القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله فى أسكفة الباب داخلة والاخرى خارجة ارخى الستر بينى وبينه ونزلت اية الحجاب - وفى رواية للبخارى قال انس أو لم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين بنى بزينب فاشبع الناس خبزا ولحما ثم خرج إلى حجرات أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويدعو لهن ويسلمن عليه ويدعون له فلمّا رجع هو إلى بيته راى رجلين جرى بينهما الحديث فلمّا راهما رجع عن بيته فلمّا راى الرجلان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاموا فرجع حتى دخل البيت وارخى الستر بينى وبينه. واخرج الترمذي وحسنه عن انس قال كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتى باب امراة عرس بها فإذا عندها قوم فانطلق ثم رجع وقد خرجوا فدخل وارخى بينى وبينه سترا فذكرته لابى طلحة فقال لان كان كما تقول لينزلن فى هذا شىء فنزلت اية الحجاب.(1/5332)
و أخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت كنت أكل مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قعب فمرّ عمر فدعاه فاكل فاصابت إصبعه إصبعي فقال اوّه لو أطاع فيكن ما راتكن عين فنزلت اية الحجاب - وكذا أخرج البخاري فى الأدب المفرد والنسائي واخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال دخل رجل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فاطال الجلوس فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل فدخل عمر فراى الكراهية فى وجهه فقال للرجل ولعلّك آذيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لقد قمت ثلاثا لكى يتبعنى فلم يفعل فقال له عمر يا رسول اللّه لو اتخذت حجابا فان نساءك لسن كسائر
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 371(1/5333)
النساء وذلك اطهر لقلوبهم فنزلت اية الحجاب - وقد مرّ فى سورة البقرة ما رواه البخاري وغيره عن عمر قال وأفقت « 1 » ربى فى ثلاث فقلت لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت يا رسول اللّه ان نسائك يدخل عليهن البر والفاجر فلو امرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساؤه من الغيرة فقلت لهن عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك - وكذا أخرج النسائي من رواية انس وذكر البغوي نحوه عن ابن عباس وقال البغوي وقد صح فى سبب نزول اية الحجاب ان ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المصانع وهو صعيد افيح وكان عمر يقول للنبى صلى اللّه عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة ذات ليلة من الليالى عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ان قد عرفناك حرصا على ان ينزل الحجاب فانزل اللّه تعالى الحجاب - قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بان ذلك وقع قبيل قصة زينب فلقربه منها اطلق نزول الآية بهذا السبب ولا مانع من تعدد السبب - إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء مفرغ منصوب على الظرف أو على المصدر أو على الحال يعنى لا تدخلوا فى وقت الا وقت ان يؤذن لكم أو لا تدخلوا دخولا الا دخولا مأذونا لكم أو لا تدخلوا فى حال الا حال ان يؤذن لكم إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن لتضمنه معنى يدعى وفيه اشعار بانه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وان اذن كما هو اشعار فى قوله تعالى غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أى غير منتظرين وقت نضجه حال من فاعل لا تدخلوا أو المجرور فى لكم داخل فى الاستثناء أى لا تدخلوا الا بإذن والا غير ناظرين وهذا الاستثناء مختص بمن أراد الدخول لاجل
_________
((1/5334)
1) عن ابن مسعود قال فضل على الناس عمر بن الخطاب بأربع بذكره الأسارى يوم بدر امر بقتلهم فانزل اللّه لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية وبذكره الحجاب امر نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يحتجبن فقالت له زينب انك لتغار علينا يا ابن الخطاب والوحى ينزل فى بيوتنا فانزل اللّه تعالى وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وبدعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم اللهم أيد الإسلام بعمر وبرأيه فى أبى بكر كان أول الناس من بايعه - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 372(1/5335)
الطعام لا مطلقا - امال حمزة « و هشام وخلف وقلله ورش من طريق الأزرق - أبو محمد » والكسائي اناه فهو حينئذ مصدر انى الطعام إذا أدرك يقال انى الحميم إذا انتهى حره وانى ان يفعل كذا أى حان وقال البغوي انى بكسر الهمزة مقصورة فاذ فتحتها مددتّ وقلت الإناء وفيه لغتان انى يأنى مثل رمى يرمى وان يئين مثل باع يبيع وفى القاموس انى الشيء يأنى أينا واناء وانا بالكسر فهو انى كغنى حان وأدرك وانى الحميم انتهى حره فهو ان وبلغ هذا اناه يعنى بالفتح وبكسر يعنى بلغ غايته أو نضجه أو إدراكه وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ يعنى أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا يعنى تفرقوا واخرجوا من منزله ولا تمكثوا بعد الاكل وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ مجرور معطوف على ناظرين أو منصوب أى لا تدخلوها مستأنسين وقيل تقديره ولا تمكثوا مستأنسين فهو عطف جملة على جملة نهوا ان يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لاجل حديث يحدثه به إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضيق المنزل عليه وعلى اهله واشتغاله بما لا يعنيه تعليل لما سبق فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ولا يخرجكم عطف على الجملة الاسمية السابقة وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ عطف أو حال أو معترضة أى لا يترك اللّه تأديبكم حياء فان التأديب حق وقال البيضاوي يعنى إخراجكم حق فينبغى ان لا يترك حياء كما لا يترك اللّه الحق فيأمركم بالخروج وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أى نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم لدلالة بيوت النبي عليهن لان فيها نساؤه مَتاعاً أى شيئا ينتفع به استعارة أو استيهابا أو ردّا للعارية فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ أى الستر الجملة الشرطية معطوفة على قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ قال البغوي فبعد اية الحجاب لم يكن لاحد ان ينظر إلى امرأة من نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة(1/5336)
ذلِكُمْ أى السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر الشيطانية الجملة تعليل لما سبق.
اخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد قال بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم ان رجلا يقول لو توفى النبي صلى اللّه عليه وسلم تزوجت فلانة من بعده فنزلت وَما كانَ أى ما صح لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أى تفعلوا ما يكرهه وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أى من بعد وفاته أو فراقه أَبَداً واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 373(1/5337)
قال نزلت فى رجل همّ ان يتزوج بعض نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم بعده - قال سفيان ذكر انها عائشة واخرج عن السدىّ قال بلغنا ان طلحة بن عبيد اللّه قال أ يحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا لان حدث حدث لنتزوجن نساءه من بعده فانزلت هذه الآية - واخرج ابن سعد عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال نزلت فى طلحة بن عبيد اللّه لأنه قال إذا توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوجت عائشة - واخرج جويبر عن ابن عباس ان رجلا اتى بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال يا رسول اللّه انها ابنة عمى واللّه ما قلت لها منكرا ولا قالت لى قال النبي صلى اللّه عليه وسلم قد عرفت ذلك انّه ليس أحدا غير من اللّه وانّه ليس أحدا غير منى فمضى فقال يمنعنى من كلام ابنة عمى لا تزوجها من بعده فانزل اللّه تعالى هذه الآية - قال ابن عباس فاعتق ذلك الرجل رقبة وحمل عشرة ابعرة فى سبيل اللّه وحج ماشيا توبة من كلمته - قال البغوي روى معمر عن الزهري ان العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى اللّه عليه وسلم تزوجت رجلا وولدت له وذلك قبل تحريم ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم على الناس قال البيضاوي خصت التي لم يدخل بها النبي صلى اللّه عليه وسلم - روى ان الأشعث بن قيس تزوج المستعيذة فى ايام عمر رضى اللّه عنه فهم عمر برجمها فاخبر انه صلى اللّه عليه وسلم فارقها قبل ان يمسها فتركه من غير نكير إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) أى ذنبا عظيما قلت وجاز ان يكون ذلك لاجل ان النبي صلى اللّه عليه وسلم حىّ فى قبره ولذلك لم يورث ولم يتئم أزواجه عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى علىّ عند قبرى سمعته ومن صلّى علىّ نائيا أبلغته رواه البيهقي فى شعب الايمان.(1/5338)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من أذى النبي صلى اللّه عليه وسلم أو من نكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ فى أنفسكم قال البغوي نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة رضى اللّه عنها بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54) تعليل لجزاء محذوف أقيم مقامه تقديره يعلمه اللّه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيجازيكم عليه وفى هذا التعميم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 374
و البرهان على المقصود بعد التصريح بالنهى عن نكاحهن مزيد تهويل ومبالغة فى الوعيد ولذلك أعتق ذلك الرجل الذي هم بنكاح بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم رقبة وحمل عشر ابعرة فى سبيل اللّه وحج ماشيا توبة من كلمته كما مر فى حديث ابن عباس قال البغوي ولما نزلت اية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب فانزل اللّه تعالى.(1/5339)
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ أى فى ترك الاحتجاب من ابائهن وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وانما لم يذكر العم والخال لأنه لما ذكر أبناء اخوانهن وأبناء أخواتهن يظهر بدلالة النص حكم الأعمام والأخوال لانهن عمات بالنسبة إلى أبناء الاخوة وخالات بالنسبة إلى أبناء الأخوات والعم والعمة من جنس واحد كالخال والخالة روى البخاري عن عروة بن الزبير ان عائشة قالت استأذن أفلح أخ أبى القعيس بعد ما انزل الحجاب فقلت لا اذن حتى استأذن فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فان أخاه أبا القعيس ليس هو ارضعنى ولكن أرضعتني امرأة أبى القعيس فدخل علىّ النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه ان أفلح أخا أبى القعيس استأذن فابيت ان اذن له حتى استأذنك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم تأذنين عمك قلت يا رسول اللّه ان الرجل ليس هو ارضعنى ولكن أرضعتني امرأة أبى القعيس فقال ائذني له فانه عمك تربت يمينك - قال عروة فلذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما تحرموا من النسب وَلا نِسائِهِنَّ يعنى مؤمنات حرائر وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة كما ذكرنا فى سورة النور وَاتَّقِينَ اللَّهَ هذه الجملة معطوفة على مضمون لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ يعنى وَاتَّقِينَ اللَّهَ فى البروز للاجانب وفى كل ما امرتن به وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لمزيد التأكيد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من افعال العباد شَهِيداً (55) فيجازى عليه.(1/5340)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس ان اللّه يرحم النبي صلى اللّه عليه وسلم والملائكة يدعون له - وعن ابن عباس أيضا يصلون أى يبركون وقيل الصلاة من اللّه الرحمة ومن الملائكة الاستغفار قال أبو العالية صلوة اللّه عليه ثناؤه عند الملائكة وصلوة الملائكة الدعاء وقد ذكرنا الكلام فى الصلاة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 375(1/5341)
فى قوله تعالى هو الذي يصلّى عليكم وملئكته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ادعوا له واسئلوا اللّه تعالى ان يرحمه وَسَلِّمُوا عليه تَسْلِيماً يعنى حيوة بتحية السّلام وقولوا السّلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته والآية تدل على وجوب الصلاة والسّلام فى الجملة ولو فى العمر مرة وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما اللّه واختاره الطحاوي قال ابن همام موجب الأمر القاطع الافتراض فى العمر مرة لأنه لا يقتضى التكرار وقلنا به - وقيل يجب فى كل صلوة بعد التشهد فى القعدة الاخيرة وبه قال الشافعي واحمد قال فى رحمة الامة فى اختلاف الائمة الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم فى التشهد الأخير عند أبى حنيفة ومالك سنة وفرض عند الشافعي وقال احمد فى أشهر روايتيه يبطل صلاته بتركها وقال ابن الجوزي فرض عند احمد وعنه انها سنة - وقيل يجب الصّلوة كلما جرى ذكره صلى اللّه عليه وسلم وبه قال الكرخي استدل من يقول بوجوبها فى الصلاة بحديث سهل بن سعد ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا صلوة لمن لم يصل على النبي صلى اللّه عليه وسلم - رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى وفيه عبد المهيمن ابن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال الدار قطنى عبد المهيمن ليس بالقوى وقال ابن حبان لا يحتج به ورواه ابن الجوزي بلفظ لا صلوة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه ولا صلوة لمن لم يصل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا صلوة لمن لم يحب الأنصار - وفيه عبد المهيمن ضعيف لا يحتج به واخرج الطبراني عن أبيّ بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه قالوا حديث عبد المهيمن أشبه بالصواب مع ان جماعة قد تكلموا فى أبيّ بن عباس وبحديث أبى مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلّى صلوة لم يصل فيها علىّ ولا على أهل بيتي لم يقبل منه - رواه ابن الجوزي من طريق(1/5342)
الدار قطنى قال ابن الجوزي وفيه جابر الجعفي ضعيف وقد اختلف فيه فوقفه على ابن مسعود تارة ورفعه اخرى وذكره ابن همام عن ابن مسعود قال قال ابن الجوزي فيه جابر ضعيف وقد اختلف فيه فوقفه تارة ورفعه اخرى وروى الحاكم والبيهقي عن يحيى بن السباق عن رجل من بنى الحارث عن ابن مسعود عنه عليه الصّلوة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 376
و السّلام إذا تشهد أحدكم فليقل اللهم صل على محمد وعلى ال محمد وبارك على محمد وعلى ال محمد وارحم محمدا وال محمد كما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد - قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات الا هذا الرجل الحارثي فينظر فيه قال ابن همام حديث لا صلوة لمن لم يصل علىّ ضعفه أهل الحديث كلهم ولو صح فمعناه كاملة أو لمن لم يصل علىّ فى العمر مرة.(1/5343)
و قال الحافظ ابن حجر أقوى من هذا الحديث حديث فضالة بن عبيد انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا يدعو فى صلاته فلم يصل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال عجّل هذا ثم دعاه ثم قال له ولغيره إذا صلّى أحدكم فليبدا بحمد اللّه والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم ليدع بما شاء رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال ولفظ الترمذي بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال اللهم اغفر لى وارحمني فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عجّلت أيها المصلى إذا صليت فقعدتّ فاحمد اللّه بما هو اهله وصل علىّ ثم ادعه قال ثم صلّى رجل اخر بعد ذلك فحمد اللّه وصلى على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أيها المصلى ادع تجب - رواه الترمذي وروى أبو داؤد والنسائي نحوه قلت ويمكن الاستدلال على وجوب الصلاة على النبي صلى اللّه عليه فى الصلاة بعد التشهد بان المراد بالأمر فى هذه الآية ان يصلى عليه صلى اللّه عليه وسلم فى الصلاة كما ان المراد بقوله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ تكبير التحريمة وبقوله تعالى قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وقوله تعالى واركعوا واسجدوا القيام والركوع والسجود فى الصلاة وبقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ القراءة فى الصلاة يدل على هذا ما رواه البخاري عن كعب بن عجرة وكذا فى حديث أبى سعيد الخدري قيل يا رسول اللّه اما السّلام عليك فقد عرفنا فكيف الصلاة قال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره يعنى قد عرفنا السّلام فى التشهد وهو قوله السّلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته فكيف نصلى حينئذ فعلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله اللهم صل على محمد إلى آخره وقد تلقته الامة بالقبول واجمعوا على جعلها بعد التشهد وان اختلفوا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 377(1/5344)
فى كونها فريضة فعلم بهذا الحديث ان مراد اللّه سبحانه بالأمر فى هذه الآية جعلها بعد التشهد واللّه اعلم.
و استدل من يقول بوجوب الصلاة كلّما جرى ذكره صلى اللّه عليه وسلم بحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رغم انف رجل ذكرت عنده فلم يصل علىّ ورغم انف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل ان يغفر له ورغم انف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة - رواه الترمذي وابن حبان فى صحيحه وحديث جابر بن سمرة عنه صلى اللّه عليه وسلم من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ فدخل النار فابعده اللّه عزّ وجلّ وحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ أتاني جبرئيل من ذكرت عنده فلم يصل عليك فدخل النار فابعده اللّه عز وجل روى الحديثين الطبراني وروى ابن السنى عن جابر مرفوعا بلفظ من ذكرت عنده فلم يصل على فقد شقى - وعن علىّ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علىّ - رواه الترمذي ورواه احمد عن الحسين ابن على رضى اللّه عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب وروى الطبراني بسند حسن عن الحسين بن على رضى اللّه عنهما مرفوعا من ذكرت عنده فخطى الصلاة علىّ خطى طريق الجنة - وروى النسائي بسند صحيح عن انس من ذكرت عنده فليصل علىّ فانه من صلى علىّ صل ى اللّه عليه وسلم عشرا.
((1/5345)
فصل) فى فضل الصلاة والسّلام على النبي صلى اللّه عليه وسلم وكيفيتها عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال لقينى كعب بن عجرة فقال الا اهدى لك هدية سمعتها من النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت بلى فاهدها لى فقال سالنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلنا يا رسول اللّه كيف الصلاة عليكم أهل البيت فان اللّه قد علّمنا كيف نسلم عليك قال قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى ال محمد كما باركت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد - متفق عليه الا ان مسلما لم يذكر على ابراهيم فى الموضعين وعن أبى حميد الساعدي قال قالوا يا رسول اللّه كيف نصلى عليك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولوا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 378(1/5346)
اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صلّيت على ال ابراهيم وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على ال ابراهيم انك حميد مجيد - متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلّى علىّ واحدة صلى اللّه عليه عشرا رواه مسلم وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلّى علىّ صلوة واحدة صلى اللّه عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات - رواه احمد والبخاري فى الأدب والنسائي والحاكم وصححه وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلوة - رواه الترمذي وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان للّه ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى من أمتي السّلام - رواه النسائي والدارمي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من أحد يسلم علىّ الا ردّ اللّه علىّ روحى حتى أرد عليه السّلام - رواه أبو داود والبيهقي فى الدعوات الكبير وعنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبرى عيدا وصلوا علىّ فان صلاتكم يبلغنى حيث كنتم - وعن أبى طلحة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر فى وجهه فقال انه جاءنى جبرئيل فقال ان ربك يقول اما يرضيك يا محمد ان لا يصلى عليك أحد من أمتك الا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك الا سلمت عليه عشرا - رواه النسائي والدارمي.(1/5347)
و عن أبيّ بن كعب قال قلت يا رسول اللّه انى اكثر الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتى قال ما شئت قال الربع قال ما شئت وان زدتّ فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت وان زدتّ فهو خير لك قلت فالثلثين قال ما شئت فان زدتّ فهو خير لك قلت اجعل لك صلاتى كلها قال إذا تكفى همك ويكفر لك ذنبك - رواه الترمذي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سرّه ان يكتال بالمكيال الا وفى إذا صلّى علينا أهل البيت فليقل اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته واهل بيته كما صليت على ابراهيم انك حميد مجيد - رواه أبو داؤد عن عبد اللّه بن عمرو قال من صلّى على النبي صلى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 379(1/5348)
اللّه عليه وسلم واحدة صلى اللّه عليه وملائكته سبعين صلوة - رواه احمد وعن رويفع ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من صلّى على محمّد وقال اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتى - رواه احمد وعن عبد الرحمن ابن عوف قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى دخل نخلا فسجد فاطال السجود حتى خشيت ان يكون اللّه توفاه قال فجئت انظر فرفع رأسه فقال مالك فذكرت ذلك له قال فقال ان جبرئيل عليه السلام قال لى الا أبشرك ان اللّه عزّ وجلّ يقول لك من صلّى عليك صليت عليه ومن سلّم عليك سلمت عليه - رواه احمد وعن عمر بن الخطاب قال ان الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شىء حتى تصلى على نبيك - رواه الترمذي وعن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول من صلّى علىّ صلوة صلت عليه الملائكة ما صلى علىّ فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر - رواه البغوي وعن علىّ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلّى علىّ صلوة كتب له قيراط والقيراط مثل أحد رواه عبد الرزاق فى الجامع بسند حسن وعن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلّى علىّ حين يصبح عشرا وحين يمسى عشرا أدركته شفاعتى يوم القيامة « 1 » - رواه الطبراني فى الكبير بسند حسن.
(مسئلة) هل يجوز الصلاة والسّلام على غير الأنبياء والصحيح انه يجوز تبعا ويكره استقلالا كما يكره ان يقال محمد عزّ وجلّ مع كونه عزيزا جليلا لاختصاصه
_________
((1/5349)
1) وعن أبى بكر الصديق قال كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاءه رجل فسلم فردّ النبي صلى اللّه عليه وسلم واطلق وجهه وأجلسه إلى جنبه فلمّا قضى الرجل حاجته نهض فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر هذا الرجل يرفع له كل يوم كعمل أهل الأرض قلت ولم ذاك قال انه كلما أصبح صلى علىّ عشرة مرات كصلوة الخلق اجمع قلت وما ذاك قال يقول اللهم صلّ على محمد النبي عدد من صلّى من خلقك وصل على محمد النبي كما ينبغى لنا ان نصلى عليه وصل على محمد النبي كما امرتنا ان نصلى عليه وعن أبى بكر الصديق قال الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم امحق للخطايا من الماء للنار والسلام على النبي صلى اللّه عليه وسلم أفضل من عتق الرقاب وحب الرسول صلى اللّه عليه وسلم أفضل من مهج الأنفس أو قال من ضرب السيف فى سبيل اللّه - منه نور اللّه مرقده
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 380
بالأنبياء عرفا كاختصاص ذلك باللّه تعالى وقد ذكرنا هذه المسألة مبسوطا فى سورة التوبة فى تفسير قوله تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ..(1/5350)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ قال البغوي قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فاما اليهود فقالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ويَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ - وقالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ - واما النصارى فقالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ - وثالِثُ ثَلاثَةٍ - واما المشركون فقالوا الملائكة بنات اللّه والأصنام شركاؤه عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له اما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون علىّ من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وانا الأحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد - وفى رواية ابن عباس واما شتمه إياي فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة أو ولدا - رواه البخاري وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل والنهار متفق عليه وقيل معنى يوذينى يلحدون فى أسمائه وصفاته وقال عكرمة هم اصحاب التصاوير عن أبى زرعة انه سمع أبا هريرة رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تعالى ومن اظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة - متفق عليه وروى البخاري عن ابن عباس من صور صورة فان اللّه معذبه حتى ينفخ فيه الروح فليس بنافخ فيها ابدا - وقيل معنى الأذى مخالفة امر اللّه وارتكاب معاصيه وانما ذكر على ما يتعارف الناس بينهم واللّه منزه من ان يلحقه أذى من أحد ويؤذون رَسُولَهُ قال ابن عباس هو انه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون - وهذا الذي ذكرنا انما يستقيم على قول من جوز اطلاق اللفظ الواحد على معنيين وعند الجمهور معناه ان الذين يرتكبون ما يكرهه اللّه ورسوله وجاز ان يكون معنى الآية (1/5351)
الذين يؤذون رسول اللّه وذكر اللّه لتعظيم الرسول كانّ من أذى الرسول فقد أذى اللّه أخرج ابن أبى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان الآية نزلت فى الذين طعنوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 381
حين اتخذ صفية بنت حيى - وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس انها نزلت فى عبد اللّه ابن أبيّ وناس معه قذفوا عائشة الصديقة الطيبة فخطب النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع فى بيته من يؤذينى فنزلت - عن انس وابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال قال اللّه تعالى من أهان ويووى من عادى وليّا فقد بارزني بالمحاربة وما رددتّ فى شىء انا فاعله ما رددت فى قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وانا اكره مساية ولا بد له منه وما تقرب بي عبدى المؤمن بمثل الزهد فى الدنيا ولا يعبدنى بمثل ما افترضته عليه - رواه البخاري وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تعالى يقول يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا ربّ كيف أعودك وأنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدتّه لوجدتنى عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث نحوه - رواه مسلم قلت ولا شك ان معاداة الأولياء لمّا كان معاداة ومحاربة مع اللّه تعالى وأسند اللّه سبحانه مرض أوليائه إلى نفسه تعالى عن ذلك علوا كبيرا لاجل وصل غير متكيف فاسناد إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى اللّه تعالى اولى وقيل نظرا إلى ما ذكرنا من الأحاديث معنى الآية الَّذِينَ يُؤْذُونَ اولياء اللّه على حذف المضاف كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ يعنى أهل القرية وهذا القول عندى غير سديد لان ذلك يفضى إلى تقديم ذكر الأولياء على ذكر الرسول صلى اللّه عليه وسلم فان قيل هو تخصيص بعد تعميم فان الرسول داخل فى اولياء اللّه قلنا لو كان كذلك لزم التكرار فى قوله تعالى وَالَّذِينَ(1/5352)
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) جملة إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مستأنفة كأنَّه فى جواب من سال انا أمرنا بالصّلوة والسّلام على النبي صلى اللّه عليه وسلم فما شان من أذاه فقال
اللّه تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ إلخ.
(مسئلة) من أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطعن فى شخصه أو دينه أو نسبه أو صفة من صفاته أو بوجه من وجوه الشين فيه صراحة أو كناية أو تعريضا أو اشارة كفر ولعنه اللّه فى الدنيا والاخرة واعدّ له عذاب جهنم وهل يقبل توبته
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 382
قال ابن همام كل من ابغض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقلبه كان مرتدّا فالسباب بالطريق الاولى ويقتل عندنا حدّا فلا تقبل توبته فى إسقاط القتل قالوا هذا مذهب أهل الكوفة ومالك ونقل عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه ولا فرق بين ان يجئ تائبا بنفسه أو شهدوا عليه بذلك بخلاف غيره من موجبات الكفر فان الإنكار فيها توبة ولا تعمل الشهادة معه حتى قالوا بقتل ان سبّ سكران ولا يعفى عنه ولا بد من تقييده بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره باختياره بلا اكراه والا فهو كالمجنون وقال الخطابي لا اعلم أحدا خالف فى وجوب قتله واما قتله فى حق من حقوق اللّه تعالى فتعمل توبته فى إسقاط قتله ولا يحكم بارتداد من اتى بكلمة الكفر سكران فى غير سباب النبي صلى اللّه عليه وسلم وان كان السكر بسبب محظور باشره باختياره بلا اكراه ..(1/5353)
وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أى من غير ان يعملوا ما يوجب إذا هم وقال يقعون فيهم ويرمون بغير جرم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) تنكير البهتان والإثم للتفخيم قال مقاتل نزلت فى على بن أبى طالب رضى اللّه عنه وقيل نزلت فى شأن عائشة رضى اللّه عنها قلت اللفظ عام فى كل من يؤذى « 1 » مؤمنا أو مؤمنة باىّ وجه كان وان كان المورد خاصّا عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من امنه الناس على دمائهم وأموالهم - رواه الترمذي والنسائي وسب عائشة هو سب النبي صلى اللّه عليه وسلم عرفا وعقلا ونقلا لما ذكرنا فى قول جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله صلى اللّه عليه وسلم من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع فى بيته من يؤذينى يعنى عبد اللّه ابن أبيّ حين قذف عائشة فقول من قال هاهنا انها نزلت فى شأن عائشة معناه ان قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله إِثْماً مُبِيناً نزلت فى شأن عائشة لا الجملة الاخيرة وحدها وكذا من سبّ عليّا فقد أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) عن قتادة فى الآية قال إياكم وأذى المؤمنين فان اللّه يحوطه ويغضب له - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 383(1/5354)
أنت منى وانا منك رواه الشيخان فى الصحيحين عن البراء بن عازب بل سب الصحابة عامتهم يفضى إلى إيذاء النبي صلى اللّه عليه وسلم عن عبد اللّه بن مغفل رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه اللّه فى أصحابي اللّه اللّه فى أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن ابغضهم فببغضى ابغضهم ومن اذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى اللّه ومن أذى اللّه فيوشك ان يأخذه رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب واللّه اعلم.
و قال الضحاك والكلبي نزلت الآية فى شأن الزناة الذين يمشون فى طرق المدينة وهم المنافقون يتبعون النساء إذا برزن فى الليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فان سكتت اتبعوها وان زجرتهم انتهوا عنها - ولم يكونوا يطلبون الا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الامة لان زى الكل كان واحدا يخرجن فى درع وخمار الحرة والامة فشكون ذلك إلى أزواجهن فذكروها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية ثم نهين الحرائر ان يتشبهن بالإماء فى الآية اللاحقة واللّه اعلم أخرج ابن سعد فى الطبقات عن أبى مالك واخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي قال كان نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين فشكون ذلك فقيل ذلك للمنافقين فقالوا انما نفعله بالإماء فنزلت.(1/5355)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ امر بتقدير اللام أى ليدنين عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع جلباب وهى الملحفة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار روى البخاري عن عائشة قالت خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امراة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فراها عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فقال يا سودة اما واللّه ما تخفين علينا فانظرى كيف تخرجين قالت فانكفات « مالت ورجعت إلى بيتها - منه رح » راجعة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فى بيتي وانه ليتعشى وفى يده عرق فدخلت فقالت يا رسول اللّه انى خرجت لبعض حاجتى فقال عمر كذا وكذا قالت فاوحى اللّه تعالى إليه ثم رفع عنه وان العرق « 1 » فى يده ما وضعه فقال
_________
(1) العرق بالسكون العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم يقال عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك 12 نهاية منه رح.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 384
انه قد اذن لكن ان تخرجن لحاجتكن - قلت يعنى اذن لكن ان تخرجن متجلببات قال ابن عباس وأبو عبيدة امر نساء المؤمنين ان يغطين رؤسهن ووجوههن بالجلابيب الا عينا واحدا ليعلم انهن الحرائر ومن للتبعيض لان المرأة ترخى بعض جلبابها ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ بإضمار إلى متعلق بأدنى أى اقرب إلى ان يعرفن أو بتقدير المضاف أى ادنى اسباب معرفتهن انهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ عطف على يعرفن أى فلا يتعرضهن أهل النفاق والفسق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف رَحِيماً (59) بعباده حيث يراعى مصالحهم حتى الجزئيات منها - قال انس مرّت بعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع « 1 » أ تشبهين بالحرائر القى القناع.(1/5356)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وعما يتعرضون للنساء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أى ضعف ايمان وقلة ثبات عليه أو فجور عن تزلزلهم فى الدين أو فجورهم وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ الذين يوقعون فى المدينة الرجفة وهو الزلزلة والاضطراب الشديد وذلك ان أناسا من المنافقين كانوا إذا خرجت سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوقعون.
فى الناس الاخبار الكاذبة يقولون انهم قتلوا وانهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوها وقال الكلبي يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ويفشون الاخبار يعنى الكاذبة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ جواب لقسم محذوف لفظا وللقسم والشرط معا معنى أى لنأمرنك بقتالهم واجلائهم أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء أو لنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على لنغرينّك لأنه يجوز ان يجاب به القسم لصحة قولك لان لم ينتهوا لا يجاورونك ولمّا كان الجلاء عن الوطن من أعظم المصائب عطف بثم لبعد حاله عن حال المعطوف عليه أى لا يساكنونك فِيها أى فى المدينة إِلَّا قَلِيلًا (60) أى زمانا قليلا أو جوارا قليلا حتى يخرجوا منها أو يقتلوا.
مَلْعُونِينَ منصوب على الذم والشتم أو الحال والاستثناء شامل له
_________
(1) اللكع عند العرب العبد ثم استعمل فى الحمق والذم يقال للرجل لكع وللمرءة لكاع واكثر ما يقع فى النداء وهو اللئيم وقيل الوسخ قد يطلق على الصغير 12 نهايه جزرى منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 385
ايضا أى لا يجاورنك الا ملعونين ولا يجوز ان ينتصب بقوله تعالى أَيْنَما ثُقِفُوا أى وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) لان ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبله والتشديد فى قتّلوا يدل على التكثير.(1/5357)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد أى سنّ اللّه ذلك فى الأمم الماضية وهو ان يقتل الذين نافقوا بالأنبياء وسعوا فى وهنهم بالارجاف ونحوه اين ما ثقفوا أو منصوب بنزع الخافض ا ى كسنة اللّه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) لان اللّه تعالى لا يبدل سنته وغيره لا يقدر على ان يبدلها.
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أى عن وقت قيامها استهزاء أو تعنتا أو امتحانا فالمشركون كانوا يستهزءون ويسئلون عن الساعة إنكارا واستهزاء واليهود كانوا يسئلون اما تعنتا واما امتحانا لان اللّه عمى وقتها فى التورية وفى سائر الكتب قُلْ يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لم يطلع اللّه عليه أحدا من الأنبياء والملائكة وَما يُدْرِيكَ واى شىء يعلمك وقت قيامها إذا لم يطلع اللّه عليه أحدا من خلقه لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) أى شيئا قريبا أو يكون الساعة عن قريب أو انتصابه على الظرف ويجوز ان يكون تذكير قريب لان الساعة فى معنى اليوم - وكونه قريبا مبنى على ان كل ما هو ات قريب ولعل لوجوب الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) نارا شديدا لا يقاد.
خالِدِينَ حال من الضمير فى لهم أى مقدرين خلودهم فِيها أى فى السعير أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم وَلا نَصِيراً (65) يدفع العذاب عنهم.(1/5358)
يَوْمَ تُقَلَّبُ ظرف لقوله لا يجدون أو منصوب باذكر أى يوم تصرف وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ من جهة إلى جهة كاللحم يشوى بالنار أو من حال إلى حال خصت الوجوه بالذكر لانها أكرم مواضع من الجسد أو الوجه عبارة عن الجملة يَقُولُونَ حال من الضمير المجرور فى وجوههم والمضاف جزء من المضاف إليه وهو مسند إليه فيصح وقوع الحال عنه يا لَيْتَنا أى يا قومنا ليتنا وقيل يا للتنبيه أَطَعْنَا اللَّهَ فى الدنيا وَأَطَعْنَا فى الدنيا الرَّسُولَا (66) فلم نبتل بهذا العذاب فى الاخرة زيدت الالف فى الرَّسُولَا والسَّبِيلَا لرعاية الفواصل والدلالة على انقطاع الكلام واستيناف ما بعده.
وَقالُوا رَبَّنا يا ربنا إِنَّا أَطَعْنا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 386
سادَتَنا وَكُبَراءَنا
يعنون قادتهم الذين سنوا لهم الكفر قرأ ابن عامر ويعقوب سادتنا بكسر التاء والف قبلها على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بفتح التاء بلا الف قبلها فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) بما زيّنوه لنا.
رَبَّنا أى يا ربنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أى مثلى ما أتيتنا منه لانهم ضلوا وأضلونا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) قرأ عاصم بالباء الموحدة أى أشد اللعن وأعظمه والباقون بالثاء المثلثة أى كثير العدد - .(1/5359)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى يعنى قالوا فيه ما يشينه فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا فاظهر براءته قيل ذلك ما روى عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان موسى كان رجلا حييا كريما ستيرا لا يرى من جلده شىء استحياء منه فاذاه من أذاه من بنى إسرائيل فقال ما يستر هذا الستر الا من عيب بجلده اما برص واما ادرة واما آفة فاراد اللّه ان يبرئه مما قالوا فخلا وحده وخلع ثيابه ووضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلمّا فرغ اقبل على ثيابه ليأخذها فإذا الحجر عدا بثوبه فاخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبى يا حجر ثوبى يا حجر حتى انتهى إلى ملأ من بنى إسرائيل فرأوه عريانا احسن ما خلق اللّه فابراه مما يقولون وقام الحجر فاخذ موسى ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو اللّه ان بالحجر لبقيا من اثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا فذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا - رواه البخاري والترمذي واحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية وعبد الرزاق وعبد بن حميد وقال أبو العالية هو ان قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه اللّه فبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون وقد مر القصة فى سورة القصص - وقال قوم إذا هم موسى انه لما مات هارون فى التيه ادّعوا على موسى انه قتله فامر اللّه الملائكة حتى مروا به على بنى إسرائيل فعرفوا انه لم يقتله فبراه اللّه مما قالوا - أخرجه ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردوية عن ابن عباس عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنهم واللّه اعلم روى البخاري عن عبد اللّه رضى اللّه عنه قال قسّم النبي صلى اللّه عليه وسلم قسما فقال رجل ان هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه فاتيت النبي صلى اللّه(1/5360)
عليه وسلم فاخبرته فغضب حتى رايت الغضب فى وجهه فقال يرحم اللّه موسى قد أوذي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 387
بأكثر من هذا فصبر وَكانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) أى كريما ذا جاه يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذو جاه وقدر قال ابن عباس كان عند اللّه بحيث لا يسئل شيئا الا أعطاه وكذا قال الحسن وقيل كان مجيبا مقبولا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فى ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذى رسوله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) قال ابن عباس صوابا وقال قتادة عدلا وقال الحسن صدقا وقيل مستقيما وقيل قاصدا إلى الحق والمال واحد يعنى صدقا غير كذب ولا مجازفة فان الكذب يمحق والصدق يبقى قيل المراد منه نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل وما خاضوا فيه من حديث افك عائشة قال عكرمة هو قول لا اله الا اللّه.
يُصْلِحْ مجزوم فى جواب الأمر وكذا ما عطف عليه لَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عباس يقبل حسناتكم وقال مقاتل يزكى أعمالكم يعنى يصلحها للقبول والاثابة عليها وقيل معناه يوفقكم للاعمال الصالحة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أى يجعلها مكفرة باستقامتكم على القول والعمل وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) أى ظفر بالخير كله يعيش فى الدنيا حميدا ويبعث فى الاخرة سعيدا.(1/5361)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهاهنا ابحاث الأول فى ان الامانة ما هى الثاني فى ان المراد بالسماوات والأرض والجبال ما هى أعيانها أو أهلها كما فى قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ يعنى أهلها والثالث ان المراد بالعرض الخطاب اللفظي أو الحالي والرابع فى معنى الحمل والإباء عنه - قال ابن عباس الامانة الطاعة والفرائض التي فرض اللّه تعالى على عباده عرضها اللّه تعالى على السماوات والأرض والجبال يعنى على أعيانها بالخطاب اللفظي على ان أدتها اثابهن وان ضيعتها عذبهن - وقال ابن مسعود الامانة أداء الصلاة وإيتاء الزكوة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث والعدل فى الكيل والوزن وأشد من هذا كله الودائع - وقال مجاهد الامانة أداء الفرائض وحفظ الدين وقال أبو العالية ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن اسلم هى الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع يعنى ما لا مدخل للرياء فيه وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص أول ما خلق اللّه من الإنسان فرجه وقال هذه امانة استودعكها فالفرج امانة والاذن امانة والعين امانة والرجل امانة ولا ايمان
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 388(1/5362)
لمن لا امانة له - وقال بعضهم هى أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن ان لا يغش مؤمنا ولا معاهدا فى شىء قليل ولا كثير وهى رواية الضحاك عن ابن عباس - ومرجع هذه الأقوال ان الامانة هى التكليفات الشرعية والمراد بالسماوات والأرض أعيانها قال البغوي هذا قول ابن عباس وجماعة واكثر السلف والعرض بالخطاب اللفظي قال البغوي قال اللّه تعالى لهن أ تحملن هذه الامانة بما فيها قلن وما فيها قال ان احسنتن جوزيتن وان عصيتن عوقبتن فقلن لا يا رب نحن مسخرات لامرك لا نريد ثوابا ولا عقابا - قلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين اللّه ان لا يتادى منهن حقه لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو الزمهن لم يمتنعن من حملها - وقيل المراد بالعرض الخطاب اللفظي وبالسماوات والأرض والجبال أهلها كما فى قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ أى أهلها دون أعيانها - وقيل المراد بالسماوات والأرض والجبال أعيانها وبالعرض اعتبارها بالاضافة إلى استعدادهن وبآبائهن الآباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا ما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية وعلى هذا يحسن ان يكون هذان الصفتان باعثتين للحمل عليه قال البيضاوي لعل المراد بالامانة العقل أو التكليف ومن فوائد العقل ان يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدّى ومجاوزة الحدود الشرعية ومعظم مقصود التكليف تعديلها وكسر شوكتها وأيضا قال البيضاوي هذه الآية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة وسماها امانة من حيث انها واجبة الأداء والمعنى انها لعظم شأنها بحيث لو عرضت على الاجرام العظام وكانت ذات شعور وادراك لابت ان تحملها وأشفقت منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي بها والقائم بحقوقها بخير الدارين قلت ونظيره قوله تعالى لَوْ أَنْزَلْنا هذَا(1/5363)
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فهذه الآية على هذا التأويل كأنَّه مثل ضرب وهذان القولان يعنى قول من ارتكب التجوز فى لفظ السماوات ونحوها وقول من ارتكب التجوز فى العرض والخطاب مبنيان على استبعاد الخطاب مع الجمادات فقال بعضهم فى دفع هذا الاستبعاد انه تعالى لما خلق هذه الاجرام خلق فيها فهما وقال انى فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني ونارا لمن عصانى فقلن نحن مسخرات على ما خلقنا لا نحتمل فريضة ولا نبغى ثوابا - ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فتحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 389
ما يشق عليه جهولا لو خامة عاقبته - أخرج ابن أبى حاتم عن مجاهد نحوه وفيه فكان بين ان تحملها إلى ان أخرج من الجنة قدر ما بين الظهر والعصر.(1/5364)
و قيل فى دفع الاستبعاد ان الجمادات كلها وان كانت غير عاقلة بالنسبة إلينا لكنها بالنسبة إلى اللّه تعالى عاقلة خاضعة مطيعة ساجدة له قال اللّه تعالى للسماوات والأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وقال اللّه تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ...(1/5365)
وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقال اللّه تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ قيل المراد بالإنسان فى قوله تعالى وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ آدم عليه السّلام قال اللّه تعالى لادم انى عرضت الامانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها قال وأنت أخذ بما فيها قال يا رب وما فيها قال ان أحسنت جوزيت وان اسأت عوقبت فحملها آدم فقال بين اذنى وعاتقى فقال اللّه تعالى إذا قبلت فساعينك واجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت ان تنظر إلى ما لا يحل فضع عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغالقا فإذا خشيت فاغلق واجعل لفرجك لباسا فلا تكشف على ما حرمت عليك - قال مجاهد فما كان بين ان حملها وبين ما خرج من الجنة الا مقدار ما بين الظهر والعصر قلت لعل الحكمة فى إخراجه من الجنة بعد حمل الامانة ان الجنة ليست محلا لاداء الامانة بل هى محل للثواب على أدائها فاخرج إلى الدنيا التي هى مزرعة الاخرة لاداء الامانة - قال البغوي حكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود انه مثّلت الامانة كصخرة ملقاة ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربن منها وقلن لا نطيق حملها وجاء آدم من غير ان دعى وحرك الصخر وقال لو أمرت بحملها لحملتها فقال له احملها فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال واللّه ان أردت ان ازداد لزدتّ فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فاراد ان يضعها فقال اللّه تعالى مكانك فانما هى فى عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني المراد بالامانة الطاعة التي يعم الطبيعية والاختيارية وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من الاختيار وارادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل لامانة ومحتملها لمن لا(1/5366)
يؤديها فيبرأ ذمته فيكون الإباء عنه إتيانها بما يمكن ان يتأتى والظلم والجهالة للخيانة والتقصير قال اللّه تعالى لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وحكى عن الحسن على هذا التأويل انه قال وَحَمَلَهَا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 390
الْإِنْسانُ
يعنى الكافر والمنافق حملا الامانة أى خانا قال البغوي قول السلف هو الأول قلت ولمّا كان مقتضى سياق الآية اختصاص الإنسان بحمل الامانة دون غيره من المخلوقات فالقول بان الامانة هى التكليفات الشرعية غير مناسب لاشتراك الجن والملائكة فيها ويلزم منه فضل الملائكة على الإنسان لادائهم الامانة بكمالها لعصمتهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ بخلاف الإنسان لانّ منهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ - ومن ثم قالت الصوفية العلية المراد بالامانة نور العقل ونار العشق فنور العقل يحصل به معرفة اللّه سبحانه بالاستدلال ونار العشق يحصل بها معرفة اللّه سبحانه بحرق الحجب والملائكة وان كانوا عباد اللّه المقربين لكنهم مخلوقين فى مقام معلوم من القرب والعرفان قال اللّه تعالى حكاية عنهم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فالترقى إلى المراتب الغير المتناهية بنار العشق انما هو من خصائص الإنسان - وعندى على ما استفدت من كلام المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه ان الامانة ما أودع اللّه سبحانه فى ماهية الإنسان من الاستعداد للتجليات الذاتية الدائمة فان الجن وان كان بعد الايمان والإتيان بالأعمال الصالحة يلحق بالملائكة وتستعد للتجليات الصفاتية لكن التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاج له من الأرض وهذا الاستعداد هو المستوجب للخلافة وهذا العلم هو المعنى بقوله تعالى للملائكة فى حق آدم عليه السّلام إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعنى اعلموا ان التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاج له من الأرض و(1/5367)
اليه الاشارة بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً يعنى مركبا للقوى السبعية الداعية إلى التفوق والتعلى المقتضية للترقيات إلى أعلى الشواهق جَهُولًا (72) مركبا للقوى البهيمية التي يطيق بها صاحبها تحمل رياضات ومشاق لا بد منها للعاشق فى طلب وصل المحبوب فهو تعليل ومنقبة له - وتلك القوتين جميعا ناشيتان من الأرض فان مادة الأرض لكمال كثافته يتحمل
التجلي الذاتي كما ان الاجرام الارضية لكثافتها تتنور بنور الشمس دون الاجرام اللطيفة والملائكة المقربون منحصرون فى مقاماتهم وولاياتهم وان كانت ولايتهم فوق ولاية الأنبياء لكونها مستفادة من الصفات من حيث البطون اعنى من حيث قيامها بذات اللّه سبحانه وولاية الأنبياء من الصفات من حيث الظهور اعنى من حيث هى هى لا من حيث قيامها بالذات - ومن هذه الاعتبار
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 391(1/5368)
هى مباد لمبادى تعينات العالم لكن لاحظ للملائكة من التجلي الذاتي الذي هى كمالات النبوة ولاجل ذلك اختص النبوة بنوع البشر دون غيرهم وصار خواص البشر أى الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وصارت الجنة للبشر والملائكة تدخلون عليهم من كل باب ومن قال ان المراد بالامانة التكليفات الشرعية وبتحملها قبولها بالاختيار فمعنى هذه الجملة عندهم انه كان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليه جهولا بوخامة عاقبته وما يلحقه العذاب بترك ادائه وليس فيه مذمة للانسان بل هى بيان للواقع وقال البيضاوي حين قال هذه الآية تقرير للوعد السابق ما معنا ان الامانة مع عظم شأنها بحيث لا يطيق حملها الاجرام العظام لو فرضت ذات شعور وحملها الإنسان مع ضعف بنيته فاز الراعي لها بخير الدارين ان قوله إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً حيث لم يف بها ولم يراع حقها جهولا بكنه عاقبتها وصف للجنس باعتبار الأعم الأغلب وقال صاحب بحر المواج معناه ان الإنسان كان ظلوما حيث زعم نفسه قادرا على أداء ما أشفقت عنه السماوات وأمثالها ثم لم يؤدّها جهولا لعجزه عن أدائها - وهذا التأويل ليس عندى بمرضى لان تحمل الامانة كان من آدم عليه السّلام وهو المراد بالإنسان وهو كان نبيّا معصوما قد ادى ما حمل عليه وضمير انّه راجع إلى من حمل وقالت الصوفية معنى الآية انه أى الإنسان باعتبار اكثر افراده كان ظلوما على نفسه حيث ضيع استعداده للمعرفة والتجليات الالهية الذي هو فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها جهولا يحسن ما فات عنه وقبح ما اكتسبه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة قلت لما سمعت ان الظلم كناية عن القوة السبعية والجهل عن القوة البهيمية وحسن القوتين وقبحهما ليس الا بحسب متعلقهما ومصرفهما الا ترى ان القوة السبعية ان صرفت لدفع اعداء(1/5369)
الدين من الشيطان وأمثاله وكسب التفوق والتعلى إلى مدارج القرب كانت حسنة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ وان اللّه يحب معالى الهمم - وان صرفت فى قهر المعصومين والتكبر والتعلى فى مقابله رب العالمين كانت قبيحة أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ - وكذا القوة البهيمية ان صرفت فى كسب السعادة كانت حسنة وان صرفت فى كسب اللذات كانت قبيحة لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ولا شك ان حسن تعلقهما موقوف على تزكية النفس والقلب والعناصر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 392
جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله الا وهى القلب رواه البخاري - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها - وامتثال التكليفات الشرعية سبب لتزكيتها فان كان المراد بالامانة التكليفات الشرعية فقوله إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اشارة إلى علة تحميل الإنسان وتحمله تلك الامانة فالمعنى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ولاجل ذلك عرضنا عليه الامانة وتحمله آدم عليه السّلام حتى يتزكى بها عن امر زائل ويستعد للفضائل ويكون محمودا فى الدارين وان كان المراد بالامانة التجليات الذاتية فهو اشارة إلى انه كان أهلا لتلك الامانة دون غيره لان تلك الامانة لا يتصور حملها الا من كان جامعا لتلك الصفتين كما ذكرنا وغيرهما من الحواس والقوى.(1/5370)
و على كلا التقديرين لمّا كانت الصفتان المذكورتان على تقدير عدم التزكية والخذلان من اللّه تعالى وكونهما مصروفتين فى الباطل موجبتين للعذاب وعلى تقدير التزكية والتأييد من ال لّه وكونهما مصروفتين فى الحق موجبتين للرحمة والثواب حسن تعليل حمل الامانة وعرضها الذي هو مقتضى تلك الصفتين المركبتين فى الطبيعة الانسانية بقوله تعالى.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ اللام للعاقبة كما فى قوله لدوا للموت وابنوا للخراب الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ المضيعين للامانة والمنهمكين فى الظلم واللذات وَيَتُوبَ اللَّهُ أى يرجع بالرحمة والمغفرة والجدب والاجتباء وإعطاء مراتب القرب عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المؤدين للامانات المستغرقين فى التجليات - قال ابن قتيبة أى عرضنا الامانة يعنى التكليفات الشرعية أو الاستعداد المودع ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهم اللّه ويظهر ايمان المؤمن (قلت وعرفان العارف) فيتوب عليه بالرحمة والمغفرة ان حصل منه تقصير فى بعض الطاعات قلت وبالتجليات الذاتية الدائمة والوصل بلا كيف من غير حجاب وذكر التوبة فى الوعد اشعار بان كونهم ظلوما جهولا فى جبلتهم فلا يخلوا عن فرطات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للمؤمنين حيث تاب على فرطا بقم رَحِيماً (73) بهم حيث أثابهم على طاعاتهم تفضلا وأفاض عليهم تجلياته وبركاته.
تم تفسير سورة الأحزاب (و يتلوه سورة سبا ان شاء اللّه تعالى) غرة شهر المحرم من السنة السابعة بعد الف ومائتين سنة 1207 ه وصلى اللّه على محمّد واله وأصحابه.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 2
الجزء الثامن
فهرست السور القرآنية من التفسير المظهري
فهرست سوره سبا(1/5371)
مضمون/ صفحه/ ان الازمنة كلها وما فيها من الزمانيات الماضية والمستقبلة حاضرة عند اللّه سبحانه وهو خارج عن الزمان 5 (فائدة) وقد يأتى على بعض الأكابر حالة يخرج فيه من حيز الزمان فيرى الماضي أو المستقبل موجودا عنده 5 كان الحديد فى يد داود كالشمع والعجين إلخ 11 حديث ما أكل أحد طعاما قط خيرا من ان يأكل من عمل يديه وان داود نبى اللّه كان يأكل من عمل يديه 11 كيفية بناء الجن البيت المقدس 13 حديث لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلثا 14 مسئله هل يجوز تزيين المساجد بالذهب والفضة ونحوهما 14 حديث كل مصور فى النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفسا فيعذبه فى جهنم 15 حديث يخرج عنق من النار يوم القيامة إلخ حديث ومن اظلم ممن ذهب يغلق كخلقى 16 مضمون/ صفحه/ قال سليمان عليه السلام اللهم أعم موتى على الجن بعلم الانس ان الجن لا يعلمون الغيب 17 حديث فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبى اللّه ان سبا قوم كان لهم فى الجاهلية عزوانى أخشى ان يرتدوا عن الإسلام أ فأقاتلهم إلخ 18 قال رجل يا رسول اللّه أخبرني عن السبأ إلخ 19 تفصيل قصة سيل العرم 20 علمه تعالى قديم أكن تعلق العلم بالمعلوم حادث 24 ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا قضى اللّه الام فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها إلخ 26 كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل ستمأئة 27 حديث أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى إلخ 30 حديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معاذ هل تدرى ما حق اللّه على عباده إلخ 37 حديث لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلخ 38
فهرست سورة الملائكة(1/5372)
حديث ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول دبر كل صلوة لا اله الّا اللّه وحده لا شريك له 42 حديث ما بين النفختين أربعون إلخ 36 حديث ابن مسعود ما من عبد يقول خمس كلمات إلخ 36 حديث لا يرد القضاء الّا الدعاء إلخ 45 حديث يجيئ ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال إلخ 51 حديث إذا كان يوم القيامة رفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين إلخ 51 قال الشيخ العارف الاجل شهاب الدين السهروردي فى هذه الآية تعريض إلى انه من لا خشية له فهو ليس بعالم 53 حديث أبى هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا - 54 حديث ابن مسعود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة إلخ 55 حديث سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له 56 حديث أبى ثابت ان رجلا دخل المسجد فقال اللّهم ارحم غربتى إلخ 57 حديث أبى موسى يبعث اللّه العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول يا معشر العلماء إلخ 57 حديث أبى هريرة يبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء إلخ 59.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 3
سورة سبأ
مكّيّة وهى اربع وخمسون اية ربّ يسّر بسم اللّه الرّحمن الرّحيم وتمّم بالخير الحمد للّه الّذى له ما فى السّموت وما فى الأرض ملكا وخلقا وقمرا فهو الحقيق بالحمد سرّا وجهرا دون غيره وانما يحمد غيره لاجل اضافة بعض النعم إلى غيره ظاهرا وبالمجاز.(1/5373)
وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لان نعماء الاخرة أيضا له تعالى وليس هذا من قبيل عطف المقيد على المطلق بل المعطوف عليه مقيد بكونه فى الدنيا لما يدل الوصف بالموصول والصلة على انه المنعم بالنعم الدنيوية فله الحمد فى الدنيا لكمال قدرته وتمام نعمته وكذا فى الاخرة لان نعماء الآخرة أيضا له تعالى وتقديم الظرف فى الجملة الثانية للاشعار بان الحمد فى الدنيا قد يكون اللّه تعالى بواسطة من يستحق الحمد لاجلها ولا كذلك نعم الاخرة بل هى مختصة باللّه تعالى قيل الحمد فى الاخرة هو حمد أهل الجنة كما قال اللّه تعالى وقالوا الحمد للّه الّذى هدينا لهذا وما كنّا لنهتدى لو لا ان هدينا اللّه وقالوا الحمد للّه الّذى صدقنا وعده - والحمد للّه الّذى اذهب عنّا الحزن وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي احكم امور الدين الْخَبِيرُ (1) ببواطن الأشياء وظواهرها.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 4
يَعْلَمُ حال أو استيناف فى مقام التعليل ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المطر الذي ينفذ فى مسام الأرض والأموات والكنوز وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات والفلذات والأموات إذا حشروا والماء من الآبار والعيون وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والصواعق والملائكة والكتب والمقادير والأرزاق وانواع البركات واصناف البليات وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة واعمال العباد والدعوات وَهُوَ الرَّحِيمُ فينزّل ما يحتاجون إليه الْغَفُورُ (2) للمفرطين فى شكر نعمته مع كثرتها هذه الجملة معطوفة على يعلم.(1/5374)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ انكار لمجيئها معطوف على جملة مقدرة مفهومة من قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ... وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ فانه يفهم منه وعد اللّه بالرحمة والمغفرة للحامدين يوم تأتى الساعة قُلْ بَلى رد لكلامهم واثبات لما نفوه وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تكرير لايجابه مؤكدا بالقسم وبتوصيف المقسم به بقوله عالِمِ الْغَيْبِ فان عظم المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم وفيه اشارة إلى ان الساعة من الغيب وعلمه مختص باللّه تعالى يكفى لاثباته شهادة تعالى ولا يجوز لاحد اثبات شيء من الغيب ولا نفيه الا بتعليم من اللّه تعالى. قرأ حمزة والكسائي علّام الغيب على وزن فعّال للمبالغة والباقون على وزن فاعل وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف أو مبتدا خبره ما بعده والباقون بالجر على انه صفة للرب ففيه تأكيد للردّ على انكارهم فان انكار هم ليس الا مبنيّا على جهلهم واستبعادهم ممكنا مثل سائر الممكنات ثابتا إتيانه بأخبار عالم الغيب لا يَعْزُبُ قرأ الكسائي بكسر الزاء والباقون بضمها ومعناهما واحد أى لا يغيب عَنْهُ مِثْقالُ أى مقدار ثقل ذَرَّةٍ أى نملة صغيرة كائنة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ موجهة فى شيء من الازمنة الماضية أو المستقبلة أو الحال والقول بان المعنى لا يعزب عنه مثقال ذرّة موجودة فى الزمان الحال كائنة فى السماوات أو الأرض يأباه المقام لان الجملة واقعة تأكيدا لقوله
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 5(1/5375)
عالم الغيب بيانا لشمول علمه جميع الكائنات ماضيا كان أو مستقبلا حتى يكون مؤكدا للاخبار بإتيان الساعة. وأيضا حضور جميع الأشياء الموجودة فى الحال؟؟؟ لبعض من الخلائق كما ذكرنا فى سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا انه قيل يا رسول اللّه ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك انه حوى الدنيا الملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدى فهل يفوته منها شيء فالظاهر من هذه الآية ان الازمنة كلها وما فيها من الزمانيات الماضية والمستقبلة حاضرة عند اللّه سبحانه وهو خارج عن الزمان كما ان الامكنة والمكانيات حاضرة عنده تعالى وهو خارج عن المكان لا يجرى عليه زمان كما لا يحويه مكان فالزمان مخلوق له تعالى حادث حدوثا ذاتيا كما ان المكان مخلوق له فالماضى والمستقبل بالنسبة إليه سواء كما ان الامكنة كلها بالاضافة إليه سواء وقد نبه على ذلك بعض الأكابر من علماء الظاهر قال الجلال الدواني رحمة اللّه عليه فى رسالته الزوراء إذا اعتبرت الامتداد الزمانى الذي هو محل التغيير والتبديل وعرض الحوادث الكونية بما يقارنه من الحوادث جملة واحدة وجدته شأنا من شيون العلة الاولى محيطا لجميع الشيون المتعاقبة - ثم ان أمعنت النظر وجدت التعاقب باعتبار حضور حدود ذلك الامتداد وغيبوبتها بالنسبة إلى الزمانيات الواقعة تحت حيطته - واما المراتب العالية عليها فلا تعاقب بالنسبة إليها بل الجميع متساوية بالنسبة إليها متحاذية فى الحضور لذاتها فما ظنك ما على شواهق العوالي ليس عند ربك صباح والإمساء تنبيه إذا أخذت امتداد مختلف الاجزاء فى اللون كخشب اختلف اللون فى اجزائه ثم امررته فى محاذات ذرة أو غيرها ممّا يضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتدادات ليس تلك الألوان المختلفة متعاقبة فى الحضور لديها لضيق حدقتها متقاربة فى الحضور لديك لقوة احاطتك فاعتبروا يا أولى الابصار(1/5376)
انتهى كلامه فائدة وقد يأتى على بعض الأكابر حالة يخرج فيه من حيز الزمان فيرى الماضي أو المستقبل موجودا عنده ويشهد عليه ما رواه الشيخان فى الصحيحين عن عبد اللّه بن عباس قال انخسف الشمس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى رسول اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 6
صلى اللّه عليه وسلم والناس فقام قياما طويلا فذكر الحديث بطوله حتى قال قالوا يا رسول اللّه رايناك تناولت شيئا فى مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت فقال انى رايت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لاكلتم منه ما بقيت الدنيا ورايت النار فلم ار كاليوم منظرا قط أفظع ورايت اكثر أهلها النساء الحديث - ولا شك ان دخول النساء فى النار لا يكون الا بعد القيامة وقد راه النبي صلى اللّه عليه وسلم موجودا لا يقال لعل النبي صلى اللّه عليه وسلم راى صورة النار والجنة فى عالم المثال مثل ما يرى النائم فى المنام لان قوله لو أخذته لا كلتم منه ما بقيت الدنيا صريح فى انه صلى اللّه عليه وسلم راى حقيقة الجنة والنار دون مثالهما(1/5377)
و ما روى مسلم عن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رايت الجنة فرايت امراة أبى طلحة وسمعت خشخشة امامى فإذا بلال وما روى احمد وأبو داود والضياء عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما عرج بي ربى عزّ وجلّ مررت بقوم لهم اظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون فى اعراضهم وعن جابر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عرضت علىّ النار فرايت فيها امراة من بنى إسرائيل تعذب فى هرة ربطها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت جوعا ورايت عمر بن عامر الخزاعي يجر قصبه فى النار وكان أول من سيب السوائب - رواه مسلم وقال اكثر المفسرين معنى قوله تعالى لا يَعْزُبُ عَنْهُ أى علمه مِثْقالُ ذَرَّةٍ ... وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أى من الذرة وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) حملة مؤكدة لنفى العزوب ان كان المراد بالعزوب العزوب عن علمه أو المراد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي حاك عن بعض من علومه وان كان المراد عدم عزوب شيء من ذاته سبحانه فهذا تأسيس لا تأكيد وأصغر واكبر مرفوعان بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على اعمال لا التي لنفى الجنس - ولا يجوز العطف مرفوعا على مثقال ومفتوحا على ذرة فى محل الجر لامتناعها من الصرف لان الاستثناء عنه؟؟؟ ولا يجوزان يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن لان الاستدراك والاستثناء المنقطع
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 7(1/5378)
بعد النفي يكون اثباتا فيكون المعنى لا يعزب مثقال ذرة ولا أصغر منه ولا اكبر ولكن يعزب فى كتاب مبين وهذا فاسد - قال البيضاوي اللهم إذا جعل الضمير فى يعزب للغيب وجعل المثبت فى اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب إلا سطورا فى اللوح وهذا التوجيه ضعيف كما يشعر به كلام البيضاوي لان كونه فى اللوح لا يخرجه عن الغيب والكلام فى شمول علمه تعالى ولا مساس لهذا التوجيه بالمدعى على انه ورد فى سورة يونس بلفظ لا يعزب عن ربّك من مّثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الّا فى كتب مبين ولا يتاتى هذا التوجيه هناك وقيل هذا على طريقة المدح بما يشبه الذم كما فى قوله تعالى وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ كقولك فى زيد لا عيب فيه الّا انه عالم يعنى لا عيب فيه أصلا والمعنى لا يعزب عنه مثقال ذرة الا فى كتاب مبين حكمه فكيف يغب عنه.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله لتأتينّكم وبيان لما يقتضى إتيانها أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما قصروا فى أداء حقوق العبودية التي لا يمكن استيفاؤها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) حسن فى الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه لما أتوا بها من الحسنات وتفضلا - .
وَالَّذِينَ سَعَوْا عطف على الّذين أمنوا مفعول ليجزى أى ليجزى الذين سعوا فِي آياتِنا بالابطال وتزهيد الناس فيها مُعاجِزِينَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو معجّزين من التفعيل أى مثبطين عن الايمان من اراده والباقون من المفاعلة أى مقدرين عجزنا أو سابقين لنا فيفوتنا لظنهم بأن لا بعث ولا عقاب أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ قال قتادة الرجز سوء العذاب فمن بيانية أَلِيمٌ (5) أى ذو الم يعنى مؤلم قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع هنا وفى الجاثية على انه نعت للعذاب والباقون بالجر على انه نعت للرجز.(1/5379)
وَ يَرَى بمعنى يعلم مرفوع عطفا على مضمون بلى لتأتينكم وقيل منصوب معطوف على يجزى أى ليجزى الّذين أمنوا وليعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى مؤمنى أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام وأصحابه وقال قتادة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 8
هم اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان أى يعلم عند مجيء الساعة انه الحق عيانا كما علموه الان برهانا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القرآن مفعول أول ليرى هُوَ الْحَقَّ بالرفع « 1 » مبتدا وخبر والجملة ثانى مفعولى يرى وقرئى بالنصب على انه ثانى مفعولى يرى والضمير للفصل وجملة يرى مستأنفة للاستشهاد باولى العلم على الجهلة الساعين فى الآيات وَيَهْدِي اللّه أو الذي انزل إليك عطف على الحق إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) أى الإسلام.(1/5380)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وبينهما معترضات ووضع المظهر موضع الضمير للتصريح على مناط الحكم يعنى قال منكروا البعث بعضهم لبعض متعجبين منه هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم يُنَبِّئُكُمْ صفة لرجل أى يخبركم بأعجب الأعاجيب وهو انه إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ كل منصوب على المصدرية لاضافته إلى المصدر الميمى يعنى إذا متم وتمزق أجسادكم كل تمزق بحيث يصير ترابا أو على الظرفية بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحته كل مطرح إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) منصوب بقوله ينبئكم بتضمين معنى القول يعنى يقول انّكم لفى خلق جديد وتقديم الظرف يعنى إذا مزّقتم للدلالة على البعد والمبالغة وعامله محذوف دل عليه ما بعده يعنى ينبئكم بانكم تبعثون إذا مزّقتم كلّ ممزّق يقول انّكم لفى خلق جديد وذلك لان ما قبله لم يقارنه وما بعد انّ لا يعمل فيما قبله وذكروا النبي صلى اللّه عليه وسلم بالتنكير مع كونه مشهورا فى قريش شائعا انباؤه بالبعث تجاهلا به وبامره بناء على استبعاده وقصدا إلى التحقير.
أَفْتَرى همزة استفهام دخلت على همزة الوصل فسقطت من اللفظ للاستغناء عنها ولعدم اللبس بالخبر فان همزة الوصل هاهنا مكسورة بخلاف ما إذا كان همزة الوصل مفتوحة نحو ءالله والذكر وءائن فان هناك لا تحذف بل تسهل أو تبدل الفا ويمد وسقطت من الخط أيضا على خلاف القياس عَلَى اللَّهِ
_________
(1) اجمع القراء على النصب ولا خلاف بينهم فى ذلك - أبو محمد عفا اللّه عنهم -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 9(1/5381)
كَذِباً منصوب على المصدرية بافترى إذا لافتراء نوع من الكذب وهو التعمد به أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أى جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه وزعم بعضهم بجعل الجنون قسيما للافتراء ان بين الصدق والكذب واسطة وهى كل خبر لا يكون على بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بيّن فان الافتراء ليس مساو للكذب بل هو أخص منه فان الكذب خبر لا يطابق الواقع سواء كان عمدا أو خطا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ إضراب من جملة مقدرة أى لم يفتر وليس به جنة بل الّذين لا يؤمنون بِالْآخِرَةِ المشتملة على البعث والعذاب فِي الْعَذابِ فيها وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) من الحق فى الدنيا رد اللّه سبحانه عليهم ترديد هم واثبت لهم ما هو أقبح من القسمين وهو البعيد من الضلال بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مراده أى العذاب وجعل العذاب مقارنا للضلال فى الحكم مقدما عليه فى اللفظ للمبالغة فى استحقاقهم له والبعد فى الأصل صفة اتصال وصف به الضلال مجازا كقوله شعر شاعر ..(1/5382)
أَ فَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره اعموا فلم يروا أى لم ينظروا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعنى إلى ما أحاط بجوانبهم مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعنى ان المشاهدات كلها تدل على كمال قدرة الصانع المختار وكمال قدرته يقتضى جواز البعث فكيف يحكمون باستحالته وكونه مكذبا فيه مفترى والمخبر على كمال صفات الكمال من العقل والصدق المعروف بينهم فكيف يحكمون عليه بالجنون والهزاء فما هو الإضلال بعيد - فهذه الجملة تعليل لقوله بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ثم بعد شرح ضلالهم يخوفهم اللّه تعالى على ما هم عليه بقوله إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ قرأ الكسائي بإدغام الفاء فى الباء والباقون بالإظهار الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ قرأ حمزة والكسائي يشأ يخسف يسقط بالياء فيهن على الغيبة لذكر اللّه فيما قبل والباقون بالنون على التكلم عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات قرأ حفص كسفا بتحريك السين والباقون بإسكانها قيل قوله أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 10
تمهيد للانذار والتخويف والمعنى اعمّوا فلم يروا ما أحاط بهم من السماء والأرض حيثما كانوا واين ما ساروا مقهورين لا يقدرون ان ينفذوا من أقطارهما ويخرجوا من ملكوتنا يعنى قد راوا ذلك فليخافوا ان يخسف اللّه بهم الأرض كما فعل بقارون أو يسقط عليهم كسفا من السماء كما أرسلنا حجارة من السماء على قوم لوط لتكذيبهم رسولنا وكفرهم باياتنا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي يرونه من السموات والأرض لَآيَةً دلالة واضحة على كمال القدرة وجواز البعث بعد الموت وجواز تعذيب من كفر باللّه لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) راجع إلى اللّه بقلبه لكونه كثير التفكر والتأمل.(1/5383)
وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا على كثير من عباده المؤمنين يدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن سليمان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ويندرج فيه النبوة والكتاب والملك وحسن الصوت وتلين الحديد وغير ذلك وفضلا منصوب على المفعولية ومنّا حال منه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ بدل من فضلا أو من اتينا بتضمين القول أى قلنا يلجبال اوّبى معه أى سبح معه والإياب الرجوع أى ارجعي فى التسبيح كلما رجع داود فيه - أو الإياب هو التسبيح يقال اوّب إذا سبح فان المسبح يرجع إلى اللّه معرضا عن غيره وقال القتيبي أصله من التأويب فى السير وهو ان يسير النهار كله وينزل ليلا كأنَّه قال إذا اتى النهار سيرى بالتسبيح معه وقال وهب نوحى معه وَالطَّيْرَ معطوف على الجبال قرأ يعقوب « 1 » بالرفع حملا على لفظه والباقون بالنصب حملا على محله وجازان يكون النصب عطفا على فضلا أو على انه مفعول معه لاوّبى وجازان يكون بالعطف على ضميره قال البيضاوي كان اصل النظم ولقد اتينا داود منّا فضلا وهى تأويب الجبال والطير فبدل به هذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء وسلطانه حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لامره فى نفاذ مشيته فيها قال البغوي كان داود إذا نادى بالنياحة اجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داود إذا تخلل الجبال فسبح اللّه
_________
(1) والصحيح انه قرأ يعقوب بالنصب كالجماعة نعم روى الرفع عن روح ابن نهران ولا يؤخذ به أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 11(1/5384)
جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح وقيل كان داود إذا لحقه فتور أسمعه اللّه تسبيح الجبال تنشيطا له وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) حتى كان الحديد فى يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشأ من غير نار ولا ضرب مطرقة.
قال البغوي كان سبب ذلك على ما روى فى الاخبار ان داود لمّا ملك بنى إسرائيل كان من عادته ان يخرج للناس متنكرا فإذا راى من لا يعرفه يقدم إليه ويسئله عن داود ويقول له ما تقول فى داود وإليكم هذا اىّ رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض اللّه له ملكا فى صورة آدمي فلما راه داود تقدم إليه على عادته فساله فقال الملك نعم الرجل هو ولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال ما هى يا عبد اللّه قال انه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسال اللّه ان يسبب له سببا يستغنى به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فالان اللّه له الحديد وعلّمه صنعة الدرع وانه أول من اتخذها ويقال انه كان يبيع كل درع باربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال انه كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم فينفق منها الفين على نفسه وعياله ويتصدق باربعة آلاف على الفقراء والمساكين عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما أكل أحد طعاما قط خيرا من ان يأكل من عمل يديه وان نبى اللّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده - رواه البخاري واحمد وذكر البغوي هذا الحديث بلفظ كان داود لا يأكل الا من عمل يده.(1/5385)
أَنِ اعْمَلْ أى أمرناه ان اعمل ان مصدرية أو مفسرة سابِغاتٍ أى دروعا كوامل واسعات طوال يجرها لابسها على الأرض وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السرد خرذ الجلد واستعير لنسج الدرع يعنى قدر فى نسجها بحيث تناسب حلقها ومساميرها فلا تجعلها رقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق وَاعْمَلُوا يا داود واله صالِحاً خالصا للّه صالحا لقبوله منصوب على المفعولية أو المصدرية إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) فاجازيكم عليه عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه طيب لا يقبل الا طيبا امر المؤمنين بما امر المرسلين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 12
فقال يايّها الرّسل كلوا من الطّيّبات واعملوا صالحا الحديث - رواه مسلم.(1/5386)
وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ أبو بكر عن عاصم بالرفع على انه مبتدا محذوف الخبر تقديره ولسليمان الرّيح مسخّرة أورد الجملة اسمية للدلالة على ان كونها مسخرة لسليمان امر ثابت عند العامة مذكور على الالسنة أو على تقدير فعل مجهول يعنى سخّر لسليمان الريح والباقون بالنصب على انه مفعول لفعل محذوف تقديره وسخرنا لسليمان الريح والجملة معطوفة على مفهوم كلام سابق فانه يفهم من قوله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ انه سخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وقد ورد بهذا اللفظ فى سورة الأنبياء غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ جملة مستأنفة أى جريها بالغد ويعنى من الصباح إلى الزوال كان مسيرة شهر وبالعشي أى من الزوال إلى الغروب كان كذلك قال الحسن كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر ثم يروح من إصطخر فيبيت ببابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل انه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس عطف على سخرنا لسليمان الريح أسال اللّه تعالى له النحاس المذاب من معدنه فنبع منه بنوع الماء من الينبوع ولذلك سماه عينا - قال البغوي قال أهل التفسير أجريت له عين النحاس ثلاثة ايام إلى اليمن كجرى الماء وكان بأرض اليمن وانما ينتفع الناس اليوم ما أخرج اللّه لسليمان عليه السلام وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ على تقدير كون الريح مرفوعا الموصول مع الصلة مبتدا خبره محذوف أى مسخرة ومن الجن حال من الضمير المستكن فى يعمل عطف جملة اسمية على جملة اسمية وعلى تقدير كونه منصوبا الموصول معطوف على الريح ومن الجن حال منه مقدم عليه تقديره وسخرنا له من يعمل بين يديه من الجن بِإِذْنِ رَبِّهِ أى بامره وحكمه أو بإرادته وتسخيره متعلق بيعمل وَمَنْ يَزِغْ أى من يعدل مِنْهُمْ أى من الجن عَنْ أَمْرِنا أى عما أمرنا به من طاعة سليمان واردنا ذلك(1/5387)
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) قيل المراد به عذاب الاخرة وقيل المراد به الإحراق بالنار فى الدنيا - قلت ان كان المراد بالاذن والأمر الأمر التكليفي
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 13
فالمناسب ان يفسر العذاب بالعذاب فى الاخرة لانها هى دار الجزاء على التكليفات وان كان المراد بالاذن الارادة والتسخير كما هو الظاهر فالظاهر ان المراد به عذاب الدنيا قال البغوي وذلك ان اللّه عزّ وجلّ وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منه عن امر سليمان ضربه صربة أحرقته - لا يقال ان كان اللّه أراد من الجن العمل فكيف يتصور من الجن العدول عنه لأنه يلزم منه تخلف المراد عن الارادة وهو محال لان من فى قوله تعالى وَمِنَ الْجِنِّ للتبعيض فالمعنى ان اللّه تعالى أراد ان يعمل لسليمان بعض الجن أى أكثرهم ولذلك وكل ملكا يعذب من عدل من امر سليمان وذلك فى الظاهر سبب لان يعمل لسليمان اكثر الجن - أو يقال معنى قوله من يرغ من أراد الزيغ منهم يضربه الملك حتى لا يزيغ.(1/5388)
يَعْمَلُونَ لَهُ حال من فاعل يعمل أو مستأنفة ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصورا حصينة ومساجد رفيقه ومساكن شريفة سميت بها لانها يدب عنها ويحارب عليها - قال البغوي فكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ودفعه قامة رجل فاوحى اللّه إليه انى لم اقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملّكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده فلمّا توفاه اللّه استخلف سليمان فاحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسّم عليهم الأعمال فخصّ كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له فارسل الجن والشياطين فى تحصيل الرخام الأبيض من معادنه - فامر ببناء المدينة بالرخام والصفاح وجعل اثنى عشر ربضا وانزل بكل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطا فلما فرغ من بناء المدينة ابتدا فى بناء المسجد وفرق الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فاتى بذلك التي لا يحصيها الا اللّه عزّ وجلّ - ثم احضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اللآلي واليواقيت - وبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 14(1/5389)
بأساطين المينا الصافي وسقّفه بألواح الجواهر الثمينة وجصص سقوفه وحيطانه باللئالي واليواقيت وسائر الجواهر وبسط ارضها بألواح الفيروزج - فلم يكن يومئذ فى الأرض بيت ابهى وأنور من ذلك المسجد كان يضيء فى الظلة كأنَّه القمر ليلة البدر - فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بنى إسرائيل فاعلمهم انه بناه اللّه تعالى وان كل شيء فيه خالص للّه واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سال ربه ثلاثا فاعطاه اثنين وانا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سال حكما يصادف حكمة فاعطاه إياه وسال ملكا لا ينبغى لاحد من بعده فاعطاه إياه وسال ان لا يأتى هذا البيت أحد يصلى فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه وانا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك - رواه البغوي وعن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة وصلوته فى مسجد القباء بخمس وعشرين صلوة وصلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة وصلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة وصلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة وصلوته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة - رواه ابن ماجة وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تشد والرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا - متفق عليه مسئلة هل يجوز تزيين المساجد بالذهب والفضة ونحوهما قال بعضهم يكره ذلك لان فيه اضاعة المال وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما اثر بشييد المساجد رواه أبو داود عن ابن عباس وقال ابن عباس لتذخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى وقال عليه السلام ان من اشراط الساعة ان تزين المساجد الحديث - وقال بعضهم هو قربة لما فيه من تعظيم المسجد وقصة سليمان عليه السلام فى تزيين مسجد بيت المقدس يؤيد هذا القول قال صاحب الهداية وهذا(1/5390)
إذا فعل من مال نفسه واما المتولى فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى احكام البناء دون ما يرجع إلى النقش حتى لو فعل يضمن وقال ابن همام ولا شك ان الدفع إلى الفقير اولى من تزيين المسجد وعند اكثر علمائنا لا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب وقوله لا بأس يشير إلى انه لا يؤجر عليه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 15
لكن لا يأثم به كذا فى الهداية قال ابن همام ومحل الكراهة التكلف فيه بدقائق النقوش ونحوه خصوصا فى المحراب أو التزين مع ترك الصلاة أو عدم إعطائه حقه من اللّفظ فيه والجلوس لحديث الدنيا ورفع الأصوات بدليل اخر الحديث وهو قوله وقلوبهم خاوية من الايمان - قلت حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم اولى بالاتباع من قصة سليمان لان شرائع من قبلنا لا يجوز اتباعه الا إذا لم يثبت فى شريعتنا ما يخالفه - وأيضا كان فيما فعل سليمان حكمة وهى ان يشتغل(1/5391)
الشياطين عن إضلال الناس فى اعمال شاقة واللّه اعلم قال البغوي قالوا يعنى أهل الاخبار فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخت نصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان فى سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر فحمله إلى دار مملكته من ارض العراق. وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة عجيبة من الصخرة وَتَماثِيلَ أى صورا من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام قيل كانوا يصورون السباع والطيور وقيل كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين فى المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة وكانت مباحة فى شريعتهم قلت ولعل المراد به تماثيل غير ذى الروح لان تماثيل الإنسان كانت تعبد قبل ذلك حيث قال ابراهيم عليه السلام لابيه وقومه ما هذه التّماثيل الّتى أنتم لها عكفون وفى الصحيحين عن ابن عباس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول كل مصور فى النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفسا فيعذبه فى جهنم - قال ابن عباس فان كنت لا بدّ فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه - متفق عليه وهذا الحديث عام فى كل مصور غير مختص بمصورى هذه الامة وهو خبر لا يحتمل النسخ والتبديل وعنه مرفوعا من صور صورة عذّب وكلف ان ينفخ فيها وليس بنافخ - رواه البخاري وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرج عنق من الناس يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان يسمعان ولسان ينطق يقول انى وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع اللّه الها اخر وبالمصورين - رواه الترمذي وعنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 16(1/5392)
قال اللّه تعالى ومن اظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة متفق عليه وسياق هذه الأحاديث يدل على ان حرمة التصوير غير مختص بهذه الامة لا يقال ان عيسى كان يتخذ صورة من الطين قلنا كان ذلك بإذن اللّه كان يخلق من الطّين كهيئة الطّير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه وانما المحرم على من يتخذ صورة فلا يستطيع ان ينفخ فيه الروح فيكلف ان ينفخ فيها وهو ليس بنافخ ابدا وَجِفانٍ جمع جفنة بمعنى القصعة كَالْجَوابِ قرأ ابن كثير كالجوابى بإثبات الياء وصلا ووقفا وأثبتها ورش وأبو عمرو فى الوصل - جمع جابية وهو حوض ضخم كذا فى القاموس مشتق من جبى الخراج يقال للحوض الكبير لما يجيء فيه الماء فهى من الصفات الغالبة قال البغوي كان يقعد على الجفنة الواحدة الف رجل يأكلون منها وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن لا ينزلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم وكانت باليمن اعْمَلُوا أى قلنا له ولاتباعه اعملوا جملة مستانفة يا آلَ داوُدَ شُكْراً تنكيره للتقليل فان الشكر الكثير بالنسبة إلى نعماء اللّه سبحانه خارج عن طوق البشر بل عن طوق كل مخلوق وهو منصوب على العلّية أى اعملوا بط اعتي لشكر نعمتى أو على المصدرية لان العمل بالطاعة شكر أو على انه وصف للمصدر أى اعملوا عملا شكرا أو على الحال أى حال كونكم شاكرين أو على المفعولية أى اعملوا شكرا - قال جعفر بن سليمان سمعت ثابتا يقول كان داود نبى اللّه قد جزّى ساعات الليل والنهار على اهله فلم تكن تأتى ساعة من ساعات الليل والنهار الّا والإنسان من ال داود قائم يصلى وَقَلِيلٌ « 1 » مِنْ عِبادِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الشَّكُورُ (13) أى المتوفر على أداء الشكر بلسانه وجوارحه فى اكثر أوقاته وتقلبه دائما بلا فتور وذلك بعد فناء القلب ودوام الحضور - ومع ذلك لا يوفى حقه لان توفيقه للشكر نعمة ليستدعى(1/5393)
شكرا اخر لا إلى نهاية ولذلك قيل الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر.
فَلَمَّا قَضَيْنا
_________
(1) عن ابراهيم التميمي قال قال رجل عند عمر اللهم اجعلنى من القليل فقال ما هذا الدعاء الذي تدعو به قال انى سمعت اللّه يقول وقليل من عبادى الشّكور وذكر اية اخرى فقال عمر كل أحد افقه من عمر؟؟؟ برد اللّه تربته
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 17(1/5394)
اى حكمنا عَلَيْهِ أى على سليمان الْمَوْتَ قال البغوي قال أهل العلم كان سليمان عليه السلام يتحرز فى بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقلّ من ذلك واكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فادخل فى المرة التي مات فيها وكان بدؤ ذلك انه كان لا يصبح يوما الا نبتت فى محراب بيت المقدس شجرة فيسئلها ما اسمك فتقول اسمى كذا فيقول لاىّ شيء أنت فتقول لكذا وكذا فيامر بها فتقطع فان كانت نبتت لغرس غرسها وان كانت لدوام كتب حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت قالت الخروبة قال لاىّ شيء نبتّ قالت لخراب مسجدك فقال سليمان ما كان اللّه ليخرّبه وانا حىّ أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها فى حائط كريم.(1/5395)
و قال اللهم أعم موتى على الجن ليعلم الانس ان الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الانس انهم يعلمون من الغيب ما شاء واو يعلمون ما فى الغد ثم دخل المحراب فقام يصلى متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه ومن خلفه وكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها فى حياته وينظرون إليه يحسبون انه حىّ ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يدابون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الارضة عصا سليمان فخر ميّتا فعلموا بموته قال ابن عباس فشكرت الجن الارضة فهم يأتونها بالماء والطين فى جوف الخشبة - واخرج ابن أبى حاتم عن ابن يزيد قال قال سليمان لملك الموت إذا أمرت لى فاعلمنى فاتاه فقال يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك حتى أكلها الارضة فخر ثم فتحوا عليه وأرادوا ان يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة على العصا فأكلت يوما وليلا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مأت منذ سنة ما دَلَّهُمْ أى الجن أو اله عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أى الارضة التي يقال لها بالفارسية ديوك وهى دابة صغيرة تأكل الخشب والمراد بالأرض
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 18(1/5396)
الثرى أضيف إليها الدابّة وقيل الأرض مصدر ارضت الخشبة بالبناء للمفعول أى اكلتها ارضة فهو من قبيل اضافة الشيء إلى فعله كما فى بقرة الحرث ورجل الحرب تَأْكُلُ حال من دآبة الأرض مِنْسَأَتَهُ أى عصاه من نسأت الغنم أى زجرتها وسقتها ومنه نسأ اللّه فى اجله أى أخره قرأ نافع وأبو عمر وبألف ساكنة بدل الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة على الأصل فانه مفعول تأكل وحمزة إذا وقف جعلها بين بين فَلَمَّا خَرَّ أى سقط سليمان على الأرض تَبَيَّنَتِ أى ظهرت الْجِنُّ أَنْ مخففة من الثقيلة اسمه ضمير الشان محذوف لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما غاب عنهم كموت سليمان ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) أى فى التعب والمشقة مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيّا ان مع صلته بدل اشتمال من الجن يعنى ظهر عدم علمهم بالغيب على الناس لانهم كانوا يشبهون ذلك على الانس ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن عباس تبيّنت الانس أى علمت ان لّو كانوا أى الجن يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين - وقيل معنى الآية علمت الجنّ ان لّو كانوا يعلمون الغيب إلخ وهذا التأويل مستبعد جدّا فان الجن كانوا يعلمون جهلهم وانما كانوا يدّعون علمهم بالغيب عند الانس. قال البغوي ذكر أهل التاريخ ان سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ومدة ملكه أربعون سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ فى بناء بيت المقدس لاربع سنين مضين فى ملكه.
اخرج ابن أبى حاتم عن على بن رباح قال حدثنى فلان ان فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا بنى اللّه ان سبا قوم كان لهم فى الجاهلية عزو انى أخشى ان يرتدوا عن الإسلام أ فأقاتلهم فقال ما أمرت فيهم بشيء بعد فنزلت.(1/5397)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أى دلالة على كمال قدرتنا ووجوب شكرنا قرأ البزي أبو عمر ولسبا بفتح الهمزة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة فمنع عن الصرف للتانيث مع العلمية وقنبل بإسكانها على نية الوقف والباقون بخفضها مع
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 19
التنوين لأنه كان اسم رجل - قرأ حفص وحمزة والكسائي مسكنهم بإسكان السين بغير الف على الافراد غير ان حمزة وحفص يفتحان الكاف على القياس والكسائي بكسرها حملا على ما شذّ من القياس كالمسجد والمطلع والباقون بفتح السين وكسر الكاف والف بينهما على الجمع قال البغوي روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفى قال قال رجل يا رسول اللّه أخبرني عن سبا كان رجلا أو امراة أو أرضا قال كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم اربعة فاما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون وأزد ومذحج وانمار وحمير فقال رجل وما انمار قال الذين منهم خثعم وبحيلة واما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان - وكذا أخرج احمد وغيره عن ابن عباس مرفوعا وسبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان جَنَّتانِ بدل من اية أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان والمراد جماعتان من البساطين جماعة عَنْ يَمِينٍ البلد وَجماعة عن شِمالٍ البلد أو يكون بستان لكل رجل عن يمين مسكنه وشماله كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ يعنى من ثمار الجنتين وَاشْكُرُوا لَهُ على ما رزقكم من النعمة والمعنى اعملوا بالطاعة يعنى قال لهم لبيهم ذلك أو لسان الحال يعنى دلّ الحال على انهم كانوا أحقاء ان يقال لهم ذلك بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر يعنى بلدكم هذا بلدة طيبة كثيرة الثمر ليست بسبخة قال السدىّ ومقاتل كانت المرأة تحمل على رأسها المكتل وتمرّ بالجنتين فيمتلى المكتل بانواع الفواكه من غير ان تمس شيئا بيدها.(1/5398)
و قال ابن زيد لم تكن ترى فى بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرجل يمر ببلدهم وفى ثيابه القبل فيموت القمل كلها من طيب الهواء فذلك قوله تعالى بلدة طيبة أى طيبة الهواء وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) قال مقاتل رب غفور للذنوب ان شكرتم فيما رزقكم قال وهب أرسل اللّه إلى سبا ثلاثة عشر نبيا دعوهم إلى اللّه وذكّروهم نعمه عليهم وانذرهم عقابه.
فَأَعْرَضُوا عنهم وكذبوهم وقالوا ما نعرف للّه علينا نعمة قولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا ان استطاع قال اللّه تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 20(1/5399)
اى سيل الأمر العرم أى الصعب من عرم الرجل فهو عارم إذا ساء خلقه وصعب أو سيل المطر الشديد قيل كان ماء احمر أرسل اللّه عليهم من حيث شاء وقيل العرم الوادي وأصله من العرامة وهى الشدة والقوة وقيل العرم المسناة وقيل العرم الجراذ الذكر أضاف إليه السيل لأنه نقب عليهم سكرا ضربت لهم بلقيس. وفى القاموس عرمة كفرحة سد يعترض به الوادي جمعه عرم أو هو جمع بلا واحد أو هو الاحباس تبنى فى الاودية والجرذ الذكر والمطر الشديد وواد ولكل فسر قوله تعالى سيل العرم. قال البغوي قال ابن عباس وابن وهب وغيرهما كان ذلك يعنى العرم السد بنته بلقيس وذلك انهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فامرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير فسدت بين الجبلين بالصخرة والقار وجعلت لها أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخيمة وجعلت فيها اثنى عشر مخرجا على عدة أنهارها يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سدوها فإذا جاء المطر اجتمع ماء اودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فامرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه فى البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث ..........(1/5400)
الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب من السنة المقبلة فكان يقسم على ذلك فبقوا على ذلك بعد ذلك مدة فلما طغوا وكفروا سلط اللّه عليهم جراذا يسمى الخلد فنقب السدّ من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرّب ارضهم - قال وهب وكانوا فيما يزعمون ويجدون فى علمهم وكهانتهم انه يخرّب سدهم فارة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلمّا جاء زمانه وما أراد اللّه عزّ وجلّ بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فارة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساودتها حتى استأخرت منها الهرة فدخلت فى الفرجة التي كانت عندهما فتغلغلت فى السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون بذلك فلمّا جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا وتمزّقوا حتى صاروا مثلا عند العرب يقولون صار بنو فلان أيدي سبا وأيادي سبا أى تفرقوا وتبددوا فذلك قوله تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 21(1/5401)
وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ قرأ نافع وابن كثير بإسكان الكاف والباقون بضمها وهما لغتان قال فى القاموس الاكل بالضم وبالضمتين الثمر والرزق قرأ الجمهور أكل ويعقوب - أبو محمد وأبو عمرو بالاضافة إلى خَمْطٍ فعلى قراءة الجمهور خمط صفة له ومعناه حامض أو مرّ أو عطف بيان أو بدل ومعناه ثمر الأراك وعلى قراءة ابي عمر والخمط كل نبت أخذ طعما مرّا أو شجرة الأراك أو نحو ذلك فهو لفظ مشترك - قال فى القاموس الخمط الحامض أو المرّ من كل شيء وكل نبت أخذ طعما من مرارة وشجر رائحته كالسدر وشجر قاتل وكل شجر لا شوك له وثمر الأراك وقيل شجر الأراك وقال البيضاوي التقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فى كونه بدلا أو عطف بيان يعنى على قراءة الجمهور وكون الخمط بمعنى الشجر وقال البغوي الاكل الثمر والخمط الأراك وثمره يقال له البرير هذا قول اكثر المفسرين - وقال المبرد كل نبت قد أخذ طعما من المرارة وقال ابن الاعرابى ثمر شجر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به وَأَثْلٍ أى الطرفا معطوف على أكل لا على خمط إذ لا ثمر له وقيل هو شجر يشبه بالطرفاء الا انه أعظم وَشَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) وصف السدر بالقلة فان جناه وهو النبق ممّا يطيب أكله ولذلك يغرس فى البساتين - وقال البغوي لم يكن السدر ذلك بل كان سدرا برّيا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشئ وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم.(1/5402)
ذلِكَ منصوب المحل على المصدرية يعنى جزيناهم ذلك الجزاء أو مرفوع على انه مبتدا ما بعده خبره يعنى ذلك العقاب والتبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أى بكفرانهم النعمة أو بكفرهم الرسل وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) قرأ حفص ويعقوب وخلف - أبو محمد وحمزة والكسائي نجازى بالنون وكسر الزاء على التكلم والبناء للفاعل والكفور بالنصب على المفعولية والباقون بالياء التحتانية وفتح الزاء على الغيبة والبناء للمفعول والكفور بالرفع على انه قائم مقام الفاعل يعنى ما يناقش الا هو وما نناقش الا إياه ..
وَجَعَلْنا عطف على بدلنا يقال كان هذا سابقا على التبديل فكيف ذكر بعده لان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 22
الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا ينافى كونه سابقا عليه بَيْنَهُمْ أى بين أهل سبا وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالأنهار والأشجار والتوسعة على أهلها وهى قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً أى متظاهرة تظاهر الثانية من الاولى لقربها منها وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أى وقدّرنا سيرهم فيها يعنى كانوا يسيرون فيها وإذا ساروا كانوا يبيتون فى قرية ويقيلون فى اخرى وكانوا لا يحتاجون من حمل زاد من سبا إلى الشام قيل كانت اربعة آلاف وسبع مائة قرية متصلة من سبا إلى الشام قال قتادة كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتى بيتها حتى تمتلى مكتلها من الثمار وكان ما بين اليمن والشام كذلك سِيرُوا فِيها على ارادة القول يعنى قلنا بلسان المقال أو الحال فانهم لما مكنوا من السير كذلك كانوا كانهم أمروا به لَيالِيَ وَأَيَّاماً يعنى متى شئتم ليلا أو نهارا آمِنِينَ (18) أى حال كونكم لا تخافون عدوّا ولا سبعا ولا جوعا ولا عطفا فبطروا وطغوا ولم يشكروا وقالوا لو كان بين جناتنا ابعد مما هى لكان أجدر ان تشتهيه.(1/5403)
فَقالُوا عطف على جعلنا يا رَبَّنا باعِدْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بعّد بتشديد العين من التفعيل والباقون بالألف من المفاعلة بَيْنَ أَسْفارِنا أى اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوزات لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ونربح فى التجارات ونتفاخر على الناس فعجل اللّه لهم الاجابة قرأ يعقوب ربّنا بالرفع على الابتداء وبعد بفتح العين والدال على صيغة الماضي كانهم استبعدوا أسفارهم القريبة أشرا وبطرا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالبطر والطغيان عطف على قالوا فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون تفرقوا أيدي سبا وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم فى كل وجه من البلاد كل تفريق قال الشعبي لمّا غرقت قراهم تفرقوا فى البلاد اما غسان فلحقوا بالشام ومرّ الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومرّ ال خزيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وهم ال أنمار وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ لعبر ودلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي وعلى البلاء والطاعة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 23(1/5404)
شَكُورٍ (19) على النعم قال مقاتل يعنى مؤمنى هذه الامة صبور على البلاء شكور للنعماء وكذا قال مطرف قلت بل هو صبور وشكور دائما فان الدنيا دار البلاء حتى ان النعمة أيضا بلاء يبتلى به العبد هل يشكر عليه أم لا موته بلاء وحياته بلاء قال اللّه تعالى خلق الموت والحيوة ليبلوكم ايّكم احسن عملا فهو صبور دائما عن المعاصي وعلى المصائب والطاعات وكل بلاء ومصيبة مكفرة للذنوب فهى كما يوجب الصبر يوجب الشكر ثم توفيق الصبر أيضا نعمة من اللّه يوجب الشكر وقال المجدد رضى اللّه عنه إيلام المحبوب ألذ من انعامه فهو اولى بالشكر قال الشاعر فانى فى الوصال عبيد نفسى وفى الهجران مولى للموالى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر ونصف فى الشكر رواه البيهقي فى شعب الايمان قلت فالمؤمن تامّ الايمان جامع للنصفين دائما غير مقتصر على النصف دون النصف - .(1/5405)
وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أى على الناس كلهم كذا قال مجاهد وقيل المراد على أهل سبا أى على الكفار منهم إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قرأ أهل الكوفة سدّق بالتشديد يعنى ظنّ فيهم ظنّا حيث قال فبعزّتك لاغوينّهم أجمعين. ولا تجد أكثرهم شكرين فصدّق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه أو وجده صادقا وقرأ الآخرون بالتخفيف أى صدق فى ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جدك ويجوز ان يعدى الفعل إليه بنفسه كما فى صدق وعده لأنه نوع من القول قال ابن قتيبة لما سأل إبليس النظرة فانظره اللّه فقال لاضلّنّهم ولاغوينّهم ولم يكن مستقينا وقت هذه المقالة ان ما قاله فيهم يتم وانما قاله ظنّا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) أى من أهل سبا أو من الناس كلهم قال السدىّ عن ابن عباس يعنى ان المؤمنين كلهم لم يتبعوه فى اصل الدين قال اللّه تعالى انّ عبادى ليس لك عليهم سلطان يعنى المؤمنين فمن للبيان وقيل من للتبعيض يعنى بعض المؤمنين الذين يطيعون اللّه ولا يعصونه.
وَما كانَ لَهُ أى لابليس عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ اسم كان ومن زائدة والظرف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 24(1/5406)
المستقر اعنى له خبره وعليهم متعلق بالظرف يعنى لم يكن له قدرة على ان يوسوسهم ويعدهم ويمنّيهم الا بتسليطنا إياه عليهم حيث قلنا واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم لشيء إِلَّا لِنَعْلَمَ أى لتميز مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ فنجازى كلّا منها على حسب ما عمل قال الحسن ان إبليس لم يسل عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط وانما وعدهم ومنّاهم فاغتروا - فان قيل هذه الآية تدل على كون علمه تعالى حادثا وهو يقتضى الجهل سابقا تعالى اللّه عن ذلك أجيب بان علمه تعالى قديم لكن تعلق العلم بالمعلوم حادث والمراد هاهنا بحصول العلم حصول متعلقه مبالغة ويرد عليه ان العلم ما لم يتعلق بالمعلوم لا ينكشف المعلوم عند العالم فان العلم قبل التعلق بالمعلوم انما هو العلم بالقوة لا بالفعل فكون تعلق العلم حادثا يقتضى سبق الجهل فبقى المحذور فاجيب بان علمه تعالى قبل وجود الحادث كان متعلقا به كاشفا عنده تعالى كونه موجودا وهذا لا يقتضى سبق الجهل بل سبق علمه تعالى بكونه معدوما كما هو فى الواقع فلا محذور ومعنى الآية ليتعلق علمنا بذلك موجودا كما تعلق به معدوما لكن يلزم حينئذ كونه تعالى محلّا للتغير فالاولى ان يقال ان الزمان بجميع اجزائه وما فيها حاضر عند اللّه سبحانه متعلق علمه تعالى بها قديما سرمدا وانما التعاقب فيها بنسبة بعضها إلى بعض فزيد الذي هو موجود فى وقت ومعدوم فى وقت حاضر عند اللّه بكلا الحالتين كما ان كونه فى مكان دون مكان حاضر عنده بلا تغير فى ذاته تعالى فمعنى الآية لنعلم قديما سرمدا من يؤمن ممن هو فى شك وهذا لا يقتضى مسبوقية علمه تعالى كيف وان السابقية والمسبوقية انما يتصور فيما يجرى عليه الزمان كما ان الفوقية والتحتية لا يتصور الا فيما يحويه المكان ومن هو خالق للزمان والمكان منزه عنها كلها - لكن هذه الآية تدل(1/5407)
على ان العلم تابع للمعلوم وكون المعلوم حادثا لا يقتضى كون العلم به حادثا فان المعلوم محفوف بالزمان والعلم محيط به شتان ما بينهما قال اللّه تعالى وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الزمان والزمانيات
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 25
و من المؤمن والكافر حَفِيظٌ (21) رقيب محافظ غير غافل عن شىء فيجازى كلّا على حسب عمله - .
قُلِ يا محمد لكفار مكة ادْعُوا ايّها الكفار الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أى زعمتموهم الهة هما مفعولان لزعمتم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه اعنى مِنْ دُونِ اللَّهِ ولا يجوز ان يكون هذا مفعوله الثاني لأنه لا يحصل به كلاما مفيدا ولا يملكون لانهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر يستجيبون لكم ان صح دعواكم كانّ هذا الكلام يدل على الشرطية من القياس الاستثنائى تقديره ان صح دعواكم بانهم الهة من دون اللّه يستجيبون لكم إذا دعوتموهم لكنهم لا يَمْلِكُونَ فهذا جملة مستأنفة يدل على الاستثناء مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خيرا وشركائه فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فلا يستجيبون لكم فلا يصح دعواكم وذكرهما للعموم العرفي أو لان الهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها ارضية كالاصنام أو لان الأسباب الظاهرية للشر والخير سماوية وارضية وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أى شركة ومن زائدة والجملة معطوفة على لا يملكون وَما لَهُ أى للّه تعالى مِنْهُمْ أى من شركائكم مِنْ ظَهِيرٍ (22) يعينه على خلقها وتدبيرها - .(1/5408)
وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ لاحد إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ان يشفع أو اذن ان يشفع له واللام على الأول كما فى قولك الكرم له وعلى الثاني كما فى قولك جئتك لزيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي اذن بضم الهمزة على صيغة المجهول والباقون بفتحها على صيغة المعروف وهذا ردّ لما قالت الكفار على سبيل التنزل انه سلمنا ان الملائكة والأصنام لا يملكون شيئا وليسوا شركاء اللّه لكنهم يشفعون لنا عند اللّه فقال اللّه تعالى لا تنفع شفاعة أحد لاحد الّا لمن اذن له والأصنام ليسوا أهلا لان يؤذن الشفاعة لانحطاط رتبتها عنها والكفار لا يستحقون لان يؤذن لاحد فى شفاعتهم لطغيانهم وكفرهم ولا يؤذن للانبياء والملائكة الا لشفاعة المؤمنين -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 26(1/5409)
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قرأ ابن عامر ويعقوب فزّع بفتح الفاء والزاء على البناء للفاعل والضمير المستكن عائد إلى اللّه والباقون بضم الفاء وكسر الزاء على البناء للمفعول والجار مع المجرور قائم مقام الفاعل والتفزيع ازالة الفزع كالتمريض ازالة المرض والضمير فى قلوبهم راجع إلى الشافعين والمشفوع لهم المفهومين مما سبق وحتى غاية للجملة المقدرة المفهومة مما سبق اعنى قوله تعالى لا تنفع الشّفاعة عنده الّا لمن اذن له فانه يفهم منه ان الشفعاء والمشفوع لهم ينتظرون الاذن للشفاعة فزعين خائفين احتمال عدم الاذن أو فزعين من غشية تصيبهم عند سماع كلام اللّه عز وجل هيبة وجلالا حين يأذن لهم فى الشفاعة قلت وكذلك يأخذهم الغشية كلما قضى اللّه امرا روى البخاري عن أبى هريرة ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا قضى اللّه الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربّكم قالوا الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (و وصف سفيان بكفه فحرفها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الاخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معه مأته كذبة فيقال أ ليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء وروى مسلم عن ابن عباس عن رجل من الأنصار انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حديث ربّنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذا السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فليستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون(1/5410)
الى أوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق لكنّهم يقذفون ويزيدون - وروى البغوي عن النواس بن سمعان رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد اللّه ان يوحى بالأمر تكلم بالوحى أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من اللّه فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا للّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 27
سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل فيكلم اللّه وحيه بما أراد ثم يمر جبرئيل على الملائكة كلما مرّ بسماء ساله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرئيل فيقول جبرئيل قال الحقّ وهو العلىّ الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبرئيل فينتهى جبرئيل بالوحى حيث امر اللّه. والظرف يعنى إذا فزّع عن قلوبهم متعلق بقوله قالُوا يعنى قال بعضهم لبعض حين ينكشف عنهم الفزع اللاحق بهم بالاذن فى الشفاعة ما ذا قالَ رَبُّكُمْ فى الشفاعة قالُوا أى بعضهم لبعض الْحَقَّ مقول لقال المقدر يعنى قال ربنا الحقّ وهو الاذن فى الشفاعة التي هو الحق يعنى لمن هو أهلها وهم المؤمنون وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (22) أى ذو العلو والكبرياء لا يستطيع ملك مقرب ولا نبى مرسل ان يتكلم فيه الا باذنه.(1/5411)
قال البغوي قال بعضهم انما يفزعون حذرا من قيام الساعة قال مقاتل والكلبي والسدى كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم خمس مائة وخمسين سنة وقيل ست مائة سنة لم يسمع الملائكة فيها وحيا فلمّا بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم بالرسالة وسمع الملائكة ظنوا انها الساعة لان محمدا صلى اللّه عليه وسلم عند أهل السماوات من اشراط الساعة فصعقوا ممّا سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما انحدر جبرئيل يعنى فى بدء الوحى جعل يمر باهل كل سماء فيكشف عنهم فيرتفعون رءوسهم ويقول بعضهم لبعض ما ذا قال ربّكم قالوا الحقّ يعنون الوحى وهو العلىّ الكبير فان قيل على ما قال مقاتل وأمثاله كيف يرتبط قوله تعالى حتّى إذا فزّع عن قلوبهم بما سبق من الكلام قلت لعل وجه ارتباطه انه متصل بقوله تعالى ويرى الّذين أوتوا العلم الّذى انزل إليك من ربّك هو الحقّ ويهدى إلى صراط العزيز « 1 » الحميد والمراد بالذين أوتوا العلم الملائكة وما بينهما اعتراض والمعنى ويرى الملائكة ما انزل إليك من ربك من القرآن هو الحق ولذلك افزعوا عند نزوله خوفا من قيام الساعة حيث كان نزوله عندهم من اشراط الساعة حتّى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ وهو العلىّ الكبير -
_________
(1) وفى الأصل إلى صراط مستقيم.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 28
و قال جماعة الموصوفون بذلك المشركون قال الحسن وابن زيد حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم اقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربّكم على لسان رسله فى الدنيا قالوا الحقّ فاقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار قلت وعلى هذا التأويل هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى هو منها فى شكّ يعنى هم فى شك إلى الموت حتّى إذا فزّع عن قلوبهم بعد الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار - .(1/5412)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ المطر مِنَ السَّماواتِ وَالنبات من الْأَرْضِ استفهام تقرير أى حمل المخاطب على الإقرار بان اللّه يرزق لا غير وفيه تأكيد لقوله لا يملكون وهذه الجملة متصلة بقوله قل ادعوا قُلِ اللَّهُ فاعل لفعل محذوف أى يرزقكم اللّه إذ لا جواب سواه وفيه اشعار بانهم ان سكتوا وتوقفوا فى الجواب مخافة الإلزام فهم مقرّون بقلوبهم ذلك وَإِنَّا أى الموحدين أَوْ إِيَّاكُمْ أى المشركين باللّه لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (34) إذ التّوحيد نفى الاشتراك فهو نقيضه والضلال نفى البداية فهو نقيضه وارتفاع النقيضين وكذا اجتماعهما محال فهذه قضية منفصلة حقيقية عنادية والمفهوم مما سبق ان اللّه يرزق لا غير وهو يستلزم ان الموحد على هدى والمشرك فى ضلال مبين فانعقد القياس الاستثنائى بان الموحدين اما على الهدى أو فى ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم على الهدى إذ لا يرزق الا اللّه فليسوا فى ضلال أو لكنهم ليسوا على ضلال فهم على الهدى أو يقال المشركون اما على الهدى أو فى ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم ليسوا على هدى فهم فى ضلال أو لكنهم فى ضلال أو لا يرزق الا اللّه فليسوا على هدى فليس هذا الكلام مبنيا على الشك بل على حصر الاحتمالات وابطال احدى النقيضين لاثبات الاخر أو اثبات أحدهما لابطال الاخر كما هو دأب المناظرة وخولف بين حرفى الجر الداخلين على الهدى والضلال لان صاحب المهدى كأنّه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء وصاحب الضلال كأنَّه منغمس فى ظلام لا يدرى اين يتوجه ..
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) يعنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 29(1/5413)
ما أمركم به من التوحيد وترك الإشراك انما هو نصيحة لكم والا فلا مضرة لاحد بعمل غيره ففى هذا الكلام حث وترغيب على ما امر به من التوحيد وفى اسناد الاجرام إلى نفسه والعمل إلى المخاطب رعاية لحسن الأدب واظهار النصح دون التعصب والتعنت.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا أى بينى وبينكم رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ أى يحكم ويفصل بَيْنَنا بِالْحَقِّ أى بما يستحقه كل منابان يدخل المحق الجنة والمبطل النار وَهُوَ الْفَتَّاحُ أى الحاكم الفاصل فى القضايا المغلقة الْعَلِيمُ (26) بما ينبغى ان يقضى به فى الآية السابقة الزام للكفار على سبيل المناظرة وفيما بعدها على سبيل النصيحة وفى هذه الآية على طريقة التوبيخ بذكر حكم اللّه فيهم يوم القيامة ..
قُلْ أَرُونِيَ أى أعلموني الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ الموصول مع صلته مفعول ثان لارونى وشركاء مفعوله الثالث يعنى الذين ألحقتموهم باللّه فى استحقاق العبادة أعلموني كونهم شركاء يعنى باىّ صفة جعلتموهم شركاء هل يخلقون شيئا أو يرزقون أو ينفعون أحدا أو يضرون يعنى لا سبيل إلى القول بانهم شركاء اللّه. فى هذه الآية استفسار عن شبهتهم بعد الزام الحجة عليهم واقامة البرهان زيادة فى تبكيتهم كَلَّا ردع لهم عن الإلحاق بعد ظهور عدم المشاركة فى شىء من الصفات بَلْ هُوَ يعنى المستحق للعبادة ليس الا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) صاحب العزة القاهرة والحكمة البالغة لا شريك له شىء فى شىء من الصفات فكيف تلحقون به الجمادات النازلة فى ادنى مراتب الممكنات المتسمة بالزلة الآبية عن قبول العلم والقدرة رأسا فالضمير عائد إلى المستحق للعبادة واللّه خبره والحصر مستفاد من هذا التركيب والعزيز والحكيم صفتان للّه أو خبران آخران وجاز ان يكون هو للشأن واللّه مبتدا والعزيز والحكيم صفتان له والخبر محذوف أى متوحد لاستحقاق العبادة ..(1/5414)
وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً صفة لمصدر محذوف أى الا ارسالة كافة يعنى عامة شاملة لِلنَّاسِ فانها إذا عمتهم وقد كفتهم ان يخرجوا منها أحد منهم فعلى هذا قوله للناس متعلق بكافة وجاز ان يكون كافة حال من كاف الخطاب والتاء للمبالغة يعنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 30
يعنى وما أرسلناك الا جامعا لهم فى الإبلاغ عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض كلها مسجد أو طهورا فايّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل واحلّت لى الغنائم ولم يحل لاحد قبلى وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى النّاس عامة متفق عليه وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافّة وختم بي النبيون - وجاز ان يكون المعنى أرسلناك كافة أى كافّا تكفهم عن الكفر فى الدنيا وعن الوقوع فى النار فى الاخرة عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فانا أخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها - متفق عليه واللفظ للبخارى وقيل للناس متعلق بأرسلناك وكافة حال من الناس قدّم عليه للاهتمام يعنى أرسلناك لاجل ارشاد الناس كافة عامة أحمرهم وأسودهم واكثر النحويين لا يجوّزون ذلك لان ما فى حيز المجرور لا يتقدم على الجار.(1/5415)
و جملة ما أرسلناك حال من فاعل قل أروني غير ذلك على سبيل التنازع يعنى قل هذه المقالات لالزام الكفار وإرشادهم والى كونك مرسلا إليهم كافتهم أو كافا إياهم بَشِيراً للمؤمنين بالجنة وَنَذِيراً للكافرين من النار حالان من كاف الخطاب مترادفان لكافة على تقدير كونه حالان داخلان تحت الاستثناء بحرف واحد على طريقة ما ضربتك الا ضربا شديدا قائما وما حسبك الا راكبا مسرعا وجاز ان يكونان حالان من الضمير فى كافة على تقدير كونه حالا من الكاف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار لا يَعْلَمُونَ (28) أى لا يعتقدون ذلك بل يحملون إرشادك إياهم على العناد والمخالفة.
وَيَقُولُونَ أى الكفار لفرط جهلهم استهزاء واستبعادا مَتى هذَا الْوَعْدُ أى المبشر به والمنذر عنه أو متى هذا الموعود لقولك يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) يخاطبون به الرسول صلى اللّه عليه وسلم للمؤمنين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 31
و الجزاء محذوف دلّ عليه ما قبله يعنى ان كنتم صدقين فى الوعد فانبؤنى عن وقته.
قُلْ لهم فى الجواب لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أى وعد يوم أو زمان وعد والاضافة إلى اليوم حينئذ للتبين لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) عليه والمراد بذلك اليوم يوم القيامة وقال الضحاك يعنى الموت لا تتقدمون ولا تتاخرون بان يزاد فى اجالكم أو ينقص ولهذا جواب تهديد مطابق لما قصدوه بسوالهم من الاستهزاء والإنكار - .(1/5416)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى بما تقدمه وهو التورية والإنجيل قالوا ذلك حين سالوا أهل الكتاب عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فاخبروهم انا نجد نعته فى كتبنا فغضبوا وقالوا ذلك وجاز ان يكون المراد بالّذى بين يديه محمد صلى اللّه عليه وسلم وقيل المراد بالّذى بين يديه القيامة والجنة والنار وهذه الجملة معطوفة على ويقولون متى هذا الوعد وَلَوْ تَرى الخطاب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم أو لكل مخاطب والمفعول محذوف يعنى ولو ترى الظالمين إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محب وسون عِنْدَ رَبِّهِمْ للحساب الظرف متعلق بتري وجاز ان يكون الظرف مفعولا لترى والمعنى ولو ترى موضع محاسبتهم يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يعنى يتراجعون بينهم القول ويتجاورون والجملة حال من الضمير فى موقوفون أو خبر بعد خبر للظالمون يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أى الاتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أى الرؤساء لَوْ لا أَنْتُمْ يعنى لو لا صدكم إيانا عن الايمان باللّه وبرسوله ودعاؤكم إيانا إلى الكفر لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) بالنبي فانتم اوقعتمونا فى العذاب و.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فى جوابهم أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ استفهام انكار يعنى نحن لم نصدكم عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) اثبتهم انهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث اثروا التقليد ومتابعة الكفار بلا دليل وتركوا متابعة الرسول المؤيد بالمعجزات ولذلك أورد همزة الاستفهام على الاسم.
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 32(1/5417)
لم نصد أنفسنا بَلْ صدنا عن الهدى مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أى مكركم إيانا فى الليل والنهار وإضافة المكر إلى الظرف للاتساع وقيل عنوا بمكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فهما صدنا إِذْ تَأْمُرُونَنا الظرف بدل من الليل والنهار أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ان مفسرة للامر أو مصدرية بتقدير الباء وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أى أضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير أو المعنى أظهروها والهمزة يصلح للاثبات والسلب كما فى أشكيته وَجَعَلْنَا عطف على راوا العذاب الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا فى النار أورد المظهر موضع الضمير تنويها للذم واشعارا بموجب الاغلال هَلْ يُجْزَوْنَ أى لا يجزون جزاء إِلَّا جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) فى الدنيا تعدية يجزى اما لتضمين فعل متعد نحو تؤتون أو لنزع الخافض.
اخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق سفيان عن عاصم عن أبى رزين قال كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى الشام وبقي الاخر فلمّا بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى صاحبه فكتب صاحبه يسئله ما عمل فكتب إليه انه لم يتبعه من قريش أحد الا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم اتى صاحبه فقال دلنى عليه وكان يقرأ بعض الكتب - فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إلى ما تدعو فقال إلى كذا وكذا فقال اشهد انك رسول اللّه فقال وما علمك بذلك قال انه لم يبعث نبى الا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت.(1/5418)
وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الآية فارسل إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه قد انزل تصديق ما قلت من زائدة ونذير فى محل النصب على المفعولية إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها حال بتقدير قد من نذير يعنى الّا وقد قال مترفوا تلك القرية أى متنعميها خص المتنعمين بالتكذيب لان الداعي إلى التكذيب والإنكار غالبا التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك فى الشهوات والاستهانة بالفقراء ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) مقابلة الجمع بالجمع.
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 33
منكم فنحن اولى منكم ما تدعون ان أمكن لانا أحباء اللّه حيث أعطانا ذلك وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) اما لان العذاب لا يكون أو لان اللّه أكرمنا فلا يهيننا.
قُلْ يا محمد ردّا لحسبانهم إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ فى الدّنيا لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَيَقْدِرُ أى يضيق الرزق لمن يشاء ابتلاء وليس القبض والبسط فى الدنيا مبنيا على التوهين والتكريم لان الدنيا دار الابتلاء لا دار الجزاء ولذلك يختلف فيها احوال الاشخاص المتماثلة فى الخصائص والصفات وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أى الكفار لا يَعْلَمُونَ (36) فيظنون ان كثرة الأموال والأولاد للكرامة - .(1/5419)
وَ ما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي أى متلبسة بالخصلة التي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الأخفش زلفى اسم مصدر كأنّه قال يقربكم عندنا تقريبا وجاز ان يكون الباء زائدة والتي محمولا على أموالكم بارادة جماعة أموالكم إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً الاستثناء منقطع يعنى لكن من أمن وعمل صالحا فايمانه وعمله يقربه عنى كذا قال ابن عباس وجاز ان يكون الاستثناء متصلا من مفعول يقربكم يعنى ان الأموال والأولاد لا يقرب إلى اللّه أحدا الّا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله فى سبيل اللّه ويعلّم ولده الخير ويربّيه على الصلاح - أو من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف يعنى الا اموال من أمن وأولاده فانها تقربه فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا قرء يعقوب جزاء منصوبا منونا على التميز أو على انه مصدر لفعله الذي دل عليه والضّعف مرفوعا على انه مبتدا ولهم خبره والجملة خبر أولئك تقديره فاولئك لهم الضّعف يجزون جزاء وعن يعقوب رفعهما على ان الجزاء مبتدا والضعف بدل منه ولهم خبره وقرأ الجمهور جزاء بالرفع على انه مبتدا والضعف بالجر على انه مضاف إليه اضافة المصدر إلى المفعول والمراد ان اللّه يضعف جزاء حسناتهم فيجزون بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة إلى ما لا نهاية له وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) قرأ حمزة الغرفة على ارادة الجنس والباقون على الجمع
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 34
و الغرف رفع الشيء وهى المنازل الرفيعة من الجنة وقد ذكرنا ما ورد فى الغرفات من الأحاديث فى تفسير سورة الفرقان فى تفسير قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أى فى ابطال آياتنا مُعاجِزِينَ مقدرين عجزنا أو ظانّين انهم يفوتوننا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38).(1/5420)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يعنى يوسع عليه تارة ويضيق عليه اخرى فهذا فى شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق فى شخصين فلا تكرار وقال صاحب البحر المواج الاولى لرد فخرهم بالعباد وهذا لرد بخلهم حيث قال وَما أَنْفَقْتُمْ فى سبيل اللّه ما شرطية فى محل النصب وقوله مِنْ شَيْ ءٍ بيانه وجواب الشرط فَهُوَ الرب يُخْلِفُهُ أى يعطيه ما يخلفه اما بعجلة فى الدنيا واما بدخوله للاخرة فما لكم لا تنفقون أموالكم فى سبيل اللّه وتبخلون بها وتقديم المسند إليه على المسند الفعلى للتخصيص والتأكيد وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) فان غيره وسط فى إيصال رزقه واطلاق الرازق على غيره انما هو بالمجاز والرازق الحقيقي ليس الا اللّه فان قلت يلزم حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز فى قوله الرّازقين قلنا المراد هاهنا عموم المجاز ..
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أى الكفار جَمِيعاً المستكبرين والمستضعفين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ عطف على يحشر قرأ يعقوب وأبو جعفر وحفص يحشرهم ويقول بالياء والباقون بالنون فيهما أَهؤُلاءِ الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هم بنات اللّه إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) فى الدنيا يقول ذلك تبكيتا للمشركين وتقريعا لهم وإقناطا لهم من الشفاعة وتخصيص الملائكة لانهم اشرف لشركائهم والصالحون للخطاب منهم ولان عبادتهم مبدأ الشرك وأصله والظرف متعلق بقوله.
قالُوا سُبْحانَكَ أى نلزهك تنزيها عن الشريك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ يعنى أنت الذي خص موالاتنا به دونهم يعنى لا موالاة بيننا وبينهم كانّهم بينوا بذلك براءتهم عن الرضاء بعبادتهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 35(1/5421)
اى الشياطين الذين زيّنوا لهم عبادة الملائكة وقيل كانت الشياطين يتمثلون لهم ويخيلون إليهم انهم الملائكة فيعبدونهم أَكْثَرُهُمْ يعنى اكثر الناس وهم المشركون أو المراد بالأكثر الكل والضمير للمشركين بِهِمْ أى بالجن مُؤْمِنُونَ (41).
فَالْيَوْمَ أى فذلك اليوم لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يعنى لا يملك بعض الخلائق من الجن والانس والملائكة لبعضهم نفعا اثابة أو شفاعة ولا تعذيبا إذ الأمر كله للّه وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع العبادة فى غير موضعه ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) فى الدنيا عطف على لا يملك ..
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أى على أهل مكة آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات على لسان محمّد صلى اللّه عليه وسلم قالُوا ما هذا يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ أى خير غير مطابق للمواقع مُفْتَرىً يعنون انه افترى محمد على اللّه انه كلامه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ يعنى امر النبوة أو الإسلام أو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ يعنى بمجرد مجيئه عندهم من غير تدبر وتفكر إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) أى ظاهر سحريته فالاول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه أو اعجازه وفى تكرير الفعلى والتصريح بذكر الكفرة وما فى اللام من الاشارة إلى القائلين والمقول فيه انكار عظيم له وتعجيب بليغ منه.(1/5422)
وَ ما آتَيْناهُمْ يعنى كفار مكة مِنْ كُتُبٍ فيها دليل على صحة الإشراك هذه الجملة مع ما عطف عليه حال من فاعل قال الّذين كفروا يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) يدعوهم إليه وينذرهم على تركه فمن اين يدّعون بالشرك ويحكمون على القرآن بالإفك والسحر وعلى النبي بالكذب - وفيه تجهيل لهم وتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال.
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلنا وهم عاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط واصحاب مدين واصحاب الايكة هذا أيضا حال بتقدير قد أو معطوف على قال الّذين كفروا وَما بَلَغُوا يعنى هؤلاء الكفار أى كفار مكة مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أى عشر ما أعطينا الأمم الخالية من العدة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 36
و النعمة وطول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فحين كذبوا رسلى جاءهم نكيرى حيث دمّرناهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ لهم أى كيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك يعنى هو واقع موقعه استفهام توبيخ فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير فى كذّب لان الأول للتكثير والثاني للتكذيب أو الأول مطلق غير مقيد بالمفعول فانه نزل منزلة اللازم والثاني مقيد تفصيل بعد الإجمال ولذلك عطف عليه بالفاء وقال صاحب البحر المواج ضمير فكذبوا رسلى عائد إلى كفار مكة عطف على ما بلغوا فلا تكرار - قرأ ورش نكيرى بإثبات الياء وصلا لا وقفا والجمهور بحذفها فى الحالين - .(1/5423)
قُلْ يا محمد إِنَّما أَعِظُكُمْ أى أرشدكم وانصح لكم بِواحِدَةٍ أى بخصلة واحدة وهى ما دل عليه قوله أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ليس المراد بالقيام ضد الجلوس والرقود بل المراد به الانتصاب فى الأمر والتصدي له كما فى قوله تعالى أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ والمعنى ان تنتصبوا فى التفكر خالصا لوجه اللّه معرضا عن التعصب والتقليد مَثْنى وَفُرادى يعنى اثنين اثنين وواحدا واحدا فان الازدحام يشوش الخاطر حالان من فاعل تقوموا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فى امر محمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به عطف على تقوموا يعنى قوموا اما اثنين اثنين فيتفكران ويعرض كل واحد منهما فكره على صاحبه وينظران بنظر الانصاف أو يتفكر فرد فرد فى نفسه بعدل ونصفة حتى يتضح له الحق - وان مع صلته أما فى محل الجر بدلا من واحدة أو بيانا له وأما فى محل الرفع بإضمار هو واما فى محل النصب بإضمار اعنى ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ متعلق بتتفكّروا بتضمين يعلموا ارشاد إلى مواد التفكر والمراد ان هذا امر بديهي وهو ان صاحبكم محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس به جنون فانه ذو عقل سليم ولبّ عظيم وفهم مستقيم لا ينكره الا معاند أو مجنون - وبديهي ان من له عقل سليم لا يتصدى الأمر عظيم عبث يعادى بسببه الخلائق مع كونه متوحدا صفر اليد من غير تحقيق ووثوق ببرهان من غير فائدة معتدة به من جلب نفع أو دفع ضرر - وجلب نفع أو دفع ضرر دنيوى غير موجود اما جلب النفع فمنفى حيث يقول.
ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وكذا دفع الضرر لان ضرر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 37(1/5424)
معادات الخلائق موجود فما هذا الدعوى من محمد صلى اللّه عليه وسلم الا لجلب نفع متوقع فى غير هذا الدار الدنيا ودفع ضرر كذلك فيثبت بهذه المقدمات قوله إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) يلحق بكم فى غير هذا الدار فهذه المقدمات يرشد إلى وجوب اتباعه لا سيما قد انضم ذلك إلى معجزات كثيرة - قال ابن عباس لمّا نزلت وانذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى اللّه عليه وسلم على الصفا فجعل ينادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال ارايتكم لو أخبرتكم ان خيلا تريد ان تغير عليكم أ كنتم مصدقى قالوا ما جرّبنا عليك الا صدقا قال فانى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فقال أبو لهب تبّا لك سائر اليوم أ لهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - متفق عليه - قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على الرسالة فَهُوَ لَكُمْ يعنى لا اسئلكم شيئا وقيل معناه ما سألتكم من اجر بقولي ما اسئلكم عليه من اجر الّا من شاء ان يتّخذ إلى ربه سبيلا وقوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ...(1/5425)
فَهُوَ لَكُمْ أى لفائدتكم لان اتخاذ السبيل إلى اللّه ينفعكم وقربائى قرباكم - قلت بل قربى النبي صلى اللّه عليه وسلم علماء الظاهر والباطن من أهل بيته وغيرهم ومودتهم يورث التقرب إلى اللّه سبحانه إِنْ أَجْرِيَ قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب وخلف - أبو محمد وحمزة والكسائي بإسكان الياء والباقون بفتحها إِلَّا عَلَى اللَّهِ فى غير هذا الدار الدنيا ولو لا ذلك لم ارتكب تحمل تلك المشقة عبثا فلا بد لكم ان تتبعونى وتعملوا ما يوجب لكم الاجر على اللّه عزّ وجلّ تفضلا منه بناء على وعده قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معاذ هل تدرى ما حق اللّه على عباده وما حق العباد على اللّه قلت اللّه ورسوله اعلم قال حق اللّه على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على اللّه ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا - متفق عليه عن معاذ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (40) فيجازى كل امرئ على حسب عمله واعتقاده.
قُلْ يا محمد إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أى يلقيه وينزله على من يشاء ان يجتبيه من عباده أو المعنى يرمى به الباطل فيدمغه أو المعنى يرمى به إلى أقطار الآفاق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 38
فيكون وعدا بإظهار الإسلام روى احمد عن المقداد انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر الا ادخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيزا وذل ذليل اما يعزهم اللّه فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) بالرفع صفة محمولة على محل اسم انّ أو بدل من المستكن فى يقذف أو خبر ثان لان أو خبر محذوف أى هو علّام الغيوب يعلم من هو أهل للاجتباء بالوحى ويعلم عاقبة امر الإسلام حيث يدفع به الكفر ويظهره فى الأقطار.(1/5426)
قُلْ يا محمد جاءَ الْحَقُّ أى القرآن والإسلام والتوحيد وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) أى ذهب الباطل يعنى الشرك وزهق فلم يبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده كما قال بل يقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال قتادة الباطل إبليس أى ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه وهو قول الكلبي أيضا وقيل الباطل الأصنام - قال البغوي ان كفار مكة كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم انك قد ضللت حتى تركت دين ابائك فانزل اللّه تعالى.
قُلْ يا محمد إِنْ ضَلَلْتُ يعنى ما تدينت به من الدين ان كان ضلالا كما تقولون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعنى وبال ضلالى انما يعود إلى نفسى فكيف اختار الوبال على نفسى مع انه لا جنون بي ولا منفعة دنيوية يعود الىّ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يعنى ان كان هذا هداية فليس من قبل نفسى ولا من عند أحد من أهل هذا البلد لظهور انى أمي ما كتبت ولا قرأت على أحد فليس هو الا مستفادا من اللّه وحيا فيجب عليكم ان تتبعونى فتهتدوا كما اهتديت فهذا استدلال على النبوة وهذا الوجه المقابلة بين الشرطين وقال البيضاوي فى وجه المقابلة ان معنى قوله ان ضللت فانّما اضلّ على نفسى فان وبال ضلالى عليها فانه بسببها فانها هى الضالة بالذات والامارة بالسوء وان أهديت فبهدايته تعالى فعلى هذا وزان هذه الآية قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيّئة فمن نفسك
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 39
إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) يدرك قول كل ضالّ ومهتد وفعله ان أخفاه - .(1/5427)
وَ لَوْ تَرى أيها المخاطب إِذْ فَزِعُوا وقت فزع الكفار عند الموت وقال قتادة عند البعث وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فظيعا فَلا فَوْتَ لهم يعنى فلا يفوتون اللّه بهرب أو تحصن أو بإعطاء فداء عن نفسه وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) يعنى من ظهر الأرض إلى بطنها كما قيل أو من الموقف إلى النار وقال الضحاك هو يوم بدر فزعوا وأخذوا من مكان قريب بعذاب الدنيا لكن لا يناسب هذا التأويل قوله.(1/5428)
وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ أى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وقد مر ذكره فى قوله ما بصاحبكم فانهم لم يقولوا يوم بدرا منّا به بل قال أبو جهل حين قتل وكان به رمق وأخذ ابن مسعود لحيته وقال الحمد للّه الذي أخزاك يا عدو اللّه قال بما ذا أخزاني هل زاد على رجل قتله قومه وهل كان الّا هذا. وانما يقولون امنّا به عند البأس إذا اخذه سكرات الموات وعند البعث من القبور إذا عاينوا العذاب وعند البعث إلى النار وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب وأبو محمد بضم الواو بغير مد ومعناه التناول يعنى من اين لهم ان يتناولوا الايمان والتوبة والباقون التّناؤش بالمد والهمزة وإذا وقف حمزة جعلها بين بين لان ذلك من النئش بالهمزة وهو الحركة فى الإبطاء يعنى انى لهم ان يتحركوا ويطلبوا الايمان والتوبة وجاز ان يكون من النوش بمعنى التناوش فيكون أصله الواو ثم يهمز للزوم ختمها فعلى هذا يقف حمزة بضم الواو ورد ذلك إلى أصله كذا قال الداني فى التيسير - قال فى القاموس النأش يعنى بالهمز التناول كالتناوش والاخذ والبطش والنهوض والتأخير ولا يستقيم التأخير هاهنا ويستقيم غير ذلك والنوش يعنى بالواو التناول والطلب والمشي والاسراع في النهوض مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (51) فان تناول الايمان انما هو فى حين التكليف انه بعد عنهم حين التكليف وهذا تمثيل حالهم فى الاستخلاص بعد ما فات عنهم وبعد عنهم مجال من يريد تناول الشيء من غلوة مثل تناوله على ذراع فى الاستحالة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 40
و عن ابن عباس انه قال انهم يسئلون الرد إلى الدنيا فيقال وانى لهم الرد من مكان بعيد أى من الاخرة إلى الدنيا ..(1/5429)
وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ أى باللّه وقد مر ذكره أو بمحمد وقد ذكر بقوله ما بصاحبكم أو بالقرآن المذكور بقوله جاء الحقّ أو بالعذاب المفهوم من قوله أخذوا والجملة حال من فاعل قالوا مِنْ قَبْلُ ذلك الوقت فى أوان التكليف وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) أى من جانب بعيد من امر النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو الشّبه الذي تمحلوها فى امر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وحال الاخرة كما حكاه من قبل ولعله تمثيل لحالهم فى ذلك بحال من يرمى شيئا لا يراه من مكان بعيد لا محال الظن فى لحوقه قال مجاهد يرمون محمدا صلى اللّه عليه وسلم بما لا يعلمون يقولون شاعر ساحر كذّاب بلا تحقيق هذا تكلم بالغيب وقال قتادة يرمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار وهذا معطوف على قوله وقد كفروا به على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف فى تحصيل ما ضيعوه من الايمان فى الدنيا - .
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الايمان والنجاة من النار أو الرجوع إلى الدنيا أو كل ما يشتهيه الطبع من المأكولات والمشروبات وغيرها التي كانت لهم ميسرة فى الدنيا والظرف قائم مقام فاعل حيل أو هو مسند إلى مصدره أى حيل الحيلولة قرأ ابن عامر والكسائي حيل بإشمام الضم للحاء والباقون بإخلاص الكسر كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أى باشباههم من كفار الأمم الخالية مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ (54) موقع للريبة أو ذى الريبة منقول من المشكك أو الشاك نعت به الشك للمبالغة - تم تفسير سورة السبا من التفسير المظهرى فى العشرين من المحرم من السنة السابعة بعد الف ومائتين سنة 1207 من الهجرة ويتلوه تفسير سورة الملائكة إنشاء اللّه تعالى وصلى اللّه على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 41(1/5430)
سورة الملائكة
مكّية وهى خمس وأربعون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى خالقهما ومبدعهما من غير مثال سبق من الفطرة بمعنى الشق العدم بإخراجها منه والاضافة محضة لان فاطرا بمعنى الماضي فهو صفة للَّه جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وسائط بين اللَّه وأنبيائه والصالحين من عباده يبلَّغون إليهم رسالاته بالوحى أو الإلهام أو الرؤيا الصالحة أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم اثار صنعه. واضافة جاعل إلى الملائكة لفظية لان جاعلا قد عمل فى رسلا ولا يجوز اعماله فى المفعول الثاني الا ان يكون عاملا فى الأول لأنه من ملحقات افعال القلوب لا يجوز اقتصارها على أحد المفعولين والمعنى يجعل الملائكة رسلا فى الحال أو الاستقبال إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلم وخواص أمته فقوله جاعل بدل من اللَّه وليس بصفة أُولِي أَجْنِحَةٍ بدل من رسلا مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ صفات لاجنحة قال قتادة ومقاتل بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة اجنحة وبعضهم له اربعة اجنحة وليس هذا للحصر ولدفع توهم الحصر قال اللَّه تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ فى الملائكة وغيرها ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) روى مسلم فى الصحيح عن ابن مسعود فى قوله تعالى لقد راى من ايت ربّه الكبرى قال راى جبرئيل فى صورته له ست مائة جناح - ورواه ابن حبان بلفظ رايت جبرئيل عند سدرة المنتهى له سبع مائة جناح ينشر من ريشه الدر والياقوت - والجملة مستأنفة للدلالة على ان تفاوتهم فى ذلك انما هو مقتضى مشيته تعالى ومودى حكمته لا امر يستدعيه ذواتهم والآية متناولة لزيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وسماحة النفس والعقل والفهم وغير ذلك فما قال ابن شهاب ان المراد به حسن الصوت وقال قتادة الملاحة فى العينين وقيل هو العقل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 42(1/5431)
و التميز كل ذلك على سبيل التمثيل ..
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ أى ما يعطى اطلق الفتح وهو الإطلاق وأراد به الإعطاء تجوزا إطلاقا للسبب على المسبب مِنْ رَحْمَةٍ نعمة دينية كالايمان والعلم والنبوة وتوفيق الحسنات أو دنيوية كالمطر والرزق والامن والصحة والجاه والمال والولد فَلا مُمْسِكَ لَها أى لا أحد يحبسها ويمنع من اعطائها وَما يُمْسِكْ أى ما يمنعه فَلا مُرْسِلَ لَهُ واختلاف الضميرين لان الموصول الأول فسر بالرحمة فروعى معناه والثاني مطلق يتناولها والغضب فروعى لفظه وفيه اشعار بان رحمة سبقت غضبه مِنْ بَعْدِهِ أى بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على ما يشاء لا يقدر أحد ان ينازعه الْحَكِيمُ (2) لا يفعل الا بعلم وإتقان روى الشيخان فى الصحيحين عن المغيرة بن شعبة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول دبر كل صلوة لا اله الّا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ولما بيّن اللّه سبحانه انه خالق لجميع الأشياء متصرف فيها على ما يشاء امر الناس بشكر انعامه فقال.(1/5432)
يا أَيُّهَا النَّاسُ يا أهل مكة ودخل فى العموم غيرهم اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث اسكنكم الحرم ومنع منكم الغارات وجعل الأرض كمهد ورفع السماء بلا عمد وخلقكم وزاد فى الخلق ما شاء وفتح أبواب الرزق ولا ممسك له - ثم أنكر ان يكون لغيره فى ذلك مدخل حتى يستحق الإشراك به فقال هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَالْأَرْضِ النبات من الاولى زائدة فان الاستفهام للانكار بمعنى النفي وخالق مبتدا وغير اللّه فاعله على قراءة الرفع أو خالق مبتدا محذوف الخبر تقديره هل لّكم من خالق غير اللّه أو خبره غير اللّه أيضا على قراءة الرفع أو خبره يرزقكم وغير اللّه وصف له أو بدل منه قرأه حمزة والكسائي « و أبو جعفر وخلف أبو محمد » بالجر حملا على لفظه والباقون بالرفع حملا على محله أو خالق فاعل لفعل محذوف تقديره هل يرزقكم من خالق غير اللّه ويرزقكم فى محل الجر أو الرفع صفة لخالق أو فى محل النصب حال منه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 43
او تفسير لما أضمر أو استئناف لا محل له من الاعراب لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فمن اىّ وجه تصرفون من التوحيد إلى الإشراك مع اعترافكم بانه الخالق والرازق لا غير.(1/5433)
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فى البعث والتوحيد والعقاب فقاس بمن قبلك من الرسل يعنى اصبر ولا تحزن حذف الجزاء وأقيم مقامه فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ اقامة السبب مقام المسبب وتنكير الرسل للتعظيم المقتضى لزيادة التسلية والحث على الصبر يعنى كذبت رسل ذو عدد كثير وآيات واضحات وأعمار طوال واصحاب حزم وعزم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) فيجازيك على الصبر بالنصر والثواب وإياهم على التكذيب فى الدارين بالعذاب - قرأ حمزة « ابو محمد وابن عامر » والكسائي وخلف ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم على البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الجيم على البناء للمفعول ..
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ كائن لا يحتمل الخلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أى لا يلهيكم الاشتغال بزخارف الدنيا من طلب الاخرة والسعى لها وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ فى حلمه وامهاله الْغَرُورُ (5) يعنى الشيطان بان ينسيكم عذاب الاخرة أو يمنّيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية فانها وان أمكنت لكن ارتكاب الذنب بهذا الاحتمال يشبه تناول السم على احتمال الترياق أو رفعه الطبيعة.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة حيث قال و « 1 » عزّتك لاغوينّهم أجمعين فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا يعنى استيقنوا بعداوته وكونوا على حذر من اتباع وسوسته فى مجامع أحوالكم ولا تطيعوه وأطيعوا اللّه على رغم انفه فان مقتضى المحبة ان يفعل ما يرضاه المحبوب ويرضيه منه ومقتضى العداوة ان يفعل ما لا يرضاه ويغيظه والجملة تعليل للنهى السابق إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أى اتباعه من الانس إلى المعاصي واتباع الهوى والركون إلى الدنيا
_________
(1) وفى القرآن فبعزّتك.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 44(1/5434)
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) متعلق بيدعو تقرير لعداوته وبيان لغرضه ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال.
الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه واتبعوا الشيطان لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا باللّه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وخالفوا الشيطان لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7).(1/5435)
أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ أى راى عمله السيئ حَسَناً معطوف على زين تقرير له يعنى من زين له قبح عمله يعنى خذله اللّه حتى غلب همه وهواه على عقله واختل رأيه ووسوس له الشيطان فراى السيئ حسنا والباطل حقّا كمن لم يزين له وهداه اللّه إلى الحق ولم يجد الشيطان إليه سبيلا حتى عرف الحق من الباطل واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هى عليه فحذف الجواب لدلالة قوله فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ الهمزة فى أ فمن زيّن للانكار والفاء للعطف على المحذوف تقديره أ تطمع ان تهتدى كل رجل فيكون المخذول من اللّه والمهدى سواء لا تطمع ذلك فانّ اللّه يضلّ من يشآء ويهدى من يشاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ يعنى لا تهلك نفسك عَلَيْهِمْ أى على ضلالهم حَسَراتٍ منصوب على العلية أى للحسرات على غيّهم وضلالهم والحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوى أفعالهم المقتضية للتاسف وعليهم ليس صلة لها لان صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه وقيل تقدير الكلام ا تغتم بكفرهم فمن زيّن له سوء عمله فاضله اللّه تذهب نفسك عليهم حسرة يعنى لا تغتم فلا تذهب عليهم حسرات فقوله تعالى فلا تذهب تدل على الجواب المحذوف وقوله تعالى فانّ اللّه يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء معترضة فى مقام التعليل قال الحسين « 1 » بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه ا فمن زيّن له سوء عمله فراه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فانّ اللّه يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء - قال البغوي قال ابن عباس نزلت الآية فى أبى جهل ومشركى مكة واخرج جويبر عن الضحاك عن ابن
_________
(1) وفى البغوي الحسن بن الفضل. مصحح
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 45(1/5436)
عباس قال نزلت الآية حين قال النبي صلى اللّه عليه وسلم اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب أو بابى جهل بن هشام فهدى اللّه عمر وأضل أبا جهل ففيهما نزلت وقال سعيد بن جبير نزلت فى اصحاب الأهواء والبدع قال قتادة منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم واما أهل الكبائر فليسوا منهم فانهم لا يستحلون الكبائر بل يعتقدون الباطل باطلا وان كانوا مرتكبين به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه.(1/5437)
وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ عطف على انّ وعد اللّه حقّ يعنى وعد اللّه بالبعث حق واللّه أرسل الرياح واحيى الأرض بعد موتها كذلك نشوركم بالبعث قرأ ابن كثير و « خلف - أبو محمد » وحمزة والكسائي الرّيح على ارادة الجنس والباقون بصيغة الجمع فَتُثِيرُ سَحاباً على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ولان المراد بيان إحداثها بهذه الخاصة ولذلك أسند إليها ويجوز ان يكون اختلاف الافعال للدلالة على استمرار الأمر فَسُقْناهُ فيه التفات من الغيبة إلى التكلم لأنه ادخل فى الاختصاص لما فيها من مزيد الصنع إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص و « ابو جعفر وخلف أبو محمد » بتشديد الياء والباقون بالتخفيف فَأَحْيَيْنا بِهِ أى بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره أو بالسحاب فانه سبب السبب الْأَرْضَ أى جعلناها مخضرة ذات نبات بَعْدَ مَوْتِها أى بعد اغبرارها ويبس نباتها أسند موت نباتها وحياتها إليها مجازا كَذلِكَ أى مثل احياء النبات بعد اليبس النُّشُورُ (9) للاموات من القبور لاستوائهما فى المقدورية إذ ليس بينهما الا اختلاف المادة فى المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها وقيل التمثيل فى كيفية الاحياء لما ورد فى حديث عبد اللّه بن عمرو عند مسلم فى كيفية البعث حيث قال ثم يرسل اللّه مطرا كانّه الطل فينبت منه أجساد الناس الحديث واخرج أبو الشيخ فى العظمة عن وهب قال البحر المسجور اوله فى علم اللّه وآخره فى ارادة اللّه فيه ماء ثخين شبه ماء الرجل يمطر اللّه منه على الخلق أربعين يوما بين الراجفة والرادفة فينبتون نبات الجنّة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 46(1/5438)
فى حميل السيل ويجمع أرواح المؤمنين من الجنان وأرواح الكافرين من النار فيجعل فى الصور يأمر اللّه اسرافيل فينفخ فيه فيدخل كل روح فى جسده الحديث واخرج الشيخان عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عامّا قال أبيت ثم ينزّل اللّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء الا يبلى الا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركّب الخلق يوم القيامة واخرج ابن المبارك عن سليمان قال يمطر الناس قبل البعث أربعين يوما ماء خاثرا - أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من اصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعين عاما ينبت منه كل خلق بلى من انسان أو طيرا ودابة ولو مرّ عليهم مارّ قد عرفهم قبل ذلك نعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم يرسل الأرواح فتزوج بالأجساد - .(1/5439)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أى فى الدنيا والاخرة قال الفراء من كان يريد ان يعلم لمن العزّة فللّه العزّة جميعا والظاهر ان معناه من كان يطلب لنفسه العزة فليطلبها من عند اللّه وليتعزز بطاعة اللّه فان العزة كلها له ملكا وخلقا يؤتيها من يشاء وفيه رد على الكفار حيث طلبوا العزة بعبادة الأصنام قال اللّه تعالى واتّخذوا من دون اللّه الهة لّيكونوا لهم عزّا كلّا وعلى المنافقين حيث طلبوا العزة من الكفار قال اللّه تعالى ا يبتغون عندهم العزّة فانّ العزّة للّه جميعا ......... ثم بين ان ما يطلب به العزة انما هو التوحيد والعمل الصالح فقال إِلَيْهِ أى إلى اللّه يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وهى سبحان اللّه والحمد للّه واللّه اكبر ولا إله إلّا اللّه وتبارك اللّه ونحو ذلك وصعودها مجاز عن قبوله ايّاها كذا روى عن قتادة أو المراد بها صعود الكتبة بصحيفتها إلى عرشه كما يدل عليه حديث ابن مسعود قال ما من عبد يقول خمس كلمات سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الّا اللّه واللّه اكبر وتبارك اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 47(1/5440)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 47
الا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة الا استغفروا لقائلهن حتى يجئ بها وجه رب العالمين ومصداقه من كتاب اللّه عزّ وجلّ إليه يصعد الكلم الطيب. رواه البغوي والحاكم وغيره وروى الثعلبي وابن مردوية حديث أبى هريرة نحوه مرفوعا وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال الكلبي ومقاتل الضمير المستكن فى يرفعه راجع إلى الكلم والمنصوب إلى العمل المعنى ان العمل لا يقبل الا ان يكون صادرا عن التوحيد وقال سفيان بن عيينة ان المستكن راجع إلى اللّه عزّ وجلّ يعنى ان العمل الصالح أى ما كان خالصا لوجه اللّه لا يكون مشوبا برياء وسمعة يرفعه اللّه أى يقبله فان الإخلاص سبب لقبول الأقوال والأعمال.(1/5441)
و الظاهر ان الضمير المستكن راجع إلى العمل الصالح لقربه والمنصوب إلى الكلم وهو مفرد ليس بجمع أريد به الجنس ولذا وصفه بالطيب أو يقال تقديره إليه يصعد بعض الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وذلك البعض ما كان منه بالإخلاص وإرجاع الضمير هكذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة واكثر المفسرين قال الحسن وقتادة الكلم الطيب ذكر اللّه والعمل الصالح أداء الفريضة فمن ذكر اللّه ولم يؤد الفريضة رد كلامه على عمله وليس الايمان بالتمني ولا بالتجلى ولكن ما وقرنى القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد اللّه عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه القول ذلك بان اللّه يقول إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه وجاء فى الحديث لا يقبل قولا الا بعمل ولا قولا ولا عملا الّا بنية - قلت ليس المراد بهذه الآية ان الايمان بغير عمل لا يعتد به كيف وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من شهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد اللّه ورسوله وابن أمته وكلمته القاها إلى مريم وروح منه والجنة حقّ والنار حقّ ادخله اللّه الجنة على ما كان من عمل - رواه الشيخان فى الصحيحين عن عبادة بن الصامت بل المراد ان الكلم الطيب يصعد إلى اللّه فان كان معه عمل يرفع شأن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 48
تلك الكلمة ويزيد فى ثوابها ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقبل اللّه قولا الا بعمل يعنى قول المنافق بلا عمل من القلب والجوارح لا يعتد به وكذا القول المقرون بالعمل لا يعتد بهما الا بنية أى باعتقاد واخلاص من القلب وقيل معنى الآية والعمل الصالح يرفع القائل أى درجته.(1/5442)
وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ صفة لمصدر محذوف لان الفعل لازم ليس بمتعد إلى مفعول به أى يمكرون المكرات السيئات قال أبو العالية يعنى مكرات قريش للنبى صلى اللّه عليه وسلم فى دار الندوة كما مر فى سورة الأنفال فى قوله تعالى وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وقال الكلبي معنى الآية الذين يعملون السيئات وقال مجاهد وشهر بن حوشب هم اصحاب الرياء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ أى اللّه سبحانه يَبُورُ (10) أى يبطل حيث قال اللّه تعالى ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين أو المعنى اللّه يبطل اعمال المرائين - .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ معطوف على واللّه أرسل وهذا أيضا دليل على القدرة على البعث فان بدء الخلق ليس باهون من إعادته مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعنى أصلكم البعيد تراب حيث خلق آدم منه وأصلكم القريب نطفة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أصنافا ذكرانا وإناثا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا متلبسا بِعِلْمِهِ حال يعنى الا معلوما له وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ يعنى ما يقدر عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أى لا ينقضى من عمر أحد شىء إِلَّا فِي كِتابٍ يعنى كل ذلك مكتوب فى اللوح أو فى الصحائف الكرام الكاتبين قال سعيد بن جبير مكتوب فى أم الكتاب عمر فلان كذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة ايام حتى ينقطع عمره وقيل معناه لا يزاد فى عمر أحد ولا ينقص الا فى كتاب يعنى كتب فى اللوح المحفوظ ان عمر فلان كذا سنة ثم يزاد عمره ببعض الحسنات أو ينقص ببعض السيئات كل ذلك مكتوب فى اللوح يؤيده قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يرد القضاء الا الدعاء ولا يزيد فى العمر الا البرّ - رواه الترمذي عن سلمان الفارسي وقيل معناه لا يمد فى عمر من هو طويل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 49(1/5443)
العمر ولا ينقص عمر غيره من عمره أى عمر طويل العمر بان يعطى له عمر ناقص من عمره أو لا ينقص عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا والضمير له وان لم يدكر لدلالة مقابله عليه وللمعمر على التسامح اعتمادا على السامع كقولهم لا يثبت اللّه عبدا ولا يعاقبه الا بحق إِنَّ ذلِكَ أى كتابة الآجال والأعمال عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11).(1/5444)
وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا يعنى أحدهما عَذْبٌ فُراتٌ أى شديد العذوبة وقيل هو ما يكسر العطش سائِغٌ سهل الانحدار شَرابُهُ جملة هذا عذب فرات مع ما عطف عليه صفة للبحرين على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة وقيل هو ما يحرق بملوحته ضرب مثل المؤمن والكافر وبيان لكمال قدرته تعالى حيث خلق من جنس وأخذ شيئان مختلفان فى الخواص وَمِنْ كُلٍّ أى من كل واحد من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا استطراد فى صفة البحرين وما فيهما من النعم اولا على سبيل الاستطراد بل لتمام التمثيل والمعنى انه كما انهما وان اشتركا فى بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء كذلك المؤمن والكافر وان اشتركا فى بعض خواص الانسانية لا يتساويان فيما هو المقصود من خلق الإنسان وهو معرفة اللّه وعبادته حيث قال اللّه تعالى ما خلقت الجنّ والانس الّا ليعبدون أو لتفضيل الأجاج على الكافر بما يشارك العذب فى المنافع وَتَسْتَخْرِجُونَ أى من الملح دون العذب حِلْيَةً يعنى اللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها قيل نسب اللؤلؤ إلى البحرين لأنه يكون فى بحر الأجاج عيون عذبة يمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من بين ذلك وَتَرَى الْفُلْكَ عطف على ومن كلّ تأكلون فِيهِ أى فى كل منهما مَواخِرَ جمع ماخرة على وزن فاعلة من المخر وهو الشق يعنى شاقات للماء تجريها مقبلات ومدبرات لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أى من فضل اللّه بالتجارة فيهما واللام متعلق بمواخر ويجوز ان يكون متعلقا بفعل دلّ عليه الافعال المذكورة يعنى جعل اللّه البحر هكذا لتبتغوا من فضله وَلَعَلَّكُمْ أى ولكى تَشْكُرُونَ (12) الله على ذلك عطف على لتبتغوا لان حرف الترجي استعير لمعنى اللام وإيراد حرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال ..
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 50(1/5445)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ صيفا متصل بقوله واللّه خلقكم من تراب وبما فى سياقه وجملة ما يستوى معترضة وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ شتاء حيث يقصر النهار ويمد الليل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ أى كل واحد منهما يَجْرِي فى السّماء لِأَجَلٍ مُسَمًّى هى مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة حين ينقطع جريها وجملة كلّ يجري بيان للتسخير ذلِكُمُ مبتدا أى الذي فعل هذه الأشياء اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ اخبار مترادفة وكونه تعالى فاعلا لما ذكر موجب لثبوت تلك الاخبار ويحتمل ان يكون له الملك كلاما مبتدءا وَالَّذِينَ تَدْعُونَ أى الذين تعبدونها من الأصنام وغيرها كائنة مِنْ دُونِهِ تعالى ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) من زائدة على المفعول به فضلا ان يملك شيئا اخر وهو لفافة رقيقة على النواة فمن لم يملك كيف يستحق العبادة.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لقضاء حاجتكم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لانها جمادات الجملة الشرطية مع ما عطف عليه خبر ثان للموصول ولم يعطف للدلالة على استبداده لنفى الالوهية وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض أو على تقدير كون بعضهم ذا شعور كابليس مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإنفاع أو لتبرئهم منكم ومما تدّعون لهم من الالوهية كعيسى وعزير والملائكة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أى ينكرون باشراككم إياهم يقولون ما كنتم ايّانا تعبدون وَلا يُنَبِّئُكَ أى لا يخبرك بحقيقة الأمر مخبر مِثْلُ خَبِيرٍ (14) أى عالم وهو اللّه سبحانه فانه هو الخبير بكل شىء على ما هو عليه أو المعنى ولا ينبّئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبئك اللّه الخبير بحقائق الأشياء ..(1/5446)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون إِلَى اللَّهِ دائما فى الوجود وتوابعه وفى البقاء وفى النجاة من النار والاثابة بالجنة وغير ذلك وتعريف الفقراء نظرا إلى افتقار سائر الخلائق بالاضافة إلى فقرهم غير معتد به فانه حمل الامانة مع كونه ضعيفا ظلوما جهولا فهو أجوع من غيره وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ اللام للعهد أى المعروف بالاستغناء على الإطلاق والانعام العام على الموجودات الْحَمِيدُ (15) فى نفسه مستحق الحمد
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 51
من جميع خلقه.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ إلى العدم دليل على كونه غنيّا عنكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) بقوم آخرين بدلكم أطوع منكم أو بعالم اخر غير ما تعرفونه.
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) بمتعذر ولا متعسر.(1/5447)
وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ أى لا تحمل نفس آثمة وِزْرَ أى ثقل يعنى اثم نفس أُخْرى اما قوله تعالى وليحملنّ اثقالهم وأثقالا مع اثقالهم ففى الضالّين المضلّين فانهم حملوا أثقال ضلالهم مع أثقال ضلال أنفسهم لانهم أضلّوهم فكل ذلك أوزارهم وليس شىء منها من أوزار غيرهم واماما رواه مسلم عن أبى موسى يرفعه انه يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها لهم ويضعها على اليهود والنصارى - وما روى أيضا من وجه اخر بلفظ إذا كان يوم القيامة رفع اللّه إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداك من النار - وروى الطبراني والحاكم وصححه أيضا عن أبى موسى نحو الرواية الاولى وابن ماجة والطبراني أيضا نحو الرواية الثانية واخرج ابن ماجة والبيهقي عن انس إذا كان يوم القيامة رفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال هذا فداك من النار فتأويل هذه الأحاديث عندى ان المراد بالذنوب التي توضع على الكفار انهم ارتكبوا بتلك السيئات قبل أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وسنّوا سنة سيئة واقتفى المتأخرون اثارهم فى ارتكاب السيئات فلما غفرت سيئات المؤمنين تفضلا من اللّه تعالى بقيت سيات الذين سنوا تلك السنة عليهم مضاعفة لاجل الارتكاب ولاجل إبداع السنة السيئة فالوضع كناية عن ابقاء ما لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ الذي عمل بها فاقتفاه مسلم اللّه اعلم وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ أثقلها أوزارها أحدا غيرها إِلى حِمْلِها أى ليتحمل بعض أوزارها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ أى لم تجب تحمل شىء منه نفى اللّه سبحانه ان يحمل عنها غيرها ذنبه كما نفى ان يحمل عليها ذنب غيرها وَلَوْ كانَ أى المدعو دلّ عليه قوله ان تدع ذا قُرْبى أى ذا قرابتها قال البغوي قال ابن عباس يلقى الأب والام ابنهما فيقول يا بنى احمل عنى بعض ذنوبى فيقول لا أستطيع حسبى عملى إِنَّما تُنْذِرُ قال الأخفش معناه انما تنفع بانذارك التفسير(1/5448)
المظهري ، ج 8 ، ص : 52
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ غائبين عن عذابه أو عن الناس فى خلواتهم أو غائبا عنهم عذابه وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعنى الذين اجتنبوا المعاصي وأتوا بالواجبات خشية من عذاب اللّه هم المنتفعون بانذارك واختلاف الفعلين للدلالة على استمرارهم على ذلك فى جميع الأزمنة وَمَنْ تَزَكَّى أى تطهر من دنس المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفعه لها جملة معترضة مؤكدة لخشيتهم وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فيجازيهم على تزكيته ..
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى عن الهدى أى الكافر أو الجاهل وَالْبَصِيرُ (19) أى المؤمن والعالم.
وَلَا الظُّلُماتُ أى الكفر وَلَا النُّورُ (20) أى الايمان.
وَلَا الظِّلُّ أى الجنة والثواب وَلَا الْحَرُورُ (21) أى النار والعقاب.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل اخر للمومنين والكافرين ابلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل مثل للجهال والعلماء إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ان يهديه فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة فى الاقناط عنهم.
إِنْ أَنْتَ يا محمد إِلَّا نَذِيرٌ (23) تخوفهم بالنار ولا تقدر على هدايتهم.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ حال من الضمير المرفوع أو المنصوب أو صفة لمصدر محذوف أى محقين أو محقّا إرسالا متلبسا بالحق ويجوز ان يكون صلة لقوله بَشِيراً للمؤمنين بالوعد الحق وَنَذِيراً للكافرين بالوعيد الحق وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم السالفة إِلَّا خَلا أى مضى فِيها نَذِيرٌ (24) أى نبي أو من ينوبه من العلماء والاكتفاء بالنذير للعلم بان النذارة قرينة للبشارة قد قرن به من قبل أو لان الانذار لهم فان دفع الضرر أهم من جلب النفع.(1/5449)
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد فلا تغتم واصبر على اذاهم كما صبر قبلك من الأنبياء فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أى كفار الأمم الخالية قبل كفار مكة جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ حال من فاعل كذب بتقدير قد بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات الشاهدات على نبوتهم وَبِالزُّبُرِ كصحف ابراهيم وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) كالتوراة والإنجيل على ارادة التفصيل دون الجمع أو المراد بها واحد والعطف لتفائر الوصفين يعنى فصبروا على تكذيبهم.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 53
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ
(26) أى إنكاري بالعقوبة أى هو واقع موقعه قرأ ورش « و يعقوب وأبو محمد فى الحالين بإثبات الياء فى الوصل فقط والباقون بحذفها وصلا ووقفا ..
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها أو أصنافها على ان كلا منها اصناف مختلفة أو مختلفا هيئتها من الصفرة والخضرة والحمرة وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أى ذو جدد أى خطط وطرائق جملة اسمية هى مع ما عطف عليه حال من فاعل أخرجنا على طريقة أتيتك والشمس طالعة بِيضٌ وَحُمْرٌ وصفر مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة والضعف وَغَرابِيبُ سُودٌ (37) أى صخور شديدة السواد عطف على بيض أى جدد بيض وحمر وسود غرابيب فغرابيب تأكيد لسود مضمر يفسره ما بعده لأنه تأكيد وحق التأكيد ان يتبع المؤكد وهذا نظير قوله والمؤمن عاندات الطير وفى مثله مزيد تأكيد باعتبار الإضمار والإظهار كذا قال البيضاوي وقال الجلال المحلى يقال كثيرا اسود غربيب وقليلا غربيب وسود قلت لعل ذلك القليل عند ارادة مزيد التأكيد وجاز ان يكون عطفا على حدد كانّه قيل من الجبال ذو جدر مختلف ألوانها ومنها غرابيب متحدة اللون.(1/5450)
وَ مِنَ النَّاسِ عطف على مِنَ الْجِبالِ ... وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ذكّر الضمير لاجل من وقيل تقديره ومن الناس والدّواب والانعام ما هو مختلف ألوانه كَذلِكَ صفة لمصدر محذوف أى اختلافا مثل اختلاف الثمار والجبال.
و لمّا قال ا لم تر انّ اللّه انزل من السّماء إلى آخره ذكر انواع المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع الدالّة على صانعها وصفاته اتبعه بقوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ - الْعُلَماءُ يعنى الذين تفكروا فى خلق اللّه واستدلوا به على ذاته وصفاته وأفعاله وآلائه بخلاف الجمال ككفار مكة والذين تجاهلوا ولم يخلص علومهم إلى قلوبهم وأنفسهم كاحبار اليهود والنصارى. قال الشيخ العارف الاجل شهاب الدين السهروردي فى هذه الآية تعريض إلى انه من لا خشية له فهو ليس بعالم قلت فان معرفة الخشى بعظمته
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 54(1/5451)
و جلاله والعلم بصفات كماله يستلزم الخشية وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم قال البغوي قال ابن عباس يريد انما يخافنى من خلقى من علم جبروتى وعزتى وسلطانى فكل من « الجبروت فعلوت من الجبر بمعنى القهر منه » كان اعلم باللّه وصفاته كان أخشى منه روى الشيخان فى الصحيحين عن عائشة قالت صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخطب فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء اصنعه فو اللّه انى أعلمهم باللّه وأشدهم له خشية وروى الدارمي عن مكحول مرسلا قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم ثم تلا هذه الآية انّما يخشى اللّه من عباده العلماء وروى البخاري فى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا - فكمال الخشية للانبياء ثم للاولياء وهم علماء الحقيقة ثم الأمثل فالامثل قال مسروق كفى بخشية اللّه علما وكفى بالاغترار جهلا قال الشعبي العالم من يخشى اللّه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) تعليل لوجوب الخشية لدلالة على انه عزيز فى ملكه معاقب للمصرّ على طغيانه غفور للتائب من عصيانه ..(1/5452)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أى يداومون على قراءته واتباع ما فيه حتى صارت عنوانا لهم والمراد بكتاب اللّه القرآن أو جنس كتب اللّه فيكون ثناء على المصدقين من الأمم والقراء العلماء منهم بعد اقتصاص حال المكذبين وَأَقامُوا الصَّلاةَ أى اداموها مع رعاية حقوقها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يعنى كيف ما اتفق من غير قصد إليهما وقيل السر فى النافلة والعلانية فى المفروضة يَرْجُونَ تِجارَةً أى يرجون تحصيل الثواب بالطاعة لَنْ تَبُورَ (29) أى لن تكسر ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة.
لِيُوَفِّيَهُمْ اللّه متعلق بمعنى لن تبور يعنى يرجون تجارة نافعة ليوفيهم بانفاقها أُجُورَهُمْ أى أجور أعمالهم أو متعلق بفعل محذوف دل عليه ما عد من أعمالهم يعنى فعلوا ذلك ليوفّيهم أو يبرجون واللام للعاقبة يعنى يرج ون تجارة لن تبور حتّى يوفّيهم اللّه أجورهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما يقابل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 55
أعمالهم أخرج ابن أبى حاتم وأبو نعيم عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوفّيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجب له النار ممن صنع إليهم المعروف فى الدنيا إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) هذه الجملة فى مقام التعليل لما سبق ويرجون خبر ان وجاز ان يكون لهذا خبران بتقدير الرابط يعنى انه غفور لفرطاتهم شكور لطاعاتهم قال ابن عباس يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر القليل من أعمالهم أى يجازيهم عليه وعلى هذا يرجون حال من فاعل أنفقوا أخرج عبد الغنى ان هذه الآية نزلت فى حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف.(1/5453)
وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعنى القرآن ومن للبيان أو الجنس أو للتبعيض هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى احقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لان حقيقته يستلزم موافقته إياها فى العقائد واصول الاحكام والاخبار إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) عالم بظواهر الأشياء وبواطنها فهو عالم بانك حقيق لان يوحى إليك هذا الكتاب المعجز الذي هو عياد على سائر الكتب ..
ثُمَّ أَوْرَثْنَا منك ذلك الْكِتابَ والإرث انتقال الشيء من أحد إلى غيره وقيل معنى أورثنا آخرنا ومنه الميراث لأنه اخر من سالف ومعنى الآية أخرنا القرآن من الأمم الماضية وأعطينا الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا من للتبعيض متعلق باصطفينا أو بيان للموصول ظرف مستقر حال من الضمير المنصوب المحذوف الراجع إلى الموصول يعنى الّذين اصطفيناهم من عبادنا واضافة العباد إلى نفسه للتشريف والمراد بالموصول علماء أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم أو الامة بأسرها كذا قال ابن عباس فان اللّه اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمته وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصم بكرامة الانتماء إلى سيد الأنبياء طوبى لنا معشر الإسلام ان لنا من العناية ركنا غير منهدم لمّا دعا اللّه داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم وقيل الجملة معطوفة على انّ الّذين يتلون
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 56(1/5454)
و الّذى أوحينا اعتراض وعندى ان الجملة معطوفة على مضمون والّذى أوحينا إليك وهو الحق يعنى أنزلنا إليك الكتاب الحق ثم اورثناه منك الذين اصطفيناهم من عبادنا فَمِنْهُمْ من هو ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مقصر فى العمل قال اللّه تعالى فى حقهم وآخرون مرجون لامر اللّه امّا « 1 » يعذّبهم وامّا يتوب عليهم وقال اللّه تعالى يعبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رّحمة اللّه إن اللّه يغفر الذّنوب جميعا انّه هو الغفور الرّحيم وَمِنْهُمْ من هو مُقْتَصِدٌ يعمل على ظاهر الكتاب ولا يفوز إلى حقيقته قال اللّه تعالى فيهم وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا واخر سيّئا عسى اللّه ان يتوب عليهم انّ اللّه غفور رّحيم وَمِنْهُمْ من هو سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ أى بإرادته فائز إلى حقائق القرآن قال اللّه تعالى والسّابقون الاوّلون من المهاجرين « 2 » وو الأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان رضى اللّه عنهم ورضوا عنه وقال اللّه تعالى والسّبقون السّبقون أولئك المقرّبون والصنفان الأولان هم اصحاب الميمنة وقيل المقتصد من يعمل بالقران فى غالب الأوقات والسابق من ضم إلى العمل التعليم والإرشاد.
روى البغوي بسنده عن أبى عثمان النهدي قال سمعت عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه وأ هذا فقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سابقنا سابق ومقتصدنا ناج ظالمنا مغفور له - قال أبو قلابة (من رواة الحديث)
_________
(1) وفى الأصل امّا ان يعذّبهم وامّا ان يتوب عليهم [.....]
((1/5455)
2) وعن صهيب سمعت يقول فى المهاجرين هم السابقون الشافعون المدلون على ربّهم والذي نفس محمد بيده انهم ليأتون يوم القيامة وعلى عواتقهم السلاح فيقرعون باب الجنة فيقول لهم الخزنة من أنتم فيقولون نحن المهاجرون فيقول لهم الخزنة هل حوسبتم فيجثون على ركبهم ويرفعون أيديهم إلى السماء فيقولون أى رب ا بهذا نحاسب وقد خرجنا و؟؟؟ الأهل والمال والولد - فيمثل لهم اجنحة من ذهب مجوصة بالزبرجد والياقوت فيطيرون فيدخلون الجنة فذلك قوله تعالى وقالوا الحمد للّه الّذى اذهب عنّا الحزن إلى قوله ولا يمسّنا فيها لغوب - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهم بمنازلهم فى الجنة اعرف بمنازلهم فى الدنيا وعن عثمان بن عفان رضى اللّه عنه انه افرغ بهذه الآية ثم قال الا ان سابقنا أهل جهادنا الا وان مقتصدنا أهل عضدنا وظالمنا أهل بدونا - منه برد اللّه مضجعه 12 منه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 57(1/5456)
فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه ورواه البغوي أيضا مرفوعا وأخرجه سعيد ابن منصور والبيهقي موقوفا على عمر وروى البغوي بسنده عن أبى ثابت ان رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتى وانس وحشتي وسق الىّ جليسا صالحا فقال أبو الدرداء رضى اللّه عنه لان كنت صادقا لانا اسعد بك منك سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال اما السابق فيدخل الجنة بغير حساب واما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا واما الظالم لنفسه فيحبس فى المقام حتى يدخله الهم ثم يدخله الجنة ثم قرأ هذه الآية الحمد للّه الّذى اذهب عنّا الحزن انّ ربّنا لغفور شكور - ورواه احمد وابن جرير والطبراني والحاكم والبيهقي وفيه فاما الذين ظلموا فاولئك الذين يحبسون فى طول المحشر ثم هم الذين تلا فاهم اللّه برحمته لهم الذين يقولون الحمد للّه الّذى اذهب عنّا الحزن انّ ربّنا لغفور شكور قال البيهقي له ظرق عن أبى الدرداء قال وإذا كثرت طرق الحديث ظهر ان للحديث أصلا قال البغوي وروى عن اسامة بن زيد فى هذه الآية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلهم من هذه الامة وكذا أخرج البيهقي عن اسامة واخرج مثل ذلك عن كعب وعطاء ان الأصناف الثلاثة فى الجنة - واخرج ابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن عباس فى الآية قال هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ورثهم اللّه كل كتاب أنزله فظالمهم مغفور له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب واخرج احمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى هذه الآية قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم فى الجنة واخرج الفريابي عن البراء بن عازب فى قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه الآية قال اشهد على اللّه انه يدخلهم الجنة جميعا واخرج ابن أبى عاصم والاصبهانى عن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبعث اللّه العباد يوم القيامة ثم يميّز(1/5457)
العلماء فيقول يا معشر العلماء انى لم أضع علمى فيكم الا لعلمى بكم ولم أضع علمى فيكم لاعذبكم انطلقوا قد غفرت لكم واخرج
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 58
الطبراني بسند رجاله ثقات عن ثعلبة بن الحكم قال قال رسول اللّه يقول اللّه تعالى للعلماء إذا قعد على كرسيه لفصل عباده انى لم اجعل علمى وحكمى الا وانا أريد ان اغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي.(1/5458)
و أخرج ابن عساكر عن أبى عمر الصنعاني (اسمه حفص بن ميسرة) قال إذا كان يوم القيامة عزلت العلماء فإذا فرغ اللّه تعالى من الحساب قال لم اجعل حكمتى فيكم الا بخير أريدكم اليوم ادخلوا الجنة بما منكم وقال عقبة بن صهبان سالت عن عائشة عن قوله تعالى أورثنا الكتب الّذين اصطفينا من عبادنا فقالت يا بنى كلهم فى الجنة اما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهد له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجنة واما المقتصد فمن اتبع اثره حتى لحق به واما الظالم لنفسه فمثلى ومثلكم فجعلت نفسها معنا قلت ويمكن حمل هذه الأصناف الثلاثة على المصطفين الأخيار من هذه الامة أى الأولياء فمنهم ظالم لّنفسه وهو من يمنع نفسه عن حقوقه كما يمنعه عن حظوظه كاهل الرياضات والمجاهدات الشاقة رهبانية ابتدعوها ومنهم مقتصد يمنع نفسه عن حظوظه ويعطيه حقوقه فيصوم ويفطر ويصلى ويرقد وينكح ويأكل ويشرب ما أبيح له على ما هو السنة هم الذين قال عائشة فيهم من اتبع اثره حتى لحق به - ومنهم سابق بالخيرات المستغرق فى كمالات النبوة وهم الصحابة رضى اللّه عنهم والصديقون كما قالت عائشة وزعمت عائشة نفسها من الظالمين هضما وزعمت المخاطبين منهم لاجل رياضاتهم - وبالجملة فالاحاديث كلها تدل على ان الأصناف الثلاثة من المؤمنين أو من العلماء فمن قال أريد بالظالم الكافر أو المنافق فقوله مردود سئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال كلهم مؤمنون واما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله والّذين كفروا لهم نار جهنّم واما الطبقات الثلاث فمن الذين اصطفى من عباده لأنه قال فمنهم ومنهم ومنهم والكل راجع إلى الذين اصطفى من عباده وهم أهل الايمان وعليه الجمهور - وقدم الظالم فى الذكر لكثرة الظالمين وقلة(1/5459)
السابقين وتوسط المقتصدين أو لان الظلم بمعنى الميل إلى الهوى مقتضى الجملة والاقتصاد والسبق عارضان لكن الاقتصاد متوسط بين المنزلتين ذلِكَ التوريث أو الاصطفاء هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32).
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 59
جَنَّاتُ عَدْنٍ خير مبتدا محذوف أى هو أو مبتدا خبره محذوف تقديره لهم جنات عدن وقوله يَدْخُلُونَها صفة لجنات أو جنّات مبتدا ويدخلونها خبره قرأ أبو عمر وبضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول من الافعال والباقون بفتح الياء وضم الخاء من المجرد والضمير المرفوع فى يدخلونها راجع إلى الأصناف الثلاثة لما مرّ من الأحاديث يُحَلَّوْنَ فِيها حال مقدرة من فاعل يدخلونها أو بدل اشتمال من يدخلون أو مستأنفة أو خبر بعد خبر لجنات عدن أو صفة بعد صفة له مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً عطف على محل أساور وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) عطف على يحلون أو على جنات عدن أو حال من فاعل يحلون أو معترضة عن أبى سعيد الخدري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قوله تعالى جنّت عدن يدخلونها الآية فقال ان عليهم التيجان ان ادنى لؤلؤ منها ليضئ ما بين المشرق والمغرب رواه الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من أهل الجنة الا وفى يده ثلاثة اسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ - وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء - متفق عليه وعن حذيفة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا فى آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا فى صحافها فانها لهم فى الدنيا ولكم فى الاخرة متفق عليه وعن عمر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الاخرة - متفق عليه وروى الطيالسي بسند صحيح وابن حبان والحاكم عن أبى سعيد الخدري(1/5460)
نحوه وفى آخره وان دخل الجنة لم يلبسه واخرج ابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا عن كعب قال لو ان ثوبا من ثياب الجنة لبس اليوم فى الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم - .
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أى يقولون ذلك كما دل عليه ما تقدم من الأحاديث ودل عليه قوله تعالى الّذى احلّنا دار المقامة ويقولون ذلك أيضا عند البعث من القبور لحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس على أهل لا اله
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 60
الّا اللّه وحشة فى الموت ولا فى القبور ولا فى النشور كانى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الحمد للّه الّذى اذهب عنّا الحزن رواه الطبراني قال ابن عبّاس حزن النار وقال قتادة حزن الموت وقال مقاتل لانهم كانوا لا يدرون ما يفعل بهم وقال عكرمة خوف الذنوب والسيّئات وخوف رد الطاعات وقال الكلبي ما كان يحزنهم فى الدنيا من امر يوم القيامة وقال سعيد بن جبير همّ الخبز فى الدنيا وقيل همّ المعاش والمعاد والحق ان المراد به جنس الحزن مطلقا إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للذين ظلموا على أنفسهم شَكُورٌ (34) للمقتصدين والسابقين.(1/5461)
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مصدر ميمى أى دار الاقامة مِنْ فَضْلِهِ أى من انعامه وتفضّله إذ لا واجب عليه شىء أخرج البيهقي فى البعث وابن أبى حاتم من طريق نقيع بن الحارث عن عبد اللّه بن أبى اوفى قال قال رجل يا رسول اللّه ان النوم مما يقر اللّه به أعيننا فى الدنيا فهل فى الجنة من نوم قال لا ان النوم شريك الموت وليس فى الجنة موت قال فما راحتهم فاعظم ذلك صلى اللّه عليه وسلم وقال ليس فيها لغوب كل أمرهم راحة فنزلت لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أى تعب وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) كلال واعياء من التعب ذكر الثاني التابع للاول للتصريح بنفيه ومزيد التأكيد وجملة لا يمسّنا حال من مفعول احلّنا - .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عطف على ثمّ أورثنا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ أى لا يحكم عليهم بالموت فَيَمُوتُوا ويستريحوا منصوب بان مقدرة فى جواب النفي تقديره لا يكون عليهم قضاء بالموت فيموتوا روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صار أهل الجنة إلى الجنة واهل النار إلى النار جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادى يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم - واخرج الشيخان عن أبى سعيد نحوه وفيه يجاء بالموت يوم القيامة كأنَّه كبش أملح الحديث وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها طرفة عين بل كلّما نضجت جلودهم بدلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب وكلّما خبث زيدوا سعيرا كَذلِكَ أى جزاء مثل ذلك الجزاء نَجْزِي كُلَّ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 61(1/5462)
كَفُورٍ (36) أى كافر باللّه تعالى فانه أشد كفرا ممّن كفر نعمة منعم غير اللّه تعالى قرأ أبو عمرو يجزى بضم الياء المثناة من تحت وفتح الزاء ورفع كلّ على غير تسمية الفاعل والباقون بالنون وفتحها وكسر الزاء ونصب كلّ على المفعولية.
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أى فى النار عطف على لهم نار جهنّم أو حال من الضمير المجرور فى لهم يعنى يستغيثون بشدة وعويل يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل فى الاستغاثة لجهد المغيث صوته يا رَبَّنا أَخْرِجْنا من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ بدل من صالحا الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ جملة ربنا إلى آخره مقول ليقولون محذوف بيان ليصطرخون وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير صالح أو الاعتراف به والاشعار بان استخراجهم لتلا فيه وانهم كانوا يحسبونه صالحا والان ظهر خلاف ذلك - يقول اللّه تعالى فى جوابهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره ا لم نترككم فى دار التكليف ولم نعمّركم ما يتذكّر أى عمرا يتذكر فيه من تذكر من المؤمنين قال البغوي قال قتادة وعطاء والكلبي يعنى ثمانى عشرة سنة وقال الحسن أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن على وهو العمر الذي اعذر اللّه إلى ابن آدم لحديث أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اعذر اللّه إلى امرئ اخر اجله حتى بلغ ستين سنة رواه البخاري وكذا أخرج البزار واحمد وعبد بن حميد عن أبى هريرة رضى اللّه عنه واخرج الطبراني وابن جرير عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة قيل اين أبناء الستين وهو العمر الذي قال اللّه أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر - قلت الظّاهر ان ما يتذكر فيه من تذكر متناول لكل عمر يمكن للمكلف التفكر والتذكر فيه ولعل معنى الحديث سلب كل عذر لكل امرئ اخّر اجله حتى(1/5463)
بلغ ستين سنة فانه لم يبق من عمره الطبيعي الأكثري شىء لما رواه الترمذي عن أبى هريرة وأبو يعلى فى مسنده عن انس كلاهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك - والا فبعد البلوغ ليس له عذر معقول فى ترك الصلاة وغيرها من الفرائض لا سيما الايمان باللّه ولو لا كان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 62
ما يتذكر متناولا لكل عمر يمكن فيه التفكر لما كان هذا القول جوابا لكل كافر بل لمن أدرك ستين سنة فما زاد واللّه اعلم.
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فما اجبتموه والنذير محمد صلى اللّه عليه وسلم كذا أخرج ابن أبى حاتم عن السدّى وابن أبى حاتم وابن جرير عن زيد وهو قول اكثر المفسرين وقيل القرآن والمراد من تفسيرهم ان النذير محمد صلى اللّه عليه وسلم والقران لهذه الامة وغيرهما من الأنبياء والكتب لغيرهم - وقيل العقل وهذا على رأى من قال ان مجرد العقل كاف لوجوب الايمان باللّه حتى يحكمون بكفر شاهق الجبل إذا بلغ عاقلا ولم يبلغه دعوة نبى وهذه الجملة معطوفة على مضمون ما سبق يعنى عمرناكم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير وهذا العطف يقتضى ان النذير ليس المراد به العقل لان العطف يقتضى المغائرة ولا مغائرة بين مجئ العقل وعمر يصلح للتفكر الا فى المفهوم فان العقل ماخوذ فى ذلك العمر وعديم العقل لم يعمر ما يتذكّر فيه من تذكّر وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع المراد بالنذير الشيب أخرجه عن عكرمة عبد بن حميد وابن المنذر وأخرجه ابن مردوية والبيهقي فى سننه عن ابن عباس يقال الشيب بريد الموت قال البغوي وفى الأثر ما من شعرة تبيض الا قالت لاختها استعدى فقد قرب الموت - وقيل النذير موت الأقارب والاقران فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) يدفع عنهم العذاب ..
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(1/5464)
فلا يخفى عليه أحوالهم جملة مستأنفة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(38) تعليل له لأنه إذا كان عالما بمضمرات الصدور وهى أخفى ما يكون كان اعلم بغيره.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ يخلف بعضكم بعضا وعلى هذا خطاب لجميع الناس وقيل معناه لجعلكم أمة خلفت من قبلها وراث فيمن قبلها ما ينبغى ان يعتبر به وقيل الخليفة بمعنى المستخلف يعنى جعلكم خلفاء فى ارض خليفة بعد خليفة وقد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وخلائف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 63
فَمَنْ كَفَرَ منكم فَعَلَيْهِ وبال كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً أى أشد غضبا وبغضنا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) فى الاخرة والتكرير للدلالة على ان اقتضاء الكفر لكل واحد من الامرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه.(1/5465)
قُلْ يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى الأصنام أضاف الشركاء إليهم لانهم جعلوهم شركاء للّه أو لانفسهم فيما يملكونه أَرُونِي تأكيد أو بدل اشتمال من ارايتم لأنه بمعنى أخبروني ما ذا خَلَقُوا مفعول ثان لرأيتم محمول على شركائكم مِنَ الْأَرْضِ أى من اجزاء الأرض ب يان لما كانّه قال أخبروني عن لهؤلاء الشركاء أخبروني أى جزء من الأرض استبدوا بخلقه أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أى شركة مع اللّه فِي خلق السَّماواتِ فاستحقوا بذلك شركة فى الوهية ذاتية أم منقطعة بمعنى بل والهمزة إضراب عن خلق بعض الأرض بالاستقلال واستفهام عن الشركة فى السّماوات ثم اضرب عنه واستفهم فقال أَمْ يعنى بل آتَيْناهُمْ قال مقاتلء أعطينا كفار مكة كِتاباً ينطق على ما اتخذناهم شركاء فَهُمْ الفاء فى جواب شرط محذوف تقديره ان كان الأمر كذلك فهم يعنى كفار مكة كائنون عَلى بَيِّنَةٍ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص و « خلف أبو محمد » وحمزة على التوحيد والباقون بيّنات على الجمع يعنى على حجج واضحات مِنْهُ أى من ذلك الكتاب بَلْ إضراب عن الترديد السابق واثبات لما عدا ذلك كلها بقوله إِنْ يَعِدُ أى ما يعد الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) يعنى ليس عندهم علم على شركهم وكتاب ليستدل عليه به بل ما يعد الاسلاف الأخلاف الا غرورا باطلا ما يغرّهم الا بلا سند يشهد عليه يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ..
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أى لئلا تزولا أو كراهة ان تزولا أو يمنعهما ان تزولا فان الممكن حال بقائه لا بد له من علة تحفظه كما لا بد له فى إيجاده من علة وَلَئِنْ زالَتا بمقتضاء إمكانها ان لم يوجد من اللّه سبحانه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 64(1/5466)
افاضة الوجود اللام للقسم إِنْ أَمْسَكَهُما يعنى ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أى من بعد اللّه أى سواه أو بعد الزوال وجملة انّ اللّه يمسك إلى آخره سدّ مسدّ الجوابين يعنى لم يخلق شيئا أحد غيره وليس لاحد شركة معه من الاولى زائدة والثانية للابتداء إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) فبحلمه أمهل الكفار ولم يستعجل فى عقوبتهم وبغفرانه غفر المسلمين ولو لا امهاله وغفرانه لم يمسك السماوات والأرض فيسقط السماء عليهم وينخسف بهم الأرض بذنوبهم - أخرج ابن أبى حاتم عن ابن أبى هلال انه بلغه ان قريشا كانت تقول لو ان اللّه بعث منا نبيّا ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها ولا اسمع لنبيها ولا أشد تمسكا بكتابها منا فانزل اللّه تعالى « 1 » .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على المصدرية من اقسموا لان الايمان بمعنى الاقسام يعنى اقسموا اقساما بليغة أو من المحذوف تقديره اقسموا باللّه جهدوا جهد ايمانهم أو حال من فاعل اقسموا يعنى جاهدين فى ايمانهم على طريقة مررت به وحده - قال البغوي بلغ قريشا قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ان أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن اللّه اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم فاقسموا لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول من اللّه لَيَكُونُنَّ أَهْدى جواب قسم فى اللفظ وجواب شرط أيضا فى المعنى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ السالفة يعنى من كان من الأمم السالفة على هدى فنحن نكون اهدى منهم قالوا ذلك لما رأوا تكذيب اليهود والنصارى بعضهم بعضا قالت اليهود ليست النّصارى على شىء وقالت النّصارى ليست اليهود على شىء فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ من اللّه يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً (42) أى تباعدا من الحق وهذا اسناد مجازى.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ عن الايمان بدل من نّفورا
_________
((1/5467)
1) وفى الأصل اقسموا بغير واو
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 65
و مفعول له أو حال وَمَكْرَ السَّيِّئِ أى العمل القبيح قال الكلبي هو اجتماعهم على الشرك قلت هو إرادتهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ان يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه أصله وان مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل ان مع الفعل بالمصدر ثم أضيف - قرأ حمزة السّيّئ ساكنة الهمزة فى الوصل لتوالى الحركات تخفيفا كما سكن أبو عمرو الهمزة فى بارئكم وإذا وقف أبدلها ياء ساكنة أيضا وهى قراءة الأعمش والباقون بخفض الهمزة ويجوز روعها وإسكانها فى الوقف وَلا يَحِيقُ أى لا يحل الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يعنى بمن مكر وقد حاق بهم يوم بدر فقتلوا قال ابن عباس لا يحيق عاقبة الشرك الا بمن أشرك يعنى وبال شركهم راجع إليهم فَهَلْ يَنْظُرُونَ أى ما ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أى سنة اللّه فيهم يعنى استيصالهم ان أصروا على الكفر فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يعنى سنة اللّه لا يتبدل ولا يتغير فلم يبق من أهل مكة الا من أمن منهم وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) بان ينقله من المكذبين إلى غيرهم - .(1/5468)
أَ وَلَمْ يَسِيرُوا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يشاهدوا اثار الماضيين ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا مجزوم بلم عطفا على يسيروا أو منصوب بتقدير ان بعد النفي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قد شاهدوا فى مسيرهم إلى الشام واليمن والعراق اثار الماضين وَكانُوا حال بتقدير قد يعنى والحال انه قد كان الذين قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ أى من أهل مكة قُوَّةً ومع ذلك قد اهلكوا ولم يغنى عنهم قولهم شيئا فما لهم أى لاهل مكة لا يعتبرون بهم وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أى ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْ ءٍ من زائدة وشىء فى محل الرفع فاعل ليعجزه فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ظرف مستقر صفة لشئ أو ظرف لغو متعلق بيعجزه إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها وبما يستحقها قَدِيراً (44) على كل شىء بما يشاء - ولمّا سبق من ان كفرهم يقتضي استيصالهم كما هو سنة اللّه فى الذين من قبلهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 66
و قد كانوا أشدّ منهم قوة ذكر سبب إمهالهم فقال.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ فى الدنيا عاجلا بِما كَسَبُوا من المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أى ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب عليها بشوم معاصيهم أو من دابة عاصية وهو الأظهر لقوله تعالى وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ أى يؤخر مواخذتهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو ما بعد الموت أو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ قال ابن عباس يريد به جميع العباد أهل طاعته واهل معصيته بَصِيراً (45) فيجازيهم على حسب أعمالهم.
تمت تفسير سورة الملائكة من تفسير المظهرى (و يتلوه سورة يس ان شاء اللّه تعالى) وصلى اللّه على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين حادى عشر شهر صفر من السنة السابعة بعد الف ومائتين من الهجرة سنة 1207 ه.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 67(1/5469)
فهرس السور القرآنية من التفسير المظهرى
فهرس سورة يس
من التفسير المظهرى مضمون/ صفحه ما ورد فى كثرة الخطو إلى المساجد - 74 ما ورد فى استقرار الشمس وسجودها تحت العرش 83 تحقيق حركات الكواكب والافلاك حديث النهى عن قتل النساء والاتباع من أهل الحرب 87 ويل واد فى جهنم 90 شغل أهل الجنة فى الجنة - 91 السلام من اللّه على أهل الجنة - 93 مضمون صفحه حديث إذا القى فى النار من هو مخلد فيها 92 جعلوا فى توابيت من حديد الحديث ما ورد فى شهادة الأعضاء 95 لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتمثل شيئا من الشعر 97 حديث انى والجن والانس فى نبا عظيم 98؟؟؟ وبعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى - مسئلة عظم الميتة طاهر 100 ما ورد فى فضل يس - 103.
فهرس سورة الصّافات من التفسير المظهرى
مضمون صفحه حديث الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها 105 الكوكب كلها فى السماء الدنيا - 106 ما ورد فى الشهاب ورجم الشياطين - 108 ما ورد فى السؤال عن العباد يوم القيامة 113 ما ورد فى الزقوم 117 ما ورد فى علم النجوم وتعليمه وتعلمه - 121 رؤيا الأنبياء وحي - 129 الياس والخضر يصومان شهر رمضان بيت المقدس ويوافيان الموسم 132 مسئلة لا يجوز ذكر ذلة الأنبياء ومن اعترض على أحد من الأنبياء فقد كفر - 135 مضمون صفحه ما ورد فى التفريق والتفضيل بين الأنبياء 145 ما ورد فى فضائل موسى وفضائل نبينا صلى اللّه عليه وسلم - 146 ما ورد فى كثرة الملائكة فى السماء وان ما منهم الا له مقام معلوم لا يتجاوز عنه - 149 قول على رضى اللّه عنه من أحب ان يكتال بالمكيال الا وفى الاجر يوم القيامة فليكن اخر كلامه من المجلس سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون إلى آخره - 152.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 68
فهرس سورة ص من التّفسير المظهرى(1/5470)
مضمون/ صفحه حديث أحب الصيام إلى اللّه صيام داود وأحب الصلاة صلوة داود - 159 حديث صلوة الضحى 160 مسئلة أداء سجود التلاوة فى الركوع إذا نوى 168 مسئلة سقوط سجود التلاوة بسجود الصلاة ان كان على الفور - 168 مسئلة الاختلاف فى سجدة ص 169 ما ورد من الدعاء فى سجود التلاوة 170 من اتبع هواه اختل رايه وضل فى اجتهاده 173 حديث الخيل معقود فى نواصيها الخير الاجر والمغنم 175 حديث ان عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علىّ صلاتى فامكننى اللّه منه - 182 الشكوى إلى اللّه والدعاء والتضرع لا ينافى الصبر 184 الارتقاء من مقام الصبر إلى مقام الرضاء 184 حديث انا أخذ بحجزكم من النار 188 حديث رايت ربى فى احسن صورة قال فيم يختصم الملأ الأعلى 190 حديث رايت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها 190 ايّهم يكتبها يعنى ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا -
فهرس تفسير سورة الزمر من التّفسير المظهرى
ما ورد فى اجر الصبر 201 ما ورد فى غرف الجنة 205 ما ورد فى شرح الصدر 206 انكار البغوي على من يغشى عليه عند استماع القرآن وما ذكرت فيه وذكر تفسير الحال عند السماع 208 القرآن ليس بخالق ولا مخلوق وهو الكلام اللفظي العربي - 211 ما ورد فى اختصام الناس بعضهم بعضا يوم القيامة 212 الدعاء عند النوم - 218 دعاء الاستفتاح اللهم رب جبرئيل إلخ 220 الأحاديث الواردة فى عموم رحمة اللّه ومغفرة الذنوب كلها غير الشرك على خلاف مذهب القدرية 223 ابطال مذهب الجبرية 227 الردة يحبط كل حسنة عملها قبل ذلك فان اسلم بعد الردة فى الوقت يجب عليه إعادة الصلاة ويجب إعادة الحج على من حج قبلها - 231 ما ورد فى زيادة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الجنة 237 حديث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر - 238.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 69
فهرس سورة المؤمن من التّفسير المظهرى(1/5471)
مضمون صفحه ما ورد فى حملة العرش ودعائهم للمؤمنين 243 المشاركة فى الايمان يوجب النصح والشفقة 244 ما ورد فى الحاق الآباء والأبناء والأزواج مع الصلحاء فى الدرجة - 245 ما ورد فى تشقق السماوات ونزول الملائكة وقوله تعالى لمن الملك اليوم - 248 ما ورد فى يوم التناد - 255 ما ورد فى فضل الدعاء وفى وعد الاستجابة لمن يدعوا اللّه 270 فيمن لا يرد دعوته 271 فى شرائط اجابة الدعاء 271 فى سنن الدعاء 272 حديث لو ان رصاصة مثل هذا أى بجهة له الملك من السماء الحديث 276 ما ورد فى عدد الأنبياء والرسل 277 ذكر علم ينفع وعلم ما لا ينفع - 278
فهرس سورة حم السجدة من التفسير المظهرى
ما ورد فى المريض يكتب له فى مرضه ما كان يعمل فى صحته من الحسنات - حديث شهادة الجوارح تفسير الاستقامة وانها لا يتصور الا بعد فناء النفس والقلب حديث بين كل أذانين صلوة - حديث لا يرد الدعاء بين الاذان والاقامة 295 فصل فى فضل الاذان 295 فصل فى جواب الاذان 296 فى تحقيق موضع السجود - 298.
فهرس سورة الشّورى من التّفسير المظهرى
حديث أطت السماء إلخ فى كثرة سجود الملائكة 308 حديث خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه كتابان إلخ 309 حديث خطر رسول اللّه صلى اللّه خطا وقال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا 312 ما ورد فى التمسك بالجماعة والنهى عن التفرق 313 حديث انما الأعمال بالنيات - 316 حديث من عمل عمل الاخرة للدنيا 316 ما ورد فى وجوب محبة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى محبة اله وعترته 318 وما ورد فى حب أبى بكر وعمر وأصحابه وأنصاره وقريش والعرب 319 ما ورد فى التوبة والعفو عن السيئات 322 حديث أفضل الدعاء الحمد للّه - 323 ما ورد فى ان المرض والتعب يكفر لذنوب المؤمن 325 حديث الايمان نصفان نصف فى الصبر ونصف فى الشكر 326 حديث المستشار مؤتمن - 328 ما ورد فى المستبّين. 329
فى كيفية الوحى - 333.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 70(1/5472)
سورة يس
وتسمى معمة أخرج ابن مردوية والخطيب والبيهقي عن أبى بكر « 1 » الصدّيق عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انّه قال يس تدعى معمة تعم صاحبها خير الدارين وتسمّى الدافعة لانها تدفع عن صاحبها كل سوء وتسمّى القاضية لانها تقضى كلّ حاجة مكّيّة وهى ثلاث وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.
يس (1) أخرج أبو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ فى المسجد فيجهر بالقراءة حتى تاذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم عمى لا يبصرون فجاءوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ننشدك باللّه والرحم يا محمد. ولم يكن بطن من بطون قريش الا وللنبى صلى اللّه عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس إلى قوله أم لم تنذرهم لا يؤمنون فلم يؤمن من ذلك النفر أحد - قرأ حمزة وأبو بكر « و الكسائي وخلف وروح - أبو محمد » بامالة فتح الياء والباقون باخلاصها وورش وأبو بكر وابن عامر والكسائي يدغمون نون الهجاء فى الواو ويبقون الغنة وكذلك فى ن والقلم غير ان عامة أهل الأداء من البصريين يأخذون فى مذهب ورش هناك بالبيان والباقون بإظهار النون فى السورتين - ويس كسائر المقطعات فى المعنى والاعراب وقيل معناه يا انسان بلغة طى يعنى به محمدا صلى اللّه عليه وسلم على ان أصله يا انيسين فاقتصر على شطره
_________
((1/5473)
1) وفى رواية عن أبى بكر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سورة يس تدعى فى التوراة المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكائد عنه بلوى الدنيا والاخرة وتدفع عنه اطاويل الاخرة وتدعى الدافعة والقاضية تدفع عن صاحبها كل سؤ وتقضى له كل حاجة من قرأها عدلت عشرين حجة ومن سمعها عدلت الف دينار فى سبيل اللّه ومن كتبها ثم شربها ادخلت جوفه الف دواء والف نور والف يقين والف بر والف رحمة ونزعت عنه كل غل وداء - وعن أبى بكر الصديق قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من زار قبر والديه أو أحدهما فى كل جمعة فقرا عندهما يس غفر اللّه تعالى له بعدد كل حرف منهما » منه نور اللّه تربته
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 71
لكثرة النداء كما قيل من اللّه فى ايمن اللّه كذا روى عن ابن عباس وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال أبو العالية يا رجل وقال أبو بكر الوراق يا سيد البشر وروى عن ابن عباس انه قسم.
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) أى المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني الواو للقسم أو العطف ان جعل يس مقسما به.
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) جواب قسم فان قيل الغرض من الاخبار اما إفادة الحكم للمخاطب أو إفادة لازم الحكم يعنى إفادة ان المتكلم عالم به وهاهنا لا يتصور شىء منهما فاىّ فائدة فى الاخبار قلنا الغرض هاهنا اعلام الكفار ورد انكارهم وإصرارهم حيث قالوا لست مرسلا.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) متعلق بالمرسلين أى لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم وهو التوحيد والاستقامة فى الأمور أو ظرف مستقر خبر ثان لان أو حال من المستكن فى الجار والمجرور وفائدته المدح ووصف الشرع بالاستقامة صريحا وان دلّ عليه لمن المرسلين التزاما - .(1/5474)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) قرأ حفص وابن عامر وحمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » بنصب تنزيل بإضمار اعنى بيان للصراط أو بإضمار فعله تقديره نزّل يعنى القرآن تنزيل العزيز فى ملكه الرّحيم بخلقه حيث نزل الكتاب وأرسل الرسول فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل وقرأ الباقون بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف أى القران.
لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بتنزيل أو بمعنى قوله لمن المرسلين ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما نافية والجملة صفة لقوم أى لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم حيث لم يبعث بمكة نبى بعد إسماعيل عليه السلام فهم أشد احتياجا إلى الرسالة من غيرهم فَهُمْ غافِلُونَ (6) أى لم ينذروا فبقوا غافلين وقيل ما موصولة أو موصوفة والمعنى لتنذر قوما بالذي أو بشئ انذر به آباؤهم الا بعدون فيكون مفعولا ثانيا لتنذر أو مصدرية يعنى لتنذر قوما إنذار ابائهم أى مثل إنذارهم وعلى هذه الوجوه قوله فهم غافلون متعلق بقوله انّك لمن المرسلين أى أرسلناك إليهم لتنذرهم فانهم غافلون.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 72
عَلى أَكْثَرِهِمْ
يعنى قوله تعالى لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين فَهُمْ أى ذلك الأكثر لا يُؤْمِنُونَ (7) أخرج ابن جرير عن عكرمة قال أبو جهل لان رايت محمدا لافعلن ولافعلن فنزلت.(1/5475)
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله لا يبصرون فكانوا يقولون هذا محمد فيقول اين هو اين هولا يبصره وقال البغوي نزلت فى أبى جهل وصاحبه المخزوميين وذلك ان أبا جهل كان قد حلف لان راى محمدا يصلى ليرضخن رأسه فراه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه فلمّا رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلمّا عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما راى سقط قال رجل من بنى مخزوم انا اقتله بهذا الحجر فاتاه وهو يصلى ليرميه بالحجر فاعمى اللّه بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت فقال ما رايته ولقد سمعت صوته وحال بينى وبينه شىء كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لاكلنى فانزل اللّه تعالى انّا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أى الاغلال وأصله إلى أذقانهم فلا يخليهم يطاطئون وقال البغوي هى كناية عن الأيدي وان لم يجر لها ذكر لان الغل يجمع اليد إلى العنق معناه انّا جعلنا فى أيديهم وأعناقهم أغلالا فهى إلى الأذقان فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) الفاء للسببية فان الاغلال سبب للاقحام يعنى هم رافعون رءوسهم غاضون أبصارهم لا يستطيعون النظر إلى شىء واخرج البيهقي فى الدلائل من طريق السدّى الصغير عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ان ناسا من بنى مخزوم تواصوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ليقتلوه منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة فبينا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلّى يسمعون قراءته أرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى اتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قرائة ولا يراه فانصرف إليهم فاعلمهم فاتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي هو يصلى فيه سمعوا قرائة فيذهبون إلى الصوت فإذا الصوت من خلفهم فيذهبون إليه فيسمعونه أيضا من خلفهم فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلا فذلك قوله تعالى.(1/5476)
وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 73
سَدًّا
قرأ حمزة والكسائي وحفص « و خلف - أبو محمد » بفتح السين والباقون بفتحها وهما لغتان فَأَغْشَيْناهُمْ أى فاعميناهم من التغشية وهى التغطية فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) الفاء للسببية قال أهل المعاني هذا على طريق التمثيل ولم يكن هناك غل ولا سد أراد اللّه سبحانه انا منعناهم عن الايمان بموانع فجعل الاغلال والسد مثلا لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا يغنى عنهم الآيات والنذر مثلهم بالذين غلّت أعناقهم فهى إلى الأذقان فهم مقمحون وبالذين جعل بينهم السد وبين ما يريدون رؤيته فى انهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطاطئون رءوسهم له ولو طاطئوا رءوسهم فرضا يمنعهم السد عن الابصار فهم لا يبصرون سبيل الهدى أو أراد انا منعناهم عن إيذاء الرسول بحفظنا إياه وجاز ان يكون جعلنا بمعنى نجعل أورد صيغة الماضي لتحقق الوقوع يعنى نجعل فى جهنم فى أعناقهم أغلالا ونجعل بين أيديهم سدّا وذلك بجعلهم اللّه تعالى فى توابيت من نار.
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) سبق تفسيره فى سورة البقرة - .
إِنَّما تُنْذِرُ انذارا يترتب عليه الفائدة مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أى القرآن بالتأمل فيه والعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ أى خاف عقابه أو المعنى انما ينفع إنذارك لمن كان صالحا لاتباع الذكر والخشية مستعدا لذلك لم يقل وخشى القهار المنتقم للدلالة على ان الخشية مع ملاحظة صفة الرحمة كمال الخشية وعين الايمان وان الايمان بين الخوف والرجاء بِالْغَيْبِ حال من فاعل خشى يعنى غائبا عن عذابه قبل ان يعاينه أو غائبا عن الناس فى خلوته فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ لذنوبهم وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) حسن وهو الجنة.(1/5477)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى عند البعث أو المراد انا نعطى العلم والهداية بعد الجهل والضلال وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ الحسنة كعلم علموه وحبس وقفوه وسنة حسنة سنوه والسيئة كاشاعة باطل وتأسيس ظلم وتائيد كفر وبدعة ابتدعوها قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من سن فى الإسلام سنة حسنة يعمل بها من بعده فله أجرها ومثل اجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء ومن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 74
سن فى الإسلام سنة سيئة بعمل بها من بعده فان له وزرها ووزر من عمل بها من غير ان ينقص من أوزارهم شيء رواه مسلم عن حديث جرير وقال قوم معنى اثارهم فى قوله نكتب ما قدّموا واثارهم خطوهم إلى المساجد عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعظم الناس اجرا فى الصلاة ابعدهم فابعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الامام أعظم اجرا من الذي يصلى ثم ينام متفق عليه وعن جابر رضى اللّه عنه قال خلت البقاع حول المسجد فاراد بنو سلمة ان ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم انكم تريدون ان تنتقلوا قرب المسجد قالوا نعم يا رسول اللّه قد أردنا ذلك فقال يا بنى سلمة دياركم تكتب اثاركم دياركم تكتب اثاركم - رواه مسلم وروى البغوي عن انس نحوه واخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدري نحوه وَكُلَّ شَيْ ءٍ منصوب بفعل مضر يفسره أَحْصَيْناهُ يعنى كتبناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) أى فى اللوح المحفوظ ..(1/5478)
وَ اضْرِبْ لَهُمْ أى مثّل لكفار مكة من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أى مثال واحد وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل كأنَّه قيل واجعل لهم مَثَلًا مفعول أول أَصْحابَ الْقَرْيَةِ مفعول ثان بحذف المضاف تقديره اجعل مثلهم اصحاب القرية وهى انطاكية أخرجه الفريابي عن ابن عباس وابن أبى حاتم عن بريدة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة يعنى قل حال أهل مكة مثل حال أهل انطاكية إِذْ جاءَهَا أى تلك القرية بدل اشتمال من اصحاب القرية الْمُرْسَلُونَ (13) يعنى رسل عيسى عليه السلام قال البغوي قال العلماء بأخبار القدماء بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى مدينة انطاكية فلما قربا من المدينة فاتيا شيخا يرعى غنمات له وهو حبيب صاحب عيسى عليه السلام فلمّا سلما عليه قال الشيخ لهما من أنتما فقالا رسول اللّه يدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادة الرحمان فقال معكما اية قال نعم نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللّه فقال الشيخ ان لى ابنا مريضا منذ سنتين قالا فانطلق بنا نطلع حاله فاتى بهما إلى منزله فسحا ابنه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 75(1/5479)
فقام فى الوقت بإذن اللّه صحيحا ففشى الخبر فى المدينة وشفى اللّه على أيديهما كثيرا من المرضى وكان لهم ملك قال وهب اسمه انطفس وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام قالوا فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال من أنتما قالا رسولا عيسى قال وفيم جئتما قالا ندعوك من عبادة من لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر قال ولكما اله دون الهتنا قالا نعم من أوجدك والهتك قال قوما حتى انظر فى أمركما فتبعهما الناس فاخذوهما وضربوهما فى السوق قال وهب بعث عيسى هذين الرجلين إلى انطاكية فاتياها فلم يصلا إلى ملكها وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا اللّه فغضب الملك فامر بهما فحبسهما وجلد كل واحد منهما مائتى جلدة - قالوا فلمّا كذّب الرسولان وضربا بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على اثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى انسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضى عشرته وانس به وأكرمه.(1/5480)
ثم قال له ذات يوم أيها الملك بلغني انك حبست رجلين فى السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما فقال الملك حال الغضب بينى وبين ذلك قال فان راى الملك دعاهما حتى نطلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون من أرسلكما إلى هاهنا قالا اللّه الذي خلق كل شىء وليس له شريك فقال لهما شمعون صفاه وأوجزا فقالا لا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال شمعون وما آيتكما قالا ما تتمنّاه فامر الملك حتى جئ بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زال يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فاخذا بندقتين من الطين فوضعاهما فى حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك ان أنت سالت إلهك حتى يصنع صنعا مثل هذا فيكون لك الشرف فقال الملك ليس لى عنك من سران الهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع - وكان شمعون إذا دخل الملك على الأصنام يدخل ويصلى كثيرا ويتضرع حتى ظنوا انه على ملتهم فقال الملك للرسولين ان قدر إلهكم الذي تعبد انه على احياء ميت أمنا به قالا الهنا قادر على كل شىء فقال الملك ان هاهنا ميتا مات منذ سبعة ايام ابن لدهقان وانا أخرته فلم ادفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاء وأبا لميت وقد تغيروا روح فجعلا يدعوان ربهما
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 76(1/5481)
علانية وجعل شمعون يدعو ربه سرّا فقام الميت وقال انى قدّمت منذ سبعة ايام ووجدت مشركا فادخلت فى سبعة اودية من النار وانا أحذركم مما أنتم فيه فامنوا باللّه ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت فرايت شابّا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك ومن الثلاثة قال شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه فتعجب الملك فلمّا علم شمعون ان قوله اثر بالملك أخبره بالحال فامن الملك وأمن قوم وكفر آخرون - وقيل ان ابنة الملك كانت توفيت ودفنت فقال شمعون للملك أطلب هذين الرجلين ان يحييا ابنتك فطلب منهما الملك ذلك مقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما قرأ بسر فاحيا اللّه المرأة وانشق القبر عنها فخرجت وقالت اعلموا انهما صادقان ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين ان يرداها
الى مكانها فذرا ترابا على رأسها وعادت إلى قبرها كما كانت وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب بل كفر الملك واجمع هو وقوعه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله عزّ وجلّ.(1/5482)
إِذْ أَرْسَلْنا بدل من إذ السابقة إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ قال وهب اسمهما يحيى ويونس فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا قرأ أبو بكر بالتخفيف والباقون بالتشديد ومعناهما واحد أى فقوينا بِثالِثٍ أى برسول ثالث وهو شمعون كذا أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير ترك ذكر المفعول به لان المقصود ذكر المعزز به وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وزهق الباطل وإذا كان الكلام لغرض يجعل سياقه له ويرفض ما سواه - واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال بلغني ان عيسى بعث إلى أهل القرية رجلين من الحواريين وقال كعب الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وانما أضاف اللّه الإرسال إلى نفسه لان عيسى بعتهم بامره عزّ وجلّ فَقالُوا كلهم لاهل انطاكية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا أى أهل انطاكية ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزية لكم علينا يقتضى اختصاصكم بالرسالة من اللّه وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ من وحي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) فى دعوى الرسالة.
قالُوا أى الرسل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 77
رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) استشهدوا بعلم اللّه وهو يجرى مجرى القسم ولذلك من قال اللّه يعلم انى فعلت كذا وهو كاذب كان غموسا وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن انكارهم دون الاول.
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته كابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى يعنون ان انكاركم لا يضرنا بعد ما كان علينا من أداء التبليغ وانما هو يعود عليكم بالمضرة.(1/5483)
و لمّا حبس اللّه عنهم المطر بتكذيبهم الرسل قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ يعنون ان ما نزل بنا انما هو بشومكم وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه فان عادة الجهال ان يتمنّوا كل شىء مالت إليه طباعهم وتشاموا ما كرهوه.
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عما تقولون لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة ونقتلنّكم وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18).
قالُوا طائِرُكُمْ أى سبب شومكم مَعَكُمْ وهو كفركم وقال ابن عباس حظكم من الخير والشر معكم لا ينفك عنكم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظّم به وجواب الشرط محذوف والاستفهام للانكار يعنى أ إن وعظتم تطيرتم بنا وتوعدتمونا بالرجم لا ينبغى ذلك بل كان ينبغى الاتعاظ والامتنان - قرأ أبو جعفر بفتح الهمزة الثانية وذكرتم بالتخفيف تقديره أ تطيرتم وتوعدتم لان ذكرتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) أى قوم عادتكم الإسراف فى العصيان ومنها التشاوم برسل اللّه والواجب التبرك بهم.
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى وهو حبيب النجار أخرجه عبد الرزاق وابن أبى حاتم عن قتادة وقال السدىّ كان قصارا وقال وهب كان حبيب رجلا يعمل الحرير وكان سقيما وقد اسرغ فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا امسى فقسم نصفين فيطعم نصفا على عياله ويتصدق نصفه فلمّا بلغه ان قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم وقالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على تبلغ الرسالة الجملة تأكيد للاول أو بدل يشتمل فائدة زائدة.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) إلى خير الدارين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 78(1/5484)
وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ما استفهامية مبتدا والظرف خبر له ولا اعبد حال من ضمير المتكلم والجملة معطوفة على قوله يا قوم اتّبعوا المرسلين وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم وفيه تلطف فى الإرشاد بايراده فى معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) مبالغة فى التهديد ثم عاد إلى السياق الأول فقال.(1/5485)
أَ أَتَّخِذُ الآية واخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال كان حبيب فى الغار يعبد اللّه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم يعنى قومه فاظهر دينه وقال يا قوم اتّبعوا المرسلين اتّبعوا من لا يسئلكم اجرا وهم مهتدون فلما قال ذلك قالوا له وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل فقال وما لى لا اعبد الّذى فطرنى أى خلقنى واليه ترجعون - قرأ حمزة ويعقوب « و خلف - أبو محمد » ما لى بسكون الياء والباقون بفتحها قيل أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لان الفطرة اثر النعمة وكان عليه إظهاره وفى الرجوع معنى الزجر فكان أليق بهم قيل انه لمّا قال اتّبعوا المرسلين أخذوه فرفعوه إلى الملك فقال له الملك أ فأنت تتبعهم فقال وما لى لا اعبد الّذى فطرنى يعنى اىّ شىء لى إذا لم اعبد خالقى واليه ترجعون عند البعث فيجازيكم ءاتّخذ استفهام انكار أى لا اتخذ مِنْ دُونِهِ أى دون الذي فطرنى آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي أى لا تنفعنى شَفاعَتُهُمْ التي تزعمونها شَيْئاً من الإغناء وَلا يُنْقِذُونِ (23) قرأ ورش « و يعقوب فى الحالين - أبو محمد » بإثبات الياء فى الوصل والباقون بالحذف فى الحالين أى لا ينقذونى من عذاب اللّه ان عذبنى وفى نفى الإغناء عن الشفاعة فى دفع الضرر والانقاذ من العذاب مبالغة فى نفى النفع عن شفاعتهم مطلقا فان قبول الشفاعة لدفع الضرّ اقرب من قبولها لنيل الرحمة والجملة الشرطية صفة لالهة.
إِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِذاً أى إذا اتخذ ما لا ينفع ولا يضر بوجه ما الهة من دون من فطرنى وهو يقدر على النفع والضر لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) ظاهر لا يخفى على من له ادنى تميز كونه ضلالا - والجملة تعليل للانكار على اتخاذ الالهة.
إِنِّي قرأ نافع « و أبو عمرو وأبو جعفر وأبو محمد » وابن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 79(1/5486)
كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي خلقكم أيها القوم أو أيها الملك فَاسْمَعُونِ (25) أى فاسمعوا إيماني فعلى هذا هذه الآية من تتمة النصح فان القوم إذا قيل لهم اتّبعوا المرسلين كانّهم قالوا هل امنت أنت بهم فقال انى امنت بربّكم فاسمعوا إيماني ولو لم يكن هذا خيرا ما استأثرت به لنفسه وأضاف الرب إلى المخاطبين ولم يقل امنت بربي ليكون ادعى لهم إلى الايمان.
قال البغوي فلمّا قال ذلك وثب القوم وثبة رجل واحد فقتلوه « 1 » قال ابن مسعود وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وقال السدىّ كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومى حتى قطعوه وقتلوه وقال الحسن خرقوا خرقا فى حلقه فعلقوه من سور المدينة وقبره بانطاكية فادخله اللّه الجنة وهو حى فيها يرزق يعنى حيوة الشهداء وقيل الخطاب للرسل فانه لمّا راى انه يقتل استشهد الرسل على إيمانه قبل ان يموت والتقدير فقال للرسل انّى امنت.
قِيلَ يعنى قال اللّه تعالى لحبيب النجار رضى اللّه عنه لمّا استشهد إكراما واذنا فى دخول الجنة كسائر الشهداء ادْخُلِ الْجَنَّةَ وقيل قال اللّه تعالى ذلك له قبل موته يعنى ادخل قبرك الذي هو روضة من رياض الجنة وانما لم يقل وقيل له لان الغرض بيان المقول دون المقول له فانه معلوم والكلام فيه والجملة مستانفة فى حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه فى نصر دينه واللّه اعلم ولما افضى حبيب إلى الجنة قالَ يا رب لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) ما موصولة أو مصدرية والباء متعلق بيعلمون أى يعلمون بالذي غفر لى ربى به أو بغفران ربى إياي أو استفهامية والباء متعلق بغفر أى باىّ شىء غفر لى يريد به الايمان والمصابرة على إيذاء الكافرين.
_________
((1/5487)
1) روى انه قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاسلم ثم استاذن ليرجع إلى قومه فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انهم قاتلوك قال لو وجدوني نائما ما ايقفونى فرجع إليهم فدعاهم إلى الإسلام فعصوه واسمعوه من الأذى فلمّا طلع الفجر قام على غرفة فاذّن بالصلوة وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين بلغه قتله مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى اللّه فقتلوه » منه نور اللّه؟؟؟
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 80
و انما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب الايمان والطاعة على دأب الصالحين فى كظم الغيظ والترحم على الأعداء أو ليعلموا انهم كانوا على خطأ عظيم فى امره وانه كان على حق.
قال البغوي فلما قتل حبيب غضب اللّه عليهم وعجل لهم النقمة فامر جبرئيل فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم وذلك قوله تعالى.
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ أى قوم حبيب مِنْ بَعْدِهِ من زائدة أى بعد إهلاكه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ من الاولى زائدة لتأكيد النفي والثانية للابتداء يعنى ما أنزلنا لاهلاكهم جندا من الملائكة كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك وفيه استحقار لإهلاكهم وايماء بتعظيم الرسول عليه السلام وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) ما نافية أى ما كان شأننا فى إهلاك قوم إنزال جند فان الأمر أيسر من ذلك وانما أنزلنا الأجناد لنصرك بشارة وإكراما لك وتسكينا لقلبك قال اللّه تعالى وما جعله اللّه إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النّصر الّا من عند اللّه - وقيل موصولة معطوفة على جند يعنى ما أنزلنا على قومه ما كنّا منزلين على من قبلهم من حجارة أو ريح أو امطار شديدة.(1/5488)
إِنْ كانَتْ أى ما كانت الاخذة أو العقوبة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبرئيل قرأ الجمهور بالنصب على انه خبر كان وأبو جعفر بالرفع جعل الكون تامة بمعنى الوقوع - قال البغوي قال المفسرون أخذ جبرئيل بعضاوتي باب المدينة ثم صاح صيحة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) أى ميتون شبّهوا بالنار لان الحيوة يتعلق بالحرارة الغريزية فإذا خمدت الحرارة الغريزية مات وجملة ما أنزلنا عطف على قوله وجاء من اقصا المدينة رجل « 1 » يسعى وجملة ما كنّا منزلين معترضة وجملة ان كانت الّا صيحة تعليل والفاء للسببية يعنى فاجئت الصيحة وقت خمودهم.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الظرف صفة للحسرة وجعلت الحسرة منادى تنبيها للمخاطبين على وجوب الحسرة عليهم وتنكيرها للتعظيم كانّه قيل يا حسرة أى حسرة تعالى فهذه من الأحوال التي من حقها ان تحضرى فيها وهى ما دل عليه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) استثناء مفرغ حال من الضمير المنصوب أو من رسول أو منهما
_________
(1) وفى الأصل من اقصا المدينة يسعى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 81(1/5489)
و الاستثناء يعنى الشرط والجزاء يعنى كلما يأتيهم رسول يستهزءون به والجملة تعليل للحسرة فان المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء ان يتحسروا وان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ويجوز ان يكون تحسرا من اللّه عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم جنايتهم على أنفسهم ويؤيده قراءة يا بحسرتا - وقيل المنادى محذوف وحسرة منصوب بفعل مقدر تقديره يايها المخاطبون تحسروا حسرة على العباد - والحسرة شدة الحزن والندامة قال البغوي فيه قولان أحدهما يقول اللّه يا حسرة وندامة وكابة على العباد يوم القيامة لما لم يومنوا بالرسل والاخر انه من قول الهالكين قال أبو العالية لما عاينوا العذاب قالوا يا حسرة على العباد واللام فى العباد للعهد والمراد بهم أهل انطاكية أو كل من لم يؤمن بالرسل واستهزأ بهم فهو تعريض لاهل مكة.
أَ لَمْ يَرَوْا ا لم يعلموا وهو معلق عن قوله كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لان كم لا يعمل فيما قبلها وان كانت خبرية لان أصلها الاستفهام فهو يستدعى صدر الكلام والضمير فى لم يروا لاهل مكة أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) بدل اشتمال من كم على المعنى أى الم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم الم يروا انهم غير راجعين إليهم - ولمّا كان فى قوله انّهم إليهم لا يرجعون إيهاما إلى ان الموتى لا يرجع ابدا ندفع ذلك الوهم قال.(1/5490)
وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) يوم القيامة قرأ عاصم وحمزة « ابو محمد وابن جمار » لما بالتشديد هاهنا وفى الزخرف والطارق وأخفها ابن عامر الا فى الزخرف فى رواية ابن ذكوان ووافق أبو جعفر فى الطارق والباقون بالتخفيف فمن فرأ بالتشديد فان نافية ولمّا بمعنى الا ومن قرأ بالتخفيف فان مخففة من الثقيلة واللام هى الفارقة وما مزيدة للتأكيد وجميع فعيل بمعنى مفعول ولدينا ظرف له أو لمحضرون ..
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » بالتشديد أَحْيَيْناها بالمطر خير للارض والجملة خير اية أو صفة للارض إذ لم يرد بها معينة فهو كقوله ولقد امرّ على اللئيم يسبنى والأرض مبتدا خبرها اية أو خبر لكونها نكرة والآية مبتدا والجملة معطوفة على قوله وان كلّ لّما - وجاز ان يكون أحييناها استئنافا لبيان كونها اية وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 82
جنس الحب كالحنطة والشعير ونحو ذلك فَمِنْهُ أى من الحب يَأْكُلُونَ (33) قدم الصلة للدلالة على ان الحب معظم ما يؤكل ويعاش به.
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أى من انواع النخيل والعنب ولذلك جمعهما دون الحب فان الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك وذكر النخيل دون التمر ليطابق الحب والأعناب لاختصاص النخيل بمزيد النفع واثار الصنع وَفَجَّرْنا فِيها فى الأرض مِنَ الْعُيُونِ أى شيئا من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه عند الأخفش من زائدة.(1/5491)
لِيَأْكُلُوا متعلق بفجّرنا مِنْ ثَمَرِهِ أى ثمر ما ذكر وهو الجنات وقيل الضمير للّه على طريقة الالتفات والاضافة إليه لإن الثمر بخلقه قرأ حمزة والكسائي « و خلف أبو محمد » ثمره بضمتين وهو لغة فيه أو جمع ثمار وَما عَمِلَتْهُ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر « و خلف - أبو محمد » عملت بغير هاء أيديهم عطف على ثمره وما موصولة والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما وقيل ما نافية والمراد ان الثمر بخلق اللّه تعالى لا بفعلهم ويؤيد الأول قراءة الكوفيين بلا هاء فان حذفه من الصلة احسن عن غيرها أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أ ينكرون انعام اللّه فلا يشكرون وحيث كان إنكارا على ترك فهو امر بالشكر.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أى الأنواع والأصناف كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات والشجر وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أى الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) أى ما خلق اللّه فى البحر والبر ولم يطلع عليها أحدا - .
وَآيَةٌ لَهُمُ على قدرتنا اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أى ننزع ونكشط وذلك ان الأصل هى الظلمة والنهار داخل عليها بطلوع الشمس فإذا غربت فكانّه سلخ النهار من الليل وظهرت الظلمة فانسلخ هاهنا مستعار من سلخ الجلد - والكلام فى إعرابه مثل ما سبق فى قوله تعالى اية لّهم الأرض الميتة فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) عطف على نسلخ منه النّهار فغاصوا وقت كونهم داخلين فى الظلمة يعنى يذهب بالنهار ويجئ بالليل.
وَالشَّمْسُ عطف على الليل تَجْرِي فى فلكها مثل جرى الحوت فى الماء صفة للشمس بناء على تنكيره أو مبتدا وخبر والجملة معترضة لبيان سبب وجود الليل والنهار
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 83(1/5492)
لِمُسْتَقَرٍّ لَها مصدر ميمى أو ظرف يعنى تجرى لاستقرار لها على نهج مخصوص أو لموضع استقرارها وهى منتهى دورها تشبهت بالمسافر إذا قطع مسيره أو مستقرها كبد السماء قبيل الزوال فان حركتها توجد ابطا بحيث يظن ان لها هناك وقفة أو مستقرها نهاية ارتفاعها فى السماء فى الصيف ونهاية هبوطها فى الشتاء أو لمنتهى مقدر بكل يوم من المشارق والمغارب فان لها فى دورها ثلث مائة وخمسا وستين مشرقا ومغربا تطلع كل يوم من مطلع وتغرب فى مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل أو لمنقطع جريها عند خراب الدنيا وهذه التأويلات كلها مبنية على انها فى ظاهر الحال لا تستقر فى وقت من الأوقات ويدل عليه قراءة ابن مسعود ما رواه البغوي عن عمر بن دينار عن ابن عباس انه قرأ والشّمس تجرى لا مستقرّ لها لكن ورد فى الحديث الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال مستقرها تحت العرش - رواه البخاري فى الصحيح وروى البغوي عن أبى ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال حين غربت الشمس أ تدري اين تذهب هذه قلت اللّه ورسوله اعلم قال فانها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك ان تسجد ولا تقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى والشّمس تجرى لمستقرّ لّها قال مستقرها تحت العرش - متفق عليه ومعنى الحديث واللّه اعلم ان الشمس بعد غروبها قبل طلوعها تسجد تحت العرش فيؤذن لها فى الطلوع من جانب المشرق فتطلع ويوشك ان لا يؤذن لها بالطلوع من المشرق بل يؤذن لها بالطلوع من المغرب فحينئذ تطلع من مغربها وهى اية من آيات الساعة - لا يقال ان مقدار الليل من وقت غروبها إلى طلوعها يتفاوت بتفاوت الأقاليم حتى ان تحت القطب الشمالي من وراء بلغار إذا كانت الشمس عند رأس السرطان يكون الليل بحيث لا يكون هناك وقت العشاء بل بعد غروب الشمس إذا غاب الشفق من جانب طلع الصبح من جانب فاىّ وقت(1/5493)
يتصور فيه الشمس ذاهبة تحت العرش ساجدة قلت ليس المراد ان الشمس تدوم ساجدة من وقت غروبها إلى وقت طلوعها فجاز ان يكون وقت من الأوقات يكون ظلمة الليل شاملة لجميع الأقاليم وذلك عند منصفها وحينئذ يذهب الملائكة الموكلون
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 84
على الشمس بها إلى تحت العرش فتخر هناك ساجدة ثم يؤذن لها بالطلوع واختلاف مقدار الليل باختلاف الأقاليم انما يتعلق باختلاف مبدء الليل ومنتهاه واللّه اعلم والقول بان الحديث من المتشابهات أو ان المراد بالسجود هو الانقياد أو نحو ذلك يأباه سياق الحديث ذلِكَ الجري على هذا التقدير المتضمن للحكمة التي يكل الفطن عن إحصائها تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور الْعَلِيمِ (38) المحيط علمه بكل معلوم ..
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ أى قدرنا مسيره مَنازِلَ أو قدرنا سيره فى منازله قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو « و روع - أبو محمد » والقمر بالرفع على انه معطوف على الشمس يعنى اية لهم الليل واية لهم الشمس واية لهم القمر والجملة الواقعة بعدها كالجملة الواقعة بعد الشمس وقرأ الباقون بالنصب بإضمار فعل فسره بقوله قدّرناه منازل - وهى ثمانية وعشرون منزلا - ينزل كل ليلة فى واحدة منها لا يتخطئه ولا يتقاصر عنه فإذا كان فى اخر منازله دقّ واستقوس حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ أى الشمراخ المعوج فعلون من الانعراج بمعنى الاعوجاج الْقَدِيمِ (3) العتيق قيل ما مر عليه حول فصاعدا ثم يكون القمر تحت شعاع الشمس فى المحاق.(1/5494)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أى يصح لها ويتيسر أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ قال البيضاوي أى فى سرعة سيره وهذا مبنى على ما قالت الفلاسفة ان القمر اسرع سيرا من الشمس فان دورها يتم فى شهر ودور الشمس يتم فى سنة وعندى الأمر بالعكس كما سنبين ان شاء اللّه تعالى فالاولى ان لا يقيد السير بالسرعة بل يقال الشمس لا تدرك القمر فى سيره المخصوص حتى يتحد سيدهما فان ذلك يخل بتكون النباتات وتعيش الحيوانات أو فى اثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله أو سلطانه فتطمس نوره قلت وجاز ان يكون المراد بالشمس النهار وبالقمر الليل وهذا يستقيم المقابلة يعنى لا ينبغى للنهار ان يدرك الليل أى يسبقها وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أى هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجئ أحدهما قبل وقته كذا تستفاد من كلام البغوي وَكُلٌّ التنوين عوض المضاف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 85
اليه أى كل واحد منهما وقال البيضاوي تقديره كلهم والضمير للشموس والأقمار فان اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما فى الذات ولو بالاعتبار أو إلى الكواكب فان ذكرهما مشعر بها فِي فَلَكٍ واحد من الافلاك وهى السماء الدنيا بدليل قوله تعالى انّا زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح يَسْبَحُونَ (40) كما يسبح السمك فى الماء.(1/5495)
و هذا صريح فى ان الشمس والقمر والكواكب سائرة فى الفلك بقسر قاسر من الملائكة أو بالارادة لا انها مرتكزة فى السماء كالمسامير لا تتحرك الا بتحرك السماء حركة وضعية كما يقول به الفلاسفة بناء على ان السباحة يستلزم الخرق والالتيام وزعموا انه محال فاستدلوا بتعدد الحركات للكواكب على تعدد السماوات على حسب تعدد الحركات فقالوا السماوات تسعة كلها منطبقة بعضها على بعض مثل قشور البصل وقالوا السماء التاسع الذي هو حاد للجميع يتحرك من المشرق إلى المغرب على منطقة وقطبين بحيث يتم دائرة سيره فى كل يوم وليلة مرة تقريبا وسائر .... السماوات تسير بسيره قسرا ولكل منها حركة بالطبع من المغرب إلى المشرق على منطقة اخرى وقطبين آخرين ويحصل التقاطع بين الاقطاب الاربعة قطبى فلك الثوابت وقطبى فلك الافلاك والشمس يلازم لمنطقة فلك الثوابت وينقسم منطقة فلك الثوابت إلى اثنى عشر حصة يسمون كل حصة منها برجا ويسمون ذلك الفلك فلك البروج قالوا ذلك لمّا راوا ان الكوكب لا يتم دائرة سيرها فى يوم وليلة - ولما راوا ان الكواكب كلها غير السبعة التي يسمونها سيارات لا يختلف نسبة بعضها مع بعض قط وان سيرها ينقص من الدائرة فى اليوم والليلة قليلا غاية القلة جدا حكموا بان كلها مرتكزة فى فلك واحد وهى السماء الثامنة فلك البروج وان سيرها كان لا سير ولذا سموها ثوابت وفلكها فلك الثوابت ولمّا راوا السبعة ينقص سيرها فى اليوم والليلة من الدائرة نقصانا ظاهرا بحيث يرون القمر يسير فى ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين دائرة والشمس تسير فى ثلاث مائة وخمس وستين يوما ثلاث مائة وأربعا وستين دائرة وهكذا ان أفلاكها سبعة كلها سائرة من المغرب إلى المشرق ولاجل ذلك يرى سيرها فى اليوم والليلة ناقصة من الدائرة وكلما راوا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 86(1/5496)
نقصان سيرها من الدائرة أزيد حكموا بكون سيرها اسرع فقالوا فلك القمر اسرع سيرا فان سيرها إلى المشرق بقطع الدائرة فى شهر وفلك الشمس يقطع فى سنة ثلاث مائة وخمس وستين يوما وهكذا حكموا فى سائر السيارات - ولمّا راوا خمسا من الكواكب العطارد والزهرة والمشترى والمريخ والزحل تارة سيرها أزيد من دائرة وتارة انقص من دائرة وتارة سيرها دائرة تامة لا زائد ولا ناقص سموها خمسة متحيرة واثبتوا لها تدويرات سير أعلاها يخالف سيرا سفلها كل ذلك بيّن فى علم الهيئة ولمّا دلّت النصوص القطعية على ان عدد السماوات سبع لا مزيد عليها بحيث يكفر جاحدها وعلى جواز الخرق والالتيام على الافلاك بحيث يكفر جاحدها أيضا بل على وقوعها حيث قال اللّه تعالى إذ السّماء انشقّت إذا السّماء انفطرت وانشقّ القمر ونحو ذلك - ودل ت الأحاديث الصحيحة على ان السّماوات غير منطبقة ببعضها على بعضها بل بين كل منها مسافة بعيدة بحيث يفسق جاحدها روى احمد والترمذي عن أبى هريرة مرفوعا حديثا طويلا وذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما بين الأرض والسّماء وبين كل سماءين خمس مائة سنة وروى الترمذي وأبو داود عن العباس بن عبد المطلب مرفوعا حديثا طويلا ذكر فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما بين الأرض والسماء وبين كل سمائين اما واحدة واما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ولعل اختلاف ذلك باعتبار اختلاف سير السائرين سرعة وبطئا وجب القول ببطلان علم الهيئة وبان من اعتقدها يخاف عليه الكفر بالكتاب والسنة وإذا ظهر جواز الخرق والالتيام فى السماوات لا مانع من ان يقال ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا كما ينطق به قوله تعالى وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وان كلا منها فى فلك يسبحون وان سير أكثرها على مقدار واحد قريبا من الدائرة التامة وسير سبعة فيها على مقادير مختلفة على حسب ما يرى ولا مانع من القول بان الخمسة تارة(1/5497)
يسير زائدا وتارة ناقصا على حسب ارادة اللّه تعالى وهى الخنس الجواري الكنس واللّه اعلم بحقيقة الحال.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 87
وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ أهل المدينة والشام ويعقوب ذرّيّاتهم بالجمع وكسر التاء والباقون ذرّيّتهم على الافراد بفتح التاء فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) أى المملو الظاهر ان المراد بالذرية أولادهم الذين يتبعونهم إلى تجاراتهم أو صبيانهم ونساؤهم الذين يستصحبونهم فان الذرية يطلق عليهن لانهن توارعها ورد فى الحديث انه صلى اللّه عليه وسلم راى امراة مقتولة فقال ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا - « العسيف الأجير أو العبد منه ره » والمراد بالذرية فى هذا الحديث النساء لاجل الامرأة المقتولة وفى حديث عمر حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها وتذروا ارباقها « 1 » فى أعناقها أى حجوا بالنساء كذا فى النهاية والمراد بالفلك السفائن الصغار والكبار وتخصيص الذرية بالذكر لان استقرارهم فى السفن أشق وتماسكهم فيها اعجب وقال البغوي المراد به سفينة نوح عليه السلام والمراد بالذرية الآباء واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد وقال البيضاوي على تقدير ان يراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام معنى الآية ان اللّه تعالى حمل آباءهم وحملهم وذريتهم فى أصلابهم وتخصيص الذرية بالذكر لانها بلغ فى الامتنان وادخل فى التعجب مع الإيجاز.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أى مثل الفلك مطلقا أو مثل فلك نوح ما يَرْكَبُونَ (42) من الإبل فانها سفائن البر أو من الفلك والسفن والرواق على هيئة سفينة نوح.(1/5498)
وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ مع اتخاذ السفائن فَلا صَرِيخَ لَهُمْ جزاء لشرط محذوف تقديره وان نغرقهم فلا صريخ أى لا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق أو فلا استغاثة كقولهم أتاهم الصريخ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) عطف على لا صريخ لهم أى لا ينجون من الغرق قال ابن عباس ولا أحد ينقذهم من عذابى.
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً استثناء مفرغ منصوب على العلية أى لا ينقذون لشئ الا لرحمة منا ولتمتيع إِلى حِينٍ (44) أى زمان قدّر لاجالهم ..
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ قال ابن عباس ما بين ايديكم يعنى الاخرة فاعملوا لها وما خلفكم يعنى الدنيا فاحذروها ولا تغتروا وقيل ما بين ايديكم يعنى وقائع اللّه فيما قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الاخرة وهو قول قتادة وقيل المراد به نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله تعالى أو لم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السّماء والأرض وقيل المراد به عذاب الدنيا وعذاب الاخرة وقيل عكسه وقيل ما تقدم من الذنوب وما تأخر
_________
(1)؟؟؟ أريد فريضة حج كه مثل ارباق است يعنى قلادها كه در گردن آنهاست يعنى واجب است منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 88
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) أى لتكونوا راجين رحمة اللّه وجواب إذا محذوف تقديره إذا قيل لهم اتقوا اعرضوا بقرينة قوله تعالى.
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ من الاولى زائدة لتأكيد النفي والثانية للتبعيض إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) استثناء مفرغ مثل قوله الّا كانوا به يستهزءون هذه الآية فى مقام التعليل لما سبق يعنى إذا قيل لهم اتّقوا اعرضوا لانهم اعتادوه وتمرنوه والجملة الشرطية اعنى قوله وإذا قيل لهم مع ما عطف عليه اعنى وما تأتيهم من اية عطف على قوله وما يأتيهم من رّسول.(1/5499)
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ عطف على الشرطية السابقة يعنى كان المؤمنون يقولون لكفار مكة أَنْفِقُوا على المساكين مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الأموال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وضع المظهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بكفرهم لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ يعنى ان اللّه لم يرزقهم مع قدرته عليه فنحن نوافق مشية اللّه فلا نطعمهم (قيل قاله مشركوا قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين أخرجه ابن أبى حاتم عن الحسن وعبد بن حميد وابن المنذر عن إسماعيل بن خالد) وهذا قول باطل فان اللّه تعالى اغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وامر الغنىّ بالإنفاق لا حاجة إلى ما لهم ولكن ليبلو الغنى بالفقير فيما فرض له فى مال الغنى ولا اعتراض لاحد على مشية اللّه وحكمه فى خلقه ولا يدرك العقول كل حكمة فى أفعاله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) حيث أمرتمونا ما يخالف مشية اللّه ويجوز ان يكون جوابا لهم من اللّه تعالى أو حكاية لجواب المؤمنين لهم ..
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أى القيامة والبعث عطف على الشرطية السابقة استفهام استبطاء إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) فى الاخبار بإتيانه جواب الشرط محذوف يعنى فانبئونا عن وقت إتيانه خطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين.
ما يَنْظُرُونَ حال من فاعل يقولون يعنى يقولون ذلك فى حال ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً استثناء مفرغ منصوب على المفعولية قال ابن عباس يريد به النفخة الاولى فان قيل ان الكفار لم يكونوا يعتقدون النفخة فكيف ينتظرونها قلنا هذه الآية كناية عن عدم تركهم المعاصي
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 89(1/5500)
ابدا حتى يموتون أو تأتيهم السّاعة بغتة وهم لا يشعرون فانهم لمّا لم ينتهوا عمّا نهوا عنه قبل ذلك فكانّهم ينتظرون لاجل ترك المعاصي صيحة الصعق تَأْخُذُهُمْ صفة لصيحة واحدة والضمير راجع إلى الناس المفهوم مما سبق وكذا كل ضمير بعده وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) حال من الضمير المنصوب فى تأخذهم أى يختصمون فى امور الدنيا من متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم شىء من إتيانها - أصله يختصمون فسكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين على قراءة عاصم وابن ذكوان والكسائي « و يعقوب وخلف - أبو محمد » وقرأ ابن كثير وورش وهشام ويعقوب « لا بل هو مع عاصم ومن معه أبو محمد » بفتح الخاء بنقل حركت التاء إلى الخاء والإدغام وقرأ قالون وأبو عمرو باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد وقرأ قالون أيضا وأبو جعفر بإسكان الخاء « مع تشديد الصاد - أبو محمد » كانهما جوّزا التقاء الساكنين إذا كان الثاني مدغما. أخرج الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لتقومنّ « قرأ حمزة بإسكان الخاء وتخفيف الصاد - أبو محمد » الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها واخرج الفريابي عنه فى هذه الآية قال تقوم الساعة والناس فى أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفى حوائجهم.(1/5501)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ عطف على تأخذهم ورابط الموصوف محذوف تقديره فلا يستطيعون بعدها والفاء للسببية تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (51) واخرج عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد عن الزبير بن العوام قال ان الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرأ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون يعنى لا يقدرون على ان يوصوا فى شىء من أمورهم ولا ان يرجعوا إلى أهلهم فيروا حالهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة - .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أى ينفخ ذكر صيغة الماضي لتيقن وقوعه عطف على مضمون فلا يستطيعون يعنى يموتون من ساعتهم وينفخ فى الصور مرة ثانية وبين النفختين أربعون سنة كذا روى ابن أبى حاتم عن ابن عباس وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عاما قال أبيت الحديث. وروى ابن أبى داود
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 90
عن أبى هريرة حديثا مرفوعا وفيه بين النفختين أربعون عاما فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث وهو القبر إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) أى يخرجون والنسل فى الأصل الانفصال عن الشيء يقال نسل الوبر من البعير ومنه يقال للولد النسل لانفصاله عن والده وقيل معناه يسرعون فى القاموس الماشي ينسل بضم العين وكسره نسلا ونسيلا ونسلانا يسرع.(1/5502)
قالُوا يعنى يقول الكفار حين يبعثهم أورد لفظ الماضي لتيقن وقوعه يا وَيْلَنا؟؟؟ دون الويل يعنى يا ويل احضر فان هذا أوانك أو يقال ان المنادى محذوف تقديره يا أيها المخاطب ويلنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه منصوب بفعل مقدر فى معناه قال فى القاموس معناه حلول الشر وقال بعض المحققين لم يرد فى اللغة ان ويلا وضع لهذا المعنى بل هو اسم لواد فى جهنم لما روى احمد والترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وابن أبى الدنيا وهناد عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انه قال ويل واد فى جهنم يهوى به الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره - وروى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال الويل واد فى جهنم يسيل من صديد أهل النار جعل للمكذبين - واخرج ابن جرير عن عثمان بن عفان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الويل جبل فى النار - واخرج البزار بسند ضعيف عن سعد بن أبى وقاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فى النار حجرا يقال له ويل يصعد عليه العرفاء وينزلون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا سكت حفص هاهنا سكتة لطيفة والوقف عليها عند غيره احسن قال ابن عباس وقتادة انما يقولون هذا لان اللّه يرفع العذاب عنهم بين النفختين فيوقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الاخرة عاينوا القيامة ودعوا بالويل وقول ابن عباس هذا دفع لما قالت المعتزلة ان هذه الآية تدل على نفى عذاب القبر فانها تدل على انهم كانوا كالنيام وقال أهل المعاني ان الكفار إذا عاينوا جهنم بانواع عذابها صارت عذاب القبر فى جنبها كالنوم فقالوا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) مبتدا وخبر وما مصدرية بمعنى المفعول أو موصولة والرابط محذوف يعنى هذا ما وعد به
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 91(1/5503)
الرّحمن وصدق فيه المرسلون وجاز ان يكون صدق المرسلون جملة مستأنفة معطوفة على جملة فهذا اقرار منهم حين لا ينفعهم الإقرار وقيل هذا قول الملائكة جوابا لهم وقال مجاهد هذا قول المؤمنين فى جوابهم وانما عدل عن سنن الجواب تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه وتنبيها بان الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كانّهم قالوا بعثكم الرحمان الذي وعدكم بالبعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون انه بعث النائم فيهكم السؤال عن الباعث بل هو البعث الأكبر ذو الأهوال وجاز ان يكون هذا صفة لمرقدنا وما وعد خبر محذوف أو مبتدا خبره محذوف يعنى ما وعد الرّحمان حق وصدق المرسلون وعلى هذا التأويل لا يلايم السكتة أو الوقف على مرقدنا.
إِنْ كانَتْ أى ما كانت الفعلة فى بعثهم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هى النفخة الاخيرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ أى مجموعون لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) خبر بعد خبر وفى ذلك تهوين لامر البعث والحشر واستغنائهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) حكاية لما يقال لهم تصويرا للموعود وتمكينا له فى النفوس وكذا قوله - .
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بسكون الغين والباقون بضمها وهما لغتان مثل السّحت والسّحت - واختلفوا فى معنى الشغل قال ابن عباس فى افتضاض الابكار وقال وكيع بن الجراح فى السّماع وقال الكلبي فى شغل عن أهل النار وعمّا هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم وقال الحسن شغلوا بما فى الجنة من النعيم عمّا فيه أهل النار من العذاب وقال ابن كيسان فى زيارة بعضهم بعضا وفى ضيافة اللّه تعالى والاولى ان يقال فى شغل ما يشتهونه؟؟؟(1/5504)
العلية الذين لا مقصود لهم الا اللّه تعالى شغلهم الانهماك والاستغراق فى التجليات الذاتية على حسب مدارجهم وغيرهم كان شغلهم بالسماع والرياح والاكل والشرب والجماع على حسب شهواتهم ورغباتهم - أخرج أبو نعيم عن شيخ طريقتنا أبى يزيد البسطامي انه قال ان للّه خواصا من عباده لو حجبهم فى الجنة عن رؤيته لاستغاثوا كما يستغيث أهل النار
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 92
بالخروج من النار - وفى تنكير شغل وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ وتنبيه على انه أعلى ممّا يحيط به الافهام ويعرب عن كنهه الكلام فاكِهُونَ (55) خبر بعد خبر لان قرأ أبو جعفر فكهون بغير الف حيث كان ووافق حفص فى المطففين وفيه مبالغة والباقون بألف وهما لغتان مثل الحاذر والحذر يعنى ناعمون متلذذون فى النعمة من الفكاهة وقال مجاهد والضحاك معجبون بما هم فيه وعن ابن عباس قال هم فرحون.
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ قرأ حمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » ظلل بغير الف جمع ظلّة والباقون ظلال بالألف وكسر الظاء جمع ظلّ وهو موضع الذي لا يقع عليه الشمس كشعاب أو ظلة وهو ما يسترك عن الشمس كقباب عَلَى الْأَرائِكِ يعنى السرر فى الحجال واحدتها اريكة قال البغوي قال ثعلب لا يكون اريكة حتى يكون عليها حجلة واخرج البيهقي عن ابن عباس قال لا يكون اريكة حتى يكون السرير فى الحجلة فان كان السرير بغير حجلة لا يكون اريكة وان كان حجلة بغير سرير لا يكون اريكة فإذا اجتمعا كانت اريكة واخرج البيهقي عن مجاهد قال الأرائك من لؤلؤ وياقوت الجار والمجرور متعلق بقوله مُتَّكِؤُنَ (56) هم مبتدا خبره فى ظلل وعلى الأرائك جملة مستأنفة أو خبر ثان أو الخبر متّكؤن والجار ان صلة له أو هم تأكيد للضمير فى شغل أو فاكهون وعلى الأرائك متّكؤن خبر آخر لانّ - وأزواجهم عطف على هم للمشاركة فى الاحكام أو فى ظلال حال من المعطوف والمعطوف عليه - .(1/5505)
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) أى ما يطلبون لانفسهم يفتعنون من الدّعاء أو يتمنون من قولهم ادّع علىّ ما شئت بمعنى منّه علىّ أو ما يدّعون في الدنيا من الجنة ودرجاتها وما موصولة أو موصوفة مبتدا وخبرها لهم.
سَلامٌ بدل منها ويجوز ان يكون خبرا لهم أو اخبر المحذوف أى هم سلام أو مبتدا محذوف الخبر أى لهم سلام قَوْلًا يعنى يقول اللّه قولا أو يقال لهم قولا كائنا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) والمعنى ان اللّه يسلّم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومقناهم ويحتمل نصبه على الاختصاص أخرج ابن ماجة فسير المظهري ، ج 8 ، ص : 93
و ابن أبى الدنيا والدار قطنى والآجري عن جابر قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم بينا أهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فاذ الرب تبارك وتعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قوله تعالى سلام قولا من ربّ رّحيم فقال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته فى ديارهم قال السيوطي اشرافه سبحانه واطلاعه منزه عن المكان والحلول قال البغوي يسلم عليهم الملائكة من ربهم وقال مقاتل يدخل الملائكة على الجنة من كل باب سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم يعطيهم السلامة اسلموا السلامة الابدية - .(1/5506)
وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) قال مقاتل والسديّ والزجاج يعنى اعتزلوا من الصالحين يعنى يساق المؤمنون إلى الجنة والمجرمون إلى النار عطف على مضمون ما سبق. وقال الضحاك ان لكل كافر فى النار بيتا يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه ابد الآبدين لا يرى ولا يرى - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا والبيهقي عن مسعود قال إذا القى فى النار من هو مخلد فيها جعلوا فى توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت فى توابيت من حديد ثم قذفوا فى أسفل الجحيم فما يرى أحدهم انه يعذب غيره - واخرج أبو نعيم والبيهقي عن سويد بن عفلة نحوه.
أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ الم آمركم على لسان المرسلين استفهام للانكار وانكار النفي اثبات يعنى قد عهدتّ إليكم والجملة فى مقام التعليل لتميزهم من المؤمنين يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أى لا تطيعوه فى معصية اللّه ان مفسرة للعهد فانه فى معنى القول إِنَّهُ أى الشيطان ل َكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(60) ظاهر العداوة تعليل للمنع عن طاعته فيما يحملهم عليه.
وَأَنِ اعْبُدُونِي عطف على أو لا تعبدوا هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) اشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته تعالى والجملة استيناف لبيان المقتضى للعهد بشقيه أو بالشق الأخير والتنكير للمبالغة والتعظيم أو للتبعيض فان التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.
وَلَقَدْ أَضَلَّ الشيطان مِنْكُمْ جِبِلًّا قرأ أهل المدينة وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ويعقوب بضم الجيم والباء وتشديد اللام
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 94(1/5507)
و ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وسكون الباء « و تخفيف الباء أبو محمد » والباقون بضم الجيم والباء بغير تشديد وكلها لغات ومعناها الخلق والجماعة أى خلقا كَثِيراً جواب قسم محذوف رجوع إلى بيان معادات الشيطان وظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له ادنى عقل فانه انما يأمر بالفحشاء والمنكر وترك عبادة الخالق الرازق الضارّ النافع إلى عبادة من لا يضر ولا ينفع وترك اتباع النبي الناصح المؤيد بالمعجزات إلى اتباع هوى النفس أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) عداوته مع وضوحها الاستفهام للتوبيخ وجملة ولقد أضل معترضة للتوبيخ ويقال لهم لما دنوا من النار.
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا ادخلوها وذوقوا حرها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) أى بكفركم فى الدنيا.(1/5508)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) جملة فيها التفات من الخطاب إلى الغيبة أخرج مسلم عن انس قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضحك فقال هل تدرون فيما اضحك قلنا اللّه ورسوله اعلم قال من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب الم تجرنى من الظلم فيقول بلى فيقول فانى لا أجيز على نفسى الا بشاهد منى فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لاركانه انطقى فينطق بأعماله ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ اناصل « أجادل منه » . واخرج مسلم عن أبى هريرة قال قالوا يا رسول اللّه هل نرى ربّنا يوم القيامة قال هل تضارّون فى روية الشمس فى الظهيرة ليست فى سحابة قالوا لا قال فهل تضارون فى رؤية القمر ليلة البدر ليست فى سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسى بيده لا تضارّون فى رؤية ربكم الا كما تضارّون فى رؤية اجرهما فياتى العبد فيقول أى فلان الم أكرمك ا لم اسودك « اى جعلتك سيدا - منه ره » ا لم أزوجك الم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتراس « اى تكون راسا على قومك - منه ره » وتربغ « 1 » قال بلى يا رب فيقول أ ظننت انك ملاقى فيقول لا فيقول انى أنساك كما نسيتنى ثم يلقى الثاني فيقول له مثل ذلك ويقول هو مثل ذلك ثم يلقى الثالث
_________
(1) أى تأخذ اربع مما يحصل لهم من الغانم والكب وكان ذلك عادة الأمر أو فى الجاهلية. منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 95(1/5509)
فيقول له مثل ذلك فيقول امنت بك وبكتابك وبرسولك وصلّيت وصمت وتصدقت ويثنى ما استطاع فيقال أ فنبعث عليك شاهدا فيتفكر فى نفسه من ذا الذي يشهد على فيختم على فيه ويقول لفخذه انطقى فتنطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله ما كا ذلك قال وذلك المنافق وذلك بعذر عن نفسه وذلك الذي سخط اللّه عليه - واخرج احمد بسند جيد والطبراني عن عقبة بن عامر مرفوعا ان أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجر الشمال - وفي حديث معاوية بن حيدة عند احمد والنسائي والحاكم والبيهقي قال تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الغلام فاول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه واخرج ابن جرير وابن إلى حاتم عن أبى موسى الأشعري قال يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول أى رب عملت عملت فيغفر اللّه ذنوبه وليستره فيها قال فما على الأرض حليقة يرى من تلك الذنوب شيئا وتبدو حسناته والناس كلهم يرونها ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيحجده ويقول أى ربّ وعزتك كتب علىّ هذا الملك ما لم اعمل فيقول له عملت كذا فى يوم كذا فى مكان كذا فيقول لا وعزتك فإذا فعل ذلك ختم على فيه - قال أبو موسى فانى احسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم نختم على أفواههم الآية - أخرج أبو يعلى والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال إذا كان يوم القيامة غير الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقال أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقال احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم اللّه تعالى ويشهد عليهم ألسنتهم فيدخلهم النار.(1/5510)
وَ لَوْ نَشاءُ يعنى ولو شئنا طمس أعينهم لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أى أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ عطف على طمسنا أى إلى الطريق اعتادوا سلوكهم وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتداء أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتساع أو على الظرفية فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) الفاء للسببية والاستفهام للانكار يعنى فكيف يبصرون
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 96
الطريق حينئذ أى لا يبصرون بسبب الطمس قال البغوي هذا قول الحسن والسدّى وقال ابن عباس وقتادة ومقاتل وعطاء ولو نشآء لفقانا أعين ضلالتهم فاعميناهم عن غيّهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ابصر وارشدهم يعنى لم نشأ ذلك فانى يبصرون رشدهم.
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ قرأ أبو بكر مكاناتهم بصيغة الجمع والباقون بالإفراد يعنى ولو شئنا لجعلناهم قردة وخنازير فى منازلهم وقيل يعنى لو شئنا لجعلناهم حجارة وهم قعود فى منازلهم لا أرواح لهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أى ذهابا وَلا يَرْجِعُونَ (67) أى ولا رجوعا وضع الفعل موضعه للفواصل - وقيل ولا يرجعون عن تكذيبهم إلى التصديق ومعنى هذه الآية والآية السابقة على تأويل الحسن انهم لكفرهم ونقضهم العهد أحقاء ان يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم فى الدنيا واقتضاء الحكمة إمهالهم - .(1/5511)
وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ أى من نطل عمره نُنَكِّسْهُ قرأ عاصم وحمزة بضم النون الاولى وفتح الثانية وكسر الكاف والتشديد من التنكيس والباقون بفتح النون الاولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففا من المجرد والتنكيس ابلغ والنكس أشهر ومعناه نقلبه فِي الْخَلْقِ يعنى كان فى بدو الأمر لا يزال يتزايد قوة ونجعله فى الاخر بحيث لا يزال يتزايد ضعفا حتى يموت أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) عطف على مضمون الشرطية السابقة والاستفهام للانكار يعنى ينبغى ان يعقلوا ويعلموا ان من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فانه مشتمل عليهما وزيادة غير انه على تدرج قرأ نافع « ابو جعفر ويعقوب وأبو محمد » وابن ذكوان بالتاء على الخطاب لجرى الخطاب قبله فى قوله الم اعهد إليكم والباقون بالياء على الغيبة جريا على قوله لو نشآء لمسخناهم - قال البغوي قال الكلبي ان كفار مكة قالوا ان محمدا شاعر وما تقوله شعر فانزل اللّه تعالى.
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ عطف على قوله انّك لمن المرسلين وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة يعنى ما علّمناه الشّعر بتعليم القرآن فانه غير مقفى ولا موزون وليس معناه مثل معنى الاشعار من التخيلات المرغبة والمنفرة والأقوال الكاذبة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 97(1/5512)
وَ ما يَنْبَغِي لَهُ أى ما يصح له ان يضيع وقته الشريف فى إنشاء الشعر ورعاية الوزن والقافية - واما ما روى الشيخان فى الصحيحين من حديث البراء بن عازب قوله صلى اللّه عليه وسلم انا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ومن حديث جندب بن أبى سفيان هل أنت الا إصبع دميت - وفى سبيل اللّه ما لقيت - فاتفاقى من غير تكلف وتصنع وقعت لغير قصد منه إلى ذلك ومثله لا يعد شاعرا وقد يقع مثله كثيرا فى تضاعيف المنثورات على ان الخليل ما عدّ المسطور من الرجز شعرا هذا وقد روى انه صلى اللّه عليه وسلم حرك الباءين من كذب وعبد المطلب وكسر التاء من دميت بلا إشباع وسكن التاء من لقيت وقال البغوي ما كان يتزين له بيت شعر حتى إذا تمثل بيت شعر جرى على لسانه منكسرا « 1 » روى البغوي عن الحسن ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال أبو بكر يا نبى اللّه قال الشاعر كفى الشيب والإسلام بالمرء ناهيا فاعاد كالاول فقال أبو بكر اشهد انك رسول اللّه يقول اللّه عزّ وجلّ وما علّمناه الشّعر وما ينبغى له - وروى عن المقدام بن شريح عن أبيه قال قلت لعائشة رضى اللّه عنها كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتمثل شيئا من الشعر قالت كان يتمثل من شعر عبد اللّه بن رواحة قالت وربما قال ويأتيك الاخبار من لم تزودى.(1/5513)
و قال معمر عن قتادة بلغني ان عائشة سئلت هل كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتمثل بشئ من الشعر قالت كان الشعر ابغض الحديث إليه قالت ولم يتمثل بشئ من الشعر الا ببيت أخي بنى قيس بن طرف تبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزودى فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار قال أبو بكر ليس هكذا يا رسول اللّه فقال انى لست بشاعر وما ينبغى لي - وقيل الضمير للقرآن أى وما يصح للقرآن ان يكون شعرا إِنْ هُوَ أى القرآن إِلَّا ذِكْرٌ عظة وارشاد من اللّه تعالى وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) للفرائض والحدود والاحكام واخبار الغيب من الماضي والمستقبل التي لا يمكن إتيانها من الشاعر بل
_________
(1) وعن عبد الرحمان بن أبى الزناد ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للعباس بن مرداس ارايت قولك أصبح نهيى ونهب العبيد بين الاقراع وعيينه فقال أبو بكر بابى أنت وأمي يا رسول اللّه ما أنت بشاعر ولا راويه ولا ينبغى لك انما قال بين عيينة والأقرع - منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 98
من أحد من البشر.(1/5514)
لِيُنْذِرَ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب « و أبو جعفر - أبو محمد » بالتاء للخطاب أى لتنذر يا محمد بالقران وكذلك فى الأحقاف ووافق ابن كثير فى الأحقاف والباقون بالياء للغيبة متعلق بمضمون ما سبق يعنى أنزلنا القرآن وأرسلنا محمدا لينذر القرآن أو الرسول مَنْ كانَ حَيًّا أى مؤمنا فانه حى القلب يعقل الأشياء على ما هى عليه وأيضا الحيوة الابدية بالايمان وتخصيص الابدية لأنه هو المنتفع به دون الكافر فانه كالميت لا ينتفع به ولا يدرك الحسن من القبيح يحسب عبادة الأحجار واتباع الشيطان حسنا وعبادة الخالق واتباع الرسول الناصح المؤيد بالمعجزات قبيحا فيكون فى الاخرة بحيث لا يموت ولا يحيى وللاشعار بانهم أموات فى الحقيقة جعلهم فى مقابلة من كان حيّا وقال وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عطف على لينذر أى ليجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (70).
أَ وَلَمْ يَرَوْا الهمزة لاستفهام الإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره ا ينكرون البعث أو ا ينكرون خلق اللّه ولم يروا يعنى قد راو وأقروا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أى تولينا احداثه دون غيرنا لانتفاعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا اسناد العمل إلى الأيدي استعارة تفيد مبالغة فى الاختصاص والتفرد بالأحداث أَنْعاماً خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) متملكون بتمليكنا إياهم أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم.
وَذَلَّلْناها أى سخرناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أى مركوبهم يعنى الإبل وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) أى ما يأكلون لحمه.(1/5515)
وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود والاصواف والأدبار والنسق له واستعمالها فى الحرث وغير ذلك وَمَشارِبُ من ألبانها جمع مشربة بمعنى الموضع أو المصدر أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ا ينكرون فلا يشكرون لابل يعترفونه ويكفرون كما يدل عليه قوله.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أشركوها به فى العبادة بعد ما راوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا انه المتفرد بها - عطف على مضمون خلقنا لهم يعنى أنعمنا عليهم وهم اتخذوا الهة غيرنا روى البيهقي والحكيم عن أبى الدرداء انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه عزّ وجلّ انى والجن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 99
و الانس فى نبأ عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) حال من فاعل اتخذوا يعنى راجين ان ينصروهم فيما يهمّهم من الأمور - والأمر بالعكس لانها.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أى ان يمنعوهم من العذاب وَهُمْ أى الكفار لَهُمْ أى لالهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) معدون لحفظهم والذب عنهم فى الدنيا وهى لا يسوق إليهم خيرا ولا يدفنون عنهم شرّا وقيل معناه يؤتى يوم القيامة بكل معبود من دون اللّه ومعه أشياعه الذين عبدوهم كانهم جند محضرون فى النار - الجملة حال من فاعل لا يستطيعون.(1/5516)
فَلا يَحْزُنْكَ الفاء للسببية يعنى إذا سمعت الوعيد للكافرين فلا يحزنك قَوْلُهُمْ فى اللّه بالإلحاد وفيك بالتكذيب والتهجين إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من عداوتك والعقائد الباطلة وَما يُعْلِنُونَ (76) من الأعمال والأقوال الشنيعة فيجازيهم عليه وكفى ذلك ان تتلى به وجملة انا نعلم تعليل للنهى على الاستئناف - أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال جاء العاص بن وائل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعظم حامل محتة فقال يا محمد أ يبعث هذا بعد ما ارى قال نعم يبعث اللّه هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت.
أَ وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ يعنى العاص ابن وائل أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ إلى اخر السورة واخرج ابن أبى حاتم من طرق عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدىّ والبيهقىّ فى شعب الايمان عن أبى مالك وكذا ذكر البغوي انها نزلت فى أبى بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم فى انكار البعث وأتاه بعظم قد بلى ففتته بيده وقال ا ترى يحيى اللّه هذا بعد مادم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم نعم ويبعثك فيدخلك النار فانزل اللّه تعالى هذه الآية الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره أ ينكر الإنسان قدرتنا على الاعادة ولم ير يعنى قد علم انّا خلقناه من نطفة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ الفاء للعطف وإذا للمفاجاة يعنى خلقناه من نطفة ففاجا وقت خصامه مُبِينٌ (77) ظاهر انه مجادل بالباطل لا يريد تحقيق الحق لظهوره حيث يعلم ويعترف ببدو خلقه وينكر ما هو أهون منه وهو الاعادة وفيه تسلّية ثانية بتهوين ما يقول له بالنسبة إلى انكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ حيث اتى الكفر فى مقابلة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 100(1/5517)
النعمة التي لا مزيد عليه وهى خلقه من اخس شىء وامهنه شريفا مكرما وقيل معنى فإذا هو خصيم مبين فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميّز منطيق قادر على الخصام معرب عمّا فى نفسه وقيل فهو على مهانة أصله ودناءة اوله يتصدى مخاصمة ربه وينكر قدرته على احياء الميت وجملة أو لم ير الإنسان إلى آخره بدل من قوله أو لم يروا انّا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا.(1/5518)
وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا امرا عجيبا وهو نفى القدرة على احياء الموتى وتشبيهه بخلقه موصوفا بالعجز عمّا عجزوا عنه وَنَسِيَ خَلْقَهُ أى خلقنا إياه من منى وهو اغرب من احياء العظم قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) حال من العظام استئناف بيان للمثل والرميم ما بلى من العظام فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسما بالغلبة فلذلك لم يؤنث أو بمعنى مفعول من رممته - قال البيضاوي فيه دليل على ان العظم ذو حيوة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء يعنى بذلك ان عظم الميتة نجس وبه قال الشافعي وكذا ذكر ابن الجوزي مذهب احمد فى التحقيق وذكر صاحب رحمة الامة ان الصحيح من مذهب احمد طهارة السنّ والريش والعظم احتج القائلون بنجاسة عظم الميتة بهذه الآية وبقوله صلى اللّه عليه وسلم لا ينتفع من الميتة بشئ - رواه أبو بكر الشامي بإسناده عن أبى الزبير عن جابر قال صاحب المغني وصاحب تنقيح التحقيق اسناده حسن ورواه ابن وهب فى مسنده عن زمعة بن صالح عن أبى الزبير عن جابر ولفظه لا تنتفعوا من الميتة بشئ ولا تنتفعوا بالميت قال صاحب التنقيح زمعة فيه كلام وللحديث علة ذكرها ابن معور وغيره قال صاحب الهداية شعر الميتة وعظمها لا حيوة فيهما يعنى فلا يحلهما الموت فلا يشتملهما الحديث الوارد فى النهى عن الانتفاع بالميتة ويرد على هذا القول هذه الآية فانها تدل على كون الحيوة فى العظم فالاولى ان يقال ان المنجس انما هو الدم المسفوح ولادم فى العظم والعصب والشعر وان كانت فيها حيوة ولهذا موت ما لا دم له سائلا من الحيوانات فى الماء لا يفسده عن سلمان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل طعام أو شراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوؤه. رواه الدار قطنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 101(1/5519)
قال الدار قطنى لم يروه غير بقية عن سعيد بن سعيد الزبيدي وهو ضعيف وقال ابن عدى سعيد مجهول وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا وقع الذباب فى اناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فان فى أحد جناحيه شفاء وفى الاخر داء - رواه البخاري والحجة لنا حديث ابن عباس قال مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشاة ميتة فقال الا استمتعتم بجلدها فقالوا يا رسول اللّه انها ميتة قال انما حرم أكلها - متفق عليه وروى الدار قطنى عن ابن عباس انه قال انما حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الميتة لحمها واما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به - وفيه عبد الجبار بن مسلم قال الدار قطنى ضعيف لكن ذكره ابن حبان فى الثقات قال ابن همام لا ينزل الحديث عن الحسن والعجب من ابن الجوزي انه احتج بهذا الحديث على طهارة صوف الميتة وشعرها ولم يحتج بها على طهارة العظم واحتج على نجاسة العظم بحديث لا تنتفعوا من الميتة بشئ ولم يحتج بها على نجاسة الصوف والشعر والحق ان المراد بقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تنتفعوا من الميتة بشئ لا تنتفعوا من الميّت مما يؤكل لتنجسه باختلاط الدم المسفوح واما العظم والشعر والصوف مما لا يختلط بالدم فلا بأس به ولا بأس بالجلد بعد الدباغ وازالة الرطوبة وفى الباب أحاديث اخر منها ما روى الدار قطنى عن ابن عباس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا كل شىء من الميتة حلال الا ما أكل منها فاما الجلد والشعر والصوف والعظم فكل هذا حلال لأنه لا يزكّى - وفيه أبو بكر الهذلي قال الدار قطنى متروك وقال غندر كذاب وقال يحيى وعلى ليس بشئ وروى الدار قطنى عن أم سلمة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء - قال الدار قطنى لم يأت به غير يوسف بن السفر وهو متروك يكذب وقال أبو ذرعة والنسائي هو(1/5520)
متروك وقال دحيم ليس بشئ وقال ابن حبان لا يحل الاحتجاج به بحال وروى ابن الجوزي من طريق أبى يعلى عن حميد الشامي عن سليمان عن ثوبان ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادة من
عصب وسوارين من عاج - قال ابن الجوزي الحديث لا يصح حميد و
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 102
سليمان مجهولان قال احمد لا اعرف حميدا وقال يحيى بن معين لا اعرف سليمان - وأيضا المراد بالعاج الزبل قال ابن قتيبة ليس العاج هاهنا الذي يعرفه العامة ويخرطه من العظم والناب ذلك ميتة منهى عنه فكيف يتخذ لها منه سوارا انما العاج الزبل قال ذلك الأصمعي قال ابن همام قول الأصمعي ليس العاج الذي يعرفه العامة. يوهم انه ليس من اللغة وليس كذلك قال فى المحكم العاج أنياب الفيلة ولا يسمى غير الناب عاجا وقال الجوهري العاج عظم الفيل الواحد عاجة فتاويل الأصمعي انما هو لاعتقاده نجاسة عظم الفيل قال ويظهر من القاموس ان العاج مشترك فى الزبل وعظم الفيل وكذا يظهر من النهاية للجزرى والزبل جلد السّلحفاة البحرية أو البرية أو عظام ظهر دابة بحرية يتخذ منها الا سورة والا مغاط كذا فى القاموس - واخرج البيهقي عن بقية عن عمرو بن خالد عن قتادة عن انس انه صلى اللّه عليه وسلم كان يمتشط بمشط من عاج قال البيهقي ورواية بقية عن شيوخه المجهولين ضعيفة قال ابن همام فهذه عدة أحاديث لو كانت ضعيفة حسن المتن فكيف ومنها ما لا ينزل عن الحسن وله الشاهد الأول من الصحيحين واللّه اعلم ..(1/5521)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فان قدرته كما كان لامتناع التغير فيه والمادة على حالها فى القابلية اللازمة لذاتها جملة مستأنفة وقوله وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ أى مخلوق عَلِيمٌ (79) حال من فاعل يحيى أى يعلم تفاصيل المخلوقات وكيفية خلقها فيعلم اجزاء الاشخاص المتغيبة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطرق تميزها وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الاعراض والقوى التي كانت فيها أو احداث مثلها.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً بدل من الّذى أنشأها أو خبر مبتدا محذوف أى هو أو منصوب على المدح بتقدير اعنى قال ابن عباس شجرتان يقال لاحداهما المرخ وللاخرى العفار فمن قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضروان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار يخرج منها النار يقول العرب فى كل شجر نار و؟؟؟ المرخ والعفار وقال العلماء فى كل شجر نار الا العناب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 103
فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أى ففاجئتم وقت ايقادكم ولا تشكون فى انها نار خرجت منه فمن قدر على احداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته كان اقدر على إعادة العضاضة فيما كان عضا فيبس وبلى ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال.
أَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الاستفهام للانكار والعطف على محذوف تقديره اخلق السماوات والأرض كما تعترفون به وليس الذي خلقهما مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بِقادِرٍ قرأ يعقوب « اى رويس أبو محمد » يقدر على صيغة المضارع عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فى الصغر والحقارة بالاضافة إليهما أو مثلهم فى اصول الذات وصفاتها وهو المعاد بَلى جواب من اللّه لتقرير ما بعد النفي أى هو قادر على ان يخلق مثلهم وَهُوَ الْخَلَّاقُ يخلق خلقا بعد خلق الْعَلِيمُ (81) بجميع الممكنات عطف على مضمون بلى.(1/5522)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ان يوجد أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) أى فهو يكون نصبه ابن عامر والكسائي عطفا على يقول - قال البيضاوي هو تمثيل لتأثير قدرته فى مراده تعالى بامر المطاع للمطيع فى حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال فمعز الدولة قطعا لمادة الشبهة وهو قياس قدرة اللّه تعالى على قدرة الخلق ..
فَسُبْحانَ مصدر فعل محذوف والفاء للسببية يعنى إذا علمتم انه تعالى خلق الإنسان من نطفة وهو قادر على ان يحيى العظام وانه إذا أراد شيئا انما يقول له كن فيكون فسبحوا سبحان الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ أى الملك بمعنى القدرة زيدت الواو والتاء للمبالغة كُلِّ شَيْ ءٍ أى تنزيه له عما ضربوا وتعجيب عمّا قالوا فيه معللا بكونه مالكا للملك كله قادرا على كل شىء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) عطف على قوله بيده وفيه وعد للمقرين ووعيد للمنكرين.
عن معقل بن يسار قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقرءوا على موتاكم يس - رواه احمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وفى لفظ يس قلب القرآن لا يقرأها رجل يريد اللّه والدار الاخرة الا غفر له اقرءوها على موتاكم - وذكره الجزري فى الحصن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 104
الحصين بلفظ يس لا يقرأها رجل يريد اللّه والدار الاخرة الا غفر له اقرءوها على موتاكم.
و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لكل شىء قلبا وقلب القرآن يس من قرأ يس « 1 » كتب اللّه له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات - سنده ضعيف رواه الترمذي
_________
((1/5523)
1) وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ يس كل ليلة غفر له - رواه البيهقي بسند ضعيف وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ يس فى ليلة أصبح مغفورا له - رواه أبو نعيم فى الحلية بسند ضعيف وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ يس مرة فكانّما قرأ القرآن مرتين - رواه البيهقي بسند ضعيف وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ يس مرة فكانّما قرأ القرآن عشر مرات - رواه البيهقي بسند ضعيف وعن معقل بن يسار قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ يس ابتغاء وجه اللّه غفر له ما تقدم من ذنبه فاقرءوها عند موتاكم - رواه البيهقي بسند ضعيف واخرج الطبراني من حديث انس من دوام على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيدا - واخرج الدارمي والطبراني من حديث أبى هريرة من قرأ يس ابتغاء وجه اللّه غفر له - أخرج الديلمي وأبو الشيخ بن حبان فى فضائله من حديث أبى ذر ما من ميت يموت فيقرا عنده يس الا هوّن اللّه عليه - واخرج المحاملي فى اماليه من حديث عبد اللّه بن الزبير من جعل يس امام حاجته قضيت له - وله شاهد مرسل عند الدارمي وفى المستدرك عن أبى جعفر محمد بن على قال من وجد فى قلبه قسوة فليكتب يس فى جام من زعفران ثم يشربه - واخرج ابن الضريس عن سعيد بن جبير انه قرأ على رجل مجنون سورة يس فبرئ - واخرج أيضا عن يحيى بن أبى كثير قال من قرأ يس حين أصبح لم يزل فى فرح حتى يمسى ومن قرأها إذا امسى لم يزل فى فرح حتى يصبح اخبر به من جرّب ذلك. منه قدس اللّه سره
تمّت تفسير سورة يس من التفسير المظهرى (و يتلوه سورة الصافات ان شاء اللّه تعالى) سلخ ربيع الأول سنة سبع بعد المائتين سنة 1207 ه والف وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 105(1/5524)
سورة والصّافّات
مكّيّة وهى مائة واثنان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) اقسم بالملائكة الذين يصفون فى مقام العبودية كصفوف المصلين عن جابر بن سمرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول اللّه كيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف ويتراصون فى الصف - كذا قال ابن عباس والحسن وقتادة وقيل هم الملائكة تصف بأجنحتها فى الهواء واقفة حتى يأمر اللّه بما يريد وقيل هى الطير قال اللّه تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ....
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) يعنى الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل الملائكة تزجر الناس عن المعاصي بإلهام الخير أو الشياطين عن التعرض لهم. وقال قتادة هى زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبيح.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) هم الملائكة الذين يتلون ذكر اللّه أو آيات من الكتب السماوية على الأنبياء وذكرا منصوب على المفعولية وجاز نصبه على المصدرية من معنى التاليات. أو اقسم بنفوس العلماء الصافّين أقدامهم فى الصلاة الزاجرين عن الكفر والسيئات بالحجج والنصيحات التالين آيات ربهم رفيع الدرجات - أو بنفوس الغزاة المقاتلين فى سبيل اللّه صفّا كانّهم بنيان مرصوص الزاجرين الخيل والعدو التالين لذكر اللّه لا يشغلهم مبارزة العدو عن ذكر اللّه - والعطف لاختلاف الدوات أو الصفات والفاء لترتيب الوجود فان الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر أو الاساقة إلى الخير والتلاوة افاضة أو الرتبة كما فى قوله تعالى ثمّ كان من الّذين أمنوا - ادغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فانها من طرف اللسان واصول الثنايا وأبو عمر وعلى أصله فى الإدغام الكبير. جواب القسم.
إِنَّ إِلهَكُمْ يا أهل مكة لَواحِدٌ (4) رد لما قال كفار مكة اجعل الالهة الها وّاحد لانّ هذا لشئ عجاب.(1/5525)
رَبُّ السَّماواتِ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 106
وَ الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ
(5) خبر بعد خبر لانّ أو خبر مبتدا محذوف أى هو والمراد بالمشارق مشارق الكواكب كلها أو مشارق الشمس فى السنة فانها ثلاث مائة وخمس وستون تطلع كل يوم من واحد وبحسبها يختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها مع ان الشرق أدلّ على القدرة وابلغ فى النعمة ..
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أى القربى منكم فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) قرأ الجمهور بالاضافة وهى بيانية أى بزينة هى الكواكب أو اضافة المصدر إلى المفعول أى بان زينا الكواكب فانها كما جاءت اسما كالليقة جاء مصدرا كالنسبة أو إلى الفاعل أى بان زينها الكواكب وقرأ حمزة ويعقوب وحفص « لا بل هو كالجمهور - أبو محمد » بتنوين زينة وجر الكواكب على ابدا لها منه أى بزينة هى الكواكب أو بزينة هى لها كاضوائها وأوضاعها قال ابن عباس أى بضوء الكواكب وهذه القراءة يؤيد كون الاضافة فى قراءة الجمهور بيانية وقرأ أبو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب على المفعولية فيؤيد كون الاضافة إلى المفعول أو منصوب بتقدير اعنى أو على البدل من محل زينة.(1/5526)
وَ حِفْظاً منصوب على المصدرية بإضمار فعله أى وحفظناها حفظا أو بالعطف على زينة بحسب المعنى كانّه قال انا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا أى لاجل الحفظ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) خارج من الطاعة برمى الشهب من الكواكب وهذه الآية تفيد ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا وقول البيضاوي ان كون الثوابت فى الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينها وبين سماء الدنيا ان تحقق لم يقدح فى ذلك فان أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلالية على سطحها الأزرق باشكال مختلفة مبنى على تجويز قول الفلاسفة والحق ان قول الفلاسفة باطل بالكتاب والسنة والإجماع فان كون السماوات سبعا منصوص عليه بالكتاب فلا يجوز القول بالكرة الثامنة وتسميتها باسم غير السماء لا يفيد كتسمية الخمر بغير اسمها لا يفيد الحل وأيضا الدّنيا صفة للسماء ومفهوم الصفة يقتضى حصر زينتها فى السماء الدنيا ولو لا ذلك الحصر لما وجه لتقييد السماء بالدنيا وأيضا قوله تعالى وحفظا من كلّ شيطان مارد يرد القول بكون الكواكب فى سماء غير سماء الدنيا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 107
فان رجم الشيطان ليس الا من السماء الدنيا ولا سبيل للشياطين فوق سماء الدنيا والقول بان الشهاب تخرج من الكواكب الثابتة فى السماء الثامنة نافذة من السماوات السبع إلى سارق السمع من الشياطين يأباه العقل والنقل واللّه اعلم.(1/5527)
لا يَسَّمَّعُونَ قرأ حفص وحمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » بتشديد السين والميم أصله يتسمّعون فادغمت التاء فى السين والمعنى يطلبون السماع وفيه مبالغة فى نفى السماع والباقون بسكون السين وتخفيف الميم من المجرد - وهذا كلام مبتدا لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم ولا يجوز جعله صفة لكلّ شيطان فانه يقتضى حفظها من الشياطين الذين لا يسمعون ولا علة للحفظ على حذف اللام كما فى جئتك ان تكرمنى ثم حذف ان واهدار عملها فان اجتماع ذلك منكر إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى متعلق بلا يسمعون بتضمين معنى الاصفاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه والمراد بالملا الأعلى الملائكة أو اشرافهم مدبرات الأمور وَيُقْذَفُونَ أى يرمون عطف على لا يسمعون مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) أى من آفاق سماء الدنيا بالشهب إذا قصدوا المكث والإصغاء.
دُحُوراً مصدر بمعنى الطرد منصوب على المصدرية لان القذف والدحور متقاربان أو على الحال بمعنى مدحورين أو بنزع الخافض أى بدحور وهو ما يطرد به وَلَهُمْ عَذابٌ اخر واصِبٌ (9) أى دائم أو شديد وهو عذاب الاخرة وقال مقاتل لهم عذاب فى الدنيا دائم إلى النفخة الاولى يحرقون.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من فاعل لا يسمعون وبدل منه وقيل استثناء منقطع والخطفة الاختلاس يعنى من اختلس كلمة من كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرّف الخطفة فَأَتْبَعَهُ اتبع بمعنى تبعه أى لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ (10) وهو ما يرى كانّ كوكبا انقض وهو شعلة تخرج من كوكب لرجم مسترقى السمع من الشياطين.(1/5528)
و ليس كما قالت الفلاسفة انه بخار يصعد إلى الأثير ويشتعل فان هذا قول باطل مبنى على الظن والتخمين وانّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئا وهذا كقولهم فى المطر انه بخار يصعد من الأرض ويصل إلى الطبقة الزمهريرية من الهواء فيجمد ويكون غماما ثم يصل إليه الحرارة من الشمس فيذوب ويقطر ماء وهذه الأقوال الباطلة التي لا دليل عليها يأباه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 108(1/5529)
العقل فان الابخرة قد يصعد كثيرا لاجل شدة الحر ولا يكون مطرا إلى سنين وقد يكون امطارا متوالية متكاثرة فى البرد من غير ان يدرك حينئذ صعود الابخرة وأيضا لو كان كذلك لذاب فى بعض الأحيان الغمام كله ولم ير ذلك قط وأيضا البخارات لا تزال تتصاعد دائما فرؤية الشهاب فى بعض الأحيان لا معنى له - وهذه الأقوال باطلة بالكتاب والسنة قال اللّه تعالى وأنزلنا من السّماء ماءّ وقال اللّه تعالى وأنزلنا من السّماء من جبال فيها من برد وهذه الآية وزيّنا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب إلى قوله شهاب ثاقب وروى البخاري عن قتادة قال خلق اللّه تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم - وروى أيضا عن أبى هريرة ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا قضى اللّه الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السّمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (و وصف سفيان بكفه فحركها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الاخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أ ليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء - وروى مسلم عن ابن عباس ربنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى تبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى تبلغ أهل هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق و(1/5530)
لكنهم تعرفون فيه و « اى يكذبون منه ره » يزيدون - وروى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان الملائكة تنزل فى العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضى فى السماء فيسترق الشياطين السمع فيستمعه فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم - قال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 109
البيضاوي واختلف فى المرجوم يتاذى فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولهذا لا يرتدعون ..(1/5531)
فَاسْتَفْتِهِمْ الضمير المنصوب لمشركى مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ممن خلقناهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا هم أشد خلقا منهم والمراد بمن خلقنا ما سبق ذكره من السماوات والأرض وما بينهما من الخلائق والمشارق والمغارب والكواكب والشهب الثواقب ومن لتغليب العقلاء والاستفهام للتقرير - وقيل المعنى أم من خلقنا من غيرهم من الأمم السالفة كعاد وثمود قد أهلكناهم بذنوبهم فما لكم تأمنون من العذاب والتأويل الأول يوافق قوله تعالىء أنتم « 1 » أشدّ خلقا أم السّماء ويدل على إطلاقه قوله تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) أى لاصق يتعلق باليد وقال مجاهد والضحاك أى منتن فانه فارق بين خلقهم وخلق السماوات والأرض فان خلقها بلا مادة سبق وهذه الجملة متضمنة للسوال المذكور على طريقة عن النّبإ العظيم بعد قوله عمّ يتسآءلون والغرض من هذا الكلام الرد على منكر البعث فانه شهادة عليهم بالضعف لان ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة فمن قدر على خلق السماوات وغيرها قادر البتة على ما لا يعتد به بالاضافة إليها واحتجاج عليهم بان خلقهم الأول من الطين اللازب فمن اين ينكرون ان يخلقوا ثانيا من تراب حيث قالوا أ إذا كنّا ترابا أ إنّا لفى خلق جديد وان الطين اللازب يحصل بضم الجزء المائى إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام والفاعل لا تغير فى قدرته فعلى ما ينكرون ..
بَلْ ابتدائية للانتقال من غرض إلى اخر وهو الاخبار بحاله وحالهم وليست للاضراب عَجِبْتَ العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر لم يعهد مثله فيعبر عن تلك الحالة بقوله عجبت وبصيغة التعجب منه قوله صلى اللّه عليه وسلم عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة فى السلاسل - وقوله سبحانه ما أعظم شأنه ويطلق أيضا على الشيء الذي لم يعهد
_________
(1) وفى الأصل أهم أشدّ 12(1/5532)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 110
مثله انه عجب قال اللّه تعالى أ كان للنّاس عجبا ان أوحينا إلى رجل منهم وكثيرا يستعمل العجب فيما يراه الرجل حسنا غاية الحسن يقال أعجبني كذا ومنه قوله تعالى ومن النّاس من يعجبك قوله وقوله عليه السلام عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة وقوله صلى اللّه عليه وسلم عجب ربكم من الكم وقنوطكم وقد يستعمل فيما يراه قبيحا غاية القبح يقال عجبت من بخلك وشرهك وقال الشاعر شيئان عجيبان هما أبرد من يخ شيخ يتصبى وصبى يتشيخ - وفيما يراه كثيرا غاية الكثرة يقال ما أكرمه وما أطفاه وما أشد استخراجه وما أجهله وما اشر بياضه فالمعنى ان هذا الشيء بهذا الحسن أو بهذا القبح أو بهذا الكرام أو الجهل أو البياض لم يعهد مثله - وقيل هى حالة يعرض للانسان عند الجهل بسبب الشيء وبناء على ذلك قالوا لا يصح على اللّه العجب لاحاطة علمه بكل شىء وقيل هى حالة يعترى للانسان عند استعظامه الشيء والصحيح ان مال هذين التفسيرين إلى ما ذكرنا لان الإنسان يستعظم ما لم يعهد مثله وكذا ما يجهل بسببه يراه غير معهود مثله فلا حاجة إلى الصرف عن الظاهر فى قراءة حمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » عجبت بضم التاء على صيغة المتكلم رنال البيضاوي العجب من اللّه اما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم وقيل انه مقدر بالقول يعنى قل يا محمد بل عجبت وقال البغوي والعجب من اللّه إنكاره وتعظيمه والعجب من اللّه قد يكون بمعنى الإنكار والذم كما فى هذه الآية وقد يكون بمعنى الاستحسان كما فى الحديث عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة - وسئل جنيد عن هذه الآية فقال ان اللّه ما يعجب من شىء ولكن اللّه وافق رسوله فقال وان تعجب فعجب قولهم أى هو كما تقوله - وقرأ الجمهور على صيغة المخاطب بفتح التاء يعنى عجبت أنت يا محمد من تكذيبهم إياك مع اعترافهم بكونك أمينا صدوقا وشهادة المعجزات على صدقك وكون القرآن(1/5533)
معجزا أو عجبت من انكارهم قدرة اللّه على البعث مع ظهور قدرته تعالى على كل شىء فان هذا الأمر لم يعهد مثله قال قتادة عجب نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هذا القرآن حين انزل وضلال بنى آدم بعده وذلك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يظن ان من سمع لهذا القرآن يؤمن به فلمّا سمع المشركون وسخروا منه ولم يؤمنوا به عجب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 111
من ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اللّه تعالى بل عجبت يا محمد وَيَسْخَرُونَ (12) حال من فاعل عجبت بتقدير المبتدا يعنى وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا أى وعظوا بالقران لا يَذْكُرُونَ (13) لا يتعظون أو المعنى إذا ذكرهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرتهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال ابن عباس ومقاتل هو انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (14) يبالغون فى السخرية أو يستدعى بعضهم بعضا ان يسخر منها.
وَقالُوا أى ويقولون إِنْ هذا يعنون ما يرونه من المعجزة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) ظاهر سحريته وقالوا.
أَ إِذا مِتْنا قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر « 1 » الميم وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أصله أ نبعث إذا متنا فبدل الفعلية بالاسمية وقدم الظرف وكرر الهمزة مبالغة في الإنكار واشعارا بان البعث مستنكر فى نفسه وفى هذا الحال اولى بالإنكار فهذا ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الاولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب « و أبى جعفر - أبو محمد » بطرح الثانية.(1/5534)
أَ وَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) عطف على محل اسم ان بعد مضى الخبر أو على الضمير فى مبعوثون فانه مفصول عنه بهمزة الاستفهام والاستفهام لانكار الجمع بين بعثهم وبعث ابائهم لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم - وسكن نافع « اى قالون عنه والاصبهانى عن ورش وأبو جعفر وأبو محمد » وابن عامر الواو على معنى الترديد وعلى هذه « 2 » القراءة لا يجوز العطف قل يا محمد.
نَعَمْ تبعثون أنتم وآباؤكم قرأ الكسائي بالكسر وهو لغة فيه وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) الدخور أشد الصغار حال من فاعل المقدر.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ جواب شرط مقدر يعنى إذا كانت البعث فانّما هى أى البعثة وقيل هى ضمير مبهم موضحها خبرها يعنى زجرة واحِدَةٌ أى صيحة واحدة أى نفخة الثانية والزجر الطرد والمنع بالصوت يقال زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها فى الاعادة كما امر فى الإبداء ولذلك
_________
(1) هذا هو الصحيح وهكذا فى الأصل فى المتن لكن كتبه على الحاشية بالضم. وهو وهم كما « و بال عمران فى ص 161 أبو محمد
(2) وفى الأصل هذا القراءة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 112
رتب عليها فَإِذا هُمْ قيام من مراقدهم احياء يَنْظُرُونَ (19) عطف على فانّما هى زجرة يعنى انما البعثة زجرة ففاجت وقت كونهم احياء ينظرون أى يبصرون أو ينتظرون ما يفعل بهم.
وَقالُوا يا للتنبيه وَيْلَنا أى هلاكنا مصدر لا فعل له من لفظه وجملة قالوا عطف على ينظرون ويقولون يا ويلنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) أى يوم نجازى فيه بأعمالنا.
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أى يوم القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) قيل هذا جواب الملائكة وقد تم كلامهم على يوم الدّين وقيل هذا أيضا من كلامهم بعضهم لبعض - فحينئذ يقول اللّه سبحانه للملائكة.(1/5535)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى أشركوا فانّ الشّرك لظلم عظيم يعنى اجمعوهم إلى الموقف للحساب والجزاء وَأَزْواجَهُمْ يعنى نظراءهم وأشياعهم واتباعهم أخرج البيهقي من طريق النعمان بن بشير قال سمعت عمر بن الخطاب يقول احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم يعنى ضرباءهم الذين هم مثلهم يجيئ اصحاب الربوا مع اصحاب الربوا واصحاب الزنى مع اصحاب الزنى واصحاب الخمر مع اصحاب الخمر ازواج فى الجنة وازواج فى النار - واخرج البيهقي عن ابن عباس يعنى أشباههم - وقال البغوي قال قتادة والكلبي يعنى من عمل مثل عملهم فاهل الخمر مع أهل الخمر واهل الربوا مع أهل الربوا وقال الضحاك قرناؤهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه فى سلسلة وقال الحسن أزواجهم من المشركات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فى الدنيا يعنى الأوثان والطواغيت وقال مقاتل يعنى إبليس واحتج بقوله ان لا تعبدوا الشّيطان واللفظ مخصوص بقوله تعالى انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) قال ابن عباس دلوهم إلى طريق النار وقال ابن كيسان قدموهم إلى النار والعرب يسمى السائق هاديا.
وَقِفُوهُمْ أى احبسوهم قال المفسرون لمّا سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط فيقول اللّه تعالى قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) تعليل بقفوا قال ابن عباس يسئلون عن جميع أفعالهم وأقوالهم وروى عنه عن لا اله الا اللّه أخرج
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 113(1/5536)
مسلم عن أبى برزة الأسلمي رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزول قد ما عبد عن الصراط حتى يسئل عن اربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه. واخرج الترمذي وابن مردوية مثله عن ابن مسعود واخرج الطبراني مثله عن معاذ بن جبل وابى الدرداء وابن عباس واخرج ابن المبارك فى الزهد عن أبى الدرداء قال ان أخوف ما أخاف إذا وقعت الحساب ان يقال لى قد علمت فما عملت واخرج احمد فى الزهد عنه قال أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يقال ما عملت فيما علمت واخرج ابن أبى حاتم عن ابقع بن عبد اللّه الكلاعى قال ان لجهنم سبع قناطير والصراط عليها فيحبس الخلائق عند القنطرة الاولى فيقولون قفوهم انّهم مسئولون فيحاسبون عن الصلاة ويسئلون منها فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا فإذا بلغوا الثانية حوسبوا عن الامانة كيف أدوها وكيف خانوها فيهلك من هلك وينجو من نجا فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها فيهلك من هلك وينجو من نجا قال والرحم يومئذ متدلية إلى الهواء يقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعنى فاقطعه.
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) أى يقال لهم توبيخا ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا تحريض على التناصر والغرض منه التهكم والتعجيز.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) قال ابن عباس أى خاضعون وقال الحسن منقادون يقال استسلم لشئ إذا انقاده وخضع - .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى الرؤساء والاتباع أو الكفرة والقرناء يَتَساءَلُونَ (27) حال من الفاعل والمفعول يعنى يسئل بعضهم بعضا توبيخا ولذلك فسر بقوله يتلاومون ويتخاصمون.(1/5537)
قالُوا أى يقول الاتباع للرؤساء أو الكفرة للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) أى عن أقوى الوجوه وأيمنها أو عن الدين أو عن الخير كذا قال الضحاك ومجاهد مستعار عن يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمى يمينا - وقال بعضهم المراد باليمين الحلف يعنى كنتم تحلفون ان ما تدعوننا إليه من الدين هو الحق - وقيل معناه القوة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 114
و القهر يعنى كنتم تكرهوننا وتقسروننا على الضلال هذه الجملة وما بعدها بيان للتساؤل.
قالُوا أى يقول الرؤساء أو الشياطين ما اضللناكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) يعنى كنتم كافرين ضآلين باختياركم.
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قهر وغلبة تقرير لما سبق بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) أى مختارين الطغيان.
فَحَقَّ أى وجب عَلَيْنا عطف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره كنتم قوما طاغين كما كنا طاغين فحقّ علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين إِنَّا لَذائِقُونَ (31) العذاب.
فَأَغْوَيْناكُمْ اضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه عطف على فحقّ علينا إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) ضالين يعنون ان ضلال الفريقين ووقوعهم فى العذاب كان امرا مقضيا علينا وانه غاية ما فعلنا بكم انا دعونا إلى الغيّ لانا كنا على الغى فاحببنا ان تكونوا مثلنا قال اللّه تعالى.
فَإِنَّهُمْ الفا للسببية يعنى لمّا كان كلهم من الرؤساء والاتباع والكفرة والقرناء على الغى فهم يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ انا مبتدا والجملة خبر وكذلك فى محل النصب على المصدرية أى فعلا مثل ما نفعل بهؤلاء نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) أى بكل مشرك والمجرم هو المشرك لقوله تعالى.(1/5538)
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ عطف على يستكبرون أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) يعنون النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى ردّا عليهم.
بَلْ جاءَ النبي صلى اللّه عليه وسلم بِالْحَقِّ أى التوحيد الذي قام عليه البرهان وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) يعنى ليس هذا دعوى مبتدعا بل ادعاه الأولون من الرسل وهذا يصدقهم ويطابق دعواه دعواهم.
إِنَّكُمْ أيها المجرمون فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) بالإشراف وتكذيب المرسلين.
وَما تُجْزَوْنَ جزاء إِلَّا جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) فى الدنيا من الشرك.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) الموحدين استثناء منقطع الا ان يكون الضمير
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 115
فى تجزون لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عما سبق باعتبار المماثلة فان ثوابهم يضاعف إلى سبع مائة ضعف إلى ما شاء اللّه والمنقطع أيضا بهذا الاعتبار.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) خصائصه من الدوام وتمحض اللذة ولذلك فسره بقوله.
فَواكِهُ جمع فاكهة بدل أو بيان للرزق وهى ما يقصد به التلذذ دون التغذي والقوت ما يقصد به التغذي دون التلذذ والرزق يعمهما واهل الجنة لمّا كان خلقهم محفوظة عن التحلل كان أرزاقهم فواكه خالصة وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فى نيله يصل إليهم من غير تعب وسوال بخلاف أرزاق الدنيا الجملة عطف على الجملة أو حال أو خبر بعد خبر.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) متعلق بالظرف المستقر يعنى لهم رزق معلوم فى جنت ليس فيها الا النعيم أو متعلق بمكرمون أو حال من المستكن فيه أو خبر اخر لاولئك.(1/5539)
عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال والخبر فيكون مُتَقابِلِينَ (44) حالا من المستكن فيه أو فى مكرمون ويحتمل ان يتعلق على سرر بمتقابلين فيكون متقابلين حالا من ضمير مكرمون.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ أى باناء فيه خمر أو خمر كقول الشاعر وكأس شربت على لذة. وعن الأخفش كل كأس فى القرآن فهى الخمر والجملة حال أو خبر مِنْ مَعِينٍ (45) أى خمر جارية فى الأنهار ظاهرة تراها العيون أو خارج من العيون وهو صفة الماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لانها تجرى كالماء أو للاشعار بان ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من انواع الاشربة لكمال اللذة.
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) بخلاف خمر الدنيا فانها كريهة عند الشرب وبيضاء ولذّة صفتان لكأس قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ووصفها بلذة للمبالغة أو لانها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل - .
لا فِيها غَوْلٌ أى غائلة من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول يعنى ليس فيها شىء من انواع الفساد كما فى خمر الدنيا من المفاسد من ذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) قرأ حمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » بكسر الزاء من الانزاف ووافقها حفص فى الواقعة والباقون بفتح الزاء فيهما ولا خلاف
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 116
فى ضم الياء يقال نزف الشارب على البناء للمفعول فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله وانزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه وأصله النفاد ونزف لازم ومتعد كذا فى القاموس وانزفت والشيء ابلغ من نزفته وأفرد النزف بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من أعظم فساده ذهاب عقله وأشد على الشارب نفاد شرابه.(1/5540)
وَ عِنْدَهُمْ عطف أو حال قاصِراتُ الطَّرْفِ أى ازواج قصرن عيونهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن عِينٌ (40) خبر مبتدا محذوف أى هن عين أى حسان الأعين يقال رجل أعين وامراة عيناء ورجال ونساء عين.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ للنعام أخرج ابن جرير عن أم سلمة عنه صلى اللّه عليه وسلم العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر وعنه صلى اللّه عليه وسلم فى قوله تعالى كانّهنّ بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلدة فى داخل البيضة التي على القشر مَكْنُونٌ (49) بريشه لا يصل إليه غبار والبيض جمع بيضة لعوده على لفظه قال الحسن شبههن ببيض النعامة لانها تكفها بريشها من الريح والغبار فلونها ابيض فى صفرة ويقال هذا احسن ألوان النساء ان يكون بيضاء بصفرة والعرب تشبهها ببيض النعامة - .
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أى بعض أهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) عما مضى عليه فى الدنيا حال والجملة معطوفة على يطاف عليهم أى يشربون فيتحادثون على الشراب قال الشاعر وما بقيت من اللذات الا أحاديث الكرام على المدام.
فانه ألذ تلك اللذات إلى العقل والتعبير بالماضي للتأكيد.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أى من أهل الجنة بيان للتساؤل إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) فى الدنيا ينكر البعث قال مجاهد كان شيطانا وقال الآخرون كان من الانس وقال مقاتل كانا أخوين وقال الباقون كانا شريكين أحدهما كافر اسمه مطروس والاخر مؤمن اسمه يهودا وهما الذان قص اللّه خبرهما فى سورة الكهف واضرب لهم مثل الرجلين.
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) البعث استفهام للتوبيخ.
أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) مجزيون بعد البعث كرر الاستفهام لغاية الاستبعاد والإنكار.
قالَ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 117
ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُون َ
((1/5541)
54) أى أهل النار لاراكم ذلك القرين وقيل القائل هو اللّه أو بعض الملائكة يقول لهم هل تحبون ان تطلعوا على أهل النار لاراكم ذلك القرين ولتعلموا اين منزلتكم من منزلتهم قال ابن عباس ان فى الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار.
فَاطَّلَعَ هذا المؤمن على أهل النار فَرَآهُ أى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) أى وسطه يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه أخرج هنا وعن ابن مسعود فى الآية قال فاطّلع ثم التفت إلى أصحابه فقال رايت جماجم القوم تغلى « الجمجمة كاسه سر - منه ره » .
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) قرأ يعقوب بإثبات الياء فى الحالين وورش وصلا فقط والباقون بحذفها فى الحالين يعنى كدتّ لتهلكنى بالإغواء ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة.
وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) معك فى النار.
أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى يعنى لسنا ممن شأنه الموت الا التي كانت فى الدنيا فالمستثنى مفرغ منصوب على المصدرية من اسم الفاعل أو المعنى فما نحن نموت ابدا الا التي كانت فى الدنيا فالاستثناء منقطع والفاء للعطف على محذوف تقديره أ نحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين والاستفهام للتقرير أى حمل المخاطب على اقرار ما كان ينكره فى الدنيا بقوله ا إنّا لمدينون وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له وجاز ان يكون هذا معاودة إلى كلامه مع جلسائه تحدثا بنعمة اللّه وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ وقال بعضهم يقول أهل الجنة للملائكة حين تذبح الموت استبشارا وتبجحا أ فما نحن بميّتين فيقول الملائكة لا فيقولون.
إِنَّ هذا الخلود فى النعيم لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) ويحتمل ان يكون هذا من كلام اللّه كقوله تعالى.(1/5542)
لِمِثْلِ هذا المنزل أو لمثل هذا النعيم لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام سريعة الزوال فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61).
أَ ذلِكَ الذي ذكر لاهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) التي هى نزل أهل النار وهى شجرة مرة خبيثة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها يزقّمونه على أشد كراهية ومنه قولهم تزقّم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة وانتصاب نزلا على التميز
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 118
و الحال وفى ذكره دلالة على ان ما ذكر من النعيم لاهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك ما يقصر عنه الافهام وكذلك الزقوم لاهل النار أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن أبى حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لو ان قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لافسدت على أهل الأرض معاشهم فكيف من يكون طعامه - واخرج عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد وأبو نعيم عن أبى عمران الخولاني فى شجرة الزقوم قال بلغنا ان ابن آدم لا ينهش منها نهشة الا نهشت منه مثلها.
إِنَّا جَعَلْناها أى شجرة الزقوم فِتْنَةً أى محنة وعذابا فى الاخرة أو ابتلاء فى الدنيا لِلظَّالِمِينَ (63) أى الكافرين كانوا يقولون كيف يكون فى النار شجرة والنار تحرق الشجر وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فادخله أبو جهل فى بيته وقال يا جارية زقّمينا فاتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا هذا ما يوعدكم به محمد واخرج ابن جرير عن قتادة قال قال أبو جهل زعم صاحبكم هذا ان فى النار شجرة والنار تأكل الشجر وانّا واللّه ما نعلم الزقوم الا التمر والزبد فانزل اللّه حين عجبوا ان يكون فى النار شجرة.(1/5543)
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) أى قعر النار واخرج نحوه عن السدى قال الحسن أصلها فى قعر جهنم وأغصانها ترفع إلى دركاتها.
طَلْعُها أى ثمرها سمى طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبّه بها لقبحه فان الناس إذا وضعوا شيئا بغاية القبح قالوا كأنَّه شيطان وان كانت الشياطين لا ترى لان قبح صورتها يتصور فى النفس وقال بعضهم الشياطين حيات هائلة قبيحة المنظر لها اعراف ولعلها سميت بها لذلك وقيل هى شجرة قبيحة مرة منتنة تكون فى البوادي تسميها العرب رؤس الشياطين.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أى من الشجرة أو من طلعها الفاء للسببية تعليل لكونه فتنة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) لغلبة الجوع أو الإكراه على أكلها والملأ حشو الإناء بما لا يحتمل المزيد عليه.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أى على أكلها بعد ما ملئوا بطونهم وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ويجوز ان يكون ثم لما فى شرابهم من مزيد الكراهة لَشَوْباً خلطا ومزجا مِنْ حَمِيمٍ (67) متعلق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 119
بشوبا وحميم ماء حار شديدة الحرارة يعنى يشربون الحميم فيصير فى بطونهم شوبا له.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) قال البغوي وذلك انهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الجحيم كما يورد الإبل إلى الماء ثم يردّون إلى الجحيم يدل عليه قوله تعالى يطوفون بينها وبين حميم ان وقرأ ابن مسعود انّ مقيلهم لالى الجحيم - .
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا أى وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) أى يسرعون الجملة فى مقام التعليل أى استحقوا تلك الشدائد تقليدا للاباء فى الضلال مسرعين من غير نظر وبحث.
وَلَقَدْ ضَلَّ عطف على انّهم الفوا قَبْلَهُمْ أى قبل مشركى مكة أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) من الأمم الخالية.(1/5544)
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) أى أنبياء انذروهم من العواقب.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) الاستفهام للتعجب والاستعظام والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر والغرض منه التحقيق أى كان عاقبتهم العذاب فى الدنيا والاخرة.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) استثناء من مضمون الجملة السابقة أى الا الذين تنبهوا بانذارهم فاخلصوا دينهم للّه فانهم نجوا من العذاب وقرئ بالفتح أى الذين أخلصهم لدينه - والخطاب مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمقصود خطاب قومه فانهم أيضا سمعوا اخبارهم وراوا اثارهم - ثم شرع فى تفصيل القصص بعد اجمالها فقال.
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ عطف على قوله ولقد أرسلنا فيهم منذرين من قبيل ذكر الخاص بعد العام يعنى ولقد ضلّ قبلهم قوم نوح فارسلنا فيهم نوحا منذرا فدعاهم إلى الإسلام فلم يؤمنوا حتى ايئس من إسلامهم واوحى إليه انّه لن يؤمن من قومك الّا من قدا من فنادانا أى دعانا باهلاك قومه فاجبناه احسن الاجابة فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) أى فو اللّه لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه.
وَنَجَّيْناهُ عطف على فاجبناه المقدر وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) أى من أذى قومه.
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) يعنى لم يبق لاحد من قومه ذرية الا لنوح أخرج الترمذي وغيره عن سمرة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 120(1/5545)
عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله وجعلنا ذرّيّته هم الباقين قال حام وسام ويافث. واخرج من وجه اخر قال سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم - روى الضحاك عن ابن عباس انّه لمّا خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء الا ولده « 1 » ونساؤهم - الظاهر من قصة نوح فى القرآن انه غرق فى الطوفان كل من كان فى الأرض الا من أمن بنوح وركب السفينة ثم لم يبق لاحد ذرية الا لنوح متناسلين إلى يوم القيامة قال سعيد بن المسيب كان ولد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والروم والفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخوز ويأجوج وماجوج وما هنالك يعنى وما فى بلاد الشرق من الهند وغير ذلك. قلت وعندى ان نوحا لم يكن مبعوثا إلى كافة الناس فان الإرسال إلى الناس كافة كان من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم بل كان مبعوثا إلى قومه خاصة فلم يؤمنوا فدعا عليهم فاهلكوا بالطوفان والمراد بالأرض فى قوله تعالى ربّ لا تذر على الأرض من الكفرين ديّارا ارضه المعهود فعلى هذا الحصر فى هذه الآية إضافي يعنى جعلنا ذرّيته هم الباقين من قومه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) من الأمم هذا الكلام.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما ويقولون هذا القول وقيل هو سلام من اللّه ومفعول تركنا محذوف تقديره تركنا عليه الثناء والذكر الجميل وفى العالمين متعلق بالظرف المستقر أى عليه.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) يعنى انا نجزى كل محسن جزاء كذلك الجزاء أو الذي جزينا نوحا بإبقاء الذكر الجميل والسلام قولا من ربّ العلمين.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) يعنى انما جزيناه ذلك الجزاء بايمانه وإحسانه وفيه بشارة للمحسنين من أمة محمد صلى عليه وسلم.(1/5546)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) يعنى غير المحسنين من قومه عطف على نجّينا -
_________
(1) قلت الظاهر عندى ان كل من كان فى السفينة كانوا من ذرية نوح عليه السلام عن أولاد سام أو حام أو يافث فان لبثه فى قومه الف سنة الّا خمسين عامّا يقتضى ان يكون أولاده فى هذه المدة الطويلة كثيرة جدّا فلم يؤمن حام الأشر ذمة قليلة وهم ركبوا السفينة - منه نور اللّه مرقده
.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 121
وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ عطف على قوله انّه من عبادنا المؤمنين يعنى ممن شايعة فى الايمان واصول الدين أو فى الفروع أيضا جميعها أو أكثرها لَإِبْراهِيمَ (83) وكان بين نوح وابراهيم الفان وست مائة وأربعون سنة وكان بينهما هود وصالح عليهم السلام.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ يعنى توجه إليه والظرف متعلق بما فى الشيعة من معنى المشائعة يعنى تابعه وقت مجيئه أو بمحذوف وهو اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (83) من الاشتغال بغير اللّه تعالى خاليا عن الغير وحبه كما يدل عليه قصة ذبح ابنه لامتثال امر ربه.
إِذْ قالَ بدل من إذ السابقة أو ظرف لجاء أو لسليم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) استفهام توبيخ على عبادة الحجارة.
أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) هذا الاستفهام أيضا توبيخ بعد توبيخ الهة مفعول به لتريدون ودون اللّه صفة لالهة وإفكا مفعول له قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم عليه المفعول له لان الأهم ان يقرر ان مبنى أمرهم على الافك والباطل وجاز ان يكون إفكا مفعولا به والهة بدل منه على انها افك فى أنفسها مبالغة وان يكون إفكا حالا بمعنى افكين.(1/5547)
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) أى بمن هو حقيق لكونه ربّا للعالمين حتى تركتم عبادته أو أشركتم به غيره ءامنتم من عذابه والمعنى انكار ما يوجب الظن فضلا عن موجب القطع الذي يصد عن عبادته أو يجوّز الإشراك به أو يقضى الامن من عقابه على طريقة الإكرام وهو كالحجة على ما قبله ..
فَنَظَرَ عطف على قال نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) أى فى مواقعها واتصالاتها أو فى علمها أو فى كتابها وهذا يدل على ان النظر فى علم النجوم وتعليمه وتعلمه كان جائزا فى شريعته لكن صار منسوخا فى شريعتنا حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد - رواه احمد وأبو داود وابن ماجة من حديث ابن عباس ورواه رزين وزاد المنجم كاهن والكاهن ساحر والساحر كافر والمعنى ان ثلاثتهم فى الكفر بمنزلة واحدة ويمكن ان يقال انما يحرم النظر فى علم النجوم إذا أسند الحوادث إلى الكواكب واما إذا أسندها إلى اللّه سبحانه وجعل اتصالات النجوم علامات حسب جرى عادة اللّه على خلق بعض الأشياء عند تلك الاتصالات كما ان اللّه تعالى يخلق الشفاء غالبا عند شرب الدواء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 122(1/5548)
و يخلق الموت عند شرب السم ويخلق افعال العباد عند القصد المصمم منهم فلا بأس به - ولعل النبي صلى اللّه عليه وسلم انما نهى عن اقتباس علم النجوم لئلّا يسند الناس الحوادث إلى الكواكب عن زيد بن خالد الجهني قال صلى لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلمّا انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه ورسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بي وكافر بي فامّا من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب واما من قال مطرنا بنؤ كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب - متفق عليه وعن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما انزل اللّه من السماء من بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزّل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا - رواه مسلم وقد ذكر الامام محمد الغزالي رحمه اللّه فى كتابه المنقذ من الضلال ان علم الطب والنجوم انزلهما اللّه تعالى على بعض الأنبياء ثم بقي العلمان بايد الكفرة - ويدل على إفادة علم النجوم علما ظنيا (مثل الطب) اخبار المنجمين فرعون بولادة موسى وزوال ملكه على يديه - وروى البخاري فى الصحيح بسنده عن الزهري انه كان ابن الناطور (صاحب ايليا وهرقل) اسقفا على نصارى الشام « اسقف رئيس دين النصارى وعالمهم - منه ره » يحدث ان هرقل لما قدم ايليا أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته « هم خواص دولة الروم - منه ره » قد استنكرنا هيئتك (قال ابن الناطور وكان هرقل حزّاء « اى كاهنا - منه » ينظر « 1 » فى النجوم) فقال لهم حين سالوه انى رايت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الامة قالوا ليس يختتن الا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فليقتل من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم اتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان بخبر عن خبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا استخبره هرقل قال(1/5549)
اذهبوا فانظروا ا مختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه انه مختتن وساله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل ملك هذه الامة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برويته
_________
(1) ينظر فى النجوم ان جعل خبرا ثانيا فلا بعد لأنه كان ينظر فى الامرين. وان جعل تفسيرا للاول فالكهانة تارة يستند إلى إلقاء الشياطين وتارة يستفاد من احكام النجوم 12 فتح الباري منه رحمه اللّه - [.....]
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 123
و كان نظيره فى العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم وانه نبى. قال الشيخ ابن حجر رواية الزهري موصولة لابن الناطور لا معلقة قد بين أبو نعيم فى دلائل النبوة ان الزهري قال لقيت ابن الناطور بدمشق فى زمن عبد الملك بن مروان وأظنه لم يتحمل عنه ذلك الا بعد ان اسلم فان هذا الحديث وأمثاله يدل على إفادة علم النجوم نوعا من العلم لكن لما كان الاشتغال به موجبا لما ذكرنا من المفسدة وهو اسناد الحوادث إلى الكواكب وكان اشتغاله اضاعة للاوقات لكونها غير نافعة فى الدين نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الاشتغال به والظاهران الاشتغال بعلم النجوم كان جائزا فى دين عيسى عليه السلام والا لم يشتغل به علماء النصارى واللّه اعلم.
و من زعم ان علم النجوم باطل لا اصل له قال ان هذا القول من ابراهيم كان إيهاما منه قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروها عليه. وذلك انه أراد ان يكايدهم فى أصنامهم ليلزم الحجة عليهم فى انها غير مستحقة للعبادة وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التبرك عليه فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه وقالوا لابراهيم تخرج غدا هنا إلى عيدنا فنظر نظرة فى النّجوم.(1/5550)
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) قال ابن عباس أى مطعون وكانوا يفرون من الطاعون وقال الحسن أى مريض وقال مقاتل وجع فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات ثنتين منه فى ذات اللّه قوله انّى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا الحديث. وذكر الثالث قوله لسارة أختي وقد مر الحديث فى سورة الأنبياء والمراد بالكذبات التعريضات والتّورية قال الضحاك معناه ساسقم وقيل تأويله ان من فى عنقه الموت سقيم ومنه ما قيل ان رجلا مات فجاءة فقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي ا صحيح من الموت فى عنقه وقيل أراد إنى سقيم النفس لكفركم وقد ذكرنا تأويلات قوله بل فعله كبيرهم فى سورة الأنبياء.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 124
الى عيدهم فدخل ابراهيم على الأصنام فكسرها كما قال اللّه تعالى.
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أى دخل عليها خفية من روغه الثعلب وأصله الميل بحيلة قال البغوي لا يقال راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه فَقالَ ابراهيم استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ (91 ) الطعام الذي بين ايديكم.
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) بجوابى حال والعامل فيه معنى الفعل فى ما لكم أى ما تصنعون حال كونكم غير ناطقين.
فَراغَ عَلَيْهِمْ أى مال عليهم مستخفيّا والتعدية بعلى للاستعلاء ولان المراد الميل المكروه ضَرْباً منصوب على المصدرية لان فى راغ معنى ضرب أو بفعل محذوف أى فضرب ضربا بِالْيَمِينِ (93) أى بيد اليمنى لأنه أقوى من اليسار وقيل أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله تاللّه لاكيدنّ أصنامكم بعد ان تولّوا مدبرين - .(1/5551)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعنى اقبل قوم ابراهيم إليه بعد ما رجعوا وراوا أصنامهم مكسورة وسالوا عن كاسرها بقولهم من فعل هذا بآلهتنا انّه لمن الظّالمين وظنوا انه هو حيث قالوا سمعنا فتى يّذكرهم يقال له ابراهيم يَزِفُّونَ (94) قرأ الأعمش وحمزة بضم الياء والباقون بفتحها قيل هما لغتان والمعنى يسرعون وقيل معنى يزفّون بالضم يحملون على الزفيف يعنى كان يحمل بعضهم بعضا على الاسراع.
قالَ ابراهيم أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) أى ما تنحتونه عن الأصنام استفهام للانكار والتوبيخ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) الجملة حال من فاعل تعبدون والتقيد بالحال انكار بعد الإنكار والظاهر ان ما مصدرية يعنى والحال ان اللّه خلقكم وخلق أعمالكم فما لكم تتركون عبادة الخالق وتؤثرون عبادة المحتاج إليكم فهذه الآية حجة لنا على ان افعال العباد مخلوقة للّه تعالى - وقالت المعتزلة ما موصولة والمعنى خلقكم وما تعملونه يعنى الأصنام فان جوهرها بخلقه تعالى وشكلها وان كان بفعلهم (و لذلك جعل من أعمالهم) فباقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه من الدواعي والعدد أو مصدرية والمعنى عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون - قلنا الوجه هو الأول لان الأخيرين يقتضى الحذف والمجاز ولا شك ان معمولهم ليس الا الشكل دون جوهر الأصنام وعلى التأويلين الأخيرين أيضا يثبت ان الشكل مخلوق للّه تعالى ومعمول أى مكسوب للعباد وهو المقصود.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 125(1/5552)
قالُوا فيما بينهم لما عجزوا عن المحاجة ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) أى فى النار الشديدة التأجج كذا فى القاموس واللام بدل الاضافة والجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض تقديره فاملئوه حطبا واضربوه بالنار فإذا التهب القوه فى الجحيم قال مقاتل بنوا له حائطا من الحجر طوله فى السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملئوه من الحطب واوقدوا فيها.
فَأَرادُوا بِهِ أى بإبراهيم عليه السلام كَيْداً أى شرّا وهو ان يحرّقوه كيلا يظهر عجزهم للعامة فطرحوه فيها موثقا يداه ورجلاه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) أى الأذلين بابطال كيدهم وجعله برهانا واضحا على علو شانه حيث جعل النار عليه بردا وسلاما ولم يحرق منه الا وثاقه وكان ذلك بأرض بابل في زمن نمرود الجبار ..(1/5553)
وَ قالَ ابراهيم حين خرج من النار سالما ولم يؤمنوا به إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي يعنى اهجر دار الكفر واذهب إلى حيث اتجرد فيه بعبادة ربى سَيَهْدِينِ (99) عطف على ما يفهم من قوله فجعلناهم الأسفلين يعنى خرج من النار سالما وقال انّى ذاهب إلى ربّى سيهدين إلى ما فيه صلاح دينى أو إلى مقصد قصدته حيث أمرني ربى وهو الشام وحينئذ فرّ ابراهيم هاربا مع سارة من ارض بابل من خوف نمرود وكانت سارة من أجمل نساء عصرها ومرّ بحدود مصر وفرعونها يومئذ صادف بن صادف وفى شرح البخاري لابن الملقن اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك وقيل اسمه عمرو بن امرأ القيس فغصب سارة من ابراهيم فحمل صادف الجبار سارة إلى قصره وجعل اللّه الجدر والستور لابراهيم كقشر البيضة ينظر إليها كيلا يقيد قلبه إليها وكان رجلا غيورا - فلمّا همّ بها زلزل القصر فلم يدران ذلك من أجلها فتحول إلى القصر الثاني فزلزل به فتحول إلى القصر الثالث فزلزل به فقالت سارة هذا من إلى ابراهيم رد إليه امرأته. وفى رواية فلمّا مدّيده إليها شلت يده فاستغاث صادف بسارة وطلب الدعاء فدعت سارة فعادت اليد كما كانت فمديده إليها ثانية فصارت مشلولة فطلب الدعاء منها ثانيا وعهد ان لا يفعل لهذا الفعل فدعت السارة فمد يده إليها ثالثة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 126(1/5554)
فشلت يده ثالثا وحلف ان عوفى ان لا يفعل ابدا فدعت سارة فصحت يده - وروى احمد فى مسنده والبخاري ومسلم عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان هاهنا رجل معه امراة من احسن الناس فارسل إليه فساله عنها فقال من هذه قال أختي فاتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك وان هذا سالنى فاخبرته انك أختي فلا تكذبنى فارسل إليها فلمّا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فاخذ فقال ادعى اللّه لى ولا اضرك فدعت اللّه فاطلق ثم تناولها ثانيا فاخذ مثلها أو أشد فقال ادعى اللّه لى ولا اضرك فدعت اللّه فاطلق فدعا بعض حجبته فقال انك لم تأتينى بانسان انما أتيتني بشيطان فاخدمها هاجر فاتته وهو قائم يصلى فاومى بيده مهيم قالت رد اللّه كيد الفاجر فى نحره وأخدمني هاجر - وفى المواهب اللّدنية ان فى رواية صارت يد صادف مغلولة حين مدها إلى سارة فاستغاث صادف بإبراهيم عليه السلام فدعا ابراهيم فاطلق اللّه يده فاعطاه هاجر أم إسماعيل عليه السلام وقال لا سبيل لى إلى سارة بعد وكانت هاجر امينة وخازنة وجليسة وقال حين وهبها ما أجرك الخطاب لابراهيم ان وهبها له أو لسارة ان وهبها لها فسميت هاجر من ذلك ثم وهبها ابراهيم لسارة طلبا لرضاها فلم يلد سارة قبل ولادة إسماعيل وظنت بها العقم وقالت لابراهيم ان هاجر امراة مرغوبة فقد وهبتها لك لعله يكون لك منها ولد فوطيها فولدت إسماعيل عليه السلام.
قلت وذلك حين دعا ابراهيم ربه وقال.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) أى هب لى ولدا كائنا من الصالحين قال مقاتل لما قدم الأرض المقدسة سال ربه الولد ..(1/5555)
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) يعنى ذا إناءة وعقل كذا فى القاموس يعنى إسماعيل عليه السلام وهو الصحيح واليه ذهب ابن عمر وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن انس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن عطاء بن أبى رباح ويوسف بن مامك عن ابن عباس قال المفدى إسماعيل - واخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعيد عن أبيه انه كانت سارة تحت ابراهيم فمكثت عنده دهرا لا يرزق ولدا فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر أمة قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة وقد
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 127(1/5556)
ذكرنا القصة فى سورة ابراهيم ثم جاء ابراهيم بها وبإسماعيل بمكة وهى ترضعه حتى وضعهما عند البيت كذا فى البخاري وذكرنا حديث البخاري أيضا فى سورة ابراهيم - وقالت اليهود والنصارى الغلام الذي امر ابراهيم بذبحه هو إسحاق وهذا كذب منهم قال البغوي قال محمد بن كعب القرظي سال عمر بن عبد العزيز رجلا من علماء اليهود (و حسن إسلامه) اىّ ابني ابراهيم امر بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا امير المؤمنين ان اليهود يعلم ذلك ولكنهم يحسدون كم يا معشر العرب على ان يكون أباكم الذي كان من امر اللّه بذبحه ويزعمون انه إسحاق بن ابراهيم ومن الدليل عليه ان قرنى الكبش كانا منوطين فى الكعبة فى يدى بنى إسماعيل إلى ان احترقت البيت واحترق القرنان فى ايام ابن الزبير والحجاج - أخرج سعيد بن منصور والبيهقي فى سننه عن امراة من بنى سليم عن عثمان بن طلحة انه كان قرنا الكبش معلقين بالكعبة وقال البغوي قال الشعبي رايت قرنى الكبش منوطين بالكعبة وقال ابن عباس والذي نفسى بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش تعلق بقرنيه وميزاب الكعبة قد وحش يعنى يبس - قال الأصمعي سالت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسماعيل أو إسحاق قال يا اصمع اين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة انما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه قال البغوي وكلا القولين يروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت وقول البغوي هذا كناية عن انه لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الباب شىء إذ لو صح أحدهما لم يعتد بقول اخر - وما ذكر البغوي انه ذهب من الصحابة عمر وعلى وابن مسعود وابن عباس ومن التابعين واتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدى وهو رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس إلى انه إسحاق - وقال سعيد بن جبير ارى ابراهيم ذبح إسحاق بالشام فساربه مسيرة شهر فى غدوة واحدة حتى اتى به المنحر بمنى(1/5557)
فلمّا امره اللّه بذبح الكبش وذبحه ساربه مسيرة شهر فى روحة واحدة فطويت له الاودية والجبال - فلعل من قال منهم هذا القول اعتمد على اخبار اليهود واللّه اعلم - والدليل على كون إسماعيل مامورا بذبحه انه هو المولود اولا بعد الهجرة إلى الشام اجماعا وقد عطف اللّه قوله فبشّرناه بغلام حليم على قوله وقال انّى ذاهب إلى ربّى سيهدين بالفاء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 128
لموضوع للتعقيب بلا تراخ واما إسحاق فقد ولد بعد ذلك بتراخ والمأمور بذبحه انما هو ذلك المبشر به لمّا بلغ معه السعى ولان البشارة بإسحاق بعد ذلك معطوفة على البشارة بهذا الغلام فهو غير ذلك دليل واضح على انه غيره لا يقال ان البشارة التي بعد ذلك المعطوفة انما هى بشارة بنبوة إسحاق لا بولادته كما قيل بشر ابراهيم بإسحاق مرتين مرة بولادته ومرة بنبوته لأنه خلاف ظاهر الآية فان اللّه تعالى قال وبشّرناه بإسحاق نبيّا من الصّالحين يعنى بشرناه بنفس إسحاق حال كونه مقضيا بالنبوة والصلاح ولم يقل بشرناه بنبوة إسحاق وصلاحه والصرف عن الظاهر لا يجوز بلا ضرورة. ولان سارة لمّا بشرت بإسحاق بشرت معه بيعقوب ولدا منه حبث قال اللّه تعالى فبشّرناها بإسحاق ومن وراء اسحق يعقوب فلا يتصور الأمر بذبحه مراهقا قبل ولادة يعقوب ..(1/5558)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ عطف على جملة محذوفة تقديره فولد له الغلام فلمّا بلغ معه السّعى أى بلغ ان يسعى معه فى اعماله ويعينه وقال الكلبي يعنى العمل للّه وهو قول الحسن ومقاتل بن حبان وابن زيد قالوا هو العبادة وقال ابن عباس وقتادة لما بلغ ان يسعى إلى الجبل معه وقال مجاهد عن ابن عباس يعنى انه شبّ حتى بلغ سعيه سعى ابراهيم قيل كان سنه ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين - والظرف اعنى معه متعلق بمحذوف دل عليه السعى لا به لان صلة المصدر لا يتقدمه ولا ببلغ فان بلوغهما لم يكن معا كانّه قال فلمّا بلغ السعى فقيل مع من فقيل معه كذا قيل والاولى ان يقال انه ظرف مستقر حال من السعى قالَ يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل انه راى ذلك ويحتمل انه راى ما هو تعبيره قال محمد بن إسحاق كان ابراهيم إذا زاد هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعى وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته امر فى المنام ان يذبحه وذلك انه راى ليلة التروية كانّ قائلا يقول له ان اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا فلمّا أصبح روّى فى نفسه أى فكر من الصباح إلى الرواح أمن اللّه هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمى يوم التروية فلما امسى راى فى المنام ثانيا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 129(1/5559)
فلما أصبح عرف ان ذلك من اللّه فمن ثم سمى عرفة كذا أخرج البيهقي فى شعب الايمان من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال ابن إسحاق وغيره فلمّا امر ابراهيم بذبح ابنه قال لابنه خذ الحبل والمدينة ينطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلمّا خلا ابراهيم بابنه فى شعب ثبير أخبره بما امر به قال مقاتل راى فى المنام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك اخبر به ابنه انّى ارى فى المنام انّى أذبحك - وقال السدىّ لمّا دعا ابراهيم فقال ربّ هب لى من الصّالحين وبشر به قال هو إذا للّه ذبيح فلمّا ولد وبلغ معه السّعى قيل له يعنى من اللّه أوف بنذرك هذا هو السبب فى امر اللّه بذبح ابنه.(1/5560)
و هذا القول ينافى الابتلاء قال البغوي انه قال ابراهيم لاسماعيل انطلق نقرب قربانا للّه عزّ وجلّ فاخذ سكينا وحبلا فانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت اين قربانك قال يا بنىّ انّى ارى فى المنام انّى أذبحك قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح ياء المتكلم فى انّى ارى وانّى أذبحك والباقون بإسكانها فيهما فَانْظُرْ ما ذا تَرى قرأ حمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » بضم التاء وكسر الراء من الافعال من الرأى لا من الرؤية أى ما ذا تشير وانما استشاره ليعلم صبره على امر اللّه وعزيمته على طاعته والباقون بفتح التاء والراء وأبو عمرو « و ورش يقلله - أبو محمد » يميل فتحة الراء قالَ إسماعيل يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أى ما تؤمر به فحذفا دفعة أو على الترتيب أو افعل أمرك أى مأمورك والاضافة إلى المأمور وهذا يدل على ان روياء الأنبياء وحي واجب الامتثال وقد روى عبد بن حميد عن قتادة ان رؤيا الأنبياء وحي وروى البخاري فى الصحيح عن أبى سعيد الخدري ومسلم عن ابن عمرو أبى هريرة واحمد وابن ماجة عن أبى رزين والطبراني عن ابن مسعود مرفوعا الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة - ولا شك ان رؤيا الأنبياء كلما صالحة لا يحتمل الفساد واما رؤيا غيرهم فمنها صالحة ومنها دون ذلك سَتَجِدُنِي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) على الذبح ..
فَلَمَّا أَسْلَما أى استسلما وانقادا وخضعا لامر اللّه وقال قتادة أى اسلم ابراهيم ابنه واسلم ابنه نفسه وَتَلَّهُ أى صرعه على الأرض لِلْجَبِينِ (103) قال ابن عباس
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 130(1/5561)
أضجعه على جنبه على الأرض والجبهة بين الجنبين وكان ذلك عند الصخرة بمنى أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم عن ابن عباس واخرج البغوي عن عطاء بن السائب عن رجل من قريش عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه بالمنحر الذي ينحر فيه اليوم - قال البغوي قالوا قال له ابنه يا أبت اشدد رباطى حتى لا اضطرب واكفف عنّى ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمى شىء فينقص اجرى وتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك واسرع مر السكين على حلقى ليكون أهون علىّ فان الموت شديد وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام منى وان رايت ان ترد قميصى على أمي فافعل فانه عسى ان يكون اسلى لها قال ابراهيم عليهما السلام نعم العون أنت يا نبى على امر اللّه ففعل ابراهيم ما قال له ابنه ثم اقبل عليه وقبله وربطه وهو يبكى ثم انه وضع السكين على حلقه فلم يحك السكين وروى انه كان يمرّ الشفرة على حلقه ولا يقطع فشحذه مرتين أو ثلاثا بالحجر كل ذلك لا يقطع - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدىّ انه امرّ السكين بقوّته على حلقه مرارا فلم يقطع وضرب اللّه على حلقه صفحة من نحاس قالوا فقال الابن عند ذلك يا أبت كبنى بوجهي على جنبى فانك إذا نظرت فى وجهى رحمتنى وأدركتك رقة تحول بينك وبين امر اللّه وانى لا انظر إلى الشفرة فاجزع ففعل ذلك ابراهيم ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين - واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن مجاهد أيضا ان ابراهيم كبّه على وجهه - وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله لمّا أراد ابراهيم ذبح ابنه قال الشيطان لان لم افتن عند هذا ال ابراهيم لا افتن منهم أحدا ابدا فتمثل الشيطان رجلا فاتى أم الغلام فقال لها هل تدرين اين ذهب ابراهيم بابنك قالت ذهبا يحتطبان من هذا الشعب قال لا واللّه ما ذهب به الا ليذبحه قالت لا هو(1/5562)
ارحم به وأشد حبا له من ذلك قال انه يزعم ان اللّه امره بذلك قالت فان كان ربه امره بذلك فقد احسن ان يطيع ربه فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشى على اثر أبيه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 131
فقال يا غلام هل تدرى اين يذهب بك أبوك قال نحتطب لاهلنا من هذا الشعب قال لا واللّه ما يريد الا ان يذبحك قال ولم قال يزعم ان ربه امره بذلك قال فليفعل ما امر به ربّه سمعا وطاعة فلما امتنع منه الغلام اقبل على ابراهيم فقال له اين تريد أيها الشيخ قال أريد هذا الشعب لحاجة لما فيه قال واللّه انى لارى ان الشيطان قد جاءك فى منامك فامرك بذبح ابنك هذا فعرفه ابراهيم فقال إليك عنى يا عدو اللّه فو اللّه لامضينّ لامر ربى فرجع إبليس بغيظه ولم يصب من ابراهيم واله شيئا ممّا أراد وامتنعوا منه بعون اللّه عزّ وجلّ وروى أبو الطفيل عن ابن عباس ان ابراهيم لما امر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر سابقة فسبقه ابراهيم ثم ذهب الجمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أدركه عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم ادكه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى ابراهيم لامر اللّه عزّ وجلّ وثلّه للجبين - .
وَنادَيْناهُ قال البغوي الواو زائدة ونادينه جواب لمّا وقال البيضاوي جواب لمّا محذوف تقديره كان ما كان فما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما للّه تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله واظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب الجزيل إلى غير ذلك قلت وجاز ان يكون الواو للعطف على جواب لمّا المحذوف تقديره فلمّا أسلما وتلّه للجبين منعنا عنه الذبح وناديناه أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) ان مفسرة لنا دينا.
قَدْ صَدَّقْتَ ال رُّؤْيا(1/5563)
حيث أتيت من الفعل ما كان مقدورا لك والمطلوب من التكليف والابتلاء هو الإتيان بالمقدور لا غير وقيل كان راى فى المنام معالجة الذبح ولم ير اراقة الدم وقد فعل فى اليقظة ما راى فى النوم وعلى هذا قد صدّقت الرّؤيا حقيقة فى معناه وعلى الأول مجاز فان قيل على التقدير الثالث الم يكن ذبح الولد عليه واجبا وانما كان الواجب عليه معالجة اسباب الذبح فما معنى قوله وفديناه فان الفداء لا يتصور الا بعد الوجوب قلنا على التقدير الثاني إذا كان معالجة الذبح واجبا أصالة صار الذبح واجبا دلالة لكونه لازما له
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 132
عادة فصح اطلاق الفداء عليه وهذا نسخ للحكم قبل القدرة على إتيانه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) تعليل لفرج تلك الشدة عنهما باحسانهما يعنى انا نجزى المحسنين بإحسانهم جزاء مثل ما جزينا ابراهيم وعفوناه عن ذبح الولد مع ما أعطيناه من الثواب العظيم وفضلناه به على العالمين.
إِنَّ هذا أى الأمر بتذبيح ابنه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) أى الاختبار الظاهر الذي به يتبين المخلص من غيره أو المحنة والصعوبة البينة فانه لا أصعب منها وقيل المراد بالبلاء هو النعمة وهى ان فدى ابنه بالكبش - .(1/5564)
وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عطف على نادينا روى انه لمّا سمع ابراهيم النداء نظر إلى السماء فإذا هو بجبرئيل ومعه كبش أملح اقرن وقال هذا فداء لابنك فاذبحه دونه فكبر جبرئيل وكبر الكبش وكبر ابراهيم وكبر ابنه فاخذ ابراهيم الكبش واتى المنحر من منى فذبحه والفادي على الحقيقة ابراهيم وانما قال وفديناه لأنه المعطى له والأمر به على التجوز فى الفداء أو الاسناد عَظِيمٍ (107) أى عظيم الجثة سمين أو عظيم القدر فى الثواب وقال الحسين بن الفضل لأنه كان من عند اللّه قال سعيد بن جبير حق له ان يكون عظيما وقال مجاهد سماه عظيما لأنه متقبل - قال البغوي قال اكثر المفسرين كان ذلك فى الجنة أربعين خريفا وأخرجه ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الكبش الذي ذبحه ابراهيم هو الذي كان قربه ابن آدم هابيل - استدل الحنفية بهذه الآية على انه من نذر بذبح ولده لزمه ذبح شاة قال البيضاوي وليس فيها ما يدل عليه قلت قد ذكرنا المسألة فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى وليوفوا نذورهم « 1 » وذكرنا ان القياس يقتضى ان لا يلزمه شىء لأنه نذر بالمعصية وبه قال أبو يوسف لكن استحسن أبو حنيفة انه يلزمه شاة لان الحقيقة إذا كانت مهجورة شرعا تعين المجاز فلما نذر بذبح الولد مملناه على التزامه بدله اعنى الشاة بدليل هذه الآية حيث جعل اللّه تعالى كبشا فداء لابن ابراهيم عليهما السلام وبه افتى ابن عباس كما ذكرنا هناك.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ أى على ابراهيم عطف على صدر القصة يعنى جاء ربّه بقلب سليم
_________
(1) وفى الأصل نذوركم 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 133
و جاز ان يكون عطفا على فديناه فِي الْآخِرِينَ (108) من الأمم الثناء والذكر حذف المفعول لدلالة سياق الكلام وجاز ان يكون قوله.(1/5565)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) بتقدير هذا القول مفعولا لتركنا.
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) تعليل للسلام ولعله طرح عنه انا اكتفاء بذكره مرة فى هذه القصة.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ أى بان نهب لك ولذلك سمى إسحاق نَبِيًّا أى مقضيا نبوته مقدرا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا يقدح فيه عدم المبشر به وقت البشارة فان وجود ذى الحال ليس بشرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال فلا حاجة إلى تقدير المضاف يجعل عاملا فيهما مثل وبشّرناه بوجود إسحاق أى بان يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين ومع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين فان الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدّرا نبوة نفسه وصلاحه حيث ما يوجد - وفى ذكر الصلاح بعد النبوة ثناء عليه وتعظيم لشأنه وايماء بانه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.
وَبارَكْنا عَلَيْهِ أى أفضنا بركات الدين والدنيا عليه وقيل باركنا أى على ابراهيم فى أولاده وَعَلى إِسْحاقَ بكون الف بنى من نسله أولهم يعقوب وآخرهم عيسى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ فى عمله أو على نفسه بالايمان والطاعة وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (113) ظاهر ظلمه وفى ذلك تنبيه على ان النسب لا اثر له فى الهدى والضلال وان الظلم فى اعقابهما لا يضرهما - .
وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) عطف على ولقد نادينا نوح وبينهما معترضات.
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) أى من فرعون يسومهم سوء العذاب وقيل من الغرق.
وَنَصَرْناهُمْ يعنى موسى وقومه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) على فرعون وقومه.(1/5566)
وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ أى التوراة الْمُسْتَبِينَ (117) البالغ فى بيان احكام اللّه وشرائعه.
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) الطريق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 134
الموصل إلى الحق والصواب لمن يسلكه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) سبق مثل ذلك - .(1/5567)
وَ إِنَّ إِلْياسَ قرأ ابن ذكوان برواية النقاش عن الأخفش بحذف الهمزة والباقون بتحقيقها لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) عطف على ولقد مننّا روى عن عبد اللّه ابن مسعود قال الياس هو الادريس وفى مصحفه انّ إدريس لمن المرسلين وهذا قول عكرمة وقال الآخرون هو نبى من أنبياء بنى إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران عليه السلام وقال أيضا محمد بن إسحاق والعلماء من اصحاب الاخبار لمّا قبض اللّه عزّ وجلّ قبله نبيّا عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر الشرك ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون اللّه فبعث اللّه إليهم الياس نبيّا وكانت الأنبياء من بنى إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة - وبنوا إسرائيل كانوا متفرقين فى ارض الشام وكان سبب ذلك ان يوشع بن نون لمّا فتح الشام بوأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم فاحل سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين كان منهم الياس فبعثه اللّه إليهم نبيّا وعليهم يومئذ ملك يقال له أجب فداخل قومه واجبرهم على عبادة الأصنام وكان يعبد صنما يقال له بعل وكان طوله عشرون ذراعا ولها اربعة وجوه - فجعل الياس يدعوهم إلى عبادة اللّه عزّ وجلّ وهم لا يسمعون منه شيئا الا ما كان من امر الملك فانه صدقه وأمن به فكان الياس يقوّم امره ويسدّده ويرشده - وكانت لاجب امراة يقال لها ازبيل فكان يستخلفها على رعيته إذا كان غائبا فى غزاة وغيرها وكانت تبرز وتقضى للناس وكانت قتّالة للانبياء يقال هى التي قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام - وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلاث مائة نبى كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم وكانت فى نفسها غير محصنة وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بنى إسرائيل وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال انها ولدت سبعين ولدا التفسير المظهري ، (1/5568)
ج 8 ، ص : 135
و كان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكى وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمتها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويغسلان فيها وكان أجب الملك يحسن جوار صاحبه مزدكى ويحسن إليه وامرأته ازبيل تحسده لاجل تلك الجنينة وتحتال ان تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال ان تقتله والملك ينهاها من ذلك فلم تجد إليه سبيلا - ثم انه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد فطالت غيبته فاغتنمت امرأته ازبيل وأمرت رجالا يشهدوا على مزدكى انه سبّ زوجها أجب فاجابوها إليه وكان فى حكمهم فى ذلك الزمان القتل على من سب الملك فاقامت عليه البينة وأحضرت مزدكى وقالت بلغني انك شتمت الملك فانكر المزدكى وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فامرت بقتله وأخذت جنينته فغضب اللّه عزّ وجلّ عليهم للعبد الصالح فلمّا قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال ما أحسنت ولا أرانا نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان واحسنّا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت امره بأسوإ الجوار قالت انما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها ما كان يسعه حلمك فتحفظين له حواره قالت قد كانت ما كانت - فبعث اللّه الياس إلى أجب الملك وقومه فامره ان يخبرهم ان اللّه قد غضب لوليه حين قتلوه ظلما والى على نفسه انهما ان لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة إلى ورثة المزدكى ان يهلكهما يعنى أجب وامرأته فى جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى يتعرى عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بهما الا قليلا قال فجاء الياس فاخبره بما اوحى اللّه إليه فى امره وامر امرأته برد الجنينة فلمّا سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له يا الياس ما ارى ما تدعو إليه الا باطلا وما ارى فلانا وفلانا (سمى ملوكا منهم) قد عبدوا الأوثان الا على مثل ما نحن(1/5569)
عليه يأكلون ويتنعمون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم انه باطل وما نرى لنا عليهم من فضل - قال وهمَّ الملك بتعذيب الياس وقتله فلما احسّ الياس الشرّ رفضه وخرج عنه ولحق بشواهق الجبال وعاد
الملك إلى عبادة البعل وارتقى الياس إلى أصعب جبل وأشمخه « الشامخ العالي - منه ره » فدخل مغارة فيه يقال انه بقي
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 136(1/5570)
سبع سنين شريدا خائفا يأوى إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه وقد وضعوا عليه العيون واللّه يستره - فلمّا تم سبع سنين اذن اللّه فى إظهاره وشفاء غيظه منهم فامرض اللّه عزّ وجلّ ابنا لاجب وكان ذلك أحب ولده إليه وأشبههم به فادنف « يعنى مرض شديدا لازما - منه ره » حتى يئس منه فدعا صنمه بعلا وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه حتى جعلوا له اربع مائة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أنبياء وكان الشيطان يدخل فى جوف الصنم فيتكلم والأربع مائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبينونها للناس فيعلمون بها ويسمونهم أنبياء - فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك ان يتشفعوا إلى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم ومنع اللّه الشيطان فلم يمكنه الولوج فى جوفه وهم مجتهدون فى التضرع إليه - فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لاجب ان فى ناحية الشام الهة اخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع لك إلى إلهك بعل فانه غضبان عليك ولو لا غضبه عليك لاجابك قال ومن أجل ماذا غضب علىّ وانا أطيعه قالوا من أجل انك لم تقتل الياس وفرطتّ فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك قال أجب وكيف لى ان اقتل الياس وانا مشغول عن طلبه لوجع ابني وليس لالياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد فلو عوفى ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فاقتله فارضى الهى - ثم انه بعث أنبياءه الأربع مائة إلى الالهة التي بالشام يسئلونها ان تشفع إلى صنم الملك يشفى ابنه فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه اليأس اوحى اللّه إليه ان يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم وقال له لا تخف فانى ساصرف عنك شرهم والقى الرعب فى قلوبهم فنزل الياس من الجبل فلما لقيهم استوقفهم فلما وقفوا قال لهم ان اللّه عزّ وجلّ أرسلني إليكم والى من ورائكم فاستمعوا أيها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا إليه وقولوا(1/5571)
ان اللّه يقول الست تعلم يا أجب انى انا اللّه لا اله الا انا اله بنى إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم وقلة عملك حملك على ان تشرك بي وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لانفسهم شيئا الا ما شئت انى حلفت باسمي لاغضبنك فى ابنك ولاميتنه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 137(1/5572)
فى فوره غدا حتى تعلم ان أحدا لا يملك له شيئا دونى فلمّا قال لهم هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا - فلما صاروا إلى الملك اخبروه بان الياس قد انحط عليهم وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره واقشعر جلده عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره « نحل جسمه نحولا ذهب من مرض أو سفر قاموس منه ره » بخلال فاستوقفنا فلمّا صار معنا قذف له فى قلوبنا الهيبة والرعب وانقطعت ألسنتنا ونحن فى هذا العدد الكثير فلم نقدر ان نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك وقصوا عليه كلام الياس - فقال أجب لاننتفع بالحياة ما كان الياس حيّا ولا يطاق الا بالمكر والخديعة فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوى القوة والبأس وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال « القتل بالخديعة - منه ره » له وان يطمعوه فى انهم قد أمنوا به هم ومن وراء هم ليستنيم إليهم و « اى يسكن وإليهم يطمئن قاموس منه ره » يغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم فانطلقوا حتى ارتفعوا ذلك الجبل الذي يسكن فيه الياس ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون يا نبى اللّه ابرز إلينا وامتن علينا بنفسك فانا قد أمنا بك وصدقناك وملكنا أجب وجميع الناس وأنت أمن على نفسك وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون قد بلغتنا رسالتك وعرفنا ما قلت فامنّا بك وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلم إلينا فاقم بين أظهرنا واحكم فينا فننقاد لما امرتنا وننتهى عما نهيتنا وليس يسعك ان تتخلف عنا مع أيماننا بك وطاعتنا فارجع إلينا - وكل هذا منهم مما كرة وخديعة فلمّا سمع الياس مقالتهم وقع فى قلبه وطمع فى ايمانهم وخاف اللّه ان هو لم(1/5573)
يظهر لهم فالهمه اللّه التوقف والدعاء فقال اللهم ان كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم وان كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار « اى رموا بها - منه ره » من فوقهم فاحترقوا أجمعين قال فبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء « اى لم يكف ولم يرد - منه ره » واحتال ثانيا فى امر الياس وقيض إليه فئة اخرى مثل عددهم أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى فاقبلوا حتى توقلوا « اى صعدوا » قلل الجبال متفرقين وجعلوا ينادون يا نبى اللّه انّا نعوذ باللّه بك من غضب اللّه وسطواته « السطوة البطش والقهر قاموس منه ره » انا لسنا كالذين أتوك قبلنا وان أولئك فرقة نافقوا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 138(1/5574)
فصاروا إليك ليكيدوا من غير رأينا ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم فالان قد كفاك ربك أمرهم واهلكهم وانتقم لنا ولك منهم - فلمّا سمع الياس مقالتهم دعى اللّه بدعوته الاولى فامطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم وفى كل ذلك ابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه - فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا إلى غضب وأراد ان يخرج إلى طلب الياس بنفسه الا انه شغله من ذلك مرض ابنه فلم يمكنه فوجه نحو الياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء ان يأنس به الياس فينزل معه واظهر للكاتب انه لا يريد بالياس سوء أو انما اظهر له لما اطلع عليه من إيمانه وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مثنيا عليه لما هو عليه من الكفاية والامانة وسداد الرأى - فلمّا وجهه نحوه أرسل معه فئة واوغر « من التوغير أى الإغراء بالحقد - منه ره » إلى الفئة دون الكاتب ان يوثقوا الياس ويأتوه به ان أراد التخلف عنهم وان جاء مع الكاتب واثقا به لم يروّعوه « الروع الفزع - منه ره » ثم اظهر مع الكاتب الانابة وقد قال له انه قد ان لى وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني وقد عرفت ان ذلك بدعوة الياس ولست أمنا ان يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته فانطلق إليه وأخبره انا قد تبنا وأنبنا وانه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا الا ان يكون الياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا ويخبرنا بما يرضى ربنا - وامر قومه فاعتزلوا وقالوا له اخبر الياس انا قد خلعنا الهتنا التي كنا نعبد وارخينا أمرها حتى ينزل الياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك - فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه الياس ثم ناداه فعرف الياس صوته فتاقت نفسه إليه « اى اشتاقت منه ره » وكان مشتاقا إلى لقائه فاوحى اللّه إليه ان ابرز إلى أخيك الصالح فالقه وجدد العهد به فبرز إليه وسلم عليه وصافحه فقال له ما لخبر(1/5575)
فقال له المؤمن انه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغي وقومه ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له وانى خائف ان رجعت إليه ولست معى ان يقتلنى فمرنى بما شئت افعله ان شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته وان شئت جاهدته معك وان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 139
شئت ترسلنى إليه بما تحبّ فابلّغه رسالتك وان شئت دعوت ربّك ان يجعل لنا من أمرنا خرجا ومخرجا - فاوحى اللّه إلى الياس ان كل شىء جاءك منهم مكر وخديعة وكذب ليظفروا بك وانّ أجب الملك ان أخبرته رسله انك لقد لفيت لهذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف انه قد واهن فى أمرك فلم يؤمن ان يقتله فانطلق معه وانى ساشغل عنكما أجب فاضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له هم غيره ثم أميته على شر حال فإذا مات هو فارجع منه قال فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا شدّد اللّه الوجع على ابنه وأخذ الموت بكظمه « الكظم محركة الحلق أو الضم أو مخرج النفس - قاموس منه ره » فشغل اللّه بذلك أجب وأصحابه عن الياس فرجع الياس سالما إلى مكانه - فلمّا مات ابن أجب وفرغوا من امره وقلّ جزعه انتبه لالياس وسال عنه الكاتب الذي جاء به فقال ليس لى به شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك الا وقد استوثقت منه فاضرب عنه أجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه.(1/5576)
فلمّا طال الأمر على الياس ومد الكون فى الجبال واشتاق إلى الناس نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامراة من بنى إسرائيل وهى أم يونس بن متى ذى النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود مرضع فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها « اى تخدمه بما لها - منه ره » - ثم ان الياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال فاحب اللحوق بالجبل فخرج وعاد إلى مكانه فجزعت أم يونس لفراقه وأوحشها فقده ثم لم تلبث الا يسيرا حتى مات ابنها يونس حين فطمته فعظمت مصيبتها فخرجت فى طلب الياس ولم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته وقالت له انى قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتى واشتد لفقده بلائي وليس لى ولد غيره فارحمنى وادع اللّه جلّ جلاله ليحيى لى ابني وانى تركته مسبّحى لم ادفنه قد أخفيت مكانه - فقال لها الياس ليس هذا مما أمرت به وانّما انا عبد مأمورا عمل بما يأمرنى ربى فجزعت المرأة وتضرعت واعطف اللّه قلب الياس إليها فقال لها متى مات ابنك قالت مند سبعة ايام فانطلق الياس معها وسار سبعة ايام اخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها ميتا له اربعة عشر يوما
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 140(1/5577)
فتوضأ وصلى ودعا فأحيى اللّه يونس بن متى فلمّا عاش وجلس وثب الياس وتركه وعاد إلى موضعه - فلمّا طال عصيان قومه ضاق الياس بذلك ذرعا فاوحى اللّه إليه سبع سنين وهو خائف مجهود فنادى اللّه الياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه الست أمينا على وحيي وحجتى فى ارضى وصفوتى فى خلقى فاسئلنى أعطيك فانى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم قال الياس فان تميتنى فتلحقنى بآبائي فقد مللت بنى إسرائيل وملونى فاوحى اللّه إليه يا الياس ما هذا باليوم الذي اعرى عنك الأرض وأهلها وانما قوامها وصلاحها بك واشباهك وان كنتم قليل ولكن سلنى فاعطيك قال الياس فان لم تمتنى فاعطنى ثارى من بنى إسرائيل قال اللّه عزّ وجلّ واىّ شىء تريد ان أعطيك قال تمكننى من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة الا بدعوتي ولا تمطر عليهم قطرة الا بشفاعتى فانه لا تذلهم الا ذلك قال اللّه عز وجل يا الياس انا ارحم بخلقي من ذلك وان كانوا ظالمين قال فست سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك ولكنى أعطيك ثارك ثلاث سنين اجعل خزائن المطر بيدك قال الياس باىّ شىء اعيش قال أسخر لك جيشا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف « ارض فيها زرع ونخل - منه ره » والأرض التي لم تقحط قال الياس قد رضيت - قال وامسك اللّه عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا والياس على حالته مستخف من قومه يوضع الرزق حيث ما كان وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا لقد دخل الياس هذا المكان فطلبوه ولقى منهم أهل ذلك المنزل شرّا قال ابن عباس أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر الياس بعجوز فقال لها هل عندك طعام قالت نعم لشيء من دقيق وزيت قليل قال فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملا جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا فلمّا راوا ذلك عندها قالوا من اين(1/5578)
لك هذا قالت مربى رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته فعرفوه قالوا ذلك الياس فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم انه أوى إلى بيت امراة من بنى إسرائيل لها ابن يقال لها اليسع بن أخطوب به
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 141
ضرّ فاوته وأخفته فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع اليسع الياس وأمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيث ما ذهب وكان الياس قد اسنّ وكبر واليسع غلام شابّ.
ثم ان اللّه تعالى اوحى إلى الياس انك قد أهلكت كثيرا من الخلق فمن لم يعص من البهائم والدوابّ والطير والهوام لحبس المطر - فيزعمون واللّه اعلم ان الياس قال يا رب دعنى أكون انا الذي ادعو لهم وآتاهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم ان يرجعوا أو ينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك فقيل له نعم - فجاء الياس إلى بنى إسرائيل فقال انكم قد هلكتم جوعا وجهدا وهلكت البهائم والطير والدوابّ والهوام والشجر بخطاياكم وانكم على باطل فان كنتم تحبون ان تعلموا ذلك فاخرجوا باصنامكم علىّ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وان هى لم تفعل علمتم انكم على باطل فنزعتم ودعوت اللّه ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا أنصفت فخرجوا باوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لالياس انا قد أهلكنا فادع اللّه لنا فدعا لهم الياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فاقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل اللّه عليهم المطر فاغاثهم وحييت بلادهم فلمّا كشف اللّه عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم فاقاموا على أخبث ما كانوا.(1/5579)
فلمّا راى ذلك الياس دعا ربه تعالى ان يريحه منهم فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا وكذا فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي امر به اقبل فرس من نار وقيل لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه الياس فانطلق به الفرس - فناداه اليسع يا الياس ما تأمرنى به فقذف إليه الياس بكسائه من الجوّ الأعلى وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بنى إسرائيل فكان ذلك اخر العهد به ورفع اللّه اليأس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيا ملكيّا سماويّا ارضيّا وسلط اللّه على أجب الملك وقومه عدو الهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل أجب وامرأته ازبيل فى بستان مزدكى فلم يزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 142
حتى بليت لحومهما ورمّت عظامها - ونبّا اللّه اليسع وبعثه رسولا إلى بنى إسرائيل واوحى إليه فامنت به بنوا إسرائيل وكانوا يعظمونه وحكم فيهم قائم إلى ان فارقهم اليسع روى السرى بن يحيى عن عبد العزيز عن أبى الرداد قال الياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم فى كل عام وقيل ان الياس مؤكل فى الفيافي والخضر مؤكل بالبحار هكذا ذكر البغوي فى تفسير قوله تعالى وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - .
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) عذاب اللّه.
أَ تَدْعُونَ تعبدون بَعْلًا اسم صنم كانوا يعبدونها سميت بها مدينتهم بعلبك وقال مجاهد وعكرمة وقتادة البعل الرب بلغة أهل اليمن وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) فلا تعبدونه وجملة ا تدعون إلى آخره بيان أو بدل لما قبله.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص « و خلف - أبو محمد » بالنصب على البدل والباقون بالرفع على الاستئناف.(1/5580)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) فى العذاب وانما اطلق اكتفاء بالقرينة أو لان الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) مستثنى من فاعل كذّبوه لا من المحضرين لفساد المعنى وقيل استثناء منقطع أو متصل من المحضرين ان كان المحضرين من قبيل توصيف الكل بوصف البعض كما فى قوله تعالى ايّتها العير انّكم لسارقون فحينئذ يكون شاملا للمستثنى منه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) لغة فى الياس كسيناء وسينين وإسماعيل وسمعين وميكائيل وميكائين وقال الفراء هو جمع أراد الياس واتباعه من المؤمنين فيكون بمنزلة الأشعريين والأعجمين بالتخفيف لكن فيه ان العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام وقرا نافع وابن عامر « و يعقوب - وأبو محمد » ال ياسين بفتح الهمزة شبعة وكسر اللام مقطوعة لانها فى المصحف مفصولة فيكون ياسين أبا الياس وجاز ان يكون ياسين اسما لالياس والمراد بال ياسين هو واتباعه - وما قيل ان ياسين محمد صلى اللّه عليه وسلم أو القرآن أو غيره من الكتب السماوية لا يناسب نظم سائر القصص وما قبله وما بعده من قوله.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 143
إذ الظاهر ان الضمير لالياس وفى قراءة ابن مسعود سلم على ادريسين يعنى إدريس واتباعه لأنه قرأ انّ إدريس لمن المرسلين - .
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) من العذاب الذي نزل على قومه.
إِلَّا عَجُوزاً وهى امرأته كائنة فِي الْغابِرِينَ (135) الباقين فى العذاب.
ثُمَّ دَمَّرْنَا
أهلكنا الْآخَرِينَ
(136) من قومه.
وَإِنَّكُمْ
يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
اى على منازلهم فى اسفاركم إلى الشام فان سدوم فى طريقه مُصْبِحِينَ
((1/5581)
137) داخلين فى الصباح.
وَبِاللَّيْلِ
او مساءً والمعنى نهارا أو ليلا ولعلها وقعت قريبا من موضع النزول فيمر المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساءً ان كان السير نهارا أو بالعكس ان كان السير ليلا أَفَلا تَعْقِلُونَ
(138) يعنى أ لستم ذوى العقول فتعتبروا والجملة معترضة - .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ
اى هرب وأصله هرب العبد من السيد لكن لمّا كان هربه من قومه بلا اذن ربه حسن إطلاقه عليه إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(140) أخرج عبد الرزاق واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاؤس انه لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم (يعنى لمّا تأخر عنهم العذاب) قبل ان يأمره اللّه به فركب السفينة فوقفت فقال الملاحون هاهنا عبد ابق فاقترعوا فخرجت عليه فقال انا الآبق ورمى بنفسه فى الماء وذكر البغوي قول ابن عباس ووهب نحوه وذكر انهم اقترعوا ثلاثا فوقعت القرعة على يونس - قال البغوي وروى انه لمّا وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد ان يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ثم جاءت موجة اخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب وأخذ ابن الأصغر فبقى فريدا فجاء مركب اخر فركبه فقعد ناحية من القوم فلمّا مرت السفينة فى البحر ركدت فاقترعوا - وقد ذكرنا القصة فى سورة يونس فذلك قوله تعالى.
فَساهَمَ
فقارع والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(141) فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أى اخذه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 144
لقمة وَهُوَ مُلِيمٌ (142) أى داخل فى الملامة أو أت بما يلام عليه أو مليم نفسه حال من مفعول التقمه - .(1/5582)
فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) قال ابن عباس من المصلين وقال وهب من العابدين قال الحسن ما كانت له صلوة فى بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا قال الضحاك شكر اللّه له طاعته القديمة - قلت ويمكن ان يكون هو مصليّا فى بطن الحوت بالاشارة لكونه حيّا مفيقا والاولى ان يقال ولو لا انه كان من المسبحين فى بطن الحوت يعنى ذاكرا له بقوله لا اله الّا أنت سبحانك انّى كنت من الظّالمين كما نطق به القران.
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) يعنى لمات فى بطنه وصار له قبرا فيبقى اجزاؤه مختلطا بأجزاء الحوت حيثما كان فى علم اللّه إلى يوم القيامة.
فَنَبَذْناهُ بان حملنا الحوت على لفظه بِالْعَراءِ أى المكان الخالي مما يغطيه من الشجر ونحوه وَهُوَ سَقِيمٌ (145) كالفرخ الممعط وقيل كان قد بلى لحمه ورق عظمه ولم يبق له قوة واختلفوا فى مدة لبثه فى بطن الحوت قال البغوي قال مقاتل بن حبان ثلاثة ايام وكذا أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة وقال البغوي قال عطاء سبعة أيام كذا أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وقال البغوي قال الضحاك عشرين يوما وقال السدىّ والكلبي ومقاتل بن سليمان أربعين يوما كذا أخرج الحاكم عن ابن عباس وابن أبى شيبة واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن أبى مالك وعبد الرزاق وابن مردوية عن ابن جريج وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة واخرج عبد بن حميد فى زوائد الزهد انه بعض يوم واخرج ابن أبى حاتم والحاكم والبغوي عن الشعبي انه التقمه ضحى ولفظه عشية.(1/5583)
وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ أى فوقه مظلة شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) قال البغوي قال الحسن ومقاتل كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين وقال كان ذلك اليقطين بساق على خلاف العادة انتهى وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا قام به قلت وكان قرعا تغطه من أوراقها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 145(1/5584)
عن الذباب فانه لا يقع عليه كذا قال البغوي انه قول جميع المفسرين وكذا أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وقال مقاتل بن حبان وكان يونس يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه يشرب لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوى فنام نومة فاستيقظ وقد يبست الشجرة فحزن حزنا شديدا إذ أصابه أذى الشمس فجعل يبكى فبعث اللّه إليه جبرئيل فقال أ تحزن على شجرة ولا تحزن على مائة الف من أمتك وقد اسلموا وتابوا - (مسئلة) لا يجوز ذكر ذلة الأنبياء فان زلاتهم توجب كمال الانابة إلى اللّه ورفع درجاتهم ومن اعترض على أحد من الأنبياء فقد كفر قال اللّه تعالى لا نفرّق بين أحد من رّسله وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ينبغى لعبد ان يقول انى خير من يونس بن متى - متفق عليه وفى رواية للبخارى من قال انا خير من يونس بن متى فقد كذب وعن أبى هريرة قال استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال والذي اصطفى محمدا على العالمين وقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره بما كان من امره وامر المسلم فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم فساله عن ذلك فاخبره فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تخيرونى على موسى فان الناس يصعقون يوم القيامة فاصعق معهم فاكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى كان فيمن صعق فافاق قبلى أو كان فيمن استثنى اللّه وفى رواية فلا أدرى ا حوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلى ولا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى - وفى رواية أبى سعيد قال لا تخيروا بين الأنبياء متفق عليه وفى رواية أبى هريرة لا تفضلوا بين أنبياء اللّه - فان قيل ما المعنى والمراد بالنهى عن التفضيل بين الأنبياء مع كونه ثابتا بالنص والإجماع قال اللّه تعالى تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض وقال رسول اللّه(1/5585)
صلى اللّه عليه وسلم انا سيد ولد آدم يوم القيامة واوّل شافع وأول مشفع - رواه مسلم وأبو داود عن أبى هريرة وقال انا سيد ولد آدم يوم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 146
القيامة ولا فخر وما من نبى يومئذ آدم فمن سواه الا تحت لوائى وانا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر - رواه احمد والترمذي وابن ماجة عن أبى سعيد وقال عليه السلام انا قائد المرسلين ولا فخر وانا خاتم النبيين ولا فخر وانا أول شافع ومشفع ولا فخر - رواه الدارمي عن جابر قلت معناه واللّه اعلم لا تفضلوا بين أنبياء اللّه بالظن والتخمين ما لم يأتكم علم من اللّه تعالى واما بعد ما ثبت ذلك بوحي من اللّه تعالى فلا بأس به أو يقال لا تخيروا بين الأنبياء فى نفس النبوة بان تؤمنوا ببعض وتعظموه وتوقروه ولا تؤمنوا ببعض واللّه اعلم - .
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قال البغوي قال قتادة أرسل إلى نينوى من ارض الموصل قبل ان يصيبه ما أصابه وكذا أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عنه وعن الحسن والمعنى وقد أرسلناه إلى مائة الف وقيل معناه أرسلناه إليهم ثانيا بعد خروجه من بطن الحوت وقيل إلى قوم آخرين أَوْ يَزِيدُونَ (147) قال مقاتل والكلبي معناه بل يزيدون وقال ابن عباس معناه ويزيدون أو بمعنى الواو كقوله تعالى عذرا أو نذرا وقال الزجاج أو هاهنا على أصله معناه أو يزيدون على تقديركم وظنكم كالرجل يرى قوما فيقول هؤلاء الف أو يزيدون فالشك على تقدير المخلوقين واختلفوا فى مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس ومقاتل كانوا عشرين الفا رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يزيدون عشرون الفا وقال الحسن بضعا وثلاثين الفا وقال سعيد بن جبير سبعين الفا.(1/5586)
فَآمَنُوا يعنى الذين أرسل إليهم يونس أمنوا به بعد معائنة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) إلى أجلهم المسمى ولعله انما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين اصحاب الشرائع الكبر واولى العزم من الرسل أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور فى اخر السورة - .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) عطف على قوله فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اولا عن وجه انكارهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 147
البعث بان يسئلهم سوال تقرير اىّ الخلقين أشد أ خلقهم أم خلق غيرهم من السماء والأرض والملائكة أو من سبقهم من عاد وثمود فإذا هم أقرّوا بانّ خلق من سبقهم أشد لزمهم الخوف ممن انتقم منهم واهلكهم بكفرهم وهو قادر على خلق من هو أشد منهم وعلى كل خلق وقادر على البعث والتعذيب ثم جاء بما يلائمه من القصص لبعضها ببعض - ثم امره بالسؤال عن وجه القسمة حيث جعلوا للّه البنات ولانفسهم البنين فى قولهم الملائكة بنات اللّه وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات اخر التجسيم وتجويز البنات على اللّه فان الولادة مخصوصة بالأجسام القابلة للكون والفساد سريعا وتفضيل أنفسهم على اللّه حيث جعلوا اخس الصنفين للّه وأشرفهم لانفسهم واستهانتهم الملائكة باتصافهم بالانوثة. ولذلك كرر اللّه تعالى انكار ذلك وابطاله فى كتابه مرارا وجعله مما تكاد السّماوات يتفطّرن من شوم هذا القول وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا والإنكار هاهنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما وذلك ان جهينة وبنى سلمة بن عبد الدار زعموا ان الملائكة بنات اللّه ولان فسادهما مما يدكه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل لاستفهام عن أنفسهم.(1/5587)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) فيه استهزاء واشعار بانهم لفرط جهلهم يحكمون به كانهم شاهدوا خلقهم.
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أى كذبهم الذي هو ظاهر البطلان وينفيه البرهان لَيَقُولُونَ (151).
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) عند جميع العقلاء قطعا.
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) قرأ أبو جعفر بهمزة الوصل المكسورة عند الابتداء وإسقاطها فى الدرج وهى رواية عن نافع اما على حذف همزة الاستفهام من اللفظ أو على الاخبار بتقدير قالوا يعنى انّهم لكاذبون حيث قالوا اصطفى البنات وقرأ العامة بهمزة مفتوحة للاستفهام داخلة على همزة الوصل إنكارا واستبعادا بتقدير يقال لهم اصطفى البنات على البنين.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) ان للّه البنات ولكم البنين والاصطفاء أخذ صفوة الشيء والبنات اخس الصنفين.
أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) عطف على محذوف تقديره أ فلا تتفكرون فلا تتذكّرون انه تعالى منزه عن ذلك حذفت احدى التاءين.
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) حجة واضحة نزلت عليكم من اللّه تعالى بان الملائكة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 148(1/5588)
بناته يعنى ان اسباب العلم منحصرة فى ثلاثة العقل والحس والخبر الصادق والخبر لا يفيد العلم ما لم يبتنى على الحس أو على الاعلام من اللّه العالم للغيب - فانكر اولا دلالة العقل بقوله أ لربّك البنات ولهم البنون فانه مع قيام البرهان على امتناع الولد للّه سبحانه لا يجوز درك انوثية الملائكة بالعقل الصرف ولا يجوز عاقل ان يثبت اخس الفريقين للخالق وأشرفهما للمخلوقين وأنكر ثانيا دلالة الحس بقوله أم خلقنا الملئكة إناثا وهم شاهدون يعنى لم يشهدوا ذلك وأنكر ثالثا الخبر الصادق إلى الحجة النازلة من اللّه العليم الخبير فانه اعلم إفادة للعلم من غيره وأقوى فقال أم لكم سلطان مبين - ولمّا كان هاهنا مظنة ان يقولوا اللّه علمنا بهذا كما انهم إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا واللّه أمرنا بها قال.
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي منزل من اللّه مخبر بان الملائكة بناته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(157) فى دعواكم - .
وَجَعَلُوا حال من الضمير المنصوب فى استفتهم بتقدير قد أى استفتهم وقد جعلوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أخرج جويبر عن ابن عباس انه قال نزلت هذه الآية فى ثلاثة احياء قريش سليم وخزاعة وجهينة قال مجاهد وقتادة أراد بالجنّة الملائكة سموها جنّة لاجتنانهم عن الابصار قلت ذكرهم بهذا الاسم تحقيرا لشأنهم عن مرتبة البنوة للّه سبحانه وقال ابن عباس حيى من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس قالوا هم بنات اللّه وقال الكلبي قالوا (لعنهم اللّه) ان اللّه تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى اللّه عن ذلك وقال بعض قريش ان الملائكة بنات اللّه فقال أبو بكر الصديق فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن كذا أخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مجاهد وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ جملة معترضة إِنَّهُمْ أى قائلى هذا القول أو الانس مطلقا أو الجنة بمعنى يعم الملائكة وغيرهم لَمُحْضَرُونَ (158) فى النار.(1/5589)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) أى عما يصفونه به من الولد والنسب جملة معترضة اخرى.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) استثناء متصل من ضمير انهم ان أريد به ما يعم المؤمن والكافر أو منقطع ان أراد به القائلون بالولد.
فَإِنَّكُمْ يا أهل مكة التفات من الغيبة إلى الخطاب والفاء قيل جزائية
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 149
و الشرط محذوف تقديره إذا جعلتم بينه وبين الجنة نسبا فانّكم وَما تَعْبُدُونَ (161) من الأصنام.
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أى على اللّه متعلق بقوله بِفاتِنِينَ (162) أى بمضلين الناس بالإغواء أحدا.
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) فى علم اللّه يعنى من سبق لهم فما علم اللّه القديم الشقاوة - .(1/5590)
وَ ما مِنَّا معشر الملائكة أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) هذه الجملة بتقدير القول معطوف على قوله تعالى ولقد علمت الجنّة تقديره وقالت ما منّا الّا له مقام معلوم فى العبودية أو فى السماوات يعبد اللّه فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أطت « 1 » السماء وحق لها ان تاط والذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا وملك واضع جبهته ساجدا للّه - رواه البغوي أو مقام معلوم فى مراتب القرب لا يتجاوز عنه وكذا قال السدى الّا له مقام معلوم فى القربة والمشاهدة وقال أبو بكر الوراق الّا له مقام معلوم يعبد اللّه عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضاء - قلت واما الانس فلا يزال يرتقى على معارج القرب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن اللّه سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث. رواه البخاري عن أبى هريرة واما الملائكة فلا يتجاوزون عن مقاماتهم عن زرارة بن أبى اوفى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبرئيل هل رايت ربّك فانتفض جبرئيل وقال يا محمد ان بينى وبينه سبعين حجابا من نور لو دنوت من بعضها لاحترقت هكذا فى المصابيح ورواه أبو نعيم فى الحلية عن انس الا انه لم يذكر فانتفض جبرئيل عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه خلق اسرافيل منذ يوم خلقه صافا قدميه لا يرفع بصره بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نورا ما منها من نور يدنو منه الا احترق - رواه الترمذي وصححه وهذه الآية رد على عابدى الملائكة نظيره قوله تعالى لقد كفر الّذين قالوا انّ اللّه هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا اللّه ربّى وربّكم انّه من يّشرك باللّه
_________
((1/5591)
1) الأطيط صوت الاقتاب يعنى آواز پالان شتر قال فى النهاية يعنى انّ كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلتها حتى أطت وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وان لم يكن ثمه اطيطه نور اللّه مرقده -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 150
فقد حرّم اللّه عليه الجنّة ومأويه النّار.
وَإِنَّا معشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) أخرج ابن أبى حاتم عن يزيد بن مالك قال كان الناس يصلون متبدين فانزل اللّه وانّا لنحن الصّافّون فامرهم ان يصفوا - واخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه قال الكلبي صفوف الملائكة فى السماء للعبادة كصفوف الناس فى الأرض يعنى فى الصلاة روى مسلم عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول اللّه كيف تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الاولى وينراصون فى الصف - والمعنى وانا لنحن صافون أقدامنا فى أداء الطاعة.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) أى المنزهون عما لا يليق به كاتخاذ الولد ونحو ذلك - وما فى انّ واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص انما هو للرد على من زعم انهم بنات اللّه والحصر إضافي بالنسبة إلى الكفار يعنى لسنا كهيئة الكفار مشركين مصنعين فى العبادة والتسبيح.
وَإِنْ كانُوا وانهم يعنى كفار مكة كانوا لَيَقُولُونَ (167) قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم.
لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) أى كتابا من الكتب التي أنزلت عليهم.
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) يعنى لاخلصنا له العبادة ولم نخالف.
فَكَفَرُوا بِهِ أى بالذكر الذي هو اشرف الاذكار لمّا جاءهم فَسَوْفَ الفاء للسببية فان الكفر سبب للوعيد يَعْلَمُونَ (170) عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام ان مخففة للمثقلة واللام هى فارقة وفى ذلك ايماء بانهم كانوا يقولون مؤكدين للقول جازمين فيه فكم بين أولهم وآخرهم.(1/5592)
وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) بيان للكلمة ولذلك لم يعطف عليه قلت وانما يظهر التخلف لاجل شوم العصيان قال اللّه تعالى انّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا وقال اللّه تعالى.
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أى اعرض عنهم حَتَّى حِينٍ (174) قال ابن عباس يعنى الموت وقيل يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا وقال مجاهد يوم بدر وكذا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 151
عن السدّى وقال البغوي قال السدّى يوم يأمركم بالقتال وهو المراد بقول مقاتل نسختها اية القتال.
وَأَبْصِرْهُمْ مغلوبا مقتولا معذّبا - فيه دلالة على انه كائن قريب كانّه قدامه فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) ما قضينا لك من التأييد والنصرة فى الدنيا والثواب فى الاخرة وما يحل بهم فى الدارين وسوف للوعيد لا للتبعيد - أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه متى نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا العذاب واخرج جويبر عنه نحوه فنزل.
أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) استفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره أ يجهلون شأننا فبعذابنا يستعجلون.(1/5593)
فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ بفنائهم قال الفراء العرب يكتفى بذكر الساحة من القوم - أو المعنى إذ نزل الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع جيشه بساحة الكفار فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) أى صباحهم مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت الهجوم والغارة فى الصباح عادة سموا الغارة صباحا وان وقعت فى وقت اخر عن انس بن مالك رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلا وكان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح - قال فلمّا أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها « 1 » ومكاتلها « المكتل الزنبيل الكبير - نهاية منه ره » فلمّا راوه قالوا محمد واللّه والخميس فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحتهم فسآء صباح المنذرين رواه البغوي وفى الصحيحين عن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا غزابنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر إليهم فان سمع اذانا كفّ عنهم وان لم يسمع اذانا أغار عليهم فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلمّا أصبح ولم يسمع اذانا ركب وركبت خلف أبى طلحة وان قدمى لتمس قدم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلمّا راوا النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا محمد واللّه محمد والخميس فلجاءوا إلى الحصن فلمّا راهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه اكبر اللّه اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحة قوم فسآء صباح المنذرين ثم كرر اللّه سبحانه تأكيد الوعيد العذاب فقال.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) فيه اطلاق بعد تقييد للاشعار
_________
(1) المساحي جمع مسحاة وهى المجرفة من الحديد والميم زائدة لأنه من السحو أى الكشف والازالة 12 نهاية منه يرد اللّه(1/5594)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 152
بانه يبصر وانهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من اصناف المسرّة وانواع المساءة أو الأول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الاخرة - .
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أى الغلبة والقوة أضاف الرب إلى العزة لاختصاص به إذ لا عزة الا له أو لمن انتسب إليه رسوله والمؤمنون به - وفيه اشعار بان صفاته تعالى مقتضيات لذاته - واجبات بالغير أى بذاته تعالى عَمَّا يَصِفُونَ (180) أى عما يصفونه به المشركون ممّا حكى فى السورة وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الاشعار بالتوحيد.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) الذين وصفوه على ما هو عليه وهذا تعميم للرسل بالتسليم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) على ما هدى المؤمنين إلى معرفة ذاته وصفاته بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصرة الأنبياء وتدمير الأعداء عن على كرم اللّه وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الاوفى من الاجر يوم القيامة فليكن اخر كلامه من مجلسه سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه ربّ العالمين - رواه البغوي فى تفسيره وعبد بن رنجوية فى ترغيبه والحمد للّه ربّ العالمين وصلى اللّه تعالى وسلم على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى اصل طاعته أجمعين تمت تفسير سورة الصّافّات من التفسير المظهرى (و يتلوه ان شاء اللّه تعالى تفسير سورة ص) فى يوم السبت الثامن والعشرين من الجمادى اوّل من السنة السابعة بعد الف سنة 1207 ومائتين بتصحيح مولانا غلام نبى تونسوى الراجي إلى مغفرة ربه القوى.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 153(1/5595)
سورة ص
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهن ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين سورة ص مكيّة وهى ثمان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج احمد والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى اللّه عليه وسلم فشكوه إلى أبى طالب فقال ابن أخي ما تريد من قومك فقال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم العجم جزية قال كلمة واحدة قال ما هى قال لا اله الا اللّه فقالوا اجعل الالهة الها واحدا انّ هذا الشيء عجاب فنزل.
ص إلى قوله بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ - قيل هو قسم وقيل هو اسم السورة كما ذكرنا فى سائر حروف التهجي قال محمد بن كعب مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد - وقال الضحاك معناه صدق اللّه وروى عن ابن عباس صدق محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقيل هو امر من المصاداة ولذا قرئ بالكسر على وزن ناد ومعناه عارض من الصدى فانه تعارض الصوت الأول يعنى عارض القرآن بعملك والحق انه من المتشابهات وقد ذكرنا تحقيقها فى أوائل سورة البقرة وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) قال ابن عباس أى ذى البيان لما يحتاج إليه فى الدين من العقائد والشرائع والمواعيد أو ذى عظة وقال الضحاك أى ذى الشرف كما فى قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ والواو للقسم ان جعل ص اسم حرف مذكور للتحدى أو الرمز لكلام صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم أو غيره أو لفظ الأمر وللعطف ان جعل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 154(1/5596)
مقسما به قال الأخفش جواب القسم ان كلّ الّا كذّب الرّسل فحقّ عقاب وهذا بعيد جدّا والظاهر ان الجواب محذوف دل عليه ما فى ص من الدلالة على التحدي أو الأمر بالمعادلة أى انه لمعجز أو الواجب العمل به أو ان محمد الصادق أو ان الأمر ليس كما يقول الكفار ويدل عليه قوله.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أى استكبار عن الحق وحمية جاهلية وَشِقاقٍ (2) خلاف وعداوة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ولاجل ذلك لا يؤمنون به أو خلاف لما يقتضيه العقل والنقل والتنكير فيهما الدلالة على شدتهما فهو إضراب عن الجواب المقدر وقال قتادة هذا جواب القسم كما فى قوله تعالى ق والقرءان المجيد بل عجبوا وبل ابتدائية - وقال القتيبي بل لتدارك كلام ونفى اخر مجاز الآية ان اللّه اقسم بص والقرءان ذى الذّكر ان الذين كفروا من أهل مكة فى عزّة وشقاق ..(1/5597)
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وعيد لهم على كفرهم استكبار أو شقاقا فَنادَوْا عند نزول العذاب استغاثة أو توبة واستغفارا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) أى ليس الحين حين مناص جملة كم أهلكنا معترضة لبيان ما لهم بعد بيان حالهم يعنى انهم يهلكون كما هلك من قبلهم ولا هى المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وتغير حكمه فخصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين اما الاسم واما الخبر والمحذوف هاهنا الاسم هذا مذهب الخليل وسيبويه وقال الأخفش هى النافية للجنس والخبر محذوف أى لا حين مناص كائن لكم وقيل هى نافية للفعل والنصب بإضماره تقدير ه لا ارى حين مناص حاصلا لهم والوقف على لات بالتاء عند الزجاج « و عند جميع القراء غير الكسائي - أبو محمد » وعند الكسائي لاه - بالهاء. وذهب جماعة إلى ان التاء زيدت فى حين والوقف على لا ثم يبتدى تحين وهو اختيار أبى عبيد وقال كذلك وجدت فى مصحف عثمان رضى اللّه عنه وهذا كقول الشاعر والعاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم - والمناص مصدر ميمى من ناصه ينوصه إذا فاته وفى القاموس النوص التأخر والمناص الملجأ قال ابن عباس كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا فى الحرب قال بعضهم لبعض مناص أى اهربوا وخذوا حذركم فلما انزل اللّه بهم العذاب ببدر قالوا مناص فانزل اللّه عز وجل ولات حين مناص أى ليس الحسين حين هذا القول والجملة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 155
حال من فاعل نادوا أى استغاثوا والحال ان لا ملجاء ولا مهرب ولا اعتبر بهم كفار مكة - .(1/5598)
وَ عَجِبُوا عطف على الظرف المستقر اعنى فى عزّة وشقاق أو حال من الضمير المستكن فيه بتقديرته تقديره بل الّذين كفروا كائنون فى عزّة وشقاق وقد عجبوا من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أى بشر من أنفسهم رسولا إليهم لينذرهم وَقالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذمّا لهم واشعارا بان كفرهم جسرهم على ان قالوا هذا ساحِرٌ فيما يظهر من المعجزات كَذَّابٌ (4) فيما يقول.
أَ جَعَلَ محمول على حذف قالوا استئناف فى جواب ما قالوا حينئذ يعنى قالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً الاستفهام للتعجب يعنى كيف جعل الالوهية التي كانت لجماعة لواحد إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5) بليغ فى العجب فانه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ما نشاهد ونعاهد ان الواحد لا يفئ علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة - قال البغوي وذلك ان عمر بن الخطاب لما اسلم شق ذلك على قريش وفرح بها المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والاشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنّا الوليد بن المغيرة قال امشوا إلى أبى طالب فاتوا أبا طالب وقالوا أنت كبيرنا وشيخنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وانا اتيناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك فارسل أبو طالب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فدعاه فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسئلونك فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ذا تسئلون قالوا ارفض ذكر متناوندعك وإلهك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أ تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل للّه أبوك لنعطيكها وعشر أمثالها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولوا لا اله الا اللّه فتفرقوا من ذلك وقاموا وقالوا اجعل الالهة الها واحدا كيف يسع الخلق كلهم اله واحد انّ هذا الشيء عجاب قيل التعجيب ما له مثل والعجاب مالا مثل له.(1/5599)
وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ أى الاشراف من مجلس أبى طالب الذين كانوا فيه مِنْهُمْ أى من قريش وجملة انطلق عطف على قالوا ا جعل الالهة الها واحدا أَنِ امْشُوا أى قائلين ان امشوا من مجلسكم هذه وَاصْبِرُوا أى اثبتوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ حيث لا ينفعكم المكالمة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 156
و ان هى المفسرة لان الانطلاق عن مجلس التناول يشعر بالقول وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع فى القول وامشوا من مشيت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية أى اجتمعوا إِنَّ هذا المذكور من التوحيد لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) منا هذه الجملة فى مقام التعليل على قوله امشوا قال البغوي وذلك ان عمر رضى اللّه عنه لما اسلم وحصل للمسلمين به قوة بمكانه قالت الكفار انّ هذا الشيء يراد قيل معناه هذا الذي نرى من زيادة اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم لشئ من اللّه يراد بنا فلا مرد له وقيل يراد باهل الأرض وقيل بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ان يملك علينا أو يقال ان هذا الذي يدعيه محمد من التوحيد أو الذي يقصد من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشئ يتمنى أو يريده كل أحد أو ان دينكم يطلب ليؤخذ منكم.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله محمد من التوحيد وكلمة هذا للتحقير فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس والكلبي ومقاتل يعنون بها النصرانية لانها اخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون ثالث ثلاثة وقال مجاهد يعنون ملة قريش ودينهم الذي هم عليه أى ما سمعنا بهذا فى الملّة التي أدركنا عليه آباءنا ويجوز ان يكون ظرفا مستقرا فى محل الحال أى ما سمعنا من أهل الكتاب ولا الكهان هذا أى التوحيد كائنا فى الملة المترقبة التي هى اخر الملل إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أى كذب اختلقه ..(1/5600)
أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أى القرآن الاستفهام للانكار فهو بمعنى النفي فهو تأكيد لمضمون قولهم ان هذا الّا اختلاق مِنْ بَيْنِنا وليس بأكبرنا ولا اكثر منا فى المال والجاه وفيه دليل على ان منشأ تكذيبهم لم يكن الا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي قال اللّه تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أى القرآن حيث كذبوا الجائى به إضراب للانكار واثبات للشك لميلهم إلى التقليد واعراضهم عن الدليل يعنى ليس عندهم حجة يوجب علما يقينيا بما يقولون انه ساحر كذاب بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) ولو ذاقوا ما قالوا ذلك وسيذقونها وحينئذ يزول عنهم الشك ولا ينفعهم وبل للاضراب عن الشك واثبات يقينهم واعتقادهم بانتفاء حقيقة القرآن فاثبات الشك انما هو بالنظر إلى انتفاء الحجة عندهم واثبات اليقين نظرا إلى جهلهم المركب وزعمهم الفاسد تعنتا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 157
و عنادا - وقيل بل في الموضعين ابتدائية ليست للاضراب فالجملة الاولى جواب لكلام الكفار والثانية تأكيد للاولى.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ أى نعمة ربك يعنى مفاتيح النبوة يعطوها من يشاءوا يعنى ليس الأمر كذلك فان النبوة عطية من اللّه يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع لما أعطاه فانه الْعَزِيزِ الغالب الذي لا يغلبه شىء الْوَهَّابِ (9) الذي يهب ما يشاء لمن يشاء أم منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للاضراب من دعوى إلى دعوى اخر أو الهمزة لانكار ذلك الدعوى وكذلك أم فى قوله.(1/5601)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما لمّا أنكر عليهم التصرف فى النبوة بان ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها اردف ذلك بانه ليس لهم مدخل فى امر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن اين لهم ان يتصرفوا فيها فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جواب شرط محذوف أى ان كان لهم ذلك فليصعدوا فى المعراج التي يتوصلون بها إلى العرش حتى يستروا عليه ويدبروا امر العالم فينزلوا الوحى إلى من يتصفون وهو غاية التهكم بهم والأمر للتوبيخ والتعجيز قال قتادة ومجاهد أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شىء من باب أو طريق فهو سببه.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ ما هذه للتقليل وجند خبر مبتدا محذوف أى هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند قليل مَهْزُومٌ عن قريب صفة لجند وكذا قوله مِنَ الْأَحْزابِ (11) أى من احزاب الكفار المتحزبين على الرسل فى القرون الماضية فقهروا واهلكوا فمن اين لهم التدابير الالهية والتصرف فى الأمور الربانية أو فلا تهتم بما يقولون قال قتادة اخبر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم انه سيهزم جند المشركين وقال سيهزم الجمع ويولّون الدّبر فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك اشارة إلى بدر ومصارعهم والظاهر انه اشارة إلى حيث وضعوا أنفسهم وأتوا بمثل هذا القول العظم وتكذيبهم إياك - .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أى قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم من حيث المعنى وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) قال ابن عبّاس ومحمد بن كعب ذو البناء المحكم وقيل أراد الملك السديد الثابت قال القتيبي تقول هم فى العز الثابت الأوتاد يريدون انه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 158(1/5602)
الدائم الشديد وقال الضحاك ذو القوة والبطش الشديد وقال عطية ذو الجنود والجموع الكثيرة يعنى انهم كانوا يقوّون امره ويشدون ملكه كما يقوى الوتد الشيء وأيضا سميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها فى أسفارهم وهى رواية عطية عن ابن عباس وقال الكلبي ومقاتل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مدّه مستلقيا بين اربعة أوتاد وشد كل يد وكل رجل إلى سارية وتركه كذلك فى الهواء بين السماء والأرض حتى يموت وقال مجاهد ومقاتل بن حبان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشد يديه ورجليه على الأرض بالأوتاد وقال السدى كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات وقال قتادة كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أى اصحاب الغيظة وهم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) اللام للعهد أى أولئك الأحزاب الذين مر ذكرهم فى قوله جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل ومشركوا مكة حزب منها.
إِنْ كُلٌّ أى ما كل حزب منهم فعل شيئا إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام مشتملا على انواع من التأكيد ليكون تسجيلا على استحقاقهم أشد العذاب ولذلك رتب عليه فَحَقَّ عِقابِ (14) أى وجب عليهم وانزل بهم عذابى الذي يستحق ان يعقب الكفر قرأ يعقوب عقابى بالياء وصلا ووقفا والباقون بحذفها والاكتفاء على الكسرة وفى قوله كلّ كذّب الرّسل اما مقابلة الجمع بالجمع أو جعل تكذيب واحد منهم تكذيبا لكلهم لاتحاد كلمتهم ..(1/5603)
وَ ما يَنْظُرُ أى ما ينتظر عطف على قوله وقال الكافرون أو حال هؤُلاءِ أى كفار قريش إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أى نفخة الصور يعنى لا يؤمنون حتى يرووا العذاب الأليم حين لا ينفعهم ايمانهم ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) صفة بعد صفة لصحيحة قرأ حمزة والكسائي « و خلف أبو محمد » بضم الفاء والباقون بفتحها وهما لغتان بالفتح لغة قريش وبالضم لغة تميم قال ابن عباس وقتادة معناه من رجوع وقال مجاهد نظرة وقال الضحاك مثنوية أى صرف وقال الفراء وأبو عبيدة بالفتح بمعنى الراحة والافاقة كالجواب بمعنى الاجابة وذهب بها إلى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 159
افاقة المريض من غلبة المرض وبالضم ما بين الحلبتين وهى تحلب ناقة وتترك ساعة حتى يجتمع اللبن فى الضرع بين الحلبتين يعنى مالها مهلة مقدار ما بين الحلبتين قيل هما مستعاران من الرجوع لان اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين وافاقة المريض رجوعه إلى الصحة يعنى لا رجوع إلى الدنيا بعد الصيحة أو إذا جاءت الصيحة لم ترد ولم تصرف أو لا نظرة قدر ما بين الحلبتين أو لا افاقة ولا راحة حينئذ قال الكلبي لمّا نزلت فى الحاقة فامّا من اوتى كتابه بيمينه وامّا من اوتى كتابه بشماله قالت كفار مكة استهزاء ربّنا عجّل لّنا قطنا فنزلت.
وَقالُوا عطف على قال الكافرون رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا والقطّ هى الصحيفة التي احصت كل شىء كذا قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعنى عجل لنا كتابنا فى الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) وروى عن سعيد بن جبير انه قال يعنون عجّل لّنا حظنا ونصيبنا من الجنة التي يقول محمد وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدىّ يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب وقال عطاء هذا ما قاله النضر بن الحارث اللّهمّ ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء وعن مجاهد قال قطّنا حسابنا.(1/5604)
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ استهزاء وتكذيبا جملة مستأنفة وعطف عليه قوله وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ فان ذكر الأنبياء يقتضى الصبر على ما يكرهه الطبع وحبس النفس على الطاعة وعن المعصية ذَا الْأَيْدِ أى ذا القوة والبطش الشديد على الطاعة إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) أى رجّاع إلى اللّه عما سواه والى الطاعة عن المعصية قال ابن عباس أى مطيع وقال سعيد بن جبير المسبّح بلغة الحبش وهو تعليل للايد دليل على ان المراد به القوة فى الدين روى الشيخان فى الصحيحين واحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أحب الصيام إلى اللّه صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى اللّه صلوة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام السدس الأخير من الليل ..
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ جملة سخّرنا إلى قوله فصل الخطاب بيان لكرامة داود عليه السلام عند اللّه فكانّه بدل اشتمال لداود أى اذكر كرامة داود عند اللّه حيث
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 160
سخرنا له الجبال إلى آخره يُسَبِّحْنَ حال وضع موضع مسبّحات لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح منه حالا بعد حال بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) قال الكلبي غدوة وعشيّا والاشراق هو ان تشرق ويتناهى ضؤها وفسره ابن عباس بصلوة الضحى روى البغوي بسنده عن ابن عباس فى تفسير هذه الآية قال كنت أمن بهذه الآية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت أبى طالب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل علينا فدعا بوضوء فتوضا ثم صلى الضحى فقال يا أم هانى هذا صلوة الاشراق - وأخرجه الطبراني فى الأوسط وابن مردوية واخرج ابن جرير والحاكم عن عبد اللّه بن الحرث عن ابن عباس انه قال ما عرفت صلوة الضحى الا بهذه الآية وأخرجه سعيد بن منصور.(1/5605)
وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال يعنى سخّرنا مَحْشُورَةً أى مجتمعة إليه من كل جانب تسبح معه كُلٌّ أى كل واحد من الجبال والطير لَهُ أَوَّابٌ (19) أى رجّاع إلى التسبيح بتسبيحه والفرق بينه وبين ما قبله انه يدل على الموافقة فى التسبيح وهذا على المداومة عليها أو المعنى كل واحد من داود والجبال والطير له أى للّه تعالى اوّاب - .
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أى قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود قال البغوي قال ابن عباس كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا يحرس محرابه كل ليلة ست وثلاثون الف رجل روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس ان رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود ان هذا أغصبنى بقرا فسأله داود فجحد وسأل الاخر البينة ولم تكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر فى أمركما فاوحى اللّه إلى داود فى منامه ان يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست اعجل حتى اثبت فأوحى إليه مرة اخرى فلم يفعل فاوحى إليه الثالثة ان يقتله أو يأتيه العقوبة فارسل داود إليه فقال ان اللّه اوحى الىّ ان أقتلك قال تقتلنى بغير بينة قال نعم واللّه لانفذن امر اللّه فيك فلمّا عرف الرجل انه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك انى واللّه ما أخذت بهذا الذنب ولكنى كنت اغتلت والد هذا فقتلته فلذلك أخذت فامر به داود فقتله فاشتدت
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 161(1/5606)
هيبة فى بنى إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه - وكذا روى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أى النبوة وكمال العلم وإتقان العمل وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) قال البغوي قال على بن أبى طالب رضى اللّه عنه هو ان البينة على المدعى واليمين على من أنكر لان كلام الخصوم ينقطع وينفصل به - قال ويروى ذلك عن أبيّ بن كعب قال فصل الخطاب الشهود والايمان وهو قول مجاهد وعطاء بن أبى رباح وقال قال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل هو البصيرة فى القضاء وقال قال ابن عباس هو بيان الكلام يعنى الكلام الذي يظهر به المقصود على المخاطب من غير التباس يراعى فيه الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ونحوها على ما بين فى علم البلاغة ولا يكون فيه اختصار مخل وإشباع ممل كما جاء فى حديث أم معبد الذي ذكرناه فى سورة التوبة فى قصة الهجرة فى تفسير قوله تعالى فانزل اللّه سكينته عليه وايّده بجنود لّم نزوها فى وصف كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصل لا نزر ولا هذر أى لا قليل مخلّ ولا كثير مملّ وروى عن الشعبي ان فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد اللّه والثناء عليه اما بعد إذا أراد الشروع فى كلام قال البيضاوي انما سمى به اما بعد لأنه يفصل المقصود عمّا سبق مقدمة له من الحمد والصلاة ..(1/5607)
وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام ومعناه التعجب والتشويق إلى استماع القصة والجملة معطوفة على اذكر والخصم فى الأصل مصدر ولذلك يصلح للاطلاق على المثنى والمجموع والمراد هاهنا متخاصمان وانما أورد صيغة الجمع فى قوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُوا مجازا كما فى قوله تعالى فقد صنعت قلوبكما وهو تفعّل من السور كتسنم من السنام ومعناه إذ تصعدوا الْمِحْرابَ (21) أى القلعة سمى محرابا لأنه يحرب عليه أو المراد به المسجد لما انه يحرب فيه من الشيطان وجاز ان يكونوا جماعة كما يدل عليه الصيغة وضمائر الجمع وإذ متعلق بمحذوف أى نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بالنبا على ان المراد به الواقع فى عهد داود وان اسناد اتى إليه على حذف المضاف أى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 162(1/5608)
قصة نبا الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لان إتيانه الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يكن حينئذ - وهذه امتحان داود عليه السلام قال البغوي اختلف العلماء فى سببه فقال قوم سبب ذلك انه عليه السلام تمنى يوما من الأيام منزلة ابائه ابراهيم وإسحاق ويعقوب وسال ربه ان يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم فروى السدىّ والكلبي ومقاتل عن أشياعهم دخل حديث بعضهم فى بعض قالوا كان داود قسّم الدهر ثلاثة اقسام يوم يقضى بين الناس ويوم يخلو فيه لعبادة ربه ويوم لنسائه وأشغاله ق لت واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن انه جزّ الدهر اربعة اجزاء فزاد ويوم للوعظ قالوا وكان داود يجد فيما يقرأ من الكتب فضل ابراهيم وإسحاق ويعقوب فقال يا رب ارى الخير كله قد ذهب به ابائى الذين كانوا من قبلى فاوحى اللّه إليه انهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلى ابراهيم بنمرود وبذبح ابنه وابتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف فقال يا رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم لصبرت أيضا فاوحى اللّه إليه انك مبتلى فى شهر كذا فى يوم كذا فاحترس - فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده اللّه دخل داود محرابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل فى صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وقيل جناحاه من الدر والزبرجد فوقفت بين رجليه فاعجبه حسنها فمديده ليأخذها فيريها بنى إسرائيل فينظروا إلى قدرة اللّه تعالى فلمّا قصد أخذها طارت غير بعيد من غير ان تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت فى كوة فذهب لياخذها فطارت من الكوة فنظر داود اين تقع فيبعث من يصيدها فابصر امراة فى بستان على شط بركة لها تغتسل هذا قول الكلبي وقال السدى راها تغتسل على سطح لها فراى امرأة من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاته فابصرت(1/5609)
ظلة فنقضت شعرها فغطت بدنها فزاده ذلك عجبا فسال عنها فقيل هى تشائع بنت شائع امراة أوريا بن حنانا وزوجها فى غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن اخت داود عليه السلام
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 163
فذكر بعضهم انه أحب ان يقتل أوريا ويتزوج امرأته فكان ذنبه هذا القدر - وذكر بعضهم انه كتب داود إلى ابن أخته أيوب ان ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم التابوت لا يحل له ان يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد وقدّمه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أيضا ان ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أيضا ان ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل فى المرة الثالثة - فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهى أم سليمان عليهما السلام - قال البغوي وعن ابن مسعود انه قال كان فى ذنب داود انه التمس من الرجل ان ينزل عن امرأته قال أهل التفسير كان ذلك مباحا لهم غير ان اللّه لم يرض له ذلك لأنه كان رغبة فى الدنيا وازدياد النساء وقد أغناه اللّه عنها بما أعطاه من غيرها قال البغوي وروى عن الحسن انه كان جزّ الدهر اربعة اجزاء كما ذكر عبد بن حميد وغيره وزاد فلمّا كان يوم وعظ بنى إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه فقالوا هل يأتى على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا فاضمر داود فى نفسه انه سيطيق ذلك وقيل انهم ذكروا(1/5610)
فتنة النساء فاضمر داود فى نفسه انه ان ابتلى اعتصم فلمّا كان يوم عبادته غلق أبوابه وامر ان لا يدخل عليه أحد وأكب على التوراة فبينا هو يقرا إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا قال وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه فكتب إليه ان يسير إلى مكان كذا وكذا مكانا إذا سار إليه قتل ففعل فاصيب فتزوج امرأته قال فلمّا دخل داود بامراة أوريا لم يلبس الا يسيرا حتى بعث اللّه إليه ملكين فى صورة رجلين يوم عبادته فطلبا أى يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه فما شعر وهو يصلى الا وهما بين يديه جالسين يقال كانا جبرئيل وميكائيل عليهما السلام - .
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ بدل من قوله إذ تسوّروا فَفَزِعَ مِنْهُمْ أى خاف داود من الخصم لانهما نزلا عليه من فوق فى يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من دخل عليه قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أى نحن متخاصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 164
هذا الكلام على الفرض وقصد التعريض كانّهم قالوا ان كنا خصمين يعنى بعضنا على بعض فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أى لا تجر يقال شط الرجل شططا وأشط أشطاطا إذا جار فى حكمه والمعنى مجاوزة الحد واصل الكلمة من شطت الدار واشطت إذا بعدت وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) سواء مصدر بمعنى الفاعل صفة للصراط أضيف إليه على طريقة اخلاق ثياب يعنى اهدنا إلى طريق مستوى أى وسطه وهو العدل.(1/5611)
إِنَّ هذا أَخِي أى على دينى وطريقى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أى امراة العرب تكنى المرأة بالنعجة وقال الحسن بن الفضل هذا تعريض للتنبيه والتفهيم إذ لم يكن هناك نعاج والجملة الظرفية خبر بعد خبر لان وَلِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها نَعْجَةٌ واحِدَةٌ الجملة الظرفية منصوب على الحال والعامل فيه الظرف السابق فَقالَ عطف على قوله له تسع وتسعون نعجة أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس اعطنيها وقال مجاهد انزل لى عنها يعنى طلقها لا تزوجها وحقيقته ضمها الىّ واجعلنى اكفّلها كما اكفّل ما تحت يدى وقيل معناه اجعلها كفلى ونصيبى وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) عطف على قال معناه غلبنى فى المخاطبة إياي محاجة قال الضحاك يعنى ان تكلم كان افصح منى وان حارب كان ابطش منى فالغلبة له لضعفى فى يده وان كان الحق معى وقيل معناه غلبنى فى خطبة المرأة أى خطبت المرأة وخطبها هو على خطبتى فغلبنى حتى تزوجها.
قالَ داود بعد اعتراف صاحبه بذلك لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وقيل معناه ان كان الأمر كما تقول فلقد ظلمك والجملة جواب قسم محذوف قصد به المبالغة فى انكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول اخر بالى لتضمنه معنى الاضافة أى ظلمك بسؤال ان يضيف نعجتك إلى نعاجه وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أى الشركاء الذين خلطوا امرا لهم جمع خليط لَيَبْغِي أى ليظلم بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فانهم لا يظلمون أحدا جملة وانّ كثيرا عطف على لقد ظلمك وَقَلِيلٌ ما هُمْ أى وهم قليل وما مزيدة للابهام والتعجب من قلتهم. فلمّا قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعدا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 165(1/5612)
فى السماء وَظَنَّ داوُدُ أى علم وأيقن عطف على قال لقد ظلمك أَنَّما فَتَنَّاهُ يعنى ان اللّه ابتلاه وامتحنه بتلك الحكومة هل يتنبه بها أم لا.
قال السدى بإسناده ان أحدهما لمّا قال انّ هذا أخي الآية قال داود للاخر ما تقول فقال ان لى تسع وتسعون نعجة ولاخى نعجة واحدة وانا أريد ان أخذها منه فاكمّل نعاجى مائة وهو كاره قال إذا لا ندعك فان رمت ذلك ضربت هذا وهذا وهذا يعنى طرف الانف وأصله والجبهة. فقال يا داود أنت احقّ بذلك حيث لم يكن لاوريا الا امراة واحدة ولك تسع وتسعون امراة فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه.(1/5613)
و قال القائلون بتنزيه الأنبياء فى هذه القصة ان ذنب داود انما كان انه تمنى ان يكون امراة أوريا حلالا له فاتفق غزو أوريا وتقدمه فى الحرب فلمّا بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما كان يجزع على غيره من جنده إذا هلك ثم تزوج امرأته فعاتبه اللّه على ذلك لان ذنوب الأنبياء ولو صغرت فهى عظيمة عند اللّه نظرا إلى رفعة شأنهم وقيل كان ذنب داود ان أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها فلما غاب فى غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا فعاتبه اللّه على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امراة - وذكر البغوي حديث انس بن مالك رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان داود النبي حين نظر إلى المرأة فاهم قطع على بنى إسرائيل فاوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدى التابوت وكان التابوت فى ذلك الزمان يستنصريه ومن قدم بين يدى التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة فنزل الملكان يقصان عليه القصة ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول فى سجوده ربّ ذل داود زلة ابعد ممّا بين المشرق والمغرب رب ان لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلوف من بعده فجاءه جبرئيل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود ان اللّه قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود ان الرب قادر على ان يغفر لى الهمّ الذي هممت به وقد عرفت
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 166(1/5614)
انّ اللّه عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمى الذي عند داؤد فقال جبرئيل ما سالت ربّك عن ذلك وان شئت لا فعلن قال نعم فعرج جبرئيل وسجد داؤد فمكث ما شاء اللّه ثمّ نزل فقال سالت اللّه يا داؤد عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداؤد ان اللّه يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لى دمك الذي عند داؤد ويقول هو لك يا رب فيقول ان لك فى الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضا عنه وروى عن ابن عباس وعن كعب الأحبار ووهب بن منبه قالوا جميعا ان داؤد لمّا دخل عليه الملكان فقضى على نفسه فتحولا عن صوريتهما فعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه وعلم داؤد انه انما عنى به فخرسا جدا أربعين يوما لا يرفع راسه الّا لحاجة ولوقت صلوة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادى ربّه عزّ وجلّ ويسئله التوبة وكان من دعائه فى سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلى الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النّور الهى أنت خليت بينى وبين عدوى إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور الهى أنت خلقتنى وكان من سابق علمك ما انا إليه صائر سبحان خالق النور الهى الويل لداؤد إذا كشف عنه الغطاء فيقال هذا داؤد الخاطئ سبحان خالق النور الهى باىّ عين انظر إليك يوم القيامة وانّما ينظر الظالمون من طرف خفى سبحان خالق النور الهى باىّ قدم امشى امامك وأقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين سبحان خالق النور الهى من اين يطلب العبد المغفرة الا من عند سيّده سبحان خالق النور الهى انا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك سبحان خالق النور الهى انا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور الهى الويل لداؤد من الذنب العظيم الذي أصاب سبحان خالق النور الهى قد تعلم سرّى وعلانيتى فاقبل عذرى سبحان خالق النور الهى برحمتك(1/5615)
اغفر
لى ذنوبى ولا تباعدني من رحمتك لهواى سبحان خالق النّور الهى أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبى التي أوبقتني سبحان خالق النور الهى فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلنى من القانطين ولا تحزنى يوم الدّين
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 167
سبحان خالق النور - قال مجاهد فمكث داؤد أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتّى غطى رأسه فنودى يا داؤد اجائع فتطعم أو ظمئان فتسقى أو عار فتكسى فاجيب فى غير ما طلب قال فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حرّ جوفه ثمّ انزل اللّه له التوبة والمغفرة - قال وهب ان داؤد أتاه نداء انى قد غفرت لك قال يا ربّ كيف وأنت لا تظلم أحدا قال اذهب إلى قبر أوريا فناده فانا أسمعه نداءك فتحلل منه قال فانطلق وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبر أوريا ثم ناداه فقال لبّيك من هذا الّذى قطع عنّى لذّتى وأيقظني قال انا داؤد قال ما جاء بك يا نبى اللّه قال أسئلك ان تجعلنى فى حلّ ممّا كان منّى إليك قال وما كان منك الىّ قال عرضتك للقتل قال قد عرضتنى للجنة فانت فى حل فاوحى اللّه إلى داود يا داود الم تعلم انى حكم عدل لا أقضي بالتعنت الا أعلمته انّك قد تزوّجت امرأته قال فرجع إليه فناداه فاجابه فقال من هذا الذي قطع عنى لذّتى قال انا داود قال يا نبى اللّه أ ليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن انما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه فلم يجبه عاوده فلم يجبه فقام عن قبره وجعل يحثو التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل لداود ثم الويل الطويل لداود سبحان خالق النور والويل لداود إذا نصب الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل لداود حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم سبحان خالق النور الويل لداؤد ثم الويل الطويل لداؤد حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النّور - فاتاه نداء من السّماء يا داود قد غفرت(1/5616)
لك ذنبك ورحمت على بكائك واستجبت دعائك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبى لم يعف عنّى قال يا داؤد أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم يسمع أذناه فاقول له رضيت عن عبدى داود فيقول يا رب من اين لى هذا ولم يبلغه عملى فاقول هذا عوض عن عبدى داود فاستوهبك منه فيهبك لى قال يا ربّ الان قد عرفت انّك قد غفرت لى فذلك قوله عزّ وجلّ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لذنبه وَخَرَّ راكِعاً أى ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه وقيل معناه خرّ أى سجد بعد ما كان راكعا كأنَّه احرم بركعتى الاستغفار فسجد فى الصّلوة وَأَنابَ (24) أى رجع إلى اللّه بالتوبة -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 168(1/5617)
و استدلت الحنفية لهذه الآية على انه من قرأ اية السجدة وركع على الفور بنية سجود التلاوة أجزأه لان اللّه سبحانه قال خرّ راكعا اطلق الركوع على السجود فعلم منه ان المقصود هو التعظيم لا خصوصية السجود ومعنى التعظم فيهما واحد والحاجة إلى تعظيم اللّه تعالى اما اقتداء بمن عظّم أو مخالفة لمن استكبر وهذا هو الظاهر فلهذا سمى قياسا - وقالت الائمة الثلاثة لعدم اجزاء الركوع عن السجود وهو الاستحسان وجه الاستحسان ان الواجب التعظيم بجهة مخصوصة وهى السجود بدليل انه لو لم يركع على الفور حتى طاعت القراءة ثم نوى ان يقع الركوع عن السجدة لا يجوز اجماعا وتسمية السجود بالركوع فى هذه الآية غير مسلم ولو سلم فهو مجاز محض وذلك لا يقتضى قيام أحدهما مقام الاخر - واختار أبو حنيفة رحمه اللّه هاهنا القياس على الاستحسان لقوة تأثيره وذلك باعتضاده بما روى عن ابن مسعود وابن عمر انهما كانا أجازا ان يركع عن السجود فى الصلاة ولم يرو من غيرهما خلاف ذلك ولا ترجيح للقياس الخفي بخفائه ولا للظاهر بظهوره بل يرجع فى الترجيح إلى ما اقترن بهما من المعاني وقوة القياس الظاهر المتبادر بالنسبة إلى الخفي المعارض له فى غاية العلة فلذا حصروا مواضع تقديم القياس على الاستحسان فى بضع عشر موضعا يعرف فى الأصول هذا أحدها ولا حصر لمقابله - (مسئلة) ولو ركع على فور تلاوة اية السجدة ولم ينو للتلاوة ثم سجد سقط سجدة التلاوة بالسجدة الصلاتية نوى أو لم ينو وكذا لو قرأ بعد اية السجدة اية أو ايتين عند أبى حنيفة(1/5618)
رحمه اللّه خلافا للجمهور وفى ثلاث آيات اختلفت الرواية عن أبى حنيفة وفيما زاد على الثلاث لا ينوبه ركوع ولا سجدة صلاتية سواء نوى أو لم ينو - (مسئلة) ويجب عليه قضاء سجدة التلاوة ما دام فى الصلاة عند أبى حنيفة رحمه اللّه كذا قال جمهور الحنفية وظن محمد بن سلمة ان قيام السجدة الصلبية مقام سجدة التلاوة قياس وفى الاستحسان لا يجوز لان السجدة الصلاتية قائم مقام نفسها بأ فلا يقوم مقام غيرها كصوم يوم من رمضان لا يجوز ان يقوم عن نفسه وعن قضاء يوم اخر
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 169(1/5619)
فالقياس فيه مقدم على الاستحسان واما قيام الركوع مقام سجدة التلاوة فالقياس يأبى عنه وهو الظاهر وفى الاستحسان يجوز وهو الخفي فهو من باب تقديم الاستحسان على القياس - (مسئلة) يجب السجود على من تلا هذه الآية من ص عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعند مالك سنة كقوله فى مطلق سجود التلاوة وكذا عند احمد فى احدى الروايتين وقال الشافعي واحمد فى الرواية المشهور عنه انها سجدة شكر يستحب فى غير الصلاة ولا يجوز فى الصلاة احتج ابن الجوزي على انها ليست من عزائم السجود بحديث ابن عباس قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسجد فى ص قال ابن عباس وليست من عزائم السجود - رواه ابن الجوزي من طريق الترمذي وقال قال الترمذي هذا حديث صحيح قلت ورواه البخاري فى الصحيح عن ابن عباس قال سجدة ص ليس من عزائم السجود وقد رايت النبي صلى اللّه عليه وسلم يسجد فيها وفى رواية قال مجاهد قلت لابن عباس أ اسجد فى ص فقرأ ومن ذرّيّته داود وسليمان حتى اتى على قوله فبهديهم اقتده فقال نبيكم ممن امر ان يقتدى بهم وهذا يقتضى الوجوب فهو حجة لنا لا علينا وقول ابن عباس ليست من عزائم السجود موقوف يعارضه قوله نبيكم صلى اللّه عليه وسلم أمران يقتدى بهم والمرفوع فعله صلى اللّه عليه وسلم واحتج ابن الجوزي أيضا بحديث أبى سعيد الخدري قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما قرأ ص فلمّا مرّ بالسجود نزل فسجد وسجدنا معه وق رأها اخرى فلما بلغ السجدة نشرنا للسجود فلما رأنا قال انما هى سجدة توبة نبى ولكنى أراكم قد استعددتم للسجود فنزل فسجد وسجدنا - رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى وهذا أيضا ممّا لا حجة علينا فيه غاية ما فى الباب ان يكون فيه دلالة على عدم وجوب سجود التلاوة مطلقا كما قال به الجمهور وهو المختار عندى للفتوى وبه قال الطحاوي من الحنفية خلافا لابى حنيفة رحمه اللّه ولنا أيضا حديث أبى هريرة ان النبي صلى(1/5620)
اللّه عليه وسلم سجد فى ص - رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى وحديث أبى سعيد ان رسول اللّه سجد فى ص - رواه الطحاوي وأبو داود والحاكم و
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 170
ذكر البيهقي عن جماعة من الصحابة انهم سجدوا فى ص عن السائب بن يزيد قال صليت خلف عمر الفجر فقرأ بنا سورة ص فسجد فيها فلمّا قضى الصلاة قال له رجل يا امير المؤمنين من عزائم السجود هذه فقال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسجد فيها - وعن أبى مريم قال لمّا قدم عمر الشام اتى محراب داود فصلى فيه فقرأ سورة ص فلمّا انتهى إلى السجدة سجد وحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم سجد فى ص وقال سجدها داود توبة ونسجدها شكرا - رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا ورواه الدار قطنى ورواه الشافعي فى الام عن ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وروى من وجه اخر من حديث عبد اللّه بن بزيع عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأعله بابن بزيع قال قال ابن عدى ليس ممن يحتج به وصححه ابن السكن كذا قال ابن حجر قال ابن همام غاية ما فيه انه صلى اللّه عليه وسلم بين السبب فى حق داود والسبب فى حقنا كون الشكر سببا لا ينافى الوجوب فان الفرائض والواجبات انما وجبت شكرا لتوالى النعم وفى مسند أبى حنيفة روى أبو حنيفة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري عن أبى موسى(1/5621)
ان النبي صلى اللّه عليه وسلم سجد فى ص - واخرج احمد عن بكر بن عبد اللّه المزني عن أبى سعيد رضى اللّه عنه قال رايت رويا وانا اكتب سورة ص فلمّا بلغت السجدة رايت الدوات والقلم وكل شىء يحضرنى انقلب ساجدا قال فقصصتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يسجدها قال ابن همام فافادان الأمر صار إلى المواظبة عليها كغيرها من غير ترك واستقر عليه بعد ان كان قد لا يعزم عليها فظهر ان ما رواه ان تمت دلالته كان قبل هذه القصة - (فصل) عن ابن عباس قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه رايتنى الليلة وانا نائم كانى أصلي خلف شجرة فسجدتّ فسجدت الشجرة بسجودى فسمعتها تقول اللهم اكتب لى بها عندك اجرا وضع عنى بها وزرا واجعلها لى عندك زخرا وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود قال ابن عباس فسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ سجدة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 171
ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة - رواه الترمذي (و قال هذا حديث غريب) وابن حبان والحاكم وكذا روى ابن ماجة الا انه لم يذكر وتقبلها منى كما تقبلت من عبدك داود.(1/5622)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أى ما استغفر عنه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا بعد المغفرة لَزُلْفى أى قربا غير متكيف ومكانة حصلت بكمال الندم والاستغفار بحيث لولا تلك الزلة لما حصلت وقيل معناه وانّ له زلفى أى زيادة خير فى الدنيا ومكانة وَحُسْنَ مَآبٍ (25) حسن مرجع ومنقلب فى الاخرة - قلت والظاهر ان من روى ان داود عليه السلام بعث مرة بعد مرة أوريا إلى المغازي وأراد منه ان يقتل ليتزوج بعده زوجته فهو كذب مفترى حاشاه عن ذلك وعامة ما يدل عليه لفظ القرآن انه عليه السلام ودّ ان يكون له ما لغيره وكان له تسعا وتسعين من أمثاله فنبهه اللّه بهذه القضية فاستغفروا ناب عنه قال صاحب المدارك روى ان أهل زمان داود عليه السلام كان يسئل بعضهم بعضا ان ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكان لهم عادة فى المواساة بذلك كما كان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك فاتفق ان عين داود عليه السلام وقعت على امراة أوريا فاحبها فساله النزول له عنها واستحيى أوريا ان يرد قوله ففعل فتزوجها - قلت ولم يفعل داود عليه السلام مثل ما فعل نبينا صلى اللّه عليه وسلم حين أعجبته زينب حيث قال لزيد امسك عليك زوجك واتّق اللّه فزوجها اللّه إياه ولاجل ذلك عاتب اللّه داود عليه السلام فاستغفر ربّه وأناب ولفظ القرآن يؤيد هذه الرواية حيث ادعى المدعى بقوله قال أكفلنيها وعزّنى فى الخطاب ولم يقل أراد قتلى وحكم داود بانه قد ظلمك بسؤال لعجتك إلى نعاجه واللّه اعلم - قال البغوي قال وهب بن منبه ان داود لما تاب اللّه عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة ولا يرتى ادمعه ليلا ولا نهارا وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على اربعة ايام يوم للقضاء بين بنى إسرائيل ويوم لنسائه ويوم يسبح فى الفيافي والجبال ويوم يخلو فى داره فيها اربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 172(1/5623)
معهم على نفسه فيساعدونه على ذلك فإذا كان يوم سياحتهم يخرج فى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكى ويبكى معه الجبال والحجارة والدواب والطير حتى يسيل اودية من بكائهم ثم يجئ إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكى أو يبكى معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع فإذا امسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه ان اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده فيدخل الدار التي فيها المحاريب فبسط ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجئ اربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفى أيديهم العصا فيجلسون فى تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكى حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ ويضطرب فيجئ ابنه سليمان عليهما السلام فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح وجهه ويقول يا رب اغفر لى ما ترى فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله قال وهب ما رفع داود رأسه حتى قال له ملك أول أمرك ذنب وآخره مغفرة ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء الا مزجه بدموعه ولا يأكل الطعام إلا بله بدموعه وذكر الأوزاعي مرفوعا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان مثل عينى داود كالقربتين تنفطان ماء ولقد خدت الدموع فى وجهه كخديد الماء فى الأرض - قال وهب لمّا تاب اللّه على داود قال يا رب غفرت لى فكيف لى ان لا انسى خطيئتى فاستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة قال فرسم اللّه خطيئته فى يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا الا بكى إذا راها وما كان خطيبا للناس الا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا رسم خطيئته وكان يبدئ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه - وقال قتادة عن الحسن كان داود بعد الخطيئته لا يجالس الا الخاطئين يقول تعالوا إلى داود الخاطئ ولا يشرب شرابا الا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس فى قطعة فلا يزال(1/5624)
يبكى حتى يبل بدموع عينيه وكان يذر عليه الملح والرماد فياكل ويقول هذا أكل الخاطئين - قال وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر فلمّا كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله وقال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 173
ثابت كان داود إذا ذكر
عقاب اللّه تخلعت أوصاله فلا يشدها الا الاسر وإذا ذكر رحمة اللّه تراجعت - وفى القصة ان الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته فلمّا فعل ما فعل كانت لا تصغى إلى قراءته فروى انها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك - .
يا داوُدُ تقديره وقلنا يا داود معطوف على قوله فغفرنا له ذلك إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك أو جعلناك خليفة « 1 » ممن قبلك من الأنبياء العالمين بالحق فَاحْكُمْ الفاء للسببية بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أى بحكم اللّه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى عطف على فاحكم أى لا تتبع ما يهويه نفسك فَيُضِلَّكَ منصوب فى جواب النهى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى عن دلائله التي نصبها اللّه على الحق فيه دليل على انه من اتبع هواه اختل رايه وضل فى اجتهاده كما ترى فى اثنين وسبعين فرقة ممن يدعى الإسلام إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) أى بسبب نسيانهم يوم الحساب فان تذكر ذلك اليوم يقتضى ملازمته ومخالفة الهوى والجملة مستأنفة - .
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا لا حكمة فيه أو ذوى باطل يعنى مبطلين عابثين أو للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو الاستدلال على وجود الصانع وشكر نعمته بامتثال أوامره وانتهاء مناهيه جملة معترضة وكذلك قوله ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا حيث ينكرون البعث وينكرون ثواب المطيع لمن خلق وعذاب
_________
((1/5625)
1) عن عمر بن الخطاب انه سال طلحة والزبير وكعبا وسلمان ما الخليفة من الملك فقال طلحة والزبير ما ندرى فقال سلمان الخليفة الذي يعدل فى الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على اهله ويقضى بكتاب اللّه فقال كعب ما كنت احسب ان فى المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيرى. وعن سلمان ان عمر قال له انا ملك أو خليفة فقال سلمان ان أنت جئت من ارض المسلمين درهما أو أقلّ أو اكثر ثم وضعته فى غير حقه فانت ملك غير خليفة فاستعبر عمر - وعن سليمان بن أبى العوجاء قال قال عمر بن الخطاب ما أدرى ا خليفة انا أم ملك قال قائل يا امير المؤمنين ان بينهما فرقا قال ما هو قال الخليفة لا يأخذ الا حقا ولا يضعه الا فى حق وأنت بحمد اللّه كذلك والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطى هذا فسكت عمر - وعن معاوية انه كان يقول إذا جلس المنبر يا أيها الناس ان الخلافة ليست بجمع المال ولا بتفريقه ولكن الخلافة العمل بالحق والحكم بالعدل وأخذ الناس بامر اللّه منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 174
العاصي وذلك يقتضى كون خلقها عبثا لا حكمة فيه فَوَيْلٌ التنكير للتعظيم والفاء للسببية لِلَّذِينَ كَفَرُوا وضع المظهر موضع الضمير للذم والتقبيح مِنَ النَّارِ (27) من السببية.(1/5626)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة لانكار التسوية بين الفريقين التي هى من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه وبل للاضراب عما سبق من ظن بطلان خلق السماوات والأرض وكذا التي فى قوله أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) أنكر اولا التسوية بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم ويجوز ان يكون تكريرا للانكار الأول باعتبار الوصفين الأخيرين المانعين التسوية من الحكيم وهذه الآية برهان عقلى تدل على وجوب القول بالحشر إذ لا تفاضل بينهما فى الدنيا غالبا بل الغالب فيها عكس ما يقتضيه الحكمة فلا بد ان يكون لهم محل اخر يجازون فيها وقال مقاتل قال كفار قريش انا نعطى فى الاخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية .
كِتابٌ أى هذا القرآن كتاب من اللّه أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير خير ونفعة لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أى ليتفكروا فيها يعنى تتفكر أنت وعلماء أمتك فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة أو يتفكر كل من له عقل فيعلم انه من اللّه ولا يتصور إتيانه من البشر قال الحسن تدبر آياته اتباعها وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) أى ليتعظ به ذوى العقول السليمة أو يستحضروا ما هو المركوز فى عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فان الكتب الالهية بيان لما لا يعرف الا من الشرع وارشاد إلى ما لا يستقل به العقل ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر للثانى ..
وَوَهَبْنا عطف على قوله فغفرنا له وما بينهما معترضات لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) تعليل للمدح لأنه رجاع إلى اللّه تعالى بالتوبة أو إلى التسبيح مرجع له.(1/5627)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف لاوّاب أو لنعم والضمير لسليمان بِالْعَشِيِّ أى فى العشى يعنى بعد الظهر الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) الصافن من الخيل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 175
الذي يقوم على ثلاثة قوائم وطرف حافر الرابع وهى من الصفات المحمودة فى الخيل والجياد جمع جواد أو جود وهو الذي يسرع فى جريه وقيل جمع جيد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق قيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية اعنى إذا وقف كانت ساكنة مطمئنة فى مواقفها وإذا سارت كانت خفافا سراعا قال الكلبي غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين وأصاب منهم الف فرس وقال مقاتل ورث سليمان من أبيه داود الف فرس ويرد هذا القول ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة - أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابراهيم التيمي قال كانت عشرين الف فرس ذات اجنحة فعقرها واخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عوف عن الحسن قال بلغني ان الخيل التي عقر سليمان كانت خيلا ذوات اجنحة أخرجت له من البحر لم يكن لاحد قبله ولا بعده - وذكر البغوي عن عكرمة قال كانت عشرين الف فرس لها اجنحة وقالوا فصلى سليمان صلوة الظهر وقعد على كرسيه وهى تعرض عليه فعرضت عليه تسع مائة فتنبه لصلوة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك ..(1/5628)
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ عطف على جمل محذوفة تقديره إذ عرض عليه بالعشيّ الصّافنات الجياد فاشتغل بها حتى فاته العصر فقال انّى أحببت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أى اثرت حب الخير أى المال الكثير والمراد به الخيل التي شغله أو اطلق الخير على الخيل لان العرب تعاقب بين اللام والراء فيقول ختلت الرجل وخترته أى خدعته وقيل سميت الخيل خيرا لأنه معقود فى نواصيها الخير قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة الاجر والمغنم - روى هذا الحديث فى الصحيحين وغيرهما عن عدة من الصحابة وكان الأصل ان يعدى أحببت بمعنى اثرت بعلى لكن لمّا أنيب مناب أنبت عدى بعن وقيل أحببت بمعنى تقاعدت وحبّ الخير منصوب على العلية والمعنى تقاعدت لحب الخير فى القاموس أحب البقر برك فلم يثر حَتَّى تَوارَتْ أى الشمس أضمرت من غير ذكرها لدلالة العشىّ عليها بِالْحِجابِ (32)
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 176
اى غربت واستترت بما يحجبها عن الابصار قال البغوي يقال الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة والشمس تغرب من ورائه.(1/5629)
رُدُّوها عَلَيَّ بتقدير القول عطف على قال انّى أحببت وقال ردّوها أى الصافنات علىّ فردوها عليه فَطَفِقَ أى أخذ عطف على قال ردّوها علىّ مَسْحاً أى يمسح السيف مسحا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) أى بسوقها وأعناقها يعنى قطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل واكثر المفسرين أخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال عقرها بالسيف واخرج الطبراني فى الأوسط والإسماعيلي فى معجمه وابن مردوية بسند حسن عن أبى بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال قطع سوقها وأعناقها بالسيف وكان ذلك بإذن اللّه تعالى توبة عما غفل من ذكره وتقربا إليه وطلبا لمرضاته. قال الحسن فلمّا عقر الخيل أبدله اللّه خيرا منها واسرع وهى الريح تجرى بامره وقال بعض المفسرين انه ذبحها وتصدق بلحومها وكان لحوم الخيل حلالا كما هو فى شريعتنا عند الجمهور خلافا لابى حنيفة فانه قال يكره - وقال قوم معناه انه حبسها فى سبيل اللّه وكوى سوقها وأعناقها بكى الصدقة وقال البغوي حكى عن على كرم اللّه وجهه فى قوله ردّوها علىّ يقول سليمان بامر اللّه تعالى للملائكة المؤكلين بالشمس ردّوها أى الشمس علىّ فردوها عليه حتى صل العصر فى وقتها وذلك انه كان يعرض عليه الخيل للجهاد فى سبيل اللّه حتّى توارت بالحجاب وقال الزهري وابن كيسان يمسح سوقها وأعناقها بيده يكشف الغبار عنها حبّا لها وشفقة عليها قال البغوي هذا قول ضعيف والمشهور هو الأول قلت ويأبى عن هذا القول ما قال سليمان تأسفا انّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى حتّى توارت بالحجاب ..(1/5630)
وَ لَقَدْ فَتَنَّا أى اختبرنا وابتلينا سُلَيْمانَ جواب قسم محذوف عطف على وهبنا وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال لاطرفن الليلة على تسع وتسعين امراة وفى رواية بمائة امراة كلهن يأتى بفارس يجاهد فى سبيل اللّه فقال له الملك قل ان شاء اللّه فلم يقل ونسى فطاف عليهن فلم تحمل منهن الا امراة واحدة جا ءت يشق رجل وايم الذي نفس محمد بيده
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 177
لو قال ان شاء اللّه لجاهدوا فى سبيل اللّه فرسانا أجمعون. متفق عليه قيل فجاءت القابلة بذلك الشق فالقت على كرسيه فذلك قوله تعالى ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسدا ثُمَّ أَنابَ (34) أى رجع عن ترك الاستثناء فى المستقبل كذا قال طاؤس وهذا التأويل اولى الأقاويل لقوة حديث الصحيحين والقول بتنزيه الأنبياء عن السوء ولان الجسد جسم لا روح فيه فيصدق على هذا التأويل بلا تمحل - واخرج الطبراني فى الأوسط وابن مردوية بسند ضعيف عن أبى هريرة انه قال ولد لسليمان ابن فقالت الشياطين ان عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا ان نقتله أو نخبله فعلم ذلك سليمان فكان يقدوه فى السحاب خوفا من غرة الشياطين فما شعر به الا ان القى على كرسيه ميتا فتنة على زلته فى ان لم يتوكل فيه على ربه.(1/5631)
و قال البغوي ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال سمع سليمان عليه السلام بمدينة فى جزيرة البحر يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه فى البحر وكان اللّه قد اتى سليمان فى ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شىء فى بر ولا بحر انما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والانس فقتل ملكها واستفاء ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم يروا مثلها حسنا وجمالا واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فاسلمت على جفاء منها وأحبها حبّا شديدا لم يحب شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده ولا تذهب حزنها ولا يرقى دمعها فشق ذلك على سليمان فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا تذهب والدمع الذي لا يرقى قالت ان أبى اذكره واذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب به فيحزننى ذلك قال سليمان فقد أبدلك اللّه به ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا هو أعظم من سلطانه وهداك الإسلام وهو خير من ذلك كله قالت ذلك كذلك ولكنى إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته فى دار التي انا فيها وأراها بكرة وعشية لرجوت ان يذهب ذلك حزنى وان يسلّى عنى بعض ما أجد فى نفسى فامر سليمان الشياطين فقال مثلو لها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 178(1/5632)
صورة أبيها فى دارها حتى لا ينكر منها شيئا فماثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه الا انه لا روح فيه فعمدت إليه حين صنعوه فاردّته وقمّصته وعمّمته بمثل ثيابه التي كان يلبسها - ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه فى ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له كما كانت تصنع فى ملكه وتروح عشية بمثل ذلك - وسليمان لا يعلم بشئ من ذلك أربعين صباحا فبلغ ذلك اصف بن برخياء وكان صديقا وكان لا يرد عن أبواب سليمان أى ساعة أراد دخول شىء من بيوته دخل حاضرا كان سليمان أو غائبا فاتاه فقال يا نبى اللّه كبر سنى ورق عظمى ونفد عمرى وقد حان منى الذهاب فقد أحببت ان أقوم مقاما قبل الموت اذكر فيه من مضى من أنبياء اللّه واثنى عليهم بعلمي فيهم واعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم فقال افعل.(1/5633)
فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء اللّه تعالى واثنى على كل نبى بما فيه فذكر ما فضله اللّه حتى انتهى إلى سليمان فقال ما أحلمك فى صغرك واورعك فى صغرك وأفضلك فى صغرك واحكم أمرك فى صغرك وأبعدك عن كل ما تكره فى صغرك ثم انصرف فوجد سليمان فى نفسه من ذلك شيئا حتى ملاه غضبا فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال يا اصف ذكرت من مضى من أنبياء اللّه فاثنيت عليهم خيرا فى كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتنى جعلت تثنى علىّ الخير فى صغرى وسكتّ عما سوى ذلك من امرى فى كبرى فما الذي أحدثت فى اخر امرى فقال ان غير اللّه ليعبد فى دارك منذ أربعين صباحا فى هوى امراة فقال فى دارى فقال فى دارك فقال انّا للّه وانّا إليه راجعون لقد عرفت انك ما قلت الذي قلت الا عن شىء بلغك ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة ولايدها ثم امر شاب الطهارة فأتى بثياب لا يغزلها الا الابكار ولا ينسجها الا الابكار ولا تغسلها الا الابكار ولم تمسها امرأة قد رأت الدم ثم لبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده فامر برماد ففرش له ثم اقبل تائبا إلى اللّه حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذلّلا للّه وتضرعا إليه يبكى ويدعو ويستغفر مما كان هو فى داره فلم يزل كذلك حتى امسى ثم رجع إلى داره -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 179(1/5634)
و كانت له أم ولد يقال لها الامينة كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امراة من نسائه ومنع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمس خاتمه الا وهو طاهر وكان ملكه فى خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه - فاتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال خاتمى يا امينة فناولته إياه فجعله فى يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والجن والانس - وخرج سليمان فاتى الامينة وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من راه فقال يا امينة خاتمى فقالت من أنت فقال أنا سليمان بن داود قالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان ان خطيئته قد أدركته فجعل يقف على الدور من دور بنى إسرائيل فيقول انا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون انظروا إلى هذا المجنون اىّ شىء يقول يزعم انه سليمان فلمّا راى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لاصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع سمكة بارغفة وشوى الاخرى فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد الوثن فى داره - فانكر اصف وعلماء بنى إسرائيل حكم عدو اللّه الشيطان فى تلك الأربعين فقال اصف يا معشر بنى إسرائيل هل رايتم من اختلاف حكم ابن داود ما رايت قالوا نعم قال أمهلوني حتى ادخل على نسائه فاسئلهن هل انكرتن منه فى خاصة امره ما أنكرنا فى عامة امر الناس وعلانيته فدخل على نسائه فقال ويحكن هل انكرتن من ابن داود ما أنكرنا فقلن أشده ما يدع منا امراة فى دمها ولا يغتسل من الجنابة فقال انّا للّه وانّا إليه راجعون انّ هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بنى إسرائيل فقال ما فى الخاصة أعظم ممّا فى العامة - فلمّا مضى أربعون صباحا طار الشيطان من مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فاخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشى أعطاه سمكتيه وأعطاه(1/5635)
السمكة التي أخذت الخاتم وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس فى بطنها الخاتم بالارغفة ثم عمد إلى السمكة الاخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه فى جوفها فاخذه فجعله فى يده ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجنّ واقبل عليه الانس وعرف ان الذي كان قد دخل عليه لما كان أحدث فى داره فرجع
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 180
ملكه واظهر التوبة من ذنبه وامر الشياطين فقال أتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته فاتى به فحاب له صخرة « اى قطع وكل شىء قطع وسطه فهو محوب نهاية منه ره » فادخله فيها ثم شد عليه اخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم امر به فقذف فى البحر هذا حديث وهب - وقال السدى كان سبب قصة سليمان انه كان له(1/5636)
مائة امراة وكانت امراة منهن يقال لها جرادة هى اثر نسائه وامنهن عنده وكان يأتمنها على خاتمه إذا اتى حاجته فقالت له يوما ان أخي بينه وبين فلان خصومة وانا أحب ان تقضى له إذا جاءك فقال نعم ولم يفعل فابتلى بقوله فاعطاها خاتمه ودخل المخرج فجاء الشيطان فى صورته فاخذه وجلس على مجلس سليمان وخرج سليمان فسالها خاتمه فقالت الم تأخذه قال لا وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما فانكر الناس حكمه فاجتمع قراء بنى إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه فقالوا انا أنكرنا هذا فان كان سليمان فقد ذهب عقله فبكى النساء عند ذلك فاقبلوا حتى أحد قوابه ونشروا التورية فقرؤها فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه فى البحر فابتعله حوت واقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صياد البحر وهو جائع قد اشتد جوعه فاستطعمه من صيده وقال انى انا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فاعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فشق بطنهما وجعل يغسلهما فوجد خاتمه فى بطن إحداهما فلبسه فرد اللّه عليه ملكه وبهاءه وحامت عليه الطير فعرف القوم انه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال ما أؤاخذكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا امر كان لا بد منه ثم جاء حتى اتى ملكه وامر حتى اتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه ، وجعله فى صندوق من حديد ثم أطبق عليه واقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه وامر به فالقى فى البحر وهو حيى كذلك حتى الساعة - وروى عن سعيد بن المسيب قال احتجب سليمان عن الناس ثلاثة ايام فاوحى اللّه إليه احتجبت عن الناس ثلاثة ايام فلم تنظر فى امور عبادى فابتلاه اللّه عزّ وجلّ وذكر حديث
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 181(1/5637)
الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما ذكرنا - وقال الحسن ما كان اللّه ليسلط الشيطان على نسائه انتهى كلام البغوي.
و أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وابن جرير عن السدى والنسائي وابن مردوية عن ابن عباس فذكروا القصة نحو حديث وهب بن منبه لكن فى بعض الطرق ان صخر الجنى لما جلس على سرير سليمان نفذ حكمه فى كل شىء الا فيه وفى نسائه وكذا قال الحسن فيما ذكر البغوي انه ما كان اللّه ليسلط الشيطان على نسائه - وقال بعض المفسرين حديث الخاتم والشيطان والوثن فى بيت سليمان من أباطيل اليهود لعنهم اللّه وقال البغوي ان فى بعض الروايات ان سليمان لمّا افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه لملكه فاعاده سليمان إلى يده فسقط فايقن سليمان بالفتنة فاتى اصف وقال لسليمان انك لمفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك فى يدك اربعة عشر يوما ففر سليمان إلى سربه وأخذ اصف الخاتم فوضعه فى إصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال اللّه تعالى وألقينا على كرسيّه جسدا فاقام اصف فى ملكه على سيرته اربعة عشر يوما إلى ان رد اللّه على سليمان ملكه فجلس على كرسيه فاعاد الخاتم فى يده فثبت قلت والدليل على بطلان رواية وهب ان فى تلك الرواية انه غزا جزيرة يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه فى البحر فخرج سليمان إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده - والقران ينطق ان تسخير الريح لسليمان انما كان بعد تلك الفتنة والانابة حيث قال اللّه تعالى فسخّرنا له الرّيح يعنى بعد الفتنة والانابة وقوله ربّ هب لى ملكا إلى آخره - قلت وعلى تقدير صحة تلك القصة لا يلزم سليمان صدور معصية فان اتخاذ التماثيل كان جائزا وسجود الصورة بغير علمه لا يضره - .(1/5638)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي بيان للانابة قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين بتقديم الاستغفار على السؤال قرأ نافع وأبو عمر « و أبو جعفر - أبو محمد » من بعدي بفتح الياء والباقون بإسكانها - فى سياق هذا الكلام دلالة على ان فتنة سليمان انما كان ابتلاء من اللّه تعالى إياه لرفع درجاته فى الدنيا والاخرة كفتنة أيوب
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 182
عليه السلام ولم يكن فيها زلّة ومعصية من سليمان عليه السلام والا لبالغ فى الندم والاستغفار ولم يسئل غير المغفرة والتوبة ولقال اللّه سبحانه فغفرنا له ذلك كما قال فى قصة داود عليه السلام قال مقاتل وابن كيسان أى لا يكون من بعدي لاحد وقيل معنى من بعدي من سوائى كما فى قوله تعالى فمن يهديه من بعد اللّه وقال عطاء بن أبى رباح يريد هب لى ملكا لا تسلبنه فى اخر عمرى وتعطيه غيرى كما سلبته آنفا قيل سال سليمان ذلك ليكون اية لنبوته ومعجزة له قال مقاتل كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله لا ينبغى لاحد من بعدي تسخير الرياح والطير والشياطين بدليل ما بعده عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علىّ صلاتى فامكننى اللّه منه فاخذته فاردت ان اربطه على سارية من سوارى المسجد حتى ينظر له كلكم فذكرت دعوة أخي.(1/5639)
سليمان ربّ هب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدي فرددته خاسئا. متفق عليه قلت ويمكن انه أراد به لا ينبغى لاحد من بعدي فى المرتبة قال ذلك شفقة على الناس يعنى من كان مثلى فى انقطاع التعلقات عن الخلق واشتغال قلبه بحب اللّه ومعرفته لا يضره ولا يشغله عن اللّه شىء فكان له الدنيا وسيلة لكسب الحسنات ومن لم يكن كذلك كانت الدنيا له شاغلا عن اللّه فكانت له سمّا قاتلا - فان قيل الحديث يأبى عمّا قلت فان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان أعلى مرتبة من سليمان ولم يكن يعط ملكا مثله ولذلك لم يربط العفريت بالسارية قلنا نعم انه صلى اللّه عليه وسلم كان أعلى مرتبة من سليمان ولكن لا نسلم انه لم يعط ملكا مثله لاجل دعائه بل اللّه سبحانه خيّره بين ان يكون نبيّا ملكا أو يكون نبيا عبدا فاختار كونه نبيّا عبدا لكون الفقر أفضل عنده ودلّ هذا الحديث أيضا على ان اللّه تعالى مكنه على العفريت ان يربطه بالسارية لكنه صلى اللّه عليه وسلم لم يربط باختياره حياء من سليمان عليه السلام وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم نافذا حكمه على الجن والانس
تأتى بدعوته الأشجار ساجدة تمشى إليه على ساق بلا قدم
لكن كان عيش الفقراء وزيّهم مرعوبا عنده - وكذا الخلفاء الراشدون جمعوا بين الخلافة والفقر وحازوا فضائل الفريقين صلى اللّه تعالى عليه وعلى خلفائه واله وأصحابه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 183
أجمعين إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) المعطى ما تشاء لمن تشاء لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ..(1/5640)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ قرأ أبو جعفر الرّياح على الجمع والباقون على الافراد بارادة الجنس والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديره فاستجبنا دعاءه فسخرنا له أى ذلّلنا لطاعته الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ الجملة صفة للريح على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى أو حال منه كقوله رُخاءً لينة لا تزعزع أو لا تخالف إرادته حَيْثُ أَصابَ (36) ظرف لتجرى يعنى حيث أراد يقول العرب أصاب الصواب فاخطا الجواب أى أراد الصواب.
وَالشَّياطِينَ أى وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون الحصون والقصور وَغَوَّاصٍ (37) يستخرجون له اللآلي من البحر وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر كلّ بدل من الشياطين.
وَآخَرِينَ عطف على كلّ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) مشددين فى القيود فصّل الشياطين إلى عملة استعملهم فى الأعمال الشاقة كالبناء والغواص ومردة فرق بعضهم مع بعض فى السلاسل ليكفوا عن الشر قلت لعله لم يسلط على إبليس لما سبق له من الوعد بانّك من المنتظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
هذا عَطاؤُنا أى قلنا له هذا الذي أعطيناك من الملك والبسط والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا فَامْنُنْ أى فاعط من شئت أَوْ أَمْسِكْ عمن شئت بِغَيْرِ حِسابٍ (39) حال من المستكن فى الأمر أى غير محاسب على منّه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك قال الحسن ما أنعم اللّه على أحد نعمة الا عليه تبعة الا سليمان فانه ان اعطى اجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعه وجاز ان يكون حالا من العطاء أو صلة له وما بينهما اعتراض يعنى عطاء كثيرا لا يمكن احصاؤه وقال مقاتل هذا يعنى تسخير الشياطين عطاؤنا أعطيناكه فامنن يعنى خل منهم من شئت وامسك منهم فى وثاقك من شئت لا تبعة عليك فى إطلاقها ولا فى وثاقها.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى فى الاخرة مع ما له من الملك العظيم فى الدنيا وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وهو الجنة - .(1/5641)
وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ عطف بيان لعبدنا والجملة عطف على واذكر عبدنا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 184
داود إِذْ نادى رَبَّهُ بدل اشتمال من عبدنا أَنِّي مَسَّنِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها وانّ مع جملته حكاية لكلامه الذي نادى به الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ قرأ أبو جعفر بضم النون والصاد ويعقوب بفتحهما والباقون بضم النون وسكون الصاد ومعنى الكل واحد أى بمشقة وضرّ وَعَذابٍ (41) أى والم قال مقاتل وقتادة بنصب فى الجسم وعذاب فى المال وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة بلائه فى سورة الأنبياء عليهم السلام فلما انقضت مدة بلائه امره اللّه تعالى ان.
ارْكُضْ جملة مستأنفة بتقدير قلنا له اركض بِرِجْلِكَ أى اضرب برجلك الأرض هذا مُغْتَسَلٌ هذه الجملة مبنية على جملة محذوفة تقديره فركض فخرجت عين فقلنا له هذا مغتسل بارِدٌ اغتسل منه فذهب كل داء كان بظاهره وَشَرابٌ (42) اشرب منه فذهب كل داء كان بباطنه وقيل نبعت عينان بركضتين حارة وباردة فاغتسل من إحداهما وشرب من الاخرى أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال ركض برجله اليمنى فنبعت عين وضرب بيده اليمنى خلف ظهره فنبعت عين فشرب من إحداهما واغتسل من الاخرى.(1/5642)
وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ عطف على مفهوم كلام سابق أى فشفيناه ووهبنا له اهله وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ عطف على اركض وعلى هذا وهبنا له إلى آخره جملة معترضة أو هى معطوفة على وهبنا بتقدير وقلنا له خذ بِيَدِكَ ضِغْثاً وهو ملأ الكف من الشجر والحشيش فَاضْرِبْ بِهِ امرأتك وَلا تَحْنَثْ فى يمينك وكان قد حلف ان يضربها مائة سوط فاخذ مائة عود من إذ خر أو غيرها وضربها ضربة واحدة إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه فى النفس والأهل والمال تعليل لما وهب ولا يخل شكواه إلى اللّه تعالى من الشيطان فى كونه صابرا فانه لا يسمى جزعا كتمنى العافية وطلب الشفاء كما ذكرنا هناك ولشيخنا الشهيد رضى اللّه عنه هاهنا كلام رفيع وهو انه عليه السلام صبر على البلاء سنين على ما ذكر فى القصة ثم لمّا أراد اللّه سبحانه ان يكشف عنه الضرّ القى فى روعه ان اللّه سبحانه يريد منك التضرع والدعاء فى كشف البلاء واظهار عجزك وافتقارك إلى جناب الكبرياء فاختار عليه السلام التضرع والدعاء على ما اقتضى طبعه من الصبر على البلاء ابتغاء لمرضاة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 185
اللّه فارتقى من مقام الصبر إلى معارج الرضاء فشكر اللّه سبحانه على صبره بقوله انّا وجدناه صابرا وعلى ارتقائه إلى مقام الرضاء بقوله نعم العبد انّه اوّاب نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) أى مقبل بشراشره على اللّه تعالى - .(1/5643)
وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ الثلاثة عطف بيان لعبادنا وقرا ابن كثير عبدنا بناء على وضع الجنس موضع الجمع أو هو على معنى التوحيد وابراهيم عطف بيان له وإسحاق ويعقوب معطوفان عليه أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) اولى القوة فى الطاعة والبصيرة فى الدين والمعرفة باللّه كذا قال ابن عباس وقتادة ومجاهد عبّر بالأيدي عن الأعمال فى الطاعة لان أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لانها أقوى مباديها وفيه تعريض لبطلة الجهال فانهم كالزمنا والعماة.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ أى جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة فيهم هى ذِكْرَى الدَّارِ (46) فهو مرفوع أو هو منصوب بتقدير اعنى أو مجرور على البدل من خالصة أى تذكرهم للدار الاخرة دائما وتذكيرهم الناس كما هو داب الأنبياء وذلك التذكر سبب لخلوصهم فى الطاعة وذلك لان مطمح انظارهم فيما يأتون ويذرون جوار اللّه والفوز بلقائه وذلك فى الاخرة وجاز ان يكون المضاف محذوفا أى ذكرى صاحب الدّار وهو اللّه سبحانه واطلاق الدار على الاخرة للاشعار بانها هى الدار على الحقيقة والدنيا معبر لاقرار فيها وما لا قرار فيها لا يسمى دارا قرأ نافع ، وهشام « و أبو جعفر - أبو محمد » باضافة خالصة إلى ذكرى للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فاضيف إلى فاعله - قال مالك بن دينار ونزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الاخرة وذكرها وقال مقاتل كانوا يدعون إلى الاخرة والى اللّه عزّ وجلّ وقال السدىّ أخلصوا بخوف الاخرة وقال ابن زيد معناه على الاضافة أخلصناهم بأفضل ما فى الاخرة وجملة انا أخلصناهم مع ما عطف عليه تعليل لما سبق.
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم فى الخير والأخيار جمع خير كشر واشرار وقيل جمع خيّر على تخفيفه كاموات جمع ميت أو ميّت.(1/5644)
وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ هو ابن أخطوب استخلفه الناس على بنى إسرائيل ثم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 186
استنبئ قرأ حمزة والكسائي والَّيسع بلام مشددة واسكان الياء تشبيها بالمنقول من ليسع والباقون بلام واحدة ساكنة وفتح الياء وَذَا الْكِفْلِ ابن عم اليسع أو بشر بن أيوب اختلف فى نبوته ولقبه فقيل فرّ إليه مائة نبى من بنى إسرائيل فاواهم وكفلهم وقيل كفل لعمل رجل صالح كان يصلى كل يوم مائة صلوة وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) حال من مفعول اذكر - .
هذا اشارة إلى ما تقدم من أمورهم ذِكْرٌ أى شرف لهم أو هذا الذي تلى عليكم من القرآن ذكر جميل لهم - ثم شرع لما اعدّ لهم ولامثالهم فقال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) مرجع.
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لحسن ماب أو بدل منه وهى من الاعلام الغالبة لقوله تعالى جنّات عدن الّتى وعد الرّحمن عباده وانتصب عنها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) على الحال والعامل فيها ما فى المتقين من معنى الفعل أى الكون والحصول وقوله لهم الأبواب مرفوع على انه أسند إليه مفتّحة والعائد إلى ذى الحال محذوف أى مفتّحة لّهم منها الأبواب أو اللام عوض عن المضاف إليه أى مفتّحة لّهم ابوابها أو على انه بدل اشتمال من الضمير المستتر العائد إلى الجنات.
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) أى وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول وقوله متّكئين ويدعون حالان مترادفان أو متداخلان من الضمير فى لهم لا من المتقين للفصل والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتّكئين حال من ضميره والاقتصار على الفاكهة للاستعار بان مطاعمهم لمحض التلذّذ فان التغذي للتحلّل ولا تحلل ثمه.(1/5645)
وَ عِنْدَهُمْ نساء قاصِراتُ الطَّرْفِ أى قاصرات أطرافهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أَتْرابٌ (52) مستويات الأسنان بنات ثلاث وثلاثين سنة جمع ترب وعن مجاهد متواخيات لا يتباغضن كما تتباغض الضرات فى الدنيا ولا يتغايرن الجملة الظرفية حال أو خبر لضميرهم.
هذا ما تُوعَدُونَ قرأ ابن كثير هاهنا وفى ق بالياء التحتانية على الغيبة والضمير للمتقين ووافقه أبو عمرو هاهنا والباقون بالتاء الفوقانية فيهما على الخطاب للمؤمنين لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) أى لاجله فان الحساب علة الوصول إلى الجزاء أو المعنى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 187
فى يوم الحساب.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) أى انقطاع الجملة حال من رزقنا أو خبر بعد خبر لانّ.
هذا أى الأمر هذا أو هذا كما ذكرا وخذ هذا.
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ أى الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ (55) مرجع.
جَهَنَّمَ بدل أو عطف بيان لشرّ ماب يَصْلَوْنَها حال من جهنم فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) المهد والمفترش مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف أى جهنم أو مهادهم جملة وانّ للطّاغين عطف أو حال.(1/5646)
هذا العذاب منصوب بفعل مضمر يفسره فَلْيَذُوقُوهُ أى ليذوقوا هذا فليذوقوه أو مبتداء خبره محذوف أى هذا نزلهم فليذوقوه أو خبر مبتدا محذوف أى العذاب هذا فليذوقوه أو مبتدا خبره حَمِيمٌ كذا قال الفراء وعلى هذا جملة فليذوقوه معترضة وعلى التأويلات السابقة حميم خبر مبتدا محذوف أى هو حميم والحميم هو الماء الحار الذي انتهى حره وَغَسَّاقٌ (57) عطف على حميم قرأ حمزة والكسائي وحفص « و خلف - أبو محمد » بالتشديد على وزن فعّال كالخبّاز والطبّاخ وخفّفها الباقون على وزن فعال كالعذاب واختلفوا فى معناه قال ابن عباس هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها وقال مجاهد ومقاتل هو الذي انتهى برده وقيل هو المنتن بلغة الترك وقال قتادة هو ما يغسق أى يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم غسقت أى انصبت والغساق انصباب أخرج البيهقي عن عطية قال الغساق الذي يسيل من صديدهم واخرج مثله عن ابراهيم وابى رزين واخرج ابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا والضياء عن كعب قال الغساق عين فى جهنم تسيل إليها حمة كل ذى حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع يؤتى بالآدمي فيغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده عن العظام وتعلق جلده ولحمه فى كعبيه فيجرّ لحمه كما يجرّ الرجل ثوبه.
وَآخَرُ قرأ أبو عمرو أبو جعفر بضم الهمزة على انه جمع اخرى « و يعقوب - أبو محمد لا هو بالفتح كنافع أبو محمد » مثل الكبرى وكبر واختاره أبو عبيد لأنه نعته بالجمع فقال ازواج والباقون بفتح الهمزة والف بعدها على التوحيد أى عذاب اخر أو مذوق اخر مِنْ شَكْلِهِ صفة لاخر أو خبر له أى مثل الحميم والغسّاق وتوحيد الضمير على انه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 188
او للعذاب أَزْواجٌ (58) أجناس خبر لاخر أو صفة له أو للثلاثة أو مرتفع بالجار والمجرور والخبر محذوف أى لهم - .(1/5647)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عباس هو كلام خزنة الناس للقادة من أهل النار وذلك ان القادة إذا دخلوا النار ثم دخل عليهم الاتباع قالت لهم الخزنة وقيل هو كلام القادة بعضهم لبعض أى هذا يعنى الاتباع فوج أى جماعة مقتحم معكم النار والاقتحام الدخول فى الشيء رميا بنفسه فيه قال الكلبي انهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم فى النار خوفا من تلك المقامع قلت وجاز ان يكون معناه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم وخلفاءه كانوا يحجزونهم عن النار ويمنعونهم عن ارتكاب موجبات دخولها وهم اقتحموا فيها حيث فعلوا موجبات دخولها عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفرش وهذه الدواب التي تقع فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنّه فيقتحمنّ فيها قال فذلك مثلى ومثلكم انا أخذ يحجزكم عن النار هلمّ عن النار هلمّ عن النار فتغلبونى تقحمون فيها - متفق عليه وجملة هذا فوج مقتحم إلخ بتقدير القول استئناف تقديره يقول بعض الطاغين بعضا فى شأن بعض هذا فوج مقتحم معلم أو يقال للرؤساء فى شأن الاتباع هذا فوج إلى آخره فقالت القادة لا مَرْحَباً بِهِمْ أى بالاتباع دعاء من المتبوعين على اتباعهم فهذه الجملة بتقدير القول متصل بما سبق إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) تعليل بقوله لا مرحبا بهم أى داخلوها بأعمالهم مثلنا وجاز ان يكون لا مرحبا بهم صفة لفوج أو حال أى مقولا فيهم لا مرحبا بهم يقال لمن يدعى له مرحبا أى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا والرحب السعة وفيه تعظيم للجائى ويقال لمن يدعى عليه لا مرحبا تحقيرا له وبهم بيان للمدعو عليهم.(1/5648)
قالُوا استئناف اخر أى قال الاتباع للقادة بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ يعنى بل أنتم احقّ بما قلتم أو بما قيل فينا لضلالكم واضلالكم إيانا وعللوا ذلك بقولهم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ أى العذاب أو الصلى لَنا بدعائكم إيانا إلى الكفر فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) أى بئس المقر لنا ولكم جهنم.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 189
قالُوا استئناف اخر أى قالت الاتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) أى مضاعفا على ما بهم من العذاب ..
وَقالُوا عطف على قالوا ربّنا من قدّم لنا يعنى قالت كفار قريش وهم فى النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ فى الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ (62) جملة لا نرى حال من ضمير المتكلم فى لنا والعامل معنى الفعل والأشرار جمع شرير والشر ضد الخير والخير ما يرغب فيه الكل والشر ما يكرهه يعنى كنا نكرههم ونحقرهم فى الدنيا يعنون فقراء المؤمنين نحو عمّار وخبيب وصهيب وبلال وابن مسعود رضى اللّه عنهم أجمعين يسترذلونهم ويسخرون منهم.(1/5649)
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ أهل البصرة وحمزة « و خلف وأبو محمد » والكسائي بهمزة الوصل على انه صفة اخرى لرجالا أو حال بتقدير قد أو خبر اخر لكنّا وقرأ الحجازيون وابن عامر وعاصم بالقطع على الاستفهام على انه انكار على أنفسهم فى الاستسخار منهم وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين كما مرّ فى المؤمنين والباقون بكسرها أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) فلا نراهم قال الفراء هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب وأم معادلة لهمزة فى جملة مقدرة مفهومة من قوله ما لنا لا نرى والتقدير ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتّخذناهم سخريا ا ليسوا هاهنا أم زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم وهم هاهنا - أو الهمزة اتّخذناهم على القراءة الثانية بمعنى اىّ الأمر ما فعلنا بهم من الاستسخار منهم أم تحقيرهم فان زيغ البصر كناية عنه والمعنى إنكارهما على أنفسهم أو منقطعة والمراد الدلالة على ان استرذالهم والاستخسار منهم كان لزيغ البصر منّا وقصور انظارنا على رثاثة حالهم وقال ابن كيسان يعنى أم كانوا خيرا منا ولم نعرفهم وكانت أبصارنا تزيغ عنهم.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد ان يتكلموا به ثم بين ما هو فقال تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) بدل من حق أو خبر محذوف ولمّا شبه تقاولهم وما جرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين سماه تخاصما ولان قول القادة لا مرحبا بهم وقول الاتباع بل أنتم لا مرحبا بكم تخاصم فسمى التقاول كله تخاصما لاشتماله
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 190
على ذلك - .(1/5650)
قُلْ يا محمد لمشركى مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ جملة قل مع المقولة مستأنفة وانّما لقصر القلب متصل بقوله تعالى قال الكافرون هذا ساحر كذّاب يعنى لست بساحر كذاب انّما انا منذر أنذركم بعذاب اللّه وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ عطف على انّما متصل بقوله اجعل الالهة الها واحدا الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة فى ذاته ولا فى صفة من صفاته الْقَهَّارُ (65) على كل شىء فيه وعيد للكفار.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب الْغَفَّارُ (66) الذي يغفر ما يشاء من الذنوب صغائرها وكبائرها لمن يشاء وفى هذه الأوصاف تتميم وتقرير للتوحيد ووعد للموحدين ووعيد للمشركين ودفع لتوهم انحصار وصفه بالقهر.
قُلْ يا محمد هُوَ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة يعنى القرآن نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) وقيل يعنى القيامة لقوله تعالى عمّ يتساءلون عن النّبإ العظيم وقيل يعنى ما انبأ تكم به من انى نذير من عقوبة من هذا صفته وانه واحد فى الألوهية لا شريك له فهو متصل بقوله انّما انا منذر وما من اله إلّا اللّه الواحد.
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) صفة اخرى لنبأ أى أنتم لتمادى غفلتكم معرضون عنه مع ان العاقل لا ينبغى ان يعرض عن مثله وقد قامت عليه الحجج الواضحة اما على التوحيد فما مرّوا ما على النبوة فقوله.(1/5651)
ما كانَ لِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى أى الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) فان الا خبار عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم مطابقا لما ورد فى الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصور الا بالوحى - وقيل المراد باختصامهم اختصامهم فى شأن آدم عليه السلام حين قال اللّه تعالى انّى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يّفسد فيها ويسفك الدّماء وفى الحديث عن عبد الرحمان بن عائش الحضرمي يقول قال النبي صلى اللّه عليه وسلم رايت ربى فى احسن صورة قال فيم يختصم الملا الأعلى يا محمد قلت أنت اعلم أى ربّ مرتين فقال وضع كفه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 191(1/5652)
بين كتفى فوجدتّ برده بين ثديى فعلمت ما فى السماء والأرض ثم تلا هذه الآية وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السّموات والأرض وليكون من الموقنين ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت فى الكفارات قال وما هن قلت المشي بالاقدام إلى الجماعات والجلوس فى المساجد خلف الصلوات وإسباغ الوضوء؟؟؟ أماكنه فى المكاره قال من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكون خطيئته كيوم ولدته امه ومن الدرجات اطعام الطعام وبذل السلام وان تقوم بالليل والناس نيام قال قل اللهم انى أسئلك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وان تغفر لى وترحمنى وتتوب علىّ وإذا أردت فتنة فى قوم فتوفنى غير مفتون فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فو الذي نفس محمد بيده انهن لحق - رواه البغوي فى شرح السنة والتفسير ورواه الدارمي إلى قوله وليكون من الموقنين وللترمذى عنه نحو ما روى البغوي وللترمذى عن ابن عباس ومعاذ بن جبل بمعناه مع تغير فى العبارة ولعل المراد باختصام الملا الا على فى الكفارات ان جمعا منهم يبتدرون ان يكتتبوها يريد كل منهم ان يهيا بها وجه الرحمان اوّلا كما فى حديث رفاعة بن رافع كنا نصلى وراء النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع اللّه لمن حمده فقال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال من المتكلم آنفا قال انا قال رايت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها ايّهم يكتبها أول - رواه البخاري إذ متعلق بعلم أو بمحذوف والتقدير من علم بكلام الملا الأعلى إذ يختصمون ان.(1/5653)
يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) انما مع جملته أما فى محل الرفع على انه أسند إليه يوحى وأما فى محل النصب على العلّية ويوحى حينئذ مسند إلى المصدر المفهوم من الفعل يعنى ما اوحى إلى الّا الانذار المبين أو ما اوحى الىّ وحيي الا لإجل الانذار فانه هو المقصود من الإرسال. وقيل المراد بالنبا العظيم قصة آدم وإبليس والانباء به من غير سماع والمراد بالملا الأعلى اصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لانهم كانوا فى السماء وكان التقاول بينهم.
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) بدل من إذ يختصمون
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 192
مبين له فان القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس فى خلق آدم واستحقاقه - للخلافة والسجود على ما مرّ فى البقرة غير انها اختصرت اقتصارا على ما هو المقصود هاهنا وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم هذا ومن الجائز ان يكون مقاولته إياهم بواسطة ملك أو ان يفسر الملا على بما يعم اللّه والملائكة وجاز ان يكون إذ منصوبا باذكر.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ أى أتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أضاف الروح إلى نفسه تشريفا لادم أو تشريفا للروح فَقَعُوا فخروا لَهُ ساجِدِينَ (72) وقد مر الكلام فيه فى البقرة.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ عطف على قال ربّك كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73).
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أى تعظم تعليل للاستثناء وَكانَ أى صار مِنَ الْكافِرِينَ (74) باستكباره عن امر اللّه تعالى أو استكباره عن المطاوعة أو كان منهم فى علم اللّه تعالى.(1/5654)
قالَ ربك يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كلمة بيدىّ من المتشابهات فالسلف لا يأولونه ويؤمنون به ويكلون مراده إلى اللّه تعالى والخلف يأولونه ويقولون خلقته من غير توسط كاب وأم والتثنية لما فى خلقه من مزيد القدرة وترتب الإنكار عليه للاشعار بانه المستدعى للتعظيم أو بانه الذي تشبثت به فى تركه وهو لا يصلح لكونه مانعا إذ للسيد ان يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص أَسْتَكْبَرْتَ همزة الاستفهام للتوبيخ والإنكار دخلت على همزة الوصل يعنى ا تكبرت من غير استحقاق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) أى من الذين استحقوا التفوق توبيخ على الشق الأول وانكار للشق الثاني.
قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ابدا المانع واستدل عليه بقوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قد سبق الكلام عليه ..
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أى من الجنة وقيل من السماوات وقال الحسن وأبو العالية من الخلقة التي أنت فيها قال الحسن بن الفضل هذا تأويل صحيح لان إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة فغيّر اللّه خلقه فاسود وقبح بعد حسنه فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) مطرود لست بخير تعليل للامر بالخروج.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي قرأ نافع « و أبو جعفر أبو محمد » بفتح الباء والباقون بإسكانها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 193
إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) لا يظن بان اللعنة منتهية بيوم الدين بل معناه ان عليه اللعنة وحدها إلى يوم الدين ثم ينضم إليها العذاب.
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) الفاء للسببية فان طرده لعداوة آدم سبب لطلبه الانظار لاغواء بنى آدم.
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) الفاء للسببية فان سواله سبب لهذا المقال والجملة الاسمية تدل على ان انظاره كان محكوما عليه فى علم اللّه القديم قبل سواله لا اجابة لدعائه.(1/5655)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) وهى النفخة الاولى وقد مرّ بيانه فى الحجر.
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) هذه الفاء أيضا للسببية فان انظاره تعالى إياه سبب لعزمه على اغوائهم ولو لم يكن من اللّه انظارا لم يقدر على اغوائهم أجمعين اقسم اللعين بعزته أى بسلطانه تعالى وقهرمانه حتى يكون وسيلة لتسلطه على ما يريد.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) الذين أخلصهم اللّه تعالى لطاعته وعصمهم عن الضلالة أو أخلصوا قلوبهم للّه على اختلاف القرائتين فان ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « و يعقوب وأبو محمد » قرأوا بكسر اللام والباقون بفتحها.
قالَ فَالْحَقُّ قرأ عاصم وحمزة ويعقوب « و خلف أبو محمد » بالرفع « لا هو بالنصب كابى عمرو - أبو محمد » على انه خبر مبتدا محذوف أى انا الحق أو مبتدا خبره محذوف والحق اسم من اسماء اللّه تقديره الحق يمينى أو قسمى والباقون بالنصب بنزع الخافض أى حرف القسم كقوله تعالى لافعلن وجاز ان يكون تقديره فاحق الحق وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) جملة معترضة وقيل تكرار للقسم اقسم اللّه بنفسه وجواب القسم قوله.
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أى من جنسك ليتناول الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أى من بنى آدم أَجْمَعِينَ (85) أى لا اترك منكم ومنهم أحدا والمراد بمن تبعك الكفار وان كان التقدير انا الحق أو أحق الحق فهذه الجملة جواب قسم محذوف وأجمعين تأكيد للضميرين ..
قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على الانذار أو على القرآن مِنْ أَجْرٍ جعل وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) أى من المتقولين القرآن من تلقاء نفسه أو المدعين لنفسه ما ليس له تكلفا على ما عرفتم من حالى يعنى لا ادعى النبوة بلا حقيقة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 194(1/5656)
و جملة قل ما اسئلكم إلى آخره مقرى لمضامين الجمل السابقة أخرج البخاري عن عمر قال نهينا عن التكلف. وروى البغوي عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل اللّه اعلم فان من العلم ان يقول لما لا يعلم اللّه اعلم قال اللّه تعالى لنبيه قل ما لسئلكم عليه من اجر وما انا من المتكلّفين قلت قوله ما انا من المتكلّفين تأكيد لمضمون قوله ما اسئلكم عليه من اجر فان من لا يسئل شيئا من الاجر لا ضرورة له فى ان يتكلف فى المقال.
إِنْ هُوَ أى القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أى عظة لِلْعالَمِينَ (87) للثقلين اوحى الىّ وانا ابلّغه.
وَلَتَعْلَمُنَّ يا كفار مكة جواب قسم محذوف نَبَأَهُ وهو ما فيه من الوعد والوعيد أو صدقه بإتيان ذلك بَعْدَ حِينٍ (88) قال ابن عباس وقتادة أى بعد الموت وقال عكرمة يوم القيامة قال الحسن ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ثم تفسير سورة ص من تفسير المظهرى بتوفيق اللّه تعالى سادس رجب من السنة السابعة بعد الف ومائتين سنة 1207 ه - ويتلوه تفسير سورة الزمر ان شاء اللّه تعالى والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 195
سورة الزمر
مكيّة الا قوله تعالى قل يا عبادى الّذين أسرفوا الآية وهى خمس وسبعون اية وقيل اثنان وسبعون « 1 » ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر مبتدا محذوف أى هذا أو مبتدا خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ فى ملكه الْحَكِيمِ (1) فى صنعه وهو على الأول صلة التنزيل أو خبر ثان أو حال عمل فيها معنى الاشارة أو التنزيل والظاهر ان الكتاب على الأول السورة وعلى الثاني القران.(1/5657)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أى متلبسا بالحق أو بسبب اثبات الحق وإظهاره وتفصيله وليس هذا تكرارا لان الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما فيه فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) مخلصا له الدين من الشرك والرياء وتقديم والخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكدا وأجراه مجرى العلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال.
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ جملة معترضة للتنبيه أى انا هو الذي وجب اختصاصه بان يخلص له الطاعة فانه المنفرد بصفات الالوهية والاطلاع على الاسرار والضمائر وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا يعنى الكفرة الذين اتخذوا مِنْ دُونِهِ أى من دون اللّه أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ أى قالوا ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ كذلك قرأ ابن مسعود وابن عباس وحينئذ قالوا المقدر بدل من الصلة أو حال بتقدير قد من فاعل اتخذوا وقوله زُلْفى مصدر بمعنى قربى قال البغوي اسم أقيم مقام المصدر كأنَّه قال ليقرّبونا إلى اللّه تقريبا أو حال والموصول مبتدا خبره إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
_________
(1) هذا عند أهل الحجاز والبصرة 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 196(1/5658)
و بين المسلمين فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من امر الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم وجاز ان يكون خبر الموصول جملة قالوا ما نعبدهم وجملة انّ اللّه يحكم بينهم مستأنفة وجاز ان يكون المراد بالموصول المعبودون بالباطل على حذف الراجع يعنى الّذين اتّخذوهم من دونه اولياء من الملائكة وعيسى والأصنام انّ اللّه يحكم بينهم وجملة ما نعبدهم بتقدير القول حال أو بدل للصلة ولا يحتمل كونه خبرا أخرج جويبر عن ابن عباس فى هذه الآية قال أنزلت فى ثلاثة احياء عامر وكنانة وبنى سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون الملائكة بناته فقالوا ما نعبدهم الّا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى وقال البغوي انهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السّماوات والأرض قالوا للّه فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأوثان قالوا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ بنسبة الولد إلى اللّه وبقوله الأصنام تشفع عند اللّه كَفَّارٌ (3) لانعام اللّه حيث يشرك به غيره يعنى ان اللّه لم يرد ولا يريد ان يهديهم ولو شاء لهداهم فلم يكذبوا ولم يكفروا جملة معترضة ..(1/5659)
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ العائد إلى الموصول ضمير منصوب محذوف والموصول مع الصلة مفعول لاصطفى وممّا يخلق حال منه والعائد إلى الموصول فيه أيضا ضمير منصوب يعنى لو أراد اللّه اتخاذ الولد لاصطفى ما يشاءه مما خلق إذ لا موجود الا وهو مخلوقه لقيام الادلة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه ومن البين ان المخلوق لا يماثل الخالق فيقول مقام الولد له فهذا الكلام فى قوة ان يقال لو أراد اللّه ان يتّخذ ولدا لا يتصور ذلك فحذف الجزاء وأقيم دليله مقامه وجاز ان يكون العائد إلى الموصول فى ممّا يخلق الضمير المرفوع والمعنى لو أراد اللّه ان يتّخذ ولدا لاصطفى ولدا بقدر على خلق الأشياء وذا محال لأنه يستلزم تعدد الالهة فهو دليل على امتناع ارادة اللّه ان يتخذ ولدا ثم قرر ذلك بقوله سُبْحانَهُ ان يكون له ولد هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ يعنى ان الالوهية التي تتبع الوجوب مستلزم للتوحد فى ذاته وصفاته وتنافى المماثلة والمشاركة فانى يكون له ولد والولد لا يكون
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 197
الا من جنس الوالد ناشيا من بعض اجزائه الْقَهَّارُ (4) القهارية المطلقة ينافى المشاركة وقبول الزوال المحوج إلى الولد ثم استدل على ذلك بقوله.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أى متلبسا بالحق غير عابث بل ليكون دليلا على الصانع يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ(1/5660)
يغشى كل واحد منهما الاخر كأنَّه يلف عليه لف اللباس باللابس أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفاف أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا مثل اكوار العمامة والحاصل انه يخلق كل واحد منهما عقيب الاخر قال الحسن والكلبي ينقص من الليل ويزيد فى النهار وينقص من النهار ويزيد فى الليل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي فى الفلك لِأَجَلٍ مُسَمًّى أى ليوم القيامة أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على كل شىء الْغَفَّارُ (5) حيث لم يعاجل فى العقوبة ولم يسلب ما فى هذه الصنائع من الرحمة والمنفعة - .
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم عليه السلام خلقها من غير اب وأم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها استدلال اخر بما أوجده فى العالم السفلى وثمّ للعطف على محذوف هو صفة نفس اعنى خلقها أو على معنى واحدة أى من نفس وحّدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها أو على خلقكم والعطف بثم لتفاوت ما بين الآيتين فان الأول عادة مستمرة دون الثانية وقيل معنى قوله خلقكم من نفس انه أخرجكم من ظهره كل ذرية ذراها حين أخذ الميثاق ثم خلق منها حواء زوجها وَأَنْزَلَ لَكُمْ أى قضى وقسّم لكم فان قضاياه وقسمه يوصف بالنزول من السماء لما كتب فى اللوح أو المعنى أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء كاشعة الكواكب والأمطار وقيل معناه خلق فى الجنة مع آدم عليه السلام ثم انزل منها لكم مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكر وأنثى من الإبل وو البقر والضأن والمعز حال من الانعام يَخْلُقُكُمْ جملة مبينة لما سبق أى يخلق الانس والانعام فيه تغليب لذوى العقول على غيرهم فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم يكسى لحما ثم ينفخ فيه الروح فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن والرحم والمشيمة أو الصلب والرحم والبطن ذلِكُمُ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 198(1/5661)
اى الذي فعل هذه الافعال مبتدا خبره اللَّهُ رَبُّكُمْ خبر ثان لَهُ الْمُلْكُ خبر ثالث لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر رابع أى لا يستحق العبادة أحد غيره لعدم اشتراك أحد فى الخلق فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) الفاء للسببية والاستفهام للاستبعاد والتعجب يعنى كيف تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان الشافي وعن عبادته إلى عبادة غيره - .(1/5662)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وعن ايمانكم شرط حذف جزاؤه وأقيم دليله مقامه تقديره ان تكفروا يعود وبال كفركم إليكم لا إلى اللّه تعالى فانّ اللّه غنىّ عنكم وعن ايمانكم وانما أنتم تحتاجون إليه لتضرركم بالكفر وانتفاعكم بالايمان وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عطف على الشرطية يعنى الكفر مبغوض غير مرضى له تعالى وان كان بإرادته حيث قال من يرد اللّه ان يّهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد ان يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا وهو قول السلف وعليه اجماع أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة وذكر البغوي انه قال ابن عباس والسدىّ معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال اللّه تعالى فيهم انّ عبادى ليس لك عليهم سلطان وهذا القول مبنى على ان يكون الرضاء بمعنى الارادة مجازا والا فالحق انه لا يستلزم الارادة ولا يرادفه فان إرادته يتعلق بالخير والشر كله ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن ويستحيل تخلف المراد عن إرادته قال اللّه تعالى انّما قولنا لشئ إذا أردناه ان نقول له كن فيكون وَإِنْ تَشْكُرُوا أى تؤمنوا بربكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ قيل فى تفسيره يثيبكم به وهذا حاصل المعنى فان الرضاء يستلزم الاثابة أصله يرضاه سقط الالف بالجزم فقرأ نافع وعاصم وحمزة وهشام « و يعقوب وابن وردان بخلاف عنه أبو محمد » باختلاس حركة هاء الضمير ابقاء على ما كان لان ما قبله ساكن تقديرا وأبو عمر وابن كثير وابن ذكوان والكسائي « اى الدوري بخلاف منه - أبو محمد » « (و خلف وأبو جعفر بخلاف عنه - » بإشباع الحركة لانها صارت بحذف الالف موصولة بمتحرّك وهى رواية أبى حمدان وغيره عن اليزيدي وفى رواية عن أبى عمرو بإسكان الهاء وبه قرأ يعقوب وَلا تَزِرُ نفس وازِرَةٌ وِزْرَ نفس أُخْرى أى لا تحمله فيه اشارة إلى ان وبال كفركم لا يتجاوز عنكم إلى غيركم فلا يتضرر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فدعوته(1/5663)
إياكم إلى الايمان ليس الا لاجل ان ينفعكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 199
تَعْمَلُونَ
بالمجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) فيجازى على أعمالكم على حسب نياتكم - .
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الكافر ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً أى راجعا إِلَيْهِ مستغيثا ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أى أعطاه أو جعله ذا حشم واتباع والخول الحشم والاتباع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العبيد إخوانكم وخولكم جعل اللّه تحت ايديكم أو تعهده كما فى الحديث كان عليه السلام يتخولنا أى يتعهدنا بالموعظة من قولهم فلان خائل مال وهو الذي يصلحه ويقوم به كذا فى النهاية والقاموس نِعْمَةً مِنْهُ اما مفعول ثان لخوّله ان كان بمعنى أعطاه أو مفعول له نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أى الضرّ الذي كان يدعوا اللّه إلى إزالته أو نسى ربه الذي كان يتضرع إليه وما حينئذ بمعنى من كما فى قوله تعالى وما خلق الذّكر والأنثى مِنْ قَبْلُ النعمة وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أى شركاء لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أى دين الإسلام قرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء والباقون بضمها والضلال والإضلال لمّا ترتب على ذلك شبّه بالعلة الغائية كما فى قوله تعالى فالتقطه ال فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنا قُلْ يا محمد لهذا الكافر تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا فى الدنيا إلى أجلك امر تهديد وفيه اقناط للكافرين من التمتع فى الاخرة ولذلك علله على سبيل الاستيناف بقوله إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) قيل نزلت فى عيينة بن ربيعة وقال مقاتل نزلت فى أبى حذيفة بن المغيرة المخزومي - .(1/5664)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أى قائم بوظائف الطاعات قال ابن عمر القنوت قراءة القرآن وطول القيام قرأ ابن كثير ونافع وحمزة بتخفيف الميم فالتقديرا من هو قانت للّه كمن جعل له أندادا وقرأ الباقون بتشديد الميم فام حينئذ منقطعة والمعنى امّن هو قانت كمن جعل له أندادا أو متصلة بمحذوف تقديره امّن جعل للّه أندادا ولم يشكر نعمته خير أم من هو قانت آناءَ اللَّيْلِ ساعاته ساجِداً وَقائِماً فى الصلاة حالان من الضمير فى قانت يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أى يخاف عذاب الاخرة استقصارا لنفسه فى العمل وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ غير معتمد على عمله يعنى يجمع بين الخوف والرجاء
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 200(1/5665)
و لا يجاوز فى الخوف حده حتى يكون أنسا فانّه لا ييئس من روح اللّه الّا القوم الكافرون ولا فى الرجاء حده حتى يكون أمنا فانه لا يأمن من « 1 » مكر اللّه الّا القوم الخاسرون. والجملتان واقعتان موقع الحال أو الاستئناف للتعليل قال البغوي قال ابن عباس فى رواية الضحاك نزلت هذه الآية فى أبى بكر الصديق واخرج ابن أبى سعيد من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس انه قال نزلت فى عمار بن ياسر واخرج جويبر عن ابن عباس انه قال نزلت فى ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبى حذيفة واخرج جويبر عن عكرمة قال نزلت فى عمار بن ياسر وقال البغوي قال الضحاك نزلت فى أبى بكر وعمر رضى اللّه عنهما وعن ابن عمر انها نزلت فى عثمان وكذا أخرج ابن أبى حاتم عنه وعن الكلبي انها نزلت فى ابن مسعود وعمار وسلمان ووجه الجمع بين الأقوال انها نزلت فى جميعهم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ اللّه تعالى متصفا بصفات الجلال والجمال فيحذر عذابه ويرجو رحمته فيعمل فى طاعته ويتقى عن معاصيه وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك والاستفهام للانكار أى لا يستوون فهذه الجملة تقرير للاول على سبيل التعليل وقيل تقرير له على سبيل التشبيه يعنى كما لا يستوى العالم والجاهل كذلك لا يستوى المطيع والعاصي وقيل نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيهما باعتبار القوة العملية على وجه الأبلغ لمزيد الفضل قيل الّذين يعلمون عمار والذين لم يعلموا أبو حذيفة المخزومي إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) بامثال هذه البيانات ..(1/5666)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أى أمنوا وأحسنوا العمل يعنى أتوه بالخشوع والخضوع كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بقوله أحسنوا حَسَنَةٌ فى الاخرة يعنى الجنة مبتدا خبره للذين أحسنوا والجملة تعليل بقوله اتقوا ربكم وقيل فى الدنيا ظرف مستقر حال من حسنة وهو فاعل للظرف المستقر اعنى قوله للّذين أحسنوا قال السدىّ فى هذه الدّنيا حسنة الصحة والعافية وهذا القول
_________
(1) وفى القرآن فلا يأمن مكر اللّه إلخ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 201
ليس بسديد فان الصحة والعافية كما يعطى المؤمن يعطى الكافر أيضا بل قد ينعكس الأمر.(1/5667)
وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فلا عذر للمقصرين فى الطاعة لمزاحمة الكفار ففيه كناية عن طلب الهجرة من البلد الذي يتعسر فيه الإحسان ومن ثم قال ابن عباس فى تفسيره ارتحلوا من مكة وعن مجاهد انه قال فى هذه الآية قال اللّه تعالى ارضى واسعة فهاجروا واعتزلوا وقال سعيد بن جبير يعنى من امر بالمعاصي فليهرب والجملة اما معطوفة على قوله للّذين أحسنوا فى هذه الدّنيا حسنة واما على قوله اتّقوا ربّكم لكونها بمعنى هاجروا إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (1) قيل يعنى الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للاذى من الكفار أو صبروا على مفارقة الأوطان والمعارف قيل نزلت الآية فى جعفر بن أبى طالب وأصحابه مهاجرى الحبشة حيث لم يتركوا دينهم فإذا اشتد فيهم البلاء صبروا وهاجروا واللفظ عام يعمهم وكل من صبر على البلاء وعلى مشقة الطاعة وحبس النفس عن المعصية - قال البغوي قال على رضى اللّه عنه كل مطيع يكال له كيلا ويؤزن له وزنا الا الصابرون فانهم يحثى عليهم حثيا - وروى الاصبهانى عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنصب الموازين ويؤتى باهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى باهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى باهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى باهل البلاء فلا تنصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصبّ عليهم الاجر صبّا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية انهم كانوا فى الدنيا تقرض أجسادهم بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء وذلك قوله تعالى انّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب.(1/5668)
و ذكر البغوي نحوه واخرج الطبراني وأبو يعلى بسند لا بأس به عن ابن عباس قال يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب ثم يؤتى بالمصدق فينصب للحساب ثم يؤتى باهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان فيصب لهم الاجر صبّا حتى ان أهل العافية ليتمنون بالموقف ان أجسادهم قرضت بالمقاريض من حيث ثواب اللّه لهم. واخرج الترمذي وابن أبى الدنيا عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو ان جلودهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 202
قرضت بالمقاريض - قلت لعل المراد باهل البلاء أهل العشق باللّه بدليل ان الشهيد لم يعد من أهل البلاء مع ان أشد بلاء الدنيا القتل وهو قد صبر على بذل نفسه فى سبيل اللّه ..
قُلْ إِنِّي قرأ نافع « ابو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) أى موحد اله.
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) أى أمرت بالإخلاص لاجل ان أكون مقدمهم فى الدنيا والاخرة لان قصب السبق انما هو بالإخلاص أو لكونى أول من اسلم من قريش ومن دان بدينهم والعطف لمغائرة الثاني الأول بتقيده بالعلة وللاشعار بان العبادة المقرونة بالإخلاص وان اقتضت لذاتها كونها مأمورا بها فهى أيضا مقتضية لما يلزمه من السبق فى الدين وجاز ان يكون اللام زائدة كما فى أردت لان افعل فيكون امرا بالتقدم فى الإسلام والبدء بنفسه فى الدعاء إليه بعد الأمر به فانه بعث داعيا للنّاس إلى الإسلام وذلك يقتضى كونه أول المسلمين فان دعوة غيره فرع اتصافه بنفسه وفيه امالة لغيره إلى الإسلام يعنى انى لا أدعوكم الا إلى ما هو خير إذ لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسى وقد اخترته اولا.(1/5669)
قُلْ إِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو « و أبو جعفر أبو محمد » وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك وسوء الأعمال عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) فيه تحذير للمخاطبين عن العصيان كما فى الآية السابقة وامالة إلى الإسلام قال البغوي هذه الآية نزلت حين دعى إلى دين ابائه.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) امر بالأخبار عن إخلاصه فى العبادة بعد الأمر بالأخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب قطعا لاطماعهم ولذلك رتب عليه قوله ..
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ تهديدا وخذلانا لهم وهذا جواب شرط محذوف تقديره ان لم توافقونى فى العبادة لله خالصا فاعبدوا ما شئتم فسترون ما يترتب عليه من العذاب والخسران قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالضلال وَأَهْلِيهِمْ يعنى اتباعهم من الأزواج والأولاد والخدم بالإضلال يَوْمَ الْقِيامَةِ حين أوردهم النار ظرف لخسروا من خسر التاجر إذا غبن فى تجارته
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 203(1/5670)
فانهم بالضلال والإضلال بدلوا نصيبهم من الجنة بنصيبهم من النار وهو لازم وجاء هاهنا متعديّا قال البغوي قال ابن عباس وذلك (يعنى خسران الأهل) ان اللّه جعل لكل انسان منزلا فى الجنة وأهلا فمن عمل بطاعة اللّه كان ذلك المنزل والأهل له ومن عمل بمعصية كان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بالطاعة قلت فعلى هذا معنى خسر اهله انه فوّت اهله وقيل خسران الأهل ان كانوا من أهل النار فبالاضلال وان كانوا من أهل الجنة فلذهابه عنهم ذهابا لا رجوع بعده أَلا ذلِكَ أى خسران يوم القيامة هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) دون غير ذلك من اصناف الخسران فان خسران الدنيا سهل ويتبدل وفيه مبالغة فى خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير بالا وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران ووصفه بالمبين ثم شرح الخسران بقوله.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أطباق سرادقات من النار ودخانها وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ فرش ومهاد من النار إلى ان ينتهى إلى القعر - سمّى السافلة ظللا لكونها ظللا لمن تحتهم ذلِكَ العذاب هو الذي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) أى اتقونى ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى وعذابى - .(1/5671)
وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ البالغ فى الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بنى للمبالغة فى المصدر كالرحموت ثم وصف به للمبالغة فى النعت ولذلك اختص بالشيطان وفسره البغوي بالأوثان لان تأنيث الضمير فى قوله أَنْ يَعْبُدُوها وهو بدل اشتمال من الطاغوت يدل على ان المراد به الأوثان وَأَنابُوا أى اقبلوا بشراشرهم إِلَى اللَّهِ عمّا سواه لَهُمُ الْبُشْرى بالثواب على السنة الرسل فى الدنيا وعلى السنة الملائكة عند حضور الموت يعنى هم استحقوا ان يبشروا ولذلك فرع قوله فَبَشِّرْ يا محمد عِبادِ (17) قرأ أبو شعيب بياء مفتوحة وصلا ساكنة وقفا وأبو حمدون وغيره عن اليزيدي مفتوحة فى الوصل محذوفة فى الوقف وهو قياس قول أبى عمرو حيث يتبع الرسم فى الوقف والباقون يحذفونها فى الحالين. « و وقف يعقوب بالياء - أبو محمد » أخرج جويبر بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال لمّا نزلت لها سبعة أبواب الآية اتى رجل من الأنصار النبي صلى اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 204
عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ان لى سبعة مماليك وانى قد اعتقت لكل باب منها مملوكا فنزلت فبشّر عبادى.(1/5672)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعنى يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن ويستمعون كلام الرسول وكلام الكفار فيتبعون كلام الرسول كان حق الكلام فبشرهم فوضع الظاهر اعنى عبادى الّذين يستمعون ألح موضعه للدلالة على ان مبدا اجتنابهم من الطاغوت انهم نقادون للاقوال يميزون بين الخبيث والطيب والقبيح والحسن وبين الحسن والأحسن قال عطاء عن ابن عباس أمن أبو بكر رضى اللّه عنه بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد اللّه والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد فسالوه فاخبرهم بايمانه فامنوا فنزلت فيهم هذه الآية والأحسن حينئذ بمعنى الحسن إذ لا حسن فى اقوال الكفار قال ابن زيد نزلت الآيتان فى ثلاثة نفر كانوا من الجاهلية يقولون لا اله الا اللّه زيد بن عمرو بن نفيل أو سعيد بن زيد وابى ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن قول لا اله الا الل ّه وقال السدىّ يتبعون احسن ما يؤمرون به فيعملون به قيل هو ان اللّه ذكر فى القرآن الانتصار من الظالم والعفو والعفو احسن الامرين وذكر العزائم والرخص والعزائم احسن أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أى ذوى العقول السليمة عن معارضة الأوهام والعادات وفى ذلك دلالة على ان الهداية تحصل بخلق اللّه تعالى وقبول النفس لها - .(1/5673)
أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ فى علم اللّه القديم كذا قال ابن عباس كَلِمَةُ الْعَذابِ يعنى خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي أَفَأَنْتَ يا محمد تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) يعنى لا تقدر عليه قال ابن عباس يريد أبا لهب وولده الجملة الشرطية معطوفة على جملة محذوفة دل عليه الكلام تقديرهء أنت مالك أمرهم فمن حقّ عليه كلمة العذاب فانت تنقذه من النّار كرّرت الهمزة فى الجزاء لتأكيد الإنكار والاستبعاد ووضع من فى النّار موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه وان اجتهاد الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى دعائهم إلى الايمان سعى فى إنقاذهم من النار ويجوز
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 205
ان يكون أ فأنت تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والاشعار بالجزاء المحذوف تقديره أ فمن حقّ عليه كلمة العذاب تهديه أ فأنت تنقذ من فى النّار فان من حقّ عليه كلمة العذاب كأنَّه فى النار حالا - ثم استدرك لدفع توهم كون سعيه صلى اللّه عليه وسلم غير مفيد مطلقا بقوله.(1/5674)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعنى لكن الذين حق لهم كلمة الرحمة وسبق فى علم اللّه انهم يتقون ربهم فى إيراده بصيغة الماضي أيضا اشعار بان من حكم بانهم يتقون فهم كالذين وقع منهم التقوى لَهُمْ غُرَفٌ منازل رفيعة فى الجنة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ منازل ارفع من الاولى مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أى من تحت كل من الفوقانية والتحتانية الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ أى وعدهم اللّه تلك الغرف وعدا مصدر مؤكد لنفسه لان قوله لهم غرف فى معنى الوعد لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) لان الخلف نقص وهو على اللّه محال عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر فى الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغهم غيرهم قال بلى والذي نفسى بيده رجال أمنوا باللّه ورسوله وصدقوا المرسلين - وقد ذكرنا الأحاديث الواردة فى الباب فى تفسير سورة الفرقان فى تفسير قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا - .(1/5675)
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات وانّ مع جملتها قائم مقام المفعولين لِأ لم تر فَسَلَكَهُ فادخله يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ الظرف متعلق بسلكه على طريقة قوله تعالى كذلك سلكناه فى قلوب المجرمين وينابيع حال من الضمير المنصوب قال الشعبي كل ماء فى الأرض فمن السماء وجاز ان يكون ينابيع مفعولا ثانيا لسلكه على التوسع على طريقة أدخلته بيتا فى الدار والينبوع جاء للمنبع والنابع فعلى الأول للنابع وعلى الثاني للمنبع ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أى أخرج بالماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ اصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما ثُمَّ يَهِيجُ أى ييبس فَتَراهُ بعد خضرته ونضرته مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا منكسرا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 206
إِنَّ فِي ذلِكَ الأحداث والتغير لَذِكْرى أى لتذكيرا على وجود الصانع القديم القادر الحكيم الذي دبّره وسوّاه على انه مثل الحيوة الدنيا فلا ينبغى ان يغتر بها لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) إذ لا يتذكر بها غيره ومن لم يتذكر فليس من اولى الألباب بل كالانعام بل أضل منها ..(1/5676)
أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعنى أفاض فى قلبه نورا أدرك به الحق حقا والباطل باطلا فاذعن بكل ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا ارتياب عبّر عن تلك الحالة بشرح الصدر لان الصدر محل القلب والروح القابل للاسلام فإذا كان قلبه قابلا لاحكام الإسلام صار كظرف انشرح وتفسح حتى حال فيه المظروف فَهُوَ أى ذلك الشخص عَلى نُورٍ أى بصيرة مِنْ رَبِّهِ الهمزة للانكار والفاء للعطف على ما فهم مما سبق من قوله تعالى أ فمن حقّ عليه كلمة العذاب أ فأنت تنقذ من فى النّار لكن الّذين اتّقوا ربّهم فانه يفهم منه الفرق بين المؤمن والكافر والموصول مبتدا وخبره محذوف يدل عليه ما بعده والإنكار راجع إلى مضمون الفاء كأنَّه قال لما ثبت الفرق بين المؤمن والكافر فليس من شرح اللّه صدره للاسلام وترتب عليه كونه على نور من ربه فامن واهتدى كمن طبع اللّه على قلبه فقسى عن ابن مسعود قال تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ فمن شرح اللّه صدره للاسلام فهو على نور من ربّه قلنا يا رسول اللّه كيف انشرح صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح صدره وانفسح قلنا يا رسول اللّه فما علامة ذلك قال الانابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله.(1/5677)
رواه البغوي والحاكم والبيهقي فى شعب الايمان فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ الفاء للسببية مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ متعلق بالقاسية والمعنى من أجل ذكر اللّه أى إذا ذكر اللّه عندهم أو تليت عليهم آياته اشتدت قساوتهم وهو ابلغ من ان يكون عن مكان من لان القاسية من أجل الشيء أشد تأبيا من القبول من القاسي عنه بسبب اخر وللمبالغة فى وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى اللّه وقابله بقساوة القلب وأسنده إلى القلب فهذه الآية فى معنى قوله تعالى والّذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون وقيل بحذف المضاف تقديره من ترك ذكر اللّه أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) قال
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 207
مالك بن دينار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب وما غضب اللّه على قوم إلا نزع منهم الرحمة - روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبى وقاص قال انزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم القرآن فتلا عليهم زمانا فقالوا يا رسول اللّه لو حدثتنا واخرج ابن جرير عن عون بن عبد اللّه ان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملوا ملة فقالوا لو حدثتنا فنزلت.(1/5678)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ تقرير لقوله انّا أنزلنا إليك الكتاب وما بينهما معترضات وفى الابتداء باسم اللّه وبناء نزّل عليه تأكيد للاسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه كِتاباً بدل من احسن الحديث أو حال منه مُتَشابِهاً صفة لكتابا يعنى يشبه بعضه بعضا فى صحة المعنى والدلالة على المنافع العامة والحسن المعجز ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ صفة اخرى جمع مثناة اسم الظرف فانه ثنى فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهى والاخبار والاحكام وصف به الكتاب باعتبار تفاصيله فهو كقولك القرآن سور وآيات والإنسان عروق وعظام ولحم واعصاب أو جعل تميزا من متشابها كقولك رايت رجلا جسيما حسنا شمائل أو جمع مثنية اسم الفاعل فان آياته تثنى على اللّه لصفاته الكمال تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ خوفا لما فيه من الوعيد الجملة صفة ثالثة لكتابا ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أى لذكر اللّه بالرحمة وعموم المغفرة - والإطلاق للاشعار بأن اصل امره الرحمة وان رحمته سبقت غضبه والتعدية بالى لتضمين معنى السكون والاطمينان وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هى من عوارضها يعنى إذا ذكر عذاب اللّه فى آيات الوعيد من القرآن يخاف قلوب المؤمنين وتقشعر جلودهم والاقشعرار انقباض وتغير فى جلد الإنسان عند الخوف وإذا ذكر اللّه بالرحمة فى آيات الوعد من القرآن تلين جلودهم وتسكن قلوبهم - لمّا وصف اللّه القرآن بكونه مثانى؟؟؟ فيه ذكر الوعيد والوعد وصفه بما يتاثر به المؤمنون عند الوعيد والوعد فكان تقدير الكلام يخاف منه قلوب الذين يخشون ربهم وتقشعر جلودهم ثم تلين جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 208(1/5679)
عن العباس رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اقشعر جلد العبد من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه « اى تساقطت - نهايه منه ره » كما يتحاتت عن الشجر اليابسة ورقها - رواه الطبراني بسند ضعيف ورواه البغوي وفى رواية للبغوى إذا اقشعر جلد العبد من خشية اللّه حرمه اللّه على النار - فان قيل بعض أهل العشق من الصوفية الكرام يغشى عليه عند استماع القرآن فهل هو من الأحوال الحميدة أو القبيحة وقد شنع عليهم الامام محى السنة البغوي رحمة اللّه عليه فى تفسيره فقال قال قتادة هذا يعنى ما ذكر من اقشعرار الجلد من خشية اللّه نعت اولياء اللّه نعتهم اللّه بان تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم انما ذلك فى أهل البدع وهو من الشيطان أخبرنا عن عبد اللّه بن الزبير قال قلت لجدتى اسماء بنت أبى بكر كيف كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن قالت كانوا كما نعتهم اللّه عز وجل تدمع عيونهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها ان نأسا إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيّا عليه فقالت أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم - وروى البغوي ان ابن عمر مرّ على رجل (من أهل العراق) ساقط فقال ابن عمر ما بال هذا قالوا انه إذا قرئى عليه القرآن وسمع ذكر اللّه سقط فقال ابن عمر انا لنخشى اللّه وما نسقط وقال ابن عمر ان الشيطان يدخل فى جوف أحدهم ما كان هكذا صنيع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قلت وجه طريان هذه الحالة كثرة نزول البركات والتجليات مع ضيق حوصلة الصوفي وضعف استعداده وانما لم توجد هذه الحالة فى الصحابة رضى اللّه عنهم مع وفور بركاتهم لاجل سعة حواصلهم وقوة استعداداتهم ببركة صحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم واما غير الصحابة من الصوفية فعدم طريان تلك الحالة عليهم اما لقلة نزول البركات واما لسعة الحوصلة والعجب من الامام الهمام محى(1/5680)
السنة البغوي رحمه اللّه كيف أنكر على اصحاب تلك الحالة وشنع عليهم ونسى قوله تعالى حتّى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربّكم قالوا الحقّ وهو العلىّ الكبير وقد روى هو فى تفسير
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 209
تلك الآية عن النواس بن سمعان رضى اللّه عنه إذا أراد اللّه بالأمر تكلم بالوحى أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من اللّه فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقو أو خرّوا للّه سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل الحديث - وروى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه بلفظ إذا قضى اللّه الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا
لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ الحديث - وقوله تعالى فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا.(1/5681)
و قول ابن عمر ان الشيطان يدخل فى جوف أحدهم وكذا استعاذة اسماء محمول على انهما زعما غشى ذلك الرجل تكلفا ومكرا ولذا نسباه إلى الشيطان وانما كان انكار تلك الحالة منهما لعدم طريان الحالة عليهما وعلى أمثالهما بناء على وسعة الحوصلة وقوة الاستعداد - ويدل على ما قلت انه ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال بيننا وبينهم ان يقعد أحدهم على ظهر بنية باسطا رجليه ثم يقرا عليهم القرآن من اوله إلى آخره فان رمى بنفسه فهو صادق حيث علّق صدقه على رمى نفسه من ظهر بنية مرتفعة فعلم منه انه حمل صرعه على الكذب والتكلف - اعلم ان البشر أقوى استعدادا وأوسع حوصلة من الملائكة كما يشهد عليه قوله تعالى انّى جاعل فى الأرض خليفة إلى قوله انّى أعلم ما لا تعلمون - وقوله تعالى انّا عرضنا الامانة على السّموات والأرض الآية ولاجل ذلك يأتى حالة الغشي على الملائكة كلّما سمعوا الوحى دون البشر واما البشر فإذا تمّ نزوله لا يتغير حاله الا نادرا وإذا تم عروجه وقصر نزوله يتغير غالبا واعلم ان الصوفي متى كان فى السكر يتغير حاله غالبا عند ذكر المحبوب فى الشعر والتغني ولذلك يستحبون السماع لكن تغير الحال عند سماع القرآن اشرف منه حالا لان عند استماع القرآن وتلاوته تتنزل البركات الاصلية المتعلقة بالتجليات الذاتية والصفات الحقيقية ولا سبيل إليها لاكثر الصوفية المحتبسين فى مقام ولاجل ذلك تراهم يتغير حالهم عند السماع ما لا يتغير عند تلاوة القرآن واما الذين صعدوا ذروة الأفق الأعلى ثم دنى رب العزة وتدلّى فكان قاب قوسين أفادني لا يتغير أحوالهم الا كما كان يتغير حال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضى اللّه عنهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 210(1/5682)
تدمع عيونهم وتقشعرّ جلودهم ثم تلين جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر اللّه ذلِكَ الخوف والرجاء أو احسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أى يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ (63) يخرجه من الضلالة - .
أَ فَمَنْ يَتَّقِي الاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أ يستوي الفريقان فمن يتّقى بِوَجْهِهِ أى يجعله وقاية لنفسه ومعناه ان الإنسان إذ القى مخوفا من المخاوف استقبله بيديه يتّقى بهما وجهه لأنه أعزّ أعضائه والكافر حين يلقى فى النار تكون يداه مغلولتين إلى عنقه فلا يستطيع ان يتّقى الا بوجهه - قال مجاهد يجر على وجهه فى النار منكوسا فاول شىء منه تمسه النار وجهه وقال مقاتل هو ان الكافر يرمى فى النار مغلولة يده إلى عنقه وفى عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت فيشتعل النار فى الحجر وهو معلق فى عنقه ويده سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف فى نظائره وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أى لهم وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم واشعارا بموجب ما يقال وهو ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) أى وباله وجملة وقيل للظّالمين حال بتقدير قد من فاعل يتقون وجاز ان يكون معطوفا على مفهوم ما سبق اعنى عذب.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أى قبل كفار مكة كذبوا الرسل فى إتيان العذاب فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) أى من الجهة التي لا يخطر ببالهم إتيان الشرّ منها.(1/5683)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أى الذلّ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ والخسف والقتل وتسليط الريح والصيحة والرمي بالحجارة والغرق وغير ذلك وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدّ لهم أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لشدته ودوامه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) أى لو كان أهل مكة من أهل العلم والنظر لاعتبروا بمن قبلهم أو المعنى لو كان المكذّبون يعلمون وبال التكذيب ما كذبوا ..
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ أى لاجل انتفاعهم وتبصرهم فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر فى امر دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) يتعظون به.
قُرْآناً عَرَبِيًّا منصوب على المدح أو الحال من هذا ان قلنا ان المجرور مفعول به
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 211(1/5684)
او بتقدير فى تنزيل هذا القرآن حتى يكون مفعولا لتنزيل المقدر والاعتماد فيها على الصفة كقوله جاءنى زيد رجلا صالحا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه ما فهو ابلغ من المستقيم واختص بالمعاني قال ابن عباس غير مختلف وقال مجاهد غير ذى لبس يعنى لا ريب فيه وقال السدى غير مخلوق ويروى ذلك عن مالك بن انس قال البغوي وحكى عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين ان القرآن ليس بخالق ولا مخلوق يعنون انه صفة من صفات اللّه تعالى ليس عين ذاته تعالى فيكون خالقا ولا غيره منفكا عنه فيكون حادثا مخلوقا وهذا يدل على ان الكلام اللفظي قديم صفة من صفات اللّه تعالى إذ الكلام النفسي الذي يدل عليه الكلام اللفظي لا يوصف بكونه عربيّا واما تعاقب حروف الكلام اللفظي الدال على حدوثه فانما لضيق المحل وحدوثه واما الكلام القائم بذاته فتوهم التعاقب فيه قياس للغائب على الشاهد كما يتوهم النافون للرؤية اشتراط الجهة والمسافة وغير ذلك فى رؤية البصر ليس كمثله شىء فى ذاته ولا فى اتصافه بصفاته ولا فى شىء من صفاته وله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) الكفر والمعاصي علة اخرى مرتبة على الاولى أو بدل أو بيان للاولى ..(1/5685)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد رَجُلًا بدل من مثل بتقدير المضاف أى مثل رجل فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أى مختلفون صفة لشركاء وهو فاعل للظرف المستقر أو مبتدا خبره الظرف والجملة صفة لرجلا يعنى مثل المشرك على زعمه حيث يدعى الهة متعددة مثل عبد مشترك فى جماعة مختلفين يتجاذبونه ويتعاورونه فى مهامهم المختلفة فهو فى تحير وتوزع قلب وَرَجُلًا سَلَماً أى خالصا ومسلما لِرَجُلٍ لا منازع له فيه قرأ ابن كثير وأبو عمرو « و يعقوب - أبو محمد » سالما على وزن فاعلا والباقون من غير الف على وزن حسن يعنى مثل المؤمن الموحد مثل عبد لواحد لا شريك فيه وليس لغيره إليه سبيل هَلْ يَسْتَوِيانِ أى ذانك العبدان مَثَلًا أى صفة وحالا ونصبه على التميز ولذلك وحده والاستفهام للانكار والتقرير يعنى حمل المخاطب على الإقرار بانهما لا يستويان حالا فان الموحد حسن حالا من المشرك وجملة هل يستويان تقديره قال اللّه هل يستويان مثلا بيان لمقصود قوله ضرب اللّه مثلا الْحَمْدُ لِلَّهِ يعنى الحمد كله للّه لا يشاركه فيه على الحقيقة أحد غيره لأنه المنعم بالذات
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 212
و المالك على الإطلاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) ذلك فيشركون به غيره من فرط جهلهم وقيل تقدير الكلام قل الحمد للّه على نعمة التوحيد والاختصاص بالمولى الواحد الحميد وبل حينئذ ليست للاضراب بل هى ابتدائية حكاية عن حال الجاهلين ..
إِنَّكَ مَيِّتٌ أى ستموت ابرز بلفظ الصفة المشبهة الدالّة على الثبوت حالا لكونه متيقن الوقوع وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) أى كفار مكة أو جميع الناس بصدد الموت فلا شماتة بالموت قال المحلى نزلت لمّا استبطؤا موت النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الفراء والكسائي الميّت بالتشديد من لم يمت وسيموت والميت بالتخفيف من فارقه الروح ولذلك لم يخفف هاهنا.(1/5686)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يعنى أنت وكفار مكة أو الناس أجمعون يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فتحتج عليهم وتقول يا ربّ انّ قومى اتّخذوا هذا القرآن مهجورا وانهم كذبونى وكنت على الحق فى التوحيد وكانوا على الباطل فى التشريك واجتهدتّ فى الإرشاد والتبليغ ولجّوا فى العناد والتكذيب ويعتذرون بالأباطيل مثل قولهم واللّه ربّنا ما كنّا مشركين وقولهم ما جاءنا من بشير ولا نذير وقولهم انّا اطعنا سادتنا وكبراءنا - ما وجدنا عليه آباءنا ويختصم الناس بعضهم مع بعض فاول ما يقضى فيه الدماء أخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابن مسعود رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء واخرج الترمذي وحسنه وابن ماجة والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول يأتى المقتول متعلق رأسه بإحدى يديه متكيا قاتله باليد الاخرى وتشخب أوداجه دما حتى يأتى العرش فيقول المقتول لرب العلمين هذا قتلنى فيقول اللّه للقاتل تعست ويذهب به إلى النار - واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يجئ المقتول أخذا قاتله وأوداجه تشخب دما فيقول رب سل هذا فلم قتلنى فيقول قتلته ليكون العزة لفلان قال هى للّه تبارك وتعالى وروى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود فذكر انه يؤتى بالقاتل والمقتول فيوقفان بين يدى الرحمان فيقال له لم قتلته فان كان قتله للّه قال قتلته ليكون العزة للّه فيقال فانها للّه وان كان قتله لخلقه من خلق اللّه يقول قتلته ليكون العزة لفلان
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 213(1/5687)
فبقال فانها ليست له فيقتل يومئذ كل خلق اللّه قتله ظالم غير انه يذاق الموت عدة الأيام التي أذاقها الاخر فى الدنيا - واخرج احمد والترمذي والحاكم وصححه عن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه لما نزلت انّك ميّت وانّهم ميّتون ثمّ انّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون قال الزبير يا رسول اللّه أ يكرر علينا ما بيننا فى الدنيا مع خواص الذنوب قال نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يصل إلى كل ذى حق حقه - قال الزبير واللّه ان الأمر لشديد - واخرج الطبراني بسند لا بأس به عن أبى أيوب رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أول من يختصم يوم القيامة الرجل والمرأة واللّه ما يتكلم لسانه ولكن يداها ورجلاها يشهدن عليها بما كانت تعيب لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها ثم يدعى الرجل وخدمه مثل ذلك ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ثمه دوانيق ولا قراريط ولكن حسنات هذا يدفع إلى هذا الذي ظلم وسيئات هذا الذي ظلمه يوضع عليه ثم يؤتى بالجبارين فى مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار - واخرج احمد بسند حسن عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول خصمين يوم القيامة الجاران - واخرج البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من كان عنده مظلمة لاخيه فليحلله منها فى الدنيا فانه ليس ثمه دينار ولا درهم ان كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وان لم يكن حسنات أخذ من سيئات صاحبه فتحمل عليه - واخرج مسلم والترمذي عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أ تدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلوة وصيام وزكوة قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيقبض ويقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل ان يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم(1/5688)
فيطرح عليه ثم طرح فى النار - قلت المراد بالحسنات التي يأخذها المظلوم من الظالم اجر حسناته ما سوى الايمان إذ المظالم وغيرها من السيئات ما عدا الكفر جزاؤه متناه على اصول أهل السنة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 214
و الجماعة فان مرتكب الكبيرة عندهم لا يخلد فى النار والايمان جزاؤه الخلود فى الجنة وهو غير متناه فلا يأتى ما هو متناه على ما ليس بمتناه - فالحاصل انه إذا فنيت حسنات الظالم قبل ان يقتض ما عليه من الخطايا وبقي عنده الايمان المجرد أخذ من خطايا
المظلومين ما عدا الكفر لكونه غير متناه الجزاء فلا يوازن ما هو متناه الجزاء فيطرح على الظالم ثم طرح فى النار ان لم يعف عنه حتى إذا انتهت عقوبة تلك الخطايا ادخل الجنة بايمانه ويخلد فيها وقال البيهقي مثل ما قلت واخرج مسلم عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى تعاد للشاة الجماء من الشاة القرناء - وفيه حتى للجاء من القرناء وللذرة من الذرة - وفى الباب أحاديث كثيرة لم اذكرها وروى البيهقي عن الزبير بن العوام قال لمّا نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثمّ انّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون قلنا كيف نختصم وديننا وكتابنا واحد حتى رايت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت انه نزلت فينا - وعن ابن عمر نحوه وعن أبى سعيد الخدري فى هذه الآية قال كنا نقول ربنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة فلمّا كان يوم الصفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا - وعن ابراهيم قال لما نزلت ثمّ انّكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قالوا كيف نختصم ونحن اخوان فلمّا قتل عثمان قالوا هذا خصومتنا - ومقتضى هذه الأقوال انهم كانوا يزعمون ان الاختصام فى الدماء لا يكون الا بين المؤمنين والكافرين فلمّا ظهر البغي والفساد بين المسلمين اتضح لهم انه يكون بين المؤمنين أيضا - .(1/5689)
فَمَنْ أَظْلَمُ الفاء للسببية فان اختصام الكفار مع النبي صلى اللّه عليه وسلم سبب لكونهم اظلم الناس والاستفهام للانكار يعنى لا أحد اظلم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فزعم ان له ولدا وشريكا - وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أى بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم من القرآن وغيره إِذْ جاءَهُ من غير توقف وتفكر فى امره بل مع الشواهد والادلة القاطعة على صدقه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أى منزلا ومقاما لِلْكافِرِينَ (32) استفهام للتقرير فقوله تعالى انّك ميّت وانّهم ميّتون مع ما يتلوه تسلّية للنبى صلى اللّه عليه وسلم على
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 215
تكذيب القوم حتى لا تهتم فى الانتقام منهم فان جهنم يكفيهم مجازاة لاعمالهم.(1/5690)
وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أراد به الجنس ليتناول الرسل والمؤمنين يدل عليه قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) بصيغة الجمع ويؤيده قراءة ابن مسعود والّذين جاءوا بالصّدق وصدّقوا به قال ابن عباس يعنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء بلا اله الا اللّه وصدّق به أيضا أى بلّغه إلى الخلق وعلى هذا جمعية الخبر بناء على ان المراد هو ومن تبعه كما فى قوله تعالى ولقد اتينا موسى الكتب لعلّهم يهتدون وقال السدى الّذى جاء بالصّدق جبرئيل وصدّق به محمد صلى اللّه عليه وسلم تلقاه بالقبول وقال الكلبي وأبو العالية الّذى جاء بالصّدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصدّق به أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه وكذا ذكر الزجاج قول على رضى اللّه عنه وكذا روى عن أبى هريرة وقال قتادة ومقاتل الّذى جاء بالصّدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصدّق به المؤمنون وقال عطاء والّذى جاء بالصّدق الأنبياء وصدّق به الاتباع - قال صاحب المدارك والبيضاوي والوجه فى العربية ان يكون جاء وصدّق لفاعل واحد لان التغاير يستدعى إضمار الذي وذا غير جائز أو إضمار الفاعل من غير تقدم ذكر وذا بعيد - قلت وكيف يحكم بعدم جواز حذف الموصول وقد روى عن علماء التفسير من الكلبي وابى العالية وقتادة ومقاتل ما ذكرنا وورد فى شعر حسان بن ثابت رضى اللّه عنه ا من يهجو رسول اللّه منهم ويمدحه وينصره سواء فان التقدير ا من يهجو ومن يمدحه سواء وقال صاحب البحر المواج يمكن ان يقال انه من باب اللف والنشر الإجمالي على طريقة قالوا لن يّدخل الجنّة الّا من كان هودا أو نصرى أو يقال تقديره والفريق الّذى جاء بالصّدق وصدّق به وهو شامل للنبى صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر وضمير جاء بالصدق راجع إلى الموصول نظرا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وضمير صدق به راجع إليه نظر إلى أبى بكر.(1/5691)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ فى الجنة ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) على إحسانهم.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا يسترها عليهم بالمغفرة خص الأسوأ بالذكر للمبالغة فانه إذا كفّر الا سوا فغيره اولى فيه رد لمذهب المعتزلة حيث يدل على عفو كبيرة والاشعار
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 216
بانهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون كل سيئة عملوها أسوأ الذنوب ويقال افعل هاهنا للتفضيل مطلقا لا على ما أضيف إليه وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ أى يعطيهم ثوابهم أى ثواب أعمالهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) يعنى يعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها فى زيادة الاجر وعظمه لفرط إخلاصهم أو يقال احسن هاهنا أيضا للزيادة المطلقة قال مقاتل يجزيهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوي ..
أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ استفهام للنفى مبالغة فى الإثبات يعنى اللّه كاف عَبْدَهُ محمدا صلى اللّه عليه وسلم وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي « و خلف - أبو محمد » عباده يعنى أنبياءه أو محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وَيُخَوِّفُونَكَ عطف على معنى ا ليس اللّه بكاف تقديره اللّه كاف عبده ويخوّفونك وجاز ان يكون حالا بتقدير وهم يخوّفونك بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ قال البغوي وذلك انهم خوّفوا النبي صلى اللّه عليه وسلم معرة الأوثان وقالوا لتكفنّ عن شتم الهتنا أو ليصيبنّك منهم خبل أو جنون وكذا أخرج عبد الرزاق وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفاية اللّه له وخوفه بما لا يضر ولا ينفع فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) يهديهم إلى الرشاد.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ لا راد لفضله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ الاستفهام للانكار يعنى اللّه غالب ينفع ذِي انْتِقامٍ (37) منتقم من أعدائه.(1/5692)
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية وبداهة عدم صلاح الأوثان لها وكان أهل مكة يعترفون بذلك قُلْ يا محمد بعد اعترافهم لذلك أَفَرَأَيْتُمْ يعنى أخبروني بعد ما اعترفتم بان خالق العالم هو اللّه لا غير ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ قرأ حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها اللَّهُ بِضُرٍّ أى بشدة وبلاء هَلْ هُنَّ يعنى اوثانكم كاشِفاتُ ضُرِّهِ عنى أَوْ ان أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ عنى قرأ أبو عمرو « و يعقوب أبو محمد » كاشفات ممسكات بالتنوين فيهما ونصب ضرّه ورحمته على المفعولية والباقون بالاضافة استفهام انكار يعنى يلزمهم باعترافهم السابق انكار كون الأصنام قادرة على كشف ضر أو إمساك
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 217
رحمة قال مقاتل فسالهم النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فسكتوا فقال اللّه تعالى لرسوله قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يكفينى فى إصابة الخير ودفع الضرّ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) أى المؤمنون لعلمهم بانه نافع ولا ضارّ الا هو عبّر المؤمنين بالمتوكلين لان شأنهم التوكل على اللّه.
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أى على حالكم اسم للمكان استعير هنا للحال كما ان حيث وهنا اسمان للزمان وقد يستعار أحدهما للمكان إِنِّي عامِلٌ أى على مكانتى فحذف للاختصار والمبالغة فى الوعيد والاشعار بان حاله صلى اللّه عليه وسلم لا يقف على حد بل اللّه سبحانه يزيده على مر الدهور قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم فى الدارين فقال فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فان خزى أعدائه دليل على غلبته وقد أخزاهم يوم بدر وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) دائم وهو عذاب النار.(1/5693)
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لان يهتدوا به إلى مصالحهم فى المعاش والمعاد بِالْحَقِّ أى متلبسا به هذه الجملة متصلة بقوله ولقد ضربنا للنّاس فى هذا القرآن وما بينهما معترضات فَمَنِ اهْتَدى بالكتاب فَلِنَفْسِهِ ينتفع نفسه به وَمَنْ ضَلَّ طريق مصالح فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لا يتجاوز عنها وبال ضلاله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) أى ما وكلت عليهم لتجبرهم على الاهتداء به انما أمرت بالبلاغ وقد بلّغت فلا يضرك ضلالهم - .
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أى يقبضها عن الأبدان اما بان يقطع تعلقها عنها بالكلية فلا يمكن لها التصرف فيها ظاهرا ولا باطنا وذلك حين موتها ونزعها عنها واما بان يقبضها ظاهرا بعض القبض بان يسلب عنها الحس والحركة الارادية وذلك بان يجعله اللّه تعالى متوجها إلى مطالعة عالم المثال عاطلا عن عالم الشهادة ليستريح وذلك فى المنام فالتوفى بالمعنى الأول حقيقة وبالثاني مجاز فيحمل الكلام هاهنا اما على عموم المجاز وهو القبض مطلقا اما ظاهرا فقط أو ظاهرا وباطنا واما على تقدير الفعل كأنَّه قال والّتى لم تمت يقبضها
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 218(1/5694)
فى منامها أى يقبض حسها وحركتها وما قيل ان للانسان نفسا وروحا فعند النوم لخرج النفس ويبقى الروح أريد بالنفس قوتها التي بها العقل والتميز يعنى يسلب عنه تلك القوة ويبقى الروح التي بها الحيوة والتنفس قال البغوي عن على كرم اللّه وجهه قال يخرج الروح عند نومه ويبقى شعاعه فى الجسد فبذلك يرى الرؤيا « 1 » فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة - ان صح هذا الأثر فالمعنى عندى ان الروح يتوجه إلى مطالعة عالم المثال خارج البدن فى عالم الملكوت وذلك خروجه عند نومه ويبقى شعاعه يعنى تعلقه بالجسد كما كان فبذلك أى بخروجه يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح أى توجه إلى جسده بأسرع من لحظة فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ولا يردها إلى البدن حتى ينفخ نفخة البعث قرأ حمزة والكسائي قضى بضم القاف وكسر الضاد على البناء للمفعول والموت بالرفع والباقون على البناء للفاعل مسندا إلى المستكن الراجع إلى اللّه والموت بالنصب على المفعولية وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أى النفس النائمة إلى الافاقة والاحساس إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى الوقت المضروب لموته فى الصحيحين عن البراء بن عازب قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول اللهم بك أموت واحيى وإذا استيقظ قال الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فانه لا يدرى ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربى وضعت جنبى وبك ارفعه ان أمسكت نفسى فارحمها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين - وفى رواية ثم ليضطجع على
_________
((1/5695)
1) عن سليم بن عامر ان عمر بن الخطاب قال العجب من رويا الرجل انه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على بال فيكون روياه كالاخذ باليد ويرى الرجل رؤيا فلا يكون روياه شيئا فقال على رضى اللّه عنه أ فلا أخبرك بذلك يا امير المؤمنين ان اللّه يقول اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتى لم تمت فى منامها فيمسك الّتى قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمّى فاللّه يتوفى الأنفس كلها فما رأت وهى عنده فى السماء فهى الرؤيا الصادقة وما رات إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين فى الهوى فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله - 12 منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 219
شقه الايمن ثم ليقل وفى رواية فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات وان أمسكت نفسى فاغفر لها إِنَّ فِي ذلِكَ التوفى والإمساك والإرسال لَآياتٍ أى دلالات على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) فى كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة فى توفيها عن ظواهرها وإرسالها حينا بعد حين إلى توفى اجالها فيعلمون ان القادر على ذلك قادر على البعث - وهذه الآية فى مقام التعليل لقوله وعلى اللّه فليتوكّل المتوكّلون ..(1/5696)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أم ابتدائية بمعنى الهمزة للانكار أو متصلة معطوفة على جملة محذوفة تقديره ا جعلوا للّه شركاء أم اتّخذوا من دونه شفعاء أو منقطعة بمعنى بل للاضراب عن مضمون قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ والهمزة للانكار قُلْ يا محمد أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) الهمزة للانكار والتقدير ا يشفعون لكم ولو كانوا على هذه الصفة التي تشاهدونهم عليها جمادات لا تعقل ولا تقدر - ولما كان هاهنا مظنة ان يقولوا انا نعبد اشخاصا مقربين للّه تعالى وتلك الأصنام تماثيلهم قال اللّه تعالى ردا لهذا القول وتعليلا لقوله لا يملكون.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ثم قرر ذلك بقوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يملك أحد ان يتكلم فى امر الا باذنه ورضائه فهو مالك الشفاعة كلها ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) يوم القيامة فيكون له الملك أيضا حينئذ.
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ أى نفرت وانقبضت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعنى الأوثان إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) أى يعرجون قال البغوي قال مجاهد ومقاتل وذلك حين قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم سورة والنجم والقى الشيطان فى أمنيته تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى ففرح به الكفار - وكذا أخرج ابن المنذر عن مجاهد - قال البيضاوي لقد بالغ فى الامرين حتى بلغ الغاية فان الاستبشار ان يمتلى قلبه سرورا حتى ينبسط له بشرة وجهه والاشميزاز ان يمتلى غمّا وغضبا حتى ينقبض أديم وجهه والعامل فى إذا معنى المفاجاة.
قُلِ اللَّهُمَّ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 220
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ(1/5697)
امر اللّه سبحانه رسوله بالالتجاء إلى اللّه بالدعاء لمّا تحير فى أمرهم وعجز فى عنادهم وشدة شكيمتهم فانه القادر على الأشياء كلها العالم بالأحوال جميعها ما غاب عنّا وما شاهدناه أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فتنصر المحق وتخذل المبطل فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) عن أبى سلمة قال سالت عائشة بما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفتح الصلاة من الليل قالت كان يقول اللّهم رب جبرئيل وميكائيل واسرافيل فاطر السّموات والأرض عالم الغيب والشّهادة أنت تحكم بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم - .
وَلَوْ ثبت أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وعيد شديد واقناط بليغ لهم من الخلاص وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) فى مراتب التعذيب فيه مبالغة بليغة فى مقابلة قوله تعالى للمؤمنين فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين - قال مقاتل ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا فى الدنيا انه نازل بهم فى الاخرة وجاز ان يكون المعنى انهم يحتسبون ان الأوثان يشفع لهم أو لا يكون لهم بعث ونشور أو يكونوا فى الاخرة حسن حالا من المؤمنين فيظهر خلاف ذلك وقال السدى ظنوا انها حسنات فبدت لهم انها سيئات يعنى كانوا يزعمون التقرب إلى اللّه بعبادة الأوثان فلمّا عوقبوا عليها بدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون.
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أى بدا مساوى أعمالهم من الشرك والظلم إلى اولياء اللّه حين يعرض عليهم صحائفهم وَحاقَ أى أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) ما موصولة والمراد به العذاب أو مصدرية والمعنى حاق بهم جزاء استهزائهم ..(1/5698)
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الكافر وقيل اخبار عن الجنس بما يغلب فيه ضُرٌّ شدة دَعانا معطوف على قوله وإذا ذكر اللّه وحده بالفاء لبيان تناقضهم وتعكيسهم فى السبب يعنى يشمازّون عند ذكر اللّه وحده ويستبشرون عند ذكر الأصنام فإذا مسهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 221
ضر دعوا من اشمأزّوا بذكره دون من استبشروا به وما بينهما اعتراض مؤكد لانكار ذلك ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا تفضلا فان التخويل مختص به قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ منى بوجوه كسبه أو بانى أعطيته لمالى من استحقاقه أو من اللّه بي واستيجابى والضمير لما ان جعلت موصولة والا فلنعمة والتذكير لان المراد شىء منها بَلْ هِيَ أى النعمة فِتْنَةٌ امتحان من اللّه أ يشكر أم يكفر أو استدراج لهم ليكون سببا لتعذيبهم وقيل بل الكلمة التي قالها فتنة له موجب للتعذيب وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) ذلك قال البيضاوي هذا دليل على ان المراد بالإنسان الجنس قلت وان كان المراد بالإنسان الكافر فالمراد بأكثرهم كلهم أو يقال ان بعضهم كانوا يعتقدون انهم على الباطل كاحبار اليهود وما كانوا ليؤمنوا تعنتا وعنادا.
قَدْ قالَهَا أى تلك الكلمة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال مقاتل يعنى قارون حيث قال انّما أوتيته على علم عندى وصيغة الجمع بناء على شموله لمن رضى بقوله فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) من الكنوز ما انّ مفاتحه لتنوا بالعصبة اولى القوّة.
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أى جزاءها سمى جزاء السيئة سيئة نظرا للمقابلة وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أى كفروا مِنْ هؤُلاءِ أى من كفار مكة سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب أولئك فاصابهم بان قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم وادخلوا النار الا من تاب وأمن منهم وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أى فائتين.(1/5699)
أَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَيَقْدِرُ لمن يشاء ابتلاء الاستفهام للانكار والعطف على محذوف تقديره أ يقولون هذا القول يعنى انّما أوتيته على علم ولم يعلموا ان توسعة الرزق وتضيقه من اللّه تعالى قد يوسع الرزق لمن لا يعلم وجوه الكسب وليس له استحقاق الكرامة أصلا وقد يضيقه على عكس ذلك إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) بان الحوادث كلها من اللّه تعالى والأسباب انما هى على مجرى العادة فى الظاهر.
روى الشيخان فى الصحيحين ان ناسا من أهل الشرك قتلوا فاكثروا وزنوا فاكثروا ثم أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ان الذي تقول وتدعونا إليه لحسن لو تخبرنا انّ لما عملنا كفارة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 222
فنزلت ما فى سورة الفرقان والّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر إلى قوله غفورا رحيما ونزلت.(1/5700)
قُلْ يا عِبادِيَ الآية قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « و يعقوب وخلف - أبو محمد » بسكون الياء وحذفها وصلا لاجتماع الساكنين والباقون بفتحها « 1 » واخرج ابن أبى حاتم بسند صحيح عن ابن عباس انها نزلت فى مشركى مكة كذا ذكر البغوي قول عطاء عن ابن عباس وكذا أخرج الطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف انه بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة يدعوه إلى الإسلام فارسل إليه كيف تدعونى إلى دينك وأنت تزعم انه من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يّضاعف له العذاب يوم القيامة وانا قد فعلت ذلك كله فانزل اللّه تعالى الّا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا فقال وحشي هذا شرط شديد لعلى لا اقدر على ذلك فهل غير ذلك فانزل اللّه تعالى انّ اللّه لا يغفر ان يّشرك به فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء فقال وحشي أراني بعد فى شبهة فلا أدرى يغفرلى أم لا فانزل اللّه هذه الآية - زاد البغوي فقال المسلمون هذا له خاصة أم للمسلمين عامة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل للمسلمين عامة - واخرج الحاكم عن ابن عمر قال كنا نقول ما للمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته فلمّا قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة انزل فيهم قل يعبادى الّذين أسرفوا الآية - وذكر البغوي انه روى عن ابن عمر انه قال نزلت هذه الآية فى عيّاش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد اسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل اللّه من هؤلاء صرفا ولا عدلا ابدا قوم اسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه فانزل اللّه تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بيده ثم بعث بها إلى عيّاش بن ربيعة والوليد بن الوليد وأولئك النفر فاسلموا وهاجروا الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أى افرطوا بالجناية عليها بالكفر والمعاصي قال البغوي روى عن ابن عمر انه أراد بالإسراف الكبائر لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أى لا تيئسوا من مغفرته و(1/5701)
تفضله إذا أمنتم وتبتم عن الشرك وهذا القيد ثابت بالإجماع وبقوله تعالى انّ اللّه لا يغفر ان يّشرك به وبالروايات الواردة فى سبب نزول الآية فالمعنى لا تتركوا الايمان اياسا من رحمة اللّه بناء على ما اسرفتم من قبل إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
_________
(1) وفى الأصل بحذفها ولا شك انه سباق قلم.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 223(1/5702)
صغيرها وكبيرها إذا تبتم عن الشرك وأمنتم باللّه وحده فان الإسلام يهدم ما كان قبله - رواه مسلم عن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ومورد هذه الآية وان كان خاصا فانها نزلت فى من ارتكب الكبائر فى حالة الشرك ثم اسلم لكن لفظها عام يدل على ان العبد إذا أمن (كما يدل عليه إضافته تعالى العبد إلى نفسه بناء على عرف القرآن وان كان ارتكب الكبائر بعد الإسلام) ليرجو ان يغفر اللّه له ان شاء وان لم يتب كما يدل عليه قوله تعالى انّ اللّه لا يغفر ان يّشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والتعليل فى هذه الآية بقوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) بصيغة المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة وتقديم ما يستدعى عموم المغفرة مما فى عبادى من الدلالة على الزلة والاختصاص المقتضيين للترحم وتخصيص ضرر الإسراف بانفسهم والنهى عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها وتعليله بان اللّه يغفر الذنوب جميعا ووضع اسم اللّه موضع الضمير للدلالة على انه المستغنى والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجمع والأحاديث الواردة فى هذا الباب واجماع الامة - روى مقاتل بن حبان عن نافع عن ابن عمر قال كنا معشر اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نرى أو نقول ليس شىء من حسناتنا الا وهى مقبولة حتى نزلت يايّها الّذين أمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم قلنا ما هذا الذي نبطل اعمالنا فقلنا الكبائر والفواحش - قال فكنا إذا راينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك فنزلت هذه الآية قل يا عبادى الّذين أسرفوا - فكففنا عن القولين فكنا إذا راينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وان لم يصب منها شيئا رجونا له - وروى عن ابن مسعود انه دخل المسجد قاصّ يقصّ وهو يذكر النار والاغلال فقام على رأسه فقال يا مذكّر لم نقنط الناس ثم قرأ قل يا عبادى الّذين أسرفوا عمل أنفسهم لا تقنطوا من رّحمة(1/5703)
اللّه الآية - وعن اسماء بنت زيد قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رّحمة اللّه انّ اللّه يغفر الذّنوب جميعا ولا يبالى - رواه احمد والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وفى شرح السنة يقول بدل يقرا وعن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 224(1/5704)
صلى اللّه عليه وسلم قال كان فى بنى إسرائيل رجل قتل تسعا وتسعين إنسانا ثم خرج فاتى راهبا فساله فقال ليس لك توبة قال فقتله وجعل يسئل فقال له رجل ايت قرية كذا وكذا فادركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فاوحى اللّه إلى هذه ان تقربى واوصى إلى هذه ان تباعدى فقال قيسوا ما بينهما فوجدوا إلى هذه اقرب بشبر فغفر له - متفق عليه وروى مسلم بن الحجاج هذا الحديث وفيه فدلّ على راهب فاتى فقال انه قتل تسعا وتسعين نفسا فهل لى توبة فقال لا فقتله وكمل به مائة ثم سال اعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال انه قتل مائة نفسا فهل له توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى ارض كذا وكذا فان بها أناسا يعبدون اللّه فاعبد اللّه معهم فلا ترجع إلى أرضك فانها ارض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فاتاهم ملك فى صورة فجعلوه حكما فقال قيسوا بين الأرضين فالى أيتهما ادنى فهو له فقاسوا فوجدوه ادنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كان رجل لم يعمل خيرا قط فاوصى لاهله إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه فى البر ونصفه فى البحر فو اللّه لان قدر اللّه عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين قال فلمّا مات فعلوا ما أمرهم فامر اللّه البحر فجمع ما فيه وامر البر فجمع ما فيه ثم قال له لم فعلت هذا قال من خشيتك يا ربّ وأنت اعلم فغفر له - متفق عليه - وروى البغوي عن ضمضم بن حوش قال دخلت مسجد المدينة فنادانى شيخ فقال يا يمانى (تعال ولا أعرفه) فقال لا تقولن لرجل واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة فقلت من أنت يرحمك اللّه قال ابو(1/5705)
هريرة قال فقلت وان هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض لاهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه قال فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان رجلين كانا فى بنى إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد فى العبادة والاخر كان مذنبا فجعل يقول له اقصر عما أنت فيه قال فيقول خلّنى وربى قال حتى وجده يوما على ذنب استعظمه فقال اقصر فقال خلنى وربى أ بعثت علىّ رقيبا فقال واللّه لا يغفر اللّه لك ابدا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 225
و لا يدخلك اللّه الجنة ابدا قال فبعث اللّه إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده قال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للاخر ا تستطيع ان تحظر على عبادى رحمتى فقال لا يا رب فقال اذهبوا به إلى النار قال أبو هريرة والذي نفسى بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته وروى احمد عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان رجلين كانا فى بنى إسرائيل متحابين ذكر الحديث إلى آخره بعينه وعن ثوبان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا أحب ان لى الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رّحمة اللّه الآية - رواه احمد بسند حسن وابن جرير والطبراني فى الأوسط والبيهقي فى شعب الايمان وفيه فقال رجل يا رسول اللّه ومن أشرك فنكس ساعة ثم قال الا ومن أشرك ثلاث مرات وعن جندب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدّث ان رجلا قال واللّه لا يغفر اللّه لفلان وان اللّه قال من الذي يتالى علىّ « اى يقسم منه ره » انى لا اغفر لفلان فانى قد غفرت لفلان واحبطتّ عملك - أو كما قال رواه مسلم وعن ابن عباس فى قوله تعالى الّا اللّمم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان تغفر اللهم تغفر جمّا واىّ عبد لك لا الما - رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.(1/5706)
و فى حديث قدسى طويل عن أبى ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم افعل ما أريد عطائى كلام وعذابى كلام انما امرى لشئ إذا أردته ان أقول له كن فيكون - رواه احمد والترمذي وابن ماجة وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه عزّ وجلّ ليرفع الدرجة للعبد الصالح فى الجنة فيقول يا رب انّى لى هذا فيقول باستغفار ولدك لك - رواه احمد وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الميّت فى القبر كالغريق المتغوث ينتظر دعوة يلحقه من اب أو أم أو أخ أو صديق فإذا ألحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها وان اللّه ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال وان هدية الاحياء إلى الأموات الاستغفار لهم - رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قالوا يا رسول اللّه وما الحجاب قال ان تموت النفس وهى مشركة رواه احمد والبيهقي فى كتاب البعث والنشور
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 226(1/5707)
و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لقى اللّه لا يعدل به شيئا فى الدنيا ثم كان عليه مثل جبال ذنوب غفر اللّه له - رواه البيهقي فى كتاب البعث والنشور وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان للّه مائة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يعطف الوحش على ولدها واخر اللّه تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القي أمة - متفق عليه وروى مسلم عن سلمان نحوه وفى آخره فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة - وعن عمر بن الخطاب قال قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم سبى فإذا امراة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبيّا فى السبي أخذته فالصقته ببطنها وارضعته فقال لنا النبي صلى اللّه عليه وسلم أ ترون هذه طارحة ولدها فى النار فقلنا لا وهى تقدر على ان لا تطرحه فقال اللّه ارحم بعباده من هذه بولدها - متفق عليه وعن أبى الدرداء انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول ولمن خاف مقام ربّه جنّتان قلت وان زنى وان سرق يا رسول اللّه فقال الثانية ولمن خاف مقام ربّه جنّتان فقلت الثانية وان زنى وان سرق يا رسول اللّه فقال الثالثة ولمن خاف مقام ربّه جنّتان فقلت الثالثة وان زنى وان سرق يا رسول اللّه قال وان رغم انف أبى الدرداء - رواه احمد - وعن عامر الرام قال بينا نحن عنده (يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم) إذ اقبل رجل عليه كساء وفى يده شىء قد التف عليه فقال يا رسول اللّه مررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فاخذتهن فوضعتهن فى كسائى فجاءت امهن فاستدارت على رأسى فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن فلففتهن بكسائى فهن أولاء معى قال ضعهن فوضعتهن وأبت امهن الا لزومهن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ تعجبون لرحم أم الافراخ فراخها فو الذي بعثني بالحق للّه ارحم بعباده من أم الا فراخ(1/5708)
بفراخها ارجع بهن فضعهن من حيث اخذتهن وامهن معهن فرجع بهن - رواه أبو داود وعن عبد اللّه بن عمر قال كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فى بعض غزواته فمرّ بقوم فقال من القوم قالوا نحن المسلمون وامراة تخضب بقدرها ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 227
تنحت به فاتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت أنت رسول اللّه قال نعم قالت بابى أنت وأمي ا ليس اللّه ارحم الراحمين قال بلى قالت أ ليس اللّه ارحم بعباده من الام بولدها قال بلى قالت ان الام لا تلقى ولدها فى النار فاكب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبكى ثم رفع رأسه إليها فقال ان اللّه لا يعذب من عباده الا المارد المتمرد « الشديد العالي - منه ره » الذي يتمرد على اللّه والى ان يقول لا اله الا اللّه - رواه ابن ماجة وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من عبد قال لا اله الا اللّه ثم مات على ذلك الا دخل الجنة قلت و(1/5709)
ان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان رنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان رنى وان سرق على رغم انف أبى ذر متفق عليه وفى الباب أحاديث كثيرة تدل على ان مال المؤمن إلى الجنة لا كما قالت المعتزلة ان مرتكب الكبيرة ان لم يتب يخلد فى النار - واما استدلال المرجئة بهذه الأحاديث على ان المعاصي صغائر كانت أو كبائر لا يضر مع الايمان كما ان الطاعة لا ينفع مع الكفر فباطل مستلزم لانكار الآيات والأحاديث الواردة فى المناهي وكون الصغائر والكبائر مفضية إلى التعذيب والسخط من اللّه تعالى الا ان يتداركه المغفرة فالمذهب الحق ما قال أهل السنة والجماعة رضى اللّه عنهم ان الطاعة لا تنفع مع الكفر لان الطاعة لا يكون طاعة الا إذا كانت خالصة للّه تعالى والا فهى معصية والايمان شرط للطاعة كالوضوء للصلوة واما المعصية فهى وان كانت فى نفسها مقتضية للتعذيب لكنها فى مشية اللّه تعالى ان شاء غفر له وان شاء عذبه فان غفر له غفر له اما بالتوبة واما بشفاعة من النبي صلى اللّه عليه وسلم أو من أحد من اتباعه واما بمحض فضل من اللّه تعالى وان عذبه لا يكون تعذيبه مؤبدا ان كان المرء مؤمنا لان اللّه تعالى وعد بالثواب على كل حسنة قال اللّه تعالى ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره والايمان رأس الحسنات والخلف فى الوعد محال ومحل الثواب الجنة لا محالة لكن المؤمن يرى ذنبه كأنَّه قاعد تحت جبل والفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على انفه فقال به هكذا بيده فذبه عنه. رواه البخاري
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 228
عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - .(1/5710)
وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أى ارجعوا إليه بالتوبة من الشرك وَأَسْلِمُوا أى انقادوا له من قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ فى القبر أو بعد البعث فحينئذ لا ينفع الايمان منكم كما يدل عليه قوله ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) عطف على جملة مستأنفة وتقديره تعذبون ثم لا تنصرون.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى القرآن فانه احسن من كل كلام أو المراد به العزائم دون الرخص مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) بمجيئه.
أَنْ تَقُولَ أى كراهة ان تقول أو لئلا تقول نَفْسٌ تنكير نفس لان القائل به بعض الأنفس أو للتكثير وهو منصوب على العلية لقوله أنيبوا وقال المبرد تقديره بادروا واحذروا ان تقول نفس يا حَسْرَتى الحسرة الاغتمام وأصله يا حسرتى انقلبت الياء الفا فى الاستغاثة وربما الحقوا به ياء المتكلم بعد الف الاستغاثة كذلك قرأ أبو جعفر يا حسرتاى « بخلاف عن ابن وردان - أبو محمد » عَلى ما فَرَّطْتُ ما مصدرية أى على تفريطى وتقصيرى فِي جَنْبِ اللَّهِ قال الحسن أى قصرت فى طاعة اللّه وقال مجاهد فى امر اللّه وقال سعيد بن جبير فى حق اللّه وقيل فى ذات اللّه على تقدير مضاف أى فى طاعته أو فى قربه وقيل معناه قصرت فى الجانب الذي يردّنى إلى رضاء اللّه وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) ان مخففة من الثقيلة واسمه ضمير الشأن واللام فارقة والجملة فى محل النصب على الحال كانّه قال وانا كنت ساخرا مستهزءا بدين اللّه وكتابه ورسوله والمؤمنين.
أَوْ تَقُولَ لَوْ ثبت أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) من الشرك والمعاصي.(1/5711)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ عيانا لَوْ للتمنى أَنَّ لِي كَرَّةً أى رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ منصوب بعد الفاء فى جواب التمني مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) معناه اتمنى كون بي رجعة إلى الدنيا فكونى من المحسنين فى العقيدة والأعمال والعطف باو للدلالة على انه لا يخلو عن مثل هذه الأقوال تحيرا أو تعللا بما لا طائل تحته ..
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (51) ومن اللّه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 229
عليه لما تضمنه قوله لو انّ اللّه هدانى لكنت من المتّقين فان معناه لم يهدنى اللّه فان كان المراد بها اراءة الطريق فالمعنى بلى قد هديتك حيث أرسلت إليك رسولى وجاءتك كتابى فكذبت بها وكان قوله لو انّ اللّه هدانى إنكارا لتبليغ الرسل كما جاء فى الحديث يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلّغت فيقول نعم فيدعى أمته فيقال لهم هل بلّغكم فيقولون لا ما جاءنا من بشير ولا نذير وقد ذكرنا الحديث فى تفسير قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وقوله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وان كان المراد بها خلق الهداية والإيصال إلى المطلوب فقولهم مبنى على التشبث بالجبر وانكار قدرتهم على كسب الايمان والطاعة فمعنى الآية بلى قد خلقت فيك القدرة التي يترتب عليها العذاب والثواب فكذّبت باختيارك لما جاءتك آياتي وهذا لا ينافى تأثير قدرت اللّه فى افعال العباد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة فان قيل فما وجه الفصل بين الرد والمردود قلنا وجه ذلك ان تقديم هذه الآية مفرق القرائن وتأخير المردود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة وتذكير الخطاب نظرا إلى المعنى.(1/5712)
وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بان وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ الجملة حال من مفعول ترى لأنه من رؤية البصر أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) عن الايمان والجملة تقرير لكونهم يرون ذلك.
وَيُنَجِّي اللَّهُ من جهنّم الَّذِينَ اتَّقَوْا من الشرك بِمَفازَتِهِمْ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر « و خلفه أبو محمد » بمفازاتهم بالألف على الجمع والباقون بغير الف على الافراد أى بفلاحهم وتفسيرها بالنجاة تخصيص باهم اقسامه وبالسعادة والعمل الصالح اطلاق للمسبب على السبب والباء للسببية صلة لينجى أو لقوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) حال أو استئناف لبيان المفازة - .
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ من الخير والشر والايمان والكفر هذه الجملة متصلة بقوله اللّه يتوفّى الأنفس وما بينهما معترضات وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) أى الأشياء كلها موكولة إليه وهو القائم بحفظها الجملة عطف أو حال.
لَهُ مَقالِيدُ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 230(1/5713)
جمع قلاد أو مقليد كمفتاح ومفاتيح أو منديل ومناديل السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى لمفاتيح خزائن السماوات والأرض بيده ملكوتها لا يتمكن من التصرف فيها غيره قال قتادة ومقاتل مفاتيح السماوات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي خزائن المطر وخزائن النبات وعن عثمان رضى اللّه عنه انه سال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن المقاليد قال تفسيرها لا اله الا هو واللّه اكبر وسبحان اللّه وبحمده واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة الا باللّه هو الأول والاخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير « 1 » - أخرجه أبو يعلى فى مسنده وابن أبى حاتم فى تفسيره والعقيلي فى الضعفاء والطبراني فى الدعاء والبيهقي فى الأسماء والصفات من حديث ابن عمر وذكره ابن الجوزي فى الموضوعات - قلت لعل المعنى ان صفات اللّه تعالى المذكورة فى هذه الكلمات تفسير للمقاليد يعنى من كان متصفا بتلك الصفات فهو مالك خزائن السماوات والأرض بيده ملكوتها والتصرف ومن يعتقد بها ويذكرها يتاهل ان يفتتح له الخزائن اما عاجلا أو أجلا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أى بالقران وبكلمات تمجيده وتوحيده أو بدلائل قدرته واستبداده بامر السماوات والأرض أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) حصر الخسار بهم لان غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب فإن فات عنهم شىء من حظوظ الدنيا فهم مستبدلوها بما لا عين رات ولا اذن سمعت من الحظوظ فى الاخرة واما الكفار فان كان لهم نصيب من خزائن الرزق والمطر فى الدنيا فلا نصيب لهم فى الشكر فلا نصيب لهم فى خزائن الرحمة والحظوظ العاجلة تنقلب عليهم وبالا واستدراجا وجاز ان يكون هذه الآية متصلة بقوله وينجّى اللّه
_________
((1/5714)
1) وروى قصة سوال عثمان عن المقاليد من حديث أبى هريرة نحوه ومن حديث ابن عباس نحوه وزاد فيه من قالها إذا أصبح عشر مرات وإذا امسى أعطاه اللّه ست خصال اما أو لهن فيحرس من إبليس وجنوده واما الثانية فيعطى قنطارا فى الجنة واما الثالثة فيزوج من حور العين واما الرابعة فيغفر له ذنوبه واما الخامسة فيكون مع ابراهيم عليه السلام واما السادسة فيحضره اثنا عشر ملكا عند موته فيبشرونه بالحق ويزفونه من قبره إلى الموقف فإذا أصابه شىء من أهاويل يوم القيامة قالوا لا تخف انك من الآمنين ثم يحاسبه اللّه حسابا يسيرا ثم يؤمر به إلى الجنة يزفونه إلى الجنة من موقفه كما يزف العروس حتى يدخلونه الجنة بإذن اللّه والناس فى شدة الحساب 12 منه نور اللّه ضريحه 12
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 231
الّذين اتّقوا وما بينهما اعتراض للدلالة على انه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها وتغير النظم للاشعار بان العمدة فى فلاح المؤمنين فضل اللّه وفى خسران الكافرين كفرهم بايات اللّه والتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية المكر واللّه اعلم - أخرج الطبراني وابن أبى حاتم عن ابن عباس ان قريشا دعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ان يعطوه مالا فيكون اغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء فقالوا هذا لك يا محمد وكفّ عن شتم الهتنا ولا تذكرها بسؤ فان لم تفعل فاعبد الهتنا سنة ونعبد إلهك سنة قال حتى انظر ما يأتينى من ربى فانزل اللّه تعالى قل يا ايّها الكافرون إلى اخر السورة وانزل.(1/5715)
قُلْ يا محمد أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي قرأ نافع وابن كثير « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) واخرج البيهقي فى الدلائل عن الحسن البصري قال قال المشركون للنبى صلى اللّه عليه وسلم تضلل آباءك وأجدادك يا محمد فانزل اللّه هذه الآية إلى قوله من الشّاكرين وقال البغوي قال مقاتل ان كفار مكة دعوه إلى دين ابائه فنزلت قرأ أهل الشام بنونين خفيفتين واهل المدينة بنون واحدة خفيفة على الحذف فانها تحذف كثيرا والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام والهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف وغير مفعول لاعبد قدم عليه لأنه محل الإنكار وتأمرونى جملة معترضة تقديرهء أكفر فغير اللّه اعبد تأمرونى بذلك وجاز ان ينتصب غير بما دلّ عليه تأمروني اعبد لأنه بمعنى تعبّدونى من التفعيل على ان أصله تأمرونني ان اعبد غير اللّه فحذف ان ورفع الفعل كقوله احضر الوعى ويؤيده قراءة اعبد بالنصب فالتقدير الم يتضح عليكم التوحيد بعد تلك الدلائل فتعبّدوننى غير اللّه حيث تأمرونني ان اعبد غير اللّه.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) كلام على سبيل الفرض والمراد به اقناط الكفرة والاشعار على حكم الامة. وبهذه الآية نحكم بان الردة محبط لثواب جميع الحسنات كما ان الإسلام يهدم ما كان قبله من السيئات فان اسلم بعد الردة فى وقت صلوة
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 232(1/5716)
صلاها فعليه أداؤه ثانيا وكذا يجب الحج ثانيا على من حج ثم ارتد ثم اسلم كذا قال الامام ابن الهمام وقال البيضاوي اطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لان شركهم أقبح وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به فى قوله تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم وهذا القول باطل لان القول بكونها من خصائص الأنبياء شنيع جدا تكاد السّماوات يتفطّرن من هذا القول إذ الكلام انما هو على سبيل الفرض المحال وانما المراد به الاشعار على حكم غيرهم وقوله من يرتد دمنكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم لا يدل على نفى الحبط إذا لم يوجد الموت على الكفر بل المطلق عندنا يبقى على إطلاقه لا ضرورة فى حمله على المقيد واللّه اعلم - .
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به واللّه منصوب باعبد والفاء اما زائدة واما بتقدير امّا وتقديم المعمول لقصد الحصر وبل للعطف على محذوف دل عليه قوله لان أشركت إلخ تقديره لا تعبد غير اللّه بل اللّه اعبد أو بل امّا اللّه فاعبد وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) انعامه عليك وفيه اشارة إلى موجب الاختصاص أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال مرّ يهودىّ بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع اللّه السماوات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه فانزل اللّه تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعنى ما عرف الناس عظمة اللّه سبحانه حق عظمته حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به ولم يعبدوه حق عبادته ولم يشكروه حق شكره وأنكروا البعث بعد الموت.(1/5717)
وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً يعنى الأرضين السبع بجميع أبعاضها البادية والغارية قَبْضَتُهُ القبضة المرة من القبض أطلقت على المقدار المقبوض بالكف تسمية المفعول بالمصدر أو بتقدير ذات قبضته يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ هذه الآية من المتشابهات المصروفة عن الظاهر لا يعلم تأويله الا اللّه والغرض منه التنبيه على عظمته وكمال قدرته وحقارة الافعال العظام التي يتخير فيها الأوهام بالاضافة على قدرته وعلى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 233(1/5718)
ان تخريب العالم أهون شىء عليه - وقال علماء البيان هذا الكلام وارد على طريقة التمثيل والتخيل من غير اعتبار القبضة واليمن حقيقة ولا مجازا كقولهم شابّت لمة الليل - ووجه نزول الآية بعد قول اليهودي تصديق ما حكاه اليهودي عن التورية فان كتب اللّه تعالى مصدقة بعضها لبعض - وفى الصحيحين حديث ابن مسعود بلفظ جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد ان اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول انا الملك انا اللّه فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم تعجّبا ممّا قال الحبر تصديقا له ثم قرأ وما قدروا اللّه حقّ قدره الآية - لعل وجه التطبيق بين رواية الترمذي ورواية الصحيحين ان الآية نزلت حينئذ فقرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم كما نزلت على اليهودي وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول انا الملك اين ملوك الأرض - وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطوى اللّه السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول اين الجبارون اين المتكبرون ثم يطوى الأر ضين بشماله - وفى رواية يأخذهن بيده الاخرى ثم يقول انا الملك اين الجبارون اين المتكبرون - واخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة جمع الله السماوات والأرضين السبع فى قبضة ثم يقول انا اللّه انا الرحمان انا الملك انا القدوس انا المؤمن انا المهيمن انا العزيز انا الجبار انا المتكبر انا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا انا الذي أعيدها اين الملوك اين الجبابرة - قال القاضي عياض القبض والطى والاخذ كلها بمعنى الجمع فان السماوات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة ثم رجع ذلك إلى معنى(1/5719)
الرفع والازالة والتبديل وقال القرطبي المراد بالطي الاذهاب والافناء واخرج ابن أبى حاتم عن الحسن قال عدّت اليهود فنظروا فى خلق السماوات والأرض والملائكة فلمّا فرغوا أخذوا يقدرونه فانزل اللّه تعالى وما قدروا اللّه حق قدره واخرج عن سعيد بن جبير قال قال تكلمت اليهود فى صفة الرب فقالوا بما لم يعلموا ولم يروا فانزل اللّه تعالى وما قدروا اللّه الآية واخرج ابن المنذر عن الربيع بن
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 234
انس قال لمّا نزلت وسع كرسيّه السّموت والأرض قالوا يا رسول اللّه هذا الكرسي هكذا فكيف العرش فانزل اللّه تعالى وما قدروا اللّه حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسّموت مطويّت بيمينه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) ما ابعد أعلا من هذه قدرته عن اشراكهم أو ما يضاف إليه من الشركاء - .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعنى النفخة الاولى فَصَعِقَ أى مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قد ذكرنا المراد بالمستثنى فى هذه الآية فى سورة النمل فى تفسير قوله تعالى ونفخ فى الصّور ففزع من فى السّموت ومن فى الأرض الّا من شاء اللّه قال الحسن الّا من شاء اللّه يعنى اللّه وحده ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى أى نفخة اخرى يحتمل النصب والرفع فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ (68) يقلّبون أبصارهم فى الجوانب كالمبهوت أو ينتظرون ما يفعل بهم وبين النفختين أربعون يوما وقد ذكرنا ما ورد فيه من الأحاديث فى سورة النازعات.(1/5720)
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ يعنى ارض عرصات القيامة عطف على نفخ فيه اخرى بِنُورِ رَبِّها بنور خالقها قال البغوي وذلك حين يتجلّى الربّ لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون فى نوره كما لا يتضارون بالشمس فى اليوم الصحو وقال الحسن والسدىّ أى بعدل ربها قيل سماه نورا لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظلم ظلمات يوم القيامة - متفق عليه من حديث ابن عمرو وُضِعَ الْكِتابُ أى صحائف الأعمال فى أيدي العمال واكتفى باسم الجنس عن الجمع أخرج البيهقي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث اللّه تعالى ريحا فتطيرها بالايمان والشمائل أول خط فيها اقرأ كتبك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا - واخرج أبو نعيم عن ابن مسعود موقوفا والديلمي عن أبى هريرة مرفوعا عنوان كتاب المؤمن يوم القيامة حسن ثناء الناس وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ قال السيوطي قال العلماء يكون الحساب بمشهد من النبيين وغيرهم واخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب قال وليس من يوم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 235
الا ويعرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم وَالشُّهَداءِ قال ابن عباس الذين يشهدون للرسل على تبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال عطاء يعنى الحفظة يدل عليه قوله تعالى وجاءت كلّ نفس « 1 » معها سائق وشهيد وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين العباد بِالْحَقِّ أى بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) أى لا يزاد فى سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أى جزاوه وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) قال عطاء يعنى انه تعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب وشاهد انما الكتاب والشهود جريا على العادة وإلزاما للكفرة - ثم فصل اللّه التوفية وقال.(1/5721)
وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أى أفواجا متفرقة بعضها على عقب بعض على تفاوت أقدامهم فى الضلالة قال أبو عبيدة والأخفش زمرا أى جماعات فى فرقة واحدتها زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه أو من قولهم شاة زمرة أى قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروة وهى الجمع القليل حَتَّى إِذا جاؤُها ليدخلوها فُتِحَتْ قرأ الكوفيون بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير أى فتحّت ابوابها السبعة كلها وكانت مغلقة قبل ذلك وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا وتوبيخا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أى من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أى وقتكم هذا أى وقت دخولكم النار قال البيضاوي فيه دليل على انه لا تكليف قبل الشرع من حيث انهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وإنذار الكتب قلت هذه الآية لا تدل على عدم التعديب على الإشراك باللّه عند عدم الرسل بل على كمال التوبيخ بعد تمام الحجج فان العقل وان لم يكن مستقلا فى درك الشرائع لكن الدلائل المنصوبة على الوحدانية كاف لحكم العقل بالتوحيد فإذا أرسل اللّه سبحانه الرسل وانزل الكتب وأوضح الطريق لم يبق العذر بوجه من الوجوه واللّه اعلم قالُوا بَلى وَلكِنْ
_________
(1) وفى الأصل وجاءت كلّ امّة إلخ 12 -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 236
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أى كلمة اللّه بالعذاب وحكمه فى الأزل انهم من الأشقياء عَلَى الْكافِرِينَ (71) وضع المظهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك الحكم بالكفر.(1/5722)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) اللام للجنس والمخصوص بالذم محذوف لما سبق ذكره يعنى جهنم والفاء للسببية فان الكلام السابق سبب للذم وفيه اشعار بان مثواهم الجهنم لتكبرهم عن الحق وذا لا ينافى كون دخولهم فيها لما حقت عليهم كلمة العذاب فان تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حديث طويل ان اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من اعمال الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من اعمال أهل النار فيدخل به النار - رواه مالك وأبو داود والترمذي - .
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ اسراعا بهم إلى دار الكرامة وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم الا راكبين زُمَراً على تفاوت مراتبهم فى الشرف وعلو الطبقة حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ قرأ الكوفيون بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير أَبْوابُها حال يعنى وقد فتحت ابوابها قبل مجيئهم تعظيما لهم كيلا ينتظروا وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أى لا يعتريكم مكروه ابدا طِبْتُمْ أى طهرتم من دنس المعاصي وهذا اما لعدم ارتكابهم المعاصي أو لطهارتهم عنها بالمغفرة أو بالعقوبة قال قتادة إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة وقال لهم رضوان وأصحابه سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين - وعن على رضى اللّه عنه قال سيقوا إلى الجنة وإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الاخرى فيطهر باطنه
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 237(1/5723)
و تلقته الملائكة على أبواب « 1 » الجنة يقولون سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين - وقال الزجاج معناه كنتم طيبين فى الدنيا عن خبائث الشرك والمعاصي وقال ابن عباس معناه طاب لكم المقام فَادْخُلُوها الفاء للدلالة على ان طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم هذا على التأويلات المتقدمة واما على قول ابن عباس فطيب مقامهم سبب لدخولهم يعنى لمّا كانت الجنة مقاما طيّبا استأهل ان تكون محلا لهم خالِدِينَ (73) أى مقدرين الخلود - .
وَقالُوا عطف على محذوف وهو جواب إذا حذف للدلالة على ان لهم مع الدخول من الكرامة ما لا يسعه المقال تقديره حتّى إذا جاءوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها كذا دخلوها ووجدوا فيها ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر ببال أحد ولا يسعه المقال وقالوا شكرا لما أنعم عليهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بدخول الجنة وبما أخفى لهم من قرّة أعين وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أى ارض الجنة وايراثها تحليهم إياها نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أى يتبوا كل منا فى اىّ مقام أراد من جنته الواسعة وإذا أراد زيارة الأنبياء واصحاب الدرجات العلى تيسر لهم ذلك أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء وحسنه عن عائشة قالت جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه انك لاحبّ الىّ من نفسى ومن أهلي وولدي وانى لاكون فى البيت فاذكرك ولا اصبر حتى اتيك فانظر إليك فإذا ذكرت موتى وموتك عرفت انك إذا دخلت وقفت مع النبيين وانى ان دخلت خشيت ان لا أراك فلم يرد عليه شيئا حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى ومن يطع اللّه والرّسول « 2 » فاولئك
_________
((1/5724)
1) عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من أنفق بزوجين من ماله فى سبيل اللّه دعى من أبواب الجنة وللجنة أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد فقال أبو بكر يا رسول اللّه فهل يدعى أحد منها كلها قال نعم وأرجو ان تكون منهم 12 منه نور اللّه ضريحه.
(2) وفى الأصل ورسوله إلخ 12 -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 238
الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقا فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (73) الجنة ..
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين محيطين حال مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قيل هذا تسبيح تلذّذ لا تسبيح تعبّد لان التكليف ساقط حينئذ وجملة يسبحون حال من فاعل حافين وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الخلائق بِالْحَقِّ بالعدل بإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار وقيل بين الملائكة بإقامتهم فى منازلهم على حسب تفاضلهم وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) يعنى يقول ذلك أهل الجنة شكرا حين ثم وعد اللّه لهم وقيل يقول ذلك الملائكة شكرا للّه على إدخال اولياء اللّه الجنة واعداء اللّه النار عن عائشة رضى اللّه عنها قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر - رواه الترمذي والنسائي والحاكم تمت سورة الزمر غرة رمضان سنة 1207 ه - ويتلوه ان شاء اللّه تعالى سورة المؤمن.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 239(1/5725)
سورة المؤمن
مكية وهى خمس وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه انه قال ان مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد « 1 » لاهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الأول فهذا اعجب وأعجبه فقيل له ان مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن وان مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل ال حم فى القرآن - وقال البغوي قال ابن مسعود إذا وقعت فى ال حم وقعت فى روضات اتانق فيهن « اى استرحيهن - منه ره » وفى رواية إذا قرات ال حم وقعت فى روضات دمثات - وروى أيضا بسنده عن ابن عباس قال لكل شىء لباب ولباب القرآن الحواميم وقال البغوي قال ابراهيم كل ال حم يسمين العرائس واخرج الحاكم عن ابن مسعود موقوفا الحواميم ديباج « پارچه ابريشمى - منه ره » القران.
حم (1) قد سبق الكلام فى الحروف المقطعات وقال البغوي قال السدى حم اسم اللّه الأعظم وروى عن عكرمة عنه قال الرحم ن حروف الرحمان مقطعة وقال سعيد بن جبير وعطاء الخراسانى الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حى حيان والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد منان وقال الكسائي قضى ما هو كائن كانهما أشار إلى ان معناه حمّ بضم الحاء وتشديد الميم قرأ ابن كثير وقالون وحفص « و أبو جعفر ويعقوب - أبو محمد » وهشام بفتح الحاء فى الحواميم كلها وورش وأبو عمر بين بين والباقون بالامالة.
_________
(1) يرتاد أى يطلب مكانا لرعى المواشي والرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلاء ومساقط الغيث - منه رح
.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 240(1/5726)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر مبتدا محذوف أى هذا تنزيل الكتاب أو مبتدا خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ فى ملكه الْعَلِيمِ (2) بخلقه لعل تخصيص الوصفين بالذكر لما فى القرآن من الاعجاز والحكمة الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة.
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ للمؤمنين مصدر تاب يتوب توبة وقيل التوب جمع توبة مثل دومة ودوم وحومة وحوم قال ابن عباس غافر الذّنب لمن قال لا اله الا اللّه قابل التّوب ممن قال لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه صفتان للّه تعالى والاضافة فيهما معنوية لأنه لم يرد زمان مخصوص بل الاستمرار وتوسيط الواو لافادة الجمع بين محو الذنب وقبول التوبة أو تغائر الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد أو تغائر موقع الفعلين لان الغفر هو الستر فيكون الذنب باقيا وذلك لمن لم يتب والتائب كمن لا ذنب « 1 » له - رواه ابن ماجة مرفوعا عن ابن مسعود والحكيم عن أبيّ وابن النجار عن على وابن عساكر والبيهقي عن ابن عباس فهو دليل على جواز المغفرة لمن لم يتب شَدِيدِ الْعِقابِ لمن لم يقل لا اله الا اللّه ذِي الطَّوْلِ
_________
((1/5727)
1) عن يزيد بن الأصم ان رجلا كان ذا بأس وكان عمر يعد لبأسه وكان من أهل الشام وان عمر فقده فسال عنه فقيل له تتابع فى هذا الشرب فدعا كاتبه فقال اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان سلام عليكم فانى احمد إليك اللّه الذي لا اله الا هو غافر الذّنب وقابل التّوب شديد العقاب ذى الطّول لا اله الّا هو إليه المصير ثم دعا وامر من عنده فيدعو له ان يقبل اللّه عليه بقلبه وان يتوب عليه - فلمّا أتت الرجل جعل يقرأها ويقول غافر الذّنب قد وعد فى اللّه ان يغفر لى وقابل التّوب شديد العقاب قد حذرنى عقابه ذى الطّول والطول الخير الكثير إليه للصير فلم يزل يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فاحسن النزع - فبلغ عمر امره فقال هكذا فاصنعوا إذا رايتم أخا لكم ذلّ ذلّة فسددوه ووفقوه وادعوا اللّه له ان يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه - وعن قتادة قال كان شاب بالمدينة صاحب عبادة وكان عمر محبّا له فانطلق إلى مصرف فسد فجعل لا يمتنع من شر فقدم إلى عمر بعض اهله فساله حتى ساله عن الشاب فقال لا تسئلنى عنه قال لم قال انه فسد وخلع فكتب إليه عمر إلى فلان حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم الآية فجعل يقرأها على نفسه فاقبل بخير - وعن أبى إسحاق السبيعي قال جاء رجل إلى عمر فقال يا امير المؤمنين انى قتلت فهل لى من توبة فقرأ عليه حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم غافر الذّنب وقابل التّوب وقال اعمل ولا تيئس 12 منه نور اللّه مرقده - [.....]
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 241(1/5728)
قال مجاهد أى ذى السعة والغنى وقال قتادة ذى النعم وقيل ذى القدرة وقال الحسن ذى الفضل قيل غافر الذنب وما بعدها ابدال ليست بصفات واضافة الثلاثة منها لفظية لا تفيد التعريف فلا تصلح كونها صفات وعلى هذا ذى الطّول أيضا بدل لامتناع تقدم البدل على الصفة وقال صاحب الكشاف والبيضاوي هى كلها صفات كالاولين والاضافة فيها حقيقية لما ذكرنا انه لم يرد زمان مخصوص وأريد بشديد العقاب مشددة فالاضافة فيه أيضا حقيقية إذ هو فى الأصل الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج والامن من اللبس فهو معرف باللام وجعله وحده بدلا مشوش للنظم وقال الزجاج شديد العقاب بدل ليس بصفة وبه قال صاحب المبارك للقطع بكونه نكرة وحذف اللام لا يجوز وعلى هذا ذى الطّول أيضا بدل وما قال البيضاوي اولى من حيث المعنى لان كلها توابع تدل على معان فى متبوعها أوردت للمدح والترغيب والترهيب والحثّ على ما هو المقصود منه والمقصود بالنسبة انما هو اللّه لا غير.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلى على عبادته قال صاحب المدارك هذا صفة اخرى كذى الطّول والظاهر انه استئناف إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) فيجازى المطيع والعاصي.(1/5729)
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أى فى دفع آيات اللّه بالتكذيب أو اثبات التناقض أو فى الآيات المتشابهات بتأويلات مخالفة للمحكمات أو مخالفة لما تواتر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوما يتمارون « اى يتجادلون - منه ره » فى القرآن فقال انما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض وانما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم فقولوه وما جهلتم فوكلوه إلى عالمه - رواه البغوي ورواه مسلم بلفظ ان عبد اللّه بن عمرو (يعنى جد عمرو بن شعيب) قال هجّرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا فى اية فخرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرف فى وجهه الغضب فقال انما هلك من كان قبلكم باختلافهم فى الكتاب. وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال ان جدلا فى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 242
القران كفر - رواه البغوي ورواه البيهقي فى شعب الايمان والطيالسي من حديث عبد اللّه ابن عمر ورواه أبو داود والحاكم وصححه عن أبى هريرة مرفوعا بلفظ المراء فى القرآن كفر قال البيضاوي لما حقق اللّه سبحانه امر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن وادحاض الحق كقوله وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّ فاما الجدال « 1 » فيه لحل عقدة واستنباط حقائقه وقطع تشبث أهل الزيغ وقطع م طاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات ولذلك قال عليه السلام ان جدالا فى القرآن كفر - بالتنكير مع انه ليس جدالا فيه على الحقيقة فَلا يَغْرُرْكَ يا محمد تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) يعنى إمهالهم وإقبالهم فى دنياهم وتقلبهم فى بلاد الشام واليمن بالتجارات المربحة.(1/5730)
اخرج ابن أبى حاتم عن السدىّ عن أبى مالك انه قال نزلت فى الحارث بن قيس السهمي يعنى انهم مواخذون عن قريب بكفرهم كالذين قبلهم كما قال.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أى الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح كعاد وثمود يعنى كذبوا نوحا وغيره من الرسل هذه معللة بقوله فلا يغررك وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ منهم بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ قال ابن عباس أى ليقتلوه ويهلكوه وقيل لياسروه والعرب يسمى الأسير اخيذا وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أى بمثل قولهم ما أنتم الّا بشر مثلنا ولو لا انزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا ونحو ذلك لِيُدْحِضُوا أى ليزيلوا ويبطلوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك جزاء لهمهم عطف على جادلوا فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) أى عقابى فانكم تمرون على ديارهم وترون اثره والاستفهام للتقرير والتعجيب.
وَكَذلِكَ أى وجوبا مثل وجوب إهلاكهم فى الدنيا حَقَّتْ أى وجبت فى الاخرة كَلِمَةُ رَبِّكَ أو المعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم
_________
(1) قال فى النهاية انما جاء هذا فى الجدال والمراء فى الآيات التي ذكر فيها القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام واصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنه من الاحكام وأبواب الحلال والحرام فان ذلك قد جرى من الصحابة فمن بعدهم من العلماء وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز 12 منه نور اللّه مرقده.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 243
المكذبة السابقة كذلك حقت كلمة العذاب عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) بدل من كلمت ربّك بدل الكل على قراءة كلمة ربّك وبدل البعض على قراءة كلمات أو بدل الاشتمال على ارادة اللفظ أو المعنى وقال الأخفش تقديره لانّهم وبانّهم اصحاب النّار - .(1/5731)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ أى الطائفون به وهم الكروبيون وهم سادة الملائكة قال ابن عباس حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام ويروى ان أقدامهم فى تخوم الأرضين « اى حدودها ومعالمها - منه ره » والأرضون والسماوات إلى حجزتهم وهم يقولون سبحان ذى العزة والجبروت سبحان ذى الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح - وقال ميسرة بن عبد ربه أرجلهم فى ارض السفلى ورءوسهم تحت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة واهل السماء السابعة أشد خوفا من التي تليها والتي تليها أشد خوفا من التي تليها - وقال مجاهد بين الملائكة والعرش سبعون حجابا من نور وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اذن لى ان أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة اذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام - رواه أبو داود والضياء بسند صحيح وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال ان ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين الف سنة والعرش يكسى كل يوم سبعون الف لون من النور لا يستطيع ان ينظر إليه خلق من خلق اللّه والأشياء كلها فى العرش كحلقة فى فلاة - وقال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون الف حجاب حجاب من نور وحجاب من ظلمة وحجاب من نور وحجاب من ظلمة - وقال وهب بن منبه ان حول العرش سبعون الف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هولاء ويقبل هؤلاء فإذا استقبل بعضهم بعضا هلّل هؤلاء وكبر هولاء ومن ورائهم سبعون الف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رافعوا أصواتهم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 244(1/5732)
فقالوا سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت اللّه لا اله غيرك أنت الأكبر الخلق كلهم راجعون إليك ومن وراء هولاء مائة الف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد الا وهو يسبح بتحميدة لا يسبحه الاخر ما بين جناحى أحدهم مسيرة ثلاث مائة عام وما بين شحمة اذنه إلى عاتقه اربع مائة عام واحتجب اللّه من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نار وسبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور وسبعين حجابا من در ابيض وسبعين حجابا من ياقوت احمر وسبعين حجابا من ياقوت اصفر وسبعين حجابا من زبرجد اخضر وسبعين حجابا من ثلج وسبعين حجابا من ماء وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه الا اللّه تعالى قال ولكل واحد من جملة العرش ومن حوله اربعة وجوه وجه ثور ووجه اسد ووجه نسر ووجه انسان ولكل واحد منهم اربعة اجنحة اما جناحان فعلى وجهه مخافة ان ينظر إلى العرش فيصعق واما جناحان فيهفو بهما كما يهفو هذا الطائر بجناحيه إذا حركه ليس لهم كلام الا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد - يُسَبِّحُونَ اللّه أى يذكرونه بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام متلبسين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال البيضاوي جعل التسبيح أصلا والحمد حالا لان الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أى يصدقون بانه تعالى موجود واجب وجوده خالق للاشياء كلها أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد اخبر اللّه تعالى عنهم بالايمان إظهارا لفضله وتعظيما لاهله وايماء بان الملائكة فى العبودية والعجز والايمان بالغيب كسائر الخلائق لا كما تزعم الكفار انهم بنات اللّه وردّا على المجسمة عن شهر بن حوشب قال حملة العرش ثمانية اربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال فكانهم يرون ذنوب بنى آدم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ(1/5733)
آمَنُوا فيه تنبيه على ان المشاركة فى الايمان يوجب النصح والشفقة وان تخالف الأجناس لانها أقوى المناسبات كما قال اللّه تعالى انّما المؤمنون اخوة رَبَّنا أى يقولون ربّنا وجملة يقولون مع ما فى حيزه حال من فاعل يستغفرون وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أى وسعت كل شىء رحمتك وعلمك فازيل عن أصله للاغراق فى وصفه بالرحمة والعلم
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 245
و المبالغة فى عمومها وقدم
الرحمة لانها المقصودة بالذات هاهنا فَاغْفِرْ الفاء للسببية فان سعة الرحمة سبب للمغفرة لِلَّذِينَ تابُوا أى رجعوا عن الكفر إلى الإسلام وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أى دينك الذي بعثت به رسلك وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) أى احفظهم عنه تصريح بعد اشعار للتأكيد قال مطرف انصح عباد اللّه للمؤمنين الملائكة واغش الخلق لهم الشياطين.(1/5734)
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ أى « 1 » اقامة الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إياها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ من صلح عطف على هم فى أدخلهم أو لما وعدتهم يعنى وعدتهم ووعدت من صلح من ابائهم ولعل المراد بالصلاح هاهنا نفس الايمان فان المؤمن صالح لدخول الجنة وان كان مرتكبا للكبائر بغفران اللّه تعالى فان اللّه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء وانما قلنا ذلك ليتحقق التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه ولو كان المراد بالصلاح صلاح العقائد والأعمال والأخلاق جميعا كان من صلح داخلا فى الذين تابوا واتبعوا سبيل اللّه واللّه اعلم - قال البغوي قال سعيد بن جبير يدخل المؤمن الجنة فيقول اين أبى اين أمي اين ولدي اين زوجى فيقال انهم لم يعملوا مثل عملك فيقول انى كنت اعمل لى ولهم فيقال أدخلوهم الجنة وهذا موقوف فى حكم المرفوع وصريح فى ان المراد بالصلاح فى الآية نفس الايمان إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي يقدر على كل شىء ولا يمتنع عنه ما أراد الْحَكِيمُ (8) الذي لا يفعل الا ما يقتضيه الحكمة ومن ذلك الوفاء بالوعد.
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أى العقوبات أو جزاء الأعمال السيئة وهذا تعميم بعد تخصيص أو مخصوص عن من صلح أو المعنى وقهم السّيّئات أى عن الأعمال السيئة فى الدنيا وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أى يوم الجزاء أو فى الدنيا فَقَدْ رَحِمْتَهُ دليل على جزاء الشرط المحذوف أقيم مقامه تقديره ومن تق السّيّئات يفلح إذ قد رحمته وَذلِكَ أى الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما
_________
(1) عن قتادة انه قال ان عمر بن الخطاب قال يا كعب ما عدن قال قصور من ذهب فى الجنة يسكنها النبيون والصديقون دائمة العدل 12 منه رح
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 246(1/5735)
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) فان قيل اىّ فائدة فى سوال الملائكة للمؤمنين بإدخال الجنة بعد ما وعدهم اللّه تعالى به واستحالة الخلف فى وعد اللّه وكذا فى سوال المؤمنين للنبى صلى اللّه عليه وسلم بقوله اللّهم ات محمد ان الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته قلت الباعث على الدعاء حبهم إياهم لما القى اللّه تعالى فى قلوبهم وفائدته استجلاب مزيد رحمة اللّه للمدعو لهم واستجلاب رضوان اللّه ورحمته للداعين لاجل المحبوبين للّه تعالى واللّه اعلم - .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره متصل بقوله ما يجادل فى آيات اللّه الّا الّذين كفروا وما بينهما معترضات فى مدح الملائكة الموصوفين بالايمان المستغفرين للمؤمنين الذين هم اعداء الكافرين يُنادَوْنَ أى يناديهم خزنة النار يوم القيامة وهم فى النار وقد مقتوا أنفسهم الامّارات بالسوء حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا جزاءها فيقال لهم لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لاله لأنه مصدر وخبره اكبر من مقتكم فلا تعمل فى إذ تدعون لان المصدر إذا اخبر عنه لم يجز ان يتعلق شىء يكون فى صلته لان الاخبار عنه يؤذن بتمامه وما يتعلق به يؤذن بنقصانه ولا للمقت الثاني لأنه عند حلول العذاب - أو تعليل للحكم وزمان المقتين واحد.(1/5736)
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا موتتين اثْنَتَيْنِ أو مرتين وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أى خلقتنا أمواتا نطفا فى أصلاب الآباء ثم أحييتنا فى أرحام الأمهات فى الدنيا ثم أمتنا عند انقضاء الآجال ثم أحييتنا يوم القيامة كذا قال ابن عباس وقتادة والضحاك ونظيره قوله تعالى كنتم أمواتا فاحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم وقال السدىّ معناه امتّنا فى الدنيا ثم أحييتنا فى القبر للضوال ثم امتّنا فى القبر ثم أحييتنا يوم البعث ومبنى هذا القول الزعم بان الاماتة يقتضى الحيوة قبل الموت وهذا ليس الان الاماتة جعل الشيء عديم الحيوة ابتداء أو بالتصيّر كما قيل سبحان من صغر البيض وكبر الفيل وان خص بالتصيّر فاختيار الفاعل أحد مفعوليه بأحد الوصفين تصيّر و
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 247
صرف له عن الاخر والسؤال فى القبر لا يستدعى حيوة مثل حيوة الدنيا ولو استدعى ذلك لاستدعى عذاب القبر أيضا مثل ذلك ولزم انقطاع عذاب القبر عن الكفار إذا أميتوا فى القبر بعد السؤال وليس كذلك فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا الفاء للسببية ولما كان سبب اعترافهم معاينتهم الحيوة الثانية بعد الموت الثانية جعل مجموع الموتتين والحياتين سببا له فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ واحد أو نوع من الخروج من النار سريع أو بطى ورجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ (11) طريق فنسلكه استفهام ومعناه التمني فينادون لا سبيل لكم إلى الخروج فحذف هذه الجملة لما يدل عليه قوله.(1/5737)
ذلِكُمْ يعنى انتفاء سبيل للخروج وما أنتم فيه من العذاب بِأَنَّهُ أى بسبب انه إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ أى متوحدا وتوحد وحده فحذف الفعل وأقيم مقامه فى الحالية كَفَرْتُمْ يعنى إذا قيل لا اله الا اللّه انكرتم وقلتم اجعل الالهة الها واحدا وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ غيره تُؤْمِنُوا تصدقوا بالاشراك وإذا كان هذا سببا لدخولكم فى النار فَالْحُكْمُ لِلَّهِ يعنى هذا الحكم للّه خاصة الذي هو المستحق للعبادة المنزه عن الشريك وهو قد حكم عليكم بالعذاب الشديد الدائم بسبب كفركم ولو كان له شريك مما عبدتموها أنجاكم من عذابه وكان لكم حينئذ سبيل إلى الخروج الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) من ان يشرك ويسوى به غيره ..
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على التوحيد وسائر ما يجب ان يعلم وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أى مطرا يكون سببا لرزقكم فيه ولمعذرتهم بالجهل بعد رؤية ما كان صالحا للاستدلال على التوحيد وَما يَتَذَكَّرُ بالآيات إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) إلى اللّه ويرجع عن التعصب والعناد وهذه الجملة مبتدئة خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم بعد ما تم الجواب لاهل النار.
فَادْعُوا اللَّهَ يعنى إذا سمعتم ما يؤل إليه امر المشركين فادعوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى الطاعة والعبادة من الشرك وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) يعنى وان غاظ ذلك أعداءكم الكافرين.
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أى رفيع درجات كماله بحيث لا يظهر بجنبها كمال وقيل الرفيع هاهنا
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 248(1/5738)
بمعنى رافع درجات أنبيائه وأوليائه فى مراتب القرب إليه وفى الجنة بعضها فوق بعض ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه يُلْقِي الرُّوحَ أى ينزل الوحى سماه روحا لأنه يحيى به القلوب كما يحيى الأبدان بالأرواح مِنْ أَمْرِهِ قال البغوي قال ابن عباس يعنى من فضله فمن للابتداء وقيل من قوله فمن للبيان عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الثلاثة كلها اخبار لهو مترادفة لموصول دالة على توحيده وعلو صمديته وتمهيد للنبوة أو اخبار مبتدا محذوف أى هو لِيُنْذِرَ متعلق بيلقى والمستكن فيه للّه أو للروح أو لمن وهو اظهر واقرب ويؤيده قراءة يعقوب « لا يدعى الحسن بالتاء - أبو محمد » بالتاء للخطاب أى لتنذر أنت يا محمد وحذف المفعول للدلالة على عموم دعوته وشمول إنذاره الثقلين يَوْمَ التَّلاقِ (15) أى يوم يلتقى فيه الخلائق كلها أهل السماوات والأرض وقال مقاتل وقتادة يوم يلتقى فيه الخالق والخلائق وقال ميمون بن مهران يلتقى فيه الظالم والمظلوم والخصوم وقيل يلتقى العابدون والمعبودون وقيل المرء مع عمله - أخرج الحاكم وابن جرير وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا فى كتاب الأهوال عن ابن عباس انه قرأ يوم تشقّق السّماء بالغمام قال يجمع اللّه الخلق يوم القيامة فى صعيد واحد الجن والانس والبهائم والسباع والطير فتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم اكثر ممن فى الأرض من الجن والانس الحديث بطوله ذكر فيها نزول أهل السماوات السبع بعضهم عقيب بعض ونزول اللّه تعالى وهو من المتشابهات وذكرنا تأويلها فى سورة الفرقان فى تفسير قوله تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وفى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام والملائكة.(1/5739)
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ 5 أى خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شىء من جبل أو اكمة أو بناء أو ظاهرة نفوسهم لا يحجبهم غواشى الأبدان أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ أى من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم شَيْ ءٌ تقرير لقوله يوم هم بارزون وازاحة لنحو ما يتوهم فى الدنيا لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ حكاية لما يسئل عنه فى ذلك اليوم وذلك بعد فناء الخلق قبل البعث وحينئذ لا يكون أحد يجيبه فيجيب نفسه ويقول لِلَّهِ الْواحِدِ المتوحد فى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 249
جلال الذات وكمال الصفات المنزه عن الشريك فى الالوهية وفى شيء من الممكنات الْقَهَّارِ (16) الذي قهر الخلق بالموت وبالتصرف فيها بما أراد.(1/5740)
رواه يعنى كون السؤال والجواب من اللّه بعد فناء الخلق قبل البعث أبو هريرة فى حديث طويل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم رواه الطبراني فى المطولات وأبو يعلى فى مسنده والبيهقي فى البعث وغيرهم واخرج ابن أبى داود فى البعث عن أبى سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ينادى مناد بين الصيحة يا ايّها الناس أتاكم الساعة ومدّ بها صوته يسمعها الاحياء والأموات وينزل اللّه إلى السماء الدنيا ثم ينادى مناد لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار - واخرج البيهقي عن انس دفعه فى قوله تعالى ونفخ فى الصّور الآية فكان ممّن استثنى اللّه ثلاثة جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول اللّه (و هو اعلم) يا ملك الموت من بقي فيقول وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول توف نفس ميكائيل ثم يقول (و هو اعلم) يا ملك الموت من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وملك الموت فيقول توف نفس جبرئيل ثم يقول (و هو اعلم) يا ملك الموت من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت وهو ميت فيقول مت ثم ينادى انا بدأت الخلق ثم أعيده اين الجبارون المتكبرون ثم ينادى لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول هو للّه الواحد القهّار ثم ينفخ فيه اخرى فإذا هم قيام ينظرون - وسياق الآية يقتضى انه حكاية لما يسئل عنه فى ذلك اليوم بعد احياء الخلق يوم هم بارزون أو حكاية لما دلّ عليه ظاهر الحال فى ذلك الوقت من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وسلب الاضافة المجازى للملك والحكم إلى غيره تعالى واما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.(1/5741)
الْيَوْمَ يعنى حين يسلب الملك المجازى من غيره تعالى ويكون الملك خاصة له ظاهرا كما هوله خاصة دائما على الحقيقة تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب بناء على الوعد ولان الحاكم حينئذ هو اللّه وحده ولا يتصور منه الظلم لان الظلم ما يفعله أحد
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 250
فى غير ملكه بلا اذن ما لكه وكل ما يفعله اللّه يفعله فى ملكه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) يحاسب الناس كلهم فى قدر نصف يوم من ايام الدنيا بناء على مشيته والا فهو قادر على ان يحاسبهم دفعة فى ان واحد إذ لا يشغله شأن عن شأن - .
وَأَنْذِرْهُمْ عطف على الاخبار السابقة بتقدير يقال لك انذرهم يَوْمَ الْآزِفَةِ أى القيامة سمّيت بها لازوافها أى قربها إذ كل ما هو ات قريب إِذِ الْقُلُوبُ إذ بدل من يوم الآزفة لَدَى الْحَناجِرِ فانها ترفع عن أماكنها من شدة الهول فتلتصق بحلوقهم فلا يعود حتى يترحوا ولا يخرج فيموتوا كاظِمِينَ مكروبين ممتلين خوفا وو حزنا والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن فى القلب حتى تطيق به - القلوب مبتدا ولدى الحناجر خبره والكاظمين حال من القلوب محمول على أصحابها وانما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصف بالكظم الذي هو من افعال العقلاء ما لِلظَّالِمِينَ الكافرين والضمائر ان كانت للكفار كان هذا وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بهم وانه لظلمهم مِنْ حَمِيمٍ أى قريب مشفق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) أى ولا شفيع مشفع لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلا فما لهم من شافعين أو له مفهوم على زعمهم ان لهم شفعاء أى لو شفعوا فرضا لا تقبل شفاعتهم.(1/5742)
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أى النظرة الخائنة كالنظرة إلى من حرم النظر إليها واستراق النظر إليها أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة يعنى يعلم خيانة الأعين الجملة خبر اخر لهو فى قوله هو الّذى يريكم آياته وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) من الضمائر قيل يعنى ما يتفكر الرجل بقلبه فى جمال امراة اجنبية بعد ما ينظر إليها بشهوة مسارقة.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لأنه المالك على الإطلاق والحكيم والعليم بما ظهر وما بطن فلا يقضى الا بما يقتضيه علمه وحكمته ولا يقضى الا وهو حقه والجملة عطف على يعلم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ قرأ نافع وهشام بالتاء للخطاب على الالتفات أو بإضمار قل والباقون بالياء للغيبة مِنْ دُونِهِ من الأوثان والشياطين والملوك الجبابرة لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ لعدم قدرتهم على القضاء إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 251
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
(20) تقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه بانها لا تسمع ولا تبصر.
أَ وَلَمْ يَسِيرُوا عطف على محذوف تقديره ا ينكرون وبال الكفر ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أى مال إليه امر الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة للرسل كعاد وثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا جئ بالفصل لمشابهة افعل من بالمعرفة فى امتناع دخول اللام عليه قرأ ابن عامر أشدّ منكم على الالتفات وَآثاراً فِي الْأَرْضِ من القلاع والمدائن الحصينة وقيل المعنى اكثر اثارا كقوله متقلدا سيفا ورمحا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ فاهلكهم بالريح أو الصيحة أو نحو ذلك وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) يمنع عنهم من العذاب حيث لم يلتجئوا إليه الجملة عطف أو حال ذلك الاخذ.(1/5743)
بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى المعجزات أو الاحكام الواضحات الصحّة والصلاح فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ قادر على كل ما يريد غاية القدرة شَدِيدُ الْعِقابِ (22) أى شديد عقابه الجملة تعليل للاخذ القوى - .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أى المعجزات التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) حجة ظاهرة العطف لتغائر الوصفين أو لافراد بعض المعجزات كالعصا تفخيما لشأنه وتخصيصا بعد تعميم.
إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) يعنون موسى عليه السلام تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم وبيان لعاقبة بعض من كان قبلهم من الذين كانوا أشد بطشا واقرب زمانا.
فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أى أعيدوا عليهم القتل وَاسْتَحْيُوا أى استبقوا نِساءَهُمْ كما كنتم فعلتم ذلك اولا كى يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلام وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل على كفرهم ولتعميم الحكم والدلالة على العلة إِلَّا فِي ضَلالٍ (25) أى فى
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 252
ضياع فانهم أرادوا ابطال امر موسى فرد اللّه عليهم كيدهم واهلكهم وجعل موسى ومن تبعه ملوك الأرض.(1/5744)
وَ قالَ فِرْعَوْنُ لقومه ذَرُونِي قرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها أَقْتُلْ مُوسى وقال البغوي انما قال هذا لأنه كان فى خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى خوفا من الهلاك كانوا يقولون انه ليس للذى تخافه بل هو ساحر ولو قتلته لظن الناس انك عجزت عن معارضته بالحجة قال البيضاوي فيه دليل على انه تيقن بنبوة موسى فخاف من قتله أو ظن وانه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله وَلْيَدْعُ موسى رَبَّهُ الذي يزعم انه أرسله إلينا فيمنعه منا فانه تجلد وعدم مبالاة بدعائه وكان قوله ذرونى اقتل موسى تمويها على قومه وإيهاما بانهم هم الذين يكفونه عن قتله وما كان يكفه الا ما استقر فى قلبه من هول امر العصا إِنِّي قرأ نافع وابن كثير و « و أبو جعفر - أبو محمد » وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ ان لم اقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أى يغير ما أنتم عليه من عبادة الأصنام لقوله تعالى ويذرك والهتك أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) قرأ يعقوب واهل الكوفة أو ان والآخرون وان وقرأ أهل المدينة والبصرة « و حفص » يظهر بضم الياء وكسر الهاء من الافعال والفساد بالنصب على المفعولية والباقون بفتح الياء والهاء من المجرد ورفع الفساد على الفاعلية وأراد بالفساد تبديل الدين وعبادة الأوثان أو ما يفسد الدنيا من التجارب والتهارج ..(1/5745)
وَ قالَ مُوسى لقومه لما توعده فرعون بالقتل إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) صدر الكلام بانّ تأكيدا واشعارا على ان السبب المؤكد فى دفع الشر هو العياذ باللّه وخص اسم الرب لان المطلوب هو الحفظ والتربية وإضافته إليه وإليهم لان حفظ موسى متضمن ومتكفل لحفظهم أجمعين وحثا لهم على موافقته فى الاستعاذة لما فى تظاهر الأزواج من استجلاب الاجابة ولم يذكر فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على الشر وجاز ان يكون هذا خطابا لفرعون وقومه وفى قوله ربّكم تنبيه على التوحيد وانكار على اشراكهم.
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 253(1/5746)
وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ قال مقاتل والسدىّ كان قبطيا ابن عم فرعون وهو الذي حكى اللّه عنه فى سورة القصص وجاء رجل من اقصا المدينة يسعى قيل كان اسمه حبيب وقال قوم كان اسرائيليا ومجاز الآية وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من ال فرعون وكان اسمه جزئيل على ما روى عن ابن عباس واكثر العلماء وقال ابن إسحاق كان اسمه خبول أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أى تقصدون « 1 » قتله أَنْ يَقُولَ أى لان يقول أو وقت ان يقول من غير رؤية وتأمل فى امره أو مخافة ان يقول رَبِّيَ اللَّهُ وحده وهو فى الدلالة على الحصر مثل صديقى زيد وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الكثيرة الشاهدة على صدقه مِنْ رَبِّكُمْ حيث لا يقدر على إتيان تلك المعجزات الا الذي خلقكم فانه قادر على كل شىء دون غيره وأضاف الربّ إليهم اشعارا بانه من خلقكم ورباكم قادر على ان يأخذكم بالعذاب والجملة حال من فاعل يقول ثم أخذ الرجل القائل بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال وَإِنْ يَكُ كاذِباً كما زعمتم فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ لا يتخطاه وبال كذبه حتى يحتاج فى دفعه إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً كما يدل عليه المعجزات والشواهد يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أى فلا اقل ان يصيبكم بعضه وذلك البعض يكفى لهلاككم ففيه مبالغة فى التحذير واظهار الانصاف وعدم التعصب ولذلك قدم كونه كاذبا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) احتجاج ثالث ذو وجهين أحدهما انه لو كان مسرفا لما هداه اللّه إلى البينات ولما
_________
((1/5747)
1) عن على انه قال أيها الناس أخبروني بأشجع الناس قالوا لا نعلم قال أبو بكر رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخذ قريش فهذا يجبئه (يجبئه : أى يجعله مثل الراكع - 12 منه رح) وهذا يتلتله (يتلتله : أي يحركه ويسوقه بعنف - 12 منه رح) ، وهم يقولون أنت الذي جعلت الالهة الها واحدا قال فو اللّه ما دنا منا أحد الا أبو بكر يضرب هذا يجبئه وهذا يتلتله وهو يقول ويلكم أ تقتلون رجلا ان يقول ربّى اللّه ثم رفع على برده كانت عليه فبكى حتى ابتلت لحيته ثم قال أنشدكم مؤمن ال فرعون خير أم أبو بكر فسكت القوم فقال الا تجيبونى فو اللّه لساعة من أبى بكر خير من مؤمن ال فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه - 12 منه نور اللّه مرقده 12 -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 254
عضده بالمعجزات وثانيهما انه كان مسرفا كذابا خذله اللّه وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله ولعله أراد به المعنى الأول وخيّل إليهم الثاني ليلين شكيمتهم - « اى شدة نفسهم - منه ره » وتعريض به لفرعون بانه مسرف كذاب لا يهديه اللّه سبيل الصواب والنجاة عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد اللّه بن عمرو بن العاص أخبرني باشد ما صنعه المشركون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلى بفناء الكعبة إذا قبل عقبة بن أبى معيط فاخذ بمنكبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولوى ثوبه فى عنقه فخنقه خنقا شديدا فاقبل أبو بكر « 1 » فاخذ بمنكبيه ودفع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أ تقتلون رجلا ان يقول ربّى اللّه وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم - رواه البخاري.(1/5748)
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين عالين حال من كم فى لكم فِي الْأَرْضِ ارض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا يعنى لكم الملك والغلبة فى الأرض فلا تبطلوا ملككم وغلبتكم بالتعرض لعذاب اللّه بقتل نبيه فانه ان جاءنا لا يمنعنا منه أحد أدرج نفسه فى الضمير لأنه كان منهم فى القرابة وليريهم انه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ من الرأى أى ما اشيركم وقال الضحاك ما أعلمكم إِلَّا ما أَرى أى ما أراه واعلمه صوابا يعنى قتله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (29) طريق الصواب - .
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ فى تكذيبه والتعرض له مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)
_________
(1) وعن عمرو بن العاص قال ما تنوول من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طاف بالبيت صخر فلقوه حين فرغ فاخذوا بمجامع ردائه وقالوا أنت الذي تنها ناعما كان يعبد آباؤنا فقال انا ذاك فقام أبو بكر فالتزمه من ردائه ثم قال أ تقتلون رجلا ان يقول ربّى اللّه وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم ان ى ك كاذبا فعليه كذبه وان يك صادقا يصبكم بعض الّذى يعدكم انّ اللّه لا يهدى من هو مسرف كذّاب رافعا صوته بذلك وعيناه تسيحان حتى أرسلوه - وعن انس بن مالك قال قد ضربوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى غشى عليه فقام أبو بكر فجعل ينادى ويلكم ا تقتلون رجلا ان يقول ربّى اللّه قالوا من هذا قالوا هذا ابن أبى قحافة 12 منه رضى اللّه -
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 255
تقديره انّى أخاف عليكم عذابا مثل عذاب يوم الأحزاب أى ايام الأحزاب يعنى الأمم الماضية المكذبة للرسل وجمع الأحزاب مع التفسير الذي بعده اغنى عن جمع اليوم أو المعنى عذاب يوم حزب من الأحزاب.(1/5749)
مِثْلَ جزاء دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط ونمرود الجبار أى مثل جزاء ما كان عادتهم من التكذيب وإيذاء الرسل وهذه الآية تدل على انه كان فى قوم فرعون علم بالأولين وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) اللام زائدة لتقوية عمل المصدر والعباد مفعول لظلما يعنى لا يريد ان يظلم عبدا فيعاقبهم بغير ذنب أو يترك الظالم منهم بغير انتقام أو ينقص من اجر حسنة لاحد أو يزيد فى عقوبة أحد.
وَبعد ما خوّفهم بعذاب الدنيا خوّفهم بعذاب الاخرة فقال يا قَوْمِ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ قرأ ابن كثير « و يعقوب - أبو محمد » التّنادى وصلا ووقفا بإثبات الياء وورش « و ابن دردان - أبو محمد » وصلا فقط واختلف فيهما عن قالون « و الحذف عنه أقوى أبو محمد » والباقون بحذف الياء فى الحالين.(1/5750)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ بدل من يوم التناد قال مجاهد يعنى فارّين غير معجزين قيل المراد منه يوم ينفخ فى الصور نفخة الفزع قبل نفخة الصعق لما روى ابن جرير فى المطولات وأبو يعلى فى مسنده والبيهقي فى البعث وعبد بن حميد وأبو الشيخ فى كتاب العظمة عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حديثا طويلا وذكر فيه ثلاث نفخات قال فيأمر اللّه اسرافيل بالنفخة الاولى فيقول اللّه تعالى انفخ نفخة الفزع فينفخ فيفزع أهل السماوات والأرض الا ما شاء اللّه فيأمره فيمدها فيطيلها ولا يفتر إلى ان قال فتذهل المراضع عمّا أرضعت وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتى الأقطار فتتلقتها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع وتولى الناس مدبرين ينادى بعضهم بعضا وهو الذي يقول اللّه يوم التناد الحديث - وقيل المراد يوم القيامة إذا دعى كل أناس بامامهم أخرج أبو نعيم عن أبى حازم الأعرج رضى اللّه عنه انه قال (يخاطب نفسه) يا اعرج ينادى يوم القيامة يا أهل
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 256(1/5751)
خطيّات كذا وكذا فتقوم معهم ثم ينادى يا أهل خطيّات اخرى فتقوم معهم فاراك يا اعرج تريد ان تقوم مع أهل خطيئة - واخرج ابن أبى عاصم فى السنة عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم القيامة نادى مناد الا ليقم خصماء اللّه (و هم القدرية) وإذا ينادى اصحاب الجنة اصحاب النار واصحاب النار اصحاب الجنة وينادى اصحاب الأعراف كما حكى اللّه تعالى فى سورة الأعراف وإذا ينادى بالسعادة والشقاوة الا ان فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها ابدا الا ان فلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها ابدا - أخرج البزار والبيهقي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتى الميزان ويوكّل به ملك فان ثقلت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها ابدا وان خفت موازينه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق شقى فلان شقاوة لا يسعد بعدها ابدا - وإذا ينادى الا انى جعلت نسبا وجعلتم نسبا أخرج الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم القيامة امر اللّه مناديا ينادى الا انى جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فابيتم الا ان تقولوا فلان بن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم ارفع نسبى وأضع نسبكم اين المتقون.(1/5752)
و إذا ينادى حين يذبح الموت يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت - أخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا صار أهل الجنة إلى الجنة واهل النار إلى النار جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادى منادى يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم واهل النار حزنا إلى حزنهم - وعن أبى سعيد نحوه وعند الحاكم وابن حبان عن أبى هريرة نحوه - وقرأ ابن عباس والضحاك يوم التّناد بتشديد الدال أى يوم التنافر وذلك لانهم هربوا فندوا فى الأرض كما تند الإبل إذا شردت عن أربابها. أخرج ابن جرير
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 257
و ابن المبارك عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة امر اللّه السماء الدنيا فتشققت باهلها فتكون الملائكة على حافتها حين يأمرهم الربّ فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفوا صفّا دون صف ثم ينزل الملك الأعلى بجنبته اليسرى جهنم فإذا راها أهل الأرض ندّوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض الا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه وذلك قول اللّه تعالى انّى أخاف عليكم يوم التّناد يوم تولّون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم وذلك قوله تعالى وجاء ربّك والملك صفّا صفّا وجيئ يومئذ بجهنّم وقوله تعالى يا معشر الجنّ والانس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار السّموات والأرض فانفذوا وقوله تعالى وانشقّت السّماء فهى يومئذ واهية والملك على أرجائها يعنى ما تشقق منها فبينما كذلك إذا سمعوا الصوت فاقبلوا إلى الحساب وقيل معنى قوله تعالى يوم تولّون مدبرين يوم تولون منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمكم من عذابه يعنى(1/5753)
غير اللّه لا يقدر على دفع عذاب اللّه قطعا وانما يدفع عذاب اللّه رحمته ولا يكون لهم من اللّه رحمة تعصمهم من عذابه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أى يضله عن طريق الجنة فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) اليه.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليه السلام على ان فرعونه فرعون موسى طال عمره أو على نسبة احوال الآباء إلى الأولاد يعنى جاء اباءكم يوسف وقيل المراد يوسف بن ابراهيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام أرسل إليهم مِنْ قَبْلُ أى قبل موسى بِالْبَيِّناتِ أى بالمعجزات فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ قال ابن عباس من عبادة اللّه وحده مخلصا له الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ أى مات يوسف عليه السلام قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أى أقمتم على كفركم وزعمتم ان اللّه لا يجدد عليكم الحجة كَذلِكَ أى اضلالا مثل ذلك الإضلال يُضِلُّ اللَّهُ فى العصيان مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مشرك
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 258
مُرْتابٌ (34) أى شاك فيما يشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك فى التقليد.(1/5754)
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بدل من الموصول الأول لأنه بمعنى الجمع بِغَيْرِ سُلْطانٍ حجة واضحة بل اما بتقليد أو شبهة داحضة أَتاهُمْ من عند اللّه كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فيه ضمير من وافراده نظرا إلى لفظه ويجوز ان يكون الّذين مبتدا وخبره كبر على حذف مضاف تقديره وجدال الّذين يجادلون فى آيات اللّه كبر مقتا أو الذين مبتدا وخبره بغير سلطان وفاعل كبر كَذلِكَ على ان كاف اسم بمعنى مثل أى كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله يَطْبَعُ اللَّهُ استئنافا للدلالة على موجب جدالهم وجاز ان يكون المعنى كذلك مثل اضلالهم يطبع اللّه أى يختم بالضلال ويوثق عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) بحيث لا يدخله نور الايمان قرأ أبو عمرو وابن ذكوان قلب بالتنوين على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه صنيعهما كقولهم رات عينى وسمعت اذنى أو على حذف المضاف تقديره على قلب كل ذى قلب متكبر جبار والباقون بالاضافة ..
وَقالَ فِرْعَوْنُ لوزيره هامان يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أى بناء عاليا لا يخفى على الناظر وان بعد ومنه التصريح بمعنى الإظهار لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أى الطرق.(1/5755)
أَسْبابَ السَّماواتِ أى طرقها وابوابها من سماء إلى سماء وكل ما يؤدى إلى شىء فهو سبب له كالرشاء والدلو للماء واسباب الثاني بيان للاول وفى إيضاحها بعد ابهامها تفخيم لشانها وتشويق للسامع إلى معرفتها فَأَطَّلِعَ قرأ حفص بالنصب على جواب لعل بالفاء والباقون بالرفع عطفا على ابلغ إِلى إِلهِ مُوسى الظاهر انه امر بالبناء كبناء نمرود وذكرناه فى سورة النمل وقال البيضاوي لعله أراد ان يبنى له رصدا فى موضع عال يرصد منه احوال الكواكب التي هى اسباب سماوية تدل على الحوادث الارضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال اللّه تعالى إياه - أو ان يرى الناس فساد قول موسى بان اخباره من اله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه وذلك
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 259
لا يتاتى الا بالصعود إلى السماء وهو ممّا لا تقوى عليه الإنسان وذلك لجهله باللّه وكيفية استنبائه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً فى دعوى الرسالة وَكَذلِكَ أى تزيينا مثل ذلك التزين يعنى تزيين بناء الصرح للاطلاع على رب السماوات زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ أى كل عمل سئ يأباه العقل السليم يعنى أفسد اللّه بصيرته فكان يرى كل عمل سئ حسنا وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الرشاد قرأ الكوفيون ويعقوب بضم الصاد على البناء للمفعول والفاعل على الحقيقة هو اللّه سبحانه يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء والباقون بفتح الصاد يعنى صدّ فرعون الناس عن الهدى بامثال هذه الشبهات والتمويهات ويؤيده قوله تعالى وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ فى ابطال امر موسى إِلَّا فِي تَبابٍ (37) أى فى خسار وضياع - .(1/5756)
وَ قالَ الَّذِي آمَنَ من ال فرعون يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ قرأ ابن كثير « و يعقوب - أبو محمد » اتّبعونى بإثبات الياء فى الحالين وقالون وأبو عمرو « و أبو جعفر - أبو محمد » وصلا فقط والباقون بحذف الياء فى الحالين أَهْدِكُمْ أى أدلكم سَبِيلَ الرَّشادِ (38) أى سبيلا يوصل سالكه إلى المقصود وفيه تعريض إلى ان ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغىّ.
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يسير يتمتعون بها مدة يسيرة ثم ينقطع وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) التي لا تزول فعليكم بما ينفعكم فى الاخرة.
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ أى فى حال الايمان فان الايمان شرط لجزاء كل عمل صالح لان اللّه تعالى هو المالك للجزاء فلا بد للايمان به على ما يرتضيه حتى يجزى ما عمل لوجهه خالصا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) بغير تقدير وموازنة للاعمال بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة.
وَيا قَوْمِ ما لِي قرأ الكوفيون وابن ذكوان « و يعقوب - أبو محمد » بسكون الياء والباقون بفتحها والمعنى ما لكم كما تقول ما لى أراكم حزينا يعنى أخبروني كيف حالكم على خلاف ما يقتضيه العقل والعرف أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ من النار
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 260
بالايمان باللّه وحده وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) أى إلى الشرك الذي يوجب النار كور نداءهم ايقاظا لهم عن سنة الغفلة واهتماما بالمناولة ومبالغة فى توبيخهم على ما يقابلون به نصحه - لم يعطف النداء الثاني على الأول لأنه بيان لما قبله وعطفه الثالث على الثاني أو على الاول.(1/5757)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل من تدعوننى الأول أو بيان منه تعليل والدعاء يعدى بالى وباللام كالهداية وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ أى بربوبيته عِلْمٌ بل عندى دليل قاطع على امتناعه ولا بد للايمان من برهان على وجوده وربوبيّته ولا يصح الاعتقاد الا عن ايقان وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الغالب القادر على الانتقام ممن كفر به الْغَفَّارِ (42) لذنوب من شاء ممن أمن به فهو المستجمع لصفات الالوهية من كمال القدرة والعلم والارادة ..
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ قيل لا فى لا جرم رد لما دعوه إليه من عبادة الأصنام وجرم فعل بمعنى حقّ وفاعله انّ مع جملتها أى حق عدم دعوة الهتكم إلى عبادتها أصلا فى الدارين لانها جمادات لا دعوة لهم فى الدنيا إلى العبادة وفى الاخرة تتبرّأ عن عابديها وليس لها ما يقتضى الوهيتها أو حق عدم دعوة مستجابة لها أو عدم استجابة دعوة لها قال السدىّ لا يستجيب لاحد فى الدنيا ولا فى الاخرة - وقيل جرم فعل من الجرم بمعنى القطع ولا للنفى كما ان بدّا من لا بدّ فعل من التبديد بمعنى التفريق والمعنى لا قطع لبطلان دعوة الوهية الأصنام أى لا ينقطع فى وقت ما فيكون معناه استمرّ كما فى ما برح وما زال وحاصل معناه حقّا وفى القاموس لا جرم أى لا بدّ أو حقّا أو لا محالة أو هذا أصله ثم تحول إلى القسم فلذلك يجاب عنه باللام يقال لا جرم لاتينك وقيل جرم بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه إلى كسب ذلك الدعاء إليه ان لا دعوه له بمعنى ما حصل من ذلك الا ظهور بطلان دعوته ولا على هذا أيضا لرد ما دعوه إليه وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ بعد الموت فيجازى كلّا بما يستحقه وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ فى الضلالة الطغيان بالاشراك
التفسير المظهري ج 8 ، ص : 261
و سفك الدماء هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) ملازموها.(1/5758)