وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ واللام جواب قسم مقدر يعنى واللّه لقد أمرنا آدم ووصينا إليه ان لا يأكل من الشجرة - يقال عهد إليه أى أوصاه كذا في القاموس مِنْ قَبْلُ أى من قبل هذا فَنَسِيَ العهد أو المعنى فترك ما امر به من الاحتراز عن الشجرة وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) أى جدّا على حفظ ما امر به أو صبرا عما نهى عنه والعزم في اللغة عقد القلب على إمضاء الأمر - ومنه فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ - ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ - وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ - وفي القاموس عزم عليه ويعرّم أراد فعله وقطع عليه أو جدّ في الأمر - وفي النهاية العزم الجدّ والصّبر - قلت عقد القلب على إمضاء الأمر يستلزم الجدّ في إتيانه والصبر على مشاقه - وقيل معنى الآية لم نجد له عزما أى قصدا على كل الشجرة بل أكل ناسيا « 1 » - يعنى لم يكن له عقد قلب على إمضاء المعصية - ولم نجد ان كان من افعال القلوب بمعنى العلم فله عزما مفعولاه - وان كان من الوجود ضد العدم فعزما مفعول وله حال فيه - أو ظرف لغو متعلق بلم نجد - وجملة لقد عهدنا
_________
(1) قال ابن زيد نسى عداوة إبليس وما عهد اللّه إليه من ذلك بقوله انّ هذا عدوّ لك ولزوجك - قال القاضي في الشفاء ان اللّه اخبر بعذره بقوله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما - منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 168(1/4146)
قال صاحب الكشاف والبيضاوي وغيرهما انها معطوفة على قوله تعالى وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - يعنى نقض العهد بعد تصريف الوعيد لهؤلاء ليس امرا مبدعا منهم بل أساس بناء آدم على العصيان وعرقهم راسخ فيه النسيان حيث عهدنا إلى آدم من قبل فنسى - روى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خلق اللّه آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيمة - وجعل بين عينى كل انسان منهم وبيضا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أى رب من هؤلاء قال ذريتك فراى رجلا منهم فاعجبه - وبيض ما بين عينيه قال أى رب من هذا قال داود فقال أى ربّ كم جعلت عمره قال ستين سنة قال رب زده من عمرى أربعين سنة - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم الا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم ا ولم يبق من عمرى أربعين سنة قال ا ولم تعطها ابنك داود فجحد آدم فجحدت ذريته ونسى آدم فاكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطا فخطات ذريته - وقال بعض المحققين هذا ليس بسديد لان قوله تعالى صرّفنا يتعلق به كذلك وهو معطوف على قوله وكذلك نقصّ عليك - وذلك اشارة إلى حديث موسى - وقصة آدم عليه السلام في النسيان ومخالفة الأمر ليس مشابها بحديث موسى عليه السلام بل هو معطوف على قوله تعالى وهل اتيك حديث موسى لأنه بمعنى قد أتاك وقصة آدم من القصص الماضية واللّه اعلم - .(1/4147)
وَ اذكر إِذْ قُلْنا أى اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك انه نسى - وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ - لكنه يشكل بان هذه الجملة بتقدير اذكر انشائية وجملة لقد عهدنا خبرية فلا يصلح العطف الّا ان يقال هذا مقدر بنقول يعنى ونقول اذكر إذ قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ سبق القول فيه أَبى (116) ان يسجد جملة مؤكدة لما سبق من الكلام - وجاز ان تكون هذه الجملة تعليلا للاستثناء وحينئذ لا يجوز ان يقدر له مفعول والا لزم تعليل الشيء بنفسه بل يجرى الإباء مجرى الفعل اللازم ويكون معناه اظهر الإباء عن المطاوعة.
فَقُلْنا لادم وهذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة يعنى فادخلنا آدم الجنة فقلنا له يا آدَمُ إِنَّ هذا يعنى إبليس عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 169
نهى في اللفظ لابليس وفي المعنى نهى لهما ان يتبعاه أى لاتتبعاه فيتسبب إبليس لاخراجكما من الجنة حيث يخرجكما اللّه تعالى منها بسبب اتباعه وعصيان ربكم - والفاء للسببية إذ العداوة سبب لعدم للاتباع المنهي عنه معنى فَتَشْقى (117) منصوب بعدا الفاء في جواب النهى أى فتتعب وتنصب ويكون عيشك في كدّ يمينك وعرق جبينك يعنى الحرث والذرع والحصد والطحن والخبز قال البغوي روى عن سعيد ابن جبير انه اهبط إلى آدم ثور احمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عرجبينه فذلك شقاؤه وافراد الضمير بعد اشراكها في الخروج محافظة للرؤس الاى واكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث انه قيم عليها أو لان المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال ويؤيد قوله تعالى.
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها أى في الجنة وَلا تَعْرى (118).(1/4148)
وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا أى لا تعطش فِيها وَلا تَضْحى (119) أى لا تبرز للشمس فيوذيك - قال عكرمة لا يصيبك والشمس وأذاها لأنه ليس في الجنة شمس وأهلها في ظل ممدود - فانه بيان وتذكر لما له في الجنة من اسباب الكفاية واقطاب الكفاف الّتي هى الشبع والري والكسوة والكنّ مستغنيا عن اكتسابها والسعى في تحصيل اعراضها قرأ نافع وأبو عمرو انك بكسر الهمزة عطفا على ان لك والباقون بفتح الهمزة عطفا على ان لا تجوع - والعاطف وان ناب عن انّ لكنه ناب من حيث انه حرف عامل لا من حيث انه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على انّ كما امتنع دخول انّ عليه - أو يقال لا يجوز دخول انّ على انّ من غير فصل واما مع الفصل كما في هذه الآية فيجوز يقال انّ في علمى انك قائم وانما عظامك علىّ واجب - .
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فانهى إليه وسوسته قالَ يا آدَمُ بيان للوسوسة هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أى الشجرة الّتي من أكل منها خلد ولم يمت أصلا - أضافها إلى الخلد وهو الخلود لكونه سببه يزعمه وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) أى لا يزول ولا يضعف.
فَأَكَلا يعنى آدم وحواء منها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما أى أخذ يلزقان على سوء آلتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ للتستر وهو ورق التين وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بأكل الشجرة فَغَوى (121) يعنى ضل عن المطلوب وأخطأ طريق الحق وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة الّتي هى سبب لضده أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدوّ - وقال ابن الاعرابى أى فسد عليه عيت فار من العزّ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 170(1/4149)
الى الذّل ومن الراحة إلى التعب - قال ابن قتيبة يجوز ان يقال عصى آدم ولا يجوز ان يقال آدم عاص لأنه يقال عاص لمن اعتاد فعل العصيان الا ترى انه من خاط ثوبه يقال خاط فلان ولا يقال فلان خياط حتى ويعاد ذلك ويعتاده روى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتج آدم موسى عند ربهما فحج آدم موسى - قال موسى أنت آدم الّذي خلقك اللّه بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملئكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض - قال آدم أنت موسى الّذي اصطفاك اللّه سبحانه برسالته وبكلامه واعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيّا فيكم وجدت اللّه كتب التوراة قبل ان اخلق - قال موسى بأربعين عامّا قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربّه فغوى قال نعم قال أ فتلومني على ان عملت عملا كتبه اللّه علىّ ان أعمله قبل ان يخلقنى بأربعين سنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحج آدم موسى ورواه البغوي بلفظ قال موسى يا آدم أنت أبونا فاخرجتنا من الجنة - فقال آدم يا موسى اصطفاك اللّه بكلامه وخط لك التوراة بيده تلومنى على امر قدّره اللّه علىّ قبل ان خلقنى بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى فان قيل إن كان المراد بقوله نسى انه نسى العهد وفعل ما فعل فكيف ورد في حقه عصى فان الإنسان رفع عنه النسيان - قلنا اما ان يكون رفع النسيان مختصا بهذه الامة كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ.(1/4150)
و النسيان وما استكرهوا عليه - رواه الطبراني عن ثوان وعن ابن عمر حيث لم يقل رفع مطلقا كما قال في المجنون وشبهه رفع القلم عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستقيظ وعن الصبى حتى يحتلم - كما ذكرنا في سورة البقر في تفسير قوله تعالى رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ان الآية تدل على المؤاخذة على الخطاء والنسيان لم تكن ممتنعا عقلا فان الذنوب كالسموم فكما ان تناول السموم عمدا كان أو خطأ يفضى إلى الهلاك كذلك الذنوب يفضى إلى العقاب لو لم يغفرها اللّه وان كان بغير عزم - وقال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت عليهم العقوبة فحرم عليهم من مطعوم أو مشروب على حسب ذلك الذنب - قلت فلذلك حرم على آدم عليه السلام مطاعم الجنة ومشاربها - واما ان ان يقال ان حسنات الأبرار سيئات المقربين
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 171
فالخطاء والنسيان إن كان مرفوعا عن الإنسان لا يواخذ بهما في الاخرة بالنار لكن الخواص من الناس لعلو درجتهم مؤاخذون بهما وبما هو ترك الاولى والأفضل لا بالنار في الاخرة بل بالغين على القلوب في الدنيا والهجران من المعاملات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه ليغان على قلبى وانى لاستغفر اللّه في اليوم مائدة مرة - رواه مسلم واحمد وأبو داود والنسائي من حديث الأعز المزلّى - قال صاحب المدارك الأنبياء ماخوذون بالنسيان الّذي لو تكلفوا حفظوا (فائده) ومن هاهنا قال بعض العلماء يجوز صدور الصغيرة من الأنبياء قبل النبوة - .
ثُمَّ « 1 » اجْتَباهُ رَبُّهُ أى اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة واصل الكلمة للجمع يقال جبى الخراج جباية والاجتباء افتعال منه فمعناه الاقتراب ويلزمه الاصطفاء فَتابَ عَلَيْهِ أى رجع عليه بالرحمة والعفو وَهَدى (122) أى هداه إلى التوبة حق قال ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية - والى مراتب القرب.(1/4151)
قالَ اللّه جملة مستأنفة اهْبِطا مِنْها أى من الجنة خطاب لادم وحوا ولما كان هبوطهما مستلزم لهبوط ذريتهما « 2 » فهو خطاب لذريتهما تبعا ولذلك أكد بقوله جَمِيعاً وأورد ضمير الجمع في قوله بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أى لبعضكم عَدُوٌّ عداوة دنيوية ودينية فَإِمَّا ما زائدة للتأكيد أدغمت فيه « 3 » نون ان الشرطية يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أى كتاب ورسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) قال البغوي روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه اللّه في الدنيا من الضلالة ووقاه يوم القيمة سوء الحساب - وذلك بان اللّه يقول فمن اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وقال الشعبي عن ابن عباس أجار اللّه تابع القرآن من ان يضل في الدنيا ويشقى في الاخرة وقرأ هذه الآية .
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعنى عن الهدى الذاكر لى والداعي إلى عبادتى - فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أى ضيقا مصدر وصف به للمبالغة ولذلك يستوى فيه المذكر والمؤنث - قال البغوي عن ابن مسعود وابى هريرة وابى سعيد الخدري انهم قالوا هو عذاب القبر - واخرج البن ربسند جيد عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) كلمة ثم تدل على ان الاجتباء بالنبوة كان بعد ذلك مصدور المعصية بالنسيان كان قبل النبي لا 12 منه ع.
(2) وفي الأصل ذريته - 12 أبو محمد.
(3) وفي الأصل في نون ان الشرطية 12 - أبو محمد.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 172(1/4152)
فانّه له معيشة ضنكا قال عذاب القبر - قال أبو سعيد يضغط حتى يختلف أضلاعه - وفي بعض المسانيد مرفوعا يلتأم عليه القبر حتى يختلف أضلاعه فلا يزال يعذب حتى يبعث - وهو في سنن الترمذي من حديث أبى هريرة وقال الحسن هو الزقوم والزريع والغسلين في النار - وقال عكرمة هو الحرام وقال الضحاك الكسب الخبيث - وعن ابن عباس قال الشقاء - قلت وانما اطلق الضنك على الحرام والكسب الخبيث والشقاء لكونها مفضية إلى ضيق المقام في القبر أو النار قال اللّه تعالى في أهل النار إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ - وروى عن ابن عباس انه قال كل مال اعطى العبد قل أو كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة وان قوما اعرضوا عن الحق وكانوا اولى سعة من الدنيا مكثّرين فكانت معيشتهم ضنكا وذلك انهم يرون اللّه ليس بمخلف عليهم معائشهم من سوء ظنهم باللّه عزّ وجلّ - وقال سعيد بن جبير معناه نسلبه القناعة حتى لا يشبع - وحاصل هذين القولين ان من اعرض عن ذكر اللّه كان مجامعا همه ومطامح نظره إلى اعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انتقاصها - بخلاف المؤمن الطالب للاخرة فانه قانع على ما أعطاه اللّه شاكر عليه متوكل على اللّه فتكون حياته في الدنيا طيبة - قلت وعلى هذا التأويل ليس المراد بمن اعرض عن ذكر اللّه الكافر المعرض عن الايمان بل المعرض عن الإكثار ذكر اللّه فان عامة المؤمنين منهمكون في طلب الدنيا خائفون على انتقاصها فمن اعرض عن إكثار ذكر اللّه وجعل همته في اعراض الدنيا اظلم عليه وقته وتشويش عليه رزقه - فان قيل ان كان تعب الرجل في دار الدنيا معيشة ضنكا - فذلك غير مختص بالكفار والفساق بل موجود في الأنبياء والصلحاء أشد البلاء - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه - فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة ابتلى(1/4153)
على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة - رواه احمد والبخاري في الصحيح والترمذي وابن ماجة عن سعد والطبراني عن اخت حذيفة نحوه والبخاري في التاريخ عن ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم بسند حسن بلفظ أشد الناس بلاء في الدنيا نبىّ أو صفى - قلت الجواب عندى بوجهين أحدهما انه ليس المراد بالآية ان ضيق المعيشة مختص بالكفار بل هذه الآية نظيرة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 173
لقوله تعالى نمتّعه « 1 » قليلا ثمّ نضطرّه إلى عذاب النّار فالمعنى انه من اعرض عن ذكرى نعطيه في الدنيا معيشة قليلة فان متاع الدنيا قليل كله نعطيه أياما معدودة في نوع من الضيق ثم نحشره يوم القيامة أعمى - ثانيهما ان معيشة الدنيا لا يخلو لاحد من المؤمن والكافر عن تعب وبلاء - قال اللّه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ أى إلى لقائه غير ان ذلك التعب للمؤمن موجب لمحو الخطيات أو رفع الدرجات كما يدل عليه الحديث المذكور فهو وان كان ضيق صورة لكنه فرج معنى وسبب لانشراح صدره باطنا بخلاف الكافر فان ضيقه وتعبه أنموذج لعذابه المعد له في الاخرة - ثم إذا صح للعبد المؤمن حب مع اللّه سبحانه فكل ما أصابه ووصله من اللّه تعالى يلتزبه ويفرح فان ضرب الحبيب زبيب - روى الحديث المذكور ابن ماجة وعبد الرزاق والحاكم عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه بلفظ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشد البلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلى الفقر حتى ما يجد الا العباءة يحويها ويلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله - ولاحدهم أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء واللّه اعلم وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قال ابن عباس أعمى البصر وقال مجاهد أعمى عن الحجة - ويويد قول ابن عباس قوله تعالى.(1/4154)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ في الدّنيا بَصِيراً (125) فانه لم يكن له في الدنيا حجة قال اللّه تعالى وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ - وقال مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى - أخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ان رجلا ساله فقال ارايت قوله تعالى وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً واخرى عميا - قال ان يوم القيامة يكونون في حال زرقا وفي حال عميا.
قالَ كَذلِكَ متعلق بفعل محذوف أى فعلت أنت كذلك اشارة إلى مبهم يفسر قوله أَتَتْكَ آياتُنا الدالة على الوحدانية أو آياتنا المنزلة على الأنبياء فَنَسِيتَها فاعرضت عنها وتركتها غير منظور إليها كما يترك الأعمى وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) يعنى اليوم تترك في النار تركا مثل تركك إياها - و
_________
(1) وفي القرآن فامتّعه ، قليلا ثمّ اضطرّه إلى عذاب النّار - البقرة - نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عذاب غليظ - لقمان - أبو محمد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 174
قيل التقدير الأمر كذلك وجملة اتتك في مقام التعليل.
وَكَذلِكَ نَجْزِي أى نجزى جزاء مثل ذلك الجزاء مَنْ أَسْرَفَ يعنى أضاع عمره بالانهماك في الشهوات والاعراض عن الآيات وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وخالفها وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ في نار جهنم أَشَدُّ وَأَبْقى (127) من ضنك العيش والعمى وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً إلخ.(1/4155)
أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الضمير المرفوع راجع إلى الهدى والمراد منه الكتاب أو الرسول - أو إلى اللّه تعالى الم ذكور في قوله تعالى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وعلى هذا في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة - ويؤيد هذا التأويل قرأة ا فلم نهدلهم بالنون على صيغة المتكلم - والمعنى ا ولم يهد لهم اللّه أو القرآن أو الرسول يعنى لكفار مكة - الاستفهام للانكار يعنى هداهم إلى صراط مستقيم فاستحبوا العمى على الهدى والفاء للتعقيب معطوف على محذوف تقديره الم يبين لهم فلم يهد لهم انكار لعدم الهداية بعد البيان لفظا وفي المعنى انكار لعدم اهتدائهم بعد الهداية وقيل ا فلم يهد لهم معطوف على مضمون الكلام السابق فانه تعالى ذكر حال المؤمنين بقوله فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وحال الكفار بقوله وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فقال بين اللّه لهم فيما تلونا حال الفريقين الم يتبين لهم فلم يهد لهم - وقيل لم يهد مسند إلى ما دل قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا كم خبرية أى أهلكنا كثيرا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أى أهلكنا القرون السابقة أو مسند إلى الجملة بمضمونها يعنى ا لم يهد لهم إهلاكنا القرون يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حال من القرون يعنى أهلكناهم ماشّين في مساكنهم - أو حال من الضمير المجرور في لهم على تقدير اسناد الفعل إلى مضمون جملة كم أهلكنا يعنى أ فلم يهد لكفار مكة حال كونهم ماشين في مساكن القرون الماضية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) أى لذوى العقول الناهية عن التغافل والتعامي - .
وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهى العدة بتأخير عذاب كفار هذه الامة إلى يوم القيمة - وعدم استيصالهم في الدنيا لكون النبي صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 175(1/4156)
رحمة للعالمين - وجملة سبقت صفة لكلمة وخبر المبتدا محذوف يعنى لو لا كلمة سبقت حاصلة لَكانَ إهلاكنا هؤلاء الكفار بمثل ما نزل بالقرون الخالية نم من عاد وثمود وأشباههم لِزاماً أى ملازما لهؤلاء الكفار غير منفك عنهم - مصدر من باب المفاعلة وصف به مبالغة أو على انه بمعنى الفاعل أو اسم فمعز الدولة سمى به اللازم لفرط لزومهم وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) عطف على كلمة أى ولو لا أجل مسمى لمدة بقائهم في الدنيا أو لقيام القيامة أو لعذابهم ففى الكلام تقديم وتأخير تقديره ولو لا كلمة سبقت من ربّك وأجل مسمّى لكان لزاما - وجاز ان يكون أجل مسمّى عطف على الضمير المستكن في كان ولا بأس به بوجود الفصل - والتقدير على هذا ولو لا كلمة سبقت من ربّك بتأخير العذاب لكان العذاب العاجل والعذاب المؤجل بأجل مسمّى كلاهما لازمين لهم - والجملة الشرطية اعنى لو لا كلمة إلى آخره معطوفة على جملة محذوفة مفهومة من قوله وكم أهلكنا - تقديره كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم وهؤلاء الكفار مثلهم في استحقاق نزول العذاب - ولو لا كلمة لكان لزاما وأجل مسمّى - .(1/4157)
فَاصْبِرْ يا محمد يعنى إذا علمت انّ عذاب هؤلاء الكفار مؤجل إلى أجل مسمى فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فيك وَسَبِّحْ يعنى صل متلبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ يعنى حامدا على ما وقفك للصلوة والتسبيح واعانك عليه - كانّ فيه اشارة إلى ان العبد ان صدر منه العبادة لا يغتربه بل يشكر اللّه على إتيانه واعانته كما يشير إليه قوله تعالى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بعد قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعنى نستعين بك على عبادتك ويمكن ان يستنبط من هذه الآية وجوب قراءة الفاتحة في كل صلوة على ما صرح به النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال لا صلوة الا بفاتحة الكتاب - وفي لفظ لا صلوة لمن لم يقراء بفاتحة الكتاب - رواه الشيخان في الصحيحين واحمد فان الآية اقتضت بإتيان الصلاة متلبسا بالحمد - لكن التلبس مجمل فالتحق قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيانا له وظهر ان المراد بالتلبس بالحمد قراءة الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى اخر السورة قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعنى صلوة الصبح وَقَبْلَ غُرُوبِها يعنى صلوة العصر - وقيل المراد بقبل الغروب بعد نصف النهار
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 176(1/4158)
يعنى الظهر والعصر جميعا وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أى من ساعاة جمع انى بالكسر والقصر يعنى المغرب والعشاء - قال ابن عباس يريد أول الليل قلت ويمكن ان يراد به التحجد أيضا فانها كانت واجبة على النبي صلى اللّه عليه وسلم والظرف متعلق بقوله فَسَبِّحْ والفاء زائدة أو على تقدير اما يعنى وامّا من اناء اللّيل فسبّح على الخصوص لكون الليل وقت خلّو القلب عن الاشغال - والنفس فيها أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيها احسن وأفضل - قال اللّه تعالى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا ...(1/4159)
وَ أَطْرافَ النَّهارِ عطف على قبل طلوع الشمس وعلى محل من آناء اللّيل - ولعل هذا تكرير لصلوتى الفجر والعصر لارادة الاختصاص ومزيد التأكيد - لان الفجر وقت نوم والعصر وقت اشتغال بالدنيا - فالاية نظيرة لقوله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الوسطى ومجيئه بلفظ الجمع للامن من الالتباس - أو المراد باطراف النهار صلوة الظهر فقط لان وقته نهايت النصف الأول من النهار وبداية النصف الاخر - وجمعه باعتبار النصفين - وقيل المراد من اناء اللّيل صلوة العشاء ومن أطراف النّهار صلوة الظهر والمغرب - لان الظهر في اخر الطرف الأول من النهار وفي أول الطرف الاخر فهو طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس وعند ذلك يصلى المغرب - أو المراد منه التطوع في اجزاء النهار لَعَلَّكَ تَرْضى (130) أى لكى ترضى يعنى سبح في هذه الأوقات لان تنال من عند اللّه ما به ترضى - وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء للمفعول أى لكى يرضيك ربك - وقيل معنى ترضى ان يرضاك اللّه كما قال وكان عند ربّه مرضيّا - وقيل معنى الآية لعلك ترضى بالشفاعة كما قال وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى - روى الشيخان في الصحيحين واحمد واصحاب السنن الاربعة عن جرير بن عبد اللّه انه قال كنا جلوسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فراى القمر ليلة البدر فقال انكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رويته فان استطعتم ان لا تغلبوا على صلوة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها واللّه اعلم.
اخرج ابن أبى شيبة وابن مردوية والبزار وأبو يعلى عن أبى رافع قال نزل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضيف فارسلنى إلى رجل من اليهود ان أسلفني دقيقا - وفي رواية يعنى كذا وكذا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 177(1/4160)
من الدقيق أو أسلفني إلى هلال رجب فقال لا الا برهن فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبرته فقال واللّه لئن باعني أو أسلفني لقضيته وانى لامين في السماء أمين في الأرض - اذهب بدرعي الحديد إليه فلم أخرج من عنده حتى نزلت.
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أى نظر عينك - عطف على فاصبر ولما كان قوله تعالى وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ إلخ دالّا على انتفاء العذاب العاجل عن الكفار وثبوت العذاب الاجل رتب عليه بالفاء الدالة على السببية جملتين تفيد أحدهما الأمر بالصبر بناء على انتفاء العذاب العاجل - وثانيتهما النهى عن مد النظر تمنّيّا بناء على تحقق العذاب الاجل إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ استحسانا له وتمنّيا ان يكون لك مثله أَزْواجاً مفعول لقوله متّعناه مِنْهُمْ صفة له يعنى ما متعنا به أصنافا من الكفرة - وجاز ان يكون حالا من الضمير المجرور والمفعول به قوله منهم - وكلمة من للتبعيض يعنى ما متعنابه بعضهم وناسا منهم حال كون المتمتع به أصنافا من المال زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا (5) منصوب بفعل محذوف - دل عليه متّعنا - تقديره أعطيناهم زهرة الحيوة الدّنيا - يعنى زينتها وبهجتها - أو منصوب بمتّعنا على تضمينه معنى أعطينا أو على البدلية من محل به - أو على البدلية من أزواجا بتقدير معناف ان كان المراد اصناف الكفرة وبدون التقدير ان كان المراد اصناف المال - قرأ يعقوب زهرة بفتح الهاء وهى لغة كالجهرة في الجهرة أو جمع زاهر وصف لهم بانّهم زاهر والدنيا أى ازدهروها أى احتفظوا بها وفرحوا بها لتنعمهم - فى القاموس الازدهار بالشيء الاحتفاظ به والفرح به لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أى لنبلوهم ونختبرهم - أو لنتركهم في الكفر والضلال بان يطغوا في دنياهم - أو لنعذبهم في الاخرة بسبب متعلق بمتعنا وَرِزْقُ رَبِّكَ أى ما رزقك ربك في الدنيا من الهدى والنبوة أو الكفاف من الحلال أو في الاخرة من الجنة ومراتب القرب خَيْرٌ مما اعطوا في(1/4161)
الدنيا وَأَبْقى (131) منه فانه لا ينقطع ابدا - والجملة حال من فاعل لا تمدن - قال البغوي قال أبيّ بن كعب رضى اللّه عنه من لم يتعز بعن اللّه تقطعت نفسه خسرات - ومن يتبع بصره في أيدي الناس يظل حزنه ومن ظن ان نعمة اللّه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 178
وَ أْمُرْ أَهْلَكَ أى قومك واهل دينك عطف على لا تمدّنّ بِالصَّلاةِ امره بان بامر اتباعه بعد ما امره به ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم - ولا يهتموا يأمر المعيشة ولا يلتفتو إلى ارباب الثروة وَاصْطَبِرْ أى داوم عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أى لا نكلفك ان ترزق أحد من خلقنا ولا ان ترزق نفسك وانما نكلفك العمل - هذه الجملة في مقام التعليل للاصطبار على الصلاة نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم ففرغ بالك لامر الاخرة هذا تعليل لعدم سوال الرزق وَالْعاقِبَةُ يراد ما يعقب العمل الصالح من الثواب كما يراد بالعقاب ما يعقب العمل السوء من العذاب لِلتَّقْوى (132) أى لاهل التقوى قال ابن عباس الذين صدقوك واتبعوك واتقونى - أخرج سعيد بن منصور في سننه والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الايمان ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أصاب أهل ضر أمرهم بالصلوة وتلا هذه الآية - .(1/4162)
وَ قالُوا يعنى المشركين لَوْ لا يَأْتِينا محمد صلى اللّه عليه وسلم بِآيَةٍ دالة على صدقه في ادعاء النبوة مِنْ رَبِّهِ قيل هذه جملة معطوفة على يقولون يعنى واصبر على ما يقولون وعلى ما قالوا - وهذا كلام مستأنف أنكروا إتيان الآيات ولم يعتدوا بما جاء به من الآيات الكثيرة تعنتا وعنادا - وطلبوا آيات مقترحة فالزمهم اللّه تعالى بإتيانه بالقران الّذي هو رأس المعجزات وأبقاها - لان حقيقة المعجزة اختصاص مدعى النبوة بنوع من العلم والعمل على وجه خارق للعادة - ولا شك ان العلم اصل العمل وأعلى منه قدرا وأبقى منه اثرا فكذا ما كان من هذا القبيل ونبّهم أيضا على وجه اثنى من وجوه اعجاز المختصة بهذا الباب فقال أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يعرفوا صدقك في ادعاء النبوة ولم تأتهم بيان ما في الصحف الاولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية فان اشتمال القرآن على زبدة ما فيها من العقائد والاحكام الكلية مع ان الآتي بها امىّ لم يرها ولم يتعلّم ممن علمها اية واضحة على صدته - وفيه اشعار بان القرآن كما هو برهان على نبوته صلى اللّه عليه وسلم شاهد لصحته ما تقدمه من الكتب من حيث انه معجز وليست هى كذلك بل هى مفتقرة إلى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 179
ما يشهد عليها - قرأ نافع وأبو عمرو وحفص تأتهم بالتاء لتانيث الفاعل والباقون بالياء التحنية لتقدّم الفعل وكون التأنيث غير حقيقى - وقيل معناه ا ولم تأتهم بيان ما في الصحف الاولى من أبناء الأمم انهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم ولم يومنوا بها كيف عجلنا بهم العذاب وأهلكنا هم فما يومنوا منهم ان أتتهم الآيات المقترحة ان يكون حالهم كحال أولئك - .(1/4163)
وَ لَوْ ثبت أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ يعنى كفار قريش لاجل اشراكهم باللّه بِعَذابٍ متعلق باهلكنا مِنْ قَبْلِهِ يعنى بعذاب نازل من قبل بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم أو من قبل البينة والتذكير لانها في معنى البرهان لَقالُوا يوم القيمة رَبَّنا أى يا ربنا لَوْ لا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إلى التوحيد فَنَتَّبِعَ منصوب بتقدير ان بعد الفاء في جواب لتخضيض فانه بمعنى الاستفهام آياتِكَ المنزلة على الرسول مِنْ قَبْلِ ظرف لنتبع أَنْ نَذِلَّ بالقتل والسبي في الدنيا وَنَخْزى (134) بدخول النار يوم القيمة أو بان نذلّ يوم القيمة ونخزى في جهنم - مسئلة - هذه الآية تدل على ان الايمان باللّه والتوحيد واجب على العقلاء قبل بعثة الرسل والكفر حينئذ كان سببا لاستحقاق العذاب وانما بعث الرسل لا تمام الحجة وقطع المعذرة ولمزيد الفضل وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه خلافا للشافعى رحمه اللّه - .
قُلْ يا محمد كلام مستانف كُلٌّ أى كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لما يؤل إليه أمرنا وأمركم فَتَرَبَّصُوا وذلك وان المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر وإذا مات تخلصنا يعنى انتظروا فَسَتَعْلَمُونَ يوم القيمة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أى الطريق الموصل إلى الجنة وَمَنِ اهْتَدى (135) من الضلالة أو اهتدى إلى النعيم المقيم - ومن في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء ويجوز ان تكون الثانية موصولة بخلاف الاولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل - على ان العلم بمعنى المعرفة - أو على اصحب الصراط أو على الصراط على ان المراد به النبي صلى اللّه عليه وسلم - حمزة والكسائي يميلان اواخر هذه السورة من قوله تعالى لتشقى إلى آخرها قوله ومن اهتدى - وأبو عمر ويمين من ذلك ما فيه راء نحو قوله تعالى الثّراى ومن
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 180(1/4164)
افتراى ولا تعرى شبهه وما عدا ذلك بين بين وورش جميع ذلك بين بين والباقون بإخلاص الفتح روى الحاكم في المستدرك والبيهقي بسند صحيح عن معقل بن يسار والبغوي نحوه عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين والحواميم من الواح موسى وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة - وروى الحاكم في المستدرك والطبراني وابن ماجة عن امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعى به أجاب في ثلاث سور البقرة وال عمران وطه - فتمت تفسير سوره طه بفضل اللّه تعالى وحسن توفيقه ثامن الشهر الربيع الثاني من السنة الثالثة بعد المائتين والف ويتلوه تفسير سورة الأنبياء ان شاء اللّه تعالى - الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 181
فهرس تفسير سورة الأنبياء عليهم السّلام من تفسير المظهرى(1/4165)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مضمون صفحه بيان دوام التسبيح والذكر من المقربين 189 ما ورد في الميزان 200 حديث لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات 204 قصة إلقاء ابراهيم عليه السلام في النار 206 ما ورد في القتل الوزغ 207 قصة هجرة ابراهيم عليه السلام 209 ما ورد في فضل الشام والأمر بلزومها وان هناك الابدال 209 قصة حكم داؤد وسليمان عليهما السلام إذا نفشت في الحرث غنم القوم 212 مسائل جناية الدواب واختلاف العلماء في حكمها في الإسلام 213 مسئلة المجتهد يخطى ويصيب وما ورد فيه 215 حديث في قصة حكم داؤد وسليمان عليهما السلام في امرأتين ذهب الذئب بابن إحداهما 215 قصة سليمان عليه السّلام 216 قصة أيوب عليه السلام 220 قصة ذالكفل عليه السلام 230 مضمون صفحه ما ورد في لا اله الّا أنت سبحانك انّى كنت من الظّالمين - 234 الصوفية دائمون في الوصال والروية حديث انكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلا 243 حديث لا يبقى على الأرض بيت مدر ولاوبر الا ادخله اللّه الإسلام 244 حديث انما انا رحمة مهداة 244 حديث انما بعثت رحمة 244 بطلان التقية 245.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 182
سورة الأنبياء عليهم السّلام
و هى مائة واثنا عشرة اية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
رب يسّر وتمم بالخير.
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسا بُهُمْ(1/4166)
بالاضافة إلى ما مضى من ايام الدنيا واللام قيل بمعنى من فهو صلة لاقترب - وقيل تأكيد للاضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب الحساب للناس ثم اقترب للناس حسابهم - ولام التعريف للجنس وقيل للعهد والمراد به الكفار بدليل قوله تعالى وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ عن الحساب وعما يفعل بهم لاستغراقهم في دنياهم وشهوات هم مُعْرِضُونَ (1) عن التفكر في الحساب والتأهب له - وصفهم بالاعراض بعد الغفلة احترازا عمن كان غفلته باستغراقه في ذكر للّه تعالى عن غيره - واللام في الناس ان كان للاستغراق فالضمير المنفصل عائد. إلى بعض افراد العام كما في قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ يعنى بعولة الرجعيات منهن - ومعرضون خبر للضمير وفي غفلة حال من المستكن في الخبر أو هما خبران للضمير والجملة حال من الناس أو من حسابهم بحذف الرابط - والحساب عبارة عن اظهار ما فعله العباد وما استحقوا عليه - واقترابه عبارة عن اقتراب الساعة - .
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ينّبههم عن نوم الغفلة والجهالة من زائدة وذكر في
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 183
محل الرفع على الفاعلية لياتيهم مِنْ رَبِّهِمْ صفة لذكر أو صلة ليأتيهم مُحْدَثٍ صفة لذكر أى محدث تنزيله ليكور على أسماعهم في التنبيه كى يتعظوا وذا لا ينافى كونه قديما إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) أى يستهزءون به ويستسخرون منه لتناهى غفلتهم وفرط الاعراض عن التفكر في العواقب - حال من فاعل استمعوه.(1/4167)
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حال من فاعل يلعبون أو من فاعل استمعوه - والمستثنى حال من الضمير المنصوب في ما يأتيهم - أو صفة لمصدر محذوف ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال الا حال استماعهم جامعين بين الاستهزاء به والتلهي والذهول عن التفكر فيه - وفي العواقب من الأمور أو ما يأتيهم من ذكر اتيانا الا اتيانا استمعوه بعده جامعين بما ذكر قال أبو بكر الوراق القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها الغافل عن الاخرة وأهوالها - وجملة ما تأتيهم في مقام التعليل لقوله هم في غفلة وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أى بالغوا في اخفائها أو جعلوها بحيث خفى تناجيهم الَّذِينَ ظَلَمُوا فاعل لاسروا والواو في أسوأ زائدة ليدل من أول الأمر ان فاعله جمع وليست بضمير - أو فاعله ضمير والموصول بدل منه جئ للايماء بانهم ظالمون فيما أسروا به - أو الموصول مبتدأ والجملة المتقدمة خبره - وأصله وهؤلاء أسروا النجوى فوضع الموصول موضع هؤلاء تسجيلا على فعلهم بانه ظلم - أو الموصول خبر لمبتداء محذوف تقديره هم الّذين ظلموا - أو منصوب بتقدير اعنى أو اذم وجملة اسرّوا النّجوى معطوفة على يلعبون أو حال من فاعله بتقدير قد أو معطوفة على استمعوه أو على ما يأتيهم أو معترضة هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ صفة مؤكدة لبشر أبدعوا حجة على تكذيبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم في ادعائه الرسالة بكونه بشرا زعما منهم بان الرسول لا بد ان يكون ملكا كانّهم زعموا ان الرسول لا بد ان يكون من جنس المرسل وزعموا ان الملائكة من جنس الملك القهار ولذلك سهواها بنات اللّه وكل ذلك باطل قطعا - والحق ان الرسول لا بد ان يكون من جنس من لرسل إليهم حتى يقتبسوا أنواره - والملك القهار لا يجوز ان يكون له كفوا أحد - ثم أورد والدفع المعجزات الدالّة على الرسالة بقولهم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ يعنى ليس هو رسولا لأنه بشر وما يأتي به من الخوارق كالقران وغيره سحر - أ فتأتون(1/4168)
السحر الاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف والسحر منصوب على المفعولية أو العلية والمفعول محذوف تقديره اتصدقونه في دعوى الرسالة فتأتون السحر أى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 184
تتبعونه - أو فتأتون محمدا لاجل سحره الّذي يأتى به - ولما لم يجدوا دليلا على كون الخوارق سحرا فان القول الباطل لا يمكن إثباته ادعوا بداهته تعنتا فقالوا وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) بالبداهة انه سحر - والجملة حال من فاعل تأتون وجملة أ فتأتون السحر بدل اشتمال لجملة هل هذا الّا بشو - وجملة هل هذا الا بشر منصوب بدلا من النجوى أو مفعولا لقالو - وجملة قالوا بيان لجملة أسروا النجوى أو بدل منه أو مستانفة في جواب ماذا قالوا - والغرض من اسرار هذا القول مشاورتهم في ما بينهم - حتى يحصل لهم كلام يهدم امر النبوة ويظهر فساده ولا يبطله السامع في أول الأمر يريدون ان يطفوا نور اللّه بأفواههم واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون.
قل يا محمد قرأ حمزة والكسائي وحفص قالَ على الاخبار عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم والباقون بصيغة الأمر المستلزم لقوله منه صلى اللّه عليه وسلم رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ حال من القول يعنى يعلم القول كائنا ذلك القول في السماء والأرض من أى قائل كان - جهرا كان أو سرا فلا يخفى عليه ما أسروا وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (4) بأفعالهم وأحوالهم ما ظهر منها وما بطن.(1/4169)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ إضراب من اللّه تعالى في حكاية قولهم في شان الرسول صلى اللّه عليه وسلم انه بشر لا يصلح ان يكون رسولا من اللّه - إلى حكاية قولهم في شأن القرآن انه أضغاث أحلام - يعنى تخاليط أحلام راها في المنام يعنى ليس بوحي من اللّه منزل - وقيل هذا إضراب من الكفار عن مضمون قولهم أ فتأتون السّحر والمعنى قالوا هو سحر بل هو أضغاث أحلام وكلمة قالوا على هذا تأكيد لفظى لقالوا مقدر مفهوم مما سبق بَلِ افْتَراهُ إضراب من الكفار عن كونه أباطيل خيلت إليه في النام وخلطت عليه إلى كونه مفتريات اختلعها من تلفاء نفسه لم يرها في المنام أيضا بَلْ هُوَ شاعِرٌ إضراب ثان منهم عن كونه كلام مفترى إلى كونه كلاما شعريّا قال البغوي أريد ان المشركين قال بعضهم أضغاث أحلام وبعضهم فرية وبعضهم ان محمدا شاعر وما جاء به شعر والفرق بين المفترى والشعر ان المفترى كلام كاذب أراد المتكلم منه حصول التصديق للسامع بنسبة غير مطابقة للواقع والشعر كلام مركب من مقدمات تأثر في ذهن السامع من الرغبة أو الرهبة أو الشوق أو السرور أو الحزن أو التعظيم أو التحقير أو غير ذلك والغرض منه ذلك التأثير في النفوس دون حصول تصديق أصلا فكانه من قبيل الإنشاء - وقد يجتمع الاخبار صادقا أو كاذبا مع مقدمات شعرية مؤثرة في النفوس وذلك في المثنويات والاول في الغزليات - وهذه الأقوال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 185(1/4170)
من الكفار دليل ظاهر على فساد أقوالهم وانها قضوهات منهم عنادا من غير جزم فَلْيَأْتِنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ان كان صادقا في دعوى الرسالة بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) صفة لاية وصحة التشبيه من حيث ان الإرسال يتضمن الإتيان بالآية وما موصولة أو موصوفة وهى صفة لموصوف محذوف والتقدير فلياتنا باية كائنة كالاية الّتي أرسل بها الأولون من الرسل - وكاية أرسل بها الأولون فاتوبها - كالناقة لصالح والعصا واليد البيضاء لموسى والاحياء الموتى وإبراء لاكمه والأبرص لعيسى - أخرج ابن جرير عن قتادة قال قال أهل مكة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان كان ما تقوله حقّا فحول لنا الصفا ذهبا فاتاه جبرئيل فقال ان شئت كان الّذي سالك قومك ولكنه ان كان ثم لم يومنوا لم ينظروا - وان شئت استأنيت لقومك قال بل استانى لقومى فانزل اللّه تعالى.
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ أى قبل مشركى مكة مِنْ قَرْيَةٍ أى من أهل قرية من زائدة وقرية في محل الرفع على الفاعلية أَهْلَكْناها صفة لقرية أى أهلكنا أهمها حين جاءتهم الآيات المقترحة أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ الفاء للعطف على ما امنت والاستفهام للانكار تعقب ايمان أهل مكة عدم ايمان السابقين مع كون أهل مكة اعنى منهم يعنى لم يومن من كان قبلهم فكيف يومن هؤلاء وهم أشد كفرا منهم - وفيه تنبيه على ان عدم إتيانه بالمقترحات كان لابقائهم - إذ لو اتى بها ولم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستيصال كمن قبلهم - .(1/4171)
ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمد إِلَّا رِجالًا نُوحِي قرأ حفص بالنون على صيغة المتكلم المعلوم على التعظيم والباقون بالياء التحتانية على الغيبة والبناء للمفعول إِلَيْهِمْ جملة معترضة ردّ لقولهم هل هذا الّا بشر مثلكم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعنى علما أهل الكتاب من حال الأولين من الرسل هل كانوا بشرا أم ملائكة حتى يزول عنكم شبهتكم إِنْ كُنْتُمْ يا أهل مكة لا تَعْلَمُونَ (7) شرط استغنى عن الجزاء بما مضى والاحالة إلى أهل الكتاب اما للالزام فان المشركين كانوا يشاورونهم في امر النبي صلى اللّه عليه وسلم ويثقون بقولهم - واما لان اخبار أهل التواتر يوجب العلم وان كانوا كفارا.
وَما جَعَلْناهُمْ أى الأولين من الرسل جَسَداً لم يقل أجسادا لأنه اسم جنس أو لأنه في الأصل مصدر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 186
او على حذف المضاف أى ذوى جسد أو بتأويل الضمير بكل واحد - والجسد جسم ذى لون ولذلك لا يطلق على الماء والهواء - وقيل هو جسم ذو تركيب لان أصله لجمع الشيء واشتداده لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسد وجملة ما جعلنا مستأنفة جواب لقولهم مال هذا الرّسول يأكل الطّعام وَما كانُوا خالِدِينَ فى الدنيا تأكيد وتقرير لما سبق فان التعيش بالطعام عن لوازم التحليل المؤدى إلى الفناء.(1/4172)
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أى في الوعد بالنصر على أعدائهم - الجملة معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على قوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا وما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ ولا يموتون - ولكن طعن فيهم المشركون بمطاعن غير صحيحة ومعائب غير ثابتة كما طعن هؤلاء فيك فوعدناهم بالنصر عليهم ثمّ صدقنهم الوعد فَأَنْجَيْناهُمْ يعنى المرسلين من عذاب اللّه وإيذاء الكفار وَمَنْ نَشاءُ يعنى المؤمنين بهم ومن في ابقائه حكمته كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته ولذلك حميت العرب من عذاب الاستيصال وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) متجاوزين الحد في الكفر والمعاصي - .
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش كِتاباً أى القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ أى شرفكم ان علمتم به أو لأنه بلسانكم أو المعنى ذكركم ربكم وذكر ما تحتاجون إليه من امر دينكم - وقال البيضاوي حيتكم والصيت أى الذكر أى الحسن أو موعظتكم أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق وقال مجاهد فيه حديثكم - وفي القاموس الذّكر بالكسر الحفظ للشيء كالتذكار والشيء يجرى على اللسان والصيت والثناء والشرف والصلاة للّه تعالى والدعا وكتاب فيه تفصيل الدين ووضع الملل - أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) عطف على أنزلنا والفاء للتعقيب والهمزة للانكار عدم تعقل ما فيه صلاحكم وشرفكم - .
وَكَمْ قَصَمْنا يعنى كسرنا أى أهلكنا كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً يعنى أهل قرية كانوا ظالمين على أنفسهم بالكفر والمعاصي وَأَنْشَأْنا أورثنا بَعْدَها أى بعد هلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ (11) مكانهم.
فَلَمَّا أَحَسُّوا يعنى لما أدركوا بحاسة البصر والضمير الأهل المحذوف المضاف إلى قرية بَأْسَنا شدة عذابنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) أى يهربون مسرعين راكضى دواتهما ومشبهين بهم من فرط إسراعهم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 187(1/4173)
لمّا ظرف بمعنى المفاجاة في إذا يعنى فاجا مربهم مسرعين حين رويتهم عذابنا هذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة وهما بيان لكيفية إهلاكهم تقديره ولما أردنا ان نقصهم أنزلنا عليهم بأسنا فلمّا احسّوا بأسنا اذاهم منها يركضون.
لا تَرْكُضُوا محمول على تقدير قيل والجملة مستانفة في جواب ما قيل لهم عند هربهم يعنى قيل لهم استهزاء اما بلسان الحال أو المقال - والقائل ملك أومن ثم من المؤمنين لا تركضوا ولا تهربوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أى ما انعمتم من التنعم والتلذذ والإتراف ابطار النعمة قال الخليل المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه وَمَساكِنِكُمْ الّتي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) غدا عما جرى عليكم ونزل باموالكم فتجيبون السائل عن علم ومشاهدة أو ارجعوا واجلسوا في مجالسكم وعبيدكم فيقولون لكم بم تأمرون - أو يسئلكم الناس في انديتكم المعاون في النوازل والخطوب - أو تسئلون غدا عن أعمالكم أو تعذبون فان السؤال من مقدمات العذاب - وقال ابن عباس تسئلون عن قتل نبيكم - قال البغوي نزلت هذه الآية في أهل حضورا وهى قرية باليمن وكان أهلها العرب فبعث اللّه إليهم نبيّا فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ فكذبوه وقتلوه فسلط اللّه عليهم بخت نصر حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا فقالت الملئكة لهم استهزاء لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلّكم تسئلون - قال قتادة لعلكم تسئلون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم وتمتعون من شئتم فانّكم أهل ثروة ونعمة فاتبعهم بخت نصر واخذتهم السيوف وناداى مناد من جو السماء يا ثاراث الأنبياء فلما راو ذلك أقروا على أنفسهم بالذنوب حين لم ينفعهم - وجاز ان يكون بعضهم قال لبعض لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسئلون مالا وخراجا فتعطون مالا تمتعون من القتل فنورى من السماء يا ثاراث الأنبياء واخذتهم السيوف فاقروا(1/4174)
على أنفسهم و.
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) جملة مستانفة.
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أى ما زالو يرددون ذلك وانما سماه دعوى لان المولول كأنَّه يدعو الويل ويقول يا ويل تعال فهذا أو انك وكل من تلك ودعويهم يحتمل الاسمية والخبرية لما زال حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أى مثل زرع الحصيد المحصود ولذلك لم يجمع خامِدِينَ (15) ميتين من خمدت النار وهو مع حصيد بمنزلة اسم واحد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 188
مفعول ثان لجعلنا كقوله جعلته علوّا حامضا - فان المعنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو صفة لحصيد أو حال من ضميره.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) يعنى عابثين فاعلين فعلا عبثا باطلا بل خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للناظرين وتذكرة للمعتبرين وتسبيبا لما ينتظم بامور المخلوقين في المعاش والمعاد فينبغى ان يتوصلوا بها إلى تحصيل الكمال ولا يغتروا بزخارفها فانها سريعة الزول.(1/4175)
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال ابن عباس في رواية عطاء اللهو المراءة وهو قول الحسن وقتادة وذلك ان الوطي سمى لهوا في اللغة والمرأة محل اللهو - وفي رواية الكلبي عن ابن عباس اللهو الولد وهو قول السدى فان المرء يلهو بالصغار اللاهين من أولاده - لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات وما يناسب فاتنا كما هو المعلوم ان الزوج والولد يكون لكل شيء من جنسه ولما كان ذاته تعالى بحيث لم يماثله شيء ولا يجانسه ولا يكافثه أحد - فاستحال ان يكون له زوج أو ولد - وتعلق الارادة الّتي لا ينفك المراد منها بالمستحيل مستحيل - فامتنع تعلق الارادة به فامتنع اتخاذ الزوج والولد - وهذا ردّ لقول النصارى في المسيح وامه إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) شرط مستغنى عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنّا فعلين اتخاذ اللهو لاتخذناه من لدنا لكنا لسنا فاعلين لكونه مستحيلا مناف للالوهية - وقال قتادة وابن جريج ومقاتل ان لنفى أى ما كنا فاعلين والجملة كالنتيجة لشرط.(1/4176)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عطف على مضمون الكلام السابق يعنى لا نفعل اللهو والباطل بل نقذف بالحقّ أى نرمى بالحق بالآيات الدالّة على تنزيه اللّه تعالى من اتخاذ الصاحبة والوالد وكونه كفوا لاحد رميّا بعيدا عَلَى الْباطِلِ أى الكفر والكذب وذلك قولهم اتّخذ اللّه ولدا فَيَدْمَغُهُ أى يدمغه ويفنيه والدمغ كسر الرأس والدماغ المؤدى إلى زهوق الروح - استعار اللّه سبحانه لاعدام الباطل بالحق واحقاق الحق وابطال الباطل فان القذف هو الرمي البعيد المستلزم لصلابة الموحى - والدمغ تصوير لابطال الباطل مبالغة بحيث لا يبقى من الباطل شيء فَإِذا هُوَ أى الباطل زاهِقٌ أى هالك ذاهب لا اثر له - فى القاموس زهق الباطل أى اضمحل والشيء بطل وهلك فهو زاهق - وقيل الزهوق ذهاب الروح ذكره لترشيح المجاز ولكم يا معشل لكفار
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 189
الْوَيْلُ الهلاك مِمَّا تَصِفُونَ اللّه بما يليق به وما مصدرية أو موضولة أو موصوفة والجملة معطوفة على فإذا هو زاهق أو حال أو معترضة.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا فلا يصلح شيء منها ان يكون له أهلا أو ولدا أو كفوا وَمَنْ عِنْدَهُ قربا وعنديته بلا كيف وهم الملئكة والأنبياء ومن في معناهم معطوف على من في السّموت والأرض وافراده للتعظيم ولانه أعم منه من وجه فان بعض الملائكة كحملة العرش وغيرهم وحقائق الأنبياء والملائكة ودائرة الظلال متعال عن التبوء في السماء والأرض أو مبتداء خبره لا يَسْتَكْبِرُونَ أى لا يتعظّمون ع َنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ
(19) أى لا يعيون يقال حسر واستحسر إذا تعب واعيا والاستحسار ابلغ من الحسور وفيه اشارة إلى ان عبادتهم لاجل ثقلها ودوامها كانت حقيقة بان يستحر منها وهم لا يستحسرون بل يتلذّذون به ويديمون فيه بحيث يرون تركها هلاكا.(1/4177)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أى ينزّهونه ويعظمونه دائما قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبنى آدم لا يَفْتُرُونَ (20) أى لا يضعفون ولا يسئمون حال من الضمير المرفوع في يسبحون وهو استيناف - أو حال من ضمير لا يستكبرون ولا يستحسرون - وجملة لا يستكبرون مع ما عطف عليه حال من عنده على تقدير كونه معطوفا على من في السّموات والمراد بالعبادة الّتي لا تنقطع من المقربين دوام الحضور والذكر الخفي الّذي لا يمكن انقطاعه من المقربين بشرا كان أو ملكا كما لا يمكن انقطاع التنفس بالهواء للحيوان البرى وبالماء للحيوان البحري - وأيضا إذا حصل دوام الحضور فكلما يفعل المرء من فعل يفعله اللّه تعالى يأكل ويشرب وينام ليتقوى على طاعة اللّه وينكح أداء لسنة رسوله وتكاثرا لامته وامتثالا لامره تناكحوا فانى مباهى بكم الأمم - ولا يصدر عنه معصية - فان المعصية مبنى صدورها غالبا على الغفلة وان صدر عنه معصية بتقدير اللّه يندم ويتوب بحيث يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات - ومن أجل ذلك قالوا نوم العالم عبادة - ومن كان هذا شأنه يصدق عليهم انهم لا يستحسرون يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون.
أَمِ اتَّخَذُوا بلء اتّخذوا آلِهَةً أم منقطعته بمعنى بل والهمزة فمعنى بل للاضراب
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 190(1/4178)
عن مضمون الكلام السابق فان مضمون قوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وقوله أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وقوله تعالى بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ انهم طعنوا في النبوة فالمعنى انهم طعنوا في النبوة والقران بل اتخذوا الهة ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ مِنَ الْأَرْضِ صفة للالهة أو متعلقة بالفعل على معنى التبعيض أو الابتداء يعنى اتخذوا وصنعوا من جواهر الأرض من حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك وفائدتها التحقير دون التخصيص وهُمْ يُنْشِرُونَ (21) صفة لالهة أى يحبون الأموات وفيه تحميل الكفار وتهكم بهم فانه لا يستحق العبادة الا من يقدر على الاحياء والاماتة والانعام بأبلغ وجوه النعمة وهم لمّا أشركوا الأصنام في الالوهية فكانّهم ادعوا لها الاحياء ونحوه وذلك ظاهر البطلان - وللمبالغة في ال؟؟؟ كم زيد الضمير الموهم لاختصاص الإنشاء بهم.
لَوْ كانَ فِيهِما أى في السماء والأرض آلِهَةٌ كما زعم المشركون إِلَّا اللَّهُ الّا هاهنا بمعنى غير صفة لالهة وليست للاستثناء لتعذر الاستثناء المتصل والمنفصل لعدم القطع في شمول المستثنى منه المستثنى وعدم شموله فهى محمولة على غير وأعرب ما بعده إعرابه كما يحمل لفظة غير على الّا فيستعمل للاستثناء لَفَسَدَتا لبطلتا ولم يوجدا فانها ان توافقت الالهة في المراد تطاردت عليها القدرة - وان تخالفت فيه تعاوقت عنه وهذه الجملة تعليل للتوبيخ المفهوم من أم المنقطعة فَسُبْحانَ اللَّهِ يعنى اسبح للّه سبحانا رَبِّ الْعَرْشِ المحيط بجميع الأجسام الّذي هو محل التدابير ومنشاء المقادير وبمنزلة الدماغ للانسان في العالم الكبير - وانتزهه عَمَّا يَصِفُونَ (22) من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد.(1/4179)
لا يُسْئَلُ اللّه تعالى عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالالوهية والسلطنة الذاتية - ولانّه كلّما يفعل من فعل فهو تصرف في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء لا اعتراض عليه عقلا ولا نقلا وَهُمْ يعنى من في السموات والأرض يُسْئَلُونَ (23) عمّا يفعلون لكون أفعالهم تصرفا في ملك اللّه سبحانه فلا يجوز الا باذنه واباحته فيسئلون عن ذلك وجملة هم يسئلون حال أو معطوفة على ما سبق وجملة لا يسئل مع ما عطف عليه تعليل المضمون الكلام السابق فان من كان مسئولا لا يصلح ان يكون شريكا لمن لا يكون مسئولا.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرر الإنكار والتوبيخ استعظاما لكفرهم و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 191(1/4180)
استفظاعا وتبكيتا وإظهارا لجهلهم - أو ضما لانكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى ما يكون لهم دليلا من العقل - والمعنى أوجد والهة ينشرون الموتى فاتخذوهم الهة لما راو فيها من خصائص الالوهية - أو وجدوا في الكتب الالهية السماوية الأمر باشراكهم فاتخذوها الهة متابعة للامر - ويعضد ذلك التأويل انه رتب على الأول ما يدل على فساده عقلا وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلا قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على الإشراك اما من العقل أو من النقل فانه لا يصح القول بما لا دليل عليه - كيف وتطابقت الحجج على بطلانه عقلا كما مر ونقلا فان هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى هذا القرآن والتورية والإنجيل الموجود بين ايديكم ذكر أمتي أى عظتهم إلى يوم القيامة وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أى عظة الأمم الماضية - روى عطاء عن ابن عباس ذكر من معى القرآن وذكر من قبلى التورية والإنجيل - يعنى راجعوا إلى الكتب السماوية من القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها هل تجدون فيها ان اللّه تعالى اتخذ شريكا أو ولدا أو امر لعبادة غيره - والتوحيد لم يتوقف عليه صحة بعثة الرسل وإنزال الكتب فصح الاستدلال فيه بالنقل فان قيل مشركوا مكة لم يكونوا مسلمين لكتب السماوية لا سيما للقران - فكيف يصح عليهم الاحتجاج بها - قلنا لما كان صحة الكتب السماوية لا سيما القرآن باعجازه واضحا بينا وانكارهم انما كان عنادا لم يعتد بانكارهم وجعها كالمسلّمة لكونها مسلّمة عند الانصاف واللّه اعلم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ولا يميزون بينه وبين الباطل مع سطوع برهانه إضراب من الاتعاظ المفهوم من اضافة الذكر إلى من معى فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) من الحق أى التوحيد واتباع الرسول لاجل ذلك.(1/4181)
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي قرأ حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الحاء على التعظيم وضمير المتكلم والباقون بالياء التحتانية وفتح الحاء على البناء المفعول إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) أى فاعبدونى وحدي لا تشركوا بى شيئا - وهذا تعميم بعد تخصيص يعنى ليس الأمر بالتوحيد منحصرا في القرآن والتورية والإنجيل الموجودة بين أظهرهم مشار إليها بهذا في قوله هذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل كل رسول أرسلناه كنّا نوحى إليهم التوحيد.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 192
وَلَداً
عطف على مضمون أم اتّخذوا الهة من الأرض ومضمون أم اتّخذوا من دونه الهة يعنى جعلوا اللّه شركاء وقالوا اتّخذ الرّحمن ولدا - قال البغوي نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيه له تعالى عن ذلك بَلْ عِبادٌ يعنى بل هم أى الملائكة عباد مخلوقون ليسوا باولاد مُكْرَمُونَ (26) مقربون.
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أى لا يقولون شيئا الا باذنه - وأصله لا يسبق قولهم قوله واذنه فنسب السبق إليهم واليه وجعل القول محله وأداته تنبيها على استهجان اسبق المعترض به للقائلين على اللّه مالا يرضاه - وأنيب اللام عن الاضافة اقتصارا وتجافيا عن تكرير الضمير وَهُمْ بِأَمْرِهِ أى بما يأمرهم به يَعْمَلُونَ (27) يتمثلون ولا يعصونه أصلا.(1/4182)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أى لا يخفى عليه شيء مما عملوا وما هم عاملين - وهو كالعلة لما قبله والتمهيد لما بعده فانهم لاحاطة علمه تعالى بأحوالهم يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم وَلا يَشْفَعُونَ مهابة منه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ان يشفع له قال ابن عباس الا لمن قال لا اله الا اللّه - وقال مجاهد الا لمن رضى اللّه عنه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) الخشية خوف مع التعظيم ولذلك خص به العلماء - والإشفاق خوف مع اعتناء فان عدى بمن كما في هذه الآية فمعنى الخوف فيه اظهر وان عدى بعلى فبا بالعكس - فالمعنى وهم من خوفه لاجل عظمته ومهابته خائفون لا يأمنون مكره.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أى من الخلائق أو من الملائكة على سبيل الفرض إِنِّي قرأ نافع وأبو عمر بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ الشخص نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ والغرض من الآية نفى الربوبية ونفى ادعاء ذلك من الملائكة - وتهديد المشركين بتهديد مدعى الالوهية فهذه الآية كقوله تعالى نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
- وقال قتادة عنى بذلك إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه وامر بطاعة نفسه وقد كان من الملائكة اما حقيقة أو حكما لاجل الحاقه بهم واما غيره من الملائكة فلم يقل به أحد كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29).
أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأ ابن كثير الم ير بغير واو العطف والباقون بالواو
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 193(1/4183)
يعنى الم يعلموا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا لم يقل كانت لان المراد جماعة السموات وجماعة الأرض رَتْقاً قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة كائتا شيئا واحدا ملتزقين فَفَتَقْناهُما فصلناهما بالهواء والرتق في للغة السد والضم والفتق الشق والفتح قال كعب خلق اللّه السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا فوسطها فتحها بها وقال مجاهد والسدى كانت السموات مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع ارضين وقال عكرمة وعطية كانت السماء رتقا لا تمطروا لأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالبنات والمراد حينئذ بالسماوات السماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو السموات بأسرها على ان لها مدخلا في الأمطار وهذا القول اظهر فان الكفرة « 1 » وكل من له عقل ينظر ويعلم ان المطر ينزل من السماء بعد مالم يمطر والنبات يخرج من الأرض بعد ما لم يخرج وهو امر حادث لا بد له من محدث واجب الوجود فالرتق والفتق بهذا المعنى ظاهر واما كونها في بدو الخلق ملتزقة وفتقت بالرياح فغير ظاهر على الكفار لكنهم متمكنون من تحصيل العلم بها بالاستفسار من العلماء ومطالعة الكتب السماوية وتناسب تاويل عكرمه وعطية قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ عطف على فتقناهما يعنى فتقنا السماء وأنزلنا منها ماء وفتقنا الأرض وأخرجنا منها نباتا وجعلنا من الماء الّذي أنزلناه من السماء كل شيء حى وهو معطوف على كانتا وذلك محمول على السموات والأرض وعلى هذا يقال الرابط محذوف تقديره وجعلنا من الماء كل شيء حى كائن بينهما أو الجملة عطف على مضمون ما سبق لان الاستفهام لانكار نفى الرؤية وهو يستلزم ثبوت الروية وذلك يستلزم وحصول الرتق والفتق فالتقدير حصل منها فتق السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل شيء حى والجعل ان كان بمعنى(1/4184)
الخلق وهو الجعل البسيط فالطرف متعلق به وان كان بمعنى التصيير وهو الجعل المركب فالظرف مستقر مفعول ثان فان قيل خلق النبات الّذي له نوع من الحيوة من الماء وتصييره كائنا من الماء ظاهر فانه بمنزلة النطف للحيوان وكذا بعض الحيوانات كالحشرات فان؟؟؟ ضقها من الرطوبات واما اكثر الحيوانات
_________
(1) الكفره جمع كافر هاهنا بمعنى الحارث - المصحح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 194
فخلقها من النطفة فما معنى قول وجعلنا من الماء كل شيء قلنا لما كان الماء أعظم مواد بقاء الحيوان وأفرط احتياجه وانتفاعه بعينه فكانه خلق منه فضح ان يقال على سبيل التجويز خلقنا من الماء كل شيء حى وصيرناه منه كما قيل خلق الإنسان من عجل وخلق أيد من الكرم وجاز ان يقدر المضاف ويقال المعنى وجعلنا من الماء بقاء كل شيء حى وقال أبو العاليه واكثر المفسرين معنى الآية كل شيء حى فهو مخلوق من الماء أخرج احمد عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل شيء خلق من الماء قلت يعنى من النطفة نظيره قوله تعالى واللّه خلق كل دابة من ماء فالمراد بالشيء على هذا التأويل الحيوان وبالكل الأكثر كما في قوله تعالى كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وجاز ان يراد بالماء مطلق الرطوبة الشاملة لنطفة الحيوان وما يتولد منه النباتات والحشرات واللّه اعلم أَفَلا يُؤْمِنُونَ الاستفهام للانكار والفاء للتعقيب يعنى بعد روية هذه الادلة القاطعة على وجود الصانع الواجب وجوده المتصف بصفات الكمال المتوحد في الذات والصفات لا يؤمنون به.(1/4185)
وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ جبالا رَواسِيَ ثوابت من رسا إذا ثبت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أى كراهة ان تميد بهم أو لان لا تميد بهم فحذف ما حذف للامن من الالتباس وَجَعَلْنا فِيها أى في الأرض أو في الرواسي فِجاجاً الفج الطريق الواسع بين الجبلين كذا في القاموس سُبُلًا جمع سبيل وهو الطريق وما وضح منه كذا في القاموس قدم فجاجا وهو وصف للسبيل لان فيه معنى الوسعة ليصير حالا من سبلا فيدل على انه حين خلقها كان كذلك أو ليبدل منها سبلا فيدل ضمنا على انه خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى مقاصدهم ومصالحهم.
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً عن السقوط لقدرته من غير عمد أو عن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيته أو عن استراق السمع بالشهب وَهُمْ عَنْ آياتِها أى عن أحوالها وما خلق فيها من الشمس والقمر والكواكب الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهى حكمته مُعْرِضُونَ غير متفكرين فيه.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بيان لبعض تلك الآيات كُلٌّ أى كل واحد فِي فَلَكٍ وهو مدار النجوم الّذي يضمها كذا في القاموس وهو في كلام العرب كل شيء مستدير وجمعه أفلاك ومنه فلك المغزل قال الحسن الفلك طاحوته كهيئة فلك المغزل يريد ان الّذي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 195(1/4186)
تجرى فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة وقال بعضهم الفلك السماء الّذي فيه ركز الكواكب وكل كوكب يجرى في السماء الّذي قدر فيه وهو قول قتادة وقال الكلبي الفلك استدارة السماء وقال الآخرون الفلك موج مكفوف دون السماء تجرى فيه الشمس والقمر والنجوم قلت والصحيح ان المراد بالفلك السماء والتنوين للدلالة على ان كل واحد منها في فلك واحد من الافلاك وهو السماء الدنيا وان كان مدار الكواكب على أفلاك شتى فالمراد بالفلك الجنس كقولهم كساهم الأمير حلة واللّه اعلم يَسْبَحُونَ أى يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء والضمير راجع إلى الشمس والقمر وانما جمع باعتبار المطالع وجعل واو العقلاء لان السباحة فعلهم واللّه اعلم أخرج ابن المنذر عن أبى جرع قال لما نعى للنبى صلى اللّه عليه وسلم نفسه قال يا رب من لامتى فنزلت.
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أى الخلود ودوام البقاء في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ قال البغوي نزلت هذه الآية حين قالت الكفار نتربص بمحمد ريب المنون والفاء لتعلق الشرط بما قبله والهمزة للانكار بعد ما تقرر ذلك والجملة معطوفة على مضمون ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد يعنى ثبت انك لست بخالد فان مت افهم الخالدون.(1/4187)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أى ذائقة مرارة مفارقتها جسدها هذه الجملة مقررة لقوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وَنَبْلُوكُمْ نعاملكم معاملة المحشر بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ وبالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر وكل ما يحبون وما يكرهون فِتْنَةً أى ابتلاء فهو مصدر من غير لفظه يعنى نبلوكم ابتلاء حتّى يظهر منكم بعد ما تحبونه الشكر أو الكفر ان وبعد ما تكرهونه الصبر أو الجوع والشكوى وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم الصبر والشكر أو ضدهما وفيه ايماء بان المقصود من هذه النشأة انما هو الابتلاء والتعريض للثواب أو العقاب تقريرا لما سبق أخرج ابن أبى حاتم عن السدى قال مر النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبى جهل وابى سفيان وهما يتحدثان فلما راه أبو جهل ضحك وقال لابى سفيان هذا نبى من بنى عبد مناف فغضب أبو سفيان وقال ما تنكرون ان يكون من بنى عبد مناف نبى فسمع النبي صلى اللّه عليه وسلم فرجع إلى أبى جهل فوقع به وخوفه وقال ماراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك فنزلت.
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً سخريا أى مهزوا به أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 196
بيان لقوله ان يتخذونك إلا هزوا تقديره يقولون ا هذا الّذي يذكر الهتكم أى بسوء وانما أطلقه لدلالة الحال فان ذكر العدو لا يكون الا بسوء وذكر الحبيب لا يكون الا بخير يقال فلان يذكر فلانا يعنى يعيبها وفلان يذكر اللّه أى يعظمه ويجله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ با لتوحيد والتعظيم أو بإرشاده الخلق ببعث الرسل وانزل الكتب رحمة عليهم - أو بالقران هُمْ كافِرُونَ منكرون يقولون لارحمن الا رحمن اليمامة يعنى مسيلمة الكذاب فهم أحق بان يهزوبهم وتكريرا لضمير للتاكيد أو التحصيص أو لحيلولة بينه وبين الخبر.(1/4188)
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يعنى خلق الإنسان مجبولا على الاستعجال كأنَّه خلق منه لفرط استعجاله وقلة تا؟؟؟ نيه يقول العرب للّذي يكثر منه الشيء خلق منه يقال خلقت من تعب وخلقت من غضب وخلق فلان من الكرم جعل ما طبع هو بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له قال سعيد بن جبير والسدى لما دخل الروح في راس آدم وعينه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل ان يبلغ الروح في رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل والمراد بالإنسان آدم عليه السّلام وأورث أولاد العجلة من عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد قلت ويمكن ان يقال على ما قالت الصوفية ان العالم بأسرها ظلال لاسماء اللّه تعالى وصفاته ومباد لتعينات الخلائق واللّه سبحانه متصف بالصفات المتضادة فكما ان الصبور من الأسماء الحسنى كذلك سريع الحساب منها فالاستعجال الّذي هو من صفات اللّه تعالى له دخل في مبدأ تعين نوع الإنسان ومن هاهنا قال قوم معناه ان بنيته وخلقته من العجلة فان قيل إذا كان الاستعجال من صفات اللّه تعالى كان محمود أو سياق هذه الآية تدل على كونه مذموما وأيضا إذا كان الإنسان مجبولا على الاستعجال فالنهى عنه لا يجوز لان الطبيعيات لا يكون مقدورة الترك قلنا نفس الاستعجال غير مذموم وانما المذموم الافراط فيه أو وضعه في غير موضعه الا ترى ان اللّه تعالى يمدح الأنبياء بانهم يسارعون في الخيرات فالممنوع هو الافراط ووضعه في غير موضعه وذلك مقدور تركه وقال قوم معناه خلق الإنسان يعنى آدم من تعجيل في خلق اللّه إياه لان خلقه كان بعد كل شيء في اخر النهار يوم الجمعه فاسرع في خلقه قبل مغيب الشمس قال مجاهد فلما احى الروح راسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل معناه خلق آدم بسرعة وتعجيل لا على ترتيب خلق سائر الآدمين من النطفة والعلقة والمضغة وغيرها وقال قوم من عجل أى من طين(1/4189)
قال الشاعر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 197
و النبغ في الصخرة الصماء منبتة والنخل تنبت من الماء والعجل
قال في القاموس العجل محولة الطين أو الحماة وهذه جملة معترضة تمهيد للتشنيع على قولهم ويقولون متى هذا الوعد سَأُرِيكُمْ آياتِي ونعماتى في الدنيا لوقعة بدور في الآخرة عذاب النار فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها قبل وقتها المقدر لها الفاء للسببية معطوف على قوله ساريكم آياتي وهى معترضة ثانية رد الاستبعاد المشركين وعيد العذاب واستعجالهم استهزاء حيث كانوا يقولون أمطر علينا حجارة من السماء قيل نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب.
وَيَقُولُونَ أى الكفار مَتى هذَا الْوَعْدُ أى وقت وعد العذاب أو القيامة الاستفهام للاستنبط المبنى على الاستعجال والجملة عطف على الشرطية السابقة اعنى وإذ أراك الذين كفروا ان يتخذونك الا هزوا أو عطف على يقولون المقدر في قوله ا هذا الّذي يذكر الهتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بالوعيد بالعذاب أو بإتيان القيامة خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى فبينوا وقت إتيانها فقال اللّه تعالى.(1/4190)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جواب لو محذوف وحين قيل مفعول به ليعلم والمعنى لو يعلمون الوقت الّذي يحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يستطيعون دفعها عن أنفسهم بانفسهم ولا يجدون أحدا ينصرهم يدفعها عنهم لما أقاموا على كفرهم وقيل مفعول يعلم متروك وحين ظرف بفعل مقدر والتقدير لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون بطلان ما هم عليه حين لا يكفون فهما جملتان - قلت وجاز ان يكون مفعول يعلم مقدر أو يكون حين ظرفا لفعل مقدر والتقدير لو يعلم الذين كفروا ما ينزل بهم حين لا يكفون عن وجوههم النار يعنى حين يحيط بهم النار لما استعجلوا العذاب ولما قالوا متى هذا الوعد.
بَلْ تَأْتِيهِمْ الضمير للنار أو للوعد أو الحين والتأنيث باعتبار ان الوعد بمعنى العدة والحين بمعنى الساعة والجملة إضراب عما تضمنه متى هذا الوعد من الاستبعاد أو عما تضمنه لو يعلم الذين كفروا يعنى لا يعلمون وقت مجى الساعة أو العدة أو النار الّتي يحيط بهم في جميع الجوانب بَغْتَةً أى فجأة منصوب على المصدرية أو على الحال فَتَبْهَتُهُمْ تلك العدة أو النار أو الساعة يعنى تغلبهم أو تحيرهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أى يمهلون فيه تذكير بامهالهم في الدنيا وتقديم المسند إليه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 198
فى قوله تعالى ولا هم ينصرون ولا هم ينظرون على المسند وهو فعل لدلالة الحصر بالكفار اشعارا بان عصاة المؤمنين ينصرهم الشفعاء من الأنبياء والملئكة والصلحاء وهم ينظرون ويغفرون.(1/4191)
وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ عطف على قوله وإذ أراك الذين كفروا ان يتخذونك إلا هزوا واللام لكونه جواب قسم محذوف وفيه تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم ووعيد لمن يستهزأ به فَحاقَ أى نزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أى جزاء استهزائهم.
قُلْ يا محمد للمستهزئين بك مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أى يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ قال ابن عباس ان من عذاب اللّه ان أراد بكم أو ان نزل بكم يعنى لاكالئ من عذابه الا رحمته العامة في الدنيا وان اندفاعه بامهاله بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ إضراب عن الأمر بالسؤال فان معناه ذكّرهم الرحمن وحذرهم عن عذابه فقال بل هم معرضون عن ذكره يعنى عن القرآن ومواعظ اللّه فلا ينفعهم التذكير أو المعنى انهم لا يخطرون الرحمن ببالهم فضلا ان يخافوا بأسه حتى إذ كلئوا منه عرفوا الكالى وصلحوا للسوال عنه.(1/4192)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ يعنى بل الهم الهة تَمْنَعُهُمْ من عذابنا صفة لالهة مِنْ دُونِنا صفة ثانية لالهة أو حال عنه يعنى كائنة من دوننا إضراب ثان عن الأمر بالسؤال فان السؤال عن المعرض بعيد وعن المعتقد لنقيضه ابعد والاستفهام لانكار معتقدهم يعنى ليس الأمر كما اعتقدوه ان الهتهم تمنعهم من العذاب لا يَسْتَطِيعُونَ يعنى ما اعتقدوه الهة لا تستطيع شيء منها نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ أصلا ان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه جملة مستانفة في مقام التعليل للانكار وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ عطف على لا يستطيعون يعنى ولا يصحبهم منا نصركما يصحب لمن يشفع عصاة المؤمنين من النبيين والملئكة والصالحين وقال ابن عباس معناه ولا هم منا يمنعون فالمعنى ان العذاب يشتمل الالهة أيضا نظيره قوله تعالى انكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم وقال عطية عنه معناه تجارون يقول العرب انا لك جار وصاحب من فلان وقال مجاهد معناه ينصرون وقال قتادة لا يصحبون من اللّه يعنى بالاذن في الشفاعة والنصر فهذا يؤل إلى الأول والثالث والرابع إلى الثاني.
بَلْ مَتَّعْنا يعنى أعطينا النعمة وأمهلنا هؤُلاءِ الكفار في الدنيا وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أى امتد بهم الزمان إضراب عما توهموا من نصر الالهة إياهم ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتيع بما قدر لهم من الأعمار أو عن الدلالة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 199(1/4193)
على بطلان ما توهموه ببيان ما أوهمهم ذلك وهو انه تعالى امهلهم استدراجا فاغتروا وحسبوا ان لا يزالوا كذلك وانه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على انه امل كاذب قال أَفَلا يَرَوْنَ الهمرة للانكار والغاء للعطف على محذوف تقديره الا ينظرون فلا يرون بالأبصار أو التقدير الا يتفكرون فلا يعلمون أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أى يأتي أمرنا ارض الكفار ان ينقص نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أى نسلط المسلمين على أطرافها بيان لقوله ناتى الأرض وتصوير لما يجريه اللّه على أيدي المسلمين فتح ديار المشركين أرضا فارضا أَفَهُمُ الْغالِبُونَ رسول اللّه والمؤمنين الهمزة للانكار والفاء للعطف على ناتى الأرض يعنى ليس الأمر انهم يغلبون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين.
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ أى أخوفكم بِالْوَحْيِ أى بما يوحى إلى من القرآن هذه الجملة تقرير النهى عن استعجال لحوق العذاب ونفى استبعاده والمعنى ان اتدارى بالعذاب ليس من تلقاع نفسى انما هو بأخبار اللّه العليم القدير الّذي لا يحتمل التخلف في اخباره فلا وجه لاستبعادكم واستعجالكم وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ قرأ ابن عامر لا تسمع بالتاء الفوقانية المضمومة وكسر الميم من الافعال خطابا للنبى صلى اللّه عليه وسلم ونصب الصم والباقون بالياء المفتوحة وفتح الميم من المجرور رفع الصم على الفاعلية والجملة حال من فاعل قل أو من المحذوف يعنى قل للكافرين المستهزئين المستعجلين للعذاب فا اللام للعهد سماهم الصم ووضعه موضع ضميرهم ولم يقل ولا يسمعون الدعاء اولا يسمعهم فلتصريخ على تصامهم وعدم انتفاعهم بما يسمعون إِذا ما يُنْذَرُونَ ظرف ليسمع أو للدعاء والتقييد به لان الكلام في الانذار أو للمبالغة في تصامهم وتجاسرهم.(1/4194)
وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ جواب قسم محذوف نَفْحَةٌ قال ابن عباس طرف وقيل قليل وقال ابن جريح نصيب من قولهم نفح فلان لفلان من ماله أى أعطاه حظا منه وقيل ضربة من قولهم نفحت الدابة برجلها واصل النفح هبوب رائحة الطيب وفيه مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة والبناء الدال على المرة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ الّذي ينذرون به ويستعجلونه لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا يا هلاكنا احضر فهذا أو انك إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ على أنفسنا بالاشراك باللّه وعدم التحرز عن عذابه يعنى لدعوا على أنفسهم بالوكيل واعترفوا عليها بالظلم وندموا حين لا ينفعهم الندم.
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أى ذوات القسط أو وصفت به للمبالغة وأفرد القسط لأنه مصدر لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أى لجزاء يوم القيامة أو لاجل أهلها أو فيه كقولك
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 200(1/4195)
جئت لخمس خلون من الشهر قيل وضع الميزان تمثيل لارصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال وهذا التأويل غير مقبول عند أهل السنة لعله من كلام أهل الهواء والصحيح ان الميزان على حقيقته أخرج ابن المبارك في الزهد والآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا وأبو الشيخ ابن حبان في تفسيره من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال الميزان له لسان وكفتان واخرج ابن مردوية في تفسيره عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول خلق اللّه عزّ وجلّ كفتى الميزان مثل السماء والأرض الحديث واخرج بيهقى في البعث عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب في حديث سوال جبريل عن الايمان قال يا محمد ما الايمان قال ان تومن باللّه وملئكته ورسله وتومن بالجنة والنار والميزان وتومن بالبعث بعد الموت بالقدر خيره وشره قال فإذا فعلت فانا مومن قال نعم قال صدقت واخرج الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوضع الميزان يوم القيمة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت الحديث واخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن انس قال سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يشفع لى يوم القيمة قال انا فاعل قلت يا رسول اللّه فاين أطلبك قال اطلبنى أول ما تطلبنى على الصراط قلت فان لم القك على الصراط قال فاطلبنى عند الميزان قلت فان لم القك عند الميزان قال فاطلبنى عند الحوض فانى لا أخطى هذه المواطن الثلاثة واخرج الحاكم والبيهقي والا جرى عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه هل تذكرون أهليكم يوم القيمة قال في ثلث مواطن فلا يذكر أحد أحدا حيث يوضع الميزان حتى يعلم يثقل ميزانه أو يخف وحيث تطار الكتب حتى يعلم اين يقع كتابه في يمينه أو في شماله أو من وراء ظهره وحيث يوضع الصراط حتى يعلم ان ينجوا اولا وقد ورد في الميزان أحاديث كثيرة ذكرنا بعضها في السورة القارعة في تفسير قوله تعالى فمن ثقلت موازينه فهو(1/4196)
في عيشة راضية الآية وذكر البغوي انه روى ان داود عليه السّلام سأل ربه ان يريه الميزان فاراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب فغشى عليه ثم أفاق فقال يا الهى من الّذي يقدر ان يملا كفة حسناته فقال يا داود انّى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة وأورد لفظ الجمع فقال وتضع الموازين قال النسفي في بحر الكلام اما لان يكون لكل انسان ميزان علمحدة أو لان الجمع يذكر ويراد به الواحد تفخيما وتعظيما كما في قوله تعالى فنادته الملئكة وهو جبرئيل وقال اللّه تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات والمراد به محمد صلى اللّه عليه وسلم وجاز ان يعتبر كل جزء
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 201(1/4197)
منه ميزانا ويطلق الجمع على المجموع كالسراويل يعتبر جمع سروالة فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يسيرا من حقه أو من الظلم أى لا ينقص من حسناته بلا سبب ولا يزاد على سيئاته وَإِنْ كانَ مِثْقالَ مصدر ميمى أى زنة حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قرأ نافع مثقال بالرفع على ان كان تامة وهو فاعلها والباقون بالنصب على انها ناقصة واسمها ضمير راجع إلى العمل المفهوم من الموازين يعنى ان كان العمل مثقال حبة من خردل أَتَيْنا بِها أى أحضرناها في الميزان قوله ان كان مثقال حبة من خردل شرط والمعطوف محذوف واتينا بها جزاء والتقدير وان كان العمل مثقال حبة من خردل يعنى أصغر صغيرا وكبيرا اتيناها أى أحضرناها في الميزان وجاز ان يكون ان متصله يعنى فلا تظلم نفس شيئا من حقه وان كان حقه مثقال حبة من خردل وعلى هذا قوله ايتنا بها جملة مستانفة بيان لنفى الظلم والضمير عائد إلى المثقال وتأنيثه لاجل إضافته إلى حبة يعنى اتينا مثقال الحبة من حقه أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال يحاسب الناس يوم القيمة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن سيئاته اكثر من حسناته بواحدة دخل النار قال وان الميزان يخفف بمثقال حبة ويرجح ومن استوت حسناته وسيئاته كان من اصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط وَكَفى بِنا الباء
زائدة وضمير المتكلم فاعل لكفى وجاز ذلك لاجل الفصل حاسِبِينَ منصوب على التميز أو الحال قال السدى محصين والحسب معناه القدر وقال ابن عباس عالمين حافظين لان من حسب شيئا علمه وحفظه وكفى باللّه حسيبا إذ لا مزيد على علمه وعدله.(1/4198)
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ أى الكتاب الفارق بين الحق والباطل يعنى التوراة وَضِياءً يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهل والتنكير للتعظيم وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (2) أى يتّعظ به المتقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع يعنى كتابا جامعا بين هذه الصفات وقال ابن زيد الفرقان النصر على الأعداء قال اللّه تعالى يوم الفرقان ليوم بدر وقيل الفرقان فلق البحر وعلى هذا الضياء والذكر يراد بهما التوراة أو الذكر الوحى الغير المتلو النازل على موسى عليه السلام وعظ به بنى إسرائيل.
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة للمتقين أو مدح لهم منصوب أو مرفوع بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ خائفون وفي تصدير الضمير والحكم عليه مبالغة وتعويض والجملة عطف على الصلة أو حال.
وَهذا أى القرآن مبتدأ خبره ذِكْرٌ مُبارَكٌ صفة لذكر والتنكير فيها للتعظيم أى ذكر عظيم كثير خيره أَنْزَلْناهُ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 202
على محمد صلى اللّه عليه وسلم صقة ثانية لذكر أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام انكار وتوبيخ على انكارهم بعد ثبوت كونه كثير الخير منزلا من اللّه.(1/4199)
وَ لَقَدْ آتَيْنا جواب قسم محذوف إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أى صلاحه يعنى التوحيد والاجتناب عن عبادة الأوثان وإضافته ليدل على ان له شانا عظيما في الرشد مِنْ قَبْلُ يعنى قبل موسى وهارون ومحمد صلى اللّه عليه وسلم يعنى ما أوحينا إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ليس امرا مبدعا بل جرى به السنة الالهية لاصلاح الخلق وقيل معناه من قبل البلوغ حين خرج من السرب وهو صغير حين قال انى وجهت يعنى أعطيناه النبوة صغيرا كما قال ليحيى اتيناه الحكم صبيا أو المعنى قبل استنبائه وَكُنَّا بِهِ أى بإبراهيم عالِمِينَ انه أهل للهداية وو النبوة حيث كان مبدأ تعينه صفة العلم والهداية من صفات اللّه تعالى.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ الظرف متعلق بايتنا أو برشده أو بمحذوف أى اذكر من اوقات رشده وقت قوله ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ تحقير لشانها وتوبيخ على اجلالها فان التمثال صورة لا روح فيها فلا يضر ولا ينفع واللام للاختصاص دون التعدية فان العكوف يتعدى بعلى يعنى أنتم فاعلون العكوف لها أو يأول بعلى يعنى أنتم عليها أى على عبادتها تعلمون أو تضمن العكوف معنى العبادة يعنى أنتم لها عابدون.
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ جواب عما لزم الاستفهام من السؤال عن المقتضى لعبادتها يعنى حملنا على عبادتها تقليدنا بآبائنا.
قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فى خطأ بيّن حيث تعبدون حجارة لا تضر ولا تنفع وتقليد من هو في خطأ بيّن خطأ بيّن.
قالُوا استبعاد التضليل ابائهم وظنا انه يقول ذلك ملاعبة أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أى بعلم مستند على دليل قطعى فتجدّد بهذا القول أَمْ أَنْتَ فى هذا القول مِنَ اللَّاعِبِينَ استفهام لانكار الإنكار عليهم واستبعاد ان يكون ما هم عليه ضلالا.(1/4200)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ صلى خلقهن على غير مثال سبق وصف رب السموات والأرض بهذا دفعا لقول الجهلة في اطلاق الرب على السلطان وقول نمرود انا احيى وأميت وهذا ضراب عن كونه لاعبا باقامة البرهان بان السموات والأرض تشهدان لهما خالق لامكانهما وكونهما محلا للحوادث والخالق للممكنات لا بد ان يكون واجبا وجوده متصغا بصفات الكمال واحدا غير متمانع وهو يستحق العبادة لا غير وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ المذكور من التوحيد مِنَ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 203
الشَّاهِدِينَ
المعترفين المحققين المبرهنين باللسان والجنان كما ان السموات والأرض وسائر الممكنات شاهد عليه بلسان الحال.(1/4201)
وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ والكيد المكر والحيلة والمراد هاهنا لافعلن بها سوء أو لاجتهدن في كسرها بنوع من الاحتيال قال البيضاوي والتاء في القسم بدل من الواو المبدلة من الباء وفيها تعجب ولفظ الكيد وما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر وتوقفه على نوع من الحيل لكونه على رغم نمرود وخلق كثير مع قوة سلطنته عطف على قوله قال بتأويل هذا القول يعنى قال هذا القول وهذا القول بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا عنها مُدْبِرِينَ لها منطلقين إلى عبيدكم قال البغوي قال مجاهد وقتادة انما قال ابراهيم هذا سرا من قومه ولم يسمع ذلك الا رجل واحد فافشاه عليه وقال انا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم قال السدى كان لهم في سنة مجمع وعيد وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال لابراهيم أبوه يا ابراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم ابراهيم فلما كان ببعض الطريق القى نفسه وقال انى سقيم يقول اشتكى رجلى فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تاللّه لاكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع ابراهيم إلى بيت الالهة وهن في بهو « 1 » عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هو قد جعلوا طعاما فوضعوا بين أيدي الالهة قالوا إذا رجعنا وقد بركت الالهة في طعامنا أكلنا فلما نظر إليهم ابراهيم والى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء الا تأكلون فلما لم يجبه أحد قال مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين يعنى مال على الأصنام بضربهم ضربا باليمين لكونها أقوى من اليسار أو بسبب اليمين الّذي قال تاللّه لاكيدن أصنامكم.(1/4202)
فَجَعَلَهُمْ يعنى الأصنام جُذاذاً قرأ الجمهور بضم الجيم فعال بمعنى المفعول كالحطام من الجذ بمعنى القطع وقيل جمع لا واحد له من لفظه وقرأ الكسائي بكسر الجيم وهو لغة بمعنى المفعول أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف يعنى كسر ابراهيم كلهن إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ يعنى الا الصنم الأكبر حيث لم يكسرها وعلق الفأس في عنقه ذكر اللّه سبحانه ضمير جمع المذكر على زعمهم الهة لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ يعنى إلى ابراهيم يرجعون إليه لتفرده واشهاره بعداوة الآلهة فيحاجهم بكونها عجزة عن مقاومة رجل على ابطال الوهيتهم أو إلى الكبير يرجعون إليه فيسئلونه عن كاسرهن إذ من شان المعبود العلم والاجابة
_________
(1) البهو البيت المقدم امام البيوت والواسع من الأرض ومن كل شيء والباهى من البيوت الخالي والمعطل - قاموس
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 204
فيكبتهم بذلك أو إلى اللّه يرجعون عند ثبوت عجز الالهة.
قالُوا حين رجعوا من العيد مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا من استفهامية وجاز ان يكون موصولة مع صلتها مبتدأ خبره إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ بجرأته على الالهة أو بافراطه على حطمها أو على نفسه بتعريضه للاهلاك وهذه جملة مستانفة على تقدير كون ما قبلها استفهامية.
قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ بالعيب والسوء صفة لغتى تصححه ان يتعلق به السمع وهو ابلغ في نسبة الذكر إليه كان الذكر صار حقيقة له عليه السّلام وجاز ان يكون ثانى مفعولى سمعنا بتضمنه معنى علمنا بحاسة السمع يُقالُ لَهُ صفة ثانية لفتى إِبْراهِيمُ أى هو ابراهيم ويجوز رفعه بالفعل لان المراد به الاسم فبلغ ذلك الخبر نمرود الجبار واشراف قومه.(1/4203)
قالُوا يعنى نمرود واشراف قومه فَأْتُوا بِهِ يعنى ان فعل هو ذلك بآلهتنا فاتوا به عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ حال أى كائنا بمرأ منهم بحيث يتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركب وقيل المراد بأعين الناس رؤسائهم وعلى متعلق بفاتوا على طريقة أتيت على القاضي لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ بفعله وقوله حتى لانعذبه بلا بيّنة كذا قال الحسن وقتادة والسدى وقال محمد بن اسحق أى لكى يشهدوا أى يحضروا عقابه وما يصنع به فلما أتوا به.
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ ابراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أسند الفعل إلى كبير الأصنام مجازا لما كان غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم إياه تسبب لمباشرته إياه أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على اسلوب تعريضى كما قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط أنيق ا أنت كتبت فقلت بل أنت كتبت أو حكاية لما يلزم من اعتقادهم وجوازه كان كبيرهم غاظ ان يعبد معه غيره وقال القتيبي انه في المعنى متعلق بقوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ جعل النطق شرطا للفعل يعنى ان قدروا على النطق قدروا على الفعل فاراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه انا فعلته ذلك وروى عن الكسائي انه كان يقف عند قوله بل فعله يعنى فعله ابراهيم المذكور في كلام السائل فالفعل مسند إلى الضمير وقيل معناه فعله من فعله وفيه حذف الفاعل وهو غير جائز قلت ما روى عن الكسائي يابى عنه كلمة بل فان اضرابه عن اسناد الفعل إلى نفسه يشعر نفيه عنه وإلا لزم ما فعلته بل فعلته وأيضا يمنع الوقف على قوله بل فعله حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكذب ابراهيم الا ثلث كذبات
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 205(1/4204)
ثنتين في ذات اللّه قوله انى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان هاهنا رجلا معه امرأة من احسن الناس فارسل إليه فسأله عنها من هذه قال أختي فاتى سارة فقال لها هذا الجبار ان يعلم انك امرأتى يغلبنى عليك فان سألك فاخبريه انك أختي فانك أختي في الإسلام ليس على وجه الأرض مومن غيرى وغيرك فارسل إليها فاتى بها وقام ابراهيم يصلى فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فاخذ ويروى فغطّ حتى ركض برجله فقال ادعى اللّه لى ولا اضرك فدعت اللّه فاطلق ثم تناولها الثانية فاخذ مثلها أو أشد فقال ادعى اللّه لى ولا اضرك فدعت اللّه فاطلق فدعا بعض حجبته فقال انك لم تأتني بانسان انما أتيتني بشيطان فاخدمها هاجرة فاتته وهو قائم يصلى فاوفى بيده مريم « 1 » قالت رد اللّه كيد الكافر في نحره واخدم هاجرة قال أبو هريرة تلك امكم يا بنى ماء السماء متفق عليه وانما سماها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذبات مجاز التسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته كما قال اللّه تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الا ترى ان قول ابراهيم فانك أختي في الإسلام صريخ في ان قول ابراهيم كان من المعاريض لابارادة الكذب حاشاه على ذلك وانما أضاف ابراهيم السؤال إلى سائرهم مع انه كان عرض بالكبير نفسه لاشتراك سائرهم في الحضور.
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يعنى رجعوا إلى عقولهم وتفكروا وفهموا ان ما يقول ابراهيم من نفى الوهية هؤلاء حق وما نحن عليه باطل فَقالُوا فى أنفسهم أو بعضهم لبعض إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (11) بعبادتكم من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع أو أنتم الظالمون بسوال هذا الرجل أو بقولكم إياه انه لمن الظالمين.(1/4205)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ يعنى ردوا إلى الكفر وانقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة إلى العقول شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه والا على الأسفل لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف تأمر بسوالهم والتقدير وقالوا واللّه لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
قالَ ابراهيم لما تم الحجة عليهم أَفَتَعْبُدُونَ عطف على محذوف تقديره أ تعترفون بان هؤلاء لا ينطقون ولا تنفعكم شيئا ولا يضرون وانكم أنتم الظالمون في عبادتها أ فتعبدون بعد ذلك مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع ان عبدتموها وَلا يَضُرُّكُمْ ان تركتم عبادتها انكار لعبادتها وتوبيخ بعد ما اعترفوا بانها
_________
(1) أى ما أمركم وشانكم وهى كلمة يمانية 12
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 206
جمادات لا تنفع فلا تضر فانه ينافى الألوهية.
أُفٍّ قرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين والباقون بكسر الفاء نافع وحفص منهم بالتنوين والباقون بغير تنوين كما مر في الاسراء مجله الرفع فانه مبتدأ نكرة على طريقه ويل له وما بعده خبره أو اسم فعل بمعنى أتضجر لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى غيره تضجر واستعذار لكم على اصرار الباطل مع وضوح بطلانه ولهؤلاء على معبوديتهم مع عدم الاستحقاق وأف صوت المتضجر المستكره وقيل معناه الاحتقار والاستقذار وفي الحديث القى رسول اللّه طرفه ثوبه على أنفه وقال أف أف مستقذرا لما شمّ الرائحة الكريهة وقيل معناه الاحتقار قال البيضاوي ومعناه قبحا ولتنا واللام لبيان المتافف له أَفَلا تَعْقِلُونَ استفهام توبيخ وعطف على محذوف تقديره انتظرون فلا تعقلون ان هذه الأصنام لا تستحق العبادة ولا تضلح لها وانما يستحقها اللّه تعالى فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب أخذوا في المضارّة و.(1/4206)
قالُوا حَرِّقُوهُ بالنار وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ نصرها شرط مستغن عن الجزاء بما مضى قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هنون فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وقيل قاله نمرود فلما اجمع نمرود وقومه على إحراق ابراهيم عليه السّلام حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة « 1 » وقيل بنوا أتونا « 2 » بقرية يقال لها كوثى ثم جمعوا له أصلاب الحطب من اصناف الخشب مدة حتى كان الرجل يمرض فيقول لئن عافانى اللّه لا جمع حطبا لابراهيم وكانت المرأة تطلب في بعض ما تطلب لان أصابته لتحطبن في نار ابراهيم وكان الرجل بوصي بشراء الحطب والقائه فيه وكانت المرأة تغزل وتشترى الحطب بغزلها فتلقيه فيه احتسانا قال ابن اسحق كانوا يجمعون الحطب شهرا فلما جمعوا ما أرادوا واشعلوا في كل ناحية من الحطب فاشتعلت النار واشتدت حتى ان كان الطائر لتمربها فتحرق من شدة وهجها فاوقدوا عليها سبعة ايام روى انهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها فجاء إبليس فعلمهم علم المنجنيق فعلموا ثم عمدوا إلى ابراهيم فرفعوه إلى راس البنيان وقيدوه ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت السموات والأرض ومن فيها من الملئكة وجميع الخلق
_________
(1) الحظيرة جرين التمر والمحيط بالشيء خشبا أو قصبا 12
(2) الأتون كتنّور وقد يخفف أخدود الخباز والحصاص 12 قاموس.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 207(1/4207)
الا الثقلين صيحة واحدة أى ربنا ابراهيم خليلك يلقى في النار وليس في الأرض أحد يعبدك غيره فاذن لها في نصرته فقال اللّه عزّ وجلّ انه خليلى ليس لى خليل غيره وانا اله ليس له اله غيرى فان استعان بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وان لم يدع غيرى فانا اعلم به وانا وليه فخلوا بينى وبينه فلما أرادوا القائه في النار أتاه خازن المياه فقال ان أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح فقال ان شئت طيرت النار في الهواء فقال ابراهيم لا حاجة لى إليكم حسبى اللّه ونعم الوكيل وروى عن أبى بن كعب ان ابراهيم قال حين أو ثقوه ليلقوه في النار لا اله الا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به في المنجنيق إليها واستقبله جبرئيل فقال يا ابراهيم أ لك حاجة قال اما إليك فلا قال جبرئيل قال ربك فقال ابراهيم حسبى من سوالى علمه بحالي قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفى عنه النار الا الوزغ فانه كان ينفخ في النار وروى البغوي عن سعيد بن المسيب عن أم شريك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر بقتل الوزغ وقال كان ينفخ على ابراهيم وأورد الشيخان في الصحيحين والطبراني عن ابن عباس مرفوعا اقتلوا الوزغ ولو في جوف الكعبة وعن سعد بن أبى وقاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر بقتل الوزغ وسماه فويسقا رواه مسلم وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من قتل وزغا في أول حربة كتب له مأته حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك رواه مسلم.(1/4208)
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أى ذات برد وسلام أى ابردى بردا غير ضار قال ابن عباس لو لم يقل سلاما لمات ابراهيم من بردها قال البيضاوي وفيه مبالغات جعل النار المسخرة بقدرته مامورة مطيعة واقامة كونى ذات برد مقام ابردى ثم حذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه وقيل نصب سلاما بفعله أى وسلمنا سلاما عليه قال البغوي ومن المعروف في الآثار انه لم يبق يومئذ نار في الأرض الا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم ولو لم يقل على ابراهيم بقيت ذات برد ابدا قلت والظاهر ان النار كانت بحالها محرقة لكنه تعالى جعلها غير موذية لابراهيم خاصة كما يدل عليه قوله تعالى على ابراهيم قال السدى أخذت الملئكة بضبعي ابراهيم فاقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد احمر ذى حسن قال كعب ما أحرقت النار ابراهيم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 208(1/4209)
الا وثاقه قالوا وكان ابراهيم في ذلك الموضع سبعة ايام وقال المنهال بن عمر وقال ابراهيم ما كنت أياما قط أنعم منى من الأيام الّتي كنت في النار وقال ابن يسار فبعث اللّه عزّ وجلّ ملك الظل في صورة ابراهيم فقعد فيها في جنب ابراهيم يونسه وقال وبعث اللّه عزّ وجلّ جبرئيل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فالبسه وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال جبرئيل يا ابراهيم ان ربك يقول اما علمت ان النار لا يضر أحبابي ثم نظر نمرود واشرف على ابراهيم من صرح « 1 » له فرأه جالسا في رو ضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار يحرق الحطب فناداه يا ابراهيم كبير إلهك الّذي بلغت قدرته ان حال بينك وبين ما ارى يا ابراهيم هل تستطيع ان تخرج منها قال نعم قال هل تخشى ان أقمت فيها ان تضرك قال لا قال فقم فاخرج منها فقام ابراهيم يمشى فيها حتى خرج منها فلما خرج إليه قال له يا ابراهيم من الرجل الّذي رأيته معك في مثل صورتك قاعدا إلى جنبك قال ذلك ملك الظل أرسله ربى إلى ليونسنى فيها فقال نمرود يا ابراهيم انى مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما يصنع بك حين أبيت الا عبادته وتوحيده انى ذابح له اربعة آلاف بقرة قال له ابراهيم إذا لا يقبل اللّه منك ما كنت على دينك حتى تفارقه على دينى فقال لا أستطيع ترك ملكى ولكن سوف اذبحها له فذبحها له نمرود ثم كف عن ابراهيم ومنعه اللّه عزّ وجلّ منه قال شعيب الجبائي القى ابراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة.(1/4210)
وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (ج) قيل معناه انهم خسروا السعر والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم وقيل ان اللّه أرسل على نمرود البعوض فاكلت لحومه وشربت دمائه ودخلت واحدة في دماغه فاهلكته قال محمد بن اسحق استجاب لابراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع اللّه به من جعل النار عليه بردا وسلاما مع خوف من نمرود وملأهم وأمن له لوط وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارخ وكان ابراهيم بن تارخ وكان التارخ ابن ثالث يقال له نأخور وامنت به أيضا سارة وهى بنت عمه وهى سارة بنت هاران الأكبر عم ابراهيم فخرج من كوثى من ارض العراق هاجرا إلى ربه ومعه لوط وسارة كما قال اللّه تعالى
_________
(1) الصوح عام من القصر وكل بناء مرتفع - قاموس.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 209
فامن له لوط وقال انى مهاجر إلى ربى فخرج يلتمس الفرار بدينه والايمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء اللّه ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ثم خرج من مصر إلى الشام فنزل السبع من ارض فلسطين وهو بريد الشام ونزل لوط بالمؤتفكة وهو من السبع على مسيرة يوم وليلة أو اقرب فبعثه اللّه نبيا فذلك قوله تعالى.(1/4211)
وَ نَجَّيْناهُ يعنى ابراهيم وَلُوطاً من نمرود وقومه كانوا بأرض عراق إِلَى الْأَرْضِ متعلق بنجينا بتضمنه معنى سيرناه الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ بالخصب وكثرة الأشجار والأنهار والثمار ومن بركاتها العامة بعث اكثر الأنبياء فيها قال أبى بن كعب سماها مباركة لأنه من ماء عذب وينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس روى البغوي عن قتادة ان عمر ابن الخطاب قال لكعب الا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقبره فقال كعب انى وجدت في كتاب اللّه المنزل يا امير المؤمنين ان الشام كنز اللّه من ارضه وبها كنزه من عباده وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول انها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر ابراهيم وفي رواية فخيار أهل الأرض الزمهم مهاجر ابراهيم ويبقى في الأرض شرارها تلفظهم ارضوهم تقزرهم نفس اللّه تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتو وتقيل معهم إذا قالوا رواه أبو داود وعن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طوبى للشام قلنا لاى ذلك قال لان ملئكة الرحمة باسط أجنحتها عليها رواه احمد والترمذي وعن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيخرج نار من نحو حضر موت أو من حضر موت تحشر الناس قلنا يا رسول اللّه فما تأمرنا قال عليكم بالشام رواه الترمذي وعن أبى جوالة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيصير ان تكونوا جنودا مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق فقال ابن جوالة خرلى يا رسول اللّه ان أدركت ذلك قال عليك بالشام فانها خيرة اللّه من ارضه تجتبى إليها خيرته من عباده فامّا ان أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غذاكم فان اللّه توكل لى بالشام واهله رواه احمد وأبو داؤد وعن شريح بن عبيد قال ذكر أهل الشام عند على رضى اللّه عنه وقبل العنهم يا امير(1/4212)
المؤمنين قال لا انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الابدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا فلمات مات رجل أبدل اللّه مكانه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 210
رجلا يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب رواه احمد وعن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايت عمودا من نور خرج من تحت راسى ساطعا حتى استقر بالشام رواه البيهقي في الدلائل.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ط قيل هى مصدر كالعافية من غير لفظ الفعل السابق أى وهبنا له هبة وقال مجاهد وعطاء معنى النافلة العطية فهى حال منهما إذ هما جميعا من عطاء اللّه وقال الحسن والضحاك معناه فضلا يعنى وهبنا له إياهما تفضلا فهو منصوب على العلية وروى ابن عباس وابى بن كعب وابن زيد وقتادة النافلة هو يعقوب لان اللّه تعالى أعطاه اسحق بدعائه حيث قال رب هب لى من الصالحين وزاده يعقوب ولد الولد والنافلة الزائدة فهو حال من يعقوب ولا بأس به للقرينة وَكُلًّا أى كل واحد من الاربعة أى ابراهيم ولوطا واسحق ويعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ أى صافية قلوبهم عن الاشتغال بغير اللّه زاكية أنفسهم عن الرذائل بتحلية باوصاف الكمال طاهرة أبدانهم عن التلوث بالمعصية مشغولة بالطاعات فان الصلاح ضد الفساد سواء كان في القلب أو القالب أو النفس.(1/4213)
وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يفتدى بهم في الخير يَهْدُونَ الناس إلى ديننا بِأَمْرِنا بذلك حيث أرسلناهم لتكميل الخلائق وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أى ما هو حسن الذات وبتحسين الشرع وَإِقامَ الصَّلاةِ حذف تاء الاقامة المعوضة من أحد الألفين لقيام المضاف إليه مقامها وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ج عطف اقام الصلاة وإيتاء الزكوة على فعل الخيرات عطف الخاص على العام لزياوة الاهتمام واصل الكلام أوحينا إليهم ان يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة اقامة ويوتوا الزكوة إيتاء بذكر المصادر المؤكدة ثم حذف الافعال وأضيف المصادر إلى المفاعيل وَكانُوا لَنا عابِدِينَ موحدين مخلصين في العبادة.
وَلُوطاً منصوب بفعل مضمر يفسره آتَيْناهُ وقيل هو منصوب با ذكر وجملة اتيناه بدل اشتمال يعنى اذكر ايتائنا إياه حُكْماً حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم وَعِلْماً باللّه وما ينبغى للانبياء وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ قرية سدوم الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ أى كان أهلها يأتون الذكران في ادبارهم ويرمون بالبنادق ويلعبون بالطيور وغير ذلك وصفها بصفة أهلها وأسند إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامها
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 211
يدل عليه قوله إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه هذه الجملة في مقام التعليل لقوله كانت تعمل الخبائث.
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أى في أهل رحمتنا أو في جنتنا قلت ويمكن ان يقال ان صفات اللّه تعالى يرى في عالم المثال بنظر الكشف على هيئته الدائرة والصوفي يرى داخلا فيها فانيا حقيقته باقيا بها فهذه الظرفية كناية عنه إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى.(1/4214)
وَ نُوحاً عطف على لوطا يعنى ايتنا لوطا ونوحا حكما وعلما وعلى هذا إِذْ نادى منصوب باذكر أى اذكر وقت ندائه وهى جملة معترضة أو التقدير اذكر لوطا ونوحا وعلى هذا الظرف بدل اشتمال منه يعنى اذكر وقت نداء نوح أى دعائه على قومه بالهلاك مِنْ قَبْلُ ظرف لنادى أى نادى قبل المذكورين فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعائه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ الذين كانوا في السفينة مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (ج) أى الغم الشديد قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه وكان نوح أطول الأنبياء عمر أو أشدهم بلاء روى الضحاك عن ابن عباس ان قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلقونه في لبد ويلقونه في بيت يزعمون انه قد مات فيخرج في اليوم الثاني فيدعوهم إلى اللّه سبحانه وحكى محمد بن اسحق عن عبيد بن عمير الليثي انه بلغه انهم كانوا يبطشون نوحا فيختفونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومى فانهم لا يعلمون.
وَنَصَرْناهُ فانتصر ونجى مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على رسالته إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ قال البيضاوي لاجتماع الامرين تكذيب الحق والانهماك في الشر ولعلهما لم يجتمعا في قوم الا واهلكهم.(1/4215)
وَ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ هذا نحو قوله وَنُوحاً إِذْ نادى في التركيب فِي الْحَرْثِ قال ابن مسعود وابن عباس واكثر المفسرين كان الحرث كرما قد بدت عناقيدها وقال قتادة زرعا إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ظرف ليحكمان أى دعته ليلا بلا راع كذا في القاموس وفي النهاية نغشت السائمة إذا رعت ليلا بلا راع وهلمت ارعت إذا رعت نهارا إذ اصل معناه الانتشار قال اللّه تعالى كالعهن المنفوش وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ يعنى الحاكمين داود وسليمان والمتحاكمين وقال الفراء أراد بالجمع اثنين سليمان وداؤد إذ قد يطلق الجمع على الاثنين كما في قوله تعالى فان كان له اخوة فلامه السدس والمراد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 212
الأخوين بالإجماع شاهِدِينَ (لاق) عالمين.(1/4216)
فَفَهَّمْناها الضمير للحكومة أو الفتوى سُلَيْمانَ أى ألهمنا ما كان مرضيا لنافى الحكومة حذف هاهنا جهلا وهو فحكم سليمان كما فهمنا ونقض داود حكم نفسه وامضى حكمه روى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خفف على داود القرآن وكان يأمر بدوا به فيسرج فيقرأ القرآن قبل ان يسرج روابه ولا يأكل الا من عمل يديه قلت المراد بالقرآن الزبور قال البغوي قاله ابن عباس وقتادة ومن هاهنا يظهر ان الحاكم إذا كان مجتهد أو تبدل رأيه قبل إمضاء حكمه جاز له نقض حكمه كما فعل داؤد قال البغوي قال ابن عباس وقتادة والزهري ان رجلين دخلا على داؤد عليه السلام أحدهما صاحب الزرع والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع ان هذا انفلتت غنم ليلا فوقعت في حولى فافسدته فلم تبق منه شيئا فاعطاه داؤد رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما فاخبراه فقال سليمان لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا وروى انه قال غير هذا ارفق بالفريقين فأخبر بذلك داؤد فدعاه فقال تقضى ويروى انه قال بحق النبوة والابوة الا أخبرتني بالذي هو ارفق بالفريقين ما هى قال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئة يوم أكل دفع إلى اهله حرثه والى صاحب الغنم غنمه فقال داؤد القضاء ما قضيت وحكم بذلك وقيل ان سليمان يوم حكم كان ابن أحد عشر سنة واخرج ابن أبى شيبة في المصنف وابن المنذر وابن مردوية عن ابن عباس نحو ما ذكر البغوي في القصّة قال البيضاوي والاول يعنى فتوى داؤد نظير قول أبى حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بعزم الحيلولة للعبد المغضوب إذ ابق قلت غير ان أبا حنيفة يقول في العبد الجاني ان مالكه بالخيار ان شاء دفع العبد وان شاء فدى للجناية قال الجصاص انما ضموها لانهم أرسلوها وقيل هذا الحكم نسخ في الإسلام والحكم في(1/4217)
الإسلام عند مالك والشافعي واحمد ان أتلفته المواشي المنفلتة ليلا فعلى صاحب الماشية ضمانه يعنى قيمة ما أتلفته قلت لعل قيمة الزرع الّتي أفسدتها الغنم في عهد داود بلغت قيمة الزرع حتى امر داود بدفعها واللّه اعلم واما ما أفسدته الماشية المنفلتة بالنهار فلا ضمان على ربها لان في عرف الناس
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 213(1/4218)
ان اصحاب الزرع يحفظونها بالنهار والمواشي تسرح في النهار وترد بالليل إلى المراح وعند أبى حنيفة لا ضمان فيما أتلفته المواشي المنفلتة ليلا كان أو نهار القوله صلى اللّه عليه وسلم العجماء جرحها جبار رواه الشيخان في الصحيحين واحمد واصحاب السنن من حديث أبى هريرة قال صاحب الهداية قال محمد المراد بالعجماء هى المنفلتة واحتج الائمة الثلاثة بحديث حرام بن سعد بن محيصة ان ناقة للبراء بن عازب وخلت حائطا فافسدته فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان على أهل الحوائط حفظها بالنهار وان ما أفسدته المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها رواه مالك في الموطإ والشافعي عنه واصحاب السنن الاربعة والدار قطنى وابن حبان والحاكم والبيهقي قال الشافعي أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله قال الحافظ بن حجر مداره على الزهري واختلف عليه فقيل هكذا وهذه رواية المؤطا وكذلك رواه الليث عن الزهري عن أبى محيصة ولم يسم ان ناقة ورواه معن بن عيسى عن مالك فزاد فيه عن جده محيصة ورواه معمول عن الزهري عن حرام عن أبيه ولم يتابع عليه أخرجه أبو داؤد وابن حبان ورواه الأوزاعي واسمعيل بن امية وعبد اللّه بن عيسى كلهم عن الزهري عن حرام عن البراء - قلت كذا ذكر ابن الجوزي في تحقيق التعليق من طريق احمد قال الحافظ لم يسمع حرام من البراء قاله عبد الحق تبعا لابن حزم ورواه النسائي من طريق محمد بن أبى حفصة عن الزهري اخبر في أبو اسامة بن سهل ان ناقة البراء ورواه ابن أبى ذئب عن الزهري انه قال بلغني ان ناقة البراء الحديث فالائمة الثلاثة خصصوا حديث العجماء جبار بحديث ناقة البراء وقالوا كونه جبارا مختص بالنهار قلنا العام مثل الخاص في كونه قطعيا فلا يحكم بالتخصيص ما لم يظهر اقترانهما ولا بالنسخ مالم يظهر تأخر أحدهما عن الآخر فبقى التعارض فلا يلزم الضمان(1/4219)
بالشك وأيضا عند تعارض الحديثين يجب المصير إلى القياس والقياس يقتضى عدم الضمان لان فعلها غير مضاف إلى صاحبها لعدم ما يوجب النسبة إليه من الإرسال والسوق والقود ونحو ذلك ومن أجل ذلك قلنا فيمن أرسل الدابة في طريق المسلمين فاصابت في فورها انه يضمن لان سيرها مضاف ماوام تسير على سننها واما ان انعطفت ، أو يسرة أو وقفت ثم سارت انقطع حكم الإرسال -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 214
((1/4220)
مسئله) وان كان مع الدابة صاحبها راكبا أو قائدا أو سائقا فوطيت الدابة أو أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت أو صدمت واقفة أو سائرة والموضع مملوك له رقبة أو تصرفا بالاجارة أو الاعارة فلا ضمان على صاحبها الا إذا كان راكبا عليها ووطئت الدابة لان صاحبها حينئذ مباشر للاتلاف لان ثقله وثقل الدابة اتصل بالمتلف فكانما وطياه جميعا وفي غير هذه الصورة لم يوجد المباشرة بل التسبيب والمسبب انما يضمن إذا كان متعديا وهو غير متعد في التيسير ولا في الايقاف وان كان الموضع غير مملوك له لكنه ماذون فيه كالطريق للسير دون الايقاف والصحراء وسوق الدواب للسير والايقاف جميعا فحينئذ يضمن الراكب والسائق والقائد فيما ذكرنا من الوجوه لكن لا يضمن بما نفحت برجلها أو ذنبها لان المرور؟؟؟ في طريق المسلمين مباح معتد بشرط السلامة لأنه يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه لكونه مشتركا في العامة فقلنا بالاباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين ثم انما يتقيد بشرط السلامة عما يمكن الاحتراز عنه ولا يتقيد بها فيما لا يمكن الاحتراز عنه لما فيه من المنع من التصرف والاحتراز عن الايطاء ونحوه ممكن فانه ليس من ضرورات التسيير وعن النفحة بالرجل والذنب ليس بممكن مع السير على الدابة فلا يتقيد بالسلامة عنه فان أوقف في الطريق ضمن النفحة أيضا وقال مالك لا ضمان في شيء من ذلك إذا لم يكن من جهة راكبها أو قائدها أو سائقها سبب من همز أو ضرب لقوله صلى اللّه عليه وسلم العجماء جبار وقال الشافعي ليضمن ما جنت البهيمة بضمها أو يدها أو رجلها أو ذنبها سواء كانت من راكبها أو سائقها سبب ذلك اولا وقال احمد ما جنته بغمها أو يدها وصاحبها عليها يجب عليها الضمان وما تلفته برجلها فلا ضمان عليه لقوله صلى اللّه عليه وسلم الرجل جبار رواه الدار قطنى عن سعيد بن المسيب مرسلا واللّه اعلم - (فائدة) قال مجاهد كان(1/4221)
قول سليمان صلحا وما فعله داود حكما والصلح خير وقيل ان داود وسليمان حكما بالوحى وكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود وهذا قول من قال لا يجوز للانبياء الحكم بالاجتهاد لانهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحى وقال لا يجوز الخطا عن الأنبياء والا ظهر ان حكمهما كليهما كان بالاجتهاد الا ان داود أخطأ وأصاب
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 215
سليمان فاثنى اللّه عليه وجاز الخطا في اجتهاد الأنبياء الا انهم لا يقرون عليه قال الحسن لو لا قوله تعالى وَك ُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً
زلرأيت الحكام قد هلكوا ولكن اللّه تعالى حمد هذا بالاجتهاد واحتج من قال كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية حيث قال كلا اتينا حكما وعلما ولا دليل لهم فيه بل قوله تعالى ففهمناها سليمان دليل على ان الصواب ما فهم سليمان دون داود عليهما السلام واما حديث عمرو بن العاص انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حكم الحاكم فاجتهد فاصاب فله أجران وإذا حكم فاخطأ فله اجر واحد رواه الشيخان في الصحيحين واحمد واصحاب السنن الاربعة عن أبى هريرة والمذكور من غير الترمذي عن عمرو بن العاص فهو حجة لنا لا علينا إذ هو صريح في ان المجتهد يخطى ويصيب وكونه ماجورا حين اخطأ لا يدل على كونه مصيبا لكون الخطاء والصواب متضاد ان وليس المراد انه يوجر على الخطاء بل يوجر على اجتهاده في طلب الحق لان اجتهاده عبادة والخطا عنه موضوع إذ لم ينل جهره وعند الاصابة له أجران اجر الاجتهاد واجر النيل إلى الصواب واللّه اعلم (حديث) روى الشيخان في الصحيحين عن أبى هريرة انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها انما ذهب بابنك وقالت الأخرى انما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود عليه(1/4222)
السلام وقضى به الكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه فقال ايتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها فقضى به للصغرى - وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ - معه لامره إذ وجد فترة عنه لينشط له مع متعلق بسخرنا أو ليسبحن والاول أقوى لفظا والثاني معنا وجملة يسبحن حال من الجبال واستيناف لبيان وجه التسخير وَالطَّيْرَ عطف على الجبال أو مفعول معه قدمت الجبال على الطير لان تسخيرها وتسبيحها اعجب قال وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقال قتادة تسبحن أى تصلين معه إذا صلى وقال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر وقيل كان داود إذ افتر يسمعه اللّه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه وقال بعض الناس يسبحن من السباحة أى كانت الجبال تسير معه إذا سار وَكُنَّا فاعِلِينَ ما ذكرنا من التفهيم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 216
و إيتاء الحكم والتسخير.(1/4223)
وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الاسلحة كلها والمراد هاهنا الدروع من الحديد قال قتادة أول من صنع الدرع وسردها وحلقها داود عليه السّلام وكانت من قبل صفاع وقد مر في الحديث الصحيح ان داود عليه السلام كان لا يأكل الا من عمل يديه لَكُمْ يا معشر قريش في جملة الناس لِتُحْصِنَكُمْ قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للبوس على تاويل الدروع وقرأ أبو بكر بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء التحتانية والضمير لداود أو للّه تعالى على سبيل الالتفات من التكلم إلى الغيبة أى ليحرزكم مِنْ بَأْسِكُمْ ج أى حرب عدوكم قال السدى يعنى من وقع السلام فيكم لكم صنعة للبوس أو متعلق بعلمناه وقوله لتحصنكم بدل اشتمال منه باعادة الجار فَهَلْ أَنْتُمْ يا أهل مكة وجميع الناس شاكِرُونَ لنا على ما يسرنا لكم ما يحصنكم امر بالشكر أخرجه بلفظ الاستفهام مبالغة وتفريعا.(1/4224)
وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عطف لسليمان على مع داود والريح على الجبال بعاطف واحد لكونهما مفعولى عامل واحد قال البيضاوي ولعل اللام فيه دون الأول لان الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له وفي الاوّل امر يظهر في الجبال والطير مع داود بالاضافة إليه قال بعض المحققين لما كان تسبيح الجبال والطير مع داود بغير امره أورد هناك كلمة مع وجريان الريح كان بامر سليمان أورد هلاك اللام عاصِفَةً حال من الريح يعنى شديدة الهبوب من حيث أنها تذهب بعسكره مسافة بعيدة في مدة يسيرة كما قال اللّه تعالى غدوها شهر ورواحها شهر وكانت رخاء في نفسها طيبة وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة اخرى حسب إرادته تَجْرِي بِأَمْرِهِ حال ثانية أو بدل من الاولى أو حال من ضميرها إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها قيل إلى هاهنا بمعنى من فان منزل سليمان كان بالشام موطن الأنبياء وقيل هى بمعناها والمعنى يروح به إلى منزله بعد ما سارمنه بكرة وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فى الأزل فنفعل ما نفعل على ما يقتضيه الحكمة فكان ما أعطينا سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه قال وهب بن منبه كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلس عكفت عليه الطير فقام له الجن حتى يجلس على سريره وكان امرأ غزاء قلّ ما يقعد عن
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 217(1/4225)
الغزو لا يسمع في ناحية من الأرض بملك الا أتاه يذله وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو امر بعسكره فضرب بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وفمعز الدولة الحرب فإذا حمل معه ما يريد امر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشبة فاحتملت حتى إذا استعلت به امر الرخاء يمر به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة فلا تحركه ولا تثير ترابا ولا توذى طائرا قال وهب ذكر لى ان منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتبته بعض صحابة سليمان اما من الجن واما من الانس نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إنشاء اللّه فبايتون بالشام وقال مقاتل نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلثة آلاف كرسى من ذهب وفضة يقعد الأنبياء على كراسى الذهب والعلماء على كراسى الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح وعن سعيد بن جبير كان يوضع لسليمان ستمائة الف كرسى يجلس الانس فيما يليه ثم يليهم الجن ثم يظلهم الطير ثم تحملهم الريح قال الحسن لما شغلت الخيل نبى اللّه سليمان عليه السّلام حين فاتته صلوة العصر غضب للّه فعقر الخيل فابدله اللّه مكانها خيرا منها والسرع الريح تجرى بامره كيف يشاء فكان يغدو من ايليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها ببابل وقال ابن زيد كان له مركب من خشب وكان فيه الف ركن في كل ركن الف بيت يركب معه فيه الانس والجن تحت كل ركن الف شيطان يرفعون ذلك المركب وإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسى عند قوم بينه وبينهم شهر ولا يدرى القوم الا وقد أظلهم معه(1/4226)
الجيوش وروى ان سليمان عليه السّلام سار من أهل العراق غاديا فقال بمرد وصلى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوره الريح ويظلهم الطير ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك ثم جاء
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 218
الى ارض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف جيشه على مطلع الشمس على ساحل البحر حتى اتى ارض قندهار أو خرج منها إلى مكران وكرمان ثم جاوزها حتى اتى ارض فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة تدمر وكان امر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق فبنوا لها بالصفاح « 1 » والعمد والرخام الأبيض والأصفر وفي ذلك يقول النابغة
الا سليمان إذ قال المليك له قم في البريّة فاجددها عن العند « 2 »
و حيش « 3 » الجن انى قد أذنت لهم ينبون تدمر بالصفاح والعمد
.
وَمِنَ الشَّياطِينِ أى سخرنا الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فى البحار ويخرجون الجواهر من نكرة موصوفة أو موصولة معطوف على الريح ومن الشياطين حال منه مقدم عليه يعنى وسخرنا نفوسا يغوصون له كائنين من الشياطين أو مبتدأ والظرف خبره وَيَعْمَلُونَ عطف على يغوصون عَمَلًا دُونَ ذلِكَ ج أى دون الغوص ما شاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (لا) حتى لا يخرجوا من امره قال الزجاج يعنى حفظناهم من ان يفسدوا ما عملوا قال البغوي في القصة ان سليمان عليه السّلام كان إذ بعث شيطانا مع انسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله اشغله بعمل اخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين انهم إذا فرغوا من عمل ولم يشتغلوا بعمل اخر خربوا ما عملوا وأفسدوه.(1/4227)
وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى أى دعا رَبَّهُ على طريقه ونوحا إذ نجيناه في وجوه الاعراب قال وهب بن منبه كان أيوب عليه السّلام رجلا من الروم وهو أيوب بن احرص بن رازخ بن روم بن عيص بن اسحق بن ابراهيم عليهما السّلام وكانت امه من ولد لوط بن هاران وكان اللّه قد اصطفاه ونبّاه وبسط عليه
_________
(1) الصفاح حجارة عراض رقاق 12 قاموس.
(2) العند الناحية والجانب 12 قاموس. [.....]
(3) حاش يحيش فزع وأفزع 12 قاموس.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 219(1/4228)
الدنيا وكانت له الثنية من ارض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من اصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر مالا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة وكان له خمسمائة « 1 » فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل فمعز الدولة كل فدان أتان ولد كل أتان اثنين وثلثة واربعة وخمسة وفوق ذلك وكان اللّه عزّ وجلّ أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ أبناء السبيل وكان شاكر الا نعم اللّه موديا لحق اللّه قد امتنع من عدو اللّه إبليس ان يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى والعزة والغفلة والشاغل عن امر اللّه بما فيه من الدنيا وكان معه ثلثة نفر قد أمنوا به وصدقوه رجل من أهل اليمن يقال له اليقن ورجلان من أهل بلده يقال لاحدهما يلد وللاخر صافر وكانوا كهولا فكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع اللّه عيسى عليه السّلام فحجب عن اربع فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم حجب من الثلث الباقيات فسمع إبليس تجاوب الملئكة بالصلوة على أيوب وذلك حين ذكر اللّه واثنى عليه فادركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه فقال الهى نظرت من امر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتلته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج من طاعتك قال اللّه انطلق فقد سلّطتك على ماله فانقضى عدو اللّه إبليس حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم فماذا عندكم من القوة فانى قد سلطت على مال أيوب وهى المصيبة القادحة الّتي لا يصبر عليها الرجال فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ماذا شئت تحولت اعصارا من النار واحترقت كل شيء اتى عليها
_________
((1/4229)
1) فدان كسحاب أو كشدّاد الثور أو الثور ان يقرن للحرث بينهما ولا يقال للواحد فدان أو هو فمعز الدولة الثوريين 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 220
قال له إبليس فات الإبل حين وضعت »
و ثبتت في مراعيها فلم يشعر الناس حتى ثار « 2 » من تحت الأرض اعصارا « 3 » من نار لا يدنوا من شيء الا قد احترقت فاحرقها ورعاها حتى اتى على آخرها ثم جاء عدو اللّه إبليس في صورة قيم عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائما يصلى فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فاحترقتها ومن فيها غيرك فقال أيوب الحمد للّه الّذي هو أعطاها وهو أخذها وقد عاما وطنت مالى نفسى على الغنى قال إبليس فان ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت فنزلت الناس مبهوتين يتعجبون منها منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان الا في غرور ومنهم من يقول لو كان اله أيوب يقدر على ان لا يضيع شيئا وليه ومنهم من يقول بل هو الّذي فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه قال أيوب الحمد للّه حين أتاني وحين نزع منى عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود في التراب وعريانا احشر إلى اللّه عزّ وجلّ ليس لك ان تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته اللّه اولى بك وبما اعطاك ولو علم اللّه فيك أيها العبد خير النقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فاخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسيأ ذليلا فقال لهم ماذا عندكم من القوة فانى لم أكلم قلبه قال عفريت عندى من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة « 4 » نفسه قال إبليس فات الغنم ورعاها فانطلق حتى توسطها صاح صيحة فحتمت أمواتا من عند آخرها وما رعاها ثم جاء متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلى فقال له مثل القول الأول فرد أيوب عليه مثل الرد الأول ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال ما عندكم من القوة فانى لم أكلم قلب أيوب فقال عفريت عندى من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا ينشف كل شرياتى عليه قال(1/4230)
فآت القدّادين
_________
(1) وضعت الإبل ألزمتها المرعى فهى موضوعة 12 قاموس.
(2) الثور الهجان والوثب والسطوح 12 قاموس.
(3) الاعصار الريح تثير السحاب أو الّتي فيها نار أو التي يهب من الأرض بنحو السماء 12 قاموس.
(4) أى الدم أو دم القلب أو الروح 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 221(1/4231)
و الحرث فانطلق فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنَّه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلى فقال له مثل القول الأول فرد عليه مثل رد الأول كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد اللّه واحسن الثناء عليه ورضى منه بالقضاء ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال فلما إبليس انه قد أفنى ماله صعد فقال الهى ان أيوب يرى منك انك ما منحته بولده فانت معطيه المال فهل أنت تسلطنى على ولده فانها المصيبة الّتي لا يقوم لها قلوب الرجال قال اللّه تعالى وقد سلطتك على ولده فانقضى عدو اللّه حتى جاء بنى أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم من قواعدها ثم جعل يناطح « 1 » جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل « 2 » حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكوسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الّذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه فاخبره وقال لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكسين على رؤسهم يسيل دمائهم ودماغهم ولو رأيت كيف سقطت بطونهم فتناثرت امعاؤهم تقطع قلبك فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رقّ أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال ليت أمي لم تلدنى فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ثم لم يلبث أيوب ان فاء وابصر واستغفر وصعد قرناؤه من الملئكة بتوبته فسبقت توبته إلى اللّه عزّ وجلّ وهو اعلم فوقف إبليس ذليلا فقال يا الهى انما هوّن على أيوب المال والولد انه يرى منك ما متعته بنفسه فانت تعيد المال والولد فهل أنت تسلّطنى على جسده فقال اللّه تعالى انطلق فقد سلطتك على جسده ولكن ليس سلطان على لسانه ولا على قلبه وكان اللّه عزّ وجلّ اعلم به لم يسلط عليه الا رحمة ليعظم له الثواب
_________
(1) نطحه أصابه لقرنه 12 قاموس.
((1/4232)
2) الجندل كجعفر ما يقله الرجل من الجمارة 12 قاموس.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 222
و جعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليانسوا به في الصبر ورجاء الثواب فانقضى عدو اللّه سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل ان يرفع رأسه فاتاه من قبل وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جميع جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثاليل « 1 » مثل أكباد الغنم وقعت فيه حكة محك باظفار حتى سقطت كلها ثم حك بالمسوح « 2 » الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة ثم لا يزال يحكها حتى نغل لحمه وتقطع وتغير وأنتن فاخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا فرفضه خلق اللّه كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب وقيل هى بنت يوسف كما ذكرنا في سورة يوسف كانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه فلما راى الثلاثة أصحابه وهم أيقن ويلدد وصافر ما ابتلاه اللّه به اتهموه ورفضوه من غير ان يتركوا دينه فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه « 3 » ولاموه وقالوا له تب إلى اللّه من الذنب الّذي عوقبت به وقال الراوي حضر معهم فتى حديث السن قد أمن به وصدقه لهم انكم يكلمهم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لاسنانكم ولكن قد تركتم من القول احسن من الّذي قلتم ومن الرأي أصوب من الّذي رأيتم ومن الأمر أجمل من الّذي أتيتم وقد كان لايوب عليكم من الحق والزمام « 4 » من الّذي وصفتم فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الّذي عتبسه واتهمتم الم تعلموا ان أيوب نبى اللّه وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم اللّه على انه سخط شيئا من امره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا ولا على انه نزع شيئا من الكرامة الّتي أكرمه بها ولا ان أيوب قال على اللّه غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا فان كان هو الّذي ازرى « 5 » به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم ان اللّه تعالى(1/4233)
يبتلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وليس بلاؤه لاولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهو انه لهم
_________
(1) الثآليل 12.
(2) المسوح جمع مسح هو البلاس 12.
(3) بكته مثقلة بما يكره 12 قاموس.
(4) الزمام الزمة الحق 12 قاموس.
(5) ازرى به أى ادخل به عيبا 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 223(1/4234)
و لكنها كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من اللّه بهذه المنزلة الا انه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يحل بالحليم ان يعتزل أخاه عند البلاء ولا يعيّره بالمصيبة ولا يعيبد بما لا يعلم وهو مكروب حزين ولكنه يرحمه ويبكى معه ويستعفر له يحزن بحزنه ويدله على مراشد امره وليس بحكيم ورشيد من جهل هذا فاللّه أيها الكهول وقد كان في عظمة اللّه وجلاله وذكر الموت ما يقطع السنتكم ويكسر قلوبكم الم تعلموا ان للّه عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم وانهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء « 1 » الألباء العالمون باللّه ولكنهم إذا ذكروا عظمة اللّه انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما للّه وإجلالا فإذا استقاموا من ذلك استبقوا إلى اللّه بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين وانهم الأبرار البراء ومع المقصرين المفرطين وانهم لاكياس أقوياء - فقال أيوب اللّه سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى تنبت بالقلب يظهرها اللّه على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة وإذا جعل اللّه العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من اللّه نور الكرامة ثم اعرض عنهم أيوب واقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال ربّ لأىّ شيء خلقتنى ليتنى كرهتنى لم تخلقنى يا ليتنى قد عرفت الذنب الّذي إذ نبت والعمل الّذي عملت فصرفت وجهك الكريم عنى لو كنت إذا أذنبت ذنبا أمتني فالحقتنى بآبائى فالموت كان أجمل بي الم أكن للغريب دارا وللمسكين قرار أو لليتيم وليا وللارملة قيما الهى انا عبدك ان أحسنت فالمن لك وان اسأت فبيدك عقوبتى جعلتنى للبلاء عرضا وللفتنة نصبا وقد وقع على بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله فكيف يحمل ضعفى وان قضائك هو الّذي أذلني وان سلطانك هو الّذي أسقمني وأنحل جسمى ولو ان(1/4235)
_________
(1) النبلاء أى الأذكياء والنجباء 12. [.....]
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 224
ربى نزع الهيبة في صدرى واطلق لسانى حتى أتكلم بملا فمى ثم كان ينبغى للعبد ان يحاج على نفسه لرجوت ان يعافينى عند ذلك مما بي ولكنه اتعانى وتعالى عنى فهو يرانى ولا أراه ويسمعنى ولا أسمعه لا نظر الىّ ورحمنى ولادنى منى ولا أدناني فادلى « 1 » بعذري وأتكلم ببرأتى وأخاصم عن نفسى فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده اظله غمام حتى ظن أصحابه انه عذاب ثم نودى يا أيوب ان اللّه يقول ها انا قد دنوت منك ولم ازل منك قريبا قم فادل « 2 » بعذرك وتكلم ببرأتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبار يخاصم جبارا ان استطعت فانه لا ينبغى ان يخاصمنى الإجبار مثلى لقذمنتك نفسك يا أيوب امرا تبلغ بمثل قوتك اين أنت منى يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معى تمد بأطرافها هل علمت باى مقدار قدّرتها أم على أى شيء وضعت أكنافها أ بطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء اين كنت منى يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم « 3 » من تحتها هل تبلغ من حكمتك ان تجرى نورها أو تسير نجومها أو تختلف بامرك ليلها ونهارها اين أنت متى يوم نبعت الأنهار وسكرت « 4 » البحارا سلطانك حبس امواج البحر على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها اين أنت منى يوم حبست الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال هل تدرى على أى شيء أرسيتها أم باى مثقال وزنتها أم هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدرى من اين الماء الّذي أنزلت من السماء أم هل تدرى من أى شيء الشيء السحاب أم هل تدرى اين خزانة الثلج أم اين جبال البرد أم اين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل واين خزانة الريح وباى لغة تتكلم الأشجار من جعل
_________
((1/4236)
1) ادلى أى احضر 12.
(2) أى احضر 12.
(3) دعم جمع دعام أى عمد جمع عماد 12.
(4) سكرت أى امتلأت وسدّت 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 225
العقول في أجواف الرجال ومن شق الاسماع والابصار ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين لجبروته وقسم الأرزاق بحكمته في كلام كثير من اثار قدرته ذكرها لايوب فقال أيوب صغر شأنى وكل لسانى وعقلى ورائي وضعفت قوتى عن هذا الأمر الّذي تعرض لى - يا الهى قد علمت ان كل الّذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك واعجب لو شئت عملت لا يعجزك شى ولا يخفى عليك خافية - إذ لقينى البلاء يا الهى فتكلمت ولم املك وكان البلاء هو الّذي انطقنى فليت الأرض انشقت لى فذهبت فيها ولم أتكلم لشيء يسخط ربى وليتني متّ بغمى في أشد بلائي قبل ذلك انما تكلمت حين تكلمت لتعذرنى وسكتّ حين سكسّه لترحمنى - كلمة زلت منى فلن أعود قد وضعت يدى على فمى وعضضت على لسانى والصقت بالتراب خدى أعوذ بك اليوم منك - أستجيرك من جهد البلاء فاجرنى واستغيث بك من عقابك فاغثنى واستعين بك فاعنى وأتوكل عليك فاكفنى واعتصم بك فاعصمنى واستغفرك فاغفر لى فلن أعود بشيء تكرهه منى - قال اللّه تعالى نفذ فيك علمى وسبقت رحمتى غضبى فقد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك اية وتكون عبرة لاهل البلاء وعزا للصابرين - فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك - وقرّب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم فانهم قد عصونى فيك - فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فاذهب اللّه كل ما كان به من البلاء ثم خرج فجلس فاقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة مترددة - ثم قالت يا عبد اللّه هل لك علم بالرجل المبتلى الّذي كان هاهنا - قال نعم ومالى لا أعرفه فتبسم فقال انا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته - قال ابن عباس فو الّذي نفس عبد اللّه بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد(1/4237)
فذلك قوله تعالى وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي أى بانى مَسَّنِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الضُّرُّ وهو سوء الحال في النفس أو البدن أو المال أو الجاه وفي القاموس الضّرّ بالفتح ويضم ضد النفع أو بالفتح مصدر وبالضم اسم قال البيضاوي بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال - واختلفوا في وقت ندائه والسبب الّذي قال لاجله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وفي مدة بلائه - قال البغوي روى ابن شهاب عن انس يرفعه ان أيوب لبث في بلائه ثمانى عشرة سنة - وقال وهب لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما - وقال كعب
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 226(1/4238)
كان أيوب في بلائه سبع سنين - وقيل كان في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة ايام - قال الحسن مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبنى إسرائيل سبع سنين وأشهرا يختلف فيه الدواب لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق وتأتيه بطعام وتحمد اللّه معه إذا حمد وأيوب على ذلك من ذكر اللّه تعالى والصبر على ما ابتلاه - فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض فلما اجتمعوا إليه قالوا ما جزعك قال أعياني هذا العبد الّذي لم ادع له مالا ولا ولدا فلم يزد الا صبرا - ثم سلطّت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا يقربه الا امرأته فاستغث بكم لتعينونى عليه - فقالوا اين مكرك الّذي أهلكت به من مضى - قال بطل ذلك كله في أيوب فاشيروا علىّ - قالوا نشير طيك من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة قال من قبل امرأته قالوا فشأنك بايوب من قبل امرأته فانه لا يستطيع ان يعصيها وليس أحد يقربه غيرها - قال أصبتم فانطلق حتى اتى امرأته وهى تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال اين بعلك يا أمة اللّه قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الدواب في جسده فلما سمعها طمع ان يكون كلمة جزع فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال وذكّرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وان ذلك لا ينقطع عنه ابدا - قال الحسن فصرخت فلما صرخت علم ان قد جزعت فاتاها بسخلة وقال ليذبح هذا إلى أيوب ويبرأ - فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك اين المال - اين الولد اين الصديق اين لونك الحسن اين جسمك الحسن اذبح هذه السخلة واسترح - قال أيوب أتاك عدو الله(1/4239)
فنفخ فيك ويلك ارايت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه - قالت اللّه قال فكم متعنابه قالت ثمانين سنة قال فهذكم ابتلاني قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك ما أنصفت الا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة - واللّه لئن شافانى اللّه لا جلدنك مائة جلدة أمرتني ان اذبح لغير اللّه طعامك وشرابك الّذي أتيتني به علىّ حرام وحرام علىّ ان أذوق شيئا مما تأتينى به بعد إذ قلت لى هذا فاعز لى عنى فلا أراك فطردها فذهبت - فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجدا وقال ربّ انّى مسّنى الضّرّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) عطف على الجملة السابقة وصف ربه تعالى بغاية الرحمة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 227
بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفا في السؤال.(1/4240)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه استجاب اللّه دعاءه وقال له ارفع رأسك فقد استجيب لك فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ قيل له اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين ماء فامره ان يغتسل فاغتسل منها فذهب كل داء كان لظاهره وعاد إليه شبابه وجماله احسن ما كان - ثم مشى أربعين خطوة فامره ان يضرب برجله مرة اخرى فضرب برجله فنبعت عين اخرى ماء بارد فامره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه - فصار كاصح ما يكون من الرجال وأجملهم - وكسى حلة قال فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال الا قد ضاعفه اللّه - حتى واللّه ذكر لنا ان الماء الّذي اغتسل منه تطائر على صدره جرادا من ذهب فجعل يضربه بيده - فاوحى اللّه إليه يا أيوب الم أغنك قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها وروى البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثى في ثوبه - فناداه ربه يا أيوب الم أغنيتك عما ترى قال بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك قال الحسن فخرج أيوب حتى جلس على مكان مشرف - ثم ان امرأته قالت ارايتك ان كان طردنى إلى من أكله -ء أدعه يموت جزعا ويضيع فتاكله السباع لارجعنّ إليه فرجعت - فلا كناسة ترى ولا تلك الحالة الّتي كانت وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكى وذلك بعين أيوب وهابت صاحب الحلة ان تأتيه فتسئل عنه فدعاها أيوب فقال ما تريدين يا أمة اللّه فبكت وقالت أردت ذلك المبتلى الّذي كان منبوذا على الكناسة لا أدرى أضاع أم ما فعل فقال ما كان منك فبكت وقالت بعلى قال قهل تعرفينه إذا رايتيه قالت وهل يخفى على أحد راه - ثم جعلت تنظر إليه وهى تهابه ثم قالت اما انه أشبه خلق بك إذ كان صحيحا قال فانى انا أيوب الّذي أمرتني ان اذبح لابليس وانى أطعت اللّه وعصيت الشيطان ودعوت اللّه سبحانه فرد علىّ ما ترين - وقال وهب لبث أيوب في البلاء سنين فلما غلب أيوب(1/4241)
إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بنى آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس في مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال - فقال لها اما بنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم قال فهل تعرفيننى قالت لا - قال انا اله الأرض وانا الّذي؟؟؟ نعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد اللّه السماء
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 228(1/4242)
و تركنى فاغضبنى - ولو سجد لى سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فانه عندى ثم أراهم أباهم في بطن الوادي الّذي لقيها فيه قال وهب وقد سمعت انه قال لها لو ان صاحبك أكل طعاما ولم يسم اللّه عليه لعرفى ما به البلاء واللّه اعلم - وفي بعض الكتب ان إبليس قال لها اسجدي لى سجدة حتى اردّ عليك المال والأولاد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فاخبرته بما قال لها قال قد أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك - ثم اقسم ان اللّه عافاه ليضربنّها مائة جلدة - وقال عند ذلك مسّنى الضّر من طمع إبليس في سجود حرمى له دمائه إياها وإياي إلى الكفر ثم ان اللّه رحم رحمة امراة أيوب بصبرها مع أيوب على البلاء وخفف عنها - وأراد ان يبرّ يمين أيوب فقال وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث - فاخذ أيوب ضغثا يشتمل على مائة عود صغارا فضربها ضربة واحدة وروى ان إبليس اتخذ تابوتا وجعل فيه ادوية وجعل على طريق امرأته يداوى الناس - فمرت به امراة أيوب فقالت ان لى مريضا أ فتداويه - قال نعم - واللّه لا أريد شيئا الا ان يقول إذ شفيته أنت شفيتنى - فذكرت ذلك لايوب فقال هو إبليس قد خدعك وحلف ان شفاه اللّه يضربها مائة جلدة وقال وهب وغيره كانت امراة أيوب عليه السلام تعمل للناس وتجيئه بقوته فلما طال عليه البلاء وشتمها النّاس فلم يستعملها أحد ثم التمست يوما من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئا فجزّت من راسها قرنا فباعته برغيف فاتته به - فقال لها اين قرنك فاخبرته فحينئذ قال مسنّى الضّرّ وقال قوم انما قال ذلك حين قصده الدود إلى قلبه ولسانه فخشى ان يبقى عن الذكر والفكر - وقال حبيب بن(1/4243)
ثابت لم يدع اللّه بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء - أحدها - قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاء إليه ولم يبق له عيناه ورأيا امرا فقالا لو كان لك عند اللّه منزلة ما أصابك هذا والثاني ان امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذوابتها وحملت إليه طعاما - والثالث قول إبليس ان أداويه على ان يقول أنت شفيتنى - وقيل ان إبليس وسوس ان امرأتك زنت فقطعت ذوأبتها - فحينئذ عيل صبره فدعى وحلف ليضربنّها مائة جلدة - وقيل معناه مسّنى الضّرّ من شماتة الأعداء حتى روى انه قيل له بعد ما عوفى ما كان أشد عليك في بلائك وقال شماتة الأعداء - وقيل قال ذلك حين وقع دودة من فخذه فردها إلى موضعها وقال كلى قد جعلنى اللّه طعامك - فعضته عضة زاد المها على جميع ما قاسى من عض الديدان -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 229(1/4244)
فان قيل ان اللّه سماه صابرا وقد اظهر الشكوى والجزع بقوله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ - ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ - قيل ليس ه ذا شكاية انما هو دعاء بدليل قوله تعالى فاستجبنا له - علا ان الجزع انما هو في الشكوى إلى الخلق واما الشكوى إلى اللّه فلا يكون جزعا ولا ترك صبر كما قال يعقوب انّما أشكو بثّي وحزنى إلى اللّه - وقال سفيان بن عليينة من اظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقصام اللّه لا يكون ذلك جزعا - كما روى ان جبرئيل دخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم في مرضه فقال كيف تجدك قال أجدني مغموما - أجدني مكروبا - قلت كذا في حديث أبى هريرة عند ابن الجوزي بلفظ قال جبرئيل ان اللّه عزّ وجلّ يقرأك السلام ويقول كيف تجدك الحديث - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعائشة حين قالت وا رأساه قال انا ووا رأساه - قلت كذا روى ابن إسحاق واحمد عنها انه صلى اللّه عليه وسلم رجع من البقيع فدخل علىّ وهو يصدع وانا اشتكى رأسى فقلت وارأساه فقال بل انا واللّه وارأساه « 1 » الحديث وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ اختلفوا في ذلك فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والحسن واكثر المفسرين رد اللّه عليه اهله وأولاده بأعيانهم أحياهم اللّه له وأعطاه « 2 » مثلهم وهو ظاهر القرآن - وقال الحسن اتى المثل من نسل ماله الّذي رد إليه واهله يدل عليه ما روى الضحاك عن ابن عباس ان اللّه تعالى رد إلى المراءة شبابها فولدت له سته وعشرين ذكرا - قال وهب كان له سبع بنات وثلثة بنين وقال ابن يسار وكان له سبعة بنين وسبع بنات وروى عن انس رضى اللّه عنه يرفعه انه كان اندر « 3 » للقمح واندر للشعير فبعث اللّه سحابتين فافرغت إحداهما على اندر القمح الذهب وأفرغت الاخرى على اندر الشعير المورق حتى حى فاض و- روى ان اللّه تعالى بعث إليه ملكا وقال ان ربك يقراك السلام بصبرك فاخرج إلى اندرك - فخرج اليه(1/4245)
فارسل عليه جرادا من ذهب فطارت واحدة فاتبعها وردها إلى أندره فقال له الملك واما يكفيك ما في اندرك - فقال هذه بركة من بركات ربّى ولا أشبع من بركته - وقال قوم اتى اللّه أيوب في الدنيا مثل اهله الذين هلكوا فاما الذين هلكوا فانهم لم يردوا عليه في الدنيا وقال عكرمة قيل لايوب ان أهلك لك في الاخرة فان شئت عجلناهم لك في الدنيا وان شئت كانوا
_________
(1) وفي معالم التنزيل بلفظ وقال لعائشة حين قالت وارأساه بل انا وا رأساه 12 منه رح.
(2) وفي الأصل وأعطاهم أبو محمد.
(3) وفي المنجد الأندر الكرس من القمح خاصة - السيد الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 230
لك في الاخرة واتيناك مثلهم في الدنيا - فقال يكونون لى في الاخرة واوتى مثلهم في الدنيا - فعلى هذا يكون مغنى الآية واتيناه اهله في الاخرة ومثلهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد رَحْمَةً اما مفعول به بفعل محذوف أى وهبنا رحمة أى نعمة مِنْ عِنْدِنا أو مفعول مطلق لاتينا من قبيل ضربته سوطا واتيناه إيتاء برحمة كائنة من عندنا وَذِكْرى أى عظة عطف على رحمة لِلْعابِدِينَ (83) أى عظة وتذكرة لغيره من العابدين ليتصبّروا كما صبر فيثابوا « 1 » كما أثيب - وجاز ان يكون رحمة وذكرى مفعولا له يعنى اتيناه اهله ومثلهم معهم لرحمتنا وذكرنا للعابدين فانّا نرحمهم ونذكرهم بالإحسان ولا ننساهم - .(1/4246)
وَ إِسْماعِيلَ بن ابراهيم وَإِدْرِيسَ هو أخنوخ وَذَا الْكِفْلِ اعراب هذه الأسماء على قياس نوحا - اختلفوا في ذى الكفل قال عطاء ان نبيا من أنبياء بنى إسرائيل اوحى اللّه إليه انى أريد قبض روحك فاعرض ملك على بنى إسرائيل فمن يكفل لك انه يصلى بالليل لا يفترو يصوم بالنهار لا يفتر ويقضى بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه - ففعل ذلك فقام شاب فقال انا اتكفل لك بهذا فتكفل ووفى به فشكر اللّه له ونبّاه فسمى ذا الكفل - وقال مجاهد لما كبر اليسع قال لو انى استخلفت رجلا يعمل على الناس يعمل عليهم في حياتى حتى انظر كيف يعمل فجمع الناس فقال من يتقبل لى بثلاث استخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب - فقام رجل تزدريه العين فقال انا فرده ذلك اليوم - وقال مثلها اليوم الاخر فسكت الناس وقام ذلك فقال انا فاستخلفه - فاتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام بالليل والنهار الا تلك النومة - فدق الباب فقال من هذا قل شيخ كبير مظلوم فقام ففتح الباب فقال ان بينى وبين قومى خصومة والهم ظلمونى وفعلوا وفعلوا فجعل يطول حتى ظهر الرواج وذهبت القائلة فقال إذا رحت فانى أخذ حقك - فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه - فلما كان الغد يقضى بين الناس ينتظره فلا يراه - فلما رجع إلى القائلة فاخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال من هذا فقال الشيخ المظلوم ففتح له فقال الم اقل لك إذا قعدت فاتنى قال انهم أحب قوم إذا عرفوا انك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك فإذا قمت جحدونى قال فانطلق فادارحت فأتنى ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشق عليه النعاس فقال لبعض اهله
_________
(1) وفي الأصل فيثيبوا - أبو محمد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 231(1/4247)
لا تدعوا أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فانه قد شق علّى النوم - فلما كانت تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلما اعياه نظر فراى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت يدق الباب من داخل - فاستيقظ فقال يا فلان الم أمرك قال اما من قبلى فلم يأت فانظر من اين اتى فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال أ تنام والخصوم ببابك فعرفه فقال يا عدو اللّه قال نعم اعييتنى وفعلت ما ترى لاغضبتك فعصمك اللّه فسمى ذا الكفل لأنه تكفل بامر فوفى به وقيل ان إبليس جاءه وقال ان لى غريما يمطلنى فاحب ان تقوم معى وتستوفى حقى منه فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروى انه اعتذر إليه وقال ان صاحبى هرب منى - وقيل ان ذا الكفل رجل كفل ان يصلى كل ليلة مائة ركعة إلى ان يقبضه اللّه فوفى به - واختلفوا في انه هل كان نبيّا قال بعضهم كان نبيّا كما يدل عليه نسق كتاب اللّه فقيل هو زكريا وقال أبو موسى لم يكن نبيّا ولكن كان عبدا صالحا كُلٌّ أى كل واحد منهم كان مِنَ الصَّابِرِينَ (88) على المصائب ومشقة الطاعات كابحين اعنة أنفسهم عن الشهوات والمعاصي.
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعنى النبوة ودرجات القرب والجنة عطف على جملة كلّ من الصّابرين - أو حال من الضمير في الصابرين بتقدير قد إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) معصومين عن كدر الفساد بالكلية.(1/4248)
وَ ذَا النُّونِ أى صاحب الحوت وهو يونس بن متى عليه السلام إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً وإعرابه على حسب ما ذكرنا في نوحا إذ نادى - اختلفوا في معناه فقال الضحاك مغاضبا لقومه وهو رواية العوفى وغيره عن ابن عباس قال كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف فاوحى اللّه إلى شعياء النبي ان سر إلى حرقيا الملك وقل له حتى يوجه نبيّا قويّا فانى القى في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بنى إسرائيل فقال له الملك فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء فقال يونس انه قوى أمين فدعا الملك يونس وامره ان يخرج فقال له يونس هل أمرك اللّه باخراجى قال لا قال هل سمانى لك قال لا قال فههنا غيرى أنبياء أقوياء فالحّوا عليه فخرج من بينهم مغاضبا للنبى وللملك ولقومه فاتى بحر الروم فركبها - وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذا كشف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 232(1/4249)
عن قومه العذاب بعد ما وعدهم وكره ان يكون بين قوم جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحياء منهم ولم يعلم السبب الّذي به رفع العذاب عنهم - وكان غضب من ظهور خلف وعده وان يسمى كذّابا لا كراهية لحكم اللّه عزّ وجل - وفي بعض الاخبار انه كان من عادة قومه ان يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشى ان يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد فغضب - والمغاضبة هاهنا من المفاعلة الّتي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة فمعنى قوله مغاضبا أى غضبان وقال الحسن انما غاضب ربّه من أجل انه امره بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه فسال ربه ان ينظره ليتاهب للشخوص إليهم فقيل له ان الأمر اسرع من ذلك حتى سال ربه ان ينظره إلى ان يأخذ فعلا يلبسها فلم ينظر وكان في خلقه ضيق فذهب مغاضبا - عن ابن عباس قال اتى جبرئيل عليه السلام يونس عليه السلام فقال انطلق إلى أهل نينوى فانذرهم - قال التمس دابة قال الأمر اعجل من ذلك - فعضب فانطلق إلى السفينة - وقال وهب ان يونس بن متى كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسح تحتها تفسح الزبع تحت الحمل الثقيل يقذفها بين يديه وخرج هاربا منها - فلذلك أخرجه اللّه من اولى العزم فقال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم فاصبركما صبرا ولو لعزم من الرّسل وقال ولا تكن كصاحب الحوت فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قرأ ، يعقوب بضم الياء وفتح الدال على البنا للمفعول والباقون بفتح « 1 » الياء وكسر الدال على البناء للفاعل ومعنى الآية ظن يونس ان لن نضيق عليه الحبس نظيره قوله تعالى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى يضيق كذا قال عطاء وكثير من العلماء - ا ولن نقضى عليه بالعقوبة من القدر بمعنى القضاء كذا قال مجاهد والضحاك والكلبي وهو رواية العوفى عن ابن عباس يقال قدر اللّه تقديرا وقدر قدرا بمعنى واحد قال اللّه تعالى نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ(1/4250)
الْمَوْتَ قرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ومعناهما واحد - ويؤيد هذا التأويل قراأة عمر بن عبد العزيز والزهري بالتشديد وقيل معناه ظن ان لن نعمل فيه قدرتنا - وقيل هذا تمثيل الحالة بحال من ظن ان لن نقدر عليه في مراغمة قومه من غير انتظار لامرنا - وقال ابن زيد هو استفهام للانكار
_________
(1) والصحيح والباقون بنون العظمة المفتوحة وكسر الدال على البناء للفاعل - أبو محمد عفا عنه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 233(1/4251)
و التوبيخ معناه أ فظن ان لن نقدر عليه وقيل كان ذلك خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسمى ظنا للمبالغة - قال الحسن بلغني ان يونس لمّا أصاب الذنب انطلق مغاضبا لربه فاستزلّه للشيطان حتى ظن ان لن نقدر عليه - وكان له سلف وعبادة فابى اللّه ان يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت ومكث فيه أربعين من بين يوم رسله وقال عطاء سبعة ايام وقيل ثلثة ايام - وقيل ان الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة وقيل بلغ به تخوم « 1 » الأرض السابعة فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه فَنادى فِي الظُّلُماتِ أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة - أو ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت - هذه الجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض - تقديره إذ ذّهب مغاضبا فظنّ الّن تّقدر عليه فبلغ البحر فركب في السفينة فاحتبست السفينة فساهم فكان من المدحضين فالقى نفسه في البحر فاتقمه الحوت فنادى في الظلمات أَنْ أى بان لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) على نفسى بالمبادرة إلى المهاجرة بلا اذن من اللّه تعالى - قال البغوي روى عن أبى هريرة مرفوعا انه اوحى اللّه إلى الحوت ان خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فاخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس تسبيحا فقال في نفسه ما هذا فاوحى اللّه إليه ان هذا تسبيح دواب البحر فسبح يونس وهو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا يا ربنا تسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة - وفي رواية صوت معروف في مكان مجهول قال ذاك عبدنا يونس عصانى فحبسته في بطن الحوت - فقالوا العبد الصالح الّذي كان يصعد منه إليك في كل يوم عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فامر الحوت فقذفه في الساحل كما قال اللّه تعالى فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ.(1/4252)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أى أجبنا دعوته وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أى غم الخطيئة وغم التقام الحوت أو غم الظلمات بتلك الكلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) من الغموم إذا يدعوننا بالإخلاص ويستغيثوا بنا - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعوة ذى النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت لا اله الّا أنت سبحناك
_________
(1) التخرم بالضم الفصل بين الأرضين والمعالم والحدود 12 منه رح
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 234(1/4253)
انّى كنت من الظّالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء الا استجاب له - رواه احمد والترمذي والحاكم وصححه من حديث سعد بن أبى وقاص وفي لفظ الحاكم الا أخبركم بشيء إذا نزل بأحد منكم كرب أو بلاء فدعابه الا فرج اللّه عنه قيل بلى يا رسول اللّه قال دعاها ذى النون لا اله الّا أنت سبحنك انّى كنت من الظّالمين - ورواه ابن جرير بلفظ اسم اللّه الّذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به اعطى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد ذكرنا في مفتتح سورة ال عمران ان اسم اللّه الأعظم هو التهليل يعنى النفي والإثبات - وان لا اله الا هو ولا اله إلا أنت ارفع درجة من لا اله الا اللّه لان الضمائر وضعت للذات البحت - قلت ثم لا اله الا أنت ارفع درجة من لا اله الا هو لدلالة ضمير الخطاب على كمال الحضور واللّه اعلم - قرأ ابن عامر وأبو بكر بتشديد الجيم وتسلين الياء على ان أصله ننجى مضارع باب التفعيل حذفت منه النون الثانية لاجتماع المثلين كما تحذف التاء في تتظاهرون فيقال تظاهرون؟؟؟ هى وان كانت فاء فحذفها اولى من حذف علامة المضارع الّتي لمعنى - ولا يقدح اختلاف حركتى النونين فان الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام - وامتنع الحذف في تتجافى لخوف اللبس وقيل أصله نجىّ على انه ماض مبنى للمفعول أسند إلى الصدر - وقال البيضاوي وهذا الوجه مردود بان الفعل لا يسند إلى المصدر إذا كان المفعول مذكورا والماضي لا يسكن آخره - وأجيب بانه اسناد الفعل إلى المصدر مع وجود المفعول شاذّ والشاذّ لا يمتنع وقوعه في القرآن لفصاحته - وقد تسكن الياء المفتوحة كما سكنوا في بقي فقالوا بقي ونحوها - وقرأ الجمهور بنونين من الافعال وفي الخط الرسم بنون واحدة لان النون الثانية ساكنة والساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت في الخط كما حذفوا النون في الّا وأصله ان لا لخفائها - قال البغوي اختلفوا في ان رسالة(1/4254)
يونس متى كانت روى سعيد ابن جبير عن ابن عباس ان اللّه تعالى أرسله بعد ان أخرجه من بطن الحوت بدليل ما ورد في سورة الصافات فنبذنه بالعراء وهو سقيم ثم ذكر بعده وأرسلناه إلى مائة الف أو يزيدون - وقال الآخرون انه أرسل قبل ذلك بدليل قوله تعالى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
- قلت والاستدلال بقوله وأرسلناه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 235
بعد قوله فنبذنه ضعيف الواو لمطلق الجمع لا دلالة لها على الترتيب - .
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى وإعرابه كاعراب نوحا إذ نادى يعنى حين دعا ربه رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا بلا ولد يخلفنى بيان للنداء وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) حال من فاعل لا تذرنى ثناء على اللّه تعالى بانه الباقي بعد فناء الخلق وانه خير من يخلف.(1/4255)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أى جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيمة إِنَّهُمْ أى الأنبياء المذكورين كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً مفعول له أو حال أى لاجل الرغبة أو ذوى رغبة أو راغبين في لقائنا والتقرب إلينا أو في الثواب راجين الاجابة أو في الطاعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعلت قرة عينى في الصلاة - رواه احمد والنسائي والحاكم والبيهقي في حديث عن انس وَرَهَباً أى لاجل الخوف أو ذوى خوف أو خائفين الهجران أو المعصية أو العقاب وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) أى داعين نوجل قال مجاهد الخشوع هو الحزن اللازم في القلب وذلك لكمال المعرفة بعظة اللّه وقال قتادة ذللا لامر اللّه وقوله تعالى إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ مدح لهم وتعليل لما سبق أى اتينا لوطا ونوحا وداود وسليمان وغيرهم حكما يعنى نبوة وعلما لانهم كانوا يسارعون في الخيرات - أو اذكر هؤلاء الكرام لانهم كانوا يسارعون في الخيرات حتى يقتدى بهم الناس فانهم نالوا من اللّه تعالى ما نالوا بهذه الخصال.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الحلال والحرام يعنى مريم بنت عمران منصوب بتقدير اذكر فَنَفَخْنا يعنى نفخ جبرئيل بامرنا فِيها أى في مريم نفخ في جيب درعما فوصل النفخة في جوفها فاحدث اللّه تعالى بذلك النفخة المسيح عيسى بن مريم مِنْ رُوحِنا أى من الروح الّذي هو بامرنا وحدنا والاضافة للتشريف أو المراد بالروح عيسى ومن زائد ة - أو من جهة روحنا يعنى جبرئيل عليه السلام وَجَعَلْناها وَابْنَها أى جعلنا قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله آيَةً أى دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير اب لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 236(1/4256)
اى ملة التوحيد والايمان بجميع الأنبياء قائلا لا نفرّق بين أحد منهم والسمع والطاعة للّه ولرسله في كل وقت على حسب امره ونهيه فهو اشارة إلى جميع الملل الحقة أو للمراد ملة الإسلام أُمَّتُكُمْ أى ملتكم الّتي يجب عليكم أيها الناس كافة ان تكونوا عليها أُمَّةً منصوب على الحال والعامل فيه معنى الاشارة واحِدَةً غير مختلفة فيما بين الأنبياء ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع قال اللّه تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه - والامة مشتق من امّ يأمّ بمعنى قصد يقصد فاطلق على الجماعة الّتي هى على مقصد واحد وعلى الدين والسنة كذا في القاموس لكون الدين والسنة مقصودين وَأَنَا رَبُّكُمْ لا رب لكم غيرى فَاعْبُدُونِ (92) دون غيرى.
وَتَقَطَّعُوا فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة - والتّفعّل بمعنى التفعيل يعنى قطعوا وفرقوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أى امر دينهم فصاروا فرقا يلعن بعضهم بعضا وما كان ينبغى لهم ذلك كُلٌّ أى كل فرقة منهم إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فنجازيهم.
فَمَنْ يَعْمَلْ شيئا من الأعمال الصَّالِحاتِ وان كان مثقال ذرة وَهُوَ مُؤْمِنٌ باللّه ورسله وما جاءوا به - قيد بهذا لان الايمان شرط للاثابة على الأعمال فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أى لا بطلان والمنع عن الثواب بعمله استعير الكفر للمنع عن الثواب كما استعير الشكر لاعطائه ونفى الجنس للمبالغة وَإِنَّا لَهُ أى لسعيه وعمله كاتِبُونَ (94) مثبتون في صحف الأعمال الّتي تكتبها الملائكة الكرام.(1/4257)
وَ حَرامٌ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء بلا الف بينهما والباقون بفتح الحاء والراء والف بينهما وهما لغتان مثل رحلّ وحلال والمعنى ممتنع غير متصور الوجود عَلى أهل قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أى حكمنا باهلاكها أو وجدناها هالكا يعنى كافرا - خبر مبتداء محذوف تقديره حرام وممتنع عليهم ذاك أى المذكور في الآية المتقدمة من عدم تضيع الحسنات يعنى نحبط أعمالهم - أو حرام أى ممتنع توبتهم أو حياتهم - تأنيا في الدنيا أو عدم بعثهم للجزاء وعلى هذا قوله تعالى أَنَّهُمْ إلينا لا يَرْجِعُونَ (95) معناه لانهم لا يرجعون بالتوبة والإخلاص إلينا أو لانهم لا يرجعون إلى الدنيا حتى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 237
يتداركوا ما فات عنهم من الايمان - وجاز ان يكون ان مع جملتها مبتدأ وحرام خبره يعنى عدم رجوعهم إلى موقف الحساب والجزاء ممتنع وقال ابن عباس معنى الآية وحرام على أهل قرية انهم راجعون إلى الدنيا فعلى هذا مبتداء وخبر ولا زائدة - وعلى التأويلات كلها هذه الآية وعيد الكفار كما ان السابقة وعد للمؤمنين.(1/4258)
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتشديد على التكثير والباقون بالتخفيف يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اسمان لقبيلتين والمضاف محذوف يعنى فتح سدهما عنهما وَهُمْ يعنى يأجوج وماجوج مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أى نشز وتل يَنْسِلُونَ (96) أى يسرعون من نسلان الذئب وقد ذكرنا حديث النواس بن سمعان في سورة الكهف في تفسير قوله تعالى فإذا جاء وعد ربّى جعله دكّاء وكان وعد ربّى حقّا وفيه ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون - قلت وإنما خص نسلانهم من الأحداب لان مقرهم ما وراء الجبال فيأتون من فوق الجبال وقيل ضميرهم في وهم في كلّ حدب راجع إلى الناس أجمعين وقرأ مجاهد وهم من كلّ جدث يّفعلون بالجيم والثاء المثلة من فوق؟؟؟ معنى القبر والضمير على هذا راجع إلى الناس أجمعين نظيره قوله تعالى فإذا هم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون - وعن حذيفة ابن اسد الغفاري قال اطلع النبي صلى اللّه عليه وسلم ونحن نتذكر فقال ما تذاكرون قالو نذكر الساعة قال الها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات - فذكر الدخان والدّجال والدابة وطلّوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم - وفي رواية تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر - وفي رواية في العاشرة وريح يلقى الناس في البحر - رواه مسلم وحتى ابتدائية تدلّ على سببية ما قبلها لما بعدها كما في قولهم مرض فلان حتى لا يرجونه - متعلق بحرام أو بمحذوف دل عليه الكلام أو بلا يرجعون أى يستمر امتناع عدم تضيع حسناتهم - يعنى يستمر حبط أعمالهم أو امتناع قبول توبتهم أو امتناع رجوعهم إلى الدنيا أو امتناع عدم بعثهم للجزاء حتى تكون أبصارهم شاخصة أو يهلكون بالكفر حتى يكون كذلك - أو لا يرجعون إلى التوبة أو إلى الدنيا حتى يكون كذلك مترتبا عليه التفسير(1/4259)
المظهري ، ج 6 ، ص : 238
و ما بعد حتى جملة شرطية إذا فتحت يأجوج ومأجوج شرط وهم من كلّ حدب ينسلون حال من يأجوج ومأجوج - وان كان الضمير راجعا إلى الناس فهو عطف على الشرط وقوله.
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يعنى يوم القيامة عطف على فتحت - وقال الفراء وجماعة الواو زائدة والجملة جزاء للشرط كما في قوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ والمعنى لما أسلما ناديناه - واستدلوا عليه بما روى عن حذيفة قال لو ان رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة - ورد هذا القول بان الواو ولا تكون زائدة وجزاء الشرط فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا أى أجفانهم إذا للمفاجاة تسد مسد الفاء الجزائية كقوله اذاهم يقنطون فإذا جاءت معها تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط فيتاكد - والضمير للقصة أو مبهم يفسره الابصار - وشاخصة مبتدأ من قبيل الصفة المسندة إلى فاعلها والابصار فاعل لها أو مبتداء وشاخصة خبره يقال شخص بصره يعنى فتح عينه وجعل لا يطرف من شدة الهول والتحير - وقيل هى مبتدأ محذوف الخبر تقديره فإذا هى أى الساعة بارزة يعنى من قربها كانها حاضرة - وقوله شاخصة أبصار الّذين كفروا جملة مستانفة يا وَيْلَنا مقدر بيقولون وهى واقع موقع الحال من الموصول وجاز ان تكون فإذا هى شاخصة معطوفة على الشرط والجزاء يقولون يويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم لم نعلم انه حق هذه الجملة في مقام التعليل لقوله يا ويلنا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) لانفسنا بالإخلال بالنظر أو واضعين العبادة في غير موضعها.(1/4260)
إِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى مالا يعقل من الأصنام وعجل السامري ونحو ذلك تفضيحا للكفار في عبادتها وما يعقل ويرضى بكونه معبودا من الشياطين مدعى الالوهية بالباطل ومن الانس كفرعون ونمرود واشباههم - واما ما يعقل ولا يرضى به فغير مراد بدليل العقل والنقل فانه لا تزر وازرة وزر أخرى - هذا على تقدير كون ما عامة لذوى العقول وغيرهم كما هو المختار عند اكثر المحققين ويويده ما روى ان ابن الزبعرى قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا شيء لالهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون اللّه فقال عليه السّلام بل لكل من عبد من دون اللّه - ذكره البيضاوي وأخرجه أبو داود وابن المنذر وابن مردوية والطبراني
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 239
من وجه اخر عن ابن عباس واما على تقدير كونها مختصه بما لا يعقل فظاهر ان من لا يرضى من العقلاء بكونه معبودا غير داخل فيه حَصَبُ جَهَنَّمَ أى ما يرمى به إليها ويهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء كذا قال الضحاك - وقال مجاهد وقتادة الحصب في لغة أهل اليمن الحطب وقال عكرمة هو الحطب بلغة الحبشة - وقال البغوي قرأ على بن أبى طالب رضى اللّه عنه حطب جهنم يعنى وقودها أَنْتُمْ أيها المشركون مع ما عبدتموه لَها وارِدُونَ (98) استيناف أول من حصب جهنّم واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على ان ورودهم لاجلها - وفي قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ إلى آخره التفات كان الكلام عن المشركين فيما سبق على الغيبة وفي هذه الآية على الخطاب.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ الّتي تعبدونها أيها الكفار آلِهَةً في الواقع ما وَرَدُوها هذه جملة معترضة مقدرة بالقول يعنى يقال لهم بعد دخولهم في النار تفضيحا وتوبيخا هذا الكلام وَكُلٌّ أى كل واحد من العابدين والمعبودين فِيها أى في النار خالِدُونَ (99) لاخلاص لهم عنها ابدا عطف على أنتم لها واردون - .(1/4261)
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أى انين وتنفس شديد وهو من باب اضافة فعل البعض إلى الكل؟؟؟ تغليبا والجملة الظرفية حال من الضمير المستتر في خالدون وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) عطف على الجملة الظرفية أو حال - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الحجيم فما يرى أحدهم انه يعذب غيره ثم قرأ ابن مسعود لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون - وذكر البغوي نحوه بلفظ جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك والتوابيت في توابيت اخرى ثم تلك التوابيت في توابيت عليها مسامير من نار فلا يسمعون شياء ولا يرى أحد منهم ان في النار يعذب غيره - أخرج الحاكم عن ابن عباس قال لما نزلت انّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون اللّه فنزلت.
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى المنزلة الحسنى منزلة القرب أو الخصلة الحسنى وهى السعادة أو التوفيق للطاعة أو البشرى بالجنة قال الجنيد رحمه اللّه سبقت لهم منا العناية
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 240(1/4262)
فى الهداية فظهرت لهم الولاية في النهاية - أخرج ابن مردوية والضيافى المختار عن ابن عباس قال جاء عبد اللّه بن الزبعرى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد انك تزعم ان اللّه قد انزل عليك انّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون - قال نعم قال قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير فكل هؤلاء في النار مع الهتنا فنزلت انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى ونزلت ولمّا ضرب ابن مريم مثلا إلى قوله خصمون نحوه - وذكر البغوي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصناديد قريش كانوا في الحطيم (و حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما) فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أقحمه ثم تلا عليه انّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم - الآيات الثلاث ثم قام فاقبل عبد اللّه بن الزبعرى إليهم فاخبره الوليد بن مغيرة بما قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له أنت قلت انّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم - قال نعم قال أ ليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو امليح يعبدون الملائكة - فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بل هم يعبدون الشياطين - فانزل اللّه عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وانزل اللّه في ابن الزبعرى ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ - واخرج الواحد عن ابن عباس نحو ما ذكر البغوي وذكر في بعض كتب اصول الفقه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لابن الزبعرى ما أجهلك بلغة قومك ا لم تعلم ان ما لغير ذوى العقول ولم يذكر هذا الجواب في كتب الحديث وقال بعض أهل العلم ان كلمة انّ في هذه الآية بمعنى الا أى الّا الّذين سبقت لهم منّا الحسنى - وهذا القول غير مرضى بوجهين أحدهما ان كلمة انّ لم يستعمل بمعنى الا وثانيهما انه لا بد للاستثناء من الاتصال لا عند من قال بجوازه منفصلا وما ذكرنا في سبب(1/4263)
نزول الآية تدل على الانفصال - فعند اكثر العلماء هذه الآية مخصص لما سبق فانه يجوز عندهم التخصيص بكلام مستقل متراخ - وعند أبى حنيفة رحمه اللّه المتراخى يكون ناسخا لا مخصصا والنسخ غير متصور هاهنا إذ الاخبار لا يحتمل النسخ فهو كلام اجنبى دليل على ارادة التجوز فيما سبق واللّه اعلم أُولئِكَ عَنْها يعنى عن جهنم مُبْعَدُونَ (31) أخرج أبو داود
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 241
عن على رضى اللّه عنه وكذا أخرج ابن أبى حاتم والثعلبي وابن مردويه في تفاسيرهم انه خطب وقرأ هذه الآية ثم قال انا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعيد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ابن الجراح ثم أقيمت الصلاة فقام يجر ردائه ويقول.
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وهو بدل من مبعدون أو حال من ضميره سيق للمبالغة في ابعادهم عنها والحسيس صوت يحس به وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ دائمون وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام وفيه دليل على ان الصوفية العلية الذين لا ترغب أنفسهم إلى ما سوى اللّه تعالى دائمون في الوصل بلا كيف وفي الروية فارغون عن غيره تعالى.(1/4264)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هذه الجملة مع ما عطف عليه خبر بعد خبر لان في ان الذين سبقت قال البغوي قال ابن عباس الفزع الأكبر النفخة الاخيرة بدليل قوله تعالى ونفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض قلت المراد بالنفخة الأخيرة النفخة الّتي هى الاخيرة من امور الدنيا والا فنفخة الفزع انما هى النفخة الاولى وقيل وهى النفخة الصعق أيضا والأمر ان متلازمان فانهم يفزعون بالنفخة الاولى فزعا وماتوا منه وهذا ما صححه القرطبي إذ لم يذكر في اكثر الأحاديث الا نفختان نفخة الصعق ونفخة البعث واختار ابن عربى ان النفخات ثلث الاولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث وهو المختار عندى أخرج ابن جرير في تفسيره والطبراني في المطولات وأبو يعلى في مسنده والبيهقي في البعث وأبو موسى المديني في المطولات وعلى بن معيد في كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبى هريرة حديثا طويلا مرفوعا وفيه فينفخ فيه أى في الصور ثلث نفخات الاولى نفخة الفزع والثانية النفخة الصعق والثالثة النفخة القيام إلى رب العالمين وسنذكر ما ورد في الحديث من تفصيل الفزع في سورة النمل في تفسير الآية المذكورة وقال الحسن الفزع الأكبر حين يومر بالعبد إلى النار وقال ابن جريح حين
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 242
يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود ولا موت وقال سعيد بن جبير والضحاك هى ان تطبق جهنم وذلك بعد ان يخرج اللّه تعالى منها من يريد ان يخرجه وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أى تستقبلهم الملئكة عند خروجهم من القبور وعلى أبواب الجنة مهنين قائلين هذا يَوْمُكُمُ أى يوم ثوابكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فى الكتب السماوية على السنة الرسل فالجملة حال من الملئكة بتقدير القول.(1/4265)
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ قرأ أبو جعفر تطوى بالتاء المثناة الفوقانية على البناء للمفعول ورفع السماء للاسناد إليه والجمهور بالنون على صيغة المتكلم المعروف ونصب السماء مقدر باذكر أو ظرف لقوله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ أو تَتَلَقَّاهُمُ أو حال مقدره كَطَيِّ السِّجِلِّ الطى ضد النشر والسجل الصحيفة مشتق من المساجلة وهى المكاتبة لِلْكُتُبِ قرأ حمزة والكسائي وحفص هكذا على صيغة الجمع والباقون للكتاب على الافراد والمعنى طياكطى الطومار لاجل الكتابة أو لما يكتب أو كتب فيه ويدل عليه القراءة على صيغة الجمع أى للمعانى الكثيرة المكتوبة فيه كذا قال ابن عباس ومجاهد والأكثرون وقال السدى ان السجل ملك يكتب اعمال العباد واللام زائدة يعنى كطى السج ل الكتب كقوله ردف لكم أى اردفكم وقيل السجل كاتب كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في القاموس كتب السجل لكتاب العهد وغيره جمعه سجلات وهو أيضا الكاتب والرجل بالحبشة واسم كاتب للنبى صلى اللّه عليه وسلم واسم ملك والسجل بالكسر الكتاب وقيل السجل حجر كان يكتب فيه ثم سمى كلما يكتب فيه سجلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ما كافة أو مصدرية وكلمة أول مفعول لبدأنا أى نعيد ما خلقناه مبدأ إعادة مثل ابدائنا إياه في كونها إيجادا عن العدم أو جمعا من الاجزاء المتبددة وجاز ان يكون أول مفعولا بفعل مضمر يفسره نعيده والمعنى على الوجهين واحد والمقصود بيان صحة الاعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية وتناول القدرة الكاملة القديمة لهما على السواء وقيل ما موصولة وبدأنا صلة والعائد محذوف والكاف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 243(1/4266)
متعلق بمحذوف يفسره نعيده وأول خلق ظرف لبدأنا أو حال من العائد المحذوف يعنى نعيد مثل الّذي بدأناه في وقت أول الخلق أو كائنا أول الخلق لكن يلزم على هذا التأويل ان لا يكون المعاد عين الأول بل مثله والحق انه عينه وانما التمثيل في كلا الخلقين أو في الأحوال والأوصاف روى الشيخان في الصحيحين والترمذي عن ابن عباس قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال يا أيها الناس انكم تحشرون إلى اللّه حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ لما بدأنا أول خلق نعيد وأول من يكسلى من الخلائق ابراهيم عليه السّلام وَعْداً مقدر بفعله أى وعدنا وعدا تأكيد لنعيده أو منصوب بنعيده لأنه وعد بالاعادة علينا صفة لوعد أى وعدا كائنا علينا إنجازه كاللازم إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ الاعادة والبعث تأكيد بعد تأكيد و.(1/4267)
لَقَدْ كَتَبْنا جواب قسم محذوف فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع الكتب المنزلة والذكر أم الكتاب الّذي عنده يعنى من بعد ما كتبنا ذلك في اللوح المحفوظ وقال الشعبي الزبور كتاب داود عليه السّلام والذكر التوراة وقال ابن عباس والضحاك الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة بعد التوراة وقيل الزبور كتاب داود عليه السّلام والذكر القرآن وبعد على هذين التأويلين بمعنى قبل أَنَّ الْأَرْضَ يعنى ارض الجنة يَرِثُها عِبادِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الصَّالِحُونَ فهذه الآية نظيره لقوله تعالى والعاقبة للمتقين والفساق انما يدخلون اما بعد العذاب والتطهير واما بعد المغفرة فحينئذ يلتحقون بالصالحين وقال مجاهد يعنى أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم دليلا قوله تعالى وقالوا الحمد للّه الّذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وقيل أراد بالأرض الأرض المقدسة وبعبادي الصالحين الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها وقال ابن عباس أراد بالأرض ارض الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من اللّه بإظهار الدين وإعزاز المسلمين قلت فالمراد بالأرض جميع الأرض روى احمد عن المقداد انه سمع رسول اللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 244
صلى اللّه عليه وسلم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل اما يعزهم فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها قال مقداد قلت فيكون الدين كله للّه.(1/4268)
إِنَّ فِي هذا أى فيما ذكرنا في القرآن من الاخبار والمواعظ والمواعيد لَبَلاغاً أى لكفاية لاجل دخول الجنة فانها زاد الجنة كبلاغ المسافر أو سبب بلوغ إلى المطلوب يعنى من اتعظ بها بلغ ما يرجوا من الثواب لِقَوْمٍ عابِدِينَ صفة لبلاغا أو متعلق به أى للمؤمنين الذين يعبدون اللّه عزّ وجلّ عبادة مقبولة وقال ابن عباس عالمين وقال كعب الأحبار هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أهل الصلاة الخمس وشهر رمضان.
وَما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا رَحْمَةً منصوب على العلية أو على الحال من كاف الخطاب لِلْعالَمِينَ يعنى لرحمتنا على الانس والجن أرسلناك ليهتدوا بك أو أرسلناك حال كونك رحمة يعنى سببا للرحمة روى الحاكم عن أبى هريرة وابن سعد والحكيم عن أبى صالح مرسلا انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما انا رحمة مهراة وروى البخاري في التاريخ عن أبى هريرة بلفظ انما بعثت رحمة ولم ابعث عذابا وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ان في هذا لبلاغا وتأكيد له في المعنى فان القرآن لما كان بلاغا وزادا إلى الجنة كان إرسال الرسول الّذي انزل عليه القرآن رحمة والمعنى ان ما بعثت به سبب لاسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم فمن لم يستعدبه وابى من ان يصير مرحوما فهو ظالم على نفسه وذالا ينافى كونه رحمة وقال ابن عباس هو رحمة للكافر في الدنيا بتأخير العذاب عليهم ورفع المسخ والخسف والاستيصال قل يا محمد.(1/4269)
إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ جعلة مستانفة في جواب ما أقول لهم حين بعثت رحمة وما في انما يوحى كافة والحصر المستفاد منه مبنى على المبالغة والحاصل ان المقصود الأصلي من الوحى التوحيد فكانه هو الموحى الىّ لا غير أو المعنى انما يوحى إلى في امر عبادة اللّه الا التوحيد وجاز ان يكون ما موصولة في حمل النصب على الاسمية وانما إلهكم في محل الرفع على الخبرية
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 245
و التوحيد يصح إثباته بالسمع لان الرسالة انما تتوقف على المرسل فلا ذور فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعنى اسلموا وأخلصوا العبادة للّه على مقتضى الوحى المصدق بالحجة واستعدوا برحمة اللّه.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام بعد تمام الحجة عليهم أبوا عن رحمة اللّه فَقُلْ يا محمد آذَنْتُكُمْ أى أعلمتكم ما أرسلت به إليكم أو أعلمتكم بالحرب وان لا صلح بيننا عَلى سَواءٍ أى حال كونكم مستوين في الاعلام يعنى ما أخفيت من أحد منكم فيه دليل على بطلان مذهب الباطنية والروافض المعتقدين للتقية القائلين بان الائمة كانوا يعلّمون أصحابهم احكام الشرع على وجه الاحق ويقولون ان للجدر ان أذان أو المعنى مستوين انا وأنتم في العلم بما أعلمتكم أو بالحرب والمعاداة يعنى لاخداع فتاهبوا للحرب أو اذنتكم إيذانا على سواء يعنى على الإعلان دون الكتمان وقيل معناه أعلمتكم انى على سواء أى على عدل واستقامة رأى بالبرهان وَإِنْ أَدْرِي أى ما أدرى أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين أو الحشر لكنه كائن لا محالة.
إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أى ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من الحقد للمسلمين فيجازيكم عليه وهذه الجملة معترضة للتوبيخ على النفاق والتحريض على الإخلاص.(1/4270)
وَ إِنْ أَدْرِي مفعول أدرى محذوف يعنى ما أدرى اىّ سبب لتاخير العذاب عنكم مع ما علم اللّه تعالى جهركم وسركم بالسوء ولما كان في هذه الجملة نفى علمه صلى اللّه عليه وسلم عن سبب تأخير العذاب عن الكفار وذلك يوهم نفى الظن قد وقع ذلك الوهم بقوله لَعَلَّهُ الضمير راجع إلى المحذوف المفهوم مما سبق يعنى لعل ذلك التأخير فِتْنَةٌ لَكُمْ أى استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحانكم لينظر هل ترجعون مما أنتم عليه إلى الاتعاظ أم لا وَمَتاعٌ التنوين للتحقير وكذا تنوين حين أى تمتيع قليل من اللّه تعالى إِلى حِينٍ أى زمان يسير
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 246
سبق في القضاء ابقائكم إليه قال جلال الدين المحلى هذا مقابل للغتة المترجى بلعل وليس هذا محل للترجى.(1/4271)
قل قرأ حفص قالَ على صيغة الماضي حكاية عن حال النبي صلى اللّه عليه وسلم على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وقرأ الجمهور بصيغة الأمر رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ يعنى اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضى لتعذيب الكفار وإنجاء المسلمين وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ أى كثير الرحمة على خلقه مبتدأ وخبره الْمُسْتَعانُ صفة للرحمن أو خبر بعد خبر أى المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ بالكذب والباطل بان الشوكة تكون لهم وان رأية الإسلام ترفع أياما ثم تخفض وان الموعد به لو كان حقا لنزل بهم فاجاب اللّه سبحانه دعاء رسوله ونصر المؤمنين وقصم الكفار يوم بدر أو المعنى ما تصفون اللّه تعالى باتخاذ الولد وتصفون محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالسحر والقران بكونه شعرا واللّه اعلم الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد صلى اللّه عليه وسلم لم تفسير سورة الأنبياء عليهم السّلام ويتلوه إنشاء اللّه تعالى تفسير سورة الحج يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر الجمادى الثاني من السنة الثالثة من المائة الثالثة بعد الالف من هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 248
فهرست سورة الحجّ من تفسير المظهرى
مضمون صفحه الكلام في زلزلة الساعة .... 251
و ما ورد في بعث النار ..... 251
ما ورد في مبارزة على وحمزة 251 يوم بدر .......... 262
ما ورد في ثياب من نار ... 262
ما ورد في حلية أهل الجنة ولباسهم 266 مسئلة هل يجوز بيع رباع مكة 266 واجازتها ... 270
و ما قيل في ان ارض مكة مملوكة لاهلها أم لا ... 271
ما ورد في الإلحاد في الحرم ... 273
قال المجدد للالف الثاني 273 رحمه اللّه ... ان الكعبة لها شبه بما لا كيف له .... 275
حديث يا أيها الناس ان اللّه قد فرض عليكم الحج فحجوا ... 276(1/4272)
مسئلة الحج ماشيا أفضل 276 حديث من حج للّه تعالى فلم يرفث 276 مسئلة هل يشترط يوم النحر و276 مضمون صفحه ايام التشريق في هدى التطوع والندر 277 مسئلة جواز الاكل من هدى التطوع والاضحية وعدم الجواز من جزاء الصيد والدماء الواجبة بالجناية وإفساد الحج والمنذور والاختلاف في دم التطوع والقران .... 278
مسئلة وجوب الترتيب بين الرمي ونحر القارن والحلق والطواف 280 مسائل الحلق في الحج والعمرة 281 مسائل النذر باقسامه وما ورد فيه من الأحاديث ... 284
مسائل الطواف واقسامه وشرائطه وأركانه 306 حديث عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه 318 مسئلة هل يجوز الانتفاع بالهدى من الركوب والحلب ونحو ذلك ... 320
مسئلة يجوز نحر الهدى في أى موضع شاء من الحرم ... 321
مسئلة الذكر شرط للذبح ... 322
مسئلة البدنة من الإبل والبقر 223
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 249
مضمون صفحه مسئلة ما يقال عند النحر والذبح 323 مسئلة لا يجوز قتل نساء أهل الحرب والشيوخ منهم والرهبان والعميان والذمي 327 مسئلة لا يجوز قتل المرتدة ... 327
مسئلة لو امر الامام بقتل حربية أو مرتدة لمصلحة فلا بأس به ... 329
حديث يدخل الفقراء الجسة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ... 335
حديث انما مثلى ومثل ما يعثنى اللّه به كمثل رجل اتى قوما إلخ 335 حديث الإسلام يهدم ما كان قبله 336 حديث مثلى كمثل رجل استوقد نارا 336 ما ورد في عدد الأنبياء والرسل ... 337
ما ورد في ان دخول الجنة بفضل اللّه لا بالأعمال وتفاوت درجات أهل الجنة بالأعمال ... 342
حديث اوحى إلى نبى قل لاهل طاعتى من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم ولا يئسوا ... 350
مضمون صفحه حديث يخرج لابن آدم ثلث دواوين ... 351
مسئلة اختلاف العلماء في السجدة الثانية في سورة الحج 351 مسئلة تحقيق الجهاد الأكبر وما ورد فيه ..... 352
ما ورد في الرياء والسمعة ... 353(1/4273)
ما ورد في اجتباء النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه 354 مسئلة رفع كلفة التكاليف من لوازم الاجتباء 355 ما ورد في انّ الناس تبع لقريش حديث انا لكم بمنزلة الوالد 356 ما ورد في كون أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم شهداء على الناس يوم القيمة ... 357
ما ورد في التمسك بالكتاب والسنة والاجتناب عن البدعة 358 15/ ذى الحجة سنه 1203 ه.
تمّ الفهرس.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 250
سورة الحجّ
ثمان وسبعون اية بعضها مدنيّه وأكثرها مكيّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أى عقابه بان تطيعوه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أى تحريكها الأشياء على الاسناد المجازى أو تحركها فيها فاضيف إليها اضافة معنوية بتقدير في أو اضافة المصدر إلى الظرف على اجرائه مجرى المفعول به شَيْ ءٌ عَظِيمٌ أى هائل ان مع صلتها في مقام التعليل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا انه لا يومنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى اختلفوا في هذه الزلزلة فقال علقمة والشعبي هذا من اشراط الساعة تكون قبل قيام الساعة قال جلال الدين المحلى قبل طلوع الشمس من مغربها واختار هذا القول ابن العربي والقرطبي بقرينة قوله تعالى.
يَوْمَ تَرَوْنَها
اى الساعة أو الزلزلة ظرف لقوله تَذْهَلُ
بسببها كُلُّ مُرْضِعَةٍ
اى امرأة ألقمت الرضيع ثديها يقال امرأة مرضع بلا هاء إذا أريد بها الصفة مثل حائض وحامل يعنى من شانها ان ترضع وإذا أريد به الفعل حالا يقال مرضعة عَمَّا أَرْضَعَتْ
ما موصولة أو مصدرية يعنى تدهش من هول تلك الزلزلة فتذهل عمن ترضعها وتنزع ثديها من فيه أو تذهل عن ارضاعها هذه الجملة خبر ثان لان والرابط ضمير ترونها أو تعليل بعظم شانها وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها(1/4274)
اى تسقط جنينها من هول تلك الزلزلة عطف على تذهل قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها يعنى فطام وتضع الحامل ما في بطنها من غير تمام وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
قال الحسن ترى الناس سكارى من الخوف وَما هُمْ بِسُكارى
من الشراب قرأ حمزة والكسائي سكرى وما هم بسكرى قال البغوي هما لغتان لجمع السكران قال البيضاوي وقرأ سكرى كعطشى اجراء للسكر مجرى العلل أفرد الضمير في ترى الناس بعد جمعه في ترونها لان الساعة يراها الجميع واثر السكر انما
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 251
يراه كل واحد على غيره وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(1/4275)
فارهقهم هوله بحيث طير عقولهم واذهب تميزهم استدراك لدفع توهم خفة الأمر الناشي عن نفى السكر قالوا هذه الآية تدل على ان هذه الزلزلة تكون في الدنيا لان بعد البعث لا يكون حبل ولارضاع ويرد عليه ان قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا اما خطاب للناس عامة واما للموجودين عند نز ول الآية خاصة وعلى كلا التقديرين كون زلزلة الساعة الّتي هى من شرائطها شديدة هائلة لا يصلح تعليلا للامر بالتقوى في حق المخاطبين لان شدتها وهولها لا تلحق الا بالموجودين عندها لا بجميع الناس ولا بالموجودين في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال ابن عباس رضى اللّه عنه زلزلة الساعة قيامها وذلك بعد نفخة البعث وقيام الناس من قبورهم واختاره الحليمي وغيره قالوا خرج هذه الآية مخرج المجاز والتمثيل لشدة الهول والفزع لا على الحقيقة نظيره قوله تعالى يوما يجعل الولدان شيبا ولا شيب فيه انما هو مجاز لشدة الهول واستدلوا على ذلك بما أخرجه احمد والترمذي وصححه عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت يا أيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله عذاب اللّه شديد قال أ تدرون اىّ يوم ذلك قالوا اللّه ورسوله اعلم قال يوم يقول اللّه لآدم ابعث بعث النار الحديث وقال البغوي روى عن عمران بن حصين وابى سعيد الخدري وغيرهما ان هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بنى المصطلق ليلا فنادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ عليهم فلم ير اكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس من بين باك أو جالس حزين متفكر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ تدرون يوم ذلك قالوا اللّه ورسوله اعلم قال ذلك يوم يقول اللّه عزّ وجلّ لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم من كل كم كم فيقول اللّه عزّ وجلّ من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار و(1/4276)
واحد إلى الجنة فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا فمن ينجو كما يا رسول اللّه فقال رسول اللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 252
صلى اللّه عليه وسلم بشروا وسدّدوا وقاربوا فان معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه يأجوج وماجوج ثم قال انى لارجو ان تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا اللّه ثم قال لارجو ان تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا اللّه ثم قال انى لارجو ان تكونوا ثلثى أهل الجنة وان أهل الجنة مائة وعشرين صفا ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار الا كالشامة في جنب البعير وكالرقمة في ذراع الدابة بل كالشرة السوداء في الثور الأبيض وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود ثم قال تدخل من أمتي سبعون الفا الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون الفا قال نعم ومع كل واحد سبعون الفا فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول اللّه ان يجعلنى اللّه منهم فقال صلى اللّه عليه وسلم أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال ادع اللّه ان يجعلنى منهم فقال صلى اللّه عليه وسلم سبقك بها عكاشة وأجاب اصحاب القول الأول ان هذا الحديث(1/4277)
لا يدل على ان الزلزلة تكون حين الأمر ببعث النار بل يكون ذلك اليوم والأمر متاخر عنها فكانه صلى اللّه عليه وسلم لما اخبر عن الزلزلة الّتي كانت متقدمة عن النفخة الاولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام وهو قوله لآدم البث بعث النار فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم ولا يقتضى ان يكون ذلك متصلا بالنفخة الاولى قلت وهذا الجواب ضعيف لان حديث أبى سعيد الّذي أخرجه الشيخان في الصحيحين عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ورد بلفظ يقول اللّه يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعون فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد قالوا يا رسول اللّه وأينا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج الف ثم قال والّذي نفسى بيده أرجو ان تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا نصف أهل الجنة فكبرنا قال ما أنتم في الناس الا كالشعرة السوداء في جلد ثور ابيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور اسود فان هذا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 253
الحديث صريح في اقتران مشيب الصغير ووضع ذات حمل حملها بالأمر ببعث النار بل تقدم البعث على الزلزلة.(1/4278)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أى في ذات اللّه وصفاته وأحكامه بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدال وكان يقول الملئكة بنات اللّه والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث واحياء من صار ترابا كذا أخرج ابن أبى خاتم عن أبى مالك وَيَتَّبِعُ فى المجادلة أو في عامة أحواله كُلَّ شَيْطانٍ اعترضه من الجن والانس مَرِيدٍ المرد النجرد العرى ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر والمريد والمارد بمعنى العاري من الخير المستقر في الشر وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرود أو مرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم أو عتا أو هو ان يبلغ الغاية الّتي تخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ومرده قطعه ومرّق عرضه وعلى الشيء مرن واستمر.
كُتِبَ أى قضى عَلَيْهِ أى على الشيطان أَنَّهُ أى الشان مَنْ تَوَلَّاهُ أى تبعه فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ان المفتوحة مع جملتها خبر لمبتدأ محذوف والجملة بعد الفاء جزاء لمن ان كانت شرطية وجوابه ان كانت موصولة والمعنى ان من تبع الشيطان فالامر ان الشيطان يضل تابعه عن سواء السبيل فلم ب؟؟؟ بل عليه وَيَهْدِيهِ أى يريه طريق النار أو يوصله إِلى عَذابِ السَّعِيرِ بالحمل إلى ما يوصله وقيل ضمير انه راجع إلى الشيطان ومن موصولة أو موصوفة مع صلتها أو صيغتها خبر لان والضمير المنصوب في تولاه راجع إلى التابع وألفا في فانه يضله للعطف على انه من تولاه والمعنى قضى على الشيطان انه نفس تولى تابعه أو الّذي تولى تابعه أى أحبه أو استولى عليه فقضى ان الشيطان يضله كذا قال الزجاج وجملة ومن الناس من يجادل في اللّه حال من فاعل اتقوا تقديره يا أيها الناس اتقوا ومنكم من يجادل ولم يتق ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة أو معترضة.(1/4279)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي فى شك مِنَ الْبَعْثِ أى من إمكانه وكونه مقدورا لنا فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ يعنى خلقنا جنسكم وهو شامل لمن يولد ومن يسقط لكونه مستعدا لان يصير إنسانا يعنى فانظروا في بدأ خلقكم فانه يزيل ريبكم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 254
فانا خلقناكم مِنْ تُرابٍ بخلق أبيكم آدم منه أو المعنى خلقناكم من الاغذية الّتي تنبت من التراب الّتي يتولد منها المنى ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أى منى مشتق من النطف بمعنى الصب ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ قطعة من اللحم وهى في الأصل قدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال ابن عباس أى تامة الخلق وغير تامة الخلق وقال مجاهد مصورة وغير مصورة وقيل المخلقة الولد يأتي به المرأة لوقته غير مخلقة السقط فالمراد بغير المخلقة على هذه الأقوال السقط وقيل المخلقة المسواة الّتي لا نقص فيها ولا عيب وغير المخلقة ما فيه نقص وعيب كانّ اللّه عزّ وجلّ يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلق أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوة تفاوة الناس في خلقتهم وصورهم وطولهم وقصرهم وكما لهم ونقصانهم فعلى هذا ليس المراد بغير المخلقة السقط فحينئذ لا حاجة إلى ما قلنا ان السقط من جنس الإنسان من حيث الاستعداد لكن الصحيح هو الأول والمراد بغير المخلقة السقط قال البغوي روى علقمة عن ابن مسعود قال ان النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال أى رب مخلقة أو غير مخلقة فان قال غير مخلقة قذفها الرحم دما ولم يكن نسمة وان قال مخلقة قال الملك اذكر أم أنثى أشقى أم سعيد ما الاجل ما العمل ما الرزق فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فانك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته لِنُبَيِّنَ لَكُمْ تتعلق بخلقناكم مقيدا بما ذكر يعنى لنبين ونظهر لكم بهذا التدريج(1/4280)
كمال قدرتنا وحكمتنا حتى تستدلوا به على البعث بان ما قبل التغير والفساد والتكون مرة في بدو الخلق يقبلها ثانيا عند الاعادة ومن قدر على تغييره وتصويره اولا قدر على ذلك ثانيا وحذف المفعول ايماء إلى ان أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته مالا يحيط به الذكر وقيل معناه لنبين لكم ما تأتونه وما تذرونه وما تحتاجون إليه في العبادة يعنى خلقناكم لاجل التكليف وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ حال بتقدير ونحن نقرأ وعطف على انا خلقناكم نعنى نثبت و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 255(1/4281)
نسكن في الأرحام فلا تمجه ولا تسقطه ما نَشاءُ أى مدة نشاء ان نقر فيه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى معلوم عند اللّه تعالى وهو وقت الخروج من الرحم مولود ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمّهاتكم طِفْلًا أى أطفالا صغارا حال من الضمير المنصوب في نخرجكم أجريت عليه بتأويل كل واحد أو الدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر ثُمَّ لِتَبْلُغُوا متعلق بمحذوف تقديره ثم نربيكم لتبلغوا أَشُدَّكُمْ جمع شدة كالغم جمع نعمة يعنى ليبلغوا كل شدة وكمال قدر لكم في القوة والعقل وغير ذلك قالوا وبلوغ الأشد ما بين ثلثين إلى أربعين سنة وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عند بلوغ الأشد أو قبله جملة معترضة أو حال أو معطوفة على ما سبق وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ بالهرم والخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً متعلق بيرد واللام للعاقبة يعنى حتى يعود إلى الهيئة الاولى الّتي كانت في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه قال عكرمة من قرأ القرآن لم يصير بهذه الحالة والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعترى الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة فان من قدر على ذلك قدر على نظائره وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أى ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وَرَبَتْ أى زادت وانتفخت قرأ أبو جعفر ربأت بالهمزة وكذلك في حم السجدة أى علت وارتفعت قال المبرد أراد اهتز وربا نباتها فحذف المضاف لان الاهتزاز في النبات اظهر وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من زائدة أى أنبتت كل صنف بَهِيجٍ أى حسن في القاموس البهيجة السرور بهج ككرم فهو بهج وهو مبهاج وكخجل فرح فهو بهيج وبهج وكمنع افرح وسرّكا بهج والابتهاج السرور و(1/4282)
جملة ترى الأرض عطف على انا خلقناكم أورد جملة فعلية ليدل على حدوث هذه الصفة مرة بعد اخرى فهذه دليل ثالث كررها اللّه تعالى في كتابه لظهوره وكونه مشاهدا.
ذلِكَ اشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على احوال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 256
متضادة ومن احياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أى بسبب ان اللّه هو الثابت المتحقق في نفسه الواجب وجوده الّذي به يتحقق الأشياء لو لاه لاستحال خروج الممكن من مخدع العدم وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى منه النطفة والأرض الموات وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لان قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى الكل سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على احياء بعض الأموات لزم اقتداره على كلها وإن كان عظما رميما.
وَأَنَّ السَّاعَةَ يعنى ساعة القراض الدنيا آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها فان التغير من مقدمات الانصرام وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الّذي لا يحتمل الخلف الجمل الثلث الأول منها لبيان العلة الفاعلية لخلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على احوال متضادة واحياء الأرض بعد موتها والجملتين الأخيرتين لبيان العلة الغائية أى ما هو بمنزلة العلة الغائية فان خلق الإنسان ونحوه لمعرفة اللّه سبحانه وحسن عبادته والا لكان إيجاده عبثا وخلق سائر الكائنات لتكون برهانا لمعرفة الديان ويترتب على وجوب المعرفة وجوب العبادة وعليه يترتب الجزاء إذ لو لا البعث والجزاء لزم التسوية بين المسلمين والمنكرين المجرمين فيختل امر العدل قال اللّه تعالى ا فنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أ فلا تذكرون.(1/4283)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ضرورى وَلا هُدىً أى استدلال يهدى إلى المعرفة وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ مظهر للحق منزل من اللّه تعالى على أحد من الناس فان اسباب العلم للانسان انما هو أحد هذه الأمور الثلاثة ثانِيَ عِطْفِهِ العطف الجانب والعطفان الجانبان يمينا وشمالا وهو الموضع الّذي يعطف الإنسان أى يلوى ويميله عند الاعراض قال مجاهد أى لاوى عنقه حاصل المعنى معرضا عما يدعى إليه من الحق تكبرا أو تبخترا كذا قال ابن عطية وابن زيد وابن جريح.
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ متعلق بيجادل قرأ ابن كثير وأبو عمر بفتح الياء من المجرد والباقون بضم الياء من الافعال يعنى يجادل حتى يضل غيره لَهُ فِي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 257
الدُّنْيا خِزْيٌ
و هو القتل والاسر فقتل نضر بن الحارث وعقبه بن أبى معيط يوم بدر صبر أو قتل معهما سبعون واسر سبعون وقال جلال الدين المحلى نزلت الآية في أبى جهل فقتل يوم بدر وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أى المحرق وهو النار.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ التفات من الغيبة إلى الخطاب أو التقدير ويقال لهم يوم القيمة إذا عذبوا ذلك العذاب بسبب ما فعلته من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أورد صيغة المبالغة نظرا إلى كثرة العبيد والجملة معطوفة على ما قدمت يداك ونفى الظلم كناية عن العدل كما ان عدم الحب في قوله تعالى لا يحب اللّه الجهر بالقول كناية عن البغض والعدل سبب لمجازاة الكفر والمعاصي بالتعذيب أخرج البخاري وابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن عباس قال كان الرجل يقدم المدينة فيسلم فان ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح وان لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء فانزل اللّه تعالى.(1/4284)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قال المفسرون معناه على شك من حرف الشيء وهو طرفه فالشاك والمنافق كأنَّه على طرف من الفريقين المؤمنين والكافرين قد يميل إلى هؤلاء وقد يميل إلى هؤلاء أو هو كالذى على طرف الجيش فان احسّ الظفر قرّ والا فرّ واخرج ابن أبى حاتم وكذا قال البغوي انها نزلت في يوم من الاعراب كانوا يقدمون المدينة والمهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهر أحسنا وولدت أمرته غلاما وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه وهو المعنى قوله تعالى فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أى بتعبد اللّه والإسلام وان صابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رهاكه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين الا شرا فينقلب عن دينه وهو المعنى لقوله تعالى وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ بلاء وشدة انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أى ارتد عن دينه ورجع على عقبه إلى الوجه الّذي كان عليه من الكفر واخرج ابن مردوية من طريق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 258
عطية عن أبى سعيد قال اسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشام بالإسلام فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أقلني فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ان الإسلام لا يقال « 1 » فقال لم أصب من دينى هذا خيرا ذهب بصرى ومالى ومات ولدي فنزلت الآية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا يهودى ان الإسلام يسبك الرجال كما يسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ يعنى هذا الّذي ارتد من الدين لاجل بلاء في الدنيا خسر الدنيا لفوات ماله وولده وما كان يؤمل ولذهاب عصمته وخسر الاخرة بالخلود في النار وحبط عمله ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ لا خسران مثله.(1/4285)
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ ان لم يعبده وَما لا يَنْفَعُهُ ان عبده ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق مستعار من ضل في التيه إذا ابعد عن الطريق المستقيم.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ اللام زائدة والمعنى يدعوا من ضره أى ضر عبادته هكذا قرأ ابن مسعود رضى اللّه عنه أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الموهوم الّذي يتوقعه الكافر بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى اللّه تعالى وهذا على عادة العرب فانهم يقولون لما لا يكون موجودا أصلا هذا شيء بعيد ونظيره قوله تعالى ذلك رجع بعيد أى لارجع أصلا ولما كان النفع من الصنم بعيدا بمعنى انه لا نفع فيه أصلا قيل ضره اقرب من نفعه لأنه كائن لا محالة قيل يدعوا من تتمة الكلام السابق تكرير لقوله يدعوا في قوله يدعوا من دون اللّه ما لا يضره وما لا ينفعه تأكيد لفظى له وما بعده كلام مستأنف واللام في لمن ضره جواب لقسم محذوف والموصول مع صلته مبتدأ خبره لَبِئْسَ الْمَوْلى أى الناصر وقيل المعبود وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أى الصاحب والمخالط يعنى الوثن والعرب يسمى الزوج عشيرا لأجل المخالطة والجملتان الزامتان مستانفتان على قراءة ابن مسعود وما في معناه وقيل اللام متعلقه ليدعوا من حيث انه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد أو يقال يدعو داخلة على الجملة الواقعة مقولا اجراء له محرى القول وعلى هذين التقديرين اللام جواب قسم محذوف ومن مع صلته _________
(1) من الا قالة أى لا ينبغى الإسلام ان يرجع عنه - مصحح سيد عفى عنه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 259(1/4286)
مبتدأ خبره لبئس المولى ولبئس العشير والمعنى يقول الكافر ذلك يوم القيمة حين يرى استضرار به وقيل تقدير الكلام يدعوا لمن ضره اقرب من نفعه يدعوا فحذف يدعوا الأخير احتزاء بالأول والمفعول ليدعوا الأول محذوف والموصول منصوب بيدعو الثاني واللام في لمن ضره جواب قسم محذوف وقيل اللام بمعنى ان.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ يعنى انه تعالى يريد اثابة المؤمن الصالح وعقاب المشرك ولا دافع لمراده ولا مانع لقضائه.(1/4287)
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أى محمدا صلى اللّه عليه وسلم الظن بمعنى الوهم يقتضى مفعولا واحدا وهو ان مع جملتها وإن كان الظن بمعناه فالجملة قائمة مقام المفعولين فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ هذا كلام فيه اختصار تقديره ان اللّه ناصر رسوله في الدنيا والاخرة فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه لاجل غيظه الرسول صلى اللّه عليه وسلم فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أى بحبل إِلَى السَّماءِ أى سماء بيته يعنى ليشدد حبلا في سقف بيته ثُمَّ لْيَقْطَعْ أى ليختنق من قطع إذا اختنق فان المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه يعنى يستعض في ازالة غيظه وليفعل كل ما يفعل الممتلى غيظا حتى يموت وهذا امر للتعجيز يقال للحاسد ان لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظا وقال ابن زيد المراد بالسماء السماء الدنيا والمعنى من كان يظن ان لن ينصر اللّه نبيه ويكيده في امره ليقطعه من أصله حتى يبلغ عنان السماء فيجتهد في دفع نصر اللّه إياه أو ليمدد بحبل إلى السماء الدنيا وليذهب السماء وليقطع الوحى الّذي يأتيه من السماء قال البغوي روى ان هذه الآية نزلت في اسد وغطفان دعاهم النبي صلى اللّه عليه إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف فقالوا لا يمكننا ان نسلم لانا نخاف ان لا ينصر اللّه محمدا ولا يظهر امره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا فنزلت هذه الآية وقال مجاهد النصر بمعنى الرزق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 260(1/4288)
يقول العرب من نصرنى نصره اللّه يعنى من اعطا في أعطاه اللّه وقال أبو عبيدة يقول العرب ارض منصورة أى ممطورة مرزوقة بالمطر والضمير المنصوب في ينصره راجع إلى الموصول والآية نزلت في من أساء الظن باللّه وخاف ان لا يرزقه والمعنى من كان ليظن ان لن يرزقه اللّه فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق ويمت غيظا على عدم ترزيقه أو ليمدد حبلا إلى السماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانا وليأت من هناك رزقه قرأ ورش وأبو عمرو ابن عامر ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بجزمها فَلْيَنْظُرْ فليتصور في نفسه بعد ارادة مد السبب وقطع المسافة أو الاختناق هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ يعنى هل يدفع فعله ذلك غيظه أو الّذي يغيظه من نصر اللّه سماه كيدا لأنه منتهى سعيه والاستفهام للانكار وجملة من كان يظن إلى آخرها تأكيد لقوله ان اللّه يفعل ما يريد يعنى كما ان غيظ الحاسد لا يدفع ما أراد اللّه تعالى من نصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والاخرة لا يدفع أحد شيئا مما أراد اللّه تعالى.
وَكَذلِكَ أى انزالا مثل ذلك الانزال أى مثل انزالنا الآيات الدالة على إمكان البعث والتوحيد وصدق الرسول والوعد بنصره أَنْزَلْناهُ أى القرآن كله حال كونه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به فلا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات لاختفاء المراد منها مع ظهور اعجازها وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ الجملة في محل الجر بلام التعليل معطوفة على محذوف متعلق بقوله أنزلناه يعنى أنزلناه لمصالح ولان يهدى به أو يثبت على الهدى من يريد اللّه هدايته أو ثباته على الهداية وجاز ان يكون في محل النصب عطفا على الضمير المنصوب في أنزلناه يعنى وأنزلنا ان اللّه يهدى من يريد.(1/4289)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعنى عبدة الأوثان إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالحكومة بينهم واظهار المحق منهم من المبطل أو بالجزاء فيجازى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 261
كلّا ما يليق به ويدخل فريقا في الجنة وفريقا في السعير ادخلت كلمة ان على كل واحد من طرفى الجملة لمزيد التأكيد ثم أكده بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ عالم به بمراقب لاحواله فلا يجوز ان يجعل المسلمين كالمجرمين ولا بمنزلة المحقق من المبطل مع كمال علمه بظواهر احوال كل وبواطنها ا لم تر يعنى الم تعلم.(1/4290)
أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس والجن يعنى المؤمنين منهم وكلمة من وان كان يعم المؤمن والكافر لكن خص منه الكافر بكلام مستقل وهو قوله تعالى وكثير حق عليهم العذاب فبقى المؤمنون مراد أو انما فسرت هكذا لان كلمة من لذوى العقول ولما عطف عليه قوله وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ فان حقيقة العطف للمغائرة وحمل البيضاوي كلمة من على العموم وقال من يجوز ان تعم اولى العقل وغيرهم أو على التغلب وقال اكثر المحققين ان من لا يعبر به عن غير الناطقين الا إذا جمع بينهم وبين غيرهم فعلى تقدير ارادة العموم قوله والشمس إلخ من قبيل عطف الخاص على العام أفردها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها والمراد بالسجود عند المحدثين والعلماء المتقدمين الطاعة الاختيارية فان الجمادات وان كانت أمواتا عندنا لكن لها حيوة ما وهى مطيعة طاعة اختيارية للّه تعالى قال اللّه تعالى قالتا اتينا طائعين وقال في وصف الحجارة وان منها لما يهبط من خشية اللّه وقال وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان الجبل ينادى الجبل يا فلان هل مرّ بك أحد يذكر اللّه رواه الطبراني من حديث ابن مسعود قال البغوي هذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مبتدأ وَكَثِيرٌ نكرير للاول تأكيدا ومبالغة في الكثرة وخبره حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ لعدم انخراطهم في الساجدين فهذا لجملة مخصصة بكلمة من مخرجة للكافرين من ان يرادوا بها وقيل كلمة من في قوله تعالى من في الأرض بمعنى ما للعموم والمراد بالسجود كون الممكنات كلها متسخرة لقدرته غير آبية
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 262(1/4291)
عن تدبيره دالة بذواتها على عظمة تدبرها وقوله وكثير من الناس مبتدأ خبره محذوف دل عليه خبر قسيمه يعنى حق لهم الثواب أو فاعل لفعل محذوف تقديره ويسجد له سجود طاعة أى بوضع الجبهة على الأرض كثير من الناس وعلى التقديرين قوله كثير من الناس جملة مستانفة وقوله كثير حق عليهم العذاب مستانفة اخرى ومن قال بجواز عموم المشترك يعنى استعمال لفظ واحد مشترك في المعنيين في كل واحد من مفهوميه معا واسناده باعتبار أحد المعنيين إلى امر وباعتبار المعنى الآخر إلى امر آخر قالوا قوله وكثير من الناس مفرد معطوف على ما سبق والمعنى يسجد له سجود التسخر جميع الكائنات وسجودا الطاعة كثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب لاجل ابائهم عن سجود الطاعة جملة مستانفة وجاز ان يكون مفردا معطوفا على الساجدين بالمعنى الأعم موصوفا بقوله حق عليهم العذاب وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ مبتدأ فيه معنى الشرط وخبره المتضمن بمعنى الجزاء قوله فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يعنى من يهينه اللّه بالشقاوة لا يكرمه أحد بالسعادة هذه الحملة معطوفة على الاسمية السابقة أو حال إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام والاهانة والسعادة والشقاوة مختصان بمشية اللّه تعالى.(1/4292)
هذانِ خَصْمانِ فوجان متخاصمان يعنى المؤمنون خصم والكافرون من الأنواع الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة اخْتَصَمُوا أورد صيغة الجمع حملا على المعنى فِي رَبِّهِمْ أى في دينه أو في ذاته وصفاته وامره روى الشيخان في الصحيحين عن أبى ذر قال نزلت قوله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم في حمزة وعبيدة وعلى بن أبى طالب رضى اللّه عنهم وعتبة وشيبة والوليد بن عتبه واخرج البخاري والحاكم عن على قال فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر واخرج الحاكم عنه بوجه آخر قال نزلت في الذين بارزوا يوم بدر على وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروى البغوي عن قيس بن عباد عن على بن أبى طالب قال انا أول من يحثوا بين يدى الرحمة للخصومة يوم القيمة قال قيس وفيهم نزلت هذه الآية وقال قيس هم الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلى وعبيدة وشيبه بن ربيعه وعتبه بن ربيعه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 263(1/4293)
و الوليد بن عتبه قال محمد بن إسحاق خرج يعنى يوم بدر عتبه بن ربيعه بين أخيه شيبه بن ربيعه وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا وصلوا إلى الصف دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلثة عوف ومعاذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد اللّه بن رواحه فقالوا من أنتم فقالوا رهط من الأنصار حين انتسبوا اكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا اكفائنا من قومنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قويا عبيدة بن الحارث يا حمزة بن عبد المطلب ويا على بن أبى طالب فلما دنوا قالوا من أنتم فذكروا قالوا نعم اكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علىّ الوليد بن عتبة فاما حمزة فلم يمهل ان قتل شيبة وعلىّ الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما اثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة « 1 » فدفعا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الست شهيدا قال بلى فقال عبيدة لو كان أبو طالب حيا لعلم انا أحق بما قال منه حيث يقول شعر
كذبتم وبيت اللّه يبزى « 2 » محمدا ولما نطاعن دونه ونناصل « 3 »
و نسلمه حتى نصرع حوله نذهل عن أبنائنا والحلائل
و أخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة ان الآية نزلت في المسلمين واهل الكتاب فقال أهل الكتاب نحن اولى باللّه منكم واقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق باللّه آمنا بنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ونبيكم وبما انزل اللّه من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا فهذا خصومتهم في ربهم وقال مجاهد وعطاء بن رباح الكلبي هم المؤمنون والكافرون من اىّ ملة كانوا وقال بعضهم جعل الأديان ستة في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية(1/4294)
_________
(1) دفغا عليه أى اسرعا قتله 12.
(2) على صيغة المجهول أراد لا يبزى حذف لا في جواب القسم وهى مراده أى لا يقهر ولا يغلب والبز بالزاء المعجمة الغلبة والقهر 12.
(3) التناصل الترامي بالسهام 12. [.....]
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 264(1/4295)
فجعل خمسة للنار وواحد للجنة فقوله هذان خصمان ينصرف إليهم فالمومنون خصم وسائر الخمسة خصم لان الكفر ملة واحدة ومبنى هذين القولين عموم اللفظ وسياق القصة ولا شك ان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب وقال عكرمه هما الجنة والنار اختصما روى الشيخان في الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار أو ثرت بالمتكبرين والمتبخترين وقالت الجنة فما لى لا يدخلنى الا ضعفاء الناس وسقطهم وعرّتهم « 1 » قال اللّه تعالى للجنة انما أنت رحمتى ارحم بك من أشاء من عبادى وقال للنار انما أنت عذابى أعذب بك من أشاء ولكل واحد منكما ملؤها فاما النار فلا تمتلى حتى يضع اللّه رجله تقول قط قط قط فهنالك تمتلى ويزوى « 2 » بعضها إلى بعض فلا يظلم اللّه من خلقه أحدا واما الجنة فان اللّه تعالى ينشأ لها خلقا فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل لخصومتهم وهو المعنى لقوله تعالى ان اللّه يفصل بينهم يوم القيمة قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أى قدرت لهم على مقادير حيثيتهم قال سعيد بن جبير ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمى أشد حرا منه وتسمى باسم الثياب لانها تحيط بأبدانهم كاحاطة الثياب وقال بعضهم يلبس أهل النار مقطعات من النار روى احمد بسند حسن عن جويرية قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا البسه اللّه يوم القيمة ثوبا من نار واخرج والبزار وابن أبى حاتم والبيهقي بسند صحيح عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسجها من بعده وذريته من بعده وهو ينادى يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقال لهم لا تدعوا ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا واخرج أبو نعيم عن وهب بن منبه قال كسى أهل النار والعرى كان خيرا لهم واعطوا الحيوة والموت كان خيرا لهم واخرج عن ابى(1/4296)
مالك الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال النائحة إذا لم تيت قبل موتها تقام يوم القيمة وعليها سربال من قطران
_________
(1) عرّة جمع عرير وهو الفقير تتعرض للسوال من غير طلب ومنه المعتر 12.
(2) أى تجتمع وتنصرف 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 265
و درع من جرب رواه ابن ماجه بلفظ ان النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ حال من الضمير في لهم أو خبر ثان والحميم الماء الحار الّذي انتهى حرارته.
يُصْهَرُ بِهِ أى يذاب بذلك الحميم المنصب من فوقهم رؤسهم ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم والاحشاء وَالْجُلُودُ ويصهربه الجلود يعنى يؤثّر حرارته في بواطنهم كما يوثر في ظواهرهم والجملة حال من الحميم أو من ضميرهم أخرج الترمذي وحسنه عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان الحميم ليصب على روسهم فينفذ الحميم حتى تخلص إلى جوفه فيسيل ما في جوفه ثم يهراق من بين قدميه وهو الصهر ثم يعادكما كان.
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أى يكف بعنف قال الليث المقمعة شبه الجرز وهو بالفارسية گرز بالكاف الفارسي قال البغوي هو من قولهم قمعت راسه إذا ضربته ضربا عنيفا والجملة حال من الضمير المجرور في بطونهم أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس في هذه الآية انه قال يضربون بها أى بالمقامع فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور واخرج احمد وأبو يعلى وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال لو ان مقمعا من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما اقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتعثت ثم عادكما كان.(1/4297)
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أى من النار من غم وكرب يلحقهم بانفاسهم بسبب النار بدل اشتمال من الضمير المجرور باعادة الجار أُعِيدُوا فِيها تقديره كلما أرادوا ان يخرجوا منها فخرجوا منها عيدوا فيها لان الاعادة لا يكون الا بعد الخروج والجملة الشرطية اعنى كلما أرادوا إلى آخرها صفة لمقامع والرابط محذوف أى أعيدوا بها فيها واخرج ابن أبى حاتم عن الفضيل بن عياض في الآية انه قال واللّه ما طمعوا في الخروج لان الأرجل مقيدة موبقة ولكن يرفعهم لهها وتردهم مقامعها قلت لعل المراد بقوله أرادوا ان يخرجوا منها انهم يزعمون حين يرفعهم لهبها ان يقعوا خارج النار ولا يكون كذلك بل يردهم مقامعها و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 266
اخرج البيهقي عن أبى صالح قال إذا القى الرجل في النار لم يكن له منتهى حتى يبلغ قعرها ثم تحيش به جهنم فترفعه إلى أعلى جهلم وما على عظامه مضغة لحم فتضرب الملئكة بالمقامع فيهوى بهم إلى قعرها فلا يزال كذلك وذكر البغوي ان في التفسير ان جهنم لتحيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فيضربهم الزبانية بمقامع الحديد منهون وفيها سبعون خريفا وَذُوقُوا هذه الجملة معطوفة على أعيدوا بتقدير وقبل لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ أى النار المحرقة البالغة في الإحراق فعيل بمعنى الفاعل كالاليم بمعنى المولم والوجيع بمعنى الوجع قال الزجاج هؤلاء يعنى الذين مر ذكرهم في تلك الآيات أحد الخصمين وقال في الآخر.(1/4298)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى اللّه تعالى وأكده بان احماد الحال المؤمنين وتعظيما لشانهم يُحَلَّوْنَ من حليت المرأة إذا ألبست الحلي حال من الموصول فِيها أى في الجنة مِنْ أَساوِرَ جمع اسورة وهو جمع سوار صفة لمفعول محذوف يعنى يحلون حليا كائنا من أساور مِنْ ذَهَبٍ بيان له وَلُؤْلُؤاً معطوف على أساور على قرأة نافع وعاصم بالنصب هاهنا وفي سورة فاطر حملا على محل أساور أو بإضمار الناصب يعنى ويؤتون لؤلؤا والباقون بالجر حملا على لفظة أساور أو عطفا على ذهب قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من أهل الجنة الا وفي يده ثلث اسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ قلت والالف المكتوب في الرسم بعد الواو يؤيد النصب وقال أبو عمرو اثبتوا الالف كما اثبتوا في قالوا وكانوا وقال الكسائي الف صورة الهمزة وترك أبو بكر وأبو عمرو إذا خفف الهمزة الاولى من لؤلؤ واللؤلؤ في جميع القرآن وحمزة إذا وقف سهل الهمزتين على أصله وهشام يسهل الثانية في غير النصب على أصله والباقون يحققونهما أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى سعيد الخدري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قوله تعالى جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير فقال عليهم التيجان ان ادنى لؤلؤ منها ليضىء ما بين المشرق والمغرب واخرج الطبراني الأوسط والبيهقي بسند حسن عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 267(1/4299)
صلى اللّه عليه وسلم لو ان ادنى أهل الجنة حليه عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه اللّه تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا واخرج أبو شيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال ان اللّه تعالى ملكا يصوغ حلى أهل الجنة من يوم حلقه إلى ان تقوم الساعة ولو ان حليا أخرج من حلى أهل الجنة لذهب بضوء الشمس واخرج الشيخان في الصحيحين عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء واخرج في الزهد من طريق عمران بن خالد عمن أدرك اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم انهم قالوا من ترك لبس الذهب وهو يقدر عليه البسه اللّه إياه في حظيره القدس ومن ترك الخمر وهو يقدر عليه سقاه اللّه إياه من حظير القدس واخرج النسائي والحاكم عن عقبة بن عامر رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يمنع أهل الحلية والحرير ويقول ان كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوها في الدنيا وعن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ حال من فاعل يحلون أو عطف عليه وغيّر اسلوب الكلام للدلالة على ان الحرير لباسهم المعتاد أو للمحافظة على رؤس الآي أخرج البزار وأبو يعلى والطبراني من حديث جابر بسند صحيح عن أبى الخير مرثد بن عبد اللّه قال في الجنة شجرة تنبت السندس يكون ثياب أهل الجنة وروى النسائي والطيالسي والبزار والبيهقي بسند جيد عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنشق عنها يعنى ثياب أهل الجنة ثمر الجنة مرتين واخرج ابن المبارك عن أبى هريرة قال ان دار المؤمن درة مجوفة فيها أربعين بيتا في وسطها شجرة تنبت الجلل فيذهب فياخذ بإصبعه سبعين حلة منظم باللؤلؤ والزبرجد والمرجان - فصل واخرج الشيخان عن حذيفة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تلبسوا(1/4300)
الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة واخرج الشيخان عن عمر رضى اللّه عنه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة واخرج مثله من حديث انس والزبير واخرج النسائي والحاكم عن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 268
لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم
يشرب بها في الآخرة واخرج الطيالسي بسند صحيح والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وان دخل الجنة لم يلبسه واخرج ابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا عن أبى امامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما منكم من أحد الا انطلق به إلى طوبى فيفتح له أكمامها فياخذ من أى ذلك شاء ان شاء ابيض وان شاء احمر وان شاء اخضر وان شاء اصفر وان شاء اسود مثل شقاق النعمان وارق واحسن واخرج أيضا عن كعب قال لو ان ثوبا من ثياب الجنة لبس في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم واخرج الصابوني في المائتن عن عكرمة قال ان الرجل من أهل الجنة ليلبس الحلة فتكون من ساعته سبعون لونا واخرج مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من يدخل الجنة فنعم فيها لا يباس ولابتلى ثيابه ولا يفنى شبابه.(1/4301)
وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ حال بتقدير قد من الموصول المفعول ليدخل يعنى والحال انهم قد هدوا في الدنيا إلى الطيب من القول يعنى شهادة ان لا اله الا اللّه واللّه اكبر والحمد للّه كذا قال ابن عباس وقال السدى يعنى هدوا إلى القرآن وقيل الماضي هاهنا بمعنى المستقبل يعنى ويهدون في الجنة إلى الطيب من القول وهو قولهم الحمد للّه الّذي صدقنا وعده وَهُدُوا أى قد هدوا في الدنيا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أى إلى دين اللّه وهو الإسلام والحميد هو اللّه المستحق للحمد لذاته أو المعنى ويهدون إلى صراط الجنة الّتي هى الحميد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى يمنعون الناس من ان يدخلوا في دين الإسلام لا يريد بالمضارع حالا ولا استقبالا وانما يريد استمرار الصدّ كقولهم فلان يعطى ويمنع ولذلك حسن عطفه على الماضي وقيل هو حال من فاعل كفروا وخبر ان محذوف دل عليه اخر الآية ان نذقه من عذاب اليم وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل اللّه أو على اسم اللّه والمراد بالمسجد الحرام المسجد خاصة عند الشافعي وعند أبى حنيفة رحمه اللّه الحرم كله كما في قوله تعالى سبحان الّذي اسرى بعبده ليلا من المسجد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 269(1/4302)
الحرام على ما قيل ان الاسراء من بيت أم هانى اطلق المسجد على الحرم كله لان الغرض الأصلي من عمران مكة اقام الصلاة قال اللّه تعالى حكاية لقول ابراهيم عليه السّلام رب انى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى ذرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة وقد فسر الشافعي رحمه اللّه المسجد الحرام في قوله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا بالحرم حيث قال يمنع الكفار مطلقا عن دخول الحرم بهذه الآية وقد ذكرنا الكلام عليه في سورة التوبة ويؤيد ارادة الحرم قوله تعالى الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قرأ ابن كثير بإثبات الياء في الحالين وورش وأبو بكر في الوصل فقط وقرأ حفص سواء بالنصب على انه مفعول ثان لجعلنا وللناس ظرف لغو أو حال من الضمير المستكن في للناس وللناس مفعول ثان والعاكف مرفوع به وقرأ الباقون سواء بالرفع على ان العاكف مبتدأ وسواء خبره مقدم عليه أو سواء مبتدأ من قبيل الصفة والعاكف فاعل له والجملة مفعول ثان لجعلناه وللناس حال من الهاء أو ظرف لغو وجاز ان يكون للناس مفعولا ثانيا والجملة بيان لما سبق يعنى جعلناه للناس بحيث مستوفيه المقيم والبادي أى المسافر المنسوب إلى البدو وقال في القاموس البدو والبادية والبداوة والبداة خلاف الحضر يعنى ليس أحدا حق بالمنزل فيه من غيره فمن سبق إلى مكان منه لا يجوز لغيره ان يزعجه كذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوهما سواء في البيوت والمنازل وقال عبد الرحمن بن سابط كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ينهى الناس ان يغلقوا أبوابهم في الموسم كذا قال البغوي قلت روى اثر عمر عبد الرحمن بن عبد بن حميد عن نافع عن ابن عمر عنه وعن عمر بن الخطاب ان رجلا قال له عند المروة يا امير المؤمنين اقطع مكانا لى فاعقب « 1 » واعرض(1/4303)
عنه وقال هو حرم اللّه سواء العاكف فيه والباد (ازالة الخفا) وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد ان عمر قال يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء وقال عبد الرزاق عن ابن جريح كان عطا ينهى عن الكراء في الحرم وأخبرني ان عمر نهى ان يبوب دور مكة
_________
(1) هكذا في الأصل ولعله تصحيف والصواب فاعقب واعرض - 12 مصحح سيّد حسن عفى عنه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 270(1/4304)
لان الحاج في عرصاتها فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر لذلك لعمر فان قيل صح عن عمر انه اشترى دارا بمكة للسجن باربعة آلاف درهم رواه البيهقي وكذا روى البيهقي عن ابن الزبير انه اشترى حجرة سورة وعن حكيم بن خرام انه باع دار الندوة وعن عمر انه اشترى الدور من أهلها حتى وسع المسجد وكذلك عن عثمان قال وكان الصحابة في رباط متوافرين ولم ينقل انكار ذلك قلت يحمل تلك الآثار على بيع بنائها فان البناء ملك للبانى لا محالة وانما المنهي بيع الأرض ومن هاهنا قال أبو حنيفة واحمد في أصح الروايتين عنه لا يجوز بيع رباع مكة ولا اجارة دورها فان ارض الحرم عتيق غير مملوك لاحد قال اللّه تعالى ثم محلها إلى البيت العتيق ولا شك ان المراد بالبيت العتيق ارض الحرم كله لاختصاص ارض الحرم بذبح الهدايا والقول بان المعنى ثم محلها إلى مكان يقرب منه البيت العتيق تكلف وتقديره بلا ضرورة وكذا قال مالك لكن مبنى قوله ان مكة فتحت عنوة وكل بلدة فتحت عنوة فهى وقف لا يجوز بيع اراضيها وقال الشافعي بيع دود مكة وإجارتها جائزة وهى مملوكة لاهلها وبه قال الحسن وطاؤس وعمرو بن دينار وجماعة والمراد بالمسجد الحرام في الآية نفسه ومعنى الآية جعلناه للناس قبلة لصلواتهم ومنسكا متعبدا بحيث مستوفيه العاكف والبادي في تعظيم الكعبة وفضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت قلنا سياق الآية يقتضى اختصاص تسوية العاكف والبادي بالمسجد الحرام مع ان المساجد كلها بهذه المثابة العاكف والبادي في جميع المساجد سواء يجب على كل أحد تعظيم كل مسجد وكل مسجد يستوى فيه ثواب الصلاة والطاعة لجميع الناس لا يختلف باختلاف الحضر والسفر قال البغوي قال مجاهد وجماعة مثل ما قال الشافعي قلت بل المروي عن مجاهد مثل قول أبى حنيفة رح روى الطحاوي من طريق ابراهيم بن مهاجر عن مجاهد انه قال مكة مباح لا يحل بيع رباعها ولا اجارة بيوتها و(1/4305)
روى عبد الرزاق من طريق ابراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها ومن الحجة لقولنا هذا ما رواه محمد في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن عبد اللّه بن أبى زياد عن أبى نجيح عن ابن عمر عن النبي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 271
صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها وكذا روى ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن أبى حنيفة بذلك السند مرفوعا بلفظ مكة حرام وحرام رباعها حرام أحر بيوتها فان قيل قال الدار قطنى وهم فيه أبو حنيفة رح والصحيح انه موقوف دعوى الوهم على أبى حنيفة رح شهادة على النفي فلا يقبل وهو ثقة والرفع من الثقة مقبولة وروى محمد بذلك السند مرفوعا من أكل من أجور بيوت مكة شيئا فانما يأكل نارا ورواه الدار قطنى بسنده عن اسمعيل بن ابراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عبد اللّه بن باباه عن عبد بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة مباح لا يباع رباعها ولا يوجر بيوتها قلت اسمعيل بن ابراهيم ضعفه يحيى والنسائي وأبوه ابراهيم بن مهاجر ب ن جابر البجلي ضعفه البخاري وقال أبو حاتم منكر الحديث وقال ابن المديني والنسائي ليس بالقوى لكن قال سفيان واحمد ويحيى بن معين وابن مهدى لا بأس به وقال أبو بكر البيهقي الصحيح ان هذا الحديث موقوف وروى ابن الجوزي بسنده عن سعيد بن منصور قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان مكة حرام حرمها اللّه عزّ وجلّ لا يحل بيع رباعها ولا اجر بيوتها وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة احتج الخصم بقوله تعالى الذين اخرجوا من ديارهم وقوله صلى اللّه عليه وسلم من دخل دار أبى سفيان فهو آمن قاله يوم فتح مكة وجه الاحتجاج ان الاضافة تدل على الملك قالوا ولو كانت الدور غير مملوكة لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج عنها والجواب ان الاضافة للسكنى أو للبناء يقال مسجد النبي(1/4306)
صلى اللّه عليه وسلم ومسجد بنى فلان وكون الإخراج ظلما لا يدل على انهم اخرجوا عن ديار مملوكة لهم لتحقق الظلم
بإخراجهم عن المسجد الحرام الّذي جعل اللّه للناس كلهم فيه سواء ومن اظلم ممن منع مساجد اللّه ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها وأقوى حججهم في الباب حديث اسامة بن زيد قال قلت يا رسول اللّه اين تنزل غذا في حجته فقال هل ترك عقيل منزلا قال نحن نازلون غدا إنشاء اللّه نجيف بنى كنانه ثم قال لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر متفق عليه وروى ابن الجوزي هذا الحديث قال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 272(1/4307)
اسامة يا رسول اللّه أ تنزل دارك بمكة قال وهل ترك عقيل من رباع أو دور قال الزهري وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علىّ شيئا كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين يعنى حتى مات أبو طالب قال الحافظ وفي رواية محمد بن أبى حفصه قال في آخره ويقال ان الدار الّتي أشار إليها النبي صلى اللّه عليه وسلم كانت دار هاشم بن عبد مناف ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمّر ثم صار للنبى صلى اللّه عليه وسلم حق أبيه عبد اللّه وفيها ولد النبي صلى اللّه عليه وسلم وان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما وباعتبار ترك النبي صلى اللّه عليه وسلم حقه منها بالهجرة وقتل طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها وروى الفاكهاني ان عقيلا لم يبع الدار وقال ان الدار لم يزل بيد أولاد عقيل إلى ان باعوا لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمأته الف دينار والجواب ان بيع عقيل الدار كافر الا يكون حجة على جواز البيع وتاويل الحديث عندى ان الدار لعلها كانت مشغولة بحوائج عقيل ان لم يبع وبحوائج المشترى ان باع فالنبى صلى اللّه عليه وسلم لم يجدها خالية يسكن فيها ولذا قال وهل ترك لنا عقيل منزلا أى منزلا خاليا فحينئذ قول الراوي كان عقيل ورث أبا طالب وشبهه مبنى على زعمه وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر لعله واقعة حال آخر فضم الراوي الحديثين زعما منه ان قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر هو الباعث على قوله صلى اللّه عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل منزلا فحينئذ قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر كلام مستانف فلا حجة في الحديث على كون رباع مكة مملوكة ولو سلمنا ان الحديث تدل على كون رباع مكة جائز البيع فنقول ان ما ذكرنا من(1/4308)
الأحاديث الّتي تدل على حرمة بيعها نص في الحرمة يدل بالعبارة وهذا الحديث يدل على اباحة البيع بالاشارة فدلالة ما روينا اولى أقوى ثم لو سلمنا التعارض فعند التعارض يجب تقديم المحرم على المبيح ولذلك قال أبو حنيفة بالكراهة تحريما على أصله ولو كان حصة عبد اللّه للنبى صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 273
فلا يتصور ان يصل تلك الحصة إلى عقيل الا بالاستيلاء كما هو مذهب أبى حنيفة ان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء ولم يقل به الشافعي ولو ملك بالاستيلاء فلا معنى لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا الحديث لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر ولو كانت كلها لابى طالب فلا يتصور كونها للنبى صلى اللّه عليه وسلم ولو فرضنا كون أبى طالب مسلما لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن من ورثة أبى طالب فعلى كل من التقادير يجب صرف قوله صلى اللّه عليه وسلم هل ترك لنا عقيل منزلا عن ظاهره فما ذكرت من التأويل اولى وكيف لا يكون التأويل ما ذكرت فانا لو سلمنا ان عليا وجعفر الم يرثا أبا طالب وانما ورثه عقيل فالنبى صلى اللّه عليه وسلم كان له ان ينزل في على وجعفر عارية كما كان له ان ينزل في ملك عقيل عارية وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أى في المسجد الحرام سواء كان المراد منه المسجد أو الحرم كله على القولين بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ وقيل الحاد في محل النصب على المفعولية والباء زائدة كما قوله تعالى تنبت بالدهن وقول الأعمش ضمنت برزق عيالنا ارماحنا وبظلم ظرف لغو متعلق بيرد أو ظرف مستقر صفة لالحاد أو حال من فاعل يرد وقيل(1/4309)
مفعول يرد محذوف يتناول كل متناول تقديره من يرد قولا أو فعلا فعلى هذا قوله بإلحاد بظلم حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول باعادة الجار أو صلة له أى يلحد بسبب الظلم أى بان ارتكب منهيا ولو شتم الخادم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جواب لمن روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابغض الناس إلى اللّه ثلثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرأ بغير حق ليهريق دمه وروى الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل ورزين في كتابه عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة لعنتهم لعنهم اللّه وكل نبى مجاب الزائد في كتاب والمكذب بقدر اللّه والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل اللّه ويذل بذلك من أعز اللّه والمستحل لحرم اللّه والمستحل من عترتى ما حرم اللّه والتارك لسنتى وروى الحاكم عن على مرفوعا نحوه وهذان الحديثان يشعر ان بان المراد بالمسجد الحرام
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 274(1/4310)
الحرم فان استحلال الحرم والإلحاد فيه حرام مسجدا كان أو غيره والإلحاد في اللغة الميل والعدول عن قصد السبيل والمراد هاهنا على قول مجاهد وقتادة هو الشرك وعبادة غير اللّه وقال قوم هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم وقال عطاء هو دخول الحرم غير محرم أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد أو قطع شجر وقال ابن عباس هو ان تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك وهذا معنى قول الضحاك وعن مجاهد تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقال حبيب بن أبى ثابت احتكار الطعام بمكة وقال عبد اللّه بن مسعود في قوله من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم قالوا ان رجلا همّ بخطيئة لم يكتب عليه ما لم يعملها ولو ان رجلاهمّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أو ببلد اخر اذاقه اللّه من عذاب اليم قال السدى الا ان يتوب وروى عن عبد اللّه بن عمر وانه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد ان يعاتب اهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث ان من الإلحاد فيه ان يقول الرجل كلا واللّه وبلى واللّه.(1/4311)
وَ اذكر إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ أى عينا وجعلنا له مَكانَ الْبَيْتِ مبوأ أى منزلا كذا قال الزجاج وقيل اللام زائدة ومكان ظرف والمعنى وإذ أنزلناه فيه قال في القاموس بواه منزلا وفيه أنزله والمبأة المنزل وانما ذكر مكان البيت لان الكعبة رفعت إلى السماء من الطوفان ثم لما امر اللّه تعالى ابراهيم عليه السّلام ببناء البيت لم يدر اين يبنى فبعث اللّه ريحه خجوجا « 1 » فنكست له ما حول البيت عن الأساس كذا قال البغوي واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي في الدلائل عن السدى بعث اللّه ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فنكست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول وقال البغوي قال الكلبي بعث اللّه سبحانه بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها راس يتكلم يا ابراهيم ابن على قدرى فبنى عليه أَنْ لا تُشْرِكْ ان مصدرية متعلق بفعل محذوف أى عهدنا إلى ابراهيم ان لا تشرك أو المعنى فعلنا ذلك لان
_________
(1) خجوجا أى شديدة الروح وغير استواء 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 275(1/4312)
لا تشرك أو مفسرة لبوأنا لاجل تضمنه معنى تعبد إذ التبوية لاجل التعبد والتعبد تشتمل الأمر والنهى فهو بمعنى القول بِي أى بعبادتي شَيْئاً وَطَهِّرْ من الأوثان والاقذار بَيْتِيَ قرأ نافع وحفص وهشام بفتح الياء والباقون بإسكانها أضاف البيت إلى نفسه تشريفا ولكونه مهبطا لتجليات مخصوصة به قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه ان الكعبة بيت اللّه مع كونها متجسدا مرئيا لها شبه بما لا كيف له لان جدرانها وتراب ارضه إلى الثرى ليست قبلة الا ترى انه لوازيل عن ذلك المكان جدرانها وترابها ونقلت إلى مكان آخر فالقبلة ذلك المكان لا المكان الّذي نقلت إليه جدرانها وترابها ولو بنى ذلك المكان بجدر ان اخر ونقل إلى ذلك ونقل إلى ذلك المكان تراب آخر فهو كذلك قبلة فعلم ان القبلة امر لا كيف لها وينهبط هناك تجليات غير متكيفة يدركها من يدركها لِلطَّائِفِينَ أى الذين يطوفون حوله وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ جمع راكع وساجد ذكرهما بغير العاطف فان المراد به المصلين ولان الركوع بلا سجود لم يعرف في الشرع عبادة وعبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على ان كل واحد منها مستقل باقتضاء الطهارة وقالت الروافض ان الطهارة في الصلاة انما يشترط في السجود لموضع الجبهة لا غير.(1/4313)
وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أى أعلمهم وناد فيهم بِالْحَجِّ الظاهر انه عطف على طهر ذكر البغوي واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس نحوه ان ابراهيم عليه السّلام حين امر به قال وما يبلغ صوتى قال اللّه تعالى عليك الاذان وعلينا الإبلاغ فقام ابراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صاركا طول الجبال فادخل إصبعيه في اذنيه واقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وقال يا أيها الناس ان ربكم قد بنى بيتا كتب عليكم الحج إلى البيت فاجيبوا ربكم فاجابه كل من يحج من اصل الإماء وأرحام الأمهات لبيك اللّهم لبيك قال ابن عباس فاول من اجابه أهل اليمن فهم اكثر الناس حجا وروى ان ابراهيم صعد أبا قبيس ونادى وقال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة قال البغوي وزعم الحسن ان قوله تعالى واذن في الناس بالحج كلام مستانف والمخاطب النبي صلى اللّه عليه وسلم امر ان يفعل ذلك في حجة الوداع
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 276(1/4314)
عن أبى هريرة قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا رواه مسلم وروى احمد والنسائي والدارمي عن ابن عباس نحوه يَأْتُوكَ يعنى يأتون حاجين لندائك بالحج - مجزوم في جواب الأمر والمعنى ان توذن يأتوك رِجالًا أى مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام ونائم ونيام وهذا اخبار عن الواقع وليس فيه إيجاب الحج على من لم يجد الراحلة فليس فيه حجة لداؤد ولا لممالك وقد ذكرنا خلافهما في اشتراط الزاد والراحلة في مسئلة كون الحج فريضة وما يشترط للفرضية في سورة آل عمران في تفسير قوله تعالى وللّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا مسئلة الأفضل عند أبى حنيفة رحمه اللّه لمن يقدر على المشي ان بحج ماشيا لان اللّه سبحانه قدم ذكر الإتيان راجلا على الإتيان راكبا ولان المشقة في المشي أشد والخضوع والتواضع فيه اكثر لأنه صلى اللّه عليه وسلم أوجب على من نذر الحج ماشيا والهدى بفواته فعلم ان المشي في الحج طاعة وأدناها الندب وقال بعض العلماء الحج راكبا أفضل لان بالمشي في الحج يختل كثير من العبادات ولا رهبانية في الدين وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أى وركبانا على كل ضامر أى بعير مهزول أتعبه بعد السفر فصار مهزولا أخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا لا يركبون فانزل اللّه تعالى يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فامرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر يَأْتِينَ صفة لضامر محمولة على معناه حيث أضيف إليه لفظ كل أو صفة لكل والتأنيث حينئذ أيضا بالنظر إلى المعنى يغنى يأتوك على كل ضامر يأتين إلى مكة مركوبا لان يحج مِنْ كُلِّ فَجٍّ أى طريق عَمِيقٍ أى بعيد.(1/4315)
لِيَشْهَدُوا متعلق بأذّن أو بيأتوك أى ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ دينية أو دنيوية وتنكيرها لان المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة قال محمد بن على بن الحسين بن على الباقر عليهم السّلام وسعيد بن المسيب المراد بها العفو والمغفرة وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حج للّه فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه متفق عليه وقال سعيد بن جبير المراد بها التجارة وهى رواية عن زيد عن ابن عباس حيث قال الأسواق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 277(1/4316)
و قال مجاهد التجارة وما يرضى اللّه به من امر الدنيا والآخرة وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كنى بالذكر عن الذبح والنحر لاشتراطه في حل الذبائح وتنبيها على انه المقصود مما يتقرب به إلى اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ يعنى عشر ذى الحجة وهو قول اكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل كون وقت الحج في آخرها وروى عن على رضى اللّه عنه انها يوم النحر وثلثة ايام بعده وفي رواية عطاء عن ابن عباس انها يوم عرفة والنحر وايام التشريق وقال مقاتل المعلومات التشريق عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعنى الهدايا والضحايا واجبة كانت أو مستحبة لاطلاق النص علق الفعل بالمرزوق بينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر احتج الشافعي بهذه الآية على انه لا يجوز ذبح شيء من الهدايا غير دم الإحصار الا يوم النحر وثلثة ايام بعده قلنا هذا القيد خرجت مخرج العادة ونحن لا نقول بالمفهوم وفي تفسير الآية اختلاف كما ذكرنا والحجة لنا على عدم اشتراط يوم النحر وايام التشريق في هدى التطوع والنذر والكفارة ما صح انه صلى اللّه عليه وسلم ساق عام الحديبية سبعين بدنة يريد العمرة وكان ذلك في ذى القعدة ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد المقام بمكة إلى يوم النحر وهذا صريح في جواز نحر هدى التطوع في ذى القعدة وإذا ثبت كون النحر فيما عدا يوم النحر طاعة وكل طاعة مقصورة يكون واجبا بالنذر فثبت جواز نحر الهدى المنذور أيضا في غير ايام النحر وكذا دم جزاء الصيد والكفارات لا يختص عندنا بيوم النحر لان الكفارة لا يكون الا عبادة فإذا ثبت كونه عبادة جاز جعله كفارة وقد قال اللّه تعالى في جزاء الصيد هديا بالع الكعبة من غير تقييد بيوم النحر ولا يجوز قيد في كتاب اللّه إذ هو في معنى النسخ لكن دم القرآن والتمتع مختصان بيوم النحر وكذا دم الإحصار عند أبى حنيفة(1/4317)
خلافا لابى يوسف ومحمد وقد مرت المسألتين في سورة البقر في تفسير قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة للّه فان أحصرتم فما استيسر من الهدى إلى قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فَكُلُوا مِنْها امر استحباب وليس للوجوب اجماعا و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 278
قال الشافعي امر بالاباحة وانما قال اللّه تعالى ذلك لان أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم مسئلة اتفق العلماء على ان الهدى إذا كان تطوعا لا يجوز للمهدى ان يأكل منه لحديث طويل لجابر بن عبد اللّه في قصة الوداع وفيه وقدم على ببدن من اليمن وساق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلثا وستين بدنة بيده ثم اعطى عليا فنحر ما غبروا شر له في هديه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها وشربا من مرقها رواه مسلم وهذا الحديث دليل على استحباب الاكل من الهدى إذ لو لم يكن الاكل من هديه مستحبا لما امر ان يجعل من كل بدنة بضعة بل يكفيه لحم من واحدة - مسئلة واتفقوا على عدم جواز الاكل من جزاء الصيد ولعله لاجل ان جزاء الصيد بدل من الصيد قال اللّه تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وقد ذكرنا بيان المماثلة من حيث الصورة أو من حيث القيمة في تفسير سورة المائدة ولما كان الصيد عليه حراما كان بدله حراما مثله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاتل اللّه اليهود ان اللّه لما حرم عليهم الشحوم أجمعوه ثم باعوه وأكلوا عنه متفق عليه من حديث جابر وكذا لا يجوز الاكل من الدم المنذور عند الجمهور خلافا لمالك ح وكذا لا يجوز عند(1/4318)
الجمهور الاكل من الدماء الواجبة بالجنايات والواجب بإفساد الحج وفي رواية عن احمد واليه ذهب اسحق انه لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك كذا ذكر البخاري عن ابن عمر معلقا والحجة لتحريم الاكل من دماء النذر وكفارات الجنايات القياس على حرمة الاكل من جزاء الصيد وهى مجمع عليها والجامع انها دماء كفارات فلا بد من تسليمها بجميع اجزائها إلى مستحقها لكن قياس المنذور على جزاء الصيد غير صحيح الا ان يقال ان لنذر يقتضى تسليم المنذور بجميع اجزائه - مسئلة واتفقوا على جواز الاكل من الأضاحي اما على قول أبى حنيفة فلانه دم نسك وقد صح قوله صلى اللّه عليه وسلم في الضحى يأكلوا وأطعموا وادخروا متفق عليه من حديث سلمه ابن الأكوع واما عند الشافعي وغيره فلانه دم تطوع مسنون
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 279(1/4319)
و قد ذكرنا الإجماع على جواز الاكل من دماء التطوع - مسئلة واختلفوا في دم التمتع والقران فقال أبو حنيفة ومالك واحمد يجوز الاكل منه لأنه دم نسك وقد ذكرنا حديث جابر انه صلى اللّه عليه وسلم امر من كل بدنة ببضعه فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها وشربا من مرقها واستدل ابن الجوزي لما روى عبد الرحمن بن أبى حاتم في سننه من حديث على قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهدى التمتع ان أتصدق بلحومها سوى ما ناكل وهذا صريح في الدلالة وقال الشافعي لا يجوز الاكل من دم التمتع والقران ومن شيء من دماء الواجبة سواء أوجبه على نفسه بالنذر أو وجب بسبب غير ذلك محتجا بحديث ناحية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة الحديبية وحديث ابن عباس وحديث دويب بن حلمه وقد ذكرنا الأحاديث الثلاثة والجواب عنها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى قلت والظاهر ان الآية في جواز الاكل من الهدايا واجبة كانت الهدايا كالتمتع والقران أو نافلة كما أشرنا إليه نظرا إلى اطلاق اللفظ وخص منها المنذور بالإجماع أو يقال الكلام في الحج والمنذور ليس من باب الحج في شيء واما جزاء الصيد ودماء الكفارات فانها وان كانت من باب الحج لكن الظاهر من حال المسلم الاجتناب من المحرمات فهى غير مرادة بهذه الآية إذ المأمور به الحج المبرور واللّه اعلم - وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أى الّذي اشتد بوسه والبوس شدة الفقر الْفَقِيرَ بدل من الأول أو عطف بيان له.(1/4320)
ثُمَّ لْيَقْضُوا قرأ ورش وأبو عمرو ابن عامر وقنبل بكسر الام والباقون بإسكانها تَفَثَهُمْ أى يزيلوا وسخهم بحلق الراس وقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الاحلال الأول وذلك قبل طواف الزيارة ويحل على المحرم بعد الحلق كل شيء الا النساء وتحل النساء بعد الطواف كذا قال المفسرون والقضاء في الأصل بمعنى الفعل والأداء يقال قضى دينه وقال اللّه تعالى وإذا فضيتم مناسككم وقضيهن سبع سموت ويستلزمه الفراغ منه كما أيد يقوله تعالى أيما الأجلين قضيت وفي ازالة الوسخ الفراغ منه وقال البغوي قال ابن عمرو ابن عباس قضاء التفث مناسك الحج
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 280(1/4321)
كلها يعنى أداء مناسك الحج وقال مجاهد هو يعنى التفث مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار وقيل التفث رمى الجمار فالمعنى فعل هذه الأمور وأداها قال الزجاج لا نعرف التفث ومعناه الا من القرآن يعنى هذا اللفظ غير مستعمل في كلام العرب غالبا ولفظه ثم يوجب تأخير الحلق والطواف من الذبح فهو حجة لابى حنيفة رحمه اللّه حيث قال الترتيب بين الرمي ونحر القارن والحلق واجب وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي فمن ترك الترتيب عمدا أو خطأ يجب عليه الدم لحديث ابن عباس من قدّم شيئا من نسله أو اخّره فليهرق رما رواه ابن أبى شيبة موقوفا والموقوف له حكم المرفوع لان القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأى فان قيل في سنده ابراهيم بن مهاجر قال أبو حاتم منكر الحديث وقال ابن المديني والنسائي ليس بالقوى وقال ابن عدى يكتب حديثه في الضعفاء قلنا انه صدوق من كبار التابعين أخرج له مسلم متابعه وقال سفيان واحمد وابن مهدى لا بأس به ثم الحديث ليس منحصرا عليه بن أخرجه الطحاوي من غير طريقه أيضا قال ثنا وهيب عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه مثله وقال احمد الترتيب واجب يجب عليه الدم بتركه عمدا لكن يسقط وجوب الترتيب بالجهل والنسيان كذا روى الأثرم عنه وكذا يشعر كلام البخاري وهو المختار عندى للفتوى وقال الشافعي وكثير من السلف الترتيب سنة وليس بواجب وقال مالك تقديم الحلق على الرمي والذبح لا يجوز وللشافعى قول مثله احتج الشافعي بحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قيل له في الذبح والرمي والحلق والتقديم والتأخير فقال لا حرج متفق عليه وفي رواية للبخارى قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج فسأله رجل فقال حلقت قبل ان اذبح قال اذبح ولا حرج قال ميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج وفي رواية للبخارى اتى رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال(1/4322)
زرت قبل ان ارمى قال لا حرج قال ذبحت قبل ان ارمى قال لا حرج وروى الطبراني بلفظ ان رجلا قال يا رسول اللّه طفت بالبيت قبل ان ارمى قال ارم ولا حرج وقد ثبت بحديث على رضى اللّه عنه التصريح بالسؤال بالطواف قبل الذبح أيضا رواه احمد وجه الاحتجاج للشافعى انه لو كان الترتيب واجبا لامرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم باعادة ما قدم من المناسك لكون الوقت وقت أداء المناسك
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 281
يوم النحر أو أمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم باراقة الدم ولو أمرهم بشيء من ذلك لنقل إلينا لاشتراك خلق كثير في الواقعة وحرص كل منهم على حفظ مناسك وتبليغها فلما لم ينقل علم انه لم يأمر ولما لم يأمر علم انه لم يجب لأنه رفت الحاجة وترك تبليغ الواجب مع الحاجة محال فظهر انه ليس بواجب وما ليس بواجب لا بأس ترله عمدا قال أبو حنيفة رح من رواة هذه القصة ابن عباس رضى اللّه عنه وقد قال ابن عباس من قدّم شيئا من نسكه أو أخّره فليهرق لذلك دما وقول الراوي على خلاف روايته جرح في الحديث لدلالته على ان الراوي اطلع على الناسخ لكن هذا القول لا ينتهض دفعا لقول الشافعي إذ عنده قول الراوي على خلاف روايته ليس بجرح في الحديث بل على اصل أبى حنيفة أيضا لا ينتهض دفعا لان قول الراوي على خلاف روايته انما يكون جرحا إذا كان الموقوف في قوة المرفوع حتى يكون ننزلة الناسخ والأمر ليس كذلك قلت لكن(1/4323)
الجمع بين الأحاديث متى أمكن اولى من ترك العمل على بعضها فنحمل اثر ابن عباس وهو في حكم المرفوع وقد بلغ بالاعتصام درجة الحسن على ترك الترتيب عمدا وما احتج به الشافعي على الجهل والنسيان فقلنا الترتيب واجب لكن يسقط بالجهل والنسيان كالترتيب في الفوائت من الصلوات واجب عند أبى حنيفة ويسقط بالنسيان والإمساك في الصوم واجب ويسقط بالنسيان وتكبيرات التشريق واجبة تسقط بالنسيان. مسئلة الحلق من واجبات الإحرام ليس بركن عند أبى حنيفة رحمه اللّه وقال الشافعي رحمه اللّه وبعض العلماء انه ركن من اركان الحج وفي رواية ضعيفة عن الشافعي وهى رواية عن أبى يوسف وعن احمد وبه قال بعض المالكية انه ليس بنسك بل امر مباح وحجتنا وحجة الشافعي هذه الآية فانه امر بقضاء التفث والمراد به الحلق والأمر للوجوب فكان ركنا عنده قلنا ثبوته وان كان بالآية القطعية لكن دلالة الآية عليه انما هى بتأويل ظنى لاختلاف في تفسير الآية فلا يوجب القطع وأيضا قال الشافعي الحلق تحلل من الإحرام والإحرام ركن للحج فكذا التحلل عنه كالسلام في الصلاة فانه ركن عند الشافعي قلنا كون الإحرام شرطا وركنا للحج لا يستلزم كون التحلل عنه كذلك وكون السلام ركنا ممنوع عندنا وأيضا هذا قياس مع الفارق لان النبي صلى اللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 282
عليه وسلم جعل السّلام انتهاء لتحريمة الصلاة حيث قال تحليلها التسليم فلو لم يوجد التسليم ويتأتى على التحريمة ما ينافيها بطلت التحريمة وقد كانت التحريمة شرطا للصلوة وركنا لها على اختلاف الأقوال فبطلت الصلاة ببطلان التحريمة واما إحرام الحج فلا يبطل .......(1/4324)
بالمحظورات كما يبطل إحرام الصلاة الا ترى ان الجماع قبل الوقوف بعرفة يوجب الفساد حتى يجب عليه القضاء ولا يوجب البطلان حتى يجب المضي في الفاسد - مسئله أول وقت الحلق الرمي من طلوع الفجر الثاني يوم النحر وعند الأكثر بعد نصف الليل من ليلة النحر لنا حديث عروة بن مضرس فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من شهد معنا هذا الصلاة صلوة الفجر بمزدلفة وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه رواه اصحاب السنن الأربع والحاكم وقال صحيح على شرط كافة أهل الحديث ولم يحرجاه على أصلهما لان عروة بن مضرس لم يرو عنه الا الشعبي وقد وجدنا عروة ابن الزبير قد حدث عنه واختلفوا في اخر وقته فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد واكثر العلماء لا آخر لوقته واختلفوا أيضا في ان الحرم هل هو شرط للحلق فقال أبو يوسف وزفر واكثر العلماء ليس بشرط وقال أبو حنيفة للحلق اعتبار ان أحدهما انه محل للاحرام وثانيهما انه نسك من مناسك الحج فباعتبار انه محلل لا آخر لوقته ولا يختص أيضا بمكان وباعتبار انه نسك يختص بيوم النحر وبالحرم لأنه كونه عبادة لا يدرك بالرأى فيراعى خصوصياته الواردة من الشارع وهو الزمان والمكان واما كونه محللا فامر يدرك بالرأى لان المحلل انما يكون ما يكون جناية في غير أو انه وهو كذلك فان وجد الحلق بعد وقته أو في غير الحرم يكون محللا من إحرامه ولا يكون عبادة فيلزم الدم لترك نسك واجب واحتج أبو يوسف بان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اذبح ولا حرج لمن قال حلقت قبل ان اذبح وانه صلى اللّه عليه وسلم حلق عام الحديبية بالحديبية وهى من الحل قلنا قوله صلى اللّه عليه وسلم اذبح ولا حرج لمن قال حلقت قبل ان اذبح لبيان سقوط الترتيب لعلة الجهل والنسيان لا لتعميم الزمان لان يوم النحر كان موجودا عند السؤال لأنه كان بعد الظهر يوم النحر وحلق النبي صلى اللّه عليه وسلم بالحديبية لم(1/4325)
يكن عند أبى حنيفة نسكا بل ليعرف استحكام الانصراف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 283
حيث لا يجب الحلق على المحصر عند أبى حنيفة والجواب عندى ان المحصر معذور لا يقاس عليه غيره الا ترى ان الحلق قبل دخول وقته جائز للمحصر لا لغيره اجماعا فكذا الحلق في غير مكانه والحجة لنا في اشتراط الحرم للحلق قوله تعالى ثم محلها إلى البيت العتيق وسيجئى تفسيره وقوله ليدخلن المسجد الحرام إنشاء اللّه آمنين محلقين روسكم ومقصرين حيث جعل الحلق والتقصير من خواص دخول المسجد والتوارث فان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن بعده توارثوا على الحلق في الحج بمنى والعمرة عند مروة وهما من الحرم - مسئلة واختلفوا في القدر الواجب من الحلق والتقصير فقال مالك واحمد لا يتحلل ما لم يحلق أو يقصر كل الراس وقال أبو حنيفة حلق ربع الراس أو تقصيره يكفيه وقال الشافعي يكفيه ازالة شعرة أو ثلث شعرات قال الشافعي هذه الآية لايجاب قضاء التفث وليس الواجب منه الاستقصاء اجماعا حيث يجوز التقصير وفي التقصير قضاء بعض التفث ولا شك ان قضاء بعض التفث يحصل بازالة شعرة أو ثلث شعرات وقال أبو حنيفة لا يقال في العرب في من أزال شعرة أو ثلثا انه حلق راسه أو قضى تفثه فلا بد من قدر معتدبه شرعا وقد اقام ربع الراس في الوضوء مقام الكل حيث أوجب مسح ربع الراس وأوجب في سائر الأعضاء غسلها بتمامها كما ذكرنا تحقيقه في سورة المائدة في اية الوضوء فقلنا هاهنا بحلق ربع الراس وقال مالك واحمد لا نسلم ما قال أبو حنيفة من اقامة ربع الراس مقام الكل فان الفريضة في الوضوء عندهم مسح كل الرأس ولم يرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة انه اقتصر على حلق بعض الراس أو تقصيره مسئلة الحلق أفضل من التقصير اجماعا لحديث ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول قال اللّهم ارحم المحلقين قالوا و(1/4326)
المقصرين يا رسول اللّه قال اللّهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول اللّه قال والمقصرين وفي رواية قال في الرابعة والمقصرين وحديث أبى هريرة نحوه
و الحديثان في الصحيحين وَلْيُوفُوا قرأ ابن ذكوان بكسر اللام والباقون بإسكانها وقرأ أبو بكر عن عاصم ليوفوا بتشديد الفاء من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 284(1/4327)
نُذُورَهُمْ قيل أراد به الخروج عما وجب عليه نذر ا ولم ينذر فان العرب يقول لمن خرج عن الواجب عليه وفي بنذره والجمهور على ان المراد بالنذر ما أوجب انسان على نفسه مما ليس بواجب عليه وهو على نوعين منجز كان يقول للّه على ان أصلي ركعتين ومعلق بشرط ثم المعلق بالشرط ان كان الشرط مرضيا كان قال ان شفى اللّه مريضى أو قدم غائبى فعلّى ان أصوم يسمى نذر ترد وان كان الشرط مكروها كانّ قال ان كلمت زيدا فعلى ان أحج يسمى نذر لجاج وإذ علمت ان النذر إيجاب ما ليس بواجب عليه فايجاب ما هو واجب من اللّه تعالى اخبار محض كمن قال للّه على ان أصوم رمضان أو أصلي الظهر فلا يترتب عليه شيء أصلا ولا يتغير وصف الواجب وقدره بتغير العبد فلو قال للّه على ان أؤدّي زكوة كل مائتى درهم عشرة لا يلزمه الا خمسة كمن قال للّه على ان أصلي الظهر ست ركعات وكذا لو قال للّه على ان أصلي كل فريضة بوضوء جديد أو بجماعة لان اللّه سبحانه اجزى الصلاة بغير هذه القيود فلو قلنا بعدم الاجزاء لعزم نسخ حكم من احكام اللّه تعالى ولو قلنا بإجزاء الصلاة بدونها فلا فائدة في القول بايجاب هذه الأمور إذ لا يمكن قضائها بمثلها لعدم استقلالها وقضائها بمثل غير معقول يتوقف على ثبوتها من الشرع ولم يثبت وهذا معنى قولهم يشترط للوجوب بالنذر كونه طاعة مقصورة مستقلة بنفسها وهذا بخلاف من نذر ان يحج ماشيا فان قضأ المشي باراقة الدم عرف من الشرع لكن ما ذكرنا يشكل فيمن نذر ان يؤدى زكوة كل مائتى درهم عشرة حيث يمكن إيجاب خمسة زائدة على الخمسة الّتي وجبت بايجاب اللّه تعالى من غير لزوم نسخ حكم من الاحكام واللّه اعلم ثم اعلم ان ما ليس بواجب فهو على ثلثة اقسام اما طاعة واما معصية واما امر مباح ليس فيه معنى الطاعة ولا العصيان فالقسم الأول أى النذر بالطاعة يجب الوفاء به اجماعا وهو المأمور به بهذه الآية فقيل هو ليس بفرض على اصل أبى حنيفة نثبوته بهذه(1/4328)
الآية وهى عامة خص منها البعض فصارت ظنية الدلالة وقيل هو فرض على أصله لما انعقد عليه الإجماع فصار قطعيا في مقدار ما انعقد عليه الإجماع ثم النذر بالطاعة ان كان منجزا لا يجوز العدول عنه إلى لكفارة اجماعا الا ان يكون بمالا يطيقه حيث قيل فيه كفارة يمين وان كان
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 285(1/4329)
مطقا بشرط فوجد الشرط فكذا عند أبى حنيفة ومالك واكثر العلماء لان المعلق بالشرط كالمنجر عنده فصار كأنَّه قال عند وجود الشرط للّه على كذا وروى عن أبى حنيفة انه رجع عنه قبل موته بسبعة ايام فقال إذا كان معلقا بالشرط فهو مخير بين فعله بعينه وبين كفارة يمين وهو قول محمد فإذا قال ان فعلت كذا فعلى حجة أو صوم سنة ان شاء وفي بنذره وان شاء كفر فانكان فقيرا صار مخيرا بين صوم سنة وصوم ثلثلة ايام والاول ظاهر المذهب والتخيير عن أبى حنيفة في النوادر وجه الظاهر هذه الآية والأحاديث الواردة ووجه رواية النوادر ما في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر عنه صلى اللّه عليه وسلم قال كفارة النذر كفارة اليمين وهو يقتضى ان يسقط النذر بالكفارة مطلقا فيتعارض النصوص فيحمل مقتضى الإيفاء بعينه على المنجز ومقتضى سقوطه بالكفارة على المعلق ووجه الفرق ان المعلق منتف في الحال فالنذر فيه معدوم فيصير كاليمين في ان سبب الإيجاب وهو الجنث منتف حال التكلم فيلحق به بخلاف النذر المنجز لأنه نذر ثابت في وقته فيعمل فيه حديث الإيفاء والمختار عند صاحب الهداية والمحققين من العلماء الحنفية ان المراد بالمعلق الّذي يتخير فيه الناذر نذر اللجاج فانه لا يريد وجود الشرط فلا يريد وجوب النذر بل جعله مانعا من فعل الشرط فان الإنسان لا يريد إيجاب العبادات دائما وانكانت مجلبة للثواب مخافة ان يثقل عليه فيتعرض للعقاب ولهذا صح عنه صلى اللّه عليه وسلم انه نهى عن النذر وقال انه لا يأت بخير لا سيما إذا كان المنذور عبادة شاقة كالحج وصوم سنة واما نذر التردد فلا يجزيه الا فعل(1/4330)
عين المنذور به لأنه إذا أراد وجود الشرط أراد وجود النذر فكان المعلق في معنى المنجز فيندرج في حكمه وهو وجوب الإيفاء وعدم جواز العدول عنه إلى الكفارة فصار محمل ما يقتضى الإيفاء المنجز ونذر التردد ومحمل ما يقتضى اجزاء الكفار نذر اللجاج ومذهب احمد فيه هكذا التفصيل الّذي اختاره صاحب الهداية وهو اظهر اقوال الشافعي كذا في المنهاج وفي رواية عنها نذر اللجاج يوجب الكفارة لا غير وفي قول للشافعى فيه إيفاء لا غير مسئلة يشترط للوجوب بالنذر عند أبى حنيفة ان يكون من جنسه واجب بايجاب اللّه تعالى وفي المنهاج للشافعى ان الصحيح عند الشافعي انعقاد بكل طاعة وان لم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 286(1/4331)
يكن من جنسه واجب بايجاب اللّه كعيادة المريض وتشييع الجنازة والسّلام قلت ويرد على قول أبى حنيفة ان الاعتكاف يجب بالنذر اجماعا وليس من جنسه واجب بايجاب اللّه وكون الصوم شرطا للاعتكاف ممنوع ولو سلمنا فكون بعض شرائطه من جنس ما وجب بايجاب اللّه سببا للزومه بالنذر يقتضى لزوم كل قربة مقصودة وغير مقصورة بالنذر إذ كل قربة مشروطة بالإسلام والإخلاص وهما فريضتان واجبتان بايجاب اللّه تعالى ولو كان وجوب الاعتكاف بالنذر تبعا لوجوب الصوم بالنذر فمع كونه قلب الموضوع لزم ان لا يجب الاعتكاف لو نذر ان يعتكف في رمضان واللّه اعلم - مسئلة وإذا فات الوقاء بنذر الطاعة يجب عليه القضاء عند الجمهور وهل يجب عليه كفارة يمين أيضا اولا فقال سفيان الثوري يجب عليه القضاء والكفارة جميعا وقال أبو حنيفة ان لم ينو اليمين وتكلم بصيغة النذر سواء نوى النذر اولا يجب عليه القضاء دون الكفارة وان نوى اليمين مع نفى النذر يجب عليه الكفارة دون القضاء وان نوى يمينا ولم يخطر بباله النذر أصلا أو نوى نذر أو يمينا يجب عليه القضاء والكفارة جميعا وقال أبو يوسف انه يمين في الأول حتى يجب عليه الكفارة فقط دون القضاء حيث نوى المجاز ونذر في الثاني فيجب عليه القضاء فقط دون الكفارة لترجح الحقيقة على المجاز عند ارادتهما وامتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز وجه قول سفيان انه نذر بصيغة لا يحتاج إلى النية ولا ينتفى بالنفي لكونه إنشاء كالنكاح والطلاق والرجعة والاعتاق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة أخرجه احمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبى هريرة وفي مصنف عبد الرزاق من حديث أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز وردى ابن عدى في الكامل من حديث أبى هريرة مرفوعا قال ثلث ليس منهن لعب من(1/4332)
تكلم بشيء منهن لاعبا فقد وجب عليه الطلاق والعتاق والنكاح أخرج عبد الرزاق عن عمر وعلى موقوفا انهما قالا ثلث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق وفي رواية عنهما اربع وزاد والنذر ويمين بموجبه لان إيجاب ما ليس بواجب يستلزم تحريم ما ليس بحرام يمين حيث قال اللّه تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك إلى قوله وقد فرض اللّه لكم تحلة ايمانكم فلا يحتاج كونه يمينا أيضا إلى النية ولا ينتفى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 287
بالنفي كشراء القريب عتق بموجبه لا يحتاج إلى النية ولا ينتفى بالنفي ووجه قول أبى حنيفة ان تحريم ما ليس بحرام ليس بيمين على الإطلاق الا ترى ان الطلاق والعتاق والبيع ونحو ذلك يستلزم تحريم ما ليس بحرام وهى الزوجة والامة وليس شيء منها يمينا بل إذا كان التحريم قصد يا منويا باليمين كتحريم مارية أو العسل ولا يكون التزاما فحينئذ يكون يمينا وقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك انما هو في التحريم القصدى دون الالتزامي فما لم ينو يمينا يكون نذرا نواه ا ولم ينوه حملا على الحقيقة وإذا نوى اليمين ونفى النذر يكون يمينا فقط حملا على المجاز وإذا لم ينف النذر سواه نواه ا ولم ينوه ونوى اليمين يكون نذر الصيغته يمينا بموجبه واللّه اعلم (فصل) واما القسم الثاني وهو النذر بالمعصية فهو على نوعين منها ما لا ينفك شيء من افراد جنسه عنها كالنذر بالشرب والزنا ونحو ذلك فقال(1/4333)
ابو حنيفة إذا قصد به اليمين ينعقد للكفارة والا يلغو ضرورة انه لا فائدة في انعقاده وليس هو مراد بهذه الآية ومامورا بالإيفاء اجماعا فان اللّه لا يأمر بالفحشاء وبه قال مالك والشافعي وقال احمد ينعقد النذر لاجل الكفارة سواء نوى به اليمين اولا قال ابن همام وعليه مشى اكثر مشايخ الحنفية وبه قال الطحاوي انه لو أضاف النذر إلى سائر المعاصي كقوله للّه على ان اقتل فلانا كان يمينا ولزمته الكفارة بالحنث قلت وذلك لأنه لما تعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي وجب حمله على المعنى المجازى وهو مقتضى قوله صلى اللّه عليه وسلم لانذر في معصية وكفارته كفارة اليمين ومحمل الحديث عند أبى حنيفة إذا نوى به اليمين ومنها ما كان من جنسه طاعة خالصة عن العصيان كالنذر بصوم يوم العيد والصلاة عند طلوع الشمس وهذا القسم من النذر ينعقد عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعليه ان يفطر ويقضى ولا كفارة عليه وان صام أجزأه وان نوى يمينا مع نفى النذر فعليه كفارة يمين والا فعليه القضاء والكفارة جميعا كما ذكرنا في النذر بالطاعة وقال احمد عليه ان يفطر ويقضى ويكفر وان صام لا يجزيه وعنه ان صام أجزأه وقال مالك والشافعي لا ينعقد هذا النذر كالنذر بالنوع الأول من المعصية المحضة إذ لا فرق بين معصية ومعصية وما نهى اللّه عنه لا يجب بايجاب العبد وجه الفرق لابى حنيفة انه نذر الصوم وهو مشروع بأصله وانما النهى فيه لغيره وهو ترك اجابة دعوة اللّه فينعقد نذره ويجب عليه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 288(1/4334)
ان يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ويقضى لاسقاط ما وجب عليه فان صام في يوم العيد يخرج عن العهدة لأنه اداه كما التزمه وهذا الخلاف مبنى على خلافية اصولية وهى ان النهى عن الافعال الشرعيه توجب القبح لغيره ومشروعيته عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعند الشافعي رح توجب القبح لعينه وعدم مشروعية وقال احمد انما ينعقد من حيث كونه طاعة لا من حيث كونه معصيته فيجب به الصوم كاملا ولا يتأدى ان صام يوم العيد وكثير اما يجب الفعل ليظهر اثره في القضاء مع حرمة الأداء نظيره صوم رمضان في حق الحائض يجب ليظهر اثره في القضاء مع ادائه في الوقت حرام ولا يتأدى عنها الفريضة ان أدت فصل واما القسم الثالث وهو النذر بامر مباح فيلغو ولا ينعقد عند أبى حنيفة رح الا ان ينوى به اليمين فيكفر ان لم يأت به وقال الشافعي لا يجب عليه إتيانه ولكنه ينعقد يمينا نواى ولم ينو فان حنث لزمه كفارة يمين على المرجح كذا في المنهاج والوجه ما ذكرنا انه إذا تعذر الحمل على الحقيقة وهو الإيجاب لعدم صلوته لكونه طاعة يحمل على المجاز لتعينه وهو تحريم المباح قلت وهذا الدليل لا ينتهض حجة الا عند من قال تحريم المباح يمين واللّه اعلم ولنذكر هاهنا من الأحاديث الشاهدة لما ذكرنا من الأقوال حتى يظهر الراجح منها من المرجوع عن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من نذر ان يطيع اللّه فليطعه ومن نذر ان يعصيه فلا يعصه رواه البخاري وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قوله صلى اللّه عليه وسلم انما النذر ما ابتغى به وجه اللّه رواه احمد في قصة الرجل الّذي نذر ان يقوم في الشمس ورواه البيهقي في قصة اخرى وروى نحوه أبو داود وهذه الأحاديث بعمومها تدل على ان النذر بالطاعة ينعقد سواء كان من جنسها واجب بايجاب اللّه اولا وعن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما نذر لا يملك العبد رواه(1/4335)
مسلم وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولاجل هذا الحديث قال ابن همام مسئلة لو قال أحد ان فعلت كذا فالف درهم من مالى صدقة ففعله وهو لا يملك إلا مائة مثلا الصحيح من مذهب أبى حنيفة انه لا يلزمه التصدق الا بما ملك لان فيما لم يملك لم يكن النذر مضافا إلى الملك ولا إلى سبب الملك - (مسئلة) ولو قال مالى صدقة في المساكين ولا مال له لا يلزمه
شيء.
(مسئلة) ولو قال للّه على ان اهدى هذه الشاة إلى بيت اللّه وأشار إلى شاة مملوكة لغيره
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 289(1/4336)
لا يلزمه شيء وعن عقبة بن عامر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم ورواه الطبراني بلفظ النذر يمين وكفارته كفارة يمين وهذا الحديث لعمومه يدل عليه مسئلة من نذر نذرا فلم يف به اما لكونه معصيته ممنوعة شرعا أو لكونه ممنوعا طبعا بان كان النذر مما لا يطيقه كصوم الابد أو كان مما يطيقه لكن فات وقته ولا يمكن التدارك أو لكونه مباح الترك ولعدم تسمية المنذور به بان قيل للّه على نذر يجب عليه كفارة اليمين سواء نوى اليمين اولا وحمل أبو حنيفة هذا الحديث على ما نوى اليمين وعن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من نذر نذر الم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا اطاقه فليف به رواه أبو داود وابن ماجه ووقفه بعضهم على ابن عباس وهذا الحديث كالبيان لما سبق من الحديث وهذا الحديث يدل عليه - (مسئلة) من نذر نذر طاعة وهو مطلق به لا يجوز له العدول عنه إلى الكفارة ولا يجزء عنه الكفارة وعن عمران بن حصين قوله صلى اللّه عليه وسلم لا نذر في معصيته وكفارته كفارة يمين رواه النسائي والحاكم والبيهقي وهذا الحديث باطلاقه حجة لاحمد في انعقاد نذر المعصية ووجوب الكفارة ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران بن حصين ومحمد ليس بالقوى وقد اختلف عليه فيه رواه ابن المبارك عن عبد الرزاق عن أبيه قال الحافظ وله طريق اخر اسناده صحيح الا انه معلول ورواه احمد واصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبى سلمه عن أبى هريرة وهو منقطع لم يسمع الزهري من أبى سلمه وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حديث سليمان بن بلال عن موسى بن عقبة ومحمد بن عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن كثير عن أبى سلمة عن عائشة قال النسائي سليمان بن أرقم(1/4337)
متروك وقد خالفه غير واحد من اصحاب يحيى بن كثير فرووا عن يحيى بن كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع إلى الرواية الاولى قال الحافظ وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن كثير عن رجل من بنى حنيفة وابى سلمة كلاهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسلا والحنفي هو محمد بن الزبير
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 290
قاله الحاكم وقال ان قوله من بنى حنيفة تصحيف انما هو من بنى حنظلة وله طريق آخر عن عائشة مرفوعا رواه الدار قطنى وأبو داود والترمذي والنسائي من رواية غالب بن عبد اللّه الجوزي عن عطأ عن عائشة مرفوعا من جعل عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين وغالب متروك الحديث وللحديث طريق اخر رواه أبو داود عن كريب عن ابن عباس واسناده حسن فيه طلح بن يحيى وهو مختلف فيه قال النووي حديث لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ضعيف باتفاق المحدثين وقال الحافظ قد صححه الطحاوي وأبو على بن السكن فاين الاتفاق قلت وقد كتب السيوطي في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة واحتج أبو حنيفة بقوله بعدم وجوب الكفارة في النذر بالمعصية بحديث عمران بن حصين قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول النذر نذر ان فمن كان نذر في طاعة فذلك للّه وفيه الوفاء ومن كان نذر في معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه وجه الاحتجاج ان وجوب الكفارة يعتمد على وجوب الوفاء فانه ليكفر الإثم فإذا لم يجب الوفاء لم يجب الكفارة وهذا احتجاج في مقابلة النص بالمعقول ومنقوض بانه من حلف باللّه على إتيان المعصية وجب عليه الحنث والكفارة ليكفر هتك حرمة اسم اللّه تعالى هذه في هذا المقام فكذا هاهنا وعن ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ينحر ابلا ببواته فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية تعبده(1/4338)
قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أوف بنذرك فانه لا وفاء لنذر في معصية اللّه ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود بسند صحيح وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن حده ان امرأة قالت يا رسول اللّه انى نذرت ان اضرب على راسك الدف قال أو في بنذرك رواه أبو داود وزاد ارين قالت يا رسول اللّه ونذرت ان اذبح بمكان كذا وكذا مكان يذبح فيه أهل الجاهلية قال هل كان بذلك المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالت لا قال هل كان فيه عيد من أعيادهم قالت لا قال أو في بنذرك قلت الأمر بالإيفاء هاهنا ليس للوجوب اجماعا جمعا بين هذه الأحاديث وقوله صلى اللّه عليه وسلم انما النذر ما ابتغى به وجه اللّه ونظرا إلى ان ما ليس بطاعة لا يصلح للوجوب ولا لكونه تحية بوجه اللّه تعالى فالامر هاهنا للاباحة وإذا كان ترك المعصية فيما كان النذر بالمعصية موجبا للتكفير نظرا إلى المعنى فههنا اولى مسئلة من نذر بطاعة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 291(1/4339)
مقيدة بقيود وأوصاف فان كانت تلك القيود والأوصاف مرغوبة عند اللّه موجبة للمزية وكثرة الثواب يجب الإيفاء مع تلك القيود والأوصاف وانكانت عما لا مزية له عند اللّه لا يلزمه الشرط وهل يجب الكفارة عند فقد تلك القيود والصفات فالخلاف فيه كالخلاف في ترك كل منذور مباح فمن نذر ان يصلى في السوق أو في يوم السبت أو نذر ان يصوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظل أو نذر ان يتصدق بهذا الدرهم على هذا الفقير في هذا البلد وجب عليه الصوم والصلاة وجاز له ان يصلى في أى مكان أى وقت شاء وبصوم مع التكلم والقعود والاستظلال ويتصدق بدرهم اىّ درهم شاء على أى فقير في أى بلد لحديث ابن عباس قال بينا النبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسئل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر ان يقوم فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه رواه البخاري وليس فيه الأمر بالكفارة ومن نذر ان يصوم ثلثة ايام متتابعات أو نذر ان يصلى قائما يجب عليه ان يفى بنذره فان صام متفرقا أو صلى قاعد الا يجزيه ويجب عليه الاعادة لان صلوة القاعد نصف صلوة القائم كذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رواه احمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح عن انس وابن ماجه عن عبد اللّه بن عمرو والطبراني عن ابن عمرو عن عبد اللّه بن السائب وعن المطلب بن أبى وديعة واحمد وأبو داود عن عمران بن حصين نحوه ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر ونحوه والتتابع في الصيام مرغوب ولذا وجب في الكفارات مسئلة ولو نذر بالصلوة مطلقا يجب الصلاة قائما لان الأصل هو القيام ولو نذر بالصلوة قاعدا اجزأته قاعدا وقائما مسئلة ولو نذر بالصلوة على جنبه أو مستلقيا يجب عليه الصلاة قاعدا أو قائما لان الرقود في الصلاة لم يعرف في حالة الاختيار بخلاف القعود غير ان المريض الّذي لا يقدر على القعود لو(1/4340)
نذر ان يصلى راقدا أجزأه ان يصلّى راقدا فان صح قبل أدائه لا يجزيه الا قائما مسئلة من نذر ان يصلى في المسجد الحرام حاز له ان يصلى في أى مكان شاء عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما اللّه وقال زفر وبه قال أبو يوسف في إملائه انه من نذر ان يصلى في مسجد بيت المقدس فصلى في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو في المسجد الحرام اجزأته ومن نذر ان يصلى في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فان صلى في المسجد الحرام اجزأته وان صلى في غيره لم يجزه ومن نذر ان يصلى في المسجد الحرام لم يجزه ان صلى في غيره احتج أبو حنيفة بحديث جابر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 292
بن عبد اللّه ان رجلا قال يوم الفتح يا رسول اللّه انى نذرت للّه عزّ وجلّ ان فتح اللّه عليك ان أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال شانك إذا رواه أبو داود والدارمي والطحاوي قال ابو(1/4341)
يوسف وزفر نحن نقول بهذا الحديث انه من نذر ان يصلى ببيت المقدس جاز له ان يصلى بالمسجد الحرام وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح بالمسجد الحرام واما من نذر ان يصلى في المسجد الحرام فصلى في غير ذلك كيف يجوز وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة الرجل في بيته بصلوة وصلوته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلوة وصلوته في المسجد الّذي يجمع فيه بخمس مأته صلوة وصلوته في المسجد الأقصى بألف صلوة وصلوته في مسجدى بخمسين الف صلوة وصلوته في المسجد الحرام مأته الف صلوة رواه ابن ماجه من حديث انس وفي الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة في مسجدى خير من الف صلوة فيما سواه الا المسجد الحرام وروى الطحاوي عنه وعن سعد بن أبى وقاص وعن عائشة وعن ميمونة وعن أبى سعيد الخدري كلهم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل حديث الصحيحين عن أبى هريرة وروى الطحاوي عن عطاء ابن الزبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة في مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلوة في ذلك أفضل من مأته الف صلوة في هذا وعن عمر بن الخطاب موقوفا وعن جابر بن عبد اللّه مرفوعا مثله فاجاب أبو حنيفة ان هذه الأحاديث مختصة بالمكتوبات فان فضل المكتوبات في المساجد على الترتيب المذكور حق وليس ذلك في النوافل حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل صلوة المرء في بيته الا الصلاة المكتوبة رواه الشيخان في الصحيحين من حديث زيد بن ثابت وروى أبو داود والترمذي عن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة المرأ في بيته أفضل عن صلوته في مسجدى هذا الا المكتوبة وذكر الطحاوي حديث عبد اللّه بن سعد مرفوعا لان أصلي في بيتي أحب إلى من ان أصلي في المسجد مسئلة من قال إذا قدم غابئى أو شفى مريضى فللّه على صوم شهر يجب عليه صيام شهر بعد وجود(1/4342)
الشرط فلو صام عنه قبل وجود الشرط لم يجز ويجب عليه الاعادة خلافا للشافعى رح لان الشرط عندنا مانع من انعقاد السبب والأداء قبل وجود السبب لا يجوز وعنده مانع من الحكم دون السبب فيجوز الأداء كما يجوز الزكوة بعد النصاب قبل الحول مسئلة لو أضاف الوجوب إلى الوقت جاز تقديمه على ذلك الوقت عند أبى حنيفة وابى يوسف رحمهما اللّه خلافا لمحمد هو يقول الاضافة إلى الوقت كالتعليق بالشرط وهما يقولان ليس كذلك بل هو إيجاب منجز مقيدا بقيد والقيود ملغاة كمن قال للّه على ان أصلي في السوق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 293(1/4343)
جاز أينما صلى فكذا من قال للّه على ان أصوم رجب أو أحج في السنة الثالثة من هذه السنة جاز له ان يصوم ويحج قبله أو بعده وقال زفر ان كان الوقت الّذي أضاف إليه فاضلا شرعا فصام قبل ذلك الوقت في وقت اقل منه فضيلة لم يجزه بل يجب عليه الاعادة حتى يدرك فضيلة الوقت وان لم يكن كذلك أجزأه وهذا عندى اظهر فمن نذر بصوم يوم عرفة أو يوم عاشوراء أو تسع من ذى الحجة إلى عرفة أو شهر المحرم لا يجزيه ان صام قبل ذلك وكذا من نذر ان يصلى في جوف الليل لا يجزيه ان صلى في النهار قبله ولا بعده لان الحياة إلى الليلة المقبلة غالب عادة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صيام يوم عرفة احتسب على اللّه ان يكفر السنة الّتي قبله والسنة الّتي بعده وصيام عاشورا انى احتسب على اللّه ان يكفر السنة الّتي قبله رواه مسلم وابن حبان والترمذي وابن ماجه من حديث أبى قتادة وروى ابن ماجه من حديث أبى سعيد الخدري عن قتادة بن نعمان نحوه وفي الباب حديث زيد بن أرقم وسهل بن سعد وابن عمر رواه الطبراني وحديث عائشة رواه احمد وقال الحافظ وفيه عن انس وغيره وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من ايام العمل الصالح فيها أحب إلى اللّه من هذه الأيام يعنى ايام التشريق من ذى الحجة قالوا يا رسول اللّه ولا الجهاد في سبيل اللّه قال ولا الجهاد في سبيل اللّه الا رجل(1/4344)
خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه أبو داود من حديث ابن عباس وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من ايام أحب إلى اللّه ان يتعبد له فيها من ايام العشر وان صيام يوم منها ليعدل سنة وليلة منها بليلة القدر رواه ابن ماجه من حديث أبى هريرة وهذا الحديث ضعيف وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اللّه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل رواه مسلم واصحاب السنن الأربعة عن أبى هريرة والروياني في مسنده والطبراني عن جندب - مسئلة من نذر ان يحج ماشيا ذكر في المبسوط من مذهب أبى حنيفة انه مخير بين الركوب والمشي يعنى لا يجب عليه المشي وبه قال قوم وهذا القول مبنى على ما سبق انه من نذر بطاعة وشرط فيه ما ليس بطاعة لا يلزمه الشرط وفي القدورى واكثر المتون انه يمشى ولا يركب حتى يطوف طواف الزيارة واختلفوا في محل ابتداء المشي فقيل من الميقات لان شروع الحج من هناك والأصح انه من بيته لأنه المراد عرفا الا ان ينوى خلاف ذلك فعليه مانوى قال صاحب الهداية هذا يعنى ما ذكر في القدورى اشارة إلى وجوب المشي بالنذر قال الطحاوي وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحجة لاهل المقالة الاولى اما على من يقول الحج راكبا أفضل من الحج ماشيا فظاهر ان المنذور لا بد ان يكون عبادة وفي المشقى الاولى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 294(1/4345)
و اما على قول أبى حنيفة فالمشى مع القدرة وإن كان أفضل لكن من شرط المنذور عنده ان يكون من جنسه واجب بايجاب اللّه تعالى من الواجبات المقصودة وليس المشي كذلك ولهم من السنة حديث انس بن مالك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه قال ما بال هذا قالوا نذر ان يمشى قال ان اللّه غنى عن تعذيب هذا نفسه وامره ان يركب متفق عليه وفي رواية لمسلم عن أبى هريرة قال اركب أيها الشيخ فان اللّه غنى عنك وعن نذرك وحديث عقبة بن عامر الجهني قال نذرت أختي ان تمشى إلى بيت اللّه فامرتنى ان استفتى بها النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لتمش ولتركب متفق عليه والحجة لاهل المقالة الثانية ان المشي عبادة مقصورة واجبة في طواف الزيارة عند أبى حنيفة رح كما سنذكر فيجب بالنذر والجواب عن استدلالهم بالسنة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم انما امر بالركوب إذا رأى انه لا يطيق المشي كما هو صريح في حديث انس انه رأى شيخا يهادى بين ابنيه وكذا في قصة اخت عقبة مذكور في رواية أبى داود انها لا تطيق فثبت بهذين الحديثين انه جاز له الركوب إذا لم يطق المشي وذالا يدل على عدم الوجوب بل على جواز الركوب بعذر مسئلة فان ركب بعذر أو بغير عذر لا يجب عليه إعادة الحج ماشيا اجماعا وكان مقتضى القياس على اصل أبى حنيفة ان لا يخرج عن عهدة منذر إذا ركب كما لو نذر بصيام ايام متتابعات وبالصلوة قائما لكنا تركنا القياس لثبوت الرخصة في الركوب بالنص فان قيل الأحاديث المذكورة انما توجب الرخصه لمن لا يطيق على المشي والمطيق على المشي ليس في معناه فلا بد ان لا يخرج المطيق على المشي من العهدة إذا ركب بغير عذر قلنا جوابه بوجهين أحدهما ان احكام الشرع عامة غالبا والغالب في الحج ان لا يطيق على المشي ولذلك قالت العلماء ان الزاد والراحلة في الحج من القدرة الممكنة دون الميسرة فقلنا بالرخصة يؤيد ما قلنا حديث عمران بن حصين قال ما خطبنا(1/4346)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة الا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة وقال ان من المثلة ان ينذر الرجل ان يحج ماشيا فمن نذر ان يحج ماشيا فليهد هديا وليركب رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه ثانيهما ان ترك الواجب بعذر أو بغير عذر شانهما في اقتضاء القضاء واحد فان كان عبادة مستقلة يقضى ما ترك وان كان جزاء أو شرطا أو وصفا للعبادة لا يتصور قضاؤه بمثل معقول لعدم استقلاله ويتصور قضاؤه بمثل غير معقول كسجدة السهو قضاء لواجبات الصلاة لكن القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأى بل يتوقف على الشرع فان ظهر له من الشرع مثل غير معقول تقضى بتلك
المثل ولا يعاد العبادة والإيعاد تلك العبادة ولما لم يدرك للتتابع في الصيام والقيام
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 295(1/4347)
فى الصلاة مثل غير معقول حكمنا باعادة الصوم والصلاة وإذا عرف للمشى مثل غير معقول وهو الهدى لم يحكم باعادة الحج بل بالهدى والفرق بين المعذور وغير المعذور لا يظهر الا في الإثم ونظير ترك الوقوف بمزدلفة بلا عذر لا يجوز وبعذر يجوز وعلى كلا التقديرين يجب عليه الهدى واللّه اعلم - مسئلة من نذر ان يحج ماشيا فحج وترك المشي بعذر أو بلا عذر يجب عليه بدنة وقال أبو حنيفة وصاحبيه لزم دم وأدناه شاة وإذا أراد بقوله للّه على ان أحج ماشيا اليمين لزمه كفارة اليمين أيضا كذا ذكر الطحاوي وقول أبى حنيفة وصاحبيه وقيل لا يجب عليه الا كفارة يمين والحجة لوجوب الهدى بالركوب حديث عقبة بن عامر ان أخته نذرت ان يمشى إلى البيت فامرها النبي صلى اللّه عليه وسلم ان تركب وتهدى هديا رواه أبو داؤد وسنده حجة وبهذا يظهر ان ما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر فيه اختصار على ذكر بعض المروي والزيادة من الثقة مقبولة وهذا الحديث حجة لابى حنيفة في إيجاب مطلق الهدى ولو بشاة ولنا على تخصيص الهدى بالبدنة ما رواه أبو داؤد من حديث ابن عباس بلفظ ان اخت عقبة بن عامر نذرت ان تحج ماشية وانها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم وان اللّه لغنى عن مشى أختك فلتركب ولتهد بدنة وما رواه الطحاوي من حديث عقبة بن عامر قال نذرت أختي ان تمشى إلى الكعبة فقال ان اللّه لغنى عن مشيها مروها فلتركب ولتهد بدنة قلت وهذا حديث حسن لأنه من رواية ابن أبى داؤد ثنا عيسى بن ابراهيم ثنا عبد العزيز بن مسلم ثنا مطر الوراق عن عكرمة عنه فان قيل عبد العزيز بن مسلم استجهل ومطرح الوراق قال ابن سعد فيه ضعف في الحديث قلنا قال الذهبي عبد العزيز معروف فلا يضر جهل من استجهل ومطر الوراق من رجال مسلم قال الذهبي ثقة وقال احمد وابن معين ضعيف في عطاء خاصة وهذا من رواية عكرمة قال ابن همام عمل أبو حنيفة بإطلاق الهدى من غير تعين بدنة(1/4348)
لقوة رواتها قلنا قوة رواة الإطلاق ممنوع ولو سلمنا فالترجيح بالقوة انما يطلب عند التعارض ولا تعارض هاهنا بل مطلق ومقيد في حكم واحد في قضية واحدة فيحمل المطلق على المقيد البتة وما اخترت مروى عن على وغيره من الصحابة رضى اللّه عنهم والموقوف في الباب له حكم الرفع روى الشافعي إيراد عليه عن سعد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن على في الرجل يحلف على المشي قال يمشى وان عجز ركب واهدى بدنة وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن على فيمن نذر ان يمشى إلى البيت قال يمشى فان أعيى ركب واهدى جزورا واخرج نحوه عن ابن عمرو ابن عباس وقتادة والحسن مسئلة من قال على المشي إلى بيت اللّه أو الكعبة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 296
و لم يذكر حجا ولا عمرة فعليه ان يحج أو يعتمر ماشيا استحسانا وفي القياس لا شيء عليه وجه الاستحسان تعورف النسك بهذا اللفظ ولو قال على المشي إلى الحرم لا شى عليه عند أبى حنيفة لعدم العرف في التزام النسك به وعند صاحبيه يلزمه النسك احتياطا واتفقوا على انه لو قال إلى الصفا أو المروة أو عرفة أو مزدلفة أو منى أو مقام ابراهيم لا يجب شيء وكذا لو قال مكان المشي غيره كقوله الذهاب إلى بيت اللّه أو الخروج أو السفر لا يجب شيء والمدار على تعارف إيجاب النسك بلفظ دون لفظ ولو نوى بقوله على المشي إلى بيت اللّه المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد اخر لم يلزمه شيء لصحة اطلاق بيت اللّه على كل مسجد مسئلة من نذر بطاعة لزمه ذلك الطاعة وما يتوقف عليه ذلك فمن نذر ان يصلى ركعتين بلا وضوء أو بلا قرأة أو نذر ان يصلى ركعة واحدة أو ثلث ركعات لزمه الركعتان بالوضوء والقراءة وفي ثلث واربع ركعات وقال محمد لا يصح النذر لو نذر الركعتين بلا وضوء لان الصلاة بلا وضوء ليست بطاعة بخلاف الصلاة بغير قرأة فانها قد تكون طاعة كصلوة الأمي و(1/4349)
في غير ذلك قوله كقولنا وقال زفر يلزمه الركعتان ان نذر ثلثا ولا يلزمه شيء فيما سوى ذلك لان الصلاة بلا وضوء أو بلا قراءة أو ركعة منفردة أو مع شفع يقدمها ليست بقربة فلا يجوز به النذر قلنا الالتزام بالشيء يستلزم استلزام ما لا صحة له الا به واللّه اعلم مسئلة من نذر ان يحج ماشيا فحج راكبا بعذر أو بلا عذر واهدى بدنة هل يجب عليه الكفارة أم لا قال أبو حنيفة لا يجب عليه الكفارة الا إذا نوى به اليمين والخلاف في هذه المسألة مثل الخلاف في فوات اصل المنذور وقد مر من قبل مسئلة من نذر ان يعتكف قال أبو حنيفة ومالك يجب عليه ان يصوم ويعتكف وقال الشافعي واحمد لا يجب عليه الصوم ومبنى الخلاف على اختلافهم في انه بل يشترط الصوم للاعتكاف أم لا فقال الشافعي واحمد لا يشترط ويصح الاعتكاف بغير صوم وبالليل واقله ساعة وقال مالك يشترط وهو رواية عن احمد ورواية الحسن عن أبى حنيفة وفي الأصل مذهب أبى حنيفة ان الصوم شرط لصحة الواجب من الاعتكاف دون التطوع منه وبه قال محمد والحجة على اشتراط الصوم للاعتكاف ما رواه الدار قطنى والبيهقي عن سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا اعتكاف الا بصوم قال الدار قطنى تفرد به سويد عن سفيان وقال احمد سويد متروك الحديث وقال البخاري في حديثه نظر وقال يحيى ليس بشيء وسفيان قال يحيى لم يكن بالقوى وقال ابن حبان يروى عن الزهري المقلوبات قلت قال الذهبي صدوق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 297(1/4350)
مشهور وقال بعضهم ليس به بأس الا في الزهري - أخرج له مسلم وذكر ابن همام قال في الكمال قال ابن حجر سألت عنه هشيما فاثنى عليه خيرا - فالحديث لم يصح لاجل سويد وسفيان إذ هو من رواية الزهري وهو في الزهري ضعيف وما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امراة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الّا لما لا بد منها ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع - فان قيل قال أبو داؤد غير عبد الرحمن ابن اسحق لا يقول فيه السنة فالحديث موقوف فقال الدار قطنى عبد الرحمن ضعيف - وأجيب بان الرفع زيادة وعبد الرحمن ثقة الا انه قدرى كذا قال أبو داود ووثقه ابن معين وقال احمد صالح الحديث واخرج له مسلم - قلت هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج لان كلمة لا اعتكاف الظاهر انه ليس تحت قوله السنة على المعتكف ان لا يعود لتغير نسق الكلام واو سلمنا فكون الصوم سنة في الاعتكاف لانزاع فيه - انما الخلاف في كونه شرطا وهذا امر لا بد له من دليل وروى هذا الحديث ابن الجوزي في التحقيق من طريق الدار قطنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعتكف العشر الا واخر من رمضان وان السنة للمعتكف ان لا يخرج الا لحاجة الإنسان ولا يتبع الجنازة ولا يعود مريضا ولا يمس امراة ولا يباشرها ولا اعتكاف الا في مسجد جماعة ويأمر من اعتكف ان يصوم واعترض عليه ابن الجزري بان فيه ابراهيم بن محسر قال ابن عدى له أحاديث مناكير وقال الدار قطنى يقال ان قوله ان السنة للمعتكف إلخ ليس من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل هو من كلام الزهري ومن أدرجه في الحديث فقدوهم ومن الحجة في الباب ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن بديل عن عمرو بن دينار ان عمر جعل عليه ان يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة(1/4351)
فسال النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال اعتكف وصم - وفي لفظ للنسائى امره ان يعتكف ويصوم - قال الدار قطنى تفرد به ابن بديل وهو ضعيف ورواه نافع عن ابن عمر ولم يذكر فيه الصوم وهو أصح وقال سمعت أبا بكر النيسابورى يقول هذا حديث منكر لان الثقات من اصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه منهم ابن جريح وابن
عليينة وحماد بن سلمة وغيرهم وما قال ابن همام ان ابن بديل ثقة قال فيه ابن معين صالح وذكره ابن حبان في الثقات - قلت لم يذكر الذهبي في ترثيقه شيئا بل قال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 298(1/4352)
فيه امّه ضعيف ثم لو ثبت الأمر بالصوم تحمله على ان عمر كان قد نذر بالاعتكاف والصوم جميعا وسال عنهما فبسقط ذكر الصوم من الراوي في رواية السؤال كما سقط ذكر الصوم عن الجواب في اكثر الطرق وأصحها - وما رواه الدار قطنى بسنده عن سعيد بن بشير عن عبد اللّه « 1 » بن عمر عن نافع عن ابن عمر ان عمر نذر ان يعتكف في الشرك ويصوم فسال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد إسلامه فقال أوف بنذرك - قال قيل قال عبد الحق تفرد به سعيد بن بشير قال ابن الجوزي قال يحيى وابن نمير ليس بشيء قلنا قال الحافظ هو مختلف فيه وقال الذهبي سعيد بن بشير صاحب قتادة وثقة شعبة وقال البخاري يتكلم في حفظه وقيل كان قدريّا قلت ولا شك ان سعيد بن بشير ليس أضعف من ابن بديل - واحتج الشافعي واحمد بحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليس على المعتكف صيام الا ان يجعله على نفسه - رواه الحاكم وصححه ولم يطعن فيه ابن الجوزي واحتج البخاري بحديث ابن عمر ان عمر سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال كنت نذرت في الجاهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فاوف بنذرك - متفق عليه وجه الاستدلال ان الليل ليس وقتا للصوم واعترض عليه بين في رواية شعبة عن عبيد اللّه عند مسلم يوما بدل ليلة - فجمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بانه ندر اعتكاف يوم وليلة فمن اطلق يوما أراد بليلتها ومن اطلق ليلة أراد بيومها - وأجيب بان رواية من روى يوما شاذ أو نقول لما نذر اعتكاف يوم ولم يأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصوم دل على ان الصوم ليس بشرط - ومن الحجة في الباب حديث عبد اللّه بن أنيس قال قلت يا رسول اللّه ان لى بادية أكون فيها وانا أصلي فيها بحمد اللّه فمرنى بليلة أنزلها إلى هذا المسجد فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين فقيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال كان يدخل المسجد أصلي العصر فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلى الصبح فإذا صلى الصبح وجد(1/4353)
دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته - رواه أبو داود وهذا صريح في جواز الاعتكاف ليلا - لا يقال لا نسميه اعتكافا لانا نقول لا مشاحة لنا في الاصطلاح بعد ما ثبت - ان اللبث في المسجد بنية التقرب طاعة والطاعة تجب بالنذر مسئلة من نذر ان يعتكف رمضان لزمه ولا يلغو اشتراط رمضان لما ثبت ان الطاعة في رمضان اكثر ثوابا من الطاعة في غيره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تقرب فيه اى
_________
(1) كذا في الأصل وفي شرح معانى الدار للطحاوى عبد اللّه بن عمر إلخ 12 - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 299(1/4354)
فى رمضان خصلة من الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه ومن ادى فريضة فيه كان كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه - رواه البيهقي في شعب الايمان في حديث طويل عن سلمان الفارسي « 1 » فان أطلقه فعليه ان يعتكف في أى رمضان شاء وان علية لزمه فيه - كذا قال ابن همام لكن هذا لا يوافق ما مر ان كل شرط لا مزية فيه من حيت الطاعة لا يلزمه ولا مزية لرمضان على رمضان اخر فاولى ان يقال ان عيّن أول رمضان أدركه لزمه ذلك لان الاستعجال في الطاعة طاعة قال اللّه تعالى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ - وان عين رمضان اخر فادى في أول رمضان أدركه ينبغى ان يجزيه بل الظاهر انه يلزمه الأداء في أول رمضان أدركه لان الحيوة إلى رمضان ثان غير غالب الوقوع عادة (مسئلة) فان صام رمضان عينه للاعتكاف ولم يعتكف لزمه قضاؤه بصوم مقصود للنذر عند أبى حنيفة ومحمد وهو احدى الروايتين عن أبى يوسف وعن أبى يوسف انه لا يقضى أصلا وهو قول زفر لان الاعتكاف في رمضان أفضل من الاعتكاف في غيره فلا يتادى بالاعتكاف في غيره كمن نذر ان يصلى قائما أو يصوم متتابعا فصلى قاعدا أو صام متفرقا لا يجزيه فتعذر للقضاء فسقط قلنا كان عليه ان يعتكف في رمضان فلما فات ذلك بقي عليه مطلق الاعتكاف لامكان التدارك وسقط عنه فضل الوقت لعدم إمكان التدارك - والحيوة إلى رمضان اخر غير متيقن بل غير مظنون لطول الزمان - فصار المسألة كمن فاته صلوة الوقت أو صوم رمضان وجب بنيه قضاء اصل الصلاة والصوم لامكان التدارك وسقط عنه فضل الوقت لعدم إمكان التدارك - بخلاف من صلّى قاعدا وكان قد نذر الصلاة قائما حيث يحكم بالاعادة لامكان التدارك - فان قيل لما فات الاعتكاف في رمضان كان ينبغى ان يحكم بوجوب قضائه في رمضان اخر وإذا لم يحكم بذلك لاحتمال للموت قبل ذلك وحكمتم بوجوب القضاء بعد رمضان بصوم مقصود فإذا اعتكف قضاء بعد رمضان بصوم مقصود ثم أدرك رمضان » (1/4355)
اخر ينبغى ان يحكم بوجوب الاعادة - كمن وجب عليه الحج ولم يحج وعجز عن الحج فاحج عنه غير ثم قدر على الحج بنفسه بطل حينئذ احجاج الغير ولزمه ان يحج بنفسه - قلنا قال أبو حنيفة ان اشتراط الصوم للاعتكاف ثبت بالنص كما ذكرنا فكان القياس ان لا يتادى الاعتكاف المنذور في رمضان أصلا لأنه إذا وجب الاعتكاف بالنذر وجب الصوم مقصودا أيضا شرطا له والصوم المنذور مقصودا لا يتادى في رمضان لكون الوقت مشغولا بحق اللّه تعالى فلا يتأدى
_________
(1) وفي الأصل سلمان القاري وهو تصحيف - الفقير الدهلوي -
(2) وفي الأصل رمضانا آخر.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 300(1/4356)
الاعتكاف أيضا - لكنا جوزنا الاعتكاف في رمضان ضرورة ادراك فضل الوقت - فإذا فات عنه فضل الوقت عاد الحكم إلى الأصل ووجب الصوم للاعتكاف مقصودا - ثم إذا أدرك رمضان من قابل لا يسقط ما وجب مقصودا فلا يتادى ذلك الاعتكاف في رمضان اخر أصلا للزوم الصوم المقصود واللّه اعلم ولاجل ذلك لا يجوز عند أبى حنيفة وصاحبيه ان يقضى اعتكاف رمضان في رمضان اخر لكن لو لم يصم في رمضان ولم يعتكف جاز ان يعتكف في صيام القضاء وكان مقتضى القياس على ما ذكرنا ان لا يتادى بعد رمضان الا بصوم مقصود لفوات فضل الوقت واللّه اعلم وما ذكرنا من قول أبى حنيفة مبنى على اشتراط الصوم للاعتكاف عنده فمن لم يقل باشتراط الصوم جاز عنده ان يقضى بعد رمضان بلا صوم - أو في رمضان اخر ان أدرك أو في صيام القضاء أو الكفارة أو غير ذلك ثم إذا قضى بعد رمضان بلا صوم أو بصوم ثم أدرك رمضان اخر لا تجب عليه الا عادة كمن فاته صلوة وقتية وهو واجد للماء فقضاه بعد الوقت بالتيمم ثم وجد الماء أو صلى عاريا ثم وجد الثوب (مسئلة) من نذر بطاعة في حالة الكفر ثم اسلم قال مالك واحمد يجب عليه الوفاء لما مر من ان عمر بن الخطاب نذر في الجاهلية بالاعتكاف فسال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أوف بنذرك - وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجب عليه الوفاء لان الكافر ليس أهلا للطاعة وطاعته معصية لعدم الإخلاص والنذر بالمعصية لا يجب الوفاء به - وإذا علمنا من ضرورات الدين ان الكافر ليس أهلا للعبادة نحمل حديث عمر طى ان إيفاء النذر وان لم يكن واجبا عليه لكنه لمّا رغب في الاعتكاف بعد الإسلام امره النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ابتداء لا قضاء لما كان واجبا عليه (مسئلة) من نذر بطاعة ثم ارتد (و العياذ باللّه منه) ثم اسلم لا يلزمه موجب النذر عند أبى حنيفة رحمه اللّه لان نفس النذر بالقربة قربة فيبطل بالردة كسائر القرب فلا يترتب عليه موجبه (مسئلة) من نذر صوم الابد(1/4357)
فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة له ان يفطر ويعلم لكل يوم نصف صاع من بر كذا في الفتاوى الكبرى وكذا قال ابن همام وقال فان لم يقدر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 301
على الإطعام لعسرته يستغفر اللّه ويستقيله - والفتوى على انه من نذر بصوم الابد ان شاء صام وان شاء كفر كذا في فتاوى الحجة - وكذا الخلاف فيمن نذر أى نذر يشق عليه ولم يطق - والحجة على اجزاء الكفارة قوله صلى اللّه عليه وسلم من نذر نذر الا يطيقه فكفارته كفارة يمين وقد مر فيما سبق من حديث ابن عباس - (مسئلة) من نذر عشر حجج أو مائة حجة اختلف فيه هل يلزمه كلها فيلزمه الإيصاء بها أو يلزمه قدر ما عاش ففى الخلاصة نص على لزوم الكل وذكر غيره عن أبى يوسف ومحمد الثاني واختاره السرخسي - ولو قال عشر حجج في هذه السنة لزمه عشر في عشر سنين على رواية اختارها السرخسي ولزمه الكل في الحال على رواية الخلاصة - فان أحج عنه عشرة رجال أجزأه ان مات قبل ادراك السنين وان بقي حيّا فكلّما أدرك وقت الحج من كل سنة يجب عليه ان يحج بنفسه ويبطل حينئذ احجاج غيره عنه لأنه قدر بنفسه فظهر عدم صحة احجاجهم فان لم يطق ان يحج كل سنة فالخلاف في اجزاء الكفارة ما سبق واللّه اعلم (مسئلة) من قال انا أحج لا حج عليه لأنه وعد وليس بنذر لكن يندب الوفاء بالوعد مسئلة ان قال ان ما فانى اللّه من مرضى فعلى ان أحج لزمه حج غير حجة الإسلام فإذا حج ولم ينو شيئا وقع عن حجة الإسلام ثم إذا حج في السنة الثانية ولا نية له فقيل هى تطوع ولا بد للمنذور من تعيين النية - مسئلة من قال على حجة ان شاء فلان لزمه ان شاء فلان ولا يقتصر مشيته على مجلس بلوغه الخبر - بخلاف تعليق الطلاق بمشيته لان الطلاق يقبل التمليك والتمليك يستدعى جوابا في المجلس وهذا شرط محض (مسئلة) من نذر ان يتصدق بجميع ماله لزمه التصدق بجميع ما يجب فيه الزكوة استحسانا لان إيجاب العبد معتبر بايجاب اللّه تعالى - فيصرف(1/4358)
إيجابه إلى إيجاب ما أوجب الشرع فيه الصدقة من المال - ولان الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله وهو مال الزكوة بخلاف الوصية فانها تقع
في حالة الاستغناء - ومن نذر ان يتصدق بملكه لزمه ان يتصدق بالجميع عند أبى حنيفة وصاحبيه كذا في الهداية - وقال احمد وزفر والشافعي يجب التصدق بالجميع في الصورتين - وقال مالك يلزمه في الصورتين ان يتصدق بثلث ما يملكه لحديث أبى لبابه انه قال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 302(1/4359)
النبي صلى اللّه عليه وسلم ان من توبتى ان اهجر دار قومى الّتي أصبت فيها الذنب وان انخلع من مالى كله صدقة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجزى عنك الثلث - رواه رزين - قلنا هذا الحديث لا دلالة له على انه كان نذر يتصدق جميع ماله بل أراد الصدقة فاشار إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يتصدق بالثلث كيلا يفوت حقوق الناس الّتي عليه الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يذكر الثلث في حديث كعب بن مالك رواه الشيخان في الصحيحين انه قال قلت يا رسول اللّه ان من توبتى ان انخلع من مالى صدقة إلى اللّه والى رسوله - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امسك بعض مالك فهو خير لك قال قلت فانى امسك سهمى الّذي بخيبر مسئلة لو قال مالى صدقة في المساكين لا يدخل ماله ديون على الناس مسئلة من نذر ان يتصدق بجميع ما هو ملكه في الحال وما يملكه في الاستقبال يمسك نفقة نفسه وزوجته ومن وجب عليه نفقته كما ان من نذر بصوم الابد لا يجب عليه الفدية بدلا من صوم رمضان لأنه مشغول بحق الغير - فمن شق عليه ذلك كفّر على ما ذكرنا فيمن شق عليه المنذور (مسئلة) من قال لله علىّ ان اذبح شاة أو بقرة أو بعيرا أو قال ان شفى مريضى فعلىّ ان اذبح يجب عليه ذلك حالا في التنجيز وعند وجود الشرط في التعليق وجاز له ان يذبح حيث شاء ويتصدق بلحمه على الفقراء وفي نوادر ابن سماعة لا شيء عليه ان قال للّه علىّ ان اذبح ولم يقل صدقة - قلنا انه التزم بمال من جنسه واجب الا ان يقصد نفس الذبح - ولو قال للّه علىّ هدى يجب عليه ما يجزى في الاضحية من الضأن والمعز أو الإبل أو البقر الا ان ينوى بعيرا أو بقرة فليزمه ذلك وان لا يذبح الا في الحرم - فان كان في ايام النحر فالسنة ان يذبح بمنى والا ففى مكة - وجاز له ان يذبح حيث شاء من ارض الحرم - ولو قال علىّ ان اهدى جزورا تعيّن الإبل والحرم - ولو قال علىّ جزورا ولم يذكر الهدى جاز في غير الحرم - (1/4360)
و لو قال بدنة ولم يذكر الهدى فعن أبى يوسف انه يتعين الحرم لان اسم البدن لا يذكر في مشهور الاستعمال الا في معنى المهداة ولو صرح بالهدى يتعين بالحرم فكذا البدنة - وعند أبى حنيفة في البدنة لا يشترط الحرم الا ان يزيد فيقول بدنة من شعائر اللّه - فإذا ذبح الهدى في الحرم يتصدق بلحمه على مساكين الحرم وان تصدق على غيرهم جاز أيضا وهل يجوز التصدق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 303
بالقيمة في الحرم في نذر الهدى - ففى رواية أبى سليمان يجوز ان يهدى قيمتها اعتبار بالزكاة - وفي رواية أبى حفص لا يجوز لان في اسم الهدى زيادة على مجرد اسم الشاة وهو الذبح فالقرية فيه يتعلق بالذبح - ثم التصدق بعد ذلك تبع بخلاف الزكوة فان القربة فيه التصدق بالشاة وهو ثابت في القيمة - (مسئلة) من نذر شاة واهدى مكانها جزورا فقد احسن - وليس هذا من القيمة لثبوت الاراقة في البدل الأعلى كالاصل - ولو قال اللّه علىّ ان اهدى شاتين فاهدى شاة تساوى اربع شياه في القيمة لم يجزه الا من شاة واحدة مسئلة لو قال للّه علىّ ان اهدى هذه الشاة لزمته فان سرقت أو ماتت لا يلزم غيرها - وكذا لو قال للّه علىّ ان أتصدق بهذه الدراهم فهلكت قبل ان يتصدق بها لم يلزمه شيء غيرها ولو لم تهلك وتصدق بمثلها جاز - ولو نذر ان يتصدق بخبز كذا فتصدق بقيمته جاز مسئلة ولو قال للّه علىّ ان اهدى ثوبا فاعطاه لحجبة البيت جاز ان كانوا فقراء والا فلا - ولو جعل الثوب لباسا للبيت لم يجزه (مسئلة) قوله هذه الشاة هدى إلى البيت أو إلى مكة أو إلى الكعبة فوجب والى الحرم أو إلى المسجد الحرام غير موجب عنده وموجب عندهما والى الصفا غير موجب اتفاقا - فان قيل مجرد ذكر الهدى موجب فزيادة ذكر الحرم أو الصفاء(1/4361)
لا يرفع الوجوب بعد الثبوت قلنا إذا ذكر الهدى مطلقا يعتبر هناك ذكر البيت أو مكة مقدرا فيوجب وإذا نص على المسجد أو الحرم تعذر الإضمار فلا يوجب مسئلة لو قال ثوبى هذا ستر للبيت أو اضرب به حطيم البيت يلزمه استحسانا لأنه يراد بهذا اللفظ هدية عرفا مسئلة من قال ان اشتريت هذه الشاة (و أشار إلى شاة مملوكة لغيره) فعلىّ ان اهدى إلى الكعبة قال الشافعي لا يلزمه الوفاء لان التعليق عنده يمنع الحكم دون السبب عن الانعقاد - فعند انعقاد السبب الشاة مملوكة لغيره فيلغو النذر بها لقوله صلى اللّه عليه وسلم لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم - وعند أبى حنيفة يلزم لان التعليق عنده يمنغ السبب عن الانعقاد وانما ينعقد بعد وجود الشرط يعنى بعد الشراء فلا يلغوا (مسئلة) من قال للّه علىّ ان اذبح نفسى أو ولدي أو عبدى يلزمه شاة استحسانا عند
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 304(1/4362)
ابى حنيفة رحمه اللّه ولو كان له أولاد لزمه زمان مكان كل واحد شاة وعند محمد يلزمه الشاة في الولد دون العبد والنفس وعند أبى يوسف لا يلزمه شيء في واحد منها وهو القياس لأنه نذر بالمعصية - وجه الاستحسان ان اللّه سبحانه أوجب شاة بدلا من اسمعيل عليه السلام حين وجب على ابراهيم ذبحه - ولمّا كان قتل النفس أو الولد حقيقة مهجورا شرعا لكونه معصية جعلنا إيجابه على نفسه مجازا عن إيجاب بدله عليه - كذا روى عن محمد بن المنتشر انه قال ان رجلا نذر ان ينحر نفسه ان نجاه اللّه من عدوه فسأل ابن عباس فقال سل مسروقا فساله فقال له لا تنحر نفسك فانّك ان كنت مومنا قتلت نفسا مومنة وان كنت كافرا تعجلت إلى النار فاشتر كيشا فاذبحه للمساكين فان اسحق خير منك فدى بكبش - فاخبر ابن عباس فقال هكذا كنت أردت ان أفتيك رواه ابن رزين مسئلة من قال كل منفعة تصل إلى من مالك فعلىّ ان أتصدق بها لزمه ان يتصدق بكل ما ملكه - لا بما اباحه له كطعام اذن ان يأكله مسئلة لو قال ان فعلت كذا فكل ما أكلت فعلىّ ان أتصدق فعليه عند وجود الشرط بكل لقمة درهم لان كل لقمة أكلة ولو قال كلما شربت فانما يلزمه بكل نفس لا بكل مصة (مسئلة) من قال للّه علىّ ان أصوم اليوم الّذي يقدم فيه زيد شكر اللّه وأراد به اليمين فقدم فلان في يوم رمضان - كان عليه كفارة يمين ولا قضاء عليه لأنه لم يوجد شرط البر وهو الصوم بنية الشكر - ولو قدم قبل ان ينوى الصوم فنوى به الشكر لا عن رمضان برّ بالنية وأجزأه عن رمضان ولا قضاء عليه - وان لم يرد به اليمين لا شى عليه لان رمضان مشغول بحق اللّه تعالى فلا يجب فيه صوم النذر مسئلة إذا نذر المريض صوم شهر ومات قبل الصحة لا شيء عليه مسئلة من نذر صوم هذا اليوم أو يوم كذا من شهر أو سنة لزمه ما تكرر في الشهر والسنة مسئلة ولو نذر صوم يوم الاثنين والخميس فصام ذلك مرة كفاه الا ان ينوى الابد مسئلة النذر إذا جرى على لسانه(1/4363)
بغير قصد لزمه الوفاء لأنه إنشاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد وقد مرّ مسئلة من قال اللّه علىّ صوم هذه السنة قيل لزمه ان يصوم اثنى عشر شهرا من وقت النذر - وفي فتاوى قاضى خان والخلاصة ان السنة مبداها المحرم وآخرها ذو الحجة فإذا أشار إلى السنة الّتي هو فيها لزمه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 305
صوم ما بقي من السنة إلى اخر ذى الحجة ويلغو في حق ما مضى كما يلغو قوله للّه علىّ ان أصوم أمس - وكذا من قال للّه علىّ صوم هذا الشهر لزمه صوم ما بقي من الشهر الّذي هو فيه مسئلة من قال للّه علىّ صوم أمس اليوم أو اليوم أمس لزمه صوم اليوم ولا يلزمه قضاء أمس مسئلة من نذر صوم السنة يجب عليه ان يفطر الأيام المنهية - وكذا المرأة تفطر ايام حيضها وتقضى « 1 » - وقال زفر لاقضاء عليه وعليها - فان صامها « 2 » اثم وسقط عنه القضاء مسئلة من قالت للّه علىّ ان أصوم ايام حيضتى لا يصح النذر ولا يجب عليها القضاء لانها اضافت إلى وقت غير صالح للصوم كمن قال علىّ ان أصوم ليلة كذا وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) قال البغوي قال ابن عباس والزبير ومجاهد وقتادة سمى عتيقا لان اللّه تعالى اعتقه(1/4364)
من أيدي الجبابرة إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط - أخرج الترمذي وحسّنه عن ابن الزبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما سمى البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار لكن يردّ هذا القول حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة - متفق عليه - وحديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كانى به اسود ا فحج يقلعها حجرا حجرا - رواه البخاري وحديث عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتركوا الحبشة ما تركوكم فانه لا يستخرج كنز الكعبة الا ذو السويقتين من الحبشة رواه أبو داود والحاكم وصححه - فان هذه الأحاديث تدل على تسلط جبار عليه في المستقبل - وذلك ينافى كونه عتيقا بهذا المعنى - وقيل سمى عتيقا لان اللّه اعتقه من الغرق فانه رفع ايام الطوفان - وقال ابن زيد والحسن سمى عتيقا لأنه قديم وهو اوّل بيت وضع للنّاس يقال دينار عتيق أى قديم وقيل العتيق بمعنى الكريم يقال عتاق الخيل لكرامها - وعتق الرقيق خروجه من ذلّ العبودية إلى كرم الحرية - والمختار عندى قول سفيان بن عيينة انه سمى عتيقا لأنه غير مملوك لبشر ولم يملك قط بل لم يملك ما حوله من الحرم سواء العاكف فيه والباد - اعلم ان الطواف بالبيت عبادة معقولة مقصودة كالصلوة - منها ما هو فريضة ركن للحج والعمرة ومنها ما هو واجب كطواف القدوم والصدر على ما نذكر فيه من الاختلاف
_________
(1) وكذا يقضيان الأيام المنهية إذا أفطرا 12 الفقير الدهلوي.
(2) الاولى فان صاماها لذا. الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 306(1/4365)
و ما سوى ذلك تطوع غير موقت بوقت - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا بنى عبد مناف من ولى منكم في امور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بالبيت وصلى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار رواه الشافعي واحمد واصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والدار قطنى والحاكم من حديث أبى الزبير عن عبد اللّه بن باباه عن جبير بن مطعم وصححه الترمذي ورواه الدار قطنى من وجهين آخرين عن نافع بن جبير عن أبيه ومن طريقين آخرين عن جابر وهو معلول ورواه الدار قطنى أيضا عن ابن عباس ورواه أبو ن عيم في تاريخ أصبهان والخطيب في التلخيص من طريق عامر بن عبيدة عن أبى الزبير عن على بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه وهو معلول ورواه ابن عدى من طريق سعيد بن راشد عن عطاء عن أبى هريرة (مسئلة) وطواف التطوع يكون واجبا بالنذر كالصلوة - والمراد بهذه الآية طواف الزيارة في الحج اجماعا وهو ركن من اركان الحج اجماعا - وليس « 1 » شيء من الاطوفة ركنا من الحج سوى طواف الزيارة مسئلة واما طواف القدوم فهو سنة عند أبى حنيفة والشافعي واحمد - وعند مالك واجب وبه قال أبو الثور من الشافعية يجب الدم بتركه ولا يفوت بفواته الحج اجماعا - عن عروة بن الزبير قال قد حج النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبرتنى عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أول شيء بدأبه حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم يكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك - متفق عليه وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا طاق في الحج والعمرة أول ما يقدم اسبعى ثلاثة أطوف ومشى اربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة متفق عليه - احتج مالك بحديث عروة بن الزبير على ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مفردا بالحج لقوله ثم لم يكن عمرة وعلى وجوب طواف القدوم - بالحديثين المذكورين لأنه صلى اللّه عليه وسلم(1/4366)
أول ما قدم طاف طواف القدوم - وقد صح عنه صلى اللّه عليه وسلم انه قال خذوا عنى مناسككم فصار واجبا - وبأن السعى بين الصفا والمروة جائز بعد طواف القدوم اجماعا مع ان السعى بين الصفا والمروة واجب اجماعا - وتقدم الطواف على السعى شرط الجواز السعى اجماعا والواجب لا يتبع التطوع - ولهذا لا يجوز لملكى ان يسعى بين الصفا والمروة الا بعد طواف الزيارة - إذ ليس عليه طواف القدوم ولا يجوز له السعى بعد طواف ناف فان قلت قد دل كثير من الأحاديث الصحيحة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان قارنا لحديث
_________
(1) فى الأصل ل؟؟؟ إلخ الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 307(1/4367)
انس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلبى بالحج والعمرة يقول لبيك عمرة وحجّا متفق عليه وحديث عمران بن حصين انه صلى اللّه عليه وسلم جمع بين حجته وعمرته - وحديث ابن عمر قال تمتع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وهدى فساق معه الهدى الحديث - متفق عليه وبهذا الحديث ونحوه قال احمد بن حنبل انه صلى اللّه عليه وسلم كان متمتعا - قلنا المراد بالتمتع في هذا الحديث هو القرآن - فان التمتع بالعمرة إلى الحج يشتمل لغة من اتى بهما جميعا في عام واحد في أشهر الحج سواء اتى بهما بإحرام واحد أو بإحرامين كما أريد بقوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ - واطلاق التمتع على ما يقابل القرآن اصطلاح جديد للفقهاء - وما ذكرنا من الحديثين وغيرهما صريحة في انه صلى اللّه عليه وسلم أهل بهما جميعا - ثم اختلف الناس انه صلى اللّه عليه وسلم حين دخل المكة هل طاف طوافا واحدا - أم طاف طوافين أحدهما للقدوم وثانيهما للعمرة - فالجمهور على انه صلى اللّه عليه وسلم انه أطاف حين قدومه طوافا واحدا وقال أبو حنيفة طاف طوافين احتج الجمهور بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة وطاف وسعى بين الصفا والمروة ولم يقرب الكعبة لطوافه بها حتى رجع من عرفة وحديث ابن عمر انه أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل ان الناس كائن بينهم وانا لخاف ان يصدون - فقال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ اذن اصنع كما صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى أشهدكم انى قد أوجبت عمرة - ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء فقال ما شأن الحج والعمرة الا واحدا أشهدكم انى أوجبت حجا مع عمرتى واهدى هديا اشتراه بقديد - فلم ينحر ولم يحل من شيء يحرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر و(1/4368)
حلق وراى انه قد قضى الحج والعمرة بطوافه الأول قال ابن عمرو كذلك فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متفق عليه وفي رواية قال الراوي في اخر الحديث كان يقول ابن عمر من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد لم يحل حتى يحل منهما جميعا - وفي رواية لمسام حتى إذا جاء البيت فطاف سبعا وسعى بين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه وراى انه مجزى عنه -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 308(1/4369)
و احتجت الحنفية بحديث علىّ انه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال هكذا رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعل - رواه الدار قطنى والنسائي بطرق ورواه محمد في كتاب الآثار عن أبى حنيفة بسنده عن على موقوفا انه قال إذا أهللت بالحج والعمرة فطف لهما طوافين واسبع لهما سعيين بين الصفا والمروة - وروى الطحاوي بسنده عن على وابن مسعود قال القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين قال الحافظ ما روى عن علىّ وابن مسعود طرقه ضعيفة مرفوعا - لكن روى الطحاوي وغيره موقوفا عن علىّ وابن مسعود بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت - قلت هذا الحديث لو ثبت لا يدل على انه صلى اللّه عليه وسلم طاف حين قدومه بمكة قبل رواحه إلى منى طوافين طوافا للعمرة وطوافا للقدوم بل معنى هذا الحديث انه صلى اللّه عليه وسلم طاف لعمرته وسعى لها وذلك قبل رواحه إلى منى وطاف للحج يوم النحر وسعى له - وكذا معنى حديث عمران بن حصين ان النبي صلى اللّه عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعين رواه الدار قطنى ولم يرو عنه صلى اللّه عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة ولا الضعيفة انه طاف للقدوم بعد طواف حمرته الا ما في مسند أبى حنيفة عن الضبي بن معبد قال أقبلت من الجزيرة حاجّا قارنا فمررت بسليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فسمعانى أقول لبيك بحجة وعمرة معا فقال أحدهما هذا اضلّ من بعيره وقال الاخر هذا أضل من كذا وكذا - فمضيت حتى قضيت نسكى ومررت بامير المؤمنين عمر فساقه إلى ان قال فيه - قال يعنى عمر له فصنعت ماذا قال مضيت فطفت طوافا لعمرتى وسعيت لعمرتى ثم عدت ففعلت مثل ذلك(1/4370)
لحجى ثم بقيت حراما ما أقمنا اصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت اخر نسكى - قال هديت لسنة نبيك صلى اللّه عليه وسلم - ومسند الامام أبى حنيفة بين جامعه وبين الامام رجال لا يعرف حالهم فاحاديث المسند لا يصلح ان يعارض ما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس انه لم يقرب بطوافه بها حتى رجع من عرفة واللّه اعلم ولما ثبت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان قارنا ولم يطف حين قدومه سوى طواف العمرة - ظهر ان طواف القدوم ليس ركنا من اركان الحج ولا واجبا مستقلّا برأسه بل هو سنة مثل ركعتى تحية المسجد يتادى في ضمن واجب أو سنة اخر - الا ترى انه من اتى المسجد وصلى فريضة أو سنة موكدة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 309(1/4371)
حين دخول المسجد اجزأته عن تحية المسجد فالنبى صلى اللّه عليه وسلم لما قدم مكة وطاف للعمرة اجزأته عن طواف القدوم - (مسئلة) واما طواف الصدر فهو أيضا ليس بركن اجماعا بل هو واجب عند أبى حنيفة واحمد وهى رواية عن الشافعي لكن عند أبى حنيفة رحمه اللّه هو من واجبات الحج - فمن طاف للوداع ثم اتفق له المقام بمكة ثم خرج بعد زمان لا يجب عليه الا عادة - وقال محمد هو واجب برأسه على من يريد ان يخرج من مكة مسافرا ففى الصورة المذكورة يجب عليه إعادة الطواف عنده وسنة عند مالك وهو أحد قولى الشافعي ويسقط بعذر الحيض والإحصار اجماعا - لنا حديث ابن عباس قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى اللّه عليه لا ينفر أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت رواه احمد ورواه الدار قطنى بلفظ كان الناس ينفرون من منى إلى وجوههم فامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يكون اخر عهدهم بالبيت ورخص الحائض ورواه مسلم بلفظ لا ينفر أحدكم حتى يكون اخر عهده بالبيت - وفي المتفق عليه بلفظ امر الناس ان يكون اخر عهدهم بالبيت الا انه خفف عن الحائض وحديث ابن عمر قال من حج البيت فليكن اخر عهده بالبيت الطواف الا الحيض رخص لهنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وحديث عبد اللّه بن أوس قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن اخر عهده بالبيت - رواه الترمذي احتج أبو حنيفة بهذا الحديث انه من واجبات الحج لقوله صلى اللّه عليه وسلم من حج البيت إلخ حيث جعل الطواف من واجبات الحج - قلت فعلى هذا يلزم ان يكون من واجبات العمرة أيضا ولم يقل به أحد - ولاحمد عموم قوله صلى اللّه عليه وسلم لا ينفر أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت ولا يلزم على اصل أبى حنيفة حمل المطلق على المقيد لكون التقييد داخلا على السبب كما في قوله صلى اللّه عليه وسلم أدوا عن كل حر وعبد وقوله عليه(1/4372)
السلام أدوا عن كل حر وعيد من المسلمين - بل يقال النفور مطلقا سبب للطواف والنفور عن الحج أيضا سبب ولا منافاة بينهما واللّه اعلم فصل وللطواف بالبيت شرائط واركان وواجبات وسنن وآداب اما الشرائط
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 310
فمنها النية فانها شرط لكل عبادة مقصودة بالنصوص والإجماع لكن يكفى لطواف الزيارة نية مطلق الطواف ولا يشترط تعين نية الفرض - فان قيل طواف الزيارة ركن من اركان الحج كالوقوف بعرفة وليست النية شرطا للوقوف حتى من وقف بعرفة نائما أو مغى عليه أو وقف على جبال ولم يعرف اىّ منها العرفة يجزيه - قال عروة بن مضرس جئت يا رسول اللّه من جبل طيء أكللت مطيتى وأتعبت نفسى واللّه ما تركت من جبل الا وقفت عليه فهل لى من حج فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أدرك معنا لهذه الصلاة يعنى صلوة الصبح بجمع واتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه - رواه أبو داود وغيره فما وجه الفرق بين الطواف والوقوف - ثم ان كانت شرطا فما وجه قولكم يكفيه نية مطلق الطواف ولا يشترط نية تعين الفرض مع ان تعين النية شرط لكل فريضة وقتها ظرف لها وليس بمعيار كالصلوة - قلنا تحقيق المقام ان النية بجميع المناسك قد اقترن بالإحرام في ضمن نية الحج - فما لم يعترض نية أخرى منافية لنية النسك يعتبر ذلك النية السابقة موجودة عند كل ركن ولا(1/4373)
يشترط تجديدها كما في افعال الصلاة - الا انه ما كان من المناسك عبادة مستقلة كالطواف وركعتى الطواف ويشترط تجديد مطلق النية عند شروعه لان الصلاة والطواف لكل منهما جهتان عبادة في نفسه وجزء عبادة - فمن حيث انه عبادة في نفسه لا بد فيه من اقتران النية باول جزء من اجزائه - ومن حيث انه جزء عبادة يكفيه النية السابقة المقترنة للاحرام - فعملنا بالشبهين وقلنا لا بد فيه مطلق النية عند الشروع لأنه عبادة ولا يشترط تعيين النية لأنه جزء من عبادة - وما ليس بعبادة الا من حيث كونه جزء للحج كالوقوف بعرفة والسعى بين الصفا والمروة فقلنا انه لا يشترط اقتران النية به بل يكفيه اقتران النية بالإحرام (مسئلة) من طاف حاملا غيره فان كان الحامل حلالا والمحمول محرما ونوى طواف المحمول ونوى المحمول طوافه أو كان على العكس ونوى الحامل طواف نفسه أجزأه اجماعا - وان كان محرمين فان قصد للمحمول ففط فله وان طاف لنفسه فلنفسه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 311(1/4374)
و ان طاف لهما فللحامل فقط عند الشافعي وعند أبى حنيفة ان طاف لنفسه أولهما ونوى المحمول طواف نفسه يتادى طوافهما لوجود النية منهما ولا منافاة بينهما (مسئلة) ومنها الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر - ومنها طهارة البدن والثوب والمكان عن الأحداث - ومنها ستر العورة عند الجمهور لما مر من حديث عائشة قالت أول شيء بدا به حين قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم انه توضاء ثم طاف مع قوله صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى مناسككم وفي الصحيحين عن عائشة قالت قدمت مكة وانا حائض - إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم افعلي كما يفعل الحاج غير ان لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى وفي رواية لمسلم حتى تغتسلى وعن عائشة قالت حاضت صفية ليلة النفر وفيه قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفرى - متفق عليه وفي الصحيحين عن أبى هريرة ان أبا بكر الصديق بعثه في الحجة الّتي امّره عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذّن في الناس ان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان - ولقوله تعالى طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الآية فانه امر بتطهير المكان عبارة وبتطهير الثوب والبدن دلالة بالطريق الاولى وكذا بالتطهير عن الأحداث بالطريق الاولى إذا الاخباث أخف من الأحداث شرعا حيث يجوز الصلاة مع النجاسة عند الضرورة بخلاف الحدث - قال ابن عباس قال اللّه تعالى لنبيه طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فالطواف قيل قبل الصلاة وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطواف بمنزلة الصلاة الا ان اللّه قد احلّ فيه النطق فمن نطق فلا ينطق الا بخير - رواه الحاكم في المستدرك وصححه والطبراني والبيهقي وروى أبو نعيم في الحلية المرفوع فقط وروى الترمذي والحاكم والدار قطنى وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وصححه ابن السكن قوله صلى اللّه عليه و(1/4375)
سلم الطواف بالبيت صلوة الا ان اللّه أباح فيه الكلام - وعند أبى حنيفة رحمه اللّه الطهارة عن الاخباث سنة وستر العورة والطهارة عن الأحداث واجب يا ثم بتركه ويجب بدنة ان طاف الفرض جنبا أو عريانا ودم مطلقا - ان طاف للفرض محدثا أو غيره جنبا أو عريانا - وصدقة بنصف صاع من بر على مسكين ان طاف غير الفرض محدثا - وليس شيء من ذلك شرطا عنده لان ثابت بالكتاب مطلق الطواف والزيادة على الكتاب في حكم النسخ عنده ولا يجوز
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 312
نسخ الكتاب بأحاديث الآحاد فقال بالوجوب عملا بالأحاديث ولم يقل بالاشتراط لئلا يلزم نسخ الكتاب (مسئلة) ومن شرائط طواف الزيارة الوقت لا يتادى قبله ويقضى بعده اجماعا فان اخّر عن الوقت بتقصيره يجب عليه الدم عند أبى حنيفة رحمه اللّه خلافا للجمهور - وان اخّر بعذر كالاحصار والحيض ونحوهما لا يجب الدم - ووقته من طلوع الفجر يوم النصر عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعند الائمة الثلاثة بعد نصف الليل من ليلة النحر لحديث عائشة قالت أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فافاضت - رواه الدار قطنى والحديث ضعيف لان في سنده ضحاك بن عثمان ليّنه القطان ومعارض بحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدّم ضعفة(1/4376)
اهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس - رواه الترمذي وقال هذا الحديث صحيح وأخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن الغربي وهو حديث حسن وأخرجه الترمذي والطحاوي وله طرق اخر عند أبى داود والنسائي والطحاوي وابن حبان يقوى بعضها بعضا وأيضا الافاضة معطوفة في حديث عائشة على الرمي بكلمة ثم والفاء فلا يدل تقدم الافاضة على طلوع الفجر - واخر وقته عند أبى حنيفة إلى غروب الشمس من ثانى ايام التشريق وقيل وقته يوم النحر خاصة - وقد ذكرنا في سورة البراءة في تفسير قوله تعالى وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ « 1 » إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ان عند الجمهور هو يوم النحر رواه أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر مرفوعا وهو المروي عن على عليه السلام - وروى بن جريج عن مجاهد يوم الحج الأكبر ايام منى كلها وكان الثوري يقول يوم الحج الأكبر ايام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين من الزمان - (مسئلة) ومن شرائط الطواف الترتيب عند مالك والشافعي واحمد وبه قال محمد وهو ان يبتدى الطواف من الحجر الأسود يقوم مستقبلا بحيث يكون جميع الحجر عن يمينه فيطوف جاعلا للبيت عن يساره فلو طاف جاعلا للبيت عن يمينه لا يجوز ولو بدأ بغير الحجر لم يحتسب فإذا انتهى إليه ابتدأ منه - وقال أبو حنيفة الترتيب ليس بشرط
_________
(1) وفي الأصل وأذان من اللّه إلى الناس إلخ - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 313(1/4377)
فعند اكثر الحنفية سنة يكره تركه والصحيح انه واجب عند أبى حنيفة رحمه اللّه يلزم بتركه دم لمواظبة النبي صلى اللّه عليه وسلم على ذلك وقوله خذوا عنى مناسككم - ولم يقل بالاشتراط لئلا يلزم الزيادة على الكتاب - (مسئلة) ويشترط ان يطوف في المسجد لا حول المسجد اجماعا للنقل المستفيض المتواتر كذلك قالوا من طاف حول المسجد لا يقال له انه طاف بالبيت بل يقال انه طاف بالمسجد فكان هذا القصر قصرا بدلالة العرف (فصل) وركن الطواف سبعة أشواط فان قيل الأمر لا يقتضى التكرار قلنا كما لا يقتضى التكرار لا ينفيه وقد نقل إلينا بالنقل المستفيض عدد الطواف كعدد الركعات (مسئلة) من طاف اربعة أشواط وترك ثلاثة أجزأه عند أبى حنيفة ويلزمه الدم في طواف الزيارة والصدقة في غيره لان للاكثر حكم الكل ويجبر النقصان بالدم والصدقة ولا يجز به عند غيره كما لا يجزى من ترك ركعة من الظهر - فان عدد الأشواط كعدد الركعات واللّه اعلم - (مسئلة) الحطيم قطعة من البيت يج ب الطواف وراءه لحديث عائشة قالت سالت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الجدر آمن البيت هو قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال ان قومك قصرت لهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك يدخلها من شاء واو يمنع من شاءوا - لو لا ان قومك حديث عهدهم بالجاهلية فاخاف ان ينكر قلوبهم ان ادخل الجدر في البيت وان الصق بابه بالأرض متفق عليه وروى الترمذي والنسائي عنها قالت كنت احبّ ان أصلي في البيت فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدي فادخلنى الحجر وقال صلّى فيه فانما هو قطعة من البيت الحديث - وروى أبو داؤد نحوه واختار المحفقون ان بعض الحطيم من البيت وهو ستة ادرع وشيء لما روى مسلم عن عائشة قوله صلى اللّه عليه وسلم لو لا قومك حديث عهد بالشرك لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيّا وبابا غربيّا ورددتّ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 314(1/4378)
فيها ستة اذرع من الحجر - وفي رواية لمسلم علمى لاريبك ما تركوا مه فاراها قريبا من سبعة اذرع - وروى البخاري بسنده عن جرير بن حازم قال قال يزيد بن رومان شهدتّ ابن الزبير حين هدمه وبناه وادخل فيه الحجر وقد رايت أساس ابراهيم حجارة كاسنمة الإبل فاشار إلى مكان. قال جرير فخرزت من الحجر ستة اذرع أو نحوها - وروى عن مجاهد ان ابن الزبير زاد فيه ستة اذرع مما يلى الحجر - وفي رواية سنة اذرع وشبر - (مسئلة) من طاف داخل الحطيم يجزيه عند أبى حنيفة ويلزمه دم لان كونه من البيت ثبت بحديث الآحاد فلا يجوز به الزيادة على الكتاب - وقال الجمهور لا يجزيه لان الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد عندهم جائز - قلت ليس هذا زيادة على الكتاب لان اللّه تعالى امر بالطواف بالبيت العتيق واللام للعهد - والمراد البيت الّذي بناه ابراهيم كما يقتضيه سياق الآية من قوله تعالى وإذ بوّأنا لابراهيم مكان البيت - وإذا ثبت بدليل ظنى ان الحطيم قطعة من البيت فمن طاف داخل الحطيم وقع الشك في كونه مجزيا وقد وجب عليه طواف البيت قطعا فلا يخرج من العهدة بالشك - أو يقال البيت الّذي بناه ابراهيم مجمل في حق المقدار التحق الحديث به بيانا (مسئلة) جاز الطواف للزيارة راكبا بعذر اجماعا - واما بغير عذر فالمشى في الطواف واجب عند أبى حنيفة - فمن طاف راكبا بلا عذر يجب عليه ان يعيد مادام بمكة فان لم يعد يجب عليه الدم - وقال الجمهور المشي سنة وليس بواجب لحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعيره كلما اتى الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر - متفق عليه وحديث جابر طاف النبي صلى اللّه عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسئلوه رواه مسلم وفي حديث عائشة طاف النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهة ان يضرب عنه الناس قالت الحنفية كان ذلك لاجل المرض لما روى(1/4379)
ابو داؤد عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 315
قدم مكة وهو يشتكى فطاف على دابته كلّما اتى الركن استلم الركن بمحجنه فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين - وأجيب بان مجرد الاحتمال لا يكفى وما رواه أبو داود ضعيف
لانه من رواية يزيد بن أبى زياد وهو ليس بالقوى لا يحتج بحديثه وقد أنكره الشافعي وقال لا اعلمه اشتكى في هذه الحبة قلت ولو كان قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة مشنكيا لكان شكواه مانعا من المشي في طواف القدوم أيضا - وقد صح عنه صلى اللّه عليه وسلم من حديث جابر وغيره انه صلى اللّه عليه وسلم طاف طواف القدوم فرمل ثلاثا ومشى أربعا - وصح عنه صلى اللّه عليه وسلم انه سعى بين الصفا والمروة وكان يدور إزاره من شدة السعى - فثبت انه صلى اللّه عليه وسلم انما طاف للزيارة راكبا لبيان الجواز وتعليم الناس مناسكهم واما طواف النافلة فيجوز عند الجمهور بلا كراهة ولعله مكروه على اصل أبى حنيفة - لنا انه صلى اللّه عليه وسلم لما فتح ملة وطاف عند قدومه طاف على راحلته كما ذكرنا رواية البخاري في سورة الفتح - (مسئلة) والموالاة ليس بشرط في الطواف اجماعا بل هو سنة - روى سعيد بن منصور عن ابن عمر انه طاف بالبيت فاقيمت الصلاة فصلى مع القوم ثم قام فبنى على ما مضى من صوافه - وكذا روى عبد الرزاق عن عبد الرحمان بن أبى بكر وروى سعيد بن منصور عن عطاء انه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه تم يحضر الجنازة فيخرج فيصلى عليها ثم يرجع فيقضى ما بقي من طوافه - وقال نافع طول القيام في الطواف بدعة وروى عن الحسن انه قال من أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف فقطعه انه يستانفه (مسئلة) ويكره قطع طواف فريضة وان أقيمت الصلاة المكتوبة - الا ترى إلى حديث أم سلمة انها طافت للصدر والنبي صلى اللّه عليه وسلم يصلى الصبح (مسئلة) يقطع الطواف النافلة لو أقيمت للفريضة أو خاف فوت صلوة(1/4380)
الجنازة أو نحوها لا لعبادة نافلة والاولى ان يقطع على الوتر لما ذكرنا من اثر عبد الرحمان بن أبى بكر (مسئلة) يجب بعد كل أسبوع ركعتان عند أبى حنيفة وهو رواية عن مالك وأحد قولى الشافعي فيلزم بتركه دم - وقد ذكرنا المسألة وما يتعلق بها
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 316
فى تفسير قوله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى في سورة البقرة - (فصل) وآداب الطواف انه إذا راى البيت كبر وهلل ودعا روى الطبراني ان الدعاء مستجاب عند رؤية الكعبة - ثم استقبل الحجر وكبر وهلل وقبّله لشفتيه ان عط قدر غير مؤذ - روى البخاري عن ابن عمر انه صلى اللّه عليه وسلم كان يستلمه ويقبّله وروى الشافعي مرفوعا وضع شفتيه عليه طويلا - وعند ابن ماجة وضع عليه شفتيه يبكى طويلا - وعند الحاكم قبّله وسجد « 1 » عليه - وان عط لم يقدر يمس شيئا وقبله لما موّ انه صلى اللّه عليه وسلم طاف على بعيره يستلم الركن بمحجنه وان عط عجز استقبله عن سعيد بن المسيب عن عمر انه صلى اللّه عليه وسلم قال له انك رجل قوى لا تزاحم على الحجر فتؤذى الضعيف ان وجدت خلوة فاستلمه والا فاستقبله وكبر وهلل - رواه احمد - (مسئلة) وإذا اتى الركن اليماني استلم عند الجمهور وعند أبى حنيفة استلام الركن اليماني مستحب ليس بسنة وفي الصحيحين عن ابن عمر رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستلمهما يعنى الحجر الأسود والركن اليماني - وروى الدار قطنى مرفوعا كان يقبّل الركن اليماني ويضع عليه خده - وروى ابن ماجة عن أبى هريرة مرفوعا وكّل يعنى بالركن اليماني سبعون ملكا فمن قال اللهمّ انى أسئلك العفو والعافية في الدنيا والاخرة ربّنا اتنا في الدّنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النّار قالوا أمين (مسئلة) ويرمل في الثلاثة الأول من أشواط طواف القدوم مضطبعا « 2 » وهو سنة من الحجر إلى الحجر صح عنه صلى اللّه عليه وسلم انه رمل من الحجر إلى الحجر(1/4381)
ثلاثا ومشى أربعا وكلما مرّ بالحجر والركن فعل كما فعل أول مرة وختم الطواف باستلام الحجر - كذا صح عنه صلى اللّه عليه وسلم ثم يصلى شفعا عند المقام ويقرا قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ والإخلاص ثم يرجع فيستلم الحجر ويكبّر ويهلّل - روى
_________
(1) عن ابن عباس قال رايت عمر بن الخطاب قبّل الحجر وسجد عليه ثم قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعل هذا - منه رح.
(2) والاضطباع ان يدخل جانب ردائه الايمن تحت إبطه الايمن ويلقيه على كتفه اليسرى فتكون كتفه اليمنى مكشوفة - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 317
مسلم في حديث جابر انه صلى اللّه عليه وسلم جعل المقام بينه وبين البيت وصلى ركعتين قرأ فيهما قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم رجع إلى الركن الأسود فاستلمه
ذلك
خبر مبتدا محذوف أو مبتدا خبره محذوف - أو فاعل لفعل محذوف أو منصوب بفعل محذوف يعني الأمر ذلك أو ذلك ثابت واجب الامتثال أو وجب ذلك أو عرفت ذلك أو احفظ ذلك - وذلك اشارة إلى ما سبق من الاحكام وهو وأمثاله يطلق المفصل بين كلامين.(1/4382)
وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ يعنى معاصى اللّه ومنهى عنه وتعظيمها ان يشق عليه اقترابها - فان المؤمن يرى خطيئته صدرت منه كمثل حبل على رأسه يخاف ان يقع عليه - وان المنافق يرى خطيئته كمثل ذباب على انفه فعل بيده هكذا فطارت كذا وقع في الحديث - وقال اللبث حرمات اللّه مالا يحل انتهاكها يعنى أوامر اللّه ونواهيه - وقال الزجاج الحرمة ما وحب القيام به وحرم التفريط فيه وذهب قوم إلى ان معنى حرمات اللّه المناسك - وقال ابن زيد الحرمات هاهنا البلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام فَهُوَ يعنى تعظيم الحرمات خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ثوابا وأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه حيث قال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية يعنى فلم تحرمون منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى - وهذه جملة معترضة فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أى الرجس الّذي هو الأوثان سماه رجسا أى قذرا لان العقول والطباع السليمة يتنفر عنها كما يتنفر المرء عن القاذورات - فهو غاية المبالغة في النهى عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها - وقيل هو بمعنى الرجز وهو العذاب سماه رجسا لأنه سبب للتعذيب وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) يعنى الكذب مشتق من الزّور بفتح الزاء بمعنى الانحراف كما ان الافك من الافك بمعنى الصرف - فان الكذب منحرف مصروف عن الواقع - والمراد هاهنا قولهم الملائكة بنات اللّه والأوثان شفعاؤنا عند اللّه وقولهم في تلبيتهم لبّيك لا شريك لك الا شريكا تملكه وما ملكه - واللفظ عام يعم جميع انواع الكذب في الحكايات والمعاملات
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 318
روى احمد وأبو داود وابن ماجة والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن خريم بن فاتك؟؟؟(1/4383)
الأسدي قال صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة الصبح فلما انصرف قام قائدا فقال عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه ثلاث مرات - ثم قرأ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. قال قتادة كانوا في الشرك يحجون ويمنعون البنات والأمهات والأخوات وكانوا ليسمون أنفسهم حنفاء والحليف عند العرب من كان على دين ابراهيم عليه السّلام فنزلت هذه الآية يعنى اجتنبوا الشرك وقول الزور حتى تكونوا على دين ابراهيم.(1/4384)
حُنَفاءَ لِلَّهِ أى مخلصين له الدين من الحنف محركة وهو الاستقامة كذا في القاموس والاستقامة على الحق هو الإخلاص للّه والاعراض عما سواه غَيْرَ مُشْرِكِينَ به في العبادة ولا في اثبات وجوب الوجود والالوهية - يعنى من أشرك لا يكون حنيفا ولا على ابراهيم فانه لم يك من المشركين - قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مع ما عطف عليه معلوف على قوله وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ متفرع عليه وهو خير لفظا لكنه امر معنى فان معناه عظموا حرمات واجتنبوا الأوثان لان عبادة الأوثان من أعظم المحرمات وأشدها فعلا - والقول بما كان المشركون يقولونها ندبا أعظمها وأشدها قولا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ غيره فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ يعنى ان عبادة اللّه تعالى كمال ورفعة لا رفعة فوقه - فيوفوق كل شيء كمن هو مستو على السماء فهو فوق كل شيء في الحس ولا يعد له غيره في الارتفاع - ثم إذا عبد مع اللّه غيره من الممكنات فكانّما سقط من السماء إلى الحضيض - إذ لا مذلّة فوق من اذلّ نفسه حتى عبد حمكنا مثله بل دونه من الحجارة وأمثالها فَتَخْطَفُهُ قرأ نافع بفتح الخاء وشديد الطاء من التفعيل للمبالغة والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الظاء من المجرد الطَّيْرُ استعارة بالكناية أراد بالطير الاهوية المردية فانها تخطفه أى تسلبه وتوزع أفكاره أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ استعارة مثله أراد بالريح الشيطان فانه يهوى ويطرح به فِي مَكانٍ من الضلالة سَحِيقٍ (21)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 319(1/4385)
بعيد من الحق يعنى من أشرك استولى عليه النفس أو الشيطان وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع - وقال البيضاوي أو للتنويع فان من المشركين من لا خلاص له أصلا فكانما اختطفه الطير فلم يبق من جسده شيء - ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة كمن أوقعه الريح في مكان بعيد يمكن ان يأتى من هناك إلى مأواه - والظاهر انه من التشبيهات المركبة والمعنى انه من يشرك باللّه فهو كمن سقط من السماء فانه لا يملك لنفسه حيلة ويهلك لا محالة اما باستلاب الطيران واما بسقوطه في مكان سحيق - قال الحسن شبه اعمال الكفار بهذا الحال في انها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها وعن البراء بن عازب في حديث طويل ذكرنا بعضه في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قوله صلى اللّه عليه وسلم في ذكر موت العبد الكافران الملائكة يصعدون بروحه حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ الآية فيقول اللّه اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ الآية .
ذلِكَ تفسيره مثل ما سبق وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قال ابن عباس شعائر اللّه البدن والهدى وأصلها من الاشعار وهو اعلامها ليعرف انها هدى وتعظيمها استسمانها - وقد صح انه صلى اللّه عليه وسلم اهدى مائة بدنة - وروى أبو داود ان عمر رضى اللّه عنه اهدى نجيبة طلبت منه بثلاث مائة دينار فَإِنَّها أى تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) أى من افعال ذوى تقوى القلوب فحذف هذه المضافات - وذكر القلوب لانها منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما.(1/4386)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعنى لكم في تلك الشعائر أى البدن والهدى منافع يعنى جاز لكم الانتفاع بها بركوبها والحمل عليها وشرب لبنها غير مضربها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى وقت معلوم يعنى إلى ان تنحروها كذا قال عطاء بن رباح وبه قال مالك والشافعي واحمد وإسحاق انه جاز ركوب الهدى والحمل عليها وشرب لبنها غير
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 320(1/4387)
مضربها. ويؤيده حديث أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها فقال انها بدنة قال اركبها قال انها بدنة قال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة متفق عليه وحديث انس نحوه رواه البخاري وحديث ابن عمر رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها وما أنت مستنّ سنة أهدى من سنة محمد صلى اللّه عليه وسلم رواه الطحاوي وقال أبو حنيفة لا يجوز ركوبها ولا الحمل عليها ولا شرب لبنها الا لضرورة لأنه لمّا جعلها كلها للّه تعالى فلا ينبغى ان يصرف منها شيئا لمنفعة نفسه وهذا المعنى يقتضى المنع مطلقا سواء كان به ضرورة اولا - ويؤيده قوله تعالى وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ولا شك ان الركوب والحمل ينافى التعظيم والاستسمان لكن لما ثبت بالأحاديث جواز الركوب قلنا بالجواز في حالة الضرورة حملا للاحاديث المذكورة على تلك الحالة كيلا يلزم ترك العمل بالسنة ويدل على اشتراط الضرورة ما روى الطحاوي بسندين عن حميد الطويل عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راى رجلا يسوق بدنة وقد جهد قال اركبها قال يا رسول اللّه انها بدنة قال اركبها وفي رواية قال اركبها وان كانت - وروى أيضا عن ابن عمر انه كان يقول في الرجل إذا ساق بدنة فاعيى ركبها وما أنتم بمستن سنة هى اهدى من سنة محمّد صلى اللّه عليه وسلم وروى مسلم عن أبى الزبير قال سمعت جابر بن عبد اللّه يسئل عن ركوب البدن قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا الجأت إليها حتى تجد ظهرا - والمراد بالمنافع في الآية عندنا دفع الضرورة عند الإلجاء وقال مجاهد وقتادة والضحاك معنى الآية لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى إلى ان تسميها وتوجبها « 1 » هديا فإذا فعل ذلك لم يكن شيء من منافعها ثُمَّ مَحِلُّها أى موضع حلول أجلها يعنى منحرها وقيل معناه وقت نحرها وحلول أجلها و(1/4388)
محلها معطوف على منافعها وكلمة ثم يحتمل التراخي في الوقت فان وقت الانتفاع قبل وقت النحر - أو التراخي في الرتبة لان المراد بالمنافع النافع الدنيوية ونحرها
_________
(1) الاولى تسموها وتوجبوها إلخ الفقير الدهلوي [.....]
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 321(1/4389)
للثواب وهو من المنافع الاخروية يعنى لكم فيها منافع دنيوية ثم لكم فيها محلها يعنى نحرها وهو مما ينتفع به في الاخرة إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) حال من محلها وهو فاعل للظرف المستقر بواسطة حرف العطف يعنى لكم محلها كائنا إلى البيت العتيق - وجاز ان يكون محلها مبتدأ محذوف الخبر والظرف حال منه على طريقة ضربى زيدا قائما يعنى محلها كائن منتهيا إلى البيت العتيق - وجاز ان يكون محلّها مبتدا والظرف خبره والجملة معطوفة على جملة سابقة - والمراد بالبيت العتيق الحرم كله إذ هو في حكم البيت في كونه عتيقا غير مملوك لاحد وهو حريم البيت ويقال في العرف بلغت البلد إذا بلغت فناءه وجاز ان يكون التقدير ثمّ محلّها الحرم من أقصى أطرافه إلى البيت العتيق وهذه الآية حجة على جواز النحر في اىّ موضع شاء من الحرم - وقال مالك لا ينحر الحاج الّا بمنى ولا المعتمر الا بمروة لان النبي صلى اللّه عليه وسلم فعل هكذا - قلنا نحر النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحج بمنى لا ينفى جواز النحر في غيره إذا ثبت بالكتاب والسنة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر وكل عرفة وكل المزدلفة موقف - رواه أبو داود وابن ماجة من حديث جابر - وقيل شعائر اللّه اعلام دينه ولا شك ان تعظيمها من افعال أهل التقوى - وعلى هذا التأويل قوله تعالى لَكُمْ فِيها مَنافِعُ متصل بقوله تعالى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ولَكُمْ فِيها أى في الانعام منافع دنيوية تنتفعون بها إلى أجل مسمّى وهو الموت ثم محلها منتهية « 1 » إلى البيت الّذي يرفع إليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها - وقليل شعائر اللّه فرائض الحج ومشاهد مكة لكم فيها منافع دنيوية بالتجارة في الأسواق إلى أجل مسمّى إلى وقت المراجعة والخروج من مكة ومنافع اخروية بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى أجل مسمى أى الى(1/4390)
انقضاء ايام الحج ثم محلها أى محل الناس فيها من إحرامهم منتهى إلى البيت العتيق ان يطوفوا فيه طواف الزيادة يوم النحر - .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أى جماعة مؤمنة سلفت منكم جَعَلْنا مَنْسَكاً قرأ حمزة والكسائي بكسر السين هاهنا وفي اخر السورة يعنى موضع نسك اى
_________
(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب سنة فتامل - الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 322(1/4391)
متعبد والباقون بفتح السين بمعنى الموضع أو المصدر أى اراقة الدعاء وذبح القرايين أو قربانا يتقربون به إلى اللّه لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ دون غيره ويجعلوا نسيلهم لوجهه علّل الجعل به تنبيها على ان المقصود من جعل المناسك تذكّر المعبود وفيه دليل على كون الذكر شرطا للذبح عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند نحرها وذبحها سماها بهيمة لانها لا تتكلم وقيدها بالانعام لان من البهائم ما ليس من الانعام كالخيل والبغال والحمير ولا يجوز ذبح شيء منها في القرابين الا الانعام بل الاهلية منها اجماعا - وهذه الجملة معترضة لتحريض أمة محمّد صلى اللّه عليه وسلم على التاسّى بمن سبق فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعنى سموا على الذبائح اسم اللّه وحده إذ لا اله لكم غيره جملة معللة يعنى جعلنا لكل أمة متعبدا ليذكروا اللّه وحده لان اله كلهم واحد وان كانوا امما شتى فَلَهُ دون غيره أَسْلِمُوا انقادوا واطبعوا يعنى أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالاشراك وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) عطف على قوله وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ان كان خطابا لنبينا صلى اللّه عليه وسلم والا فعلى وَإِذْ بَوَّأْنا يعنى اذكر وقت تبويتنا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الخبيت الشيء الحقير يعنى من خشع وعدّ نفسه حقيرا يقال اخبت إذا خشع وتواضع كذا في القاموس ومن هاهنا قال ابن عباس وقتادة معناه المتواضعين وقال الأخفش الخاشعين وقيل الخبت المكان المطمئن من الأرض ومن هاهنا قال مجاهد المطمئنين إلى اللّه وقال النخعي المخلصين فان الاطمئنان هو الإخلاص - وقال الكلبي هم الرقيقة قلوبهم - وقال عمرو بن أوس هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.(1/4392)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هيبة منه لاشراق أشعة جلاله عليها وعرفان عظمته وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصائب وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ فى أوقاتها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) عطف على صلة اللام الموصول يعنى بشر الذين يقيمون الصّلوة وينفقون مما رزقنهم.
وَالْبُدْنَ جمع بدنة كخشب وخشبة قال الجزري في النهاية البدنة يقع على الجمل والناقة والبقرة وهى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 323(1/4393)
بالإبل أشبه وسميت بدنة لعظمها وسمنها - وقال في القاموس البدنة محركة من الإبل والبقر وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه وقال عطاء والسدى البدن الإبل والبقر واما الغنم لا يسمى بدنة - وقال الشافعي هو من الإبل خاصة قال البيضاوي انما سميت بها الإبل لعظم بدنها ماخوذة من بدن بدانة وقال البغوي سميت بدنة لعظمها وضخامها يريد الإبل العظام الضخام الأجسام يقال بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم - واما إذا اسنّ واسترخى يقال بدّن تبدينا واحتج القائلون بانها من الإبل خاصة بحديث جابر قال نحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية البقر عن سبعة والبدنة عن سبعة - رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح - قلنا روى مسلم عن جابر بلفظ قدمنا مكة فقال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لم يكن معه هدى فليحلل وأمرنا ان نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منافى بدنة قوله والبدن مفعول أول منصوب بفعل مضمر يفسره جَعَلْناها لَكُمْ مفعول ثان مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أى كائنا من اعلام دينه الّتي شرعها اللّه - حال من المفعول الأول قيل سميت شعائر لانها تشعر أى يطعن بحديدة في سنامها ليعلم انها هدى لَكُمْ فِيها خَيْرٌ منافع دينية ودنيوية فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها روى الحاكم في المستدرك عن بن عباس موقوفا انه قال ان كانت بدنة فليقمها ثم ليقل اللّه اكبر اللّه اكبر اللّه اكبر اللّهم منك ولك ثم ليسم اللّه ثم لينحر - وروى أبو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن جابر مرفوعا انه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على « 1 » ملة ابراهيم حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...(1/4394)
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا من المسلمين اللهم منك ولك بسم اللّه واللّه اكبر صَوافَّ أى مصفوفة قال في القاموس فواعل بمعنى مفاعل أى قياما على ثلاثة قوائم قد صفت رجليها واحدى يديها و
_________
(1) قوله على ملة ابراهيم ثابت في الحديث الصحيح ولكن ليس من القرآن الحكيم وقوله الآتي وانا من المسلمين صحيح ثابت في دعائه صلى اللّه عليه وسلم ولكنه في القرآن المجيد وانا أول المسلمين - وهذا التنبيه لدفع الالتباس فتنبه - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 324(1/4395)
يدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك - روى البخاري عن ابن عمر انه اتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى اللّه عليه وسلم - واخرج عبد بن حميد وابن أبى الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبى ظبيان قال سالت ابن عباس عن قوله فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قال إذا أردت ان تنحر البدنة فاقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم اللّه واللّه اكبر اللهم منك ولك - وعلق البخاري قول ابن عباس صَوافَّ أى قياما وذكره سفيان بن عيينة في تفسيره عن عبيد اللّه بن يزيد وأخرجه سعيد بن منصور وقال مجاهد (الصوافّ) إذا عقلت رجله اليسرى وقامت على ثلاث قوائم وقرأ ابن مسعود صوافن وهو ان يعقل منها يد وينحر على ثلاث قوائم - وقرأ أبيّ والحسن ومجاهد صوافى بالياء أى خوالص لوجه اللّه - فَإِذا وَجَبَتْ أى سقطت على الأرض جُنُوبُها أى ماتت فَكُلُوا مِنْها امر اباحة وقد مر مسئلة جواز الاكل من الهدايا فيما سبق - الجملة الشرطية معطوفة على فاذكروا يعنى فاذكروا اسم اللّه عليها فكلوا منها إذا وجبت جنوبها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قال عكرمة وابراهيم وقتادة القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسئل والمعتر الّذي يسئل - وروى العوفى عن ابن عباس القانع الّذي لا يتعرض ولا يسئل والمعتر الّذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسئل - فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة يقال قنع قناعة إذا رضى بما قسم له - وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي القانع الّذي يسئل والمعتر الّذي يتعرض ولا يسئل فيكون القانع من قنع يقنع قنوعا إذا سأل - وقرأ الحسن والمعترى وهو مثل المعتر يقال عرّه واعترّه وعراه واعتراه إذا أتاه يطلب معروفه اما سوالا واما تعرضا - وقال ابن زيد القانع المسكين والمعتر الّذي ليس بمسكين ولا يكون له(1/4396)
ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لاجل لحمهم كَذلِكَ أى تسخيرا مثل تسخير وصفناه من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ مع عظمها وقوتها منقادة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 325
و تجنسونها؟؟؟ صافة قوائمها ثم تطعنون في لبّاتها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص - أخرج ابن أبى حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها فقال اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فنحن أحق ان ننضح فانزل اللّه تعالى.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ الآية - واخرج ابن المنذر وابن مردوية عن ابن عباس قال كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينتضحون بها نحو الكعبة - فاراد المسلمون ان يفعلوا ذلك فانزل اللّه تعالى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها قال مقاتل أى لن يرفع اللّه لحومها ولا دماؤها وَلكِنْ يَنالُهُ قرأ يعقوب لن تنال وتناله بالتاء المثناة من فوق فيهما والباقون بالياء المثناة من تحت أى ولكن يرفع اللّه التَّقْوى مِنْكُمْ يعنى الأعمال الصالحة المترتبة على التقوى والإخلاص المراد بها وجه اللّه كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ لتعرفوا عظمته باقتداره على مالا يقدر غيره فتوحدوه بالكبرياء شكرا عَلى ما هَداكُمْ أرشدكم إلى معالم دينه ومناسك حجه والى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها - وما مصدرية أو موصولة وعلى متعلقة بتكبر والتضمنه معنى الشكر - وقيل المراد التكبير عند الاحلال والذبح على انعام هداكم اللّه إلى تسخيرها وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) قال ابن عباس يعنى الموحدين عطف على بشّر المخبتين.(1/4397)
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ « 1 » عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير وأبو عمرو يدفع بفتح الياء والفاء واسكان الدال والمفعول محذوف - أى يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين والباقون يدافع من المفاعلة أى يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ أى يبغض كُلَّ خَوَّانٍ في امانة اللّه كَفُورٍ (38) لنعمته قال ابن عباس خانوا اللّه يعنى كفار
_________
(1) وقوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ تمهيد للاذن بالقتال - يعنى لمّا كان دفع الكفار با المؤمنين سنة مستمرّة من اللّه تعالى اذن بالقتال وهذا يتضمن الوعد بالنصر حتى يحصل الدفع 12 منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 326
مكة فجعلوا معه شريكا وكفروا نعمته - وقال الزجاج من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليه اسم غير اللّه فهو خوّان كفور - ولهذه الجملة في مقام التعليل للدفع أخرج احمد والترمذي والسدى والحاكم وصححه عن ابن عباس قال لما أخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة قال أبو بكر اخرجوا نبيهم ليهلكنّ فانزل اللّه تعالى.(1/4398)
أُذِنَ قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو على البناء للمفعول والباقون على البناء للفاعل أى اذن اللّه ورخّص في القتال لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء على البناء للمفعول يعنى للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون والباقون بكسر التاء على البناء للفاعل يعنى للمؤمنين الذين اذن لهم في الجهاد وان يقاتلوا الكفار - قال البغوي قال المفسرون كان مشركوا مكة يؤذون اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقول لهم اصبروا فانى لم اومر بالقتال فنزلت هذه الآية بالمدينة - واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس انها أول اية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين اية - وأخرجه ابن أبى حاتم عن عروة بن الزبير - وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وقال البغوي قال مجاهد نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون فاذن اللّه لهم في قتال الكفار والذين يمنعونهم من الهجرة بِأَنَّهُمْ أى أذنوا في القتال بسبب انهم ظُلِمُوا أى اعتدوا عليهم « 1 » بالإيذاء
_________
(1) وعن محمد بن سيرين قال اشرف عليهم عثمان من القصر وقال ايتوني برجل تالى كتاب اللّه فاتوه بصعصعة بن صوحان - فتكلم بكلام فقال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - فقال له عثمان كذبت ليس لك ولا لاضحاك ولكنها لى ولاصحابى 12 ازالة الخفاء منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 327(1/4399)
و من هاهنا لا يجوز قتل نساء أهل الحرب بالإجماع الا ان يكون ذوات رأى أو مال تعنّ الكفار باموالهنّ على قتال المسلمين - ولا يجوز قتل الشيخ الفاني ولا الرهبان ولا العميان ولا الزمنى خلافا لاحد قولى الشافعي الا ان يكون لهم رأى وتدبير فيجوز قتلهم اتفاقا - ولا يجوز عند أبى حنيفة رحمه اللّه قتل المرتدة بل تحبس ابدا حتى تموت أو تتوب وقال مالك والشافعي واحمد الرجل والمرأة في حكم الردة سواء لنا حديث عبد اللّه بن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان - متفق عليه وحديث رباح بن الربيع قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة فراى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال انظروا على ما اجتمع هؤلاء فجاء فقال على امراة قتيل فقال ما كانت هذه تقاتل وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتل امراة ولا عسيفا « 1 » - رواه أبو داود وعن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال انطلقوا بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امراة الحديث - رواه أبو داود والمرأة في تلك الأحاديث مطلقة تحت النفي تعم الكافرة الاصلية والمرتدة وعلل في النص عدم قتلها بعدم حرابها - قالت الحنفية الأصل في الاجزية ان تتاخر إلى دار الجزاء وهى الدار الاخرة - واما دار الدنيا فهى دار التكليف والابتلاء قال اللّه تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ - فكل ما شرع جزاء في هذه الدار انما هو لمصالح تعود إلينا في هذه الدار كالقصاص وحد الشرب والقذف والزنى والسرقة فانها شرعت لحفظ النفوس والاعراض والعقول والأنساب والأموال - فالقتل بالردة لا يجب الا لدفع شر حرابه لا جزاء على كفره لان جزاء الكفر أعظم من ذلك عند اللّه فيختص القتل بمن يتاتى منه الحراب وهو الرجل - ولو كان جزاء للكفر لما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتل نساء(1/4400)
اهل الحرب ولو كان جزاء للكفر لزم تطهيره بالقتل كما في القصاص والحدود
_________
(1) العسيف الأجير وقيل هو الشيخ الفاني - وقيل العبد - 12 نهاية جزرى منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 328
احتجوا على وجوب قتل المرتدة بعموم قوله صلى اللّه عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه - رواه البخاري من حديث ابن عباس وفي الباب عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده في معجم « 1 » الكبير للطبرانى وعن عائشة في الأوسط وأجاب الحنفية بانا خصصنا النساء عن عموم كلمة من لما ذكرنا من أحاديث النهى عن قتل النساء بعد ان عمومه مخصص بمن بدل دينه من الكفر إلى الإسلام أو من اليهودية إلى النصرانية قلت لكن حديث ابن عباس رواه الحاكم وصححه بلفظ من بدل دينه من المسلمين فاقتلوه - قال الحافظ هو من طريق حفص بن عمر العدني وهو مختلف فيه واحتجوا أيضا بحديث جابر ان امراة يقال لها أم مروان ارتدت فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يعرض عليها الإسلام فان تابت والا قتلت - رواه الدار قطنى من طريقين ولا في أحدهما فابت ان تسلم فقتلت - قال الحافظ اسنادا هما ضعيفان قال ابن همام الأول مضعف بعمر بن رواحة والثاني بعبد اللّه بن أذينة قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وروى حديث اخر عن عائشة ارتدت امراة يوم أحد فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم ان تستتاب والا قتلت وفي سنده محمد بن عبد الملك قالوا فيه يضع الحديث - ثم هذه الأحاديث معارضة بأحاديث اخر مثلها منها ما أخرجه الدار قطنى عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تقتل المرأة إذا ارتدت - وفيه عبد اللّه بن عليس الجزري قال الدار قطنى كذاب يضع الحديث وعن أبى هريرة أخرج ابن عدى في الكامل ان امراة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتدت فلم يقتلها وضعفه بحفص بن سليمان واخرج الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه(1/4401)
عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان تاب فاقبل منه وان لم يتب فاضرب عنقه وأيما امراة ارتدت عن الإسلام فادعها فان تابت فاقبل منها وان أبت فاستتبها - وروى أبو يوسف عن أبى حنيفة عن عاصم بن أبى النجود عن أبى رزين عن ابن عباس لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن
_________
(1) هكذا في الأصل ولعل الاولى المعجم - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 329
و لكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه - وفي بلاغات محمد عن ابن عباس نحوه وروى عبد الرزاق اثر عمر انّ امراة تنصرت فامر ان تباع في ارض ذات مؤنة عليها ولاتباع في أهل ديتها فبيعت في دومة الجندل وروى الدار قطنى اثر علىّ المرأة تستتاب ولا تقتل وضعّف بجلاس (مسئلة) لو امر الامام بقتل بعض من نساء أهل الحرب مرتدة كانت أو غيرها لمصلحة فلا بأس به وقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد إلى امرائه من المسلمين يوم الفتح حين أمرهم ان يدخلوا مكة ان لا تقتلوا أحدا الا من قاتلهم الا نفرا سماهم فامرهم بقتلهم وان وجدوا تحت أستار الكعبة وذكرنا هناك أسماءهم منهم نساء منهن قينتان لعبد اللّه بن خطل قرنة وقرينة فقتلت قرينة وأسلمت قرنة وكانتا مرتدتين ومنهن سارة مولاة عمر بن هاشم وهند امراة أبى سفيان كانتا كافرتين اصليتين اسلمتا يوم الفتح واللّه اعلم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) وعدلهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.(1/4402)
الَّذِينَ « 1 » أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الّتي كانت لهم بمكة الموصول مجرور بدل من الموصول في أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أو منصوب بتقديرا عنى أو امدح أو مرفوع بتقدير المبتدا أى هم الذين اخرجوا « 2 » وعلى جميع التقادير المال واحد بِغَيْرِ حَقٍّ استحقوا به الجلاء إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ان مع صلته في محل الجر بدل من الحق استثناء منه واطلاق الحق عليه مبنىّ على زعمهم الباطل - والفرض منه التنبيه على وضوح ظلمهم وكونهم على الباطل حيث زعموا ما هو بديهىّ البطلان وهو استحقاق الإخراج بالتوحيد حقّا وهذا نظير قوله فلان لا خير فيه الا انه يسئ بمن يحسن إليه يعنى انه يزعم الاساءة
_________
(1) وعن عثمان بن عفان قال فينا نزلت هذه الآية الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ثم مكّنّا في الأرض فاقمنا الصلاة واتينا الزكوة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهى لى ولاصحابى 12 ازالة الخفا منه رح
(2) إلى المدينة يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كذا قال ابن عباس - ازالة الخفاء منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 330
الى من احسن إليه خيرا فكيف يكون فيه خير فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان ونظيره قوله تعالى وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا ونظيره قول الشاعر
و بلدة ليس بها أنيس الا اليعافير والا العيس(1/4403)
و قيل هذا استثناء منقطع بمعنى لكنهم اخرجوا بسبب قولهم ربّنا اللّه وهذا القول حق فالاخراج به إخراج بغير حق - وجاز ان يكون استثناء من كلام محذوف تقديره ما اخرجوا الشيء الا بان قالوا ربّنا اللّه وهذا القول حق فالاخراج به إخراج بغير حق فهو في مقام التعليل لما سبق وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ « 1 » النَّاسَ بَعْضَهُمْ بدل من الناس بِبَعْضٍ أى ببعضهم بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين - قرأ نافع لو لا دفاع اللّه بكسر الدال والف بعد الفاء بمعنى المدافعة للمبالغة والباقون بفتح الدال واسكان الفاء من غير الف لَهُدِّمَتْ قرأ نافع وابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها صَوامِعُ ادغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وابن ذكوان تاء هدمت في الصاد ولم يدغم غيرهم « 2 » قال مجاهد والضحاك يعنى صوامع الرهبان وقال قتادة صوامع الصابئين وَبِيَعٌ جمع بيعة وهى كنيسة النصارى وَصَلَواتٌ وهى كيائس اليهود يسمونها بالعبرانية صلوة وَمَساجِدُ المسلمين من أمة محمّد صلى اللّه عليه وسلم ومعنى الآية لو لا دفع اللّه الناس لهدمت في كل شريعة نبي مكان عبادتهم فهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم المساجد يُذْكَرُ فِيهَا أى في المساجد أو في جميع الاربعة اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً صفة لمصدر محذوف أى ذكرا كثيرا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أى ينصر دينه جواب قسم محذوف والجملة معترضة للوعد - إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على نصرهم عَزِيزٌ (40) لا يمكن ممانعته تأكيد للوعد
_________
(1) عن ثابت بن عرفجة الحضري قال حدثنى سبعة وعشرون من اصحاب على وعبد اللّه ان عليّا قال انما نزلت هذه الآية لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية قال لو لا دفع الله باصحاب محمد من التابعين لهدّمت صوامع 12 منه رح.
(2) وفي الأصل غيره.
.(1/4404)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 331
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ ان هاهنا بمعنى إذا بدليل ما سبق من الوعد بالدفع والنصر فهو اخبار ووعد بالتمكين فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وصف للذين اخرجوا وهو ثناء قبل بلاء وهو برهان على صحة امر الخلفاء الراشدين إذ لم يحصل المكنة في الأرض لغيرهم من المهاجرين - واما معاوية رضى اللّه عنه فلم يكن من الذين اخرجوا - وقيل الموصول بدل ممن ينصره والمعنى لينصرن اللّه من يكون هذا صفته ولا شك ان اللّه تعالى نصر الخلفاء الراشدين وأنجز وعده - حتى سلّطهم على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورث المسلمين على عهدهم ارض الكفار وديارهم وأموالهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) فان مرجعها إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعده.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد يعنى كفار مكة فَقَدْ كَذَّبَتْ تعليل لجزاء محذوف لشرط مذكور تقديره فان كذبوك فلا تحزن لأنه ليس بامر مبدع فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ جملة معترضة لتسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم وَكُذِّبَ مُوسى غيّر فيه النظم وبنى للمفعول لان قومه بنى إسرائيل لم يكذبوه وانما كذبه القبط ولان تكذيبه كان اشنع لكون آياته أعظم واشيع فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أى أمهلتهم وأخرت عقوبتهم عطف على كذبت ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب عاقبة أمرهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) اثبت الياء ورش في الوصل حيث وقعت والباقون حذفوها - يعنى كيف كان إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحيوة هلاكا والعمارة خرابا استفهام للتعجيب أو التهويل أو التقرير أى هو واقع موقعه.(1/4405)
فَكَأَيِّنْ فكم مِنْ قَرْيَةٍ كلمة كاين مرفوع بالابتداء أو منصوب بإضمار فعل يفسره أَهْلَكْناها قرأ أبو عمرو ويعقوب أهلكتها بتاء مضمومة على صيغة المتكلم المتوحد والباقون بنون مفتوحة والف بعدها على التعظيم - يعنى أهلكنا أهلها حذف المضاف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 332
و أقيم المضاف إليه مقامه وكذا في قوله وَهِيَ يعنى وأهلها ظالِمَةٌ أى واضعة للعبادة في غير موضعها كافرة باللّه مؤمنة بالطواغيت فَهِيَ أى حيطانها خاوِيَةٌ أى ساقطة عَلى عُرُوشِها أى سقوفها يعنى تهدمت عمرانها فسقطت السقوف اولا ثم وقعت عليها الجدران فالظرف لغو متعلق بخاوية - أو المعنى خاوية أى خالية على عروشها يعنى كائنة على عروشها أى مع بقاء عروشها وسلامتها وعلى هذا التأويل الظرف المستقر اما منصوب على الحال أو مرفوع خبر بعد خبر أى هى خالية وهى معطلة على عروشها بان سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها - والجملة معطوفة على أهلكناها لا على وهى ظالمة فانها حال والإهلاك ليس خال خوائها - وعلى تقدير نصب كايّن لا محل لهذه الجملة من الاعراب وَبِئْرٍ كانت في القرى أهلكنا أهل تلك الآبار فصارت كبئر « 1 » مُعَطَّلَةٍ متروكة لا تسقى عطف على قرية أى وكم من بئر معطلة وَكم من قَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أهلكنا أهلها يعنى كم من قرية ساقطة عمر ان بعضها بعد خرابها ومرفوعة مشيدة عمران بعضها أهلكنا أهلها - قال قتادة والضحاك ومقاتل معنى مشيد رفيع طويل من قولهم شاد بناه إذا رفعه - وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد أى مجصص من الشّيد وهو الجص - وجملة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ بدل من قوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ومن ثم عطف بالفاء - قال البغوي قيل ان البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن اما القصر فعلى قلة جبل والبئر في صفحه ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فاهلكهم اللّه وبقي القصر والبئر خاليين وروى أبو روق عن الضحاك انه كان هذه البئر(1/4406)
بحضر موت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك ان اربعة آلاف نفر ممن أمن بصالح عليه السلام نجوا من العذاب فاتوا بحضر موت ومعهم صالح فلمّا حضروه مات صالح عليه السّلام فسمى حضر موت لان صالحا لما حضره مات فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وامّروا عليهم رجلا فاقاموا
_________
(1) وفي الأصل فصارت معطلة إلخ وانما زدنا لفظة كبئر لان معطلة مجرورة لا تصلح ان تقع خيرا لصارت وتغيير الاعراب غير جائز فلا بد من تقدير واللّه اعلم الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 333
دهرا وتناسلوا حتى كثروا - ثم ان اخلافهم عبدوا الأصنام وكفروا فارسل اللّه إليهم نبيّا يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فاهلكهم اللّه وعطلت بئرهم وخربت قصورهم.(1/4407)
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عطف على محذوف تقديره ا لم يخرجوا من بيوتهم فلم يسيروا في الأرض فَتَكُونَ منصوب بتقدير ان معطوف على مصدر مدلول تضمنا لقوله أَفَلَمْ يَسِيرُوا - يعنى الم يحصل منهم خروجهم من بيوتهم وسير في الأرض لان تكون لَهُمْ قُلُوبٌ وتكون اما تامة ولهم حال من فاعله - واما بمعنى تصير والظرف خبره وبعده اسمه يَعْقِلُونَ بِها صفة لقلوب والمفعول محذوف والمعنى يعقلون بها ما يجب تعقله من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال أَوْ آذانٌ عطف على قلوب يَسْمَعُونَ بِها الاستفهام للانكار والإنكار راجع إلى كون قلوبهم عاقلة بعد السير وآذانهم سامعة للحق وفيه حثّ على التعقل والاستماع فَإِنَّها الضمير للقصة أو مبهم يفسره الابصار في قوله تعالى لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وفي تعمى ضمير راجع إلى الابصار المقدم رتبة أو الظاهر أقيم مقامه - والفاء للتعليل أى تعليل استعقاب السير كون قلوبهم عاقلة وآذانهم سامعة - يعنى ليست أبصارهم عامية حتى لا يروا مشاهد الآثار الأمم الخالية بعد السير ولمّا كان حال الكفار من عدم الاعتبار بعد ظهور الآيات ومشاهدة الآثار شاهدا على ونهم عميانا وموجبا لانكار السامع لابصارهم أكد هذه الجملة بانّ وضمير القصة أو الضمير المبهم المفسر بما بعده انزالا للسامع منزلة المنكر لنفى العمى - ثم قال استدراكا لدفع توهم نفى العمى عنهم مطلقا وازاحة لشبهة حارت عقول العقلاء في انهم يرون آيات التوحيد ولا يعتقدون به ويسمعون براهين التحقيق ولا يصغون إليها وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ذكر الصدور للتأكيد ونفى احتمال التجوّز كما في قوله تعالى طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وفيه تنبيه على ان العمى الحقيقي ليس المتعارف الّذي يخص البصر - قال قتادة البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلب هو البصر النافع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/4408)
شر العمى عمى القلب رواه البيهقي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 334
فى الدلائل وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وأبو نصر السنجري في الإبانة عن أبى الدرداء ورواه الشافعي عن ابن مسعود موقوفا - وذكر في الآية عمى القلب وأراد سلب المشاعر كلها عن قلوبهم كانّه قال ولكن تعمى وتصم القلوب الّتي في الصدور - قال البيضاوي قيل لما نزلت وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم يا رسول اللّه انا في الدنيا أعمى أ فأكون في الاخرة أعمى فنزلت هذه الآية - قلت وهذا ما أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة قوله ذكر لنا انها نزلت في عبد اللّه بن زائدة يعنى ابن أم مكتوم.(1/4409)
وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به هذه الآية في مقام الاستشهاد على عمى قلوبهم فان استعجال العذاب دليل على العمى قال البغوي نزلت في النضر بن الحارث حيث قال إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به البتة ولو بعد حين لكونه صبورا لا يعجل بالعقوبة وانجر اللّه الوعد يوم بدر والجملة حال أو معترضة وكذا قوله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ حال أو معترضة كانّه قال لم تستعجلونه وهو لا يجوز فواته وهذه الآية تدل على انه كما لا يجوز الخلف في وعده لا يجوز التخلف في وعيده أيضا - وذالا ينافى المغفرة فان آيات الوعيد مخصوصة بالنصوص والإجماع بمن لا يتداركه المغفرة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعدّون بالياء التحتانية هاهنا لقوله ويستعجلونك - وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية لأنه أعم لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين جميعا - قال ابن عباس في رواية عطاء معنى الآية ان يوما عنده تعالى والف سنة في الامهال سواء - لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوى في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخيره وقيل معناه ان يوما من ايام العذاب الّذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كالف سنة مما تعدون فكيف يستعجلونه - وهذا كما يقال ايام الهموم طوال وايام السرور قصار - وقيل انه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 335(1/4410)
بيان لتناهى صبره يعنى ان اللّه لا يخلف وعده لكنه قد يؤخر العذاب إلى يوم هو عند ربك كالف سنة - قال مجاهد وعكرمة يعنى يوما من ايام الاخرة والدليل علمه ما روى عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل اغنياء؟؟؟
الناس بنصف يوم وانّ يوما عند ربك كالف سنة - رواه احمد والترمذي وحسنه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ونصف يوم رواه الترمذي.
وَكَأَيِّنْ أى وكم مِنْ قَرْيَةٍ أى من أهل قرية حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الاعراب وإرجاع الضمائر والاحكام مبالغة في التعميم - وأورد هذه الجملة معطوفة بالواو على قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ ... وَلَنْ يُخْلِفَ لأنه في مقام الاستشهاد لعدم التخلف وبيان ان المتوعد به واقع لا محالة - والتأخير مبنى على عادة اللّه سبحانه فان كثير من القرى أَمْلَيْتُ أى أمهلت لَها كما امهلتكم وَهِيَ ظالِمَةٌ مثلكم حال من القرية ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) يعنى إلى حكمى مرجع الجميع - .(1/4411)
قُلْ يا محمّد لكفار مكة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ يعنى لست بقادر على إتيان العذاب مُبِينٌ (49) أوضح لكم ما أنذركم به ولمّا كان الخطاب مع المشركين المستعجلين بالعذاب وانما كان ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم اقتصر على ذكر الانذار - ويمكن ان يقال ان الانذار مقدم على الابشار وعام للفريقين والابشار يخص بمن أطاعه بعد ما أطاعه ولذلك اقتصر عليه روى الشيخان في الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما مثلى ومثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش بعيني وانّى انا النذير العريان فالنجا النجا فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا « 1 » وانطلقوا على
_________
(1) الدلجة هو سير الليل يقال ادبح بالتخفيف إذا سار من أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره - 12 نهاية منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 336
مهلهم فنجوا - وكذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فاهلكهم واجتاحهم « 1 » - فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصانى وكذّب ما جئت به من الحق.
فَالَّذِينَ آمَنُوا بما جئت به وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على حسب ما امرتهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما سلف منهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الإسلام يهدم ما كان قبله - رواه مسلم عن عمرو بن العاص وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) أى الجنة.(1/4412)
وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالرد والابطال مُعاجِزِينَ حال من فاعل سعوا قرأ ابن كثير وأبو عمرو معجّزين بالتشديد من التفعيل هاهنا وفي سورة سبا أى مثبطين الناس عن الايمان ينسبونهم إلى العجز والباقون بالألف من المفاعلة أى معاندين مشاقين قال قتادة معنى معجزين ظانّين مقدرين انهم يعجزوننا بزعمهم ان لا بعث ولا نشر ولا جنة ولا نار أو معنى يعجزو ننا أى يفوتوننا فلا نقدر عليهم - وقيل معنى معاجزين مغالبين يريدون ان يظهروا عجزنا عن ادراكهم - قلت يمكن ان يكون معناه معاجزين الرسول فانه يمنعهم عن دخول النار وهم يقتحمون فيها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) روى الشيخان في الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب الّتي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فانا أخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها - واللفظ للبخارى ولمسلم نحوه قال البغوي قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين انه لما راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تولّى قومه عنه وشق عليه ما راى من مباعدتهم عما جاء به من اللّه عزّ وجلّ تمنى في نفسه ان يأتيه من اللّه ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على ايمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فانزل اللّه سورة النجم فقراها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) احتاجهم أى من الجائحة وهى الآفة الّتي تهلك 12 منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 337(1/4413)
حتّى بلغ قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى - القى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به في نفسه ويتمنى تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى - فلمّا سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في اخر السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر الا سجد الا الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص فانهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليه لانهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر الهتهم يقولون قد ذكر محمد الهتنا بأحسن الذكر وقالوا قد عرفنا ان اللّه يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فإذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه - فلما امسى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه جبرئيل فقال يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس مالم آتك به عن اللّه عزّ وجلّ فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من اللّه خوفا كثيرا فانزل اللّه تعالى.(1/4414)
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية يعزيه وكان به رحيما - وسمع من كان بحبشة من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبلغهم سجود قريش وقيل أسلمت قريش واهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم ان الّذي كانوا تحدثوا به من اسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد الا بجوار أو مستخفيا مِنْ رَسُولٍ من زائدة للتعميم قال البغوي الرسول هو الّذي يأتيه جبرئيل عيانا وَلا نَبِيٍّ هو الّذي يكون نبوته إلهاما أو مناعا وقيل الرسول من بعثه اللّه بشريعة مجددة يدعو الناس إليها والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كانبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى فكل رسول نبى وليس كل نبى رسولا - عن أبى ذر قال قلت يا رسول اللّه اىّ الأنبياء كان اوّل قال آدم قلت يا رسول اللّه ونبى كان قال نعم نبى مكلّم قلت يا رسول اللّه كم المرسلون قال ثلاثمائة وبضعة عشر جمّا غفيرا - وفي رواية عن أبى امامة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 338(1/4415)
قال أبو ذر قلت يا رسول اللّه كم وفاء عدة الأنبياء قال مائة الف واربعة وعشرون الفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا رواه احمد وابن راهويه في مسنديهما وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك صحّح رواية أبى امامة إِلَّا إِذا تَمَنَّى قال بعض المفسرين معناه إذا أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه مالم يؤمر به - استثناء مفزغ من رسول ونبى على الحال تقديره ما أرسلنا من رّسول ولا نبىّ في حال من الأحوال الا مقدرا في شأنه انه إذا تمنى أَلْقَى الشَّيْطانُ أى وسوس إليه ووجد إليه سبيلا والقى في مراده - وما من نبى الا إذا تمنى ان يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبىّ الا القى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ عليه ما يرضى قومه وقال البيضاوي إذا زور نفسه ما يهويه القى الشيطان فيما يشتهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أى يبطله ويذهبه بعصمته عن الركون ويرشده إلى ما يزيحه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ الداعية إلى الاستغراق في امر الاخرة وقال اكثر المفسرين معنى قوله الا إذا تمنى أى قرأ كتاب اللّه القى الشيطان في امنيّة أى في قراءته قال الشاعر في عثمان رضى اللّه عنه حين قتل شعر
تمنى كتاب اللّه اوّل ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر(1/4416)
فان قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان معصوما من الغلط في اصل الدين وقال اللّه تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ يعنى إبليس - ومن هاهنا قال البيضاوي هو يعنى ما ذكر في شأن نزول الآية وإلقاء الشيطان في قراءة سورة النجم مردود عند المحققين - لكن قال الشيخ جلال الدين السيوطي هذه القصة رواها البزار وابن مردوية والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس - قلت يعنى عن سعيد بن جبير عنه قلت قال البزار لا يروى متصلا الا بهذا الاسناد تفرد بوصله امية بن خالد وهو ثقة مشهور وقد أخرج ابن أبى حاتم وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا قال قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة والنجم فلمّا بلغ أ فرأيتم اللّات والعزّى ومنوة الثّالثة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 339
الاخرى القى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى ان شفاعتهن لترتجى فقال المشركون ما ذكر الهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فنزلت وما أرسلنا من قبلك الآية وأخرجه النحاس عن ابن عباس متصلا بسند فيه الواقدي وأخرجه ابن مردوية من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس وابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس وأورد ابن إسحاق في السيرة عن محمد بن كعب وموسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب وابن جرير عن محمّد بن كعب ومحمّد بن قيس وابن أبى حاتم عن السدىّ كلهم بمعنى واحد وكلها اما ضعيفة أو منقطعة سوى طريق سعيد بن جبير الأول الّذي ذكره البزار وابن مردوية والطبراني - وقال الحافظ ابن حجر لكن كثرة الطرق تدل على ان للقصة أصلا مع ان لها طريقين صحيحين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبراني من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام(1/4417)
- وثانيهما ما أخرجه أيضا من طريق المقيم بن سليمان وحماد بن سلمة عن داود عن أبى هند عن أبى العالية - قلنا اختلف العلماء في الجواب عن الاشكال فقال بعضهم ان الرسول لم يقرأه ولا سمع منه أصحابه ولكن الشيطان القى ذلك بين قراءته في اسماع المشركين فظن المشركون ان الرسول صلى اللّه عليه وسلم قرأه - وقال قتادة أغفى النبي صلى اللّه عليه وسلم إغفاء فجرى على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان فلم يلبث حتى نبهه اللّه عليه « 1 » - قيل ان شيطانا يقال له ابيض عمل هذا العمل وكان ذلك
_________
((1/4418)
1) قال القاضي عياض في الشفاء لم يخرجه أحد من العلماء أهل الصحة ولا رواه ثقة سليم متصل وانما اولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المؤلقون بكل غريب المتلفقون من الصحف كل صحيح وسقيم - وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال لقد تلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلبة واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده واختلاف كلماته - فقائل يقول انه في الصلاة واخر يقول قالها في نادى قومه حين أنزلت عليه سورة النجم واخر يقول بل حدث نفسه فسهى واخر يقول قالها وقد أصابته سنة واخر يقول ان الشيطان قالها على لسانه وان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما عرضها على جبرئيل قال ما هكذا قرأتك واخر يقول بل أعلمهم الشيطان ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قراها فلما بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم قال واللّه ما هكذا نزلت إلى غير ذلك من اختلاف الرواة وممن حكيت هذه الحكاية من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب .... واكثر الطرق عنهم ضعيفة واهية - والمرفوع فيه في حديث سعيد عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما احسب الشك في الحديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان بمكة - قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره الا هذا - ولم يسنده عن سعيد الا امية بن خالد وغيره مرسلة عن سعيد بن جبير - وانما يعرف عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس - وقد بين ذلك أبو بكر انه لا يعرف من طريق يجوز ذكرة الا هذا وفيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه وأحاديث الكلبي مما لا يجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه منه رح.
قال الخفاجي في سليم الرياض ص 86 - 470 أى إلى صحابى من اصحاب الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم قالها وقيل المعنى لم يعزها لصاحب لها قد قالها انتهى (الفقير الدهلوي). [.....](1/4419)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 340
فتنة ومحنة واللّه يمتحن عباده بما يشاء - فان قيل كلا التقدير ان سواء قرأ الشيطان وحسب الناس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأه أو جرى على لسانه في حالة اغفائه يخل بالوثوق بالقرآن - قلنا قد تكفل اللّه تعالى الوثوق بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أى يبطله ويذهبه ويظهر على الناس انه من إلقاء الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ المنزلة أى يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان - فان قيل هذه الآية حينئذ أيضا يحتمله قلنا إذا ضمت هذه الآية بالبرهان العقلي المستدعى صحة رسالة الرسل وعصمتهم عن الخطاء والزلل في اصول الدين يفيد يقينا في قوة البداهة ان هذه الآية وكلما أثبته اللّه وأحكمه من الآيات والشرائع والاحكام انما أثبته وأحكمه اللّه لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ - قال اللّه تعالى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ... وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس واستعداداتهم فيفعل بكل ما يستحقه من الهداية أو الإضلال حَكِيمٌ (52) فيما
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 341
يفعله لا يسع لاحد الاعتراض عليه - أو عليم بما اوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان حكيم لا يدعه حتى يكشفه ويزيله.(1/4420)
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ عليه بتمكين الشيطان منه فِتْنَةً أى محنة وبلاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أى المشركين وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعنى أهل النفاق والشرك وضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم لَفِي شِقاقٍ خلاف عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين بَعِيدٍ (53) قال البغوي لما نزلت هذه الآية قالت قريش ندم محمد على ما ذكر من منزلة الهتنا عند اللّه فغيّر ذلك وكان الحرفان الذان القى الشيطان في امنيّته صلى اللّه عليه وسلم قد وقع في فم كل مشرك فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه وشدة على من اسلم.
وَلِيَعْلَمَ عطف على ليجعل واللام متعلق بمقدر يعنى فعلنا تمكين الشيطان على الإلقاء ونسخ ما يلقى الشيطان لامرين لنجعل ما يلقى الشيطان إلى آخره وليعلم - وجاز ان يكون اللام متعلقا بقوله أَلْقَى الشَّيْطانُ وحينئذ يكون اللام في ليجعل وليعلم للعاقبة كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ... الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه وأحكامه وقال السدى أى التصديق بنسخ اللّه أَنَّهُ أى الّذي أحكمه اللّه من آيات القرآن هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ النازل من عنده أو انّه أى تمكين الشيطان حق لأنه جرت به عادة اللّه في جنس الإنسان من لدن آدم عليه السّلام فَيُؤْمِنُوا بِهِ أى بالقرآن ويعتقدوا انه من اللّه أو باللّه تعالى وعطف يؤمنوا على يعلم بالفاء دليل على ان مجرد العلم ليس بايمان بل هو امر وهبى مترتب على العلم غالبا بجرى العادة فَتُخْبِتَ أى تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية وتطمئن عنده وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فيما أشكل عليهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) أى اعتقاد صحيح وطريق قويم وهو الإسلام.(1/4421)
وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ أى شك مِنْهُ أى ناشية من القرآن أو الرسول أو الذين أمنوا أو مما القى الشيطان في امنيّته ما باله ذكرها بخير
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 342
ثم ارتد عنه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أى وقت الموت بَغْتَةً أى اتيانا فجاءة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) قال عكرمة والضحاك عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل المراد بالساعة يوم القيامة وبيوم عقيم يوم بدر إذ لم يكن للكافرين في ذلك اليوم خير والعقيم في اللغة المنع ومنه الريح العقيم - وجاز ان يكون المراد بالساعة وبيوم عقيم واحدا وهو يوم القيامة فيكون الثاني وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل.(1/4422)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يوم تزول مريتهم لِلَّهِ وحده ظرف مستقر يَحْكُمُ اللّه بَيْنَهُمْ بالمجازاة جملة مستأنفة أو في محل النصب على الحال والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) إدخال الفاء في خبر الثاني دون الاوّل تنبيه على ان اثابة المؤمنين بالجنات تفضل من اللّه تعالى وعقاب الكافرين مسبب بأعمالهم ولذلك قال لهم عذاب ولم يقل هم في عذاب - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن ينجى أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى اللّه برحمة منه وفضل - رواه الشيخان في الصحيحين ورويا فيهما عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى بمغفرة ورحمة - ولمسلم من حديث جابر نحوه وقد ورد نحوه من حديث أبى سعيد عند احمد وابن أبى موسى وشريك بن طارق واسامة بن شريك والسد بن كون عند الطبراني واما قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فمحمول على ان للجنة منازل تنال بالأعمال واما اصل دخولها والخلود فيها فبفضل اللّه المتعال أخرج هناد في الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو اللّه وتدخلون الجنة برحمة اللّه وتقسمون المنازل بأعمالكم - واخرج أبو نعيم عن عون بن عبد اللّه مثله.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 343(1/4423)
وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فارقوا الأوطان والعشائر فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى طلب مرضاته ثُمَّ قُتِلُوا فى الجهاد قرأ ابن عامر قتّلوا بالتشديد من التفعيل للتكثير والمبالغة والباقون بالتخفيف أَوْ ماتُوا حتف أنوفهم لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ أى واللّه ليرزقنهم اللّه في الجنة رِزْقاً حَسَناً أى نعيمها الّتي لا تنقطع فلا مثل لها وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) فانه يرزق بغير حساب.
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ أى الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر ببال البشر وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بأحوالهم واحوال معانديهم حَلِيمٌ (59) لا يعاجل في العقوبة.(1/4424)
ذلِكَ أى الأمر ذلك أو ذلك حق أو تحقق ذلك أو عرفت ذلك الّذي قصصنا عليك وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أى جازى الظالم بمثل ما ظلم به عليه اطلق لفظ العقاب الّذي هو الجزاء على ابتداء الظلم للازدواج أو للمشاكلة ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ بالمعاودة على الظلم لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ لا محالة إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام واعرض عما ندب اللّه إليه بقوله ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الأمور - وفيه تعريض بالحث على المغفرة فانه تعالى مع كمال قدرته وعلو شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك اولى وتنبيه على انه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو الا القادر على العقوبة - قال البغوي قال الحسن قوله تعالى وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ معناه قاتل المشركين كما قاتلوه ثم بغى عليه أى ظلم بإخراجه من منزله وقيل نزلت الآية في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم ان يكفوا من القتال من أجل الشهر الحرام فابى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصروا عليهم - قلت فعلى هذا قوله إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عن المؤمنين غَفُورٌ لهم في قتالهم في الشهر الحرام واخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل نحوه.
ذلِكَ النصر بِأَنَّ اللَّهَ قادر على كل شيء وقد جرى عادته
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 344
على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك انه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الاخر أو يحصل ظلمة الليل مكان ضوء النهار بمغيب الشمس وعكس ذاك بطلوعها وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع اقوال المعاقب والمعاقب أو سميع دعاء المؤمنين فيجيبهم بَصِيرٌ (61) يرى افعالهما فلا يهملهما.(1/4425)
ذلِكَ الاتصاف بكمال العلم والقدرة والسمع والبصر بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده لان وجوب وجوده ووحدته يقتضيان ان يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالم بذاته وبما عداه متصف بجميع صفات الكمال - إذ من ثبت ألوهيته لا يمكن الا ان يكون قادرا عالما سميعا بصيرا وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر هنا وف ي لقمان في الموضعين بالتاء الفوقانية خطابا للمشركين والباقون بالياء التحتانية أى ما يدعونه أى المشركون مِنْ دُونِهِ الها هُوَ الْباطِلُ أى المعدوم الممتنع وجوده في حد ذاته أو باطل الالوهية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ المتعالي من ان يكون له شريك الْكَبِيرُ (62) العظيم الّذي ليس كمثله شيء.
أَ لَمْ تَرَ أى ا لم تبصر أو ا لم تعلم والاستفهام للانكار يعنى تعلم وتبصر أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً يعنى أصبحت مخضرة بالنبات أورد لفظ المضارع للماضى لاستحضار صورة ما مضى وللدلالة على بقاء اثر المطر زمانا بعد زمان - والجملة دليل اخر على كمال علمه وقدرته إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه أو لطفه إلى كل ما دقّ وجلّ خَبِيرٌ (63) بالتدابير الظاهرة والباطنة وبأحوال عباده وما احتاجوا إليه من الأرزاق.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ في ذاته عن كل شيء الْحَمِيدُ (64) المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله أو المحمود في ذاته وان لم يوجد حامد غيره.
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أى جعلها مذلّلة لكم معدة لمنافعكم -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 345(1/4426)
وَ الْفُلْكَ بالنصب عطف على ما أو على اسم انّ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ طال منها أو استيناف وقيل معناه سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الدواب لتركبوها في البر وسخر لكم الفلك لتركبوه في البحر وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يعنى من ان تقع على الأرض ومن هذا يظهر ان الأجسام الفلكية مثل الأجسام الارضية في الميل إلى ما تحته وانما أمسكها اللّه تعالى بقدرته - وقال البيضاوي أمسكها بان خلقها على صور متداعية إلى الاستمساك إِلَّا بِإِذْنِهِ استثناء من مضمون قوله يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يعنى لا تقع على الأرض في حال من الأحوال الا متلبسا باذنه أى بمشيئة قال البيضاوي وذلك يوم القيامة - قلت ولم نعلم وقوع السماء على الأرض يوم القيامة بل الانشقاق والانفطار وكونه كالمهل ووردة كالدهان وطيّه كطىّ السجل - فالاولى ان يقال الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وذلك لا يقتضى وجود المستثنى - فمعنى الآية لا يقع السماء على الأرض بغير اذنه ولا يقتضى ذلك الاذن بالوقوع في وقت من الأوقات ولا لا « 1 » وقوعها واللّه اعلم إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) حيث جعل لهم اسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم انواع المصائب.
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بنفخ الأرواح في أجسادكم بعد ان كنتم جمادا عناصر ونطفا وعلقا ومضغا وأجسادا لا روح فيها ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء اجالكم بنزع الأرواح من أجسادكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فى الاخرة باعادة الأجسام ونفخ الأرواح فيها إِنَّ الْإِنْسانَ المشرك لَكَفُورٌ (66) لجحود للنعم بعد ظهورها لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الافناء المقرب إلى الموعود ولا الاحياء الموصل إلى المقصود أو المعنى كفور بربّه مع قيام البراهين القاطعة على وجوده ووحدته وصفاته الكاملة.(1/4427)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا لم يذكر هاهنا بالواو للعطف كما ذكر فيما سبق لان هناك وقعت الآية مع ما يناسبها من الاى الواردة في النسائك فعطفت على أخواتها
_________
(1) وفي الأصل ولا وقوعها - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 346
و هذه وقعت مع التباعد عن معناها فلم يعطف مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ قال ابن عباس يعنى شريعة عاملون بها وروى انه قال عيدا وقال مجاهد وقتادة قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة وقيل مألفا يألفونه والمنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خيرا وشر ومنه مناسك الحج لتردد الناس إلى أماكن الحج - وفي القاموس النساء العبادة وأرنا مناسكنا متعبداتنا ونفس النسك وموضع يذبح فيه والنسيكة أى الذبيحة والنسك المكان المألوف والمنسك المقعد فَلا يُنازِعُنَّكَ سائر ارباب الملل فِي الْأَمْرِ أى في امر الدين أو النسائك لانهم اما جهال أو أهل عناد ولو لم يعاند أهل العلم منهم فلا سبيل لهم إلى منازعتك لان امر دينك اظهر من ان يقبل النزاع - قال البغوي نزلت في بديل بن ورقا وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لاصحاب محمّد صلى اللّه عليه وسلم مالكم تأكلون مما تقتلون بايديكم ولا تأكلون مما قتله اللّه - قال الزجاج معنى قوله فَلا يُنازِعُنَّكَ لا تنازعهم أنت كما يقال لا يخاصمنّك فلان أى لا تخاصمه وهذا جائز فيما يكون بين اثنين فلا يجوز لا يضربنك زيد تريد لا تضربه وجاز لا يضاربنك زيد بمعنى لا تضربه وذلك لان المنازعة والمخاصمة لاتتم الا باثنين فإذا ترك أحدهما ذهبت المخاصمة وَادْعُ الناس إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته قلت بل إلى ذاته والوصول إليه بلا كيف إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) طريق سوى إلى الحق ومدارج القرب.(1/4428)
وَ إِنْ جادَلُوكَ بعد ظهور الحق ولزوم الحجة فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) من المجادلة الباطلة وغيرها فمجازيكم عليها الجملة الشرطية معطوفة على قوله فلا ينازعنّك - وفي هذه الجملة وعيد مع رفق وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أى يقضى بين المؤمنين منكم والكافرين فيظهر الحق من الباطل بإثابة المؤمنين وعقاب الكافرين يوم القيامة كما فصل بينهم في الدنيا بالحجج والآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) من امر الدين الاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الاخر.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 347
أَ لَمْ تَعْلَمْ استفهام تقرير أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا يخفى عليه شيء إِنَّ ذلِكَ كله فِي كِتابٍ يعنى اللوح المحفوظ الّذي كتب اللّه فيه قبل خلق السموات والأرض ما كان وما يكون فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له إِنَّ ذلِكَ أى الإحاطة به أو إثباته في اللوح أو المحكم بينكم عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) لان علمه مقتضى ذاته ونسبة المعلومات كلها إلى علمه سواء.
وَيَعْبُدُونَ عطف على مضمون ما سبق من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وكمال قدرته يعنى أ تعلمون تلك الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة في التوحيد والالوهية وهم مع ذلك يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ اللّه بِهِ سُلْطاناً أى حجة تدل على جواز عبادته وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله أو بالنقل الصحيح المفيد للعلم من المخبر الصادق الّذي دل على صدقه برهان أو المتواتر المنتهى إلى احدى الحواس الخمس وَما لِلظَّالِمِينَ أى المشركين الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم مِنْ نَصِيرٍ (71) يمنعهم من عذاب اللّه.(1/4429)
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الشرط مع الجزاء معطوف على يعبدون آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات اتيانا من اللّه تعالى أو واضحات الدلالة على العقائد الحقة والاحكام الالهية تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أى الإنكار يعنى يظهر في وجوههم اثار الإنكار من العبوس والغيظ وضع المظهر موضع الضمير للدلالة على ان الباعث على الإنكار انما هو شدة كفرهم لا غير ذلك - أو المراد بالمنكر ما يقصدونه بالمؤمنين من الشر يَكادُونَ حال من الذين كفروا يَسْطُونَ أى يبطشون أو يبسطون إليهم أيديهم بالسوء وأصله من سطا الفرس يسطو إذا قام على رجليه رافعا يديه اما مرحا أى أشرا واما نزوا على الأنثى - وفي القاموس سطا عليه وبه سطوا وسطوة صال أو قهر بالبطش بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يعنى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قُلْ لهم يا محمد أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 348
لكم واكره إليكم مِنْ ذلِكُمُ أى من هذا القرآن أو من غيظكم على التالين ومن سطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم النَّارُ أى هو النار كانّه جواب سائل ما هو ويجوز ان يكون مبتدا خبره وَعَدَهَا اللَّهُ أى وعدها « 1 » اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا بان مصيرهم إليها وعلى الأول هذه جملة مستأنفة وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) النار.(1/4430)
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أى بين لكم حال مستغرب أو قصة عجيبة فَاسْتَمِعُوا لَهُ أى للمثل استماع تدبر وتفكر - وقيل معنى الآية جعل لى مثل يعنى جعل الكفار للّه سبحانه مثلا مماثلا في استحقاق العبادة وهى الأصنام فاستمعوا حالها ثم احكموا هل يجوز به التمثيل له تعالى ثم بين ذلك فقال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ قرآ يعقوب بالياء التحتانية والضمير راجع إلى الكفار والباقون بالتاء على الخطاب للكفار والراجع إلى الموصول محذوف يعنى انّ الّذين تدعونها أيها الكفار الهة كائنة مِنْ دُونِ اللَّهِ وهى الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أى لا يقدرون على خلق ذباب واحد مع صغره وقلته وخسته - لان لن بما فيها من تأكيد النفي دالّة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه والذباب مشتق من الذب لأنه يذب وجمعه اذبة للقلة ذبّان للكثرة كغراب وأغربة وغربان وَلَوِ اجْتَمَعُوا أى الأصنام لَهُ أى لخلق الذباب وهو بجوابه المقدر في موضع الحال جىء بها للمبالغة أى لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متقاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين قالوا وحينئذ للحال - وقيل للعطف على معطوف محذوف تقديره مستو حالهم في عدم القدرة على الخلق لو لم يجتمعوا لخلقه ولو اجتمعوا له أى لا يقدرون عليه في شيء من الأحوال وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ويضعون
_________
(1) تكرار محض ولعل منشأة توهم عدم الضمير الراجع إلى النار في هذه الآية ولذلك لم يكتبه المفسر العلام رحمه اللّه تعالى في نسخته الّتي بايدينا فقال وعد اللّه أى وعدها اللّه فالبيان عين المبين - الفقير الدهلوي.
فسير المظهري ، ج 6 ، ص : 349(1/4431)
بين يديها الطعام وكانت الذباب تقع عليه وتسلب منه فقال اللّه سبحانه ان يسلب الذباب شيئا منهم لا يقدرون على استنقاذه ولا يقوون على مقاومته فضلا من ان يخلقوه - جهّل اللّه سبحانه الكفار غاية التجهيل حيث أشركوا باللّه القادر على الممكنات كلها المتفرد بايجاد الموجودات بأسرها أعجز الأشياء الّذي لا يقدر على خلق اقل الاحياء وأذلها ولو اجتمعوا له بل لا يقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل - ويعجز عن دفعه عن نفسها واستنقاذ ما يتخطفه منها ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب ولا شك ان الطالب ضعيف والمطلوب أضعف منه - وقيل على العكس الطالب طالب الاستنقاذ تقديرا والمطلوب الذباب وقال الضحاك الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أى ما عظّموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته وما وصفوه حق توصيفه حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ (74) لا يغلبه شيء والهتهم عجزة عن أقلّها مقهورة من اذلّها.(1/4432)
اللَّهُ يَصْطَفِي أى يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحى وبين الناس بقبض الأرواح وإيصال الأرزاق وغير ذلك - قال البغوي هم جبرئيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وغيرهم وَمِنَ النَّاسِ أى ويختار من الناس رسلا يدعون سائرهم إلى الحق ويبلّغونهم ما نزل عليهم من اللّه تعالى اوّلهم آدم وآخرهم محمّد صلى اللّه عليهم وسلم - قال البغوي نزلت حين قال المشركون أنزل عليه الذّكر من بيننا - فاخبر ان الاختيار إلى اللّه تعالى يختار من يشاء من خلقه وقال البيضاوي لمّا قرّر وحدانيته ونفى ان يشاركه غيره في الالوهية وصفاتها بين ان له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء به
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 350
الى عبادته سبحانه وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن عداه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى والملائكة بنات اللّه ونحو ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) مدرك للاشياء كلها.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال ابن عباس يعنى ما قدموا وما خلفوا - وقال الحسن ما عملوا وما هم عاملون بعد - وقيل الضمير راجع إلى الرسل أى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أى الرسل أى ما قبل خلقهم وما خلفهم أى ما هو كائن بعد فنائهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) أى إليه مرجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسئل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسئلون.(1/4433)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أى صلوا عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لانهما ركنان لها لا زمان لا تنفك عنهما بخلاف غيرهما من الأركان فان القراءة تسقط عن الأخرس والقيام عمن لا يستطيعه - واما الركوع والسجود فلا يسقطان ابدا عند أبى حنيفة رحمه اللّه حيث قال من لم يقدر على الإيماء برأسه للركوع والسجود يتاخر عنه الصلاة ولا يتادى بالإيماء بالحاجب أو القلب وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بكل ما يصلح كونه عبادة له تعالى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قال ابن عباس هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق والظاهر انه يعم الافعال كلها يعنى اختاروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون به وما تذرونه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) الجملة في محل النصب على الحال أى افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له ولا واثقين بأعمالكم - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبد الحساب « 1 » يوم القيامة أشاء ان أعذبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي رواه أبو نعيم عن على عليه السّلام واخرج البزار عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) وفي الأصل عند الحساب -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 351(1/4434)
يخرج لابن آدم ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من اللّه تعالى يقول اللّه لاصغر نعمه في ديوان النعم خذى منك من العمل الصّالح فتستوعب العمل الصّالح فيقول وعزتك استوعبت ويبقى الذنوب وقد ذهب العمل الصالح كله - فإذا أراد اللّه ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمتى - (مسئلة) اختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند هذه الآية فقال أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري وغيرهم انه لا سجود هاهنا لان المراد بالسجود هاهنا السجود الصلاتى بدليل كونه مقرونا بالركوع والمعهود في مثله من القرآن ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو اسجدي واركعى مع الرّكعين - وقال ابن المبارك والشافعي واحمد وإسحاق وغيرهم لا بد هاهنا ان يسجد للتلاوة لحديث عقبة بن عامر قال قلت يا رسول اللّه أ فضّلت سورة الحج بان فيها سجدتين قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما - رواه احمد وأبو داود والترمذي (و اللفظ له) والدار قطنى والبيهقي والحاكم وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف قال الترمذي اسناده ليس بالقوى وقال ابن الجوزي قال ابن وهب ابن لهيعة صدوق يعنى انما ضعفه لاجل حفظه وقال الحاكم عبد اللّه بن لهيعة أحد الائمة وانما نقم اختلاطه في اخر عمره وقد تفرد به وروى أبو داود في المراسيل عنه صلى اللّه عليه وسلم قال فضلت سورة الحج بسجدتين قال وقد أسند هذا ولا يصح وحديث عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اقرأه خمس عشرة اية سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان - رواه أبو داود وابن ماجة والدار قطنى والحاكم وحسنه المنذرى والنووي وضعفه عبد الحق وابن القطان وفيه عبد اللّه بن منين الكلالى وهو مجهول والراوي عنه الحارث بن سعيد الثقفي المصري وهو لا يعرف أيضا - وقال ابن ماكولا ليس له غير هذا الحديث وأكّد الحاكم حديث عقبة بن عامر بان(1/4435)
الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 352
و ابن عباس وابى الدرداء وابى موسى وعمار ثم ساقها موقوفة عليهم وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلا وقال البغوي وهو قول عمر وعلى وابن مسعود وابن عمر - قلت الموقوف في الباب له حكم المرفوع وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة في سورة الانشقاق.
وَجاهِدُوا الجهد بالضم الوسع والطاقة وبالفتح المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة واما في المشقة والغاية فالفتح لا غير والجهاد والمجاهدة مفاعلة منه - ولما كان بناؤه للاشتراك بين اثنين استعمل في المحاربة مع الأعداء فان فيه تحمل المشقة من الجانبين واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل والمبالغة فيه إلى غاية فِي اللَّهِ أى في سبيله وإعلاء دينه وقضاء أحكامه وقيل معناه للّه حَقَّ جِهادِهِ « 1 » منصوب على المصدرية ومعناه جهادا فيه حقّا خالصا - أى حق ذلك الجهاد حقا وخلص خلوصا لوجهه الكريم - فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك هو حق عالم وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا - أو لأنه مختص باللّه من حيث انه مفعول لوجه اللّه - ومن اجله قال ابن عباس هو استفراغ الطاقة فيه وان لا يخافوا في اللّه لومة لائم فهو حق الجهاد - وقال الضحاك ومقاتل اعملوا للّه حق عمله واعبدوه حق عبادته وقال اكثر المفسرين حق الجهاد ان يكون نيته خالصة للّه عزّ وجلّ وقال السدى ان يطاع فلا يعصى - وقال عبد اللّه بن المبارك هو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر وهو حق الجهاد قال البغوي وقد روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر - قال البغوي أراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار و
_________
((1/4436)
1) عن عبد الرحمن بن عوف قال قال لى عمر السنا كنا نقرا فيما نقرا وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده في اخر الزّمان كما جاهدتم في اوّله - قلت بلى فمتى هذا يا امير المؤمنين - قال إذا كانت بنو امية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء - 12 ازالة الخفا - منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 353
بالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس واخرج البيهقي في الزهد عن جابر رضى اللّه عنه قال قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوم غزاة فقال قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر - قيل وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد لهواه قال البيهقي هذا اسناد فيه ضعف - قلت ليس المراد بالجهاد في هذه الآية المحاربة مع الكفار خاصة لأنه يأبى عنه سياق الآية لان في نسق الآية ارتقاء من الأخص إلى الأعم في كل عطف حيث ذكر الصلاة اولا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا لكونها أهم العبادات ثم عطف عليه واعبدوا ربّكم وهو يشتمل العبادات كلها الصّلوة وغيرها ثم قال وافعلوا الخير وهو يشتمل أداء حقوق اللّه تعالى كلها من العبادات والعقوبات وغيرها ومحاربة الكفار وأداء حقوق الناس ومكارم الأخلاق وغير ذلك وإتيان السنن والمستحيات كلها - ثم قال وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فلا وجه لحمله على محاربة الكفار خاصة بل المراد منه الإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال كلها ويحصل ذلك بالجهاد مع النفس ومخالفة الهوى - فان الإخلاص انما يحصل بصفاء القلب وفناء النفس - وهما بالجهاد مع النفس الامارة بالسوء ومخالفة الهوى مع اقتباس أنوار النبوة وذلك في اصطلاح القوم يعبّر بالسلوك والجذب - وذلك الإخلاص هو المعنى من اقوال أوائل المفسرين المذكورة فان الصوفي إذا صار من المخلصين بعد فناء النفس وصفاء القلب لا يخاف في اللّه لومة لائم ويعبد اللّه حق عبادته بلا رياء وسمعة ينية خالصة للّه عزّ وجلّ ويطيع اللّه ولا يعصيه ولا شك ان ذلك(1/4437)
هو الجهاد الأكبر - واما الجهاد الأصغر يعنى المحاربة مع الكفار فهو صورة الجهاد ولا يعتدبه ولا بشيء من العبادات ما لم يكن خالصا لوجه اللّه - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها « 1 » أو امراة ينكحها فهجرته إلى ما
_________
(1) وفي الأصل إلى الدنيا ليصبها إلخ الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 354(1/4438)
هاجر إليه - متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى فانا منه برىء هو للذى عمله - رواه مسلم - (فائدة) قوله صلى اللّه عليه وسلم قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر يفيد ان الجهاد الأكبر يعنى المجاهدة مع النفس انما يتاتى للمريد بمصاحبة الشيخ الكامل المكمل - فانهم لما قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد المحاربة مع الكفار اكتسبوا ببركة صحبته وانعكاس أشعة أنواره صفاء في القلب وفناء في النفس - وقوله رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر الضمير للمتكلم مع الغير والمراد منه اسناد الرجوع إلى من معه من الصحابة فانهم كانوا في حالة الجهاد مشغولين بمحاربة الكفار وان كانوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في مصاحبته لكن كان غالب هممهم مدافعة الكفار ثم إذا صاروا في المدينة مقيمين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن حينئذ همهم الا الاقتباس لانواره - والاقتفاء بمعالم اثاره وأخذ العلوم الظاهرة والباطنة من جنابه صلى اللّه عليه وسلم - هُوَ اجْتَباكُمْ أى اختاركم من بين الخلائق لمصاحبة نبيه وحبيبه صلى اللّه عليه وسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه اختارني واختار لى أصحابا واختار لى منهم اصهارا وأنصارا « 1 » وعن واثلة بن اسقع قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول انّ اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفاني من بنى هاشم - رواه مسلم وفي رواية للترمذى ان اللّه اصطفى من ولد ابراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أى ضيق وتكليف يشتد القيام به عليكم قيل معناه ان المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب الا جعل اللّه له منه(1/4439)
_________
(1) هكذا بياض في الأصل.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 355
مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بانواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب وكان فيما سبق من الأمم من الذنوب مالا توبة لها - وقيل معناه ليس عليكم من ضيق في اوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا - وقال مقاتل يعنى الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم والإفطار في السفر والمرض وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا أو مستلقيا عند العجز وهو قول الكلبي وذلك معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم - وروى عن ابن عباس انه قال الحرج ما كان على بنى إسرائيل من الاصار الّتي كانت عليهم وضعها اللّه عزّ وجلّ عن هذه الامة - قلت ويمكن ان يقال معنى قوله تعالى ما جَعَلَ اللّه « 1 » عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ انه تعالى رفع عنكم كلفة التكاليف الشرعية حتى صارت التكاليف الشرعية ارغب إليكم من المرغوبات الطبعية - وذلك من لوازم الاجتباء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعلت قرة عينى في الصلاة - رواه احمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن انس مِلَّةَ أَبِيكُمْ منصوب على الإغراء أى عليكم ملة أبيكم أو على الاختصاص أى اعنى بالدّين ملة أبيكم - أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أى وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إِبْراهِيمَ عطف بيان والظاهر انه خطاب للمؤمنين من قريش إذ السورة مكية ثم الناس تبع لهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم - متفق عليه من حديث أبى هريرة وفي رواية لمسلم عن جابر انه صلى اللّه عليه وسلم قال الناس تبع لقريش في الخير والشر - و(1/4440)
قيل خطاب للعرب وكانوا من نسل ابراهيم وقيل خطاب لجميع المسلمين وابراهيم كان أبا
_________
(1) هكذا في الأصل وليس في الآية المفسرة لفظ الجلالة فتامل والفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 356
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو كالاب لامته فانه سبب لحياتهم الابدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الاخرة ولاجل ذلك قال اللّه تعالى وأزواجه امّهاتهم - وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم انما انا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا اتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه رواه احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن أبى هريرة ولمّا كان ملة ابراهيم ودينه مرغوبا لاهل مكة مؤمنهم وكافرهم - وكانت الكافرون منهم يزعمون انهم على دين ابراهيم عليه السّلام نبّه اللّه سبحانه على ان ملة محمد صلى اللّه عليه وسلم هو ملة ابراهيم لا غير انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبىّ والّذين أمنوا هُوَ يعنى اللّه سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ نزول « 1 » القرآن في الكتب المتقدمة وَفِي هذا القرآن سماكم مسلمين وقال ابن زيد هو يعنى ابراهيم سماكم المسلمين من قبل هذا الوقت في أيامه حيث قال رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يعنى أهل مكة - وتسميتهم مسلمين في القرآن وان لم يكن من ابراهيم لكن كان بسبب تسميته من قبل - وقيل تقدير الكلام وفي هذا القرآن بيان تسميته إياكم مسلمين هذه الجملة بيان لقوله تعالى هُوَ اجْتَباكُمْ فان الهداية إلى الإسلام الحقيقي والتسمية بالمسلمين مبنىّ على الاجتباء لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بمضمون هو سمّاكم المسلمين أى اعطاكم الإسلام وجعلكم مسلمين ليكون الرّسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة ان قد بلّغكم قلت وجاز ان يكون(1/4441)
متعلقا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا مع ما عطف عليه وَتَكُونُوا أنتم شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ انّ رسلهم قد بلّغتهم أخرج ابن جرير وابن المنذر عن جابر بن عبد اللّه عن النبي
_________
(1) الاولى ان يقال في التفسير (اى من قبل نزول إلخ) لان فيما اختاره المفسر العلام رحمه اللّه تعالى يلزم جر قبل وهو مبنى على الضم - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 357(1/4442)
صلى اللّه عليه وسلم قال انا وأمتي يوم القيامة على كئوم « 1 » مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد الا ودّ انه منا وما من نبى الا كذّبه قومه ونحن نشهد انه قد بلّغ رسالة ربه - واخرج ابن المبارك في الزهد انبأنا رشد بن سعد حدثنى ابن العم عن أبى حبلة بسنده قال أول من يدعى يوم القيامة اسرافيل فيقول اللّه هل بلّغت عهدى فيقول لعم قد بلّغته جبرئيل فيدعى جبرئيل فيقال هل بلّغك اسرافيل عهدى فيقول لعم فيخلى اسرافيل فيقول لجبرئيل ما صنعت في عهدى فيقول يا رب بلّغت الرسل - فيدعى الرسل فيقال للرسل هل بلّغكم جبرئيل عهدى فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم في عهدى فيقولون بلّغنا الأمم - فيدعى الأمم فيقال لهم هل بلّغكم الرسل فمكذّب ومصدّق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من - فيقولون أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيدعى أمة محمد فيقال لهم أ تشهدون ان الرسل قد بلّغت الأمم فيقولون نعم - فيقول الأمم يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا - فيقول اللّه تعالى كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا وقصصت علينا فيه ان قد بلّغوا - فذلك قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً - وقد ذكرنا ما رواه البخاري وغيره عن أبى سعيد الخدري في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ داوموا عليها وَآتُوا الزَّكاةَ يعنى فتقربوا إلى اللّه بانواع الطاعات لما خصّكم بهذا الفضل والشرف واعتصموا باللّه يعنى ثقوابه في جميع أموركم ولا تستعينوا في شيء الا منه وقال الحسن معناه تمسكوا بدين اللّه وروى عن ابن عباس سلوا ربكم يعصمكم
_________
(1) جمع كومة أى المكان المرتفع - 12 منه رح.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 358(1/4443)
من كل ما يكره - وقيل معناه ادعوه ليثبتكم على دينه - وقيل الاعتصام باللّه هو التمسك بالكتاب والسنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب اللّه وسنة رسوله - رواه مالك في الموطإ مرسلا وعن عصيف بن الحارث اليماني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أحدث قوم بدعة الا رفع مثلها من السنة فتمسك سنة خير من احداث بدعة - رواه احمد هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم وحافظكم ومتولى أموركم هذه الجملة في مقام التعليل للاعتصام فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (48) الفاء للسببية يعنى إذا ثبت ان اللّه موليكم ونصيركم فنعم المولى موليكم ونعم النصير نصيركم إذ لا مثل له في الولاية والنصر بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة واللّه اعلم - تم تفسير سورة الحج من تفسير المظهرى ثامن ذى الحجة من السنة الثالثة بعد المائتين والف - ويتلوه ان شاء اللّه تعالى سورة المؤمنين وصلّى اللّه تعالى على خير خلقه سيّدنا محمّد واله وأصحابه أجمعين 15/ ذى الحجّة سنة 1203 ه « 1 »
_________
(1) هكذا في الأصل مكتوب بالحمرة لعل العلامة رحمه اللّه - رقمه بعد تكبئل الفهرس أبو محمّد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 359
فهرس تفسير سورة المؤمنين من التفسير المظهرى(1/4444)
المطالب الصحيفة ما ورد في ان الجنة قالت قد أفلح المؤمنون 361 ما ورد في الخشوع في الصّلوة وجعل بصره موضع سجوده وترك الالتفات ونحو ذلك 362 في متعة النساء 365 حديث اوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصّلوة وفيه فان انتقص من فريضة يكمل بالتطوع ثم الزكوة مثل ذلك الحديث 365 حديث في انّ لكل انسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار فمن دخل النار ورث أهل الجنة منزله 366 المطالب الصحيفة حديث من فرّ من ميراث وارثه قطع اللّه ميراثه من الجنة 366 حديث ان خلق أحدكم يجمع في بطن امه أربعين يوما نطفة الحديث 369 حديث ان اللّه انزل من الجنة خمسة انهار سيحون وجيحون الحديث 374 حديث كل نسب وصهر ينقطع الانسى وصهرى 403 تحقيق الميزان وما ورد فيه 403 فصل في كيفية الوزن 404 حديث ان لاهل النار خمس دعوات الحديث 408 تمّت.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 360
سورة المؤمنين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ربّ يسّر وتمّم بالخير أخرج الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت.(1/4445)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) فطأطا راسه واخرج ابن مردوية بلفظ كان يلتفت في السماء فنزلت - وذكره البغوي انه قال أبو هريرة كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصّلوة فلمّا نزل الّذين هم في صلاتهم خشعون رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود - واخرج ابن أبى حاتم عن ابن سيرين مرسلا كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصّلوة فنزلت قرأ ورش بإلقاء حركة همزة أفلح على دال قد وحذف الهمزة - وكلمة قد تثبت ما كان متوقعا - كما ان لمّا ينفيه - وتدل على ثباته إذا دخل على الماضي ولذلك تقرّبه من الحال - ولمّا كان المؤمنون متوقعين الفلاح بفضل اللّه صدّرت بها بشارة لهم - والفلاح قال في القاموس هو الفوز (يعنى بالمقصود) والنجاة ريعتى من المرهوب) والبقاء في الخير - وهو دنيوى واخروى والمراد هاهنا الفلاح الأخروي الكامل - وكماله ان لا يعذب أصلا لا في القبر ولا بالمناقشة في الحساب وشدائد يوم القيامة ولا بدخول النار ولا بصعوبة المرور على الصراط - ويفوز إلى أعلى المقاصد في الجنان ومراتب القرب والرؤية والرضوان من الملك الديان
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 361(1/4446)
و اما الفلاح في الجملة فغير مختص بالمتصفين بهذه الصفات المذكورة في تلك الآيات - بل هو لكل من قال لا اله الا اللّه قال اللّه تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ والايمان والتوحيد نفسه رأس الخيرات - ومن هاهنا قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة - وروى عن ابن عباس مرفوعا خلق اللّه جنة عدن ودلّى فيها ثمارها وشق ف يها أنهارها ثم نظر إليها فقال تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون فقال وعزتى وجلالى لا يجاورنى فيك بخيل - رواه الطبراني قلت لعل المراد بالبخيل هاهنا هو الكافر فانه يتجل عن أداء حق اللّه تعالى في التوحيد واخرج أيضا الطبراني بسند اخر جيد عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خلق اللّه جنة عدن خلق فيها مالا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون - واخرج البزار والطبراني والبيهقي نحوه عن أبى سعيد الخدري مرفوعا والبيهقي عن مجاهد وعن كعب نحوه والحاكم عن انس نحوه واخرج ابن أبى الدنيا في صفة الجنة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلق اللّه تبارك وتعالى جنة عدن من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرحد خضراء وملاطها المسك وحشيشها الزعفران وحصاها اللؤلؤ وترابها العنبر - ثم قال لها انطقى قالت قد أفلح المؤمنون - قال وعزتى لا يجاورنى فيك بخيل - قلت ويمكن ان يقال ان المراد بالفلاح دحول الجنة مطلقا ولو بعد التعذيب وذلك لجميع المؤمنين كما تدل عليه الأحاديث المذكورة - والتقييد في القرآن بالصفات المذكورة ليس للاحتراز بل لنمدح - فان شأن المؤمن يقتضى الاتصاف بتلك الصفات وعلى تقدير كون المراد بالفلاح الفلاح الكامل وكون التقييد بالصفات للاحتراز لا يدل تلك الآيات الا على الوعد بالفلاح الكامل للمؤمنين الكاملين المتصفين بتلك الصفات ولا ندل على نفى الفلاح عن غيرهم من(1/4447)
المؤمنين - لانا لا نقول بمفهوم الصفة كما قرر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 362
فى الأصول ان التقييد بالشرط أو الصفة يجعل ما لا يوجد فيه الشرط أو الصفة في حكم المسكوت عنه وهو المراد بالاحتراز لا انه يجعله في حكم المنطوق بنفي الحكم وقد انعقد الإجماع على ان أهل الكبائر من المؤمنين وان ماتوا بغير توبة مالهم إلى الجنة وهم في مشيئة اللّه تعالى ان شاء عذبهم ثم يدخلهم الجنة وان شأغفر لهم بلا تعذيب - والخاشعون قال ابن عباس هم المخبتون أذلاء وقال الحسن خائفون وقال مقاتل متواضعون وقال مجاهد هو غض البصر وخفض الصوت وعن على كرم اللّه وجهه هو ان لا يلتفت يمينا ولا شمالا وقال سعيد بن جبير لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله ولا يلتفت من الخشوع للّه تعالى وقال عمرو بن دينار هو السكون وحسن الهيئة وقال جماعة هو ان لا ترفع بصرك عن موضع سجودك وقال عطاء هو ان لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة - وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة لها والاعراض عما سواه والتدبر فيما يجرى(1/4448)
على لسانه من القراءة والذكر - وان لا يجاوز مصلاه ولا يلتفت ولا يغيب ولا يميل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلّب الحصى ولا يفعل شيئا مما يكره في الصّلوة وعن أبى الدرداء هو اخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام وفي القاموس الخشوع هو الخضوع أى التواضع أو هو قريب من الخضوع أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر والسكون والتذلّل - وفي النهاية الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن - عن أبى ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يزال اللّه عزّ وجلّ مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت اعرض عنه رواه احمد وأبو داود والنسائي والدارمي وعن عائشة قالت سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة قال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلوة العبد - متفق عليه وعن انس بن مالك قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 363(1/4449)
الى السماء في صلاتهم - فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهين عن ذلك أو ليتخطفن أبصارهم - رواه البغوي وروى مسلم والنسائي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو ليختطفن أبصارهم وعن جابر بن سمرة بلفظ لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا يرجع إليهم أبصارهم - رواه احمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وعن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم راى رجلا يعبث بلحيته في الصّلوة فقال لو خشع « 1 » قلب هذا لخشعت « 2 » جوارحه - رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسند ضعيف وعن أبى الأحوص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فان الرحمة تواجهه رواه البغوي ورواه احمد وابن عدى والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن أبى ذر (فصل) وعن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له يا انس اجعل بصرك حيث تسجد - رواه البيهقي في سننه الكبير وعنه قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا بنى إياك والالتفات في الصّلوة فان الالتفات في الصّلوة هلكة فان كان لا بد ففى التطوع لا في الفريضة.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ قال عطاء عن ابن عباس عن الشرك وقال الحسن عن المعاصي قلت والاولى أن يقال عما لا يفيدهم في الاخرة كلاما
_________
(1) عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعوذ باللّه من خشوع النفاق - قالوا يا رسول اللّه وما خشوع النفاق قال خشوع البدن ونفاق القلب - وعن مجاهد عن عبد اللّه بن الزبير انه كان يقوم في الصّلوة كأنَّه عود وكان أبو بكر يفعل ذلك 12 منه رح
((1/4450)
2) عن اسماء بنت أبى بكر عن أم رومان والدة عائشة قالت رانى أبو بكر الصديق أ تميل في صلاتى فزجرنى زجرة كدت انصرف من صلاتى قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فان سكون الأطراف في الصّلوة من تمام الصّلوة - 12 ازالة الخفا منه رح -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 364
كان أو غيره ولا يحمد عليه من قول أو فعل مُعْرِضُونَ (3) فضلا عن ارتكابهم ما يضرهم من الشرك والمعاصي - وقيل هو معارضة الكفار بالشتم والسبّ قال اللّه تعالى وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً - أى إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه - قال البيضاوي هو ابلغ من الذين لا يلهون بوجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه واقامة الاعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسبيبا وميلا وحضورا فان أصله ان يكون في عرض غير عرضه وكذلك قوله.
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) الزكوة يطلق على القدر الواجب الّذي يخرجه المزكى من النصاب وعلى فعل المزكى والمراد هاهنا هو الفعل لان الفاعل انما يفعل الفعل دون العين وجاز ان يراد العين بتقدير المضاف يعنى لاداء الزكوة فاعلون - وفي لفظ فاعلون دلالة على المداومة ودخول اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل عن العمل يقال هذا ضارب لزيد ولا يقال ضرب لزيد - وقيل الزكوة هاهنا هو العمل الصّالح أى والذين هم للعمل الصالح فاعلون.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) الفرج اسم لجميع سوءة الرجل والمرأة وحفظ الفرج التعفف عن الحرام.(1/4451)
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ صلة لحافظون من قولك احفظ علىّ عنان فرسى يعنى لا تطلقه - واستقام المعنى لتضمن الحفظ معنى نفى البذل أو صلة لمقدور هو لا يبذلونها لدلالة قوله غير ملومين عليه - وجاز ان يكون المستثنى المفرغ منصوبا على الحال والتقدير حافظون لفروجهم في جميع الأحوال الا قادرين على أزواجهم أى زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أى سرياتهم يعنى ناكحين أو مالكين قال البيضاوي انما قال ما اجراء للمماليك مجرى غير ذوى العقول إذ الملك اصل شائع فيه قلت بل المراد منه الإماء فان النساء لقلة عقلهن ملحقات بغير ذوى العقول ولذلك يستعمل ضمائر التأنيث لغير ذوى العقول - فايراد كلمة ما للدلالة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 365
على ان المراد به الإماء دون العبيد من المماليك فلا يجوز للنساء الاستمتاع بفروح عبيدهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فى إتيانها والضمير المنصوب لحافظون ولمن دل عليه الاستثناء أى فان بذلوها على أزواجهم أو امائهم فانّهم غير ملومين.(1/4452)
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ المستثنى أى طلب سوى الأزواج والإماء المملوكة لبذل الفرج فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) أى الكاملون في الظلم والعدوان المتجاوزون عن الجلال إلى الحرام وهذه الآية ناسخة لمتعة النساء - عن ابن عباس قال انما كانت المتعة في اوّل الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى انه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت الّا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم قال ابن عباس فكل فرج سواهما فهو حرام - رواه الترمذي ولا شك ان النساء اللاتي يتمتع بهن لسن من الأزواج للاجماع على عدم التوارث بينهم حتى لا تقول الروافض أيضا بالتوارث - وقد قال اللّه تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وقد ذكرنا مسئلة متعة النساء في تفسير سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً - وأيضا في هذه الآية دليل على ان الاستمناء باليد حرام - وهو قول العلماء قال ابن جريج سالت عطاء عنه فقال مكروه سمعت ان قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن انهم هؤلاء - وعن سعيد بن جبير قال عذب اللّه أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرأ ابن كثير هاهنا وفي المعارج لامنتهم على التوحيد والباقون بالجمع وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) أى لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق كالصلوة والصوم وغيرهما من العبادات الّتي أوجبها اللّه تعالى - أو من جهة الخلق كالودائع والبضائع وما واعد الناس وعاقدهم فعلى العبد الوفاء بجميعها عن أبى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فان صلحت فقد أفلح
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 366(1/4453)
و أنجح وان فسدت فقد خاب وقد خسر فان انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى انظروا هل لعبدى من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك - وفي رواية ثم الزكوة مثل ذلك ثم يؤخذ الأعمال على حسب ذلك - رواه أبو داود ورواه احمد عن رجل.
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ قرأ حمزة والكسائي صلاتهم على التوحيد والباقون على الجمع يُحافِظُونَ (9) أى يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها - ولفظ الحفظ لما في الصّلوة من التجدد والتكرار - وليس تكريرا لما وصفهم به اولا لان الخشوع في الصّلوة غير المحافظة عليها - وفي تصدير ذكر الصّلوة والختم بامرها تعظيم لشأنها ووحدت الصّلوة في الأمر باخشوع لافادة انه لا بد من الخشوع في جنس الصّلوة ايّة صلوة كانت وجمعت في المحافظة عند اكثر القراء آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل.
أُولئِكَ أى الجامعون لهذه الصفات هُمُ الْوارِثُونَ (10) الاحقاء بان يسموا وارثا دون غيرهم جملة معترضة للمدح.(1/4454)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة للوارثين بيان لما يرثونه والتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا يعنى يرثون منازل الكفار الّتي أعدت لهم ان أمنوا - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ - رواه ابن ماجة وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية والبيهقي في البعث واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن أبى هريرة بلفظ يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم الّتي أعدت لهم لو أطاعوا اللّه - واخرج ابن ماجة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فرمن ميراث وارثه قطع اللّه ميراثه من الجنة - وقال بعضهم معنى الوراثة هو انه يؤل أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤل امر الوارث إلى الميراث - والفردوس أعلى الجنة و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 367(1/4455)
قد مر ذكره مشروحا في سورة الكهف هُمْ فِيها الضمير راجع إلى فردوس وتأنيث الضمير لكونه اسما للجنة خالِدُونَ (11) لا يموتون فيها ولا يخرجون منها جملة مستأنفة روى احمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا انزل عليه الوحى سمع عند وجهه دوى كدوى النحل فانزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولاتهنّا وأعطنا ولا تحرمنا واثرنا ولا تؤثر علينا وارضنا وارض عنا ثم قال انزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى ختم عشر آيات - قال النسائي منكر وصححه الحاكم وهذه الآية جامعة لابواب الخير كلها فان اللّه تعالى وصف المؤمنين بالخشوع في الصّلوة والمواظبة على الزكوة والاعراض عن اللغو والتجنب عن المحرمات وسائر ما يوجب المروة اجتنابه - فظهر انهم بلغوا الغاية على الطاعات البدنية والمالية والتطهر والتنزه للتجليات الذاتية والصفاتية واللّه اعلم - .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا جنس « 1 » الْإِنْسانَ أو آدم عليه السّلام ولهذا جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فانه كان في ذكر الايمان واصناف العبادات والطاعات وهذه الجملة لبيان استحقاقه تعالى العبادة والطاعة وسبب وجوبها - فكانه قال وقد حق لهم ان يعبدونا ويوحدونا لانّا واللّه لقد خلقناهم مِنْ سُلالَةٍ أى خلاصة سلت من بين الكدر ومن للابتداء مِنْ طِينٍ (12) من للبيان أى سلالة هو طين صفة لسلالة - أى سلالة كائنة من طين سلت من وجه الأرض - وكان آدم من طين سلت من الأرض وسائر الناس من النطف الّتي هى من الاغذية الّتي هى من الأرض - وجاز ان يكون ظرفا لغوا متعلقا بمعنى سلالة لانها بمعنى مسلولة
_________
((1/4456)
1) الاولى ولقد خلقنا الإنسان أى جنسه إلخ لان ما اختاره المفسر العلام رحمه اللّه تعالى يلزم عليه جر لفظة الإنسان وهو منصوب فتامل - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 368
فيكون من ابتدائية وقال الكلبي المراد بالطين آدم عليه السّلام والمعنى خلقنا جنس الإنسان من نطفة سلت من طين هو آدم عليه السّلام - أخرج عبد الرزاق وابن جرير وعبد بن حميد وابن أبى حاتم عن قتادة ان المراد بالطين آدم عليه السّلام واخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال من منى بنى آدم قال البغوي وروى عن ابن عباس انه قال السلالة صفوة الماء وقال عكرمة هو الماء سل من الظهر والعرب تسمى النطفة سلالة.
ثُمَّ جَعَلْناهُ أى السلالة وتذكير الضمير على تأويل المسلول نُطْفَةً وجاز ان يكون الضمير راجعا إلى الإنسان ونطفة منصوبا بنزع الخافض فان كان المراد بالإنسان آدم فمضاف الضمير محذوف أقيم المضاف إليه مقامه والمعنى ثم خلقنا ذلك الجنس من نطفة أو خلقنا بنيه من نطفة كائنة فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) أى مقر حريز وهو الرحم والمكين في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل مبالغة كما عبر عنه بالقرار وهو مصدر.(1/4457)
ثُمَّ خَلَقْنَا أى صيرنا النُّطْفَةَ البيضاء عَلَقَةً حمراء فَخَلَقْنَا صيرنا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً قطعة لحم قدر ما يمضغ فَخَلَقْنَا صيرنا الْمُضْغَةَ عِظاماً بان صلبناها فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها - ولحما منصوب بنزع الخافض أى كسونا العظام بلحم أو هو مفعول ثان لكسونا لتضمنه معنى أعطينا يقال كسوت زيدا حلة أى أعطيته إياها قرأ الجمهور عظاما والعظام في الموضعين بلفظ الجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة - وقرا أبو بكر وابن عامر عظما والعظم على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ثُمَّ أَنْشَأْناهُ الضمير عائد إلى السلالة أو إلى الإنسان سواء كان المراد به الجنس أو آدم عليه السّلام ولا حاجة هاهنا إلى تقدير المضاف خَلْقاً آخَرَ مصدر لا نشأنا من غير لفظه يعنى خلقناه خلقا اخر أو مفعول ثان له بتضمينه معنى صيرنا - وجاز ان يكون بدل اشتمال للضمير المنصوب والمعنى انشأناه أى السلالة أو الإنسان خلقا اخر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 369(1/4458)
اى انشأنا خلقا اخر - قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية هو نفخ الروح فيه - قلت لعل المراد بالروح في قولهم هو الروح السفلى المسمى بالروح الح يواني وبالنفس الّتي هى مركب للروح العلوي الّذي هو من عالم الأرواح ومقره فوق العرش في النظر الكشفى وليس هو بمكاني - والنفس هى البخار المنبعث من العناصر المصور على هيئة الجسم وهو جسم لطيف سار في الجسم الكثيف وعلى هذا يصح إرجاع ضمير انشأناه إلى السلالة - بخلاف ما إذا كان المراد به الروح العلوي فانه غير ماخوذ من السلالة - وأيضا كلمة ثم تدل على ذلك فان خلق الأرواح العلوية قبل خلق الأبدان فان الأبدان لم تكن موجودة حين أخذ اللّه الميثاق من الأرواح - واما نفخ الروح فهو صفة من صفاته تعالى قال اللّه تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي - وان كان تاخره من تكسية العظام صادق باعتبار تأخر تعلق الصفة القديمة - اللهم الا ان يقال المراد بالانشاء نفخ الروح لا خلق الروح واللّه اعلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع في بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح - فو الّذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار - وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة - متفق عليه فان قيل ورد في الحديث تحويلات خلق الإنسان بكلمة ثم وهى تدل على التراخي وفي كتاب اللّه بكلمة الفاء وهى للتعقيب فما وجه التطبيق بينهما - قلت ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بين كل تحويل أربعين يوما وذلك زمان طويل يقتضى العطف بكلمة ثم لكن اللّه سبحانه أورد(1/4459)
كلمة الفاء للدلالة على ان تلك المدة الطويلة وهى أربعون يوما قصيرة جدّا نظرا إلى ما يقتضى تفاوت كل طور منها إلى طور اخر - واما إيراد كلمة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 370
ثم في بعض المواضع وكلمة الفاء في بعضها فلتفاوت الاستحالات - الا ترى ان استحالة السلالة إلى النطفة في غاية البعد - واستحالة النطفة الّتي استقرت في صلب الرجل وترائب المرأة زمانا طويلا - ثم وصلت في رحم المرأة وامتزجت هناك وبقيت في الرحم نطفة أربعين يوما - ثم تحولت إلى العلقة أيضا لطول زمانه وتراخيه يقتضى العطف بكلمة ثم بخلاف التحويلات الاخر من العلقة إلى المضغة ومن المضغة إلى العظام والى تكسية العظام لحما فكل ذلك ليس بتلك المثابة من البعد - ولاجل ذلك أوردها بلفظة الفاء وأورد كلمة ثم في قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ للتراخى في الرتبة وكمال التفاوت بين الخلقتين واللّه اعلم (مسئلة) هذه الآية تدل على انه من غصب بيضة فافرخت عنده ثم مات الفرخ - أو أخذ من الحرم بيضة فاخرجها إلى الحل ثم افرخت لزمه ضمان البيضة دون الفرخ لأنه خلق اخر وفيه الروح السفلى وهو الروح الحيواني واللّه اعلم - وقال قتادة معنى قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نبات الأسنان والشعر وروى ابن جريج عن مجاهد انه استواء الشباب وعن الحسن قال ذكر أو أنثى - وروى العوفى عن ابن عباس(1/4460)
ان ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى ان يبلغ الحلم وينقلب في البلاد إلى ما بعدها - قلت ويمكن ان يكون المراد بقوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ الولادة الثانية الّتي يكون للفقراء بالفناء والانخلاع من الصفات البهيمية والسبعية والبشرية إلى الصفات الملكية والارتقاء منها إلى الصفات الرحمانية والبقاء بذات اللّه تعالى أو بصفاته القدسية وهذا التأويل أليق بالعطف بكلمة ثم فَتَبارَكَ اللَّهُ أى تعالى وتعظّم من ان يتخذ له شريكا أو بتهاون في امتثال أوامره أو الانتهاء عن مناهيه - والفاء للسببيّة فان اتصافه تعالى بما ذكر من الخلق دليل على كمال قدرته وحكمته يقتضى الحكم بكبريائه وعظمته
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 371(1/4461)
و علو منزلته واستحالة شريكه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (12) بدل من اللّه أو خبر مبتدا محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وان أضيف لان المضاف إليه عوض من من التفضيليّة والتميز هاهنا محذوف تقديره احسن الخالقين خلقا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه واحتجت المعتزلة بهذه الآية على ان العباد خالقون لافعالهم الاختياريّة حتى يتحقق التفضيل - وقد دلت البراهين العقليّة والادلة الشرعيّة على أن الافعال الاختياريّة للعباد مخلوقة للّه تعالى حيث قال اللّه تعالى خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ - ولان الممكن الّذي لا يقتضى ذاته وجوده لا يتصور ان يقتضى ذاته وجود غيره وعليه انعقد اجماع الصحابة ومن بعدهم من علماء النصيحة - فالجواب عن استدلال المعتزلة انا لا ننكر ان للعباد في أفعالهم الاختياريّة نوعا من الارادة والاختيار وذلك الارادة والاختيار مناط التكليف ومنشأ الثواب والعقاب وموجب لاسناد الافعال إليهم ونسمّيه بالكسب - لكن ذلك الارادة والاختيار غير كافية لايجاد معدوم أصلا جوهرا كان أو عرضا وانما الإيجاد بقدرة اللّه الكاملة وإرادته واختياره - وتعلق قدرته وإرادته واختياره بمخلوق نسمّيه خلقا وذلك كاف لايجاد كل معدوم - غير ان اللّه سبحانه اقتضت حكمته (و ان خفيت علينا) ان يجعل لكسب العبد أيضا مدخلا في بعض أفعالهم - فنزاعنا مع المعتزلة في المعنى فانهم يقولون ان قدرة العبد وإرادته كاف لايجاد المعدوم ونحن لا نقول به ولا نزاع لنا في جواز اطلاق لفظ الخلق على كسب العبد فانه نزاع لفظى - وكلمة احسن الخالقين انما تدل على صحة اطلاق لفظ الخلق لغة على معنى الكسب والخلق المصطلحين ومن هاهنا قال مجاهد معناه يصنعون ويصنع اللّه واللّه خير الصانعين - يقال رجل خالق أى صانع وقال اللّه تعالى وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً وقال اللّه تعالى حكاية عن عيسى أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ - و(1/4462)
قيل معنى الخالقين هاهنا المصورين أو المقدرين والخلق في اللغة التقدير وقبل
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 372
هذا على سبيل الفرض وفرض المحال ليس بمحال يعنى لو فرضنا تعدد الخالقين - ركما هو رأى المعتزلة مجوس هذه الامة فاللّه تعالى أحسنهم أخرج ابن أبى حاتم عن عمر قال وافقت ربى في اربع نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآيات فلمّا نزلت قلت فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ الحديث - وهذه القصة تدل على ان ما دون الآية ليس بمعجز يقدر عليه البشر حيث نطق به عمر رضى اللّه عنه - وقيل ان عبد اللّه بن سعد بن أبى سرح كان يكتب للنبى صلى اللّه عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكتب هكذا نزلت فقال عبد اللّه ان كان محمد نبيّا يوحى إليه فانا نبى يوحى الىّ فارتد ولحق بمكة - فلما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة أهدر دمه فيمن أهدر من الدماء فجاء إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصمت طويلا ثم قال نعم فلما انصرف عثمان قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما صمتّ الا لتقتلوه فقال رجل هلّا أو مأت إلينا يا رسول اللّه فقال ما كان لنبى ان يكون له خائنة الأعين ثم اسلم ذلك اليوم وحسن إسلامه قلت ذكر في سبيل الرشاد ارتداده واهدار النبي صلى اللّه عليه وسلم دمه وشفاعة عثمان وغير ذلك لكن لم يذكر ان سبب ارتداده كان نطقه بهذه الآية قبل إملائه ولا يتصور ان يكون هذا سببا لارتداده لان ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية واللّه اعلم.(1/4463)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أى بعد ما ذكرنا من أمركم لَمَيِّتُونَ (15) عند انقضاء اجالكم أى لصائرون إلى الموت لا محالة ولذلك ذكر صيغة النعت الّذي هو للثبوت دون اسم الفاعل وهذه الجملة مع ما عطف عليه معطوف على ولقد خلقنا الإنسان إلى اخر الآيات وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وانما أكد الجملة بانّ واللام لكون الناس مصرين على ارتكاب المعاصي وذلك دليل على انكارهم الموت والبعث فنزلوا منزلة المنكرين لهما - قال البغوي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 373
ان الميّت بالتشديد والمائت الّذي لم يمت بعد وسيموت - والميت بالتخفيف من مات ولذلك لم يجز التخفيف هاهنا كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وفي القاموس مات يموت ويمات ويميت فهو ميت بالتخفيف وميّت بالتشديد والمائت الّذي لم يمت بعد.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) من القبور للمحاسبة والمجازاة.
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ جواب قسم محذوف معطوف على قوله ولقد خلقنا الإنسان سَبْعَ طَرائِقَ أى سبع سموات لانها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل - وكل ما فوقه مثله فهو طريقه أو لانها طراق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ عن جنس المخلوق غافِلِينَ (17) أى مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى يبلغ منتهى ما قدرنا لها من الكمال على ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشية فتمسك السماء ان تقع على الأرض - وهذه الجملة اما حال من فاعل خلقنا أو معطوف على قوله لقد خلقنا وهو واقع في مقام التعليل - يعنى خلقنا فوقكم سبع طرائق لنفتح عليكم الأرزاق والبركات منها وتطلع عليكم الشمس والقمر والكواكب لانا ما كنا عنكم وعما يصلح شأنكم غافلين.(1/4464)
وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا عطف على خلقنا بِقَدَرٍ أى بمقدار ما علمنا صلاحهم فَأَسْكَنَّاهُ عطف على ما سبق أى جعلناه ثابتا مستقرا فِي الْأَرْضِ فقيل المراد به ما يبقى في الحياض والغدر ان ينتفع به الناس عند انقطاع المطر - وقيل المراد به ما تتشربه الأرض ويدخل في مساماتها فيخرج منها في الأرض ينابيع - فماء الأرض على هذا كله من السماء وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ عطف على فاسكناه يعنى على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر عليكم استنباطه - وفي تنكير ذهاب ايماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد لَقادِرُونَ (18) كما كنا قادرين على انزاله يعنى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 374(1/4465)
لو فعلنا ذلك لهلكتم عطشانا وهلكت مواشيكم ويخرب اراضيكم - قال البغوي وفي الخبر ان اللّه تعالى انزل أربعة انهار من الجنة سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقال روى الامام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد بالاجازة عن سعيد بن سابق الإسكندراني عن سلمة بن على عن مقاتل بن حبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تعالى انزل من الجنة خمسة انهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل أنزلها اللّه عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحى جبرئيل عليه السّلام استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل منافع للناس فذلك قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ - وإذا كان عند يأجوج ومأجوج أرسل اللّه جبرئيل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام ابراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ - فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا - قلت ولعل جميع انهار الدنيا من عيون الجنة وانما ذكر الخمسة في الحديث على سبيل التمثيل واللّه اعلم - .(1/4466)
فَأَنْشَأْنا عطف على أنزلنا لَكُمْ بِهِ أى بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها أى في جنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها سوى النّخيل والأعناب وَمِنْها أى من الجنات يعنى من ثمارها وزروعها تَأْكُلُونَ (19) تغذيا أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته - ويجوز ان يكون الضمير ان للنخيل والأعناب أى لكم في ثمراتها انواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وخص النخيل والأعناب بالذكر لانهما اكثر فواكه العرب - وجملة منها تأكلون حال من فاعل الظرف اعنى لكم فيها فواكه أو معطوف عليه ولجنات أو نخيل.
وَشَجَرَةً عطف على جنات تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهى الزيتون قرأ أهل الحجاز
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 375
و أبو عمرو سيناء بكسر السين - وابن عامر ويعقوب والكوفيون بفتحها - اختلفوا في معناه وفي سينين قال مجاهد معناه البركة أى من جبل مبارك وقال قتادة والضحاك وعكرمة معناه الحسن أى جبل حسن قال الضحاك هو بالنبطية وقال عكرمة بالحبشية - وقال الكلبي معناه ذو شجر قيل هو بالسريانية الملتف بالأشجار وقال مقاتل كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سيناء وسينين بلغة النبط - وقال مجاهد سيناء اسم حجارة بعينها أضيف إليها الجبل لوجودها عنده - وقال عكرمة هو اسم المكان الّذي به هذا الجبل - وقيل المركب منهما اسم لجبل بين مصر وأيلة نودى منه موسى كامرا القيس كذا قال ابن زيد - ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة والعجمة لا للالف لأنه فيعال كديماس من السناء بمعنى الرفعة أو بالقصر بمعنى النور أو ملحق بفعلال إذ لا فعلاء بألف التأنيث هذا على قراءة أهل الحجاز - واما على قراءة الكوفيين فهو فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء فالالف للتأنيث لا فعلال إذ ليس في كلامهم.(1/4467)
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم التاء وكسر الباء من الافعال يعنى زيتونها متلبّسا بالدهن قال الزجاج الباء للحال أى ومعها الدهن وقيل الباء على هذا زائدة أى تنبت الدهن - وقيل أنبت بمعنى نبت والمعنى على حسب قراءة الباقين بفتح التاء وضم الباء من المجرد أى تنبت متلبّسا بالدهن مستصحبا له - ويجوز ان يكون للتعدية فيكون معناه تنبت الدّهن وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الاخر أى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه أدما يصبغ به الخبز أى يغمس فيه للايتدام - قال البغوي الصبغ والصباغ الادام الّذي يغمس فيه الخبز فينصبغ والادام كل ما يؤكل مع الخبز سواء ينصبغ به الخبز اولا قال مقاتل جعل اللّه في هذا الشجر أدما ودهنا فالادم الزيتون والدهن الزيت وقال خض الطور بالزيتون لان أول الزيتون نبت بها ويقال ان الزيتون أول
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 376
شجرة نبت في الدنيا بعد الطوفان
وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً اية بحالها وتستدلون بها على كمال القدرة والحكمة لصانعها عطف على فانشأنا لكم - ولمّا كان الناس غافلون عن الاعتبار نزلوا منزلة أهل الإنكار وأكد الجملة. نُسْقِيكُمْ قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بفتح النون على صيغة المتكلم من المجرد والباقون بضم النون على صيغة المتكلم من الافعال كما ذكرنا في سورة النحل - وأبو جعفر هاهنا بالتاء وفتحها على صيغة المؤنث الغائب من المجرد والضمير حينئذ راجع إلى الانعام مِمَّا فِي بُطُونِها من الألبان أو من العلف فان اللبن يستلون منه فمن للتبعيض أو للابتداء وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ في ظهورها واشعارها وأصوافها وأوبارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) فتنتفعون بأعيانها.
عَلَيْها(1/4468)
اى على الانعام فان منها ما يحمل عليه كالابل والبقر وقيل المراد الإبل لانها هى المحمول عليها عند العرب والمناسب للفلك فانها سفائن البر قال ذو الرمة سفينة برّ تحت خدى زمامها - والضمير فيه كالضمير في وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
(22) فى البر والبحر وجملة نسقيكم إلى آخرها بيان للعبرة فان ما أخرج اللّه تعالى مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ آية للاعتبار على كمال قدرته - وانقياد الانعام للحلب وجزّ الصوف والشعر والحمل والذبح وغير ذلك مع كمال قوتها وضعف الإنسان اية اخرى.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ عطف على قوله ولقد خلقنا الإنسان ذكر في صدر السورة حال المؤمنين المطيعين ثم عقبه بالآيات المقتضية للإيمان والطاعة ثم عقبه بذكر الكافرين الطاغين وما ال إليه أمرهم فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أطيعوه ووحدوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استيناف لتعليل الأمر بالعبادة قرأ الكسائي غيره بالجر حملا على لفظة اله والباقون بالرفع حملا على محله أَفَلا تَتَّقُونَ (23) عطف على محذوف يعنى ا تشركون به فلا تتّقون ان يزيل ما بكم من نعمائه ويعذبكم باشراككم إياه غيره في العبادة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 377
و كفرانكم آلاءه.(1/4469)
فَقالَ الْمَلَأُ الاشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فيما بينهم ما هذا يعنى نوحا عليه السّلام إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يأكل ويشرب وينام فكيف يكون رسولا من اللّه - وهذا القصر قصر قلب فان من يدعى الرسالة كا نه منكر لكونه بشرا ومدع لكونه ملكا على زعمهم الفاسد فقالوا على قلب دعواه ليس هذا ملكا وليس هذا شيئا الّا بشرا - ومبنى هذا القصر على انهم أنكروا ان يكون البشر للّه رسولا مع ما ادعوا ان يكون الحجر له تعالى شريكا قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ... يُرِيدُ بادعائه الرسالة أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أى يطلب ان يكون له الفضل عليكم ويسودكم جملة يريد صفة بعد صفة لبشر أو مستأنفة كأنَّه قيل ما يريد بادعائه الرسالة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان لا يعبد غيره أو ان يرسل رسولا - لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً رسلا ما سَمِعْنا بِهذا الّذي يدعيه نوح من التوحيد والمسألة والبعث بعد الموت فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) وذلك اما لفرط عنادهم أو لكونهم في فترة متطاولة - جملة ما سمعنا حال من فاعل يريد والجملة الشرطية معترضة بين الحال وعامله.
إِنْ أى ما هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أى جنون حيت يدعي الرسالة من اللّه لنفسه استيناف أو تأكيد لنفى الرسالة فان المجنون لا يكون رسولا فَتَرَبَّصُوا بِهِ فاحتملوه وانتظروا حَتَّى حِينٍ (25) لعله يفيق من الجنون أو يموت والفاء في فتربصوا للسببيّة فان كونه مجنونا يوجب التربص وترك العجلة في الانتقام ولما اوحى إلى نوح من اللّه تعالى انه لن يؤمن من قومك الا وقد آمن.
قالَ نوح رَبِّ انْصُرْنِي باهلاكهم أو بإنجاز ما اوعدتهم من العذاب بِما كَذَّبُونِ (26) بدل تكذيبهم ايّاى أو بسببه جملة مستأنفة.(1/4470)
فَأَوْحَيْنا عطف على مقدر تقديره فاستجبنا دعاءه فاوحينا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أى بحفظنا ان لا يخطئ فيه أو يفسد عليك أحد ان مفسرة لاوحينا فانه بمعنى القول وَوَحْيِنا أى أمرنا وتعليمنا كيف تصنع فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب أو نزول العذاب عطف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 378
على اصنع وَفارَ التَّنُّورُ أى فار الماء من التنور للخباز اركب أنت ومن معك فلما نبع الماء منه وكان ذلك علامة لنوح أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلى باب كندة - وقيل في ذروة من الشام فَاسْلُكْ فِيها أى ادخل فيها جاء سلك لازما ومتعدّيا يقال سلكت في كذا أى دخلت وقال اللّه تعالى ما سلككم في سقر مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قرأ الجمهور باضافة كل إلى زوجين فاثنين حينئذ منصوب على المفعولية يعنى ادخل فيها اثنين من كل صنفين من الحيوانات يعنى الذكر والأنثى وقرأ حفص كلّ بالتنوين عوض المضاف إليه يعنى ادخل فيها زوجين كانتا من كل نوع فاثنين على هذا تأكيد للزوجين - وفي القصة ان اللّه تعالى حشر لنوح السباع والطيور وغير ذلك فجعل نوح يضرب بيديه في كل نوع فيقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملها في السفينة وَأَهْلَكَ يعنى أهل بيتك أو من أمن معك إِلَّا مَنْ سَبَقَ في الأزل عَلَيْهِ الْقَوْلُ بالإهلاك لكفره مِنْهُمْ أى حال كون من سبق عليه القول بالإهلاك من أهلك وهى امرأته وولده كنعان - وانما حئ بعلى لان السابق ضار وانما يجئ باللام إذا كان نافعا كما في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... وَلا تُخاطِبْنِي عطف على اصنع أو على فاسلك يعنى لا تخاطبني بالدعاء بالانجاء فِي حق الَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) لا محالة لظلمهم بالاشراك جملة معللة لقوله لا تخاطبني.(1/4471)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ اعتدلت أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ونجوت من مصاحبة الجار السوء فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السفينة بعد الركوب أو في الأرض بعد الخروج من السفينة مُنْزَلًا قرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاء على معنى موضع النزول والباقون بضم الميم وفتح الزاء بمعنى الانزال مُبارَكاً يتسبّب لمزيد الخير في الدارين فالبركة في السفينة النجاة من مصاحبة اعداء اللّه والفراغ للاشتغال بعبادته - والبركة في الأرض بعد الخروج كثرة النسل والرزق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 379
و الاشتغال بعبادة اللّه تعالى - الجملة الشرطية معطوفة على فاسلك وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) حال من فاعل أنزلني وفيه ثناء مطابق لدعائه - امر نوحا وحده بالدعاء وعلق الدعاء بان يستوى هو ومن معه إظهارا لفضله واشعارا بان في دعائه كفاية عن دعائهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ الّذي فعلنا بنوح وقومه لَآياتٍ تدل على كمال قدرة اللّه تعالى ورأفته بالمسلمين وغضبه على الظالمين يعتبر بها أولوا الابصار وَإِنْ مخففة من الثقيلة تقديره وانّا كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) اللام فارقة يعنى كنا لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو ممتحنين عبادنا وقيل ان نافية واللام بمعنى الا يعنى وماكنا بإرسال نوح ووعظه وتذكيره الا مبتلين قومه ومختبرين إياهم لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم.
ثُمَّ أَنْشَأْنا عطف على كلام محذوف تقديره فاغرقناهم ثم انشأنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) المراد بهم عاد أو ثمود قال البغوي والاول اظهر.(1/4472)
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ يعنى أوحينا بين أظهرهم رَسُولًا مِنْهُمْ يعرفونه بانصدق والعدالة وهو هود أو صالح عليهما السلام أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ان مفسرة لارسلنا لكونه بمعنى القول يعنى قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) مر تفسيره.
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا لعله ذكر بالواو لان كلامهم لم يتصل بكلام الرسول بخلاف كلام قوم نوح وحيث استأنف اللّه به ذكر مقال قوم هود في الأعراف وهود بغير واو بالاستيناف كانّه جواب سوال مقدر كانّه ، قيل فما قال قومه في جوابه وذكر هاهنا بالواو عطفا لما قالوه على ما قال الرسول على معنى انه اجتمع في الحصول هذا الحق مع هذا الباطل وليس متصلا بكلام النبي جوابا له - وذكر في قصة نوح بالفاء لأنه جواب لقوله واقع عقيبه وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أى بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب أو بمصيرهم إلى الحيوة الاخرة وَأَتْرَفْناهُمْ أى انعمناهم بكثرة الأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا الّذي يدعى النبوة إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفات والأحوال يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 380
وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) ما موصولة والعائد إلى الثانية منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ اللام في جواب قسم محذوف أى واللّه لئن أطعتم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) حيث اذللتم أنفسكم بالانقياد لمثلكم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم ما أحمقهم وما اجهلهم.(1/4473)
أَ يَعِدُكُمْ الاستفهام للانكار أو التقرير أى قد يعدكم أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم من مات يمات - والباقون بضم الميم من مات يموت وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً مجردة عن اللحوم والاعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) من القبور احياء انكم تكرير للاول أكد به لطول الفصل بينه وبين خبره تقدير الكلام أ يعدكم انّكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما مخرجون كذلك قرأ ابن مسعود رضى اللّه عنه وجاز ان يكون انّكم مخرجون مبتدا خبره الظرف المقدم - أو فاعل للفعل المقدر وجوابا للشرط والجملة خبر الأول أى انكم إخراجكم واقع إذا متم أو انكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز ان يكون خبر الأول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه - وجملة أ يعدكم تقرير للطعن السابق في النبوة أو تعليل لقوله لئن أطعتم بشرا انكم لخاسرون.
هَيْهاتَ اسم فعل وفاعله ضمير مستكن فيه أى بعد وقوع هذا الوعد عن العقل والتصور - أو بعد التصديق والايمان به هَيْهاتَ تأكيد للاول لِما تُوعَدُونَ (36) خبر مبتدا محذوف أى هذا الاستبعاد لما توعدون كانهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قبل لهم فما له هذا الاستبعاد قالوا لما توعدون - وجاز ان يكون اللام زائدة للبيان والموصول فاعل لهيهات كما في هيت لك - وقيل هيهات مصدر بمعنى البعد وهو مبتدا خبره لما توعدون - قرأ الجمهور بفتح التاء على انه مبنى عليه وقرأ أبو جعفر بكسر التاء من غير تنوين وقرئ بالكسر منونا وقرأ نصر بن عاصم بضم التاء وقرئ بالفتح منونا للتنكير وبالضم منونا على انه جمع هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبعد - وقرئ بالسكون على لفظ الوقف وبابدال التاء هاء ووقف عليها اكثر القراء بالتاء وجملة هيهات لما توعدون معترضة.
إِنْ هِيَ أى الحيوة جنسها شيء
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 381(1/4474)
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الّتي نحن فيها ودنت منا أقيم الضمير مقام الحيوة الاولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وشعارا بان تعيينها مغن عن التصريح بها - فان نافية دخلت على هى الّتي في معنى الحيوة الدالة على الجنس مثل لا الّتي لنفى الجنس نَمُوتُ وَنَحْيا يعنى يموت بعضنا ويحيى بعضنا قال البغوي فيه تقديم وتأخير أى نحيى ونموت لانهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت وهذا القول مبنى على كون ضمير المتكلم مع الغير لجميع الناس - قلت وعلى تقدير كون الضمير لجميع الناس أيضا لا حاجة إلى القول بالتقديم والتأخير إذ الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فالمعنى يثبت لجميع الناس في الدنيا موت وحيوة ولا حيوة غير لهذه الحيوة وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) بعد الموت حال أو عطف.
إِنْ هُوَ يعنى ما الّذي يدعى الرسالة إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ فيما يدعيه من الرسالة أو فيما يعدها من البعث كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) أى مصدقين وهذه الجملة تأكيد لقولهم ما هذا الّا بشر.
قالَ الرسول رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لى منهم بِما كَذَّبُونِ (39) أى بسبب تكذيبهم إياي.
قالَ اللّه عَمَّا قَلِيلٍ ما زائدة لتأكيد معنى القلة أو نكرة موصوفة بمعنى شيء والمراد به الزمان يعنى عن زمان قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) على تكذيبهم إذا عاينوا العذاب.(1/4475)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ قيل أراد بالصيحة الهلاك وفي القاموس الصيحة والصياح الصوت بأقصى الطاقة وصيح بهم نزعوا وفيهم هلكوا والصيحة العذاب فان كان القصة لعاد فالمراد بالصيحة هاهنا العذاب وان كان لثمود فالمراد بها الصوت وقد ذكرنا قصتهم في سورة الأعراف انه أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتصدعت قلوبهم بِالْحَقِّ أى بالوجه الثابت الّذي لا دافع له أو بالعدل كقولك فلان يقضى بالحق أو بالوعد الصدق فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أى هلكى شبههم في دمارهم بغثاء الليل وهو حميله - يقول العرب لمن هلك سال به الوادي فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 382
يحتمل الاخبار والدعاء وبعدا مصدر لبعد بمعنى هلك وهو من المصادر الّتي وجب إضمار فعلها في الاستعمال وسدها مسد الافعال - والقوم الظالمون فاعل للمصدر الّذي سد مسد الفعل واللام زائدة أو هى لتقوية عمل المصدر كما في قوله أعجبني جلوس لزيد وقيام لعمرو ووضع الظاهر موضع الضمير للتعليل.
ثُمَّ أَنْشَأْنا عطف على فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً ... مِنْ بَعْدِهِمْ أى بعد عاد قُرُوناً آخَرِينَ (42) قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من زائدة للاستغراق وامة في محل الرفع على الفاعلية أَجَلَها أى الوقت الّذي لهلاكها يعنى لا يهلك أمة قبل الوقت الّذي قدر هلاكها فيه وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ولا يتاخر أمة عن وقت هلاكها أى لا يبقى بعد الاجل - ذكّر الضمير بعد تأنيثه للمعنى وهذه جملة معترضة.(1/4476)
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أصله وترى من الوتر ضد الشفع قلبت الواو بالتاء كما في التراث والتقوى منصوب على الحال من مفعول أرسلنا - قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين وصلا وبالألف عوض التنوين وقفا ولذا لا يميله أبو عمرو لان الفه عنده كانف زيدا في النصب فهو مصدر بمعنى التواتر والمواترة وهو تتابع الأشياء وترا وترا يعنى فرادى من غير اجتماع - قال في القاموس التواتر التتابع أو مع فترات وواتر مواترة ووتارا تابع إذ لا يكون المواترة بين الأشياء الا إذا وقعت بينها فترة يعنى اعتبر بعض الناس في التواتر ان يكون بينها فترة - ومنه حديث أبي هريرة لا بأس بقضاء رمضان تترى أى متفرقا غير متتابع كذا في النهاية - قال الأصمعي يقال واترت الخبر أى اتبعت بعضها بعضا وبين الخبرين مهلة - قلت ولذلك اشترط في الخبر المتواتر ان يروى من جهات شتى ورجال غير مجتمعين بحيث لا يحتمل تواطئهم على الكذب - وقرأ اكثر القراء بالألف المقصورة للتأنيث على وزن سكرى من غير تنوين بعدم انصرافه للزوم التأنيث ذكر صيغة التأنيث لان الرسل جماعة وقوله ثُمَّ أَرْسَلْنا معطوف على قوله ثُمَّ أَنْشَأْنا - وفيه مقابلة الجمع بالجمع بارادة انقسام الآحاد على الآحاد فاستقام التراخي كانّه قال ثمّ انشأنا قرنا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 383(1/4477)
ثمّ أرسلنا فيه رسولا ثم انشأنا قرنا اخر ثم أرسلنا رسولا اخر وهكذا - إذ لا يستقيم ان يقال أرسلنا قرونا كثيرة وبعد جميع القرون أرسلنا رسلا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها أضاف الرسول مع الإرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لان الإرسال الّذي هو مبدء الأمر منه والمجيء الّذي هو منتهاه إليهم كَذَّبُوهُ أسند التكذيب إليهم لاجل صدوره من أكثرهم فان للاكثر حكم الكل جملة مستانفة فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك كما اتبعنا بعضهم بعضا في الإنشاء وبعث الرسل إليهم عطف على كذبوه وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يعنى لم يبق منهم اثر الا حكايات يسمر بها ويعتبر بها المعتبرون جمع احدوثة وهو ما يتحدثه الناس تلهيا وتعجبا - قال الأخفش انما هذا أى استعمال كلمة احدوثة وأحاديث في الشر واما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث واحدوثة وانما يقال صار فلان حديثا - وقيل هو اسم جمع للحديث يقال أحاديث النبي صلى اللّه عليه وسلم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) بالرسل ولا بصدقونهم.
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى عطف على ثمّ أرسلنا رسلنا وَأَخاهُ هارُونَ 5 بدل من أخاه بِآياتِنا التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) حجة واضحة ملزمة للخصم ويجوز ان يراد به العصا وافرادها بالذكر لانها أول المعجزات وتعلقت بها معجزات شتى كانقلابه حيّة وتلقفها ما افكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة مثمرة ورشاء ودلوا - ويجوز ان يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وان يراد بهما المعجزات فانها آيات للنبوة وحجة للنبى على ما يدعيه.
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان ومتابعة الرسول وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) أى كانوا يرتفعون على الناس تكبرا ويقهرونهم ظلما.(1/4478)
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ الاستفهام للانكار أى لا نعترف ولا نصدق بالفضل والنبوة لِبَشَرَيْنِ فانه يطلق على الواحد كقوله تعالى فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
كما يطلق على الجمع كقوله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً مثلنا لم يثن
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 384
المثل لأنه في حكم المصدر فان مثل وغير يوصف به الواحد والاثنان والجماعة من المذكر والمؤنث وَقَوْمُهُما يعنى بنى إسرائيل لَنا عابِدُونَ (47) مطيعون متذلّلون والعرب تسمى كل من أطاع وتذلّل لاحد انه عابد له والجملة حال لفاعل نومن أو لبشرين أولهما.
فَكَذَّبُوهُما عطف على أرسلنا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) بالغرق.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية لَعَلَّهُمْ الضمير عائد إلى قومها ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وقومه لان التوراة نزلت بعد إغراقهم أى لكى « 1 » يَهْتَدُونَ (49) إلى المعارف والاحكام.(1/4479)
وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً بولادتها ايّاه من غير مسيس فالاية امر واحد وهو الولادة مضاف إليهما أو تقديره وجعلنا ابن مريم اية بان تكلم في المهد وظهر منه معجزات اخر وامه اية بان ولدت من غير مسيس فحذفت الاولى لدلالة الثانية عليها وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ أى مكان مرتفع من الأرض قال عبد اللّه بن سلام هى دمشق وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل وقال الضحاك غوطة « 2 » دمشق وقال أبو هريرة هى الرملة وقال عطاء عن ابن عباس هى بيت المقدس وهو قول قتادة وكعب وقال كعب هى اقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وقال ابن زيد هى مصر والسدى هى ارض فلسطين ذاتِ قَرارٍ أى مستوية منبسطة يستقر عليها ساكنوها وقيل ذات تمار وزروع يستقر فيها الناس لاجلها وَمَعِينٍ (50) أى ماء ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الابعاد في الشيء أو من الماعون وهو المنفعة لان الماء نفاع أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره يدرك بالعيون.
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ أى الحلالات دون المحرمات فالامر للتكليف لأنه في معنى النهى
_________
(1) غير سديد لان يهتدون مرفوع وكى جازمة فلا يناسب فافهم - الفقير الدهلوي. [.....]
(2) الغوط عمق الأرض ولم يقول نهاية منه الغوطة بالضم بلد قريب من دمشق مجمع البحار وفيه الغوطة اسم بساتين ومياه حول دمشق وهو غوطها - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 385(1/4480)
عن تناول المحرمات أو المستلذات من المباحات فالامر للترفية وللرد على الرهبانية في رفض الطيبات وقيل هى الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى اللّه فيه وضده الحرام - والصافي ما لا ينسى اللّه فيه وضده ما يلهيه وبوقعه في انهماك الشهوات والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والقوى وضده القدر الزائد على الشبع وَاعْمَلُوا صالِحاً أى عملا يراد به وجه اللّه على وفق ما امر به خالصا له تعالى من غير شرك جلى ولا خفى وضده الفاسد وهو ما يكرهه اللّه تعالى من قول افعل وتقدير الكلام وقلنا لهم يا أيها الرسل كلوا إلى آخره فهو حكاية عما خوطب به الأنبياء كل نبى في زمانه لا على انهم خوطبوا به دفعة - وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسّدى والكلبي وجماعة خوطب به محمّد صلى اللّه عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجمع - قلت ومبنى ذلك على التعظيم وفيه اشارة إلى فضله أو لقيامه مقام جماعة فانه أرسل إلى الناس كافة - وجاز ان يكون المراد به النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلماء أمته فانهم برازخ بين الرسول وأمته كما ان الرسول برزخ بينهم وبين اللّه تعالى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء وقيل خوطب به عيسى عليه السّلام عند ايوائه وامه إلى الربوة فذكر لهما ما خوطب به الأنبياء كل نبى في زمانه ليقتد يا بالرسل في تناول ما رزقا ويقتضيه سياق القصة إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) فاجازيكم على حسب أعمالكم فالجملة في مقام التعليل.(1/4481)
وَ إِنَّ هذِهِ أى أكل الطيبات والعمل بالصالحات قرأ الكوفيون بكسر الهمزة على انه جملة في محل النصب حال من فاعل كلوا أو هى معطوفة على جملة سابقة فيكون في مقولة قلنا على تقديره - والباقون بفتحها « 1 » عطفا على ما تعملون أو بتقدير اللام يعنى ولانّ هذه امّتكم أو منصوب بتقدير اعلموا ان هذه أُمَّتُكُمْ أى ملتكم وشريعتكم الّتي أنتم بأجمعكم عليها أُمَّةً أى ملة واحِدَةً وهى الإسلام متحدا في العقائد واصول الشرائع والعمل في الفروع
_________
(1) وقرا ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على انها مخففة من الثقيلة - أبو محمّد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 386
على حسب ما امر اللّه به في كل زمان وعلى الناسخ بعد ترك المنسوخ - وقوله امّة واحدة حال مؤكدة لقوله امّتكم على طريقة زيد أبوك عطوفا والعامل فيه معنى الاشارة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) الفاء للسببية يعنى اتقونى لاجل انى ربكم.(1/4482)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعنى تقطع وتفرق الذين أرسل إليهم بعد الإرسال امر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة في اصول الدين - فامن بعضهم بجميع الرسل وبجميع ما أرسل إليهم وهم أهل الحق في كل قرن - وبعضهم أمن ببعض دون بعض كاليهود والنصارى والصابئين وبعضهم كفروا بأجمعهم كالمجوس واهل الأوثان فالتفعل بمعنى التفعيل وجاز ان يكون معناه فتفرقوا وتحزبوا في امر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة فعلى هذا أمرهم منصوب بنزع الخافض أو على التميز من نسبة التفرق إليهم - والضمير في تفرقوا راجع إلى المرسل إليهم المذكورين في القصص المذكورة حيث قال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وانشأنا قرونا فارسلنا فيهم رسلنا تترا وغير ذلك - والجملة معطوفة على أرسلنا زُبُراً أى فرقا وطوائف وقطعا جمع زبور بمعنى الفرقة ومنه زبر الحديد - فهو اما منصوب على المصدرية من غير لفظ الفعل نحو أنبته اللّه نباتا أو حال من أمرهم أو من فاعل تقطعوا أو مفعول ثان لتقطعوا لتضمنه معنى الجعل يعنى قطعوا أمرهم وجعلوه زبرا فرقا - وقيل معناه كتبا من زبرت الكتاب إذا كتبته كتابة غليظة وكل كتاب غليظ الكتابة يقال زبور - يعنى جعلوا دينهم كتبا محرفة بعد ما كان كتابا واحدا من اللّه منزلا ... فيكون مفعولا ثانيا لتقطعوا أو حال من أمرهم والمعنى فرقوا أمرهم أى دينهم حال كون دينهم كتبا منزلة من السماء متفقة في اصول الدين مصدقا بعضها بعضا فقالوا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وعن الحسن قطعوا كتاب اللّه قطعا وحرّفوه كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ من الدين أو الهوى فَرِحُونَ (53) معجبون معتقدون انهم على الحق جملة مستأنفة.
فَذَرْهُمْ يا محمد فِي غَمْرَتِهِمْ قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في غفلتهم وجهالتهم جهلا مركبا شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 387(1/4483)
اى يسترها حَتَّى حِينٍ (54) أى إلى زمان موتهم أو إلى ان نأمرك بالقتال يعنى لا تحزن على تفرقهم وكفرهم فانا نأخذهم اما بالعذاب من عندنا أو بايديكم.
أَ يَحْسَبُونَ أى الذين يفرحون بما لديهم من الضلال ولا يتبعون الرسل ويكذبونهم أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أى ما نعطيهم ونجعلها مددا لهم مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) بيان لما.
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ خبر لان والعائد محذوف - وان مع اسمها وخبرها قائم مقام مفعولى يحسبون والاستفهام للتوبيخ والرد على حسبانهم والمعنى أ يزعمون ان الّذي نعطيهم في الدنيا ونمدهم بها من الأموال والأولاد نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم ثوابا لاعمالهم وعقائدهم لاجل مرضاتنا عنهم وهذا الحسبان سبب لفرحهم بما لديهم ليس الأمر كذلك بَلْ لا يَشْعُرُونَ « 1 » (56) يعنى بل هم كالانعام لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتاملوا فيعلموا ان لهذه الأعمال والعقائد غير مستوجبة للثواب والمرضاة وانما ذلك الامداد استدراج لا مسارعة في الخيرات - هذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم الأصلح للعباد في الدين على اللّه واجب.
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ أى من خوف عذابه مُشْفِقُونَ (57) حذرون من موجبات العذاب أو المعنى انهم بسبب اتصافهم بخشية اللّه تعالى خائفون من عقابه - وجاز ان يكون المراد بالخشية ما به الخشية والمعنى انهم من عذاب ربهم مشفقون -
_________
((1/4484)
1) عن الحسن ان عمر بن الخطاب اتى بفروة كسرى بن هرمز فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك فاخذ عمر سواريه فرمى بهما إلى سراقة - فاخذهما فجعلهما في يديه فبلغتا منكيبة - فقال الحمد للّه سوارى كسرى بن هرمز في يدى سراقة بن مالك ابن جعشم أعرابي من بنى مدلج - ثم قال اللهم انى قد علمت ان رسولك قد كان حريصا ان يصيب مالا ان ينفقه في سبيلك وعلى عبادك فزويت عنه ذلك - اللهم انى أعوذ بك ان يكون هذا مكرا انك لعمر ثم تلا أ يحسبون انما نمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون 12 منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 388
قال الحسن البصري المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع اساءة وأمنا.
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة أو باياته المنصوبة الدالة على التوحيد يُؤْمِنُونَ (58) يصدقون بمدلولاتها.
وَالَّذِينَ هُمْ ب
_________
الْقَوْلَ
الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات والفاء للعطف على محذوف تقديره الم يسمعوا فلم يدبروا القول أى القرآن فان اللام للعهد يعنى القول الّذي جاء به محمّد صلى اللّه عليه وسلم يعنى قد سمعوا القرآن وتدبروا فيه حين أرادوا معارضته فلم يقدروا على إتيان مثل اقصر سورة منه فظهر عليهم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 392
باعجازه واخباره وقصصه انه ليس من كلام البشر.
أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أم منقطعة بمعنى بل والهمزة الّتي للانكار والمعنى بل لم يجئهم ما لم يأت آباءهم الأولين يعنى بل قد جاءهم ما اتى آباءهم إسماعيل عليه السّلام وأعقابه من الرسول والكتاب وقد كانت القريش يعترفون بنبوة ابراهيم وإسماعيل وفضلهما فمحمّد صلى اللّه عليه وسلم مثلهما ولا استحالة في ذلك.(1/4485)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمّدا صلى اللّه عليه وسلم - يعنى قد عرفوه صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وأمانته وصدقه وحسن أخلاقه ووفاء عهوده وكمال علمه وأدبه من غير تعلم من البشر إلى غير ذلك كذا قال ابن عباس فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) الفاء للسببيّة معطوف على لم يعرفوا وما عطف هو عليه - يعنى لا يجوز الإنكار الا بسبب أحد هذه الوجوه المذكورة ولم يوجد شيء منها بل قد تحقق أضدادها.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أم هاهنا أيضا منقطعة والهمزة الّتي في ضمنها للردع والتوبيخ يعنى بل أ يقولون انه مجنون وهم يعلمون انه أرجحهم عقلا واتقنهم نظرا لا ينسب الجنون إلى مثله الا معاند أو مجنون وجاز ان يكون أم في هذه المواضع متصلة معطوفة على ما دخل عليه همزة الاستفهام لنفى المفهوم المردد - وجملة ا فلم يدبروا مستأنفة كانّ السامع لمّا سمع قوله تعالى قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ قال ما سبب هذا النكوص والاستكبار والهجر إذا كان شيئا من هذه الأمور المذكورة وهى عدم تدبرهم في القرآن أو عدم علمهم بإتيان النبي قبلهم أو عدم معرفتهم امانة الرسول وصدقه وغير ذلك أو زعمهم كونه مجنونا فقال اللّه في جوابه ليس شيء من هذه الأمور بَلْ سبب ذلك المكابرة والعناد حيث جاءَهُمْ محمّد صلى اللّه عليه وسلم بِالْحَقِّ أى القول الثابت المتحقق الظاهر صدقه عقلا ونقلا لا يخفى صحته وحسنه على عاقل وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) الجملة حال من مفعول جاءهم يعنى جاءهم الحق وهم له كارهون عنادا وظلما لحب الرياسة واتباع الشهوات وتقليد الجهال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 393(1/4486)
و التمسك بالعادات لا لحكم الكياسة - وانما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الايمان خوفا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته أو عدم فكرته لا لكراهة الحق - .
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ بان كان في الواقع الهة متعددة لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أى لبطلت ولم يخرج شيء منها من كتم العدم لما ذكرنا في تفسير قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا في سورة الحج « 1 » وقال ابن جريج ومقاتل والسدى وجماعة الحق هو اللّه وقال الفراء والزجاج المراد بالحق القرآن - والمعنى لو اتبع اللّه مرادهم وجعل لنفسه شركاء أو اتخذ ولدا وانزل القرآن على حسب شهواتهم ونطق القرآن بالشرك والقبائح - لم يكن اللّه الها فان الالوهية لا يحتمل الشركة واللّه لا يأمر بالفحشاء فان الأمر بالفحشاء رذيلة والالوهية يقتضى التنزه عن الرذائل ولو لم يكن اللّه الها لبطل وجود الممكنات بأسرها - وقيل معناه لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلا يبقى له قوام - أو المعنى لو اتبع الحق الّذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من الدين أهواءهم وانقلب شركا لا نزل اللّه عليهم العذاب وأهلك العالم من فرط غضبه بَلْ أَتَيْناهُمْ عطف على قوله بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ إلخ وجملة لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لبيان بطلان اهوائهم بِذِكْرِهِمْ أى بالكتاب الّذي يذكّرهم اللّه أو هو ذكرهم أى وعظهم أو الذكر الّذي تمنّوه بقولهم لو انّ عندنا ذكرا من الاوّلين لكنّا عباد اللّه المخلصين وقال ابن عباس يعنى بما هو ذكرهم أى بما فيه فخرهم وشرفهم يعنى القرآن نظيره قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أى شرفكم وانّه لذكر لك فان القرآن نزل بلغة قريش وجعل اللّه الناس تبعا لقريش وانحصر الامامة فيهم فَهُمْ(1/4487)
عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) لا يلتفتون إليه ولا يريدون الشرف - .
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً يعنى اجرا على هدايتهم والرسالة إليهم عطف على قوله أَمْ بِهِ جِنَّةٌ وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب
_________
(1) سهو من المفسر العلام رحمه اللّه تعالى لان الآية المذكورة انما هى في سورة الأنبياء - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 394
فالاستفهام هاهنا أيضا للانكار يعنى لا تسئلهم اجرا حتى لا يؤمنوا بك مخافة الغرامة فخراج ربّك أى اجره وثوابه الّذي يعطيك في الاخرة - قرأ حمزة والكسائي خراجا فخراج ربّك بالألف في الموضعين وقرأ ابن عامر بغير الف فيهما ومعناهما واحد وهو الاتاوة أى الجعل والاجر على العمل قال في القاموس الخرج الاتاوة كالخراج وقرأ الباقون أم تسئلهم خرجا بغير الف فخراج ربّك بالألف - قال البيضاوي الخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضربية الّتي يأخذها السلطان على الأرض - ففى هذه القراءة في اضافة الخراج إلى اللّه اشعار بالكثرة واللزوم خَيْرٌ لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم هذه الجملة تعليل لنفى السؤال وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) عطف على خراج ربّك خير أو حال من ربك.(1/4488)
وَ إِنَّكَ يا محمد لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) تشهد العقول السليمة على استقامته وعدم الاعوجاج فيه - بيّن اللّه سبحانه عدم الأسباب الموجبة لانكار دعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم سوى كراهة الحق وقلة الفطنة - وذكر الداعي إلى الايمان وهو كون المدعو إليه صراطا مستقيما مرغوبا لجميع العقلاء عامة وكونه شرفا لهم داعيا إلى اسلام قريش خاصة فظهر ان انكارهم لم يكن الا لكراهة الحق عندهم عنادا أو قلة تفطنهم ومبنى ذلك الشقاوة الازلية المكتوبة عليهم - فانهم كانوا عقلاء كانوا يدركون منافع الدنيا على ما ينبغى فعدم ادراكهم المنافع العاجلة والاجلة المؤبدة الخالصة عن شوب الكدر لم يكن الا لشقاوتهم وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ....
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ المستقيم فان اللام للعهد لَناكِبُونَ (74) أى لمائلون لسوء استعدادهم فانهم خلقوا من ظلال الاسم المضل فلا يمكنهم الاهتداء إلى الصراط المستقيم ويكرهون الحق بعد ظهوره.
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أى من عذاب أخذنا مترفيهم به سواء أريد به السيف يوم بدر كما قال به ابن عباس أو الجوع كما قال به الضحاك وقد ذكرنا القولين فيما سبق -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 395(1/4489)
لَلَجُّوا اللجاج التمادي في العناد وتعاطى الفعل المزجور عنه فِي طُغْيانِهِمْ أى في استكبارهم عن الحق وافراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم يَعْمَهُونَ (75) من الهدى حال من فاعل لجّوا وهذه الجملة الشرطية معطوفة على مضمون لا تجئروا اليوم انّكم منّا لا تنصرون فان معناه قيل لهم لا تجئروا إلخ ومضمونه انا لم نرحمهم ولو رحمناهم لتمادوا في الطغيان ولم يتوبوا فكانّ هذا تعليل لعدم الترحم عليهم - أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال جاء أبو سفيان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد أنشدك اللّه والرحم قد أكلنا العهن والدم فانزل اللّه تعالى.(1/4490)
وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعنى القتل يوم بدر أو الجوع فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ يعنى لم يرجعوا إلى ربهم بالتوبة بل أقاموا على عتوهم ومضوا على تمردهم - وما استكانوا اما معناه ما استفعلوا لكون فان المفتقر ينتقل من كون إلى كون - واما معناه افتعلوا السكون وعلى هذا الالف من إشباع الفتحة وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) يعنى ليس من عادتهم التضرع والخشوع واخرج البيهقي في الدلائل بلفظ ان ابن أثال الحنفي لما اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو أسير خلى سبيله - فاسلم فلحق بمكة ثم رجع فحال بين مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العهن فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ا لست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قال بلى قال فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت هذه الآية وفي هذه الآية استشهاد على ما سيق فانهم لما لم يتضرعوا بالأخذ بالعذاب فلو رحمناهم وكشفنا عنهم العذاب لم يتضرعوا بالطريق الاولى - فان قيل ما ذكرت في تفسير الآية يدل على انه تعالى لم يكشف عنهم العذاب الّذي أخذ به مترفيهم وقد قال البغوي دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم على قريش ان يجعل عليهم سنين كسنى يوسف فاصابهم القحط فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أنشدك اللّه والرحم الست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قال بلى فقال قد قتلت الآباء
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 396(1/4491)
بالسيف والأبناء بالجوع فادع اللّه يكشف عنا هذا القحط فدعى فكشف عنهم فانزل اللّه تعالى هذه الآية وهذه القصة تدل على ان اللّه تعالى كشف عنهم عذاب الجوع بدعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فما وجه التوفيق قلت الآية انما دلت على نفى المرحمة وكشف العذاب في الزمان الماضي لعلمه تعالى بلجاجهم عند الكشف أيضا ولا تدل على انه لا يكشف عنهم في المستقبل لامر حادث فاللّه سبحانه كشف عنهم العذاب لامر معترض وهو دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم لكنهم لم يتضرعوا ولجوا في طغيانهم يعمهون ولم يستكينوا - « 1 » .
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ كلمة حتى ابتدائية والمراد بالعذاب هاهنا عذاب الجوع ان كان المراد بالعذاب في قوله حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ القتل والاسر يوم بدر كما قاله ابن عباس فان الجوع أشد من الاسر والقتل يعنى إذا فتحنا عليهم بابا من عذاب الجوع إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك وان كان المراد بالعذاب فيما سبق عذاب الجوع كما قاله الضحاك فالمراد بالعذاب هاهنا الموت وعذاب القبر وقيل قيام الساعة وعذاب النار - فقوله فتحنا بمعنى المستقبل أورد صيغة الماضي لتيقن وقوعه كما في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ - والمعنى انا محنّاهم كل محنة من القتل والجوع فما استكانوا ولم يتضرعوا حتى إذا عذبوا بنار جهلم إذا هم مبلسون - كقوله تعالى يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ....(1/4492)
وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات المنصوبة وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) ما زائدة للتأكيد منصوب على المصدرية أو الظرفية يعنى تشكرون شكرا قليلا أو في زمان قليل لان العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لاجلها والإذعان لما نحها من غير
_________
(1) وفي الأصل لم يستكانوا - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 397
اشراك وقيل معنى هذه العبارة في العرف لا تشكرون أصلا.
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أى خلقكم وبثكم بالتناسل فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم.
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ أى لامره وقضائه اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ في السواد والبياض والمنافع أو اختلاف الليالى الشتائية والصيفية في الطول والقصر والأيام كذلك أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بالنظر والتأمل ان كل ذلك منا وان قدرتنا تعم الممكنات كلها ومن جملتها البعث بعد الموت وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ إلى هنا جملة معترضة لتعديد النعم وشكايتهم على كفرهم بعد تلك النعم الجسام وقوله.
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) عطف على قوله بل آتيناهم بذكرهم يعنى بل قال كفار مكة مثل ما قال الأولون من كفار الأمم السابقة.
قالُوا بدل من قالوا المذكور سابقا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) الاستفهام للانكار أنكروا واستبعدوا ذلك ولم يتاملوا في بدء خلقهم انهم كانوا قبل ذلك ترابا ولم يكونوا قبل ذلك شيئا أصلا فخلقوا من غير سبق مادة - .(1/4493)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا يعنى البعث بعد الموت وعدها قوم ذكروا انهم رسل اللّه مِنْ قَبْلُ ظرف لفعل دل عليه حرف العطف يعنى وعد بهذا آباؤنا من قبل هذا الزمان ولم يقع إلى الان مع لطاول الزمان إِنْ هذا الوعد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) السطر هو الصف من الكتاب ومن الشجر المغروس والقوم الوقوف والمراد هاهنا الأول يقال سطر فلان كذا أى كتب سطرا وجمعه اسطر وسطور واسطار والأساطير جمع اسطار والمعنى ان هذا ليس منزلا من اللّه بل شيء كتبه الأولون كذبا - وقال المبرد الأساطير جمع اسطورة نحو ارجوجة واراجيج واحدوثة وأحاديث واعجوبة وأعاجيب واضحوكة وأضاحيك واستعماله فيما يكتب كذبا يتلهى به ولهذا فسروه بالاكاذيب - وقوله لقد وعدنا إلى آخره تعليل وتقرير للانكار المذكور.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 398
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها جملة مستأنفة كأنّه في جواب قول الرسول ماذا أقول لهم حين أنكروا البعث - والاستفهام للتقرير أى حمل المخاطب على الإقرار إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه تقديره ان كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك فاجيبوا - وفيه استهانة بهم وتقرير لفرط جهلهم فان حالهم ومقالهم يشهد على جهلهم بمثل هذا الجلى الواضح الّذي يعرفه الصبيان والمجانين والزام بما لا يمكن إنكاره لمن له ادنى تميز - ولذلك اخبر عن جوابهم قبل ان يجيبوا فقال.(1/4494)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لان العقل الصريح والنقل من كل ناطق واعتراف الناس أجمعين بذلك يضطرهم إلى هذا الجواب قُلْ بعد اعترافهم بذلك أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قرأ حمزة وعلىّ وحفص بالتخفيف بحذف احدى التاءين من تتذكّرون والباقون بالتشديد والإدغام - والاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديرة أ تعترفون فلا تتذكرون ان من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا فما الوجه لانكاره.
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) فانها أعظم من ذلك استيناف اخر لتلقين الإلزام بعد الإلزام سَيَقُولُونَ لِلَّهِ باللام والجر أى هم للّه كذا قرأ العامة هاهنا وفيما بعده فهو جواب على المعنى كقول القائل في جواب من مولاك لفلان أى انا لفلان فهو مولاى - وقرأ أهل البصرة فيهما اللّه اللّه بالرفع على ما يقتضيه السؤال وكذلك في مصحف أهل البصرة وفي سائر المصاحف مكتوب بلا الف كالاول.
قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) يعنى أ تعترفون بان خالق السموات والعرش هو اللّه لا غير فلا تتقون عقابه حيث تشركون به بعض مخلوقاته وتنكرون قدرته على بعض مقدوراته.
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ الملكوت هو الملك أى العز والسلطان والواو والتاء فيه للمبالغة فهو غاية ما يتصور من السلطان ولهذا يختص استعماله بملك اللّه تعالى وقيل المراد به خزائنه وَهُوَ يُجِيرُ أى يحرس ويمنع من السوء و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 399
يؤمن من يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ عطف على ما سبق أو حال من فاعله أى لا يؤمن من أخافه اللّه ولا يمنع من السوء من أراد اللّه به سوءا أو لا يقدر أحد على ان يضره حتى يجار عليه - وتعديته بعلى لتضمنه معنى النصرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) وشرحه قد مر.(1/4495)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) يعنى إذا اعترفتم بذلك فمن اين تحذعون فتصرفون عن الرشد أو المعنى إذا اعترفتم فكيف يخيل إليكم الحق باطلا.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ من التوحيد والوعد بالنشور عطف على قوله بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ إضراب عنه وبينهما معترضات وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) فى انكارهم ذلك عطف على ما سبق أو حال من الضمير المنصوب.
مَا اتَّخَذَ ال لَّهُ مِنْ وَلَدٍ
لتقدسه عن المماثلة وو المجانسة بأحد من زائدة لتأكيد النفي والجملة في مقام التعليل على قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ... وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه في الالوهية إِذاً جواب لمن أشرك وجزاء الشرط محذوف يدل عليه قوله ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ تقديره لو كان معه الهة اذن لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ واستبد به ومنع غيره من التصرف فيه وامتاز ملكه عن ملك الاخر وَلَعَلا أى غلب بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أى على بعضهم إذا وقع بينهم التحارب كما يقع بين ملوك الدنيا لامكان ذلك عند تعدد الالهة فلا يكون المغلوب الها لأنه امارة العجز والحدوث ويظهر منه انه لو لم يغلب أحدهما على الاخر لزم عجزهما وذلك مناف للالوهية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) أى عما يصفونه من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قرأ أهل المدينة والكوفة غير حفص بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف والباقون بالجر على انه صفة للّه - وهذا دليل اخر على نفى الشريك بناء على اتفاقهم على انه متفرد به ولهذا رتب عليه بالفاء قوله فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) يعنى عن اشراكهم يعنى انه أعظم من ان يوصف بالولد أو الشريك.
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أصله ان ما ترينّنى فادغمت النون في الميم و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 400(1/4496)
حذفت نون الوقاية كراهة اجتماع النونات - وهذا شرط أكدت بما المزيدة والنون فالمعنى ان كان لا بد من ان ترينى ما يُوعَدُونَ (93) أى ما يوعد به الكفار من العذاب في الدنيا والاخرة.
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) قرينا لهم في العذاب جملة معترضة لتلقين الدعاء وتكرير النداء وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به لزيادة التضرع والجوار - وفي تلقين الدعاء اشارة إلى وجوب الخوف وهضم النفس - والى ان شوم الظلم قد يحيق بمن ورائهم - قال اللّه تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ....
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ (95) لكنا لم نعذبهم عذاب استيصال لانك بين أظهرهم ولعلمنا بان بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون - جملة معترضة ثانية لرد انكارهم الموعود أو استعجالهم استهزاء - .
ادْفَعْ بِالَّتِي أى بالخصلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ الخصال وهى الصفح والاعراض والصبر والإحسان السَّيِّئَةَ مفعول لا دفع يعنى ادفع شرهم بإحسان منك فعلى هذا امر بالصبر على الأذى والكف عن القتال نسلعتها اية السيف وقيل الحسنة كلمة التوحيد والسيئة كلمة الشرك وقيل السيئة المنكر والحسنة النهى عنه وهذا ابلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل - معترضة اخرى نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) أى بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف حالك واقدر على جزائهم فكل إلينا أمرهم ولا تتصد على الانتقام منهم - وهذه الجملة في مقام التعليل لقوله ادْفَعْ ....
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ أى امتنع واعتصم بك مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) الهمز شدة الدفع يعنى من دفع الشياطين بالإغواء والوساوس إلى المعاصي.(1/4497)
وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) أى يحضرونى في شيء من أموري في الصلاة وغيرها فانه إذا حضر وسوس - قرأ يعقوب يحضرونى بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء في الحالين - وجملة قل ربّ أعوذ بك عطف على قوله
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 401
قل ربّ امّا ترينّى.
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حتى ابتدائية متعلق بقوله يصفون أو بقوله كذبون قالَ يعنى إذا رأى مقعده من الجنة لو أمن ثم مقعده من النار ويقال له قد أبدل اللّه لك هذا بذلك لاجل كفرك قال رَبِّ ارْجِعُونِ (99) قرأ يعقوب بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء في الحالين يعنى ارجعنى إلى الدنيا - أورد ضمير الجمع للتعظيم وقيل لتكرير الفعل أصله ارجعنى ارجعنى كما قيل في قفار واطرقا - وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه - ابتدأ بخطاب اللّه تعالى لانهم استغاثوا اولا باللّه تعالى ثم رجعوا إلى مسئلة الملائكة الرجوع إلى الدنيا.(1/4498)
لَعَلِّي قرأ الكوفيون ويعقوب بسكون الياء والباقون بفتحها أَعْمَلُ صالِحاً أى عملا صالحا منصوب على المفعولية أو على المصدرية فِيما تَرَكْتُ أى في الايمان الّذي تركته أى لعلى اتى بالايمان واعمل فيه صالحا - وقيل فيما تركت أى في المال أو في الدنيا فعلى هذا فيما تركت ظرف كما هو الظاهر - وقيل ما تركت مفعول به وفي زائدة أى اعمل ما تركت حال كونه صالحا من الايمان وغيره أو عملا صالحا بلا فساد - أخرج ابن جرير من حديث ابن جريج ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى اللّه - واما الكافر فيقول ربّ ارجعون وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه انا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان اللّه وكرامته فليس شيء أحب إليه « 1 » ممّا امامه فاحب لقاء اللّه وأحب اللّه لقاءه - واما الكافر إذا حضر بشر بعذاب اللّه وعقوبته فليس شيء اكره إليه ممّا امامه فكره لقاء اللّه وكره اللّه لقاءه كَلَّا ردع من طلب الرجعة واستبعاد
_________
(1) وفي الأصل من امامه 12.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 402(1/4499)
اى لارجعة إليها إِنَّها يعنى قوله ربّ ارجعون إلى آخره انث الضمير لمجانسة الخبر كَلِمَةٌ وهو طائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض فهو لا يقع الا على الجملة المركبة المفيدة - واطلاق الكلمة على اللفظ المفرد انما هو اصطلاح النحاة هُوَ أى الكافر قائِلُها لا محالة لتسلط الحسرة عليه ومخافة العذاب وَمِنْ وَرائِهِمْ أى امامهم والضمير للجماعة بَرْزَخٌ قال مجاهد يعنى حجاب بينهم وبين الرجعة - وجملة من ورائهم برزخ معطوف على مضمون كلا يعنى لا يكون ما يطلبون ومن ورائهم برزخ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) وقال قتادة البرزخ بقية عمر الدنيا فانه لارجوع إلى الحيوة ما لم ينته عمر الدنيا - وقال الضحاك البرزخ ما بين الموت إلى البعث وقيل البرزخ القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون.(1/4500)
فَإِذا كان يوم القيامة ونُفِخَ فِي الصُّورِ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ان المراد به النفخة الاولى نفخة الصعق فنفخ « 1 » فى الصّور فصعق من في السّموت ومن في الأرض - فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - ثمّ نفخ فيه اخرى فإذا هم قيام ينّظرون واقبل بعضهم على بعض يّتساءلون - لكن الصحيح انها النفخة الثانية نفخة البعث كذا قال ابن مسعود قال يؤخذ بيد العبد أو الامة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادى مناد هذا فلان بن فلان - فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء ان قد وجب له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه - ثم قرأ ابن مسعود فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) وكذا روى عطاء عن ابن عباس انها النفخة الثانية فلا انساب بينهم أى لا يتفاخرون بينهم بالأنساب كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا أو المعنى لا ينفعهم الأنساب يومئذ لعدم التعاطف والتراحم منهم لفرط الدهشة واستيلاء الحيرة بحيث يفرّ المرء من أخيه وامّه وأبيه وصاحبته وبنيه وضمير بينهم عائد إلى الكفار لذكرهم فيما سبق دون المؤمنين ولقوله تعالى في المؤمنين أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقوله صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) هكذا في الأصل وفي القرآن الحكيم ونفخ إلخ بالواو لا بالفاء - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 403(1/4501)
إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين بايديهم الشراب فيقول الناس لهم اسقونا فيقولون أبوينا أبوينا حتى السقط بباب الجنة يقول لا ادخل الجنة حتى يدخل أبوي - رواه ابن أبى الدنيا عن عبد اللّه بن عمر اللبثى وعن أبى ذرارة بمعناه فان قيل قد ورد في الحديث كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهرى - رواه ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح قلت نسب المؤمنين داخل في نسب النبي صلى اللّه عليه وسلم فانه أبو المؤمنين وأزواجه أمهاتهم - وقال البغوي معنى الحديث لا ينفع يوم القيامة سبب ونسب الا نسبه وسببه وهو القرآن والايمان - ومعنى قوله تعالى لا يَتَساءَلُونَ سوال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن اىّ قبيلة أنت - فان قيل قد قال اللّه تعالى في موضع اخر واقبل بعضهم على بعض يّتساءلون - قلنا قال ابن عباس ان للقيامة أحوالا ومواطن ففى موطن يشتد عليهم الجوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون افاقة فيتساءلون.(1/4502)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون يعنى عقائده واعماله الموزونة والمراد به الصالحات منها يعنى كثرت وترجحت حسناته على سيئاته - أو هو جمع ميزان والمراد به ترجحت كفة حسناته من الميزان وإيراد صيغة الجمع اما مبنى على ان يكون لكل انسان ميزان على حدة - واما على ان يعتبر تعدد الميزان بتعدد الوزن والموصول مع صلته مبتدا خبره فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) الفائزون بالنجات والدرجات والجملة معطوفة على محذوف فوضع الميزان فمن ثقلت إلخ - اجمع علماء أهل السنة على ان وضع ميزان ووزن الأعمال حق وأنكره المعتزلة والروافض والخوارج واكثر أهل الأهواء أخرج البيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب في حديث سوال جبرئيل عن الايمان قال يا محمّد ما الايمان قال ان تؤمن باللّه وملائكته ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشرّه - قال فإذا فعلت هذا فانا مؤمن قال نعم قال صدقت - واخرج الحاكم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 404(1/4503)
فى المستدرك وصححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوضع الميزان يوم القيامة فلو وضع فيه السموات والأرض لوسعت - الحديث واخرج ابن المبارك في الزهد والآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا وأبو الشيخ بن حبان في تفسيره عن ابن عباس قال الميزان له لسان وكفتان - واخرج ابن جرير في تفسيره وابن أبى الدنيا عن حذيفة قال صاحب الميزان يوم القيامة جبرئيل عليه السّلام وأحاديث الميزان قد تواترت بالمعنى - (فصل) اختلف العلماء في كيفية الوزن قال بعضهم يوزن العبد مع عمله فيكون للمؤمن ثقل بقدر حسناته ولا يكون للكافر وزن - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ثم قرأ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً - متفق عليه من حديث أبى هريرة فالمراد بمن خفت موازينه هم الكفار لا غير وقيل يوزن صحائف الحسنات وصحائف السيئات - روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاء برجل من أمتي على رءوس الاشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول أ تنكر من هذا شيئا أ ظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا رب فيقول بلى ان لك عندنا حسنة وانه لا ظلم عليك اليوم - فيخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد ان محمّدا عبده ورسوله - فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات - فيقول انك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم اللّه شيء - واخرج احمد بسند حسن صحيح عن ابن عمر نحوه وقيل يجسد العمل ويوزن قال ابن عباس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والّذي نفسى بيده لوجئ بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ووضعت في كفة الميزان ووضعت شهادة ان لا اله الا اللّه في(1/4504)
الكفة الاخرى لرجحت بهن - رواه الطبراني و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 405
اخرج ابن عبد الرزاق في فصل العلم بسنده عن ابراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيثقل فيقال ما تدرى ما هذا فيقول لا فيقال هذا فضل العلم الّذي كنت تعلّم الناس - واخرج الذهبي في فضل العلم عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوذن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيترجح مداد العلماء على دماء الشهداء - قلت وعندى انه يوضع العبد مع حسناته المتجسدة أو مع صحائف الحسنات في كفة ومالهما واحد فان ثقل الصحائف بثقل الحسنات ويوضع سيئاته متجسدة أو صحائفها الثقيلة بثقل السيئات في كفة اخرى فالكافر لا تزن جناح بعوضة وهو الّذي قال اللّه تعالى فيه وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أى لا يكون لميزانه ثقل أصلا - واما المؤمن فلا يخلو ميزانه من ثقل ولو بشهادة ان لا اله الا اللّه وهو المكنى بقوله تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ غير ان لثقله مراتب فمنهم من اجتنبوا الكبائر وكفر اللّه عنهم سيئاتهم فموازينهم أثقل الموازين طاشت كفة سيئاتهم خاليا فارغا ومنهم من خلطوا عملا صالحا واخر سيّئا وهم الذين(1/4505)
قال ابن عباس فيهم انه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحد دخل الجنة - ومن كانت سيئاته اكثر من حسناته دخل النار يعنى ليصهر ويخلص من الذنوب كما ان الحديد يخلص في النار من الخبث فيصلح لدخول الجنة قال ابن عباس وان الميزان يخف بمثقال حية ويرجح ومن استوت حسناته وسيئاته كان من اصحاب الأعراف يعنى حتى يحكم اللّه تعالى فيهم بدخول الجنة - روى قول ابن عباس هذا ابن أبى حاتم وليس المذكور في هذا الأثر حال الكفار إذ لا حسنة لهم أصلا والمذكور في القرآن انما هو حال صالحى المؤمنين وحال الكفار واما حال عصاة المؤمنين فمسكوت عنه في القرآن غالبا - ولعل ذلك لان المؤمنين في زمن نزول القرآن روهم الصحابة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 406
رضى اللّه عنهم كانوا عدولا كلهم مجتنبين من الكبائر أو التائبين والتائب من الذنب كمن لا ذنب له - فالمراد بقوله تعالى.(1/4506)
وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ خفت اعماله الحسنة أو كفة حسناته بحيث لا يكون لها ثقل أصلا - وذلك هو الكافر لا محالة - أخرج البزار والبيهقي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يؤتى ابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتى الميزان ويؤكل به ملك فان ثقلت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان لا يشقى بعده ابدا وان خفت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقى فلان شقاوة لا يسعد بعده ابدا - والمراد بالخفة في هذا الحديث أيضا مالا يكون له ثقل أصلا - قلت لعل عصاة المؤمنين يوزن أعمالهم مرتين فان كان في حسناته بعض خفة يدخل في النار حتى يخلص ثم يوزن ثانيا بعد التطهير فيثقل موازينه وحينئذ ينادى الملك سعد فلان سعادة لا يشقى بعده ابدا وقد ذكرنا بعض تحقيقات المقام في سورة القارعة والدليل على ان المراد بهذه الآية هم الكفار خاصة دون عصاة المؤمنين قوله تعالى خبرا للموصول فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها وضيعوا زمان استكمالها فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) بدل من الصلة أو خبر ثان لاولئك أو خبر مبتدا محذوف تقديره وهم في جهنّم خالدون.
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أى تحرقها كذا في القاموس - واما المؤمن فلا يحرق وجوههم النار لما أخرج مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل قوم النار من هذه الامة فتحرقهم الّادارة وجوههم ثم يخرجون منها - واخرج ابن مردوية والضياء عن أبى الدرداء قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ - قال تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم واخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان جهنم لما سيق إليها أهلها تلفتهم يعنى فلفحتهم لفحة فما
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 407(1/4507)
أبقت لحما على عظم الا ألقته على أعقابهم وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) الجملة حال من الضمير المجرور المضاف إليه والكلوح تقلص الشفتين عن أسنان أخرج الترمذي وصححه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخى شفته السفلى حتى تضرب س رته - واخرج هناد عن أبى مسعود في قوله تعالى وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال مثل الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم.
أَ لَمْ تَكُنْ تقديره يقال لهم توبيخا وتذكيرا عما استحقوا العذاب لاجله ا لم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105).
قالُوا في جواب ذلك رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قرأ الجمهور بكسر الشين وسكون القاف وقرا حمزة والكسائي شقاوتنا بفتح الشين والقاف والف بعدها وهما لغتان يعنى ملكتنا شقاوتنا حتى صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) عن الحق.
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أى من النار فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) لانفسنا فحينئذ لا تخلصنا من العذاب بعد ذلك - .(1/4508)
قالَ اللّه سبحانه في جوابهم اخْسَؤُا فِيها أى اسكتوا سكوت هو ان فانها ليست مقام السؤال وابعدوا - فى القاموس خسا الكلب بالنصب كمنع أى طرده خساء وخسوءا وخسا الكلب بالرفع أى بعد كانخسا فهو لازم ومتعد وَلا تُكَلِّمُونِ (108) قرأ يعقوب بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء - يعنى لا تكلمونى في رفع العذاب فانى لا ارفعه منكم فحينئذ يئسوا عن الفرج - أو لا تكلمونى مطلقا - قال الحسن هذا اخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها الّا الشهيق والزفير ويكون لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون - وقال القرطبي - إذا قيل لهم اخسئوا فيها ولا تكلّمون انقطع رجاؤهم واقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم أخرج هناد والطبراني وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وعبد اللّه بن احمد في
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 408(1/4509)
روائد الزهد عن عبد اللّه بن عمرو قال ان أهل النار ينادون مالكا يا مالك ليقض علينا ربّك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم انّكم مكثون - ثم ينادون ربهم ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلّمون - قال فيئس القوم فلا يتكلمون بعدها بكلمة ومه هو الا الزفير والشهيق - واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمد بن كعب انه قال لاهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه في اربع فإذا كانت الخامسة لا يتكلمون بعدها ابدا يقولون ربّنا امتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم ذلكم بانّه إذا دعى اللّه وحده كفرتم وان يّشرك به تؤمنوا فالحكم للّه العلىّ الكبير - ثم يقولون ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انّا موقنون فيجيبهم فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انّا نسينكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون - ثم يقولون ربّنا اخّرنا إلى أجل قريب نخب دعوتك ونتّبع الرّسل فيجيبهم أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ثم يقولون ربّنا أخرجنا نعمل صالحا غير الّذى كنّا نعمل فيجيبهم اللّه تعالى ا ولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير فذوقوا فما للظّلمين من نّصير - ثم يقولون ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيجيبهم اللّه تعالى اخسئوا فيها ولا تكلّمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم - وانها ليسقط عليهم حيات من نار وعقارب من نار فلو ان حية منها نفحت بالمشرق احترق من بالمغرب ولو ان عقربا منها ضربت أهل الدنيا احترقوا من آخرهم - وانها لتسقط عليهم فتكون بين لحومهم وجلودهم - وانه ليسمع لها هناك جلبة كجلبة الوحش في الفيافي.
إِنَّهُ أى الشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعنى المؤمنين.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 409(1/4510)
يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بضم السين هاهنا وفي سورة صاد والباقون بكسرها واتفقوا على الضم في سورة الزخرف قال الكسائي والفرّاء السخر بكسر السين بمعنى الاستهزاء بالقول وبالضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ولذلك اتفقوا في سورة الزخرف لأنه بمعنى التسخير لا يحتمل غيره وقال الخليل هما لغتان مترادفان نحو بحر لجى بضم اللام وكسرها وكوكب درى بضم الدال وكسرها وفي القاموس نحو ذلك حيث قال سخروا منه وبه هزى كاستسخر والاسم السخرية والسخرى بالضم ويكسر وسخره كمنعه سخريا بالكسر والضم كلفه مالا يريد وقهره وكذا في النهاية وغير وعلى كل تقدير مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة والمراد هاهنا الاستهزاء بقرينة قوله تعالى حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فان الضحك يترتب على الاستهزاء دون التسخير وحتى ابتدائية كما في مرض فلان حتى لا يرجونه يعنى حتى انسأكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم والضحك ذكرى أسند الانساء إلى المؤمنين مجازا قال مقاتل نزلت الآية في عمار وصهيب وسلمان وغيرهم من فقراء الصحابة كان كفار قريش يستهزون بهم.
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ أى المؤمنين الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أى بسبب صبرهم على اذاكم واستهزاءكم إياهم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ دونكم قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بفتحها على انه ثانى مفعولى جزيتهم.
قالَ قرأ البعض قل على انه امر من اللّه تعالى للملك أو لبعض رؤساء أهل النار يوم البعث ان يسألوا جماعة أهل النار وقيل هو خطاب لكل واحد من أهل النار قل جواب هذا وقرأ الباقون بالألف يعنى قال اللّه تعالى للكفار يوم البعث كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ احياء وأمواتا في القبور عَدَدَ سِنِينَ تميز لكم.(1/4511)
قالُوا يعنى الكفرة في الجواب استقصار المدة لبثهم فيها اما لان المعذب يستطيل ايام شدته ويستقصر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 410
بامر قبل ذلك واما لكونها منقضية والمنقضى في حكم المعدول واما لكون مدة حيوة الدنيا وايام القبور في غاية الاقتصار بالنسبة إلى مدة الحيوة الآخرة لعدم انتهائها واما لكونها ايام سرورهم وايام السرور قصار وهذا على تقدير كون السؤال مقتصرا على مدة حيوتهم في الدنيا دون مدة لبثهم في القبور لانها ليست ايام السرور لثبوت عذاب القبر فيها بالقطعيات والإجماع لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ من الملئكة الذين يحفظون اعمال بنى آدم ويحصونها عليهم فانهم احفظ لمدة لبثنا أو من البشر الذين يتمكنون من عد أيامها ان أردت تحقيقها فانا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها.
قالَ قرأ حمزة والكسائي بغير الف على صيغة الأمر من اللّه تعالى والباقون بالألف على صيغة الحكاية يعنى قال اللّه تعالى إِنْ لَبِثْتُمْ يعنى ما لبثتم في الدنيا إِلَّا زمانا أو لبثا قَلِيلًا بالنسبة إلى ما تستقبلونه من مدة العذاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه ما الدنيا في الآخرة الا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بم يرجع رواه احمد ومسلم وابن ماجه عن المستورد لَوْ أَنَّكُمْ يعنى لو ثبت انكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك وكلمة لو للتمنى والتوبيخ يعنى ليتكم تعلمون ان لبثكم في الدنيا قليل فلم تضيعوها في الملاهي والشهوات وما نسيتم لقاء يومكم هذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كن في الدنيا كانك غريب أو عابر سبيل رواه البخاري عن ابن عمرو زاد احمد والترمذي وابن ماجة وعد نفسك من أهل القبور.(1/4512)
أَ فَحَسِبْتُمْ الفاء للعطف على محذوف والهمزة للانكار والتوبيخ تقديره أ توهمتم فحسبتم أى ظننتم أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ما كافة لعمل ان فدخلت على الجملة الفعلية وهى مع جملتها قائم مقام المفعولين لحسبتم وعبثا اما مفعول مطلق من قبيل ضربته سوطا أو مفعول له أو حال
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 411
من الفاعل أو المفعول أو منصوب بنزع الخافض يعنى لم نخلقكم خلقا عبثا لا لحكمة أو للتلهى بكم أو عابثين أى غير مريدين من خلقكم حكمة أو حال كونكم مبعوثين غير مراد منكم حكمة التكليف بالطاعة والمعرفة والجزاء أو لتلعبوا وتعبثوا بل خلقناكم لتعرفوا وتعبدوا ربكم وتطيعوه وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم على انه مبنى للفاعل من المجرد والباقون بضم التاء وفتح الجيم على انه مبنى للمفعول من الإرجاع وان مع جملتها عطف على انما خلقناكم والمعنى احسبتم عدم رجوعكم إلينا للجزاء أو هو معطوف على عبثا يعنى ما خلقناكم غير راجعين إلينا.
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الّذي يحق له الملك فان من عداه مملوك بالذات مالك بالعرص من وجه وفي حال دون حال والفاء للتعليل والجملة في مقام التعليل للانكار تعالى اللّه وتنزه من ان يكون فعله عبثا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وصفه بالكرم لاختصاصه بتجليات كريمة من أكرم الأكرمين.(1/4513)
وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعنى يعبد غير اللّه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة اخرى لاله لازمة له فان الباطل لا برهان به جئ بها للتاكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على ان التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على بطلانه أو اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ جزاء لمن الشرطية يعنى انه تعالى مجازيه مقدار ما يستحقه إِنَّهُ أى الشان لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ بيان لجزائهم يعنى ليس لهم نجاة من النار وفوز إلى الجنة بدأ اللّه السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين وختمها
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 412
بنفي الفلاح عن الكافرين ثم امر رسوله بان يستغفروا يسترحمه حتى يتاسى به المؤمنون من أمته فيفوزوا على مدارج الفلاح فقال.
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جملة أنت خير الراحمين حال من فاعل ارحم وحذف المفعول من اغفروا رحم لتعميم الدعاء بالمغفرة متكفل لسلب جميع المضرات وبالرحمة لجلب جميع المنافع روى البغوي في التفسير عن حنش ان رجلا مصابا مرّبه على ابن مسعود فرقى في اذنيه أ فحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بماذا رقيت في اذنه فاخبره فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والّذي نفسى بيده لو ان رجلا موقنا قرأها على جبل لزال تمت تفسير سورة المؤمنين خامس عشر شهر صفر سنة اربع والف ومائتين ويتلوه سورة النور إنشاء اللّه تعالى وصلّى اللّه على محمّد واله وصحبه وسلم امير.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 413
فهرست تفسير سورة النّور من التّفسير المظهرى(1/4514)
مضمون صفحه مسئلة بضرب في حدّ بسوط لا ثمرة له متوسطا 417 مسائل حد الزنا من الجلد والتعزيب والرجم 417 شرائط الإحصان من الإسلام وغيرها 426 جاز للامام تغريب الزاني وكل راع إذا راى مصلحة ومن التغريب الحبس ومنه أخذ مشائخ الطريقة تغريب المرء كسر قوة النفس 421 الزنا ما هو 429 ما فيه شبهة الملك وأقسامها 431 ما يثبت به الزنا من الشهادة أو الإقرار 434 يسقط الحد بالرجوع بعد الإقرار 437 مضمون صفحه المريض والمرأة كيف يحدان 437 هل للمولى اقامة الحد على عبده 439 مسائل حد القذف 445 مسائل اللعان 457 قصة الافك 473 مسئلة حسن الظن بالمؤمنين 476 حديث ما يوجب دخول الجنة وأبواب الخير وراس الأمر وعموده وذروة ستامه وملاك ذلك كف اللسان 478 حديث ليس الواصل المكافي 481 ما ورد في شهادة الجوارح يوم القيمة 483 حديث ان اللّه أبى ان أتزوج وأزوج الا أهل الجنة 485 ما ورد في فضائل عائشة 485 في الاستيذان عند دخول
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 414
مضمون صفحه بيت غيره والسّلام 487 إذا دعى أحد فجاء مع الرسول فلا حاجة إلى الاستيذان 488 إذا امر بالرجوع بعد الاستيذان فليرجع وكذا إذا لم يوذن بعد الاستيذان ثلثا 489 ما ورد في غض البصر وستر العورة 491 هل يجوز للمرأة ان ينظر من الرجل الأجنبي 492 ما يجوز للرجل النظر من الرجل 492 لا يجوز للمرأة النظر من المرأة ولا للرجل من الرجل تحت السترة إلى الركبة 493 عورة الحرة وما يجوز الا جنبى النظر منها عند الامن من الشهوة 494 عورة الامة ... 496(1/4515)
يكره النظر إلى فرج زوجته 497 ما يجوز للمرأة ابدائها لمحارمه وما يجوز لهم النظر منها وكذا المس عند الامن من الشهوة 497 هل يجوز للمؤمنات الا نكشاف عند الكافرات 498 العبد هل هو محرم لسيدته - هل يجوز للمرأة الانكشاف عند من لا شهوة له من الرجال كالشيخ الهرم والعنين 500 مسئله الخصى والمجبوب كالفحل 500 ما يجوز للمرأة كشفها عند الأطفال مضمون صفحه ونظرهم إليها 501 نغمة المرأة عورة 502 إذا جهرت المرأة بالقراءة فسدت صلوتها 502 حديث كل نبى آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون - ما ورد في الاستغفار والتوبة 502 مسئلة النكاح فرض أو واجب في بعض الأحوال وحرام ومكروه في بعض الأحوال ومستحب وسنة في اكثر الأحوال 503 وحينئذ إن كان مخلّا لكثرة الذكر والانقطاع إلى اللّه فقيل النكاح أفضل وعندى نزله أفضل وان لم يكن مخلّا فالنكاح أفضل 506 النكاح يكون عبادة بحسن النية وكذلك الاكل والشرب وسائر المعاملات المباحة وقد يكون فريضة وواجبة 508 المملوك إذ طلب من المولى تزويجه يزوجه 510 حديث تزوجوا فانهن يأتين بالمال - حديث التمسوا الرزق بالنكاح 511 حديث من لم يستطع يعنى النكاح فعليه بالصوم 511 مسائل كتابة الرقيق 512 تفسير اية النور ... 521
ما ورد في الزيت 524 فصل في المعجزات الّتي ظهرت قبل البعثة 526 تاويل اية النور باعتبار التصوف 530
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 415(1/4516)
مضمون صفحه باعتبار الولادة الاولى 536 وباعتبار الولادة الثانية المعبرة بالبقاء بعد الفناء 537 حديث الصلاة معراج المؤمن ونحو ذلك 539 الهداية امر وهبى وكذا العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين 544 حديث يوذينى ابن آدم يسب الدهر 546 الاستدلال على خلافة الخلفاء الراشدين 552 حديث الخلافة ثلثون سنة 552 حديث لئن طالت بك الحيوة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا ولئن طالت بك الحيوة لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز 553 قوله تعالى من كفر بعد ذلك اشارة إلى قتلة عثمان والى يزيد بن معاوية 553 مسئلة استيذان الأطفال العاقلين والعبيد على الرجال والإماء على النساء في الأوقات الثلث قبل صلوة الفجر وعند القيلولة وبعد العشاء 556 مسئلة استيذان الرجل إذا دخل على محارمه 558 مسئلة جواز انكشاف العجائز والاولى تركه 559 مسئلة جاز للرجل ان يدخل بيت قريبه أو صديقه ويأكل مضمون صفحه طعامه بغير الاستيذان إذا علم رضاه صريحا أو دلالة والا فلا وكذا من بيت الأجنبي 561 مسئلة لا بأس في المؤاكلة مع الأعمى والأعرج إذا لم تكن منها مصابة 561 لا قطع على من سرق من بيت ذى رحم محرم منه ماله أو مال غيره بخلاف من سرق من بيت صديقه ويقطع إذا سرق مال ذى رحم محرم منه من بيت غيره 562 ما ورد في السّلام إذا دخل بيته أو بيت غيره 563 ما ورد في اطعام الطعام وافشاء السّلام وعيادة المريض وشهود الجنازة وغير ذلك 564 مسئلة كل امر جامع اجتمع عليه المسلمون مع الامام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه الا باذنه الا إذا نابت نائبة لا يمكن معه المقام من مرض ونحوه 567 مسئلة إذا استأذن أحد من الامام اذن له ان رأى مصلحة 567 مسئلة مطلق الأمر للوجوب 569 تمّ الفهرس تفسير سورة النور
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 416(1/4517)
سورة النّور
مدنيّة وهى اربع وستون اية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أى هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة أَنْزَلْناها صفة لسورة وَفَرَضْناها يعنى أوحينا ما فيها من الاحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدّرنا ما فيها من الحدود قرأ الجمهور بالتخفيف وابن كثير وأبو عمر بالتشديد من التفعيل للتكثير لكثرة فرائضها أو كثرة المفروض عليهم يعنى ألزمناكم أجمعين ومن بعدكم إلى قيام الساعة وقيل معناه فصّلنا وبيّنا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على المراد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أى لكى تتعظوا أو تتقوا محارم اللّه.
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه تقديره سنذكر حكمهما وقوله فَاجْلِدُوا بيان لحكمه الموعود تقديره إذا ثبت زناهما فاجلدوا وقال المبرد خبره جملة فاجلدوا أورد الفاء في الخبر تتضمن المبتدأ معنى الشرط فان اللام بمعنى الّذي تقديره الّذي زنى والّتي زنت فيقال في شانهما اجلدوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما منصوب على المفعولية يقال جلده إذا ضرب جلده كما يقال راسه وبطنه إذ ضرب راسه وبطنه ذكر بلفظ الجلد كيلا يبرج ويضرب بحيث يبلغ اللحم ومن هاهنا قال الفقهاء
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 417(1/4518)
مسئلة - يضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا روى ابن أبى شيبة ثنا عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي عن انس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فيقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به - قلنا له في زمن من كان هذا قال في زمن عمر بن الخطاب - وروى عبد الرزاق عن يحيى بن أبى كثير ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه انى أصبت حدّا فاقمه علىّ فدعا عليه السّلام بسوط فأتى بسوط شديد له ثمرة فقال سوط دون هذا فاتى بسوط مكسورلين فقال سوط فوق هذا فاتى بسوط بين سوطين - فقال هذا فامر به فجلد - وروى ابن أبى شيبة عن زيد بن اسلم نحوه وذكره مالك في المؤطا مِائَةَ جَلْدَةٍ منصوب على المصدرية قدّم الزانية في هذه الآية على الزاني لان الزنى في الأغلب يكون بتعريضها للرجل وعرض نفسها عليه بخلاف السرقة فانها تقع غالبا من الرجال ولذلك قدم السارق على السارقة في قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما - (مسئلة) اجمع علماء الامة على ان الزانية والزاني إذا كانا حرين عاقلين بالغين غير محصنين فحدهما ان يجلد كل واحد منهما مائة جلدة بحكم هذه الآية ولا يزاد على ذلك عند أبى حنيفة رحمه اللّه - وقال الشافعي واحمد يجب عليهما أيضا تغريب عام إلى مسافة قصر فما فوقها ولو كان الطريق أمنا ففى تغريب المرأة بلا محرم قولان وفي المنهاج انه لا تغرب المرأة وحدها في الأصح بل مع زوج أو محرم ولو بأجر وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في قول فان امتنع بأجرة ففى قول يجبره الامام - وفي المنهاج انه لا يجبر في الأصح وقال مالك يجب تغريب الزاني دون الزانية - احتج الشافعي بحديث عبادة بن الصامت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - وقد مر الحديث في سورة النساء في تفسير قوله تعالى التفسير المظهري ، ج(1/4519)
6 ، ص : 418
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا - وحديث زيد بن خالد قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتعزيب عام - رواه البخاري وفي الصحيحين حديث زيد بن خالد وابى هريرة ان رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أحدهما اقض بيننا بكتاب اللّه وائذن لى ان أتكلم قال تكلم قال ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامراته فاخبرونى ان على ابني الرجم فافتديت بمائة شاة وبجارية لى ثم انى سالت أهل العلم فاخبرونى ان على ابني جلد مائة وتغريب عام وانما الرجم على امرأته - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما والّذي نفسى بيده لاقضين بينكما بكتاب اللّه اما غنمك وجاريتك وفرد عليك واما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام واما أنت يا أنيس فاعد على امراة هذا فان اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها - قال مالك البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام غير شامل للنساء فلا يثبت التعزيب في النساء وهذا ليس بشيء فان سياق الحديث في النساء حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا الحديث - وعدم شمول البكر المرأة ممنوع كيف وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البكر تستأذن - وكلمة من زنى في حديث زيد عام في الذكر والأنثى لكن الوجه الصحيح لقول مالك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم - رواه الشيخان في الصحيحين واحمد وأبو داود عن ابن عمر وفي الصحيحين وعند احمد عن ابن عباس نحوه وروى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبى هريرة نحوه و(1/4520)
لاجل ذلك خص مالك حكم التغريب بالرجال دون النساء - وجعل الشافعي المحرم شرطا للتغريب - وقال الطحاوي ان تغريب النساء لما بطل لاجل نهيهن عن المسافرة بغير محرم انتفى ذلك عن الرجال أيضا - واستدل الطحاوي على عدم التعزيب
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 419
فى الحد بحديث أبى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب « 1 » عليها ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر متفق عليه قال ان النبي صلى اللّه عليه وسلم امر ببيع الامة إذا زنت ومحال ان يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه - فثبت بطلان تغريب الامة إذا زنت وإذا بطل تغريب الإماء بطل تغريب الجرائر لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وإذا بطل تغريب الحرائر بطل تغريب الأحرار - وهذا القول غير سديد لان نفى التعزيب في النساء مطلقا أو في الإماء لاجل التعارض في النصوص لا يقتضى السقوط في حق الرجال مع عدم التعارض هناك - وقال بعض الحنفية لا يجوز العمل بحديث التغريب لأنه زيادة على الكتاب وهى في حكم النسخ فلا يجوز بخبر الآحاد - وهذا القول مردود لان الزيادة الّتي هى في حكم النسخ زيادة ركن أو شرط أو وصف في الماموريه حتى يجعل المجزى غير مجز كزيادة تعين الفاتحة في اركان الصلاة وصفة الايمان في رقبة الكفارة والتتابع في الصيام والطهارة في الطواف وهى ممنوعة - واما مطلق الزيادة فغير ممنوعة والا لبطلت اكثر السنن الا ترى ان عدة الوفاة ثبتت بنص القرآن والإحداد فيها ثبت بالسنة وليس الإحداد شرطا في العدة حتى لو تربصت اربعة أشهر وعشر ا ولم تحد عصت بترك الواجب وانقضت عدتها وجاز لها التزوج - ومن هذا القبيل القول بان تعين الفاتحة وضم السورة وغيرهما من واجبات الصلاة على رأى أبى حنيفة حيث قال(1/4521)
بوجوبها ولم يقل بركنيتها - وزيادة التغريب في الحد لا تجعل جلد مائة غير مجز فلا محذور فيه - فقال اصحاب الشافعي ان الآية ساكتة عن التغريب وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الاخر نسخا مقبولا أو مردودا -
_________
(1) أى لا يوبخها؟؟؟ ولا يقرعها بالزنى بعد الضرب - وقيل أراد لا يقنع في أمرها بالتثريب بل يضرب فان زنى الإماء لم يعده العرب مكروها وعيبا فامرهم بحد الإماء كما يحد الحرائر منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 420(1/4522)
فقال المحققون من الحنفية ان قوله تعالى فَاجْلِدُوا بيان للحكم الموعود في قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي على قول سيبويه فكان المذكور تمام حكمه والا كان تجهيلا إذ يفهم منه انه تمام الحكم وليس تمامه في الواقع فكان مع الشروع في البيان ابعد من ترك البيان لأنه يوقع في الجهل المركب وذك في البسيط - وجزاء للشرط على قول المبرد فيفيدان الواقع هذا فقط فلو ثبت معه شيء اخر كان مثبتة معارضا لا مثبتا لما سكت عنه وهو الزيادة الممنوعة - وأورد عليه بان الحديث مشهور تلقته الامة بالقبول فيجوز به نسخ الكتاب وأجيب بانه ان كان المراد بالتلقى بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع لظهور الخلاف - وان كان المراد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من اخبار الآحاد كذلك ولا تخرج بذلك عن كونها احادا - فان قيل الآية قطعى السند لكنه ظنى الدلالة لكونه عاما خص منه البعض اجماعا فان الحكم بالجلد مائة مختص بالاحرار والحرائر دون العبيد والإماء - وبغير المحصن عند اكثر الامة - وأيضا دلالتها على كون الحكم الجلد فقط لا غير ظنية مستنبطة بالرأى حتى لم يدر له كثير من الفقهاء واهل العربية - والحديث ظنى السند قطعى الدلالة فتساويا فجاز ان يكون حديث الآحاد ناسخا لحكم الكتاب فلان يجوز به الزيادة على الكتاب اولى - قلنا على تقدير تسليم المساواة سياق حديث عبادة يدل انه أول حكم ورد في الزانيات والزواني حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فالاية عند التعارض ناسخ ليس بمنسوخ - وقد قال الشافعي الجلد المذكور في الحديث في حق الثيب منسوخ فلا مانع من كون التغريب في حق البكر منسوخا بهذه الآية - قال ابن همام ليس في الباب من الأحاديث ما يدل على ان الواجب من التغريب واجب بطريق الحد - فان أقصى ما فيه دلالة قوله التفسير(1/4523)
المظهري ، ج 6 ، ص : 421
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وهو عطف واجب على واجب وهو لا يقتضى ذلك بل ما في البخاري من قول أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي واقامة الحد ظاهر في ان النفي ليس من الحد لعطفه عليه وكونه مستعملا في جزء مسماه وعطفه على جزء اخر بعيد لا يوجبه دليل وما ذكر من الألفاظ لا تفيد فجاز كون التغريب لمصلحة - (فائدة) وقد يرجح اصحاب الشافعي حديث التغريب بالمعقول حيث قالوا ان في التغريب حسم باب الزنى لقلة المعارف - وعارضه الحنفية بان فيه فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة وعمن تستحيى منهم ان كان بها شهوة قوية وقد تفعله لحامل اخر وهو حاجتها إلى معيشتها - ويؤيده ما روى عبد الرزاق ومحمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن ابراهيم النخعي قال قال عبد اللّه بن مسعود في البكر يزنى بالبكر يجلد ان مائة وينفيان سنة قال وقال علىّ بن أبى طالب حسبهما من الفتنة ان ينفيا - وروى محمد عن أبى حنيفة عن حمّاد عن ابراهيم قال كفى بالنفي فتنة - وروى عبد الرزاق عن الزهري عن ابن المسيب قال غرّب عمر ربيعة بن امية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا اغرّب بعده مسلما - (مسئلة) وإذا راى الامام مصلحة في التغريب مع الجلد جاز له النفي عند أبى حنيفة رحمه اللّه أيضا وهو محل التغريب المروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان روى النسائي والترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين والدار قطنى من حديث ابن عمران النبي صلى اللّه عليه وسلم ضرب وغرّب وان أبا بكر ضرب وغرّب وان عمر ضرب وغرّب - وصححه ابن القطان ورجح الدار قطنى وقفه وروى ابن أبى شيبة بإسناد فيه مجهول ان عثمان جلد امراة في زنى ثم أرسل بها إلى خيبر قنفاها - وليس التغريب مقتصرا على الزنى بل يجوز للامام تغريب كل واء إذا راى التفسير(1/4524)
المظهري ، ج 6 ، ص : 422
مصلحة - روى الطحاوي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قتل عبده عمدا فجلده النبي صلى اللّه عليه وسلم مائة ونفاه سنة ومحا أراه سهمه من المسلمين وامره ان يعتق رقبة - وروى سعيد بن منصور ان عمر
بن الخطاب اتى برجل شرب الخمر في رمضان فضرب مائتى سوط ثم سيره إلى الشام - وعلق البخاري طرفا عنه ورواه البغوي في الجعديات وزاد وكان إذا غضب على رجل يسيره إلى الشام وروى البيهقي عن عمر انه كان ينفى إلى البصرة - وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع ان عمر نفى إلى فدك - ومن لههنا أخذ مشائخ السلوك رضى اللّه عنهم وعنا الهم يغرّبون المريد إذا بدا عنه قوة نفس ولجاج لتنكسر نفسه وتلين قلت إذا راى القاضي مسلما يقع في المعاصي بغلبة الشهوة مع الندم والاستحياء يأمره بالغربة والسفر واما من لا يستحيى ولا يندم فنفيه عن الأرض حبسه حتى يتوب واللّه اعلم.
((1/4525)
مسئلة) وإذا كان الزاني والزانية محصنين يرجمان بإجماع الصحابة ومن بعدهم من علماء النصيحة - وأنكره الخوارج لانكارهم اجماع الصحابة وحجية خبر الآحاد وادعائهم ان الرجم لم يثبت من القرآن ولا من النبي صلى اللّه عليه وسلم الا بخبر الآحاد - والحق ان الرجم ثابت من النبي صلى اللّه عليه وسلم بأخبار متواترة بالمعنى كفضل على وشجاعته وجود حاتم وان كانت من الآحاد في تفاصيله صورة وخصوصياته - عن عمر بن الخطاب قال ان اللّه بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالحق وانزل عليه الكتاب وكان مما انزل اللّه عليه اية الرجم رجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجمنا بعده - والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت البينة أو كانت الحبل أو الاعتراف - متفق عليه وروى البيهقي انه خطب وقال ان اللّه تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالحق وانزل عليه الكتاب فكان مما انزل فيه اية الرجم فقرأناها وو عيناها الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من اللّه واللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 423(1/4526)
عزيز حكيم - ورجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجمنا من بعده الحديث وفي آخره ولو لا أخشى ان يقول الناس زاد في كتاب اللّه لا ثبته في حاشية المصحف - وروى أبو داؤد خطبة عمرو فيه انى خشيت ان يطول بالناس زمان فيقول قائل لا نجد الرجم في كتاب اللّه - وفي رواية للترمذى بلفظ لو لا انى اكره ان أزيد في كتاب اللّه لكتبته في المصحف فانى خشيت ان يجئ قوم فلا يجدونه في كتاب اللّه فيكفرون به - وكان هذا يعنى خطبة عمر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد - وفي الباب حديث أبى امامة بن سهل عن خالته العجماء بلفظ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللذة - رواه الحاكم والطبراني وفي صحيح ابن حبان من حديث كان سورة الأحزاب توازى سورة البقرة وكان فيها اية الرجم الشيخ والشيخة الحديث - وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه الا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق لدينه التارك للجماعة - متفق عليه وعن أبى امامة بن سهل بن حنيف ان عثمان بن عفان اشرف يوم الدار فقال أنشدكم باللّه أ تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان أو ارتداد « 1 » بعد اسلام أو قتل نفس بغير حق فقتل به فو اللّه ما زنيت في جاهلية ولا في اسلام ولا ارتددت منذ بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا قتلت النفس الّتي حرم اللّه فبم تقتلونى - رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي ورواه الشافعي في مسنده ورواه البزار والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين والبيهقي وأبو داود وأخرجه البخاري عن فعله صلى اللّه عليه وسلم من قول أبى قلابة حيث قال واللّه ما قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحدا
_________
((1/4527)
1) وفي الأصل كفر إلخ - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 424
قط الا في ثلاث خصال رجل قتل فقتل أو رجل زنى بعد إحصان أو رجل حارب اللّه ورسوله وارتد عن الإسلام وقد صح انه صلى اللّه عليه وسلم رجم ما عز بن مالك حين اعترف بالزنى - رواه مسلم والبخاري من حديث ابن عباس ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبى هريرة وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة وابن عباس وجابر ومن لم يسم ورواه مسلم من بريدة قال جاء ما عز بن مالك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه طهرنى الحديث - ورجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امراة من غامد من الأزد قالت يا رسول اللّه واعترفت انها حبلى من الزنى رجمها بعد وضع الحمل وفي رواية رجمها حين أكل ولدها الطعام رواه مسلم من حديث بريدة ورجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امراة من جهينته حين اعترفت بالزنى - رواه مسلم من حديث عمران بن حصين.(1/4528)
قال علماء الفقه والحديث وقد جرى عمل الخلفاء الراشدين بالرجم مبلغ حد التواتر واللّه اعلم - (مسئلة) وان كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن يرحم المحصن ويجلد الآخر كما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رجل كان عسيفا لاخر فزنى بامراته وقد مر الحديث - (مسئلة) هل يجلد المحصن قبل الرجم أم لا فقال احمد يجلد اولا بحكم هذه الآية ثم يرجم فالاية عنده غير مخصوص بغير المحصن ولا منسوخ - وهو يقول ليس الجلد المذكور في الآية تمام الحد بل بعضه فيضم بالسنة مع الجلد في غير المحصن التغريب سنة وفي المحصن الرجم وكما لا يزاحم الآية حديث التغريب كذلك لا يزاحمه حديث الرجم وان كان متواترا فوجب العمل بهما ويؤيده ما ذكرنا من حديث عبادة بن الصامت قوله صلى اللّه عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - وروى عن سلمة بن المحبق نحوه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 425(1/4529)
خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - ويؤيده اثر علىّ بن أبى طالب رواه احمد والحاكم والنسائي عن الشعبي ان عليّا جلد سراحة الهمدانية بالكوفة ثم رجمها ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال اجلدها بكتاب اللّه وارجمها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وأصله في صحيح البخاري ولم يسم المرأة - وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي هذه الآية مخصوص بغير المحصن أو منسوخ في حق المحصن وكذا حديث عبادة بن الصامت وسلمة بن المحبق والدليل على كونه منسوخا ان النبي صلى اللّه عليه وسلم رجم ما غزا والمرأة الغامدية والجهينية ونقل تلك القصص بوجوه وطرق كثيرة ولم يرو في شيء من طرقها انه جلد ثم رجم - وقد مرّ في حديث زيد وخالد في قصة رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان ابن أحدهما عسيفا على الاخر فزنى بامراته قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ابنه بالجلد والتغريب وقال يا أنيس اغد إلى امراة هذا فان اعترفت فارجمها ولم يقل اجلدها ثم ارجمها والناسخ اما ان يكون وحيا غير متلو أو وحيا منسوخ التلاوة اعنى الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما وهذه الآية المنسوخ تلاوتها لا يتصور كونها ناسخا الا على ما قرره المحققون من الحنفية في هذه الآية ان المذكور كل الواجب فقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا يدل على كون الجلد كل الواجب - والشّيخ والشّيخة إذا زنيا الآية تدل على ان الرجم كل الواجب فتعارضا - فكان أحدهما ناسخا للاخر - ولو لم يفهم من الآيتين ان المذكور كل الواجب فلا تعارض ولا نسخ بل يجب حينئذ الجمع بين الرجم والجلد كما قال احمد واللّه اعلم - واما اثر علىّ فيعارضه اثر عمر فهو امر اجتهادي كقول احمد روى الطحاوي بسنده عن أبى واقد الليثي ثم الأشجعي وكان من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال(1/4530)
بينما نحن عند عمر بالجاببة أتاه رجل فقال يا امير المؤمنين
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 426
ان امراتى زنت فهى هذه تعترف بذلك فارسلنى عمر في رهط إليها نسئلها فاخبرتها بالذي قال زوجها فقالت صدق فبلّغنا ذلك عمر فامر برجمها فهذا عمر (بحضرة اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) لم يجلدها قبل رجمها - قلت ولعل عليّا رضى اللّه عنه جلد سراحة الهمدانية قبل ثبوت احصانها ثم رجمها بعد ثبوت احصانها - ومعنى قوله اجلدها بكتاب اللّه وارجمها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الجلد في حق غير المحصن ثابت بالقرآن والرجم في حق المحصن ثابت بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمتى ثبت احصانها رجمتها - وقد روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل ذلك روى الطحاوي بسنده عن جابر ان رجلا زنى فامر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فجلد ثم اخبر انه كان قد أحصن فامر به فرجم - (فائدة) اعلم ان الإحصان استعمل في القرآن لمعان منها الحرية ومنها التزويج قال اللّه تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أراد به المزوجات وقال فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أراد بقوله أُحْصِنَّ إذا زوجن و(1/4531)
بالمحصنات الحرائر - ومنها العفة كما في قوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ - والمراد بالاحصان الّذي هو شرط للرجم في الزاني والزانية الدخول بنكاح صحيح فانه ثمرة التزويج يدل على ذلك تعبير النبي صلى اللّه عليه وسلم المحصن بالثيب وغير المحصن بالبكر وذكر العلماء من شرائط إحصان الرجم الحرية والعقل والبلوغ وان يكون قد تزوج تزويحا صحيحا ودخل بالزوجة وهذه الشروط الخمسة مجمع عليها للرجم - لكن العقل والبلوغ شرطان لاهلية العقوبة بل لاهلية الخطاب مطلقا فلا وجه لذكرهما في إحصان الرجم - والحرية شرط لتكامل الحد مطلقا لا للرجم خاصة حتى لا يجلد العبد مائة - بقي الدخول بنكاح صحيح معتبرا -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 427(1/4532)
و زاد أبو حنيفة ومالك ومحمد في شرائط إحصان الرجم الإسلام خلافا للشافعى وابى يوسف واحمد احتجت الحنفية على اشتراط الإسلام بقوله صلى اللّه عليه وسلم من أشرك باللّه فليس بمحصن - رواه إسحاق بن راهويه في مسنده ثنا عبد العزيز بن محمد ثنا عبد عن نافع عن ابن عمر قال إسحاق رفعه ابن عمر مرة فقال عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووقفه مرة - قال ابن الجوزي لم برفعه غير إسحاق ويقال انه رجع عنه والصواب انه موقوف - قال ابن همام لا شك ان مثله بعد صحة الطريق محكوم برفعه فان الراوي يفتى على حسب مافع قلت إذا رجع إسحاق عن الرفع واعترف بخطائه ولم يرفعه غيره فكيف يحكم برفعه - ولو سلمنا كونه مرفوعا فالحديث لا يدل على إحصان الرجم خاصة وقد ذكرنا ان الإحصان استعمل في القرآن لمعان منها العفة فلعل معنى الحديث من أشرك فليس بعفيف فلا يحد قاذفه - فلا يثبت بهذا الحديث اشتراط الإسلام للرجم مع عموم لفظ الثيب بالثيب وشموله للمؤمن والكافر - وقد روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمران اليهود جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكروا له ان رجلا منهم وامراة زنيا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما تجدون في التورية في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد اللّه بن سلام كذبتم ان فيها الرحم - فاتوا بالتورية فنشروها فوضع أحدهم يده على اية الرجم فقرا ما قبلها وما بعدها فقال عبد اللّه بن سلام ارفع يدك فرفع فإذا فيها اية الرجم فقالوا صدق يا محمّد فيها اية الرجم فامر بهما النبي صلى اللّه عليه وسلم فرجما - فهذا الحديث حجة للشافعى واحمد وأجاب عنه صاحب الهداية بانه كان ذلك بحكم التورية ثم نسخ قلت شرائع من قبلنا واجب العمل على اصل أبى حنيفة ما لم يظهر نسخه في شريعتنا لا سيّما إذا عمل به النبي صلى اللّه عليه وسلم فان عمله صلى اللّه عليه وسلم دليل صريح في كون ذلك الحكم باق في شريعتنا لأنه محال(1/4533)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 428
ان يحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم بحكم منسوخ في شريعتنا على خلاف ما انزل اللّه عليه وليس شيء من الآيات والأحاديث دالّا على نسخه فان لفظ الزاني والزانية والشيخ والشيخة والثيب والبكر يعم المؤمن والكافر جميعا وحديث من أشرك فليس بمحصن لا يدل على اشتراط الإسلام في الرجم بل هو محمول على إحصان القذف - (مسئلة) وزاد أبو حنيفة رحمه اللّه في شرائط إحصان الرجم كون كلا الزوجين عند الدخول بنكاح صحيح حرين مسلمين عاقلين بالغين وكذا قال احمد سوى الإسلام حتى لو تزوج الحر المسلم العاقل البالغ أمة أو ضبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول فلو زنى بعده لا يرجم وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة عبدا أو مجنونا أو صبيّا ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعده - ولو تزوج مسلم ذمية فاسلمت بعد ما دخل بها ولم يدخل بها بعد إسلامها ثم زنت لا ترجم - وكذا لو اعتقت الامة الّتي تحت حر مسلم عاقل بالغ بعد ما دخل بها ولم يدخل بها بعد اعتاقها ثم زنت لا ترجم - احتجت الحنفية بما رواه الدار قطنى وابن عدىّ عن أبى بكر بن عبد اللّه بن أبى مريم عن على بن أبى طلحة عن كعب بن فالك انه أراد تزوج يهودية أو نصرانية فسال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فنهاه وقال انها لا تحصنك - قال الدار قطنى أبو بكر
بن أبى مريم ضعيف جدّا وعلى بن أبى طلحة لم يدرك كعبا - وقال ابن همام ورواه بقية ابن الوليد عن عتبة بن تميم عن على بن أبى طلحة عن كعب وهو منقطع - قلت بقية بن الوليد أيضا ضعيف مدلس قال ابن همام الانقطاع عندنا داخل في الإرسال والمرسل - عندنا حجة بعد عدالة الرجال - قلت ولا شك ان هذا ليس في قوة حديث الصحيحين ان النبي صلى اللّه عليه وسلم رجم اليهودي واليهودية فلا يجوز العمل به - وهذا الحديث
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 429(1/4534)
لا يصلح حجة لاحمد لان الإسلام ليس بشرط للاحصان عنده - وقد روى البيهقي من طريق أبى وهب عن يونس عن ابن شهاب انه سمع عبد الملك يسئل عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن الامة هل تحصن الحرّ قال نعم قيل عمن قال أدركنا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون ذلك وقال البيهقي بلغني عن محمد بن يحيى انه قال وحدثت عن الأوزاعي مثله وروى البيهقي من طريق عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة مثله - (مسئلة) « 1 » وإذا كان أحد الزانيين محصنا والاخر غير محصن رجم المحصن وجلد الاخر اجماعا لحديث زيد بن خالد وابى هريرة في قصة عسيف حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام واما أنت يا أنيس فاغد على امراة هذا فان اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها - متفق عليه - (مسئلة) وان كان أحدهما محنونا والاخر عاقلا فقال مالك والشافعي واحمد يجب الحد على العاقل منهما وقال أبو حنيفة يجب الحد على العاقل دون العاقلة مع المجنون قال أبو حنيفة فعل الزنى انما يتحقق من الرجال وانما المرأة محل وانما سميت زانية مجازا فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنى وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه - وقال الجمهور ان العذر من جانبها لا يسقط الحد من جانبه اجماعا فكذا العذر من جانبه ولا نسلم ان الزانية اطلق عليها بالمجاز ولو سلمنا فمعناه المجازى وهو التمكين من الزنى موجب للحد في حقها والقول بان فعل الصبى والمجنون ليس بزنى ممنوع بل هو زنى لغة وشرعا وعدم المأثم لاجل عدم التكليف واللّه اعلم -
فصل - مسئلة
الزنى في الشرع واللغة وطى الرجل المرأة
_________
(1) قد مر هذه المسألة فيما سبق - أبو محمّد.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 430(1/4535)
فى القبل من غير الملك واما الوطي في الدبر رجلا كان المفعول به أو امراة فليس بزنى لغة ولا شرعا وقد ذكرنا اختلاف العلماء في حد اللواطة في سورة النساء في تفسير قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فمن وطى زوجته الحائض أو الصائمة أو المحرمة أو أمته قبل الاستبراء أو الامة المشتركة بينه وبين غيره أو الامة المشركة أو المنكوحة لغيره أو الامة المحرّمة برضاع لا يكون زنى ولا يوجب الحدّ لوجود الملك لكنه يأثم - وشبه الملك ملحق بالملك شرعا يسقط به الحد عند الائمة الاربعة وجمهور العلماء - خلافا للظاهرية لقوله صلى اللّه عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات وهو في مسند أبى حنيفة عن مقسم عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات - وروى الترمذي والحاكم والبيهقي من طريق الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإذا كان له مخرج فخلوا سبيله فان الامام ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة - وفي اسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وقد قال فيه البخاري منكر الحديث وقال النسائي متروك ورواه وكيع عنه موقوفا وهو أصح قاله الترمذي قال وقد روى عن غير واحد من الصحابة انهم قالوا ذلك وقال البيهقي في السنن رواية وكيع اقرب للصواب. قال ورواه رشدين عن عقيل عن الزهري ورشدين ضعيف أيضا وروينا عن على مرفوعا ادرءوا الحدود بالشبهات ولا ينبغى ...(1/4536)
للامام ان يعطل الحدود وفيه المختار بن نافع وهو منكر الحديث قاله البخاري وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبى وائل عن عبد اللّه بن مسعود قال ادرءوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم رواه ابن أبى شيبة وروى عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضا موقوفا رواه ابن أبى شيبة وروى منقطعا وموقوفا على عمر ورواه ابن حزم في كتاب الإيصال من حديث عمر موقوفا عليه بإسناد صحيح وأسند ابن أبى شيبة من طريق ابراهيم النخعي عن عمر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 431(1/4537)
لان أخطئ الحدود بالشبهات أحب الىّ من ان أقيمها بالشبهات - وقالت الظاهرية ان الحد بعد ثبوته لا يجوز ان يدرأ بشبهة إذ ليس في درء الحد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيء بل عن بعض الصحابة من طرق لا خير فيها واعلّوا حديث ابن مسعود الموقوف بالإرسال وما رواه عبد الرزاق عنه وهو غير رواية ابن أبى شيبة فانها معلولة بإسحاق بن أبى فروة - قال ابن همام الحديث تلقته الامة بالقبول وفي تتبع المروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة ما يوجب القطع في المسألة الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لما عز لعلك قبلت لعلك لمست لعلك غمزت ليلقنه الرجوع بعد الإقرار وانما فائدته انه إذا قال نعم ترك وكذا قال للسارق الّذي جيئ به لا إخاله سرق وللغامدية مثل ذلك وكذا قال علىّ لسراحة لعله وقع عليك وأنت نائمة لعله استكرهك لعل مولاك زوجك وأنت تكتمينيه وتتبع مثله عن كل واحد يوجب طولا في الكلام - فالحاصل من هذا كله كون الحد يحتال في درئه بلا شك فمعنى الحديث والآثار مقطوع به واللّه اعلم - (مسئلة) الشبهة اما شبهة اشتباه أى شبهة في حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه - وذلك فيما لم يكن هناك دليل حل أصلا لكن الفاعل ظن غير الدليل دليلا كجارية أبيه وامه وزوجته والمعتدة بعد ثلاث تطليقات أو طلاق على مال وأم ولد أعتقها مولاها وهى في العدة وجارية المولى في حق العبد والجارية المرهونة - حيث لا دليل هناك تدل على الحل لكن الفاعل لو ظن حلها لاجل اتصال الاملاك لاجل الولاد والزوجية باعتبار عدم قبول الشهادة لهم أو لاجل بقاء حقوق النكاح من وجوب النفقة ومنع الغير من النكاح في العدة والملك يدا في الرهن لا يحد ولو علم الحرمة يحد لعدم الحل بدليل أصلا - واما شبهة للملك وذلك حيث وجد دليل يوجب الحل في ذاته كجارية ابنه نظرا إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم أنت ومالك لابيك - رواه ابن ماجة من حديث جابر(1/4538)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 432
فى جواب من قال يا رسول اللّه ان لى مالا وولدا وابى يريد ان يحتاج مالى - قال ابن القطان
و المنذرى سنده صحيح ورواه الطبراني في الأصغر والبيهقي في الدلائل في قصة والمعتدة بالكنايات لاختلاف الصحابة في كونها رواجع والجارية المبيعة والممهورة في حق البائع والزوج لكونها في ضمانه وكذا كل جهة أباحها عالم كنكاح بلا شهود - ففى هذه الصور لا يحد وان كان الواطى يعتقد الحرمة وكذا من زفت إليه غير امرأته في أول وهلة وقالت النساء انها زوجتك لاحد عليه اجماعا وعليه المهر قضى بذلك علىّ رضى اللّه عنه وبالعدة لأنه اعتمد دليلا وهو الاخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يتميز بين امرأته وغيرها في أول وهلة - بخلاف من وجد على فراشه امراة فوطيها فانه يجب عليه الحد عند أبى حنيفة خلافا لمالك والشافعي واحمد فعندهم لا يحد قياسا على المزفوفة بجامع ظن الحل - لنا انه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا إلى دليل - وكذا إذا كان أعمى لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره الا إذا دعاها فاجابته اجنبية قالت انا زوجتك فواقعها لان الاخبار دليل وجاز تشابه النغمة خصوصا لو لم يطل الصحبة واللّه اعلم (مسئلة) ومن الشبهة عند أبى حنيفة وزفر وسفيان الثوري شبهة عقد فمن نكح امراة لا يحل نكاحها لا يجب عليه حد الزنى عند أبى حنيفة لكن يجب عليه العقوبة البليغة الشديدة - قلت والاولى ان يقال فيه القتل حدّا اتباعا بالحديث - وعند مالك والشافعي واحمد وابى يوسف ومحمد يجب عليه حد الزنى ان كان عالما بذلك لأنه وطى في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطى أهل للحد عالم بالتحريم فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد إذ العقد ليس لشبهة لأنه لم يصارف محله لأنه في نفسه خيانة يوجب عقوبة انضمت إلى زنى فلم يكن شبهة كما لو أكرهها وعاقبها وزنى بها - ولو سلمنا ان العقد شبهة والوطي(1/4539)
بالشبهة لم يكن زنى فهو اغلظ من الزنى فاحرى ان يجب فيه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 433
ما يجب في الزنى - ولابى حنيفة انه عقد صادف محلا لمطلق النكاح لكونها أنثى من بنى آدم وان لم يكن محلا لهذا النكاح المخصوص حتى صار باطلا فاورث شبهة فان الشبهة ما يشابه الثابت ولا شك ان مشابه الثابت ليس بثابت فالشبهة لا يقتضى ثبوت الحل بوجه من الوجوه وإذا ثبت فيه شبهة الملك لم يكن زنى وكونه اغلظ من الزنى لا يقتضى كونه موجبا للحد - لان امر الحدود توقيفى الا ترى انه من قذف محصنا بالزنى وجب عليه حدّ القذف ثمانون سوطا ومن قذفه بالكفر لا يجب عليه حدّ القذف مع ان الكفر اغلظ من الزنى وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغيبة أشد من الزنى رواه البيهقي في شعب الايمان عن أبى سعيد وجابر والمراد بما لا يحل نكاحها ما لا يحل نكاحها على التأييد باتفاق العلماء كالمحرمات بنسب أو رضاع أو صهرية - واما ان كان النكاح مختلفا فيه كالنكاح بلا ولى وبلا شهود فهو مسقط للحد اتفاقا لتمكن الشبهة عند الجميع وان كان النكاح متفقا على تحريمه لكن حرمتها غير موبدة كما إذا تزوج أمة على حرة أو تزوج مجوسية أو أمة بلا اذن سيدها أو تزوج العبد بلا اذن سيده أو تزوج منكوحة الغير أو معتدته أو المطلقة ثلاثا أو خامسة أو اخت زوجته أو في عدتها فعند أبى حنيفة لا يحدّ وعند صاحبيه في رواية عنهما يحدّ وفي اخرى لا يحدّ ويؤيد قول أبى حنيفة ما رواه الطحاوي ان رجلا تزوج امراة في عدتها فرفع إلى عمر فضربها دون الحد وجعل لها الصداق وفرق بينهما وقال لا يجتمعان ابدا قال وقال على ان تابا وأصلحا جعلهما مع الخطاب - وفي مسئلة المحارم روى عن جابر انه يضرب عنقه وكذا نقل عن احمد وإسحاق واهل الظاهر وقصر ابن حزم قتله على ما إذا كانت المرأة امراة أبيه قصرا للحد على مورده وفي رواية اخرى لاحمد يضرب عنقه ويؤخذ ماله لبيت المال لحديث البراء بن(1/4540)
عازب قال لقيت خالى ومعه رأية فقلت له اين تريد - قال بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى رجل نكح امراة أبيه ان اضرب
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 434
عنقه وأخذ ماله « 1 » رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ورواه الطحاوي بطرق ولم يذكر فيه أخذ المال و
في بعض طرقه أخذ المال أيضا وروى ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وقع على ذات محرم منه فاقتلوه - وعن معاوية بن قرة عن أبيه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث جده معاوية إلى رجل عرس بامراة أبيه ان يضرب عنقه ويخمس ماله - قالت الحنفية هذه الأحاديث لا حجة فيها لمن قال بوجوب الحد من الجلد والرجم لعدم ذكر الجلد والرجم في الحديث وأيضا ليس في الحديث ذكر الدخول بالمرأة المحرمة بل ذكر النكاح بالمحرمة ونفس النكاح ليس بموجب للحد اجماعا - فوجب ان يقال ان النبي صلى اللّه عليه وسلم انما امر بالقتل وأخذ المال اما سياسة واما لان المتزوج بامراة أبيه فعل ما فعل مستحلا كما كانوا يفعلون في الجاهلية فصار بذلك مرتدا ولعله صار محاربا ولذلك امر بقتله وأخذ ماله وتخميسه - (مسئلة) ومن شبهة العقد ما إذا استأجر امراة ليزنى بها ففعل لاحد عليه عند أبى حنيفة رحمه اللّه ويعزر وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي واحمد يحدّ لان عقد الاجارة لا يستباح به البضع كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال ثم زنى بها يحد اتفاقا له ان المستوفى بالزنى المنفعة وهى المعقود عليه في الاجارة لكنه في حكم العين بالنظر « 2 » إلى الحقيقة بكونه محلّا لعقد الاجارة فاورث شبهة - بخلاف الاستيجار للطبخ لان العقد لم يضف إلى المستوفى بالوطى والعقد المضاف إلى محل يورث شبهة فيه لا في محل اخر واللّه اعلم - (مسئلة) اتفق العلماء على ان الزنى يثبت بشهادة اربعة من الرجال ولا يثبت بشهادة ما دونها - ولا بشهادة النساء لقوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا(1/4541)
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ - وقوله تعالى لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ -
_________
(1) كذا في سنن أبى داود وليس في الأصل لفظة ماله - الفقير الدهلوي -
(2) وفي الأصل فبالنظر - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 435
(مسئلة) لو شهد اربعة متفرقين يثبت الزنى ويحد عند الشافعي لوجود النصاب - وعند الثلاثة هم قذفوه « 1 » لعدم النصاب في أول الوهلة فيرد شهادتهم ثم لا تصير شهادتهم مقبولة بعد كونها مردودة ولو جاءوا متفرقين فاجتمعوا وشهدوا معا قبلت شهادتهم عند احمد وعند مالك وابى حنيفة يشترط مجئى الشهود الاربعة مجتمعين واداؤهم الشهادة معا - (مسئلة) هل يشترط العدد في الإقرار فقال أبو حنيفة واحمد واكثر العلماء انه لا يثبت الزنى بالإقرار الا إذا أقر العاقل البالغ على نفسه بذلك اربع مرات واختلفوا في اشتراط كونها في اربعة مجالس فقال أبو حنيفة لا بد من اربعة مجالس لان المجلس جامع للمتفرقات وباب الزنى باب الاحتياط - وقال احمد وأبو ليلى يكتفى ان يقر أربعا في مجلس واحد لحديث رواه الشيخان في الصحيحين عن أبى هريرة قال اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم رجل وهو في المسجد فناداه يا رسول اللّه انى زنيت فاعرض عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الّذي اعرض قبله فقال انى زنيت فاعرض عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما شهد اربع شهادات دعاه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ابك جنون قال لا فقال أحصنت قال نعم يا رسول اللّه فقال اذهبوا به فارجموه الحديث واحتج أبو حنيفه بما رواه مسلم عن بريدة ان ماعرا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فرده ثم أتاه الثانية من الغد فرده ثم أرسل إلى قومه هل تعلمون بعقله بأسا فقالوا ما نعلمه الا وفي العقل من صالحينا فاتاه الثالثة فارسل إليهم أيضا فسألهم فاخبروه انه لا بأس به ولا بعقله فلمّا كان الرابعة(1/4542)
حفر له حفيرة فرجم - واخرج احمد وإسحاق بن راهويه وابن أبى شيبة في المصنف عن أبى بكر قال اتى ما عز بن مالك النبي صلى اللّه عليه وسلم فاعترف وانا
_________
(1) وفي الأصل هم قذفه إلخ ولا يستقيم ولعل الصحيح هو قذفه والغلط من الناسخ واللّه تعالى أعلم - الفقير الدهلوي - [.....]
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 436(1/4543)
عنده مرّة فرده ثم جاء فاعترف عنده الثانية فرده - ثم جاء فاعترف عنده الثالثة فرده - فقلت له ان اعترفت الرابعة رجمك قال فاعترف الرابعة فجلسه ثم سال عنه فقال لا نعلم الا خيرا فرجم - هذا الحديث أيضا صريح في تعدد المجيء وهو يستلزم غيبته كل مرة ومن هاهنا قالت الحنفية إذا تغيب ثم عاد فهو مجلس اخر - وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبى هريرة قال جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال انّ الأبعد زنى « 1 » فقال له ويلك ولا يدريك ما الزنى فامر به قطرد واخرج ثم أتاه الثانية فقال مثل ذلك فامر به فطرد واخرج ثم أتاه الثالثة فقال مثل ذلك فامر به فطرد واخرج ثم أتاه الرابعة فقال مثل ذلك فقال ادخلت وأخرجت فقال نعم فامر به ان يرجم - فهذه وغيرها مما يطول ذكره ظاهر في تعدد المجالس فوجب ان يحمل الحديث الأول عليها وان قوله فتنحى تلقاء وجهه معدود مع قوله الأول إقرارا واحدا لأنه في مجلس واحد وقوله حين بين ذلك اربع مرات أى في اربعة مجالس لأنه لا ينافى ذلك وقال مالك والشافعي وأبو ثور والحسن وحماد بن أبى سليمان انه يثبت الزنى بإقراره مرة لقوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث زيد بن خالد وابى هريرة في قصة العسيف اغد يا أنيس إلى امراة هذا فان اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها قالوا وليس في قصة الامرأة الغامدية الا ذكر الإقرار مرة - قلنا قوله ان اعترفت فارجمها معناه ان اعترفت اعترافا مقبولا في حد الزنى - وانما اقتصر النبي صلى اللّه عليه وسلم على قوله ان اعترفت لعلمه بان الصحابة كانوا يعلمون لقصة ما عز وغيره ان الإقرار المعتبر في الزنى انما هو اربع اقرارات في اربعة مجالس - وقولهم ليس في قصة الغامدية الا ذكر الإقرار فممنوع بل
_________
((1/4544)
1) وفي مجمع البحار ص 103 ان الأبعد قد زنى أى المتباعد عن الخير والعصمة بعد بالكسر فهو باعد أى هلك والبعد الهلاك والأبعد الخائن أيضا انتهى والحاصل ان سيدنا ما عزا رضى اللّه عنه عنى بقوله ان الأبعد زنى نفسه أى انا الّذي تباعد عن الخير والعصمة إلخ - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 437
قد روى أبو داود والنسائي انه كان اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم تتحدث ان الغامدية وما عز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وانما رجمهما بعد الرابعة - فهذا نص في إقرارها أربعا غاية ما في الباب انه لم ينقل تفاصيلها واللّه اعلم - وقد روى البزار في مسنده عن زكريا بن سليم ثنا شيخ من قريش عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه فذكره وفيه انها أقرت اربع مرات وهو يردها ثم قال لها اذهبي حتى تلدى غير ان فيه مجهولا ينجبر جهالته بما يشهد له من حديث أبى داود والنسائي.
((1/4545)
مسئلة) يستحب للامام ان يلقنه الرجوع عن الإقرار كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما عز لعلك قبّلت أو لمست - (مسئلة) لو أقر أربعا بالزنى ثم رجع قبل ان يحد أو في اثنائه يقبل رجوعه وسقط عنه الحد عند الائمة الثلاثة وعن مالك فيه روايتان - لنا ان الرجوع خبر يحتمل الصدق كالاقرار وليس أحد يكذبه فيه فيتحقق الشبهة في الإقرار والحدود تندرئ بالشبهات - بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذّبه - ويؤيده قصة ماعز روى أبو داود عن يزيد بن نعيم قصته فذكر انه لما رجم فوجد مس الحجارة فجزع فخرج يشتد فلقيه عبد اللّه بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله - ثم اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له فقال هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب اللّه عنه - وروى الترمذي وابن ماجة في حديث أبى هريرة نحوه - (فصل - مسئلة) إذا زنى المريض وحدّه الرجم رجم لان الاتلاف مستحق فلا يمتنع بسبب المرض - وان كان حدّه الجلد لا يجلد حتى يبرا كيلا يفيض إلى الهلاك - وان كان مرضا لا يرجى البرء منه كالسل أو كان خديجا أى ضعيف الخلقة فعند أبى حنيفة والشافعي يضرب بعتكال فيه مائة شمراخ فيضرب به دفعة ولا بد من وصول كل شهر أخ إلى بدنه كما روى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 438(1/4546)
البغوي في شرح السنة وابن ماجة نحوه عن أبى امامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال كان بين امائنا رجل مخدج ضعيف فلم يرع الا وهو على أمة من إماء الدار يحنث بها فرفع شأنه سعد بن عبادة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اجلدوه مائة سوط - قال يا نبى اللّه هو أضعف من ذلك لو ضربنا مائة سوط لمات قال فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة وخلوا سبيله - ورواه أبو داود عن أبى امامة بن سهل عن رجل من الأنصار ورواه النسائي عن أبى امامة بن سهل عن أبيه ورواه الطبراني عن أبى امامة بن سهل .............. عن أبى سعيد الخدري قال الحافظ ان كان الطرق كلها محفوظة فيكون أبو امامة قد حمله عن جماعة من الصحابة ورواه البيهقي عن أبى امامة مرسلا - (مسئلة) ان زنت الحامل لا تحدّ حتى تضع حملها كيلا يؤدى إلى هلاك الجنين وهو نفس محترمة - وان كان حدّها الجلد لا تجلد حتى تطهر من النفاس عن علىّ رضى اللّه عنه قال يا أيها الناس اقيموا على ارقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فان أمة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زنت فامرنى ان اجلدها فإذا هى حديث عهد بنفاس ... فخشيت ان انا جلدتها ان اقتلها فذكرت ذلك للنبى صلى اللّه عليه وسلم فقال أحسنت رواه مسلم وفي رواية أبى داود قال دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد واقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم وان كان حد النفساء الرجم رجمت لانفصال الولد عنها واستحقاقها الهلاك وعن أبى حنيفة انه يؤخر حتى يستغنى عنها ولدها إذا لم يكن أحد يقوم يتريبته لصيانة الولد من الضياع - روى مسلم عن بريدة في قصة الغامدية ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أخرجها حتى تضع فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت فقال قد وضعت الغامدية قال إذا لا ترجمها وتدع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه فقام رجل من الأنصار فقال الىّ رضاعها يا نبى اللّه قال فرجمها
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 439(1/4547)
و في رواية انه قال لها اذهبي حتى تلدى فلما ولدت قال اذهبي فارضعيه حتى تفطيه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبى اللّه قد فطمته وأكل الطعام فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين فحفر لها إلى صدرها وامر الناس فرجموها (مسئلة) قوله تعالى فاجلدوا خطاب للائمة فلا يجوز عند أبى حنيفة اقامة الحدود للمولى الا ان يأذن له الامام وقال مالك والشافعي واحمد يقيم المولى بلا اذن الامام وفي رواية عن مالك انه يقيم المولى الا في الامة المزوجة واستثنى الشافعي من المولى ذميّا ومكاتبا وامراة - وهل يجرى ذلك على العموم حتى لو كان قتلا بسبب الردة أو قطع الطريق أو قطعا للسرقة ففيه خلاف عند الشافعي قال النووي الأصح المنصوص انه يعم لاطلاق الخبر - وفي التهذيب الأصح ان القتل والقطع إلى الامام - لهم ما في الصحيحين من حديث أبى هريرة
قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الامة إذا زنت ولم تحصن قال ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فبيعوها ولو بضفير - وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم - رواه النسائي والبيهقي من حديث علىّ وأصله في مسلم موقوفا على علىّ وغفل الحاكم فاستدرله - وروى الشافعي ان فاطمة رضى اللّه عنها جلدت أمة لها زنت - وروى ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ان فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت تجلد وليتها خمسين إذا زنت - وروى الشافعي عن مالك عن نافع ان عبد العبد اللّه بن عمر سرق فارسل به عبد اللّه إلى سعيد بن العاص وهو امير المدينة ليقطع يده فابى سعيد ان يقطع يده وقال لا يقطع يد العبد إذا سرق فقال له ابن عمر في اىّ كتاب وجدت هذا فامر به ابن عمر فقطعت يده ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن أيوب عن نافع ان ابن عمر قطع يد غلام له سرق وجلد عبد اللّه زنى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 440(1/4548)
من غير ان يدفعهما إلى الوالي - ورواه ابن ماجة وفيه قصة لعائشة ورواه سعيد بن منصور عن هشيم عن ابن أبى ليلى عن نافع نحوه وروى مالك في الموطإ والشافعي عنه قال خرجت عائشة إلى مكة ومعها غلام لبنى عبد اللّه بن أبى بكر الصديق فذكر قصة فيها انه سرق واعترف فامرت به عائشة فقطعت يده وروى مالك في الموطإ ان حفصة قتلت أمة لها سحرت ورواه عبد الرزاق وزاد فانكر ذلك عثمان بن عفان فقال ابن عمر ما تنكر على أم المؤمنين امراة سحرت فاعترفت - ولابى حنيفة ما رواه اصحاب السنن في كتبهم عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير موقوفا ومرفوعا اربع إلى الولاة الحدود والصدقات والجمعات والفيء - وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أى رحمة قرأ ابن كثير رافة بفتح الهمزة ولم يختلفوا في سورة الحديد انها ساكنة لمجاورة ورحمة فِي دِينِ اللَّهِ أى في طاعته يعنى لا تعطلوا الحدود بان لا تقيموها رحمة على الناس كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي روى الشيخان في الصحيحين - عن عائشة ان قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية الّتي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ومن يجترئى عليه الا اسامة بن زيد حب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه اسامة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتشفع في حد من حدود اللّه ثم قام فاختطب ثم قال انما أهلك الذين قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم اللّه لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها - وقال جماعة معناها لا تأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن اوجعوهما ضربا وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن قال أبو حنيفة يجتهد في حد الزنى ثم في حد الشرب ويخفف في حد القذف لان سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا بخلاف حد الشرب فان سببه متيقن وجناية الزنى أعظم منه - وقال قتادة يخفف في حد الشرب و(1/4549)
الفرية ويجتهد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 441
فى الزنى - وقال الزهري يجتهد في حد الزنى والقذف لثبوتهما بكتاب اللّه ويخفف في حد الشرب لثبوتها بالسنة - قال البغوي روى ان عبد اللّه بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقال يا بنى ان اللّه لم يأمرنى بقتلها وقد ضربت وأوجعت إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم تؤمنون باللّه فسادعوا إلى امتثال امره واجتهدوا في اقامة حدوده فان الايمان يقتضى ذلك وَلْيَشْهَدْ أى ليحضر عَذابَهُما أى حدهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) زيادة في التنكيل فان التفضيح قد ينكل اكثر ما ينكل التعذيب والطائفة فرقة يمكن ان يكون حافة حول من الطوف وأقلها قيل اربعة للجوانب الأربع - وقيل ثلاثة لانها ادنى فهو جمع طائف - وقيل جاز إطلاقها على واحد أو اثنين قال اللّه تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا - قال في القاموس الطائفة من الشيء القطعة منه أو الواحد فصاعدا أو إلى الالف أو أقلها رجلان
او رجل فيكون بمعنى النفس - قلت فيصح ان يكون جمعا يكنى به عن الواحد ويصح ان يجعل كزاوية أو علامة - قال النخعي ومجاهد اقله رجل فما فوقه وهو المروي عن ابن عباس وبه قال احمد وقال عطاء وعكرمة وإسحاق رجلان فصاعدا وقال الزهري وقتادة ثلثة فصاعدا وقال مالك وابن زيد اربعة بعدد الشهداء في الزنى وقال الحسن البصري عشرة فصاعدا - قلت وهذا القول اولى بالصواب إذ المقصود بالآية التشهير.(1/4550)
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ أخرج أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتى بهم المدينة وكانت امراة بمكة صديقة له يقال لها عناق فاستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان ينكحها فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 442(1/4551)
هذه الآية - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا تنكحها - واخرج النسائي عن عبد اللّه بن عمرو قال كانت امراة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فاراد رجل من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يتزوجها فنزلت - واخرج سعيد بن منصور عن مجاهد قال لمّا حرم اللّه الزنى فكان زوانى عندهن جمال فقال الناس لننطلقنّ فلنتزوجهنّ فنزلت - وقال البغوي قال قوم قدم المهاجرون المدينة ومنهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدينة نساء بغايا يكرين انفسهن وهن يومئذ اخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المهاجرين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ان يتزوجوا تلك البغايا لانهن كن مشركات - وهذا قول عطاء بن أبى « 1 » رباح ومجاهد وقتادة والزهري والشعبي وفي رواية العوفى عن ابن عباس قلت أخرج ابن أبى شيبة في مصنفه من مراسيل سعيد بن جبير - وقال البغوي قال عكرمة نزلت في نساء بمكة والمدينة منهن تسع لهن رأيات كرأيات البيطا يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبى السائب المخزومي وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة فاراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة فاستأذن رجل من المسلمين نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فانزل اللّه تعالى هذه الآية - ولهذه الآية والأحاديث المذكورة احتج احمد على انه لا يجوز نكاح الزاني ولا الزانية حتى يتوبا فإذا تأبا فلا يسميان زانيين - وعند الائمة الثلاثة نكاح الزاني والزانية صحيح ففى لفسير هذه الآية قال بعضهم معناه الاخبار كما هو ظاهر الصيغة - والمعنى ان الزاني لاجل فسقه لا يرغب غالبا في(1/4552)
نكاح الصالحات والزانية
_________
(1) وفي الأصل عطاء بن رباح إلخ أبو محمد عفا عنه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 443
لا يرغب فيها الصلحاء فان المشاكلة علة الالفة والتضام والمخالفة سبب للنفرة والافتراق - وكان حق المقابلة ان يقال والزانية لا تنكح الا من زان أو مشرك لكن المراد بيان احوال الرجال في الرغبة فيهن لما ذكرنا انها نزلت في استيئذان الرجال من المؤمنين - وعلى هذا التأويل المراد بالتحريم في قوله تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) التنزيه عند اكثر العلماء عبّر عنه بالتحريم مبالغة يعنى ان المؤمنين لا يفعلون ذلك ويتنزهون عنه تحاميا عن التشبه بالفساق وسوء المقابلة والمعاشرة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد وقال مالك يكره كراهة تحريم - وقال البغوي قال قوم المراد بالنكاح الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزنى الا بزانية أو مشركة والزانية لا تزنى الا بزان أو مشرك وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ورواية الوالبي عن ابن عباس وقال زيد بن هارون يعنى الزاني ان كان مستحلا فهو مشرك وان جامعها وهو محرم فهو زان وعلى هذا أيضا مبنى الكلام على الاخبار - وقال جماعة النفي هاهنا بمعنى النهى وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها لكن التحريم كان خاصّا في حق أولئك الرجال من المهاجرين الذين أرادوا نكاح الزانيات دون سائر الناس - وهذا القول بعيد جدّا لان الممنوع في الآية ابتداء الزاني عن نكاح الصالحات غير الزانيات وكان حق الكلام حينئذ المؤمن لا ينكح الا مؤمنة صالحة وأيضا عموم قوله تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ينافى تخصيص الحكم برجال مخصوصين - وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان ابدا - وقال الحسن الزاني المجلود لا ينكح الا زانية مجلودة والزانية المجلودة لا ينكحها الا زان(1/4553)
مجلود - وروى أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينكح الزاني المجلود الا مثله مبنى هذين القولين ان التحريم عام والآية غير منسوخة وقال سعيد بن المسيب وجماعة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 444
ان حكم الآية منسوخ وكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية فنسخها قوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في أيامي المسلمين - ويدل على جواز نكاح الزانية ما روى البغوي عن جابر ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ان امراتى لا تدفع يد لامس قال طلقها قال اتى أحبها وهى جميلة قال استمتع بها وفي رواية فامسكها إذا - كذا روى الطبراني والبيهقي عن عبيد اللّه بن عمر عن عبد الكريم بن مالك عن أبى الزبير عن جابر وقال ابن أبى جابر سالت أبى عن هذا الحديث فقال حدثنا محمد بن كثير عن معتمر عن عبد الكريم حدثنى أبو الزبير عن مولى لبنى هاشم فقال جاء رجل فذكره ورواه الثوري فسمى الرجل هشاما مولى لبنى هشام ورواه أبو داود والنسائي من طريق عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عمير عن ابن عباس وقال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس واحدهم لم يرفعه قال وهذا الحديث أى الموصول ليس بثابت والمرسل اولى بالصواب ورواه الشافعي مرسلا ورواه النسائي وأبو داود من رواية عكرمة عن ابن عباس نحوه قال الحافظ اسناده أصح واطلق النووي عليه الصحة وأورد ابن الجوزي الحديث في الموضوعات مع انه أورده بإسناد صحيح وذكر عن احمد بن حنبل انه لا يثبت في الباب شيء وليس له اصل -
فائدة(1/4554)
قال الحافظ اختلف العلماء في معنى قوله لا تدفع يد لامس فقيل معناه لا تمنع ممن يطلب منها الفاحشة وبهذا قال أبو عبيدة والنسائي وابن الاعرابى والخطابي والفريابي والنووي وهو مقتضى استدلال البغوي والرافعي وغيرهما في هذه المسألة - وقيل معناه التبذير يعنى لا تمنع أحدا طلب منها شيئا من مال زوجها وبهذا قال احمد والأصمعي ومحمد بن نصر وعلى هذا التأويل لا استدلال بالحديث في هذه المسألة - قال البغوي وروى ان عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامراة في زنى وحرص ان يجمع بينهما فابى الغلام - واخرج الطبراني والدار قطنى من حديث عائشة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 445
قالت سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن رجل زنى بامراة وأراد ان يتزوجها فقال الحرام لا يحرم الحلال - وفي مصنفى عبد الرزاق وابن أبى شيبة سئل ابن عباس عن الرجل يصيب من المرأة حراما ثم يبدوله ان يتزوج بها قال اوله سفاح وآخره نكاح.(1/4555)
وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أى يقذفون بصريح الزنى بنحو زنيت أو يا زانى اجمع على هذا التقييد علماء التفسير والفقه بقرينة اشتراط الاربعة في الشهادة فمن قذف بغير الزنى من المعاصي لا يجب عليه حد القذف اجماعا ولكن يعزره الحاكم على ما يرى وكذا لورمى بالزنى تعريضا كما إذا قال لست انا بزان فانه لا يحد وبه قال أبو حنيفة والشافعي واحمد وسفيان وابن سيرين والحسن بن صالح وقال مالك وهو رواية عن احمد انه يحد بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمران عمر كان يضرب الحد بالتعريض - وعن علىّ انه جمد رجلا بالتعريض ولانه إذا عرف مراده كان كالتصريح - قلنا التعريض ليس كالتصريح ولذا جاز خطبة النساء في العدة تعريضا ولا يجوز تصريحا قال اللّه تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ المحصنات أو المحصنين بدلالة هذا النص للقطع بالفاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عارما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على اهلية الاجتهاد وعليه انعقد اجماع الامة - وتخصيص المحصنات بالذكر لخصوص الواقعة أو لان قذف النساء اغلب واشنع - والمراد بالاحصان هاهنا بإجماع العلماء ان يكون حرّا عاقلا بالغا مسلما عفيفا غير متهم بالزنى وهذا محمل قوله صلى اللّه عليه وسلم من أشرك باللّه فليس بمحصن عند الجمهور كما ذكرنا فيما سبق - فمن زنى في عمره مرة ثم تاب وحسن حاله وامتد عمره فقذفه قاذف بالزنى لا يحد لكون القاذف صادقا فيما رمى به لكنه يعزر لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكذا لا يحد قاذف رقيق أو صبى أو مجنون وحكى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 446(1/4556)
عن داود ان قاذف الرقيق يحد ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ بعد انكار المقذوف فلو أقر المقذوف على نفسه بالزنى أو اقام القاذف اربعة من الشهود على الزنى سقط الحد عن القاذف - ولو شهد اربعة على الزنى متفرقين غير مجتمعين لا يجب حد الزنى على المقذوف عند أبى حنيفة كما ذكرنا فيما سبق لكن يسقط حد القذف عن القاذف لوجود النصاب والاجتماع انما شرط احتياطا لدرء حد الزنى لا لايجاب حد القذف وكذا لو أقر المقذوف مرة لا يجب عليه الحد ولا على قاذفه - والمراد بالشهداء في هذه الآية الذين كانوا أهلا للشهادة فلو شهد اربعة على رجل بالزنى وهم عميان أو محدودون في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف فانهم يحدون ولا يحد المشهود عليه لانهم ليسوا من أهل أداء الشهادة فوجودهم كعدمهم والعبد ليس باهل للتحمل والأداء لعدم الولاية فلم يثبت شبهة الزنى لان الزنى يثبت بالأداء - ولو شهدوا وهم فساق لم يحدوا ولا يحد المقذوف لانهم من أهل الأداء والتحمل لكن في ادائهم نوع قصور لاجل الفسق فيثبت بشهادتهم شبهة الزنى فلا يحدّوا حدّ القذف ولا المقذوف حد الزنى وعند الشافعي يحدّ الفسقة حد القذف لانهم كالعبيد ليسوا من أهل الشهادة ومن هذه الآية يثبت انه لو نقص عدد الشهود عن الاربعة حدوا لانهم قذفوه لأنه لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف انما هو باعتبار الحسبة - روى الحاكم في المستدرك والبيهقي وأبو نعيم في المعرفة وأبو موسى في الدلائل من طرق انه شهد عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنى أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد (و لم يصرح به زياد وكان رابعهم فجلد عمر الثلاثة وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد - وعلق البخاري طرفا منه ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان التيمي عن أبى النهدي نحوه وفيه لما نكل زياد قال عمر هذا رجل لا يشهد الا بحق ثم جلدهم الحدّ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 447(1/4557)
فَاجْلِدُوهُمْ بعد مطالبة المقذوف اجماعا لان فيه حق العبد وان كان مغلوبا ثَمانِينَ جَلْدَةً ان كان القذفة أحرارا واما ان كانوا ارقاء جلد كل واحد منهم أربعين سوطا بإجماع الفقهاء وسند الإجماع القياس على حد الزنى الثابت تنصيفه بقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ - روى البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة انه قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الا أربعين سوطا وروى مالك بهذا في الموطإ الا انه ليس فيه ذكر أبى بكر - وقال الأوزاعي حدّ العبد مثل حدّ الحرّ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً عطف(1/4558)
على الأمر بالجلد جزاء لما تضمن المبتدا معنى الشرط فهو من تتمة الحد عندنا لانهما اخرجا بلفظ الطلب مفوضين إلى الائمة بخلاف قوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) فانه كلام مستانف جملة اسمية أخرجت بطريق الاخبار لا مناسبة لها بالطلب بل هى دفع توهم استبعاد صيرورة القذف سببا لوجوب الحدّ الّذي يندرئ بالشبهات فان القذف خبر يحتمل الصدق والكذب وربما يحتمل ان يكون حسبة - وجه الدفع بيان انهم فاسقون عاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن اقامة اربعة شهداء فلهذا استحقوا العقوبة - وقال الشافعي رحمه اللّه جملة لا تقبلوا كلام مستأنف غير داخل في الحدّ لأنه لا يناسب الحد لان الحدّ فعل يلزم الامام إقامته لا حرمة فعل وقوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في مقام التعليل لرد الشهادة - قلنا بل هو مناسب للحدّ فان الحدّ للزجر والزجر في رد الشهادة ابدا اكثر من الضرب ويدل على ذلك قوله ابدا فان الفسق لا يصلح سببا لرد الشهادة ابدا بل لرد الشهادة مادام فاسقا - لا يقال قوله لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً المراد منه ما دام هو مصر على القذف فإذا تاب قبل شهادته كما يقال لا تقبل شهادة الكافر ابدا ويراد به مادام كافرا - لانا نقول عدم قبول الشهادة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 448
للكافر ما دام كافرا يفهم من قوله لا تقبل شهادة الكافر ولا حاجة فيه إلى قوله ابدا الا ترى ان اضافة الحكم إلى المشتق يدل على علية المأخذ وعلية الكفر لعدم قبول الشهادة يقتضى دوامه ما دام الكفر - فقوله ابدا في هذا المثال لغو لا يحتمل ان يكون كلام اللّه تعالى نظيرا له.(1/4559)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أى من بعد القذف وَأَصْلَحُوا أحوالهم وأعمالهم بالتدارك فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قال أبو حنيفة رحمه اللّه هذا الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة ومحله النصب لما تقرر في الأصول من مذهبه ان الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع إلى الاخيرة مالم يكن هناك قرينة صارفة عنها إلى الكل لكونها قريبة من الاستثناء متصلة به ولان الجملة الاخيرة هاهنا منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا إلى حكمه لاختلاف نسقها وان اتصلت بما سبق باعتبار ضمير أو اسم اشارة - ولان الجملة الاخيرة بسبب انقطاعها عما سبق حائل بين المستثنى وبين ما سبق من الجملتين الأوليين فلا يستحقق الاتصال الّذي هو شرط الاستثناء - ولان الاستثناء يعود إلى ما قبله لضرورة عدم استقلاله وقد اندفعت الضرورة بالعود إلى جملة واحدة وقد عاد إلى الاخيرة بالاتفاق فلا ضرورة في العود إلى ما قبلها ولانه لما ورد الاستثناء في الكلام لزم توقف صدر الكلام عليه ضرورة انه لا بد له من مغير والضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة فلا يتجاوز إلى الأكثر - لا يقال ان الواو للعطف والتشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء لانا نقول العطف لا يفيد شركة الجملة التامة في الحكم مع ان وضع العاطف للتشريك في الاعراب والحكم فلان لا يفيد التشريك ف ي الاستثناء وهو يغير الكلام وليس بحكم له اولى ولان التوبة تصلح منهيا للفسق ولا تصلح منهيّا للحدود فان الحدود لا تندفع بالتوبة واللّه اعلم وقال الشعبي ان الاستثناء يرجع إلى الكل ومحله النصب فيسقط عنده حدّ القذف بالتوبة - وجمهور العلماء على انه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 449(1/4560)
لا يسقط بالتوبة - وقال مالك والشافعي الاستثناء راجع إلى الجملتين الأخريين دون الاولى ومحله الجر - ومبنى لهذين القولين ما ذكر في الأصول من مذهب الشافعي وغيره ان الاستثناء عند عدم القرينة يرجع إلى الجمل المتعاطفة كلها - غير ان الشافعي يقول ان جملة لا تقبلوا منقطع عما سبق غير داخلة في الحد فلا يرجع الاستثناء إلى الجملة الاولى لاجل الانقطاع ويرجع إلى الأخريين - وقال البيضاوي ما حاصله ان الاستثناء راجع إلى الكل ولا يلزم منه سقوط الحد بالتوبة كما قيل لان من تمام التوبة الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف - قلت التوبة هو الندم والاستغفار فلو فرض سقوط الحد به لا يجب عليه الاستسلام فبناء على هذا قال الشافعي ان القاذف نزد شهادته بنفس القذف وان لم يطالب المقذوف حدّه لاجل فسقه - وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حاله قبلت شهادته سواء تاب بعد اقامة الحدّ عليه أو قبله وبعد التوبة يقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق - قال البغوي يروى ذلك عن عمرو ابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاؤس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري قال البغوي قال الشافعي وهو يعنى القاذف قبل ان يحد شر منه حين يحد لان الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في احسن حاليه وتقبل في شر حاليه - قلنا نحن أيضا نقول ان القاذف ترد شهادته بنفس القذف لاجل فسقه فان لم يطالب المقذوف الحدّ لا يحدّ ولا يقبل شهادته مالم يتب - روى عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم الّا الّذين تابوا وأصلحوا قال توبتهم إكذابهم أنفسهم فان كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم ولهذا الحديث ان صح كان حجة للشافعى الكن قلت أحاديث الآحاد لا تصلح معارضا لنص الكتاب أى لا تقبلوا لهم شهادة ابدا فان تاب قبلت شهادته لزوال فسقه وان طالب المقذوف يحد فيجلد ثمانين
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 450(1/4561)
سوطا ولا يقبل شهادته ابدا سواء تاب ا ولم يتب لان رد الشهادة حينئذ لحق العبد وحق العبد لا يسقط بالتوبة فلا يلزمنا ما قال الشافعي انه ترد شهادته في احسن حاليه وتقبل في شر حاليه -
فائدة
لا خلاف في ان حد القذف اجتمع فيه الحقان حق اللّه تعالى وحق العبد فانه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الّذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه هو حق العبد ثم انه شرع زاجرا ولذا سمى حدا والمقصود من شرع الزواجر اخلاء العالم عن الفساد وهذا اية حق اللّه تعالى فمن أجل كونه حقّا للعبد يشترط فيه مطالبة المقذوف ولا يبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المستأمن - ويقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في ايام قضائه لا إذا علم قبل ولايته حتى يشهد به عنده - ويقدم استيفاؤه على حد الزنى والسرقة إذا اجتمعا ولا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به - ومن أجل كونه حقا للّه تعالى لا يجوز للمقذوف استيفاؤها بنفسه بل الاستيفاء للامام ويندرئ بالشبهات ولا ينقلب مالا عند سقوطه ولا يستخلف عليه القاذف وينتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا للّه تعالى - بخلاف حق العبد فانه يتقدر بقدر التالف ولا يختلف باختلاف المتلف ولهذه الفروع كلها متفقة عليها - واختلفوا في تغليب أحد الحقين على الاخر فمال الشافعي إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى اللّه تعالى - ومال أبو حنيفة إلى تغليب حق اللّه تعالى لان ما للعبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيّا به ولا كذلك عكسه إذ لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق اللّه تعالى إلا بنيابته - ويتفرع على هذا الاختلاف فروع اخر مختلف فيها - منها الإرث فعند الشافعي حدّ القذف يورث وعند أبى حنيفة لا يورث إذ الإرث لا يجرى في حقوق اللّه ويجرى في حقوق العباد بشرط كونه مالا أو ما يتصل بالمال كالكفالة أو ما ينقلب إلى المال كالقصاص والحد ليس شيئا منها فيبطل بموت المقذوف - إذ لم يثبت
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 451(1/4562)
بدليل شرعى استخلاف الشرع وارثا جعل له حق المطالبة الّتي جعل شرطا لظهور حقه - فمن قذف أحدا فمات المقذوف قبل اقامة الحد أو بعد ما أقيم بعضه بطل الباقي عندنا خلافا للشافعى - ومنها العفو فلو عفا المقذوف بعد ثبوت الحد لا يسقط عندنا وعند الشافعي وهو رواية عن أبى يوسف يسقط - لكن لو قال المقذوف لم يقذفنى وكذب شهودى فحينئذ يسقط اتفاقا لما ظهر ان القذف لم يوجد فلم يجب الحد لا انه وجب فسقط بخلاف القصاص فانه يسقط بالعفو بعد وجوبه لان الغالب فيه حق العبد - ومنها انه لا يجوز الاعتياض عن حد القذف عند أبى حنيفة وبه قال مالك وعند الشافعي واحمد يجوز - ومنها انه يجرى فيه التداخل عند أبى حنيفة رحمه اللّه وبه قال مالك حتى لو قذف شخصا واحدا امرأة أو قذف جماعة كان فيه حدّا واحدا إذا لم يتخلل الحد بين القذفين - ولو ادعى بعضهم فحد ففى أثناء الحد ادعى اخر كمل ذلك الحد وعند الشافعي لا يجرى فيه التداخل - قلت لمّا ثبت ان حد القذف اجتمع فيه حق اللّه وحق العبد كما يشهد به المسائل المتفقة عليها وثبت أيضا ان الحدود تندرئى بالشبهات - فالاولى ان يقال انه إذا اقتضى أحد الحقين وجوب الحد والآخر سقوطه فلا بد ان يفتى بالسقوط فانه ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة - فلا يقال بجريان الإرث فيه كما قال أبو حنيفة ويقال بسقوطه بعفو المقذوف لسقوط المطالبة الّتي هى شرط لاستيفائه كما قال الشافعي ويجرى فيه التداخل كما قال أبو حنيفة - ولو صالحا على الاعتياض يعنى بسقوط الحد فحصول الرضاء من المقذوف ولا يجب المال على القاذف لاحتمال كونه حقا للّه تعالى واللّه اعلم - روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس ان هلال بن امية قذف امرأته ....(1/4563)
عند النبي صلى اللّه عليه وسلم بشريك بن سمحا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول اللّه إذا وجد أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول البينة والأحد في
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 452
ظهرك فقال هلال والّذي بعثك بالحق انى لصادق فلينزلن اللّه ما يبرئى ظهرى من الحد فنزل جبرئيل وانزل اللّه عليه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فجاء هلال فشهد يعنى لا عن والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اللّه يعلم ان أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت يعنى لاعنت فلمّا كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا انها موجبة قال ابن عباس فتلكات « 1 » ونكصت حتى ظننا انها ترجع ثم قالت لا افضح قومى سائر اليوم فمضت - وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ابصروها فان جاءت به اكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحا فجاءت به كذلك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لو لا ما مضى من كتاب اللّه لكان لى ولها شأن - وفي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال ان عويمر العجلاني قال يا رسول اللّه ارايت رجلا وجد مع امرأته رجلا أ يقتله فيقتلونه أم كيف يفعل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد انزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا في المسجد وانا مع الناس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول اللّه ان أمسكتها فطلقها ثلاثا - ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انظروا فان جاءت به اسحم « 2 » أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا احسب عويمرا إلا قد صدق عليها وان جاءت به احمر كأنَّه وحرة فلا احسب عويمرا إلا قد كذب عليها فجاءت به على النعت الّذي نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى امه(1/4564)
_________
(1) فتلكأت أى توقفت وتبطأت ان يقولها ونكصت النكوص هو الرجوع إلى وراء وسابغ الأليتين أى تامهما وعظيمهما من سبوغ النعمة والثوب وخدلج الساقين أى عظيمهما من مجمع البحار - الفقير الدهلوي.
(2) اسحم الأسحم الأسود وقوله أدعج العينين الدعجة السواد في العين وغيرها يريد ان سواد عينيه كان شديدا مجمع البخار - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 453(1/4565)
و أخرج احمد عن عكرمة عن ابن عباس انه لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار هكذا نزلت يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معشر الأنصار الا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا يا رسول اللّه لا تلمه فانه رجل غيور واللّه ما تزوج امراة قط الا بكرا ولا طلق امراة له فاجتر ارجل منّا ان يتزوجها من شدة غيرته قال سعد يا رسول اللّه بابى أنت وأمي واللّه انى لا عرف انها حق وانها من اللّه ولكنى تعجبت انى لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لى ان أهيجه ولا أحركه حتى اتى باربعة شهداء فو اللّه لا اتى بهم حتى يقضى حاجته - قال فما لبثوا الا يسيرا حتى جاء هلال بن امية رو هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من ارضه عشاء فوجد عند اهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه انى جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرايت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الان يضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هلال بن امية ويبطل شهادته في الناس فقال هلال واللّه انى لارجو ان يجعل اللّه لى منهما مخرجا فو اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد ان يأمر بضربه انزل اللّه عليه الوحى فامسكوا عنه حتى فرغ من الوحى فنزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية - واخرج أبو يعلى مثله عن انس وذكر البغوي هذا الحديث وقال في آخره ابشر يا هلال فان اللّه قد جعل لك فرجا قال قد كنت أرجو ذلك من اللّه - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول اللّه صلى اللّه(1/4566)
عليه وسلم قيل لها فكذّبت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يعلم ان أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال هلال يا رسول اللّه بابى أنت وأمي قد صدقت
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 454
و ما قلت الا حقا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا عنوا بينهما فقيل لهلال اشهد فشهد أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فقال له عند الخامسة يا هلال اتق اللّه فان عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة وان عذاب اللّه أشد من عذاب الناس وان لهذه الخامسة هى الموجبة الّتي توجب عليك العذاب فقال هلال واللّه لا يعذبنى اللّه عليها كما لا يجلدنى عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ - ثم قال للمرءة اشهدي فشهدت أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فقال لها عند الخامسة (و وقفها) اتقى اللّه فان الخامسة موجبة وان عذاب اللّه أشد من عذاب الناس فتنكات ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت واللّه لا افضح قومى فشهدت الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما وقضى ان الولد لها ولا يدعى لاب ولا يرمى ولدها - ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وان جاءت به كذا وكذا فهو للذى قيل منه فجاءت به غلاما كأنَّه أجمل أورق على الشبه المكروه - وكان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه - قال البغوي انه قال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل انه لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية قرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم على المنبر فقام عاصم بن عدى الأنصاري فقال جعلنى اللّه فداك ان راى رجل منا مع امرأته رجلا فاخبر بما راى جلد ثمانين سوطا وسماه المسلمون فاسقا ولا يقبل شهادته ابدا فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا(1/4567)
الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته ومرّ - وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امراة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فاتى عويمر عاصما وقال لقد رايت شريك بن السمحا على بطن امراتى خولة - فاسترجع عاصم واتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجمعة الاخرى - فقال يا رسول اللّه ما ابتليت بالسؤال
الّذي سالت
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 455(1/4568)
فى الجمعة الماضية في أهل بيتي وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنى عم لعاصم فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم جميعا - وقال لعويمر اتق اللّه في زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان فقال يا رسول اللّه اقسم باللّه اننى رايت شريكا على بطنها وانى ما قربتها منذ اربعة أشهر وانها حبلى من غيرى - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمرءة اتقى اللّه ولا تخبريني الا بما صنعت فقالت يا رسول اللّه ان عويمرا رجل غيور وانه رانى وشريكا نستطيل السهر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لشريك ما تقول فقال ما تقوله المرأة - فانزل اللّه عزّ وجلّ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نودى الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم فقام فقال اشهد باللّه ان خولة زانية وانى لمن الصادقين ثم قال في الثانية اشهد باللّه انى رايت شريكا على بطنها وانى لمن الصادقين ثم قال في الثالثة اشهد انها حبلى من غيرى وانى لمن الصادقين ثم قال في الرابعة اشهد باللّه ما قربتها منذ اربعة أشهر وانى لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة اللّه على عويمر (يعنى نفسه) ان كان من الكاذبين فيما قال - ثم امره بالقعود وقال لخولة قومى فقامت فقالت اشهد باللّه ما انا بزانية وان عويمر المن الكاذبين ثم قالت في الثانية اشهد باللّه ما راى شريكا على بطني وانه لمن الكاذبين ثم قالت في الثالثة اشهد باللّه انا حبلى منه وانه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة انه ما رانى قط على فاحشة وانه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة غضب اللّه على خولة (تعنى نفسها) ان كان من الصادقين - ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما وقال لو لا هذه الايمان لكان في أمرها رأى ثم قال تحينوا بها الولادة فان جاءت باصيهب « 1 » ابيلج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السمحا وان جاءت(1/4569)
باورق جعدا جماليا « 2 » فهو لغير الّذي رميت به - قال ابن عباس
_________
(1) اصيهب هو من يعلو لونه صهبة وهى كالشقرة - مجمع البحار - الفقير الدهلوي -
(2) وفي مجمع البحار حمّاليا هو بالتشديد الضخم الأعضاء التام الأوصال كأنَّه الحمل - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 456(1/4570)
فجاءت بأشبه خلق لشريك - قال الحافظ ابن حجر اختلف الائمة في هذا الموضع فمنهم من رجح انها نزلت في شأن عويمر ومنهم من رجح انها في شأن هلال واحتج « 1 » القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين ومنهم من جمع بينهما بان أول من وقع ذلك هلال وصادف مجئى عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا والى هذا اجنح النووي وسبقه الخطيب - وقال الحافظ ابن حجر يحتمل ان النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال علمه النبي صلى اللّه عليه وسلم بالحكم ولهذا قال في قصة هلال فنزل جبرئيل - وفي قصة عويمر قد انزل اللّه فيك أى فيمن وقع له مثل ما وقع لك وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل - (مسئلة) وبناء على عموم قوله تعالى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ قال مالك والشافعي واحمد كل زوج صح طلاقه صح لعانه سواء كانا حرين أو عبدين عدلين أو فاسقين أو أحدهما حرّا عدلا والاخر عبدا أو فاسقا - وكذا سواء كانا مسلمين أو كافرين أو أحدهما خلافا لمالك فان عنده انكحة الكفار فاسدة لا يصح طلاقه فلا يصح لعانه - وقال أبو حنيفة لا يجوز اللعان مالم يكن الزوج أهلا للشهادة - يعنى حرا عاقلا بالغا مسلما وتكون الزوجة ممن يحد قاذفها يعنى حرة عاقلة بالغة مسلمة غير متهمة بالزنى - فلا يجرى اللعان عنده إذا كان الزوج عبدا أو كافرا أو محدودا في قذف بل يحد حد القذف ان كانت المرأة ممن يحد قاذفها والا يعزّر ان رأى الامام - لكن ان كان الزوج أعمى أو فاسقا يجوز لعانه لان الفاسق يجوز للقاضى قبول شهادته وان لم يجب قبوله - والأعمى انما لا تقبل شهادته لعدم تميزه بين المشهود له والمشهود عليه وهاهنا هو يميز بين نفسه وبين امرأته فكان أهلا لهذه الشهادة دون غيرها وروى ابن المبارك عن أبى حنيفة ان الأعم ى لايلا عن - وكذا لا يجرى اللعان عند أبى حنيفة
_________
((1/4571)
1) واحتج إلخ لعله من غلط الناسخ والصحيح وجنح إلخ - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 457
إذا كانت الزوجة أمة أو كافرة أو صبية أو مجنونة أو تزوجت بنكاح فاسد ودخل بها فيه أو كان لها ولد ليس له اب معروف أو زنت في عمرها ولو مرة ثم تابت أو وطئت وطيا حراما بشبهة ولو مرة فحينئذ لاحد ولا لعان بل تعزران رأى الامام - ووجه قول أبى حنيفة في اشتراط كون المرأة ممن يحد قاذفها ان اللعان انما شرع لدفع حد القذف من الزوج كما يدل عليه الأحاديث في سبب نزول الآية حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابشر يا هلال فان اللّه قد جعل لك فرجا فهو بدل عن حدّ القذف في حق الزوج - ولذلك قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتق اللّه فان عذاب الدنيا يعنى الحد أهون من عذاب الاخرة فإذا لم يتصور المبدل منه لا يتصور البدل وفي اشتراط كون الرجل من أهل الشهادة قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حيث جعل الأزواج أنفسهم شهداء لان الاستثناء من النفي اثبات ولو جعل الشهداء مجازا من الحالفين كما قالوا كان المعنى ولم يكن لّهم حالفون الا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد انه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون هم لانفسهم وهذا فرع تصور الحلف لغيره وهو لا وجود له أصلا فلو كان اليمين معنى حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه فكيف وهو معنى مجازى لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز ويدل على اشتراط اهلية الشهادة في الرجل وكون المرأة ممن يحد قاذفها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواها بن ماجة والدار قطنى بوجوه الأول ما رواه الدار قطنى بسنده عن عثمان بن عبد الرحمان الزهري عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والامة لعان وليس بين العبد والحرة(1/4572)
لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان - قال يحيى والبخاري وأبو حاتم الرازي و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 458
ابو داود عثمان بن عبد الرحمان الزهري ليس بشيء وقال يحيى مرة كان يكذب وقال ابن حبان كان يروى عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به وقال النسائي والدار قطنى متروك الحديث - والثاني ما رواه الدار قطنى وابن ماجة بسندهما عن عثمان بن عطاء الخراسانى عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربع من النساء لا ملاعنة بينهن النصرانية تحت المسلم واليهودية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك وعثمان بن عطاء ضعفه يحيى والدار قطنى وقال أبو حاتم الرازي وابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال على بن الجنيد متروك قال الدار قطنى وقد تابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضا - وقد روى الدار قطنى من طريق اخر عن عماد بن مطر قال حدثنا حماد بن عمر عن زيد بن رفيع عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد ثم ذكر نحوه قال أبو حاتم الرازي عماد بن مطر كان يكذب وقال ابن عدى أحاديثه بواطيل وهو متروك الحديث وقال احمد حماد بن عمرو كان يكذب ويضع الحديث وقال الساجي اجمعوا على انه متروك الحديث وقد ضعف النسائي والدار قطنى زيد بن رفيع - قال ابن الجوزي وقد روى هذا الحديث الأوزاعي وابن جريج وهما امامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله ولم يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ابن همام وأنت علمت ان الضعيف إذا تعدد طرقه كان حجة وهذا كذلك وقد اعتضد برواية الإمامين إياه موقوفا على جد عمود بن شعيب - وقال الشافعي قاله تعالى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) يدل على انها ايمان وليس بشهادات لان كلمة باللّه محكم في اليمين وكلمة الشهادة يحتمل اليمين(1/4573)
الا ترى انه لو قال اشهد ينوى اليمين كان يمينا فحملنا المحتمل على المحكم وحمل الشهادة على الحقيقة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 459
متعذر لان المعلوم في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فانه معهود في القسامة - ولان(1/4574)
الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفى فلا يتصور تعلق حقيقتها بامر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الاخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما قلنا من الوجهين المذكورين - وإذا كان الشهادة بمعنى اليمين لم يكن اهلية الشهادة شرطا للعان - قلنا كما ان الشهادة لنفسه وتكرار أداء الشهادة غير معهود في الشرع كذلك الحلف لغيره والحلف لايجاب الحكم أيضا غير معهود في الشرع بل اليمين لدفع الحكم فكما ان جاز لمن له ولاية الإيجاد والاعدام والحكم كيف ما اراده شرعية هذين الامرين في محل بعينه ابتداء جاز له شرعية ذلك ابتداء والشهادة لنفسه قد ورد في محكم التنزيل حيث قال اللّه تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع المؤذن يقول اشهد ان لا اله الا اللّه اشهد ان محمدا رسول اللّه وانا اشهد وانا اشهد فشهادته بالرسالة شهادة لنفسه - وتكرار الشهادة في هذا المحل انما شرع بدلا عما عجز عنه من اقامة شهود الزنى وهم اربعة وعدم قبول الشهادة لنفسه عند التهمة - ولهذا يثبت عند عدمها أعظم ثبوت كما ذكرنا من شهادة اللّه وشهادة رسوله فلا يبعد ان يشرع الشهادة لنفسه في موضع بواسطة تأكيدها باليمين والزام اللعنة والغضب ان كان كاذبا واللّه اعلم جملة ولم يكن لّهم شهداء اما عطف على الصلة أو حال من فاعل يرمون - والّا أنفسهم بدل من الشهداء أو صفة ان كان الا بمعنى غير والموصول مع الصلة مبتدأ خبره ما بعده - قرأ حفص وحمزة والكسائي اربع شهدت بالرفع على انه خبر شهادة أحدهم وقرأ الباقون على المصدر لبيان عدد المصدر - والتقدير فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم اربع شهدت - وقيل شهادة أحدهم مبتدأ خبره محذوف تقديره فشهادة أحدهم اربع شهدت تدفع عنه حد القذف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 460(1/4575)
و باللّه متعلق بشهدت لكونها اقرب وقيل بشهادة لتقدمها - وقوله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أصله على انّه من الصّادقين فيما رماها من الزنى أو نفى الولد أو منهما فحذفت الجار وكسرت انّ وعلق اللام عنه باللام تأكيدا - وقيل هو جواب قسم محذوف والجملية القسمية بيان للشهادة.
وَالْخامِسَةُ اتفق القراء على رفعه فهو على قراءة حفص وحمزة والكسائي عطف على اربع شهادات - وعلى قراءة الباقين عطف على قوله فشهادة أحدهم يعنى فالواجب شهادة أحدهم اربع شهادات والواجب الشهادة الخامسة وجاز ان يكون الخامسة مبتدأ وما بعده خبره والجملة الاسمية حال أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ قرأ نافع ويعقوب ان مخففة من الثقيلة واسمه ضمير الشأن ورفع اللعنة على الابتداء والباقون انّ مشددة ونصب اللعنة على انها اسم انّ وانّ مع ما في حيزه بتقدير حرف الجر متعلق بالشهادة يعنى والشهادة الخامسة بانّ لعنة اللّه عليه إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) شرط مستغن عن الجزاء بما مضى (مسئلة) إذا قذف الرجل امرأته بالزنى أو بنفي الولد وهما من أهل اللعان على ما ذكرنا من الخلاف وطالبته بموجب القذف وجب عليه اللعان فان امتنع منه حبسه الحاكم عند أبى حنيفة رحمه اللّه حتى يلاعن أو يكذّب نفسه فيحدّ حدّ القذف وعند مالك والشافعي واحمد إذا امتنع من اللعان يحدّ حدّ القذف ولا يحبس لان موجب القذف الحد واللعان حجة صدقه والقاذف إذا قعد عن اقامة الحجة حد ولا يحبس - الا ان الشافعي يقول إذا نكل فسق وقال مالك لا يفسق - وجد قول أبى حنيفة ان النكول دليل على الإقرار لكن فيه شبهة والحد لا يثبت مع الشبهة - فيحبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه لأنه حق مستحق عليه وهو قادر على ايفائه فيجلس به حتى يأتى بما هو عليه - وإذا لاعن الزوج وجب على المرأة اللعان عند أبى حنيفة فان امتنعت حبسها الحاكم حتى تلا عن أو تصدقه لأنه حق مستحق عليها وهى قادرة على(1/4576)
ايفائه فتحبس فيه وعند الشافعي إذا لاعن الزوج وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأييد وانتفى عنه النسب لقوله صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 461
المتلاعنان لا يجتمعان ابدا - قلنا انما يصدق التلاعن الا بعد لعان المرأة أيضا - فلا يقع الفرقة ولا يجوز التفريق الا بعد تلا عنهما - ويجب على المرأة بلعان الرجل حد الزنى عند مالك والشافعي واحمد ويسقط عنها حد الزنى عندهم إذا لاعنت لقوله تعالى.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ يعنى حد الزنى كما في قوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ولقوله صلى اللّه عليه وسلم لامراة هلال بن امية اتقى اللّه فان الخامسة موجبة وان عذاب اللّه أشد من عذاب الناس أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ منصوب بالإجماع على المصدرية ... شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أى الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) فيما رمانى به من الزنى أو من نفى الولد أو منهما.(1/4577)
وَ الْخامِسَةَ قرأ الجمهور بالرفع على الابتداء وما بعده خبره أو على العطف على ان تشهد وقرا حفص بالنصب عطفا على اربع شهادات أَنَّ قرأ نافع ويعقوب مخففة على انها مصدرية والباقون مشددة غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها قرأ نافع ويعقوب « 1 » بكسر الضاد على انه فعل ماض من باب علم يعلم واللّه مرفوع على انه فاعل للفعل والباقون بفتح الضاد بالنصب على انه اسم ان واللّه بالجر على انه مضاف إليه إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) فيما رمانى به من الزنى أو نفى الولد أو منهما قال الشافعي لا يتعلق بلعانها الا حكم واحد وهو سقوط حد الزنى - ولو اقام الزوج بينة على زناها لا يسقط عنها الحد باللعان فان امتنعت من اللعان حدت عندهم - خلافا لابى حنيفة رحمه اللّه فانه يقول بل تحبس دائما ما لم تلاعن أو تصدقه فان صدقته ارتفع سبب وجوب لعانها فلا لعان ولاحد لان التصديق ليس بإقرار قصدا بالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد ولو كان إقرارا ... فالاقرار مرة لا يوجب حد الزنى عند أبى حنيفة رحمه اللّه كما مرّ فيما سبق ولم يتعين ان المراد بالعذاب في قوله تعالى وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ الحدّ لجواز ان يكون المراد به الحبس والحدود تندرئى بالشبهات
_________
(1) والصحيح قرأ يعقوب غضب بفتح الضاد ورفع الباء وجرهاء الجلالة - أبو محمد عفا اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 462
((1/4578)
مسئلة) ولو صدقت المرأة الزوج في نفى الولد فلاحد ولا لعان عند أبي حنيفة رحمه اللّه وهو ولدهما لان النسب انما ينقطع حكما للعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في ابطاله واللّه اعلم قلت والعجب من الشافعي ومن معه ان اللعان عندهم يمين ولذا لا يشترطون في الرجل اهلية الشهادة ويجوزون اللعان من العبد والكافر والمحدود في القذف واليمين هو لا يصلح لايجاب المال فكيف يوجب لعان الرجل عند امتناع المرأة عنه عليها الرجم وهو اغلظ الحدود - والعجب من أبى حنيفة رحمه اللّه انه قال اللعان شهادات ولذا اشترط في الرجل اهلية الشهادة وقال تكرار الشهادة في هذا المحل انما شرع بدلا عما عجز عنه من اقامة شهود الزنى وهم اربعة وقد جعل الشارع شهادات الأربع مقام شهادة اربعة من الرجال بواسطة تأكد باليمين والزام اللعنة - وانه قال ان اللعان قائم مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنى في حقها فلم لم يقل بايجاب حد الزنى عليها بشهاداته الأربع وقد قال اللّه تعالى وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ والدرء لفظ خاص صريح في معنى السقوط والسقوط يقتضى الوجوب عند عدم موجبه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عذاب اللّه أشد من عذاب الناس يعنى الحد ولا معنى لكون اللعان في حقها قائما مقام حد الزنى الا انه إذا لاعنت سقط عنها الحدّ وان امتنعت من اللعان وجب عليها الحدّ - لا يقال ان شهاداته وحده وان كانت قائمة مقام شهادة اربعة من الرجال لكن لا يحصل به القطع بتحقق الزنى - وفي قيام شهادته مقام شهاداتهم شبهة فيندرئ بها حد القذف ولا يثبت بها حد الزنى لانها يندرئ بالشبهات لانا نقول لا شبهة في قيام شهاداته مقام شهاداتهم لثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع والقطع بتحقق الزنى كما لا يحصل بشهاداته الأربع كذلك لا يحصل بشهادة اربعة من الرجال لجواز تواطئهم على الكذب والخبر لا يوجب القطع ما لم يبلغ درجة التواتر أو يكون(1/4579)
المخبر معصوما - والحكم بعد شهادة رجلين أو اربعة امر تعبدى ليس
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 463
مبناه على القطع بل على غلبة الظن - وغلبة الظن هاهنا فوق غلبة الظن في شهادة اربعة من الرجال بواسطة تأكد شهاداته باليمين والتزام اللعنة مع كونه عدلا جائز الشهادة وبامتناع المرأة من اللعان - الا ترى ان توافق الاربعة على الكذب اقرب عند العقل من امتناع المرأة عن اللعان على تقدير كذب الزوج مع اعتقادها بسقوط الرجم عنها ودفع العذاب باللعان - والمراد بالشبهة الّتي تندرئ به الحدّ شبهة سوى هذه الشبهة الّتي لم يعتبرها الشرع من احتمال كذب الشهود الاربعة وكذب الزوج مع لعانه وامتناعها من اللعان - فالراجح عندى في اشتراط اهلية الشهادة في الزوج وكون المرأة ممن يحد قاذفها قول أبى حنيفة رحمه اللّه - وفي وجوب حد الزنى بعد امتناع المرأة من اللعان قول الشافعي ومن معه واللّه اعلم (مسئلة) قد مر فيما سبق ان بلعان الرجل وحده يقع الفرقة بين الزوجين عند الشافعي وهذا امر لا دليل عليه - وقال زفروبه قال مالك وهو رواية عن احمد انه يقع الفرقة بتلا عنهما من غير قضاء القاضي وعند أبى حنيفة وصاحبيه واحمد لا تقع بعد تلاعنهما حتى يفرق الحاكم بينهما ويحب على الحاكم تفريقهما - والفرقة تطليقة بائنة عند أبى حنيفة ومحمد وعند أبى يوسف وزفر ومالك والشافعي واحمد فرقه فسخ وجه قولهم جميعا ان بالتلاعن يثبت الحرمة المؤبدة كحرمة الرضاع - كما في الصحيحين عن ابن عمر انه صلى اللّه عليه وسلم قال للمتلاعنين حسابكما على اللّه أحد كما كاذب لا سبيل لك عليها - قال يا رسول اللّه مالى قال لا مال لك ان كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وان كنت كذبت عليها فذلك ابعدوا بعد لك منها - وما رواه أبو داود في حديث سهل بن سعد مضت السنة في المتلاعنين ان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان ابدا وكذا روى الدار قطنى عن على وابن مسعود - قال الحافظ(1/4580)
ابن حجر وفي الباب عن على وعمر وابن مسعود في مصنف عبد الرزاق وابن أبى شيبة وروى أبو داود في حديث ابن عباس في اخر قصة هلال بن امية انه صلى اللّه عليه وسلم فرق بينهما
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 464
و قضى بان لا ترمى ولا ولدها
- وفي الصحيحين عن ابن عمران رجلا لا عن امرأته على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ففرق عليه السلام بينهما والحق الولد بامه - واصرح دليل على قول الجمهور ان الفرقة ليست فرقة طلاق ما أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عباس في قصة هلال بن امية انه قال قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ليس لها عليه قوت ولا سكنى من أجل انهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها قالوا إذا ثبت بعد التلاعن الحرمة المؤبدة فلا حاجة إلى تفريق القاضي وأيضا الحرمة المؤبدة تنافى النكاح كحرمة الرضاع فتنفسخ - وقال أبو حنيفة ان ثبوت الحرمة لا يقتضى فسخ النكاح الا ترى انه بالظهار يثبت الحرمة ولا ينفسخ النكاح غير انه إذا ثبت الحرمة عجز الزوج عن الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان فإذا امتنع منه ناب القاضي منا به دفعا للظلم دل عليه ما رواه الشيخان في حديث سهل بن سعد انه قال عويمر بعد ما تلاعنا كذبت عليها يا رسول اللّه ان أمسكتها فطلقها ثلاثا ولم ينكر عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم في التطليق - وروى الدار قطنى بسنده من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا - وقد طعن الشيخ أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكن قال صاحب التنقيح اسناده جيد ومفهوم شرطه يستلزم انهما لا يفترقان بمجرد اللعان وهو حجة على الشافعي على مقتضى رأيه وما قال ابن عباس قضى رسول اللّه ص لى اللّه عليه وسلم ان ليس لها قوت ولا سكنى من أجل انهما يفترقان بغير طلاق فهذا زعم من ابن عباس وانما المرفوع القضاء بعدم النفقة والسكنى - قلت(1/4581)
الحرمة بعد التلاعن ثبتت بالإجماع اما عند الشافعي وزفر ومن معهما فظاهر وامّا عند أبى حنيفة فلانه لو لا الحرمة فلا وجه لتفريق النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا موجب لقول أبى حنيفة ثم يفرق القاضي وهذه الحرمة ليست كحرمة الظهار نكونها منتهية بالكفارة بل هى حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع ولا شك ان الحرمة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 465(1/4582)
المؤبدة تنافى النكاح بخلاف المؤقتة فينفسخ ولا يحتاج إلى قضاء القاضي يدل عليه ما قال ابن همام انه يلزم على قول أبى يوسف انه لا يتوقف على تفريق القاضي لان الحرمة ثابتة قبله اتفاقا - وقوله امتنع عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التسريح - يقتضى ان يأمر القاضي الزوج بعد اللعان ان يطلقها فان امتنع من التطليق بفرق القاضي بينهما ولم يقل به أحد ولم يرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم امره بالتطليق وقول ابن عباس في حكم الرفع لكونه عالما بكيفية قضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واما قول عويمر فمحمول على عدم علمه بوقوع الفرقة باللعان ومفهوم الشرط وان كان حجة عند الشافعي لكن يترك العمل به للقطع على ثبوت الحرمة المؤبدة - أو يقال معنى قوله المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا إذا افترقا من التلاعن أى فرغا كما قال أبو حنيفة في تأويل قوله صلى اللّه عليه وسلم المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا حيث قال المراد بالتفرق تفرق الأقوال مسئلة إذا أكذب الزوج نفسه بعد التلاعن هل يجوز له ان يتزوجها قال الشافعي ومالك واحمد إذا أكذب نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيماله فيلزمه حد القذف ويلحقه الولد ولا يرتفع التحريم المؤبد فلا يجوز له التزوج - وقال أبو حنيفة وهو رواية عن احمد انه جلد وجاز له ان يتزوجها لأنه لمّا حد لم يبق أهلا للعان فارتفع حكمه المنوط به وكذلك ان قذف غيرها فحدّ به وكذا إذا زنت فحدت لانتفاء اهلية اللعان من جهتها - قلنا زوال اهلية اللعان لا يقتضى نفى اللعان من أصله الا ترى انه من قذف غيره فحدّ حدّ القذف ثم زنى المقذوف وحدّ حدّ الزنى لا يقبل شهادة القاذف بعد ذلك مع زوال اهلية المقذوف لان يحد قاذفه - قالت الحنفية معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم المتلاعنان لا يجتمعان ابدا لا يجتمعان ماداما متلاعنين كما هو مفهوم العرفية قلنا معنى العرفية لا يتصور الا إذا كان العنوان وصفا قارّا(1/4583)
و التلاعن وصف غير قار فلا يمكن الحكم بشرط الوصف بل المراد الذان صدر منهما اللعان في وقت من الأوقات لا يجتمعان
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 466
بعد ذلك ابدا - والقول بان معنى الحديث لا يجتمعان ماداماهما
على تكاذبهما مصادرة على المطلوب واللّه اعلم (مسئلة) ولو كان القذف بنفي الولد نفى القاضي نسبه عنه والحقه بامه ويتضمنه القضاء بالتفريق عند من يشترط له القضاء ويقول في اللعان اشهد باللّه انى لمن الصادقين فيما رميتك به من نفى الولد وكذا في جانب المرأة ولو قذفها بالزنى ونفى الولد ذكر في اللعان أمرين ثم ينفى القاضي نسب الولد ويلحقه بامه لحديث ابن عمران النبي صلى اللّه عليه وسلم لاعن بين الرجل وامرأته فانتفى من ولدها ففرق بينهما والحق الولد بالمرأة متفق عليه (مسئلة) وإذا قال الزوج ليس حملك منى فلا لعان عند أبى حنيفة وزفر واحمد لعدم تيقن الحمل عند نفيه فلم يصر قاذفا وقال مالك والشافعي يلاعن لنفى الحمل وقال أبو يوسف ومحمد إذا جاءت بالولد لاقل من ستة أشهر وجب اللعان - ومقتضى هذا القول انه يؤخر الأمر إلى ان تلد فان ولدت لاقل من ستة أشهر وجب اللعان والا فلا وقد ورد في بعض طرق قصة هلال ما يدل على ان اللعان كان بعد الولادة روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس في قصة هلال فقال عليه السّلام اللهم بين ووضعت شبيها بالذي ذكر زوجها انه وجد عند اهله فلا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وجه قول مالك والشافعي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم فرق بين هلال وزوجته وقضى ان لا يدعى ولدها لاب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد قال عكرمة وكان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لاب - وهذا لفظ أبى داود وفي اكثر الطرق ان امراة هلال كانت حاملا حين لاعنت وروى النسائي عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حبلى - و(1/4584)
اخرج عبد الرزاق هكذا أيضا وقال زوجها ما قربتها منذ عفار النخل وعفار النخل انها لا تسقى بعد الآبار شهرين فقال عليه السّلام
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 467
اللهم بيّن فجاءت بولد على الوجه المكروه وبهذا يظهر جواز اللعان بنفي الحمل وأجيب بان اللعان انما ثبت لان هلالا رماها بالزنى لا بنفي الحمل وما ورد في رواية وكيع عند احمد انه لاعن هلال بالحمل فقد أنكره احمد وقال انما وكيع اخطأ فقال لاعن بالحمل وانما لاعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما جاء فشهد بالزنى ولم يلاعن بالحمل قلت والظاهر انه رماها بكلا الامرين كما يدل عليه ما ذكر البغوي عن ابن عباس وقتادة - ولو كان رماها بالزنى فحسب لم ينف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه الولد مع احتمال كون العلوق بوطي اخر من هلال غير وطى الزاني فبحديث هلال لا يثبت جواز اللعان بنفي الحمل فقط - وكذا قول ابن عباس لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حبلى لا يدل على ان الرمي كان بنفي الحمل فقط - بل ما روى ابن سعد في الطبقات في ترجمة عويمر عن عبد اللّه بن جعفر قال شهدت عويمر بن الحارث العجلاني وقد رمى امرأته بشريك بن سمحا وأنكر حملها فلا عن بينهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهى حامل فرايتهما يتلاعنان قائمين عند المنبر ثم ولدت فالحق الولد بالمرأة وجاءت به أشبه الناس بشريك بن سمحا - وكان عويمر قد لامه قومه وقالوا امراة لا نعلم عليها الا خيرا فلما جاءت بشبه بشريك عذر الناس - وعاش المولود سنتين ثم مات وعاشت امه بعده يسيرا وصار شريك بعد ذلك عند الناس بحال سوء يدل على انه رمى امرأته بالزنى وأنكر حملها مع ذلك - ووجه قول أبى يوسف ومحمد انه إذا نفى الحمل وجاءت بالولد لاقل من ستة أشهر ظهر وجود الحمل عند الرمي فتحقق القذف عنده فيلاعن عليه - قال أبو حنيفة إذا لم يكن قذفا في الحال صار كالمعلق بالشرط كأنَّه قال ان كنت حاملا فليس حملك منى و(1/4585)
القذف لا يصح تعليقه بالشرط - (مسئلة) ولو قال زنيت وحملك من الزنى تلاعنا اجماعا لوجود القذف حيث ذكر الزنى صريحا ولا ينفى القاضي الحمل عند أبى حنيفة رحمه اللّه - وقال الشافعي ينفيه لان النبي صلى اللّه عليه وسلم نفى الولد عن هلال وقد قذفها حاملا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 468
قال أبو حنيفة الاحكام لا يترتب عليه الا بعد الولادة
فتمكن الاحتمال قبله والحديث محمول على ان النبي صلى اللّه عليه وسلم عرف وجود الحمل بطريق الوحى - قلت وهذا القول بعيد جدّا لان النبي صلى اللّه عليه وسلم انما كان يحكم على ظاهر الأمر حتى يقتدى به ولم يكن يحكم بالحكم الحاصل بالوحى والا لم يقل أحد كما كاذب ويحكم بكذب واحد معين بالوحى.
((1/4586)
مسئلة) إذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة فعند الشافعي ان نفى حين سمع الولادة فورا صح نفيه ولاعن به وان سكت ثم نفى لاعن وثبت النسب وقال أبو حنيفة صح نفيه حالة التهنئة ولم يعين لها مدة في ظاهر الرواية وذكر أبو الليث عن أبى حنيفة تقديرها بثلاثة ايام وروى الحسن عنه سبعة ايام وقال أبو يوسف ومحمد صح نفيه في مدة النفاس وكان القياس ان لا يجوز النفي الا فورا لان السكوت دليل الرضا الا انا استحسّنا جواز تأخيره مدة يقع فيها التأمل لئلا يقع في نفى ولده عن نفسه أو استلحاق ولد غيره بنفسه وكلاهما حرام - عن أبى هريرة انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول لما نزلت اية الملاعنة ايّما امراة ادخلت على قوم من ليس منهم فليست من اللّه في شيء ولن يدخلها اللّه جنته وايّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه منه يوم القيامة وفضحه على رءوس الأولين والآخرين - رواه أبو داؤد والنسائي والشافعي وابن حبان والحاكم وصححه الدار قطنى وفي الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص وابى بكرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم انه غير أبيه فالجنة عليه حرام (مسئلة) لو كان الزوج غائبا يعتبر المدة الّتي ذكرناها على الأصلين بعد قدومه فعندهما قدر مدة النفاس وعنده قدر مدة قبول التهنية (مسئلة) جاز للزوج قذف زوجته علم زناها أو ظنه ظنّا مؤكدا كشياع زناها بزيد مع قرينة بان راهما في خلوة لو أتت بولد علم انه ليس منه بان - لم يطأها - أو
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 469
ولدت لدون ستة أشهر من وقت وطيها أو فوق سنتين - ولو ولدت لما بينهما ولم تستبرئى بحيضة حرم النفي - ولو ولدت لفوق ستة أشهر من الاستبراء حل النفي - (مسئلة) ولو وطى وعزل أو علم زناها واحتمل كون الولد منه ومن الزنى حرم النفي واللّه اعلم.(1/4587)
وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يا أمة محمّد وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يعود بالرحمة على من يرجع من المعاصي بالندم والاستغفار حكيم (10) فيما فرض عليكم من الحدود وفي غيرها جواب لو لا محذوف لتعظيمه أى لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة واللّه اعلم أخرج الشيخان وغيرهما عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قال لها أهل الافك ما قالوا فبرّاها اللّه مما قالوا وكلّ حدثنى طائفة من الحديث وبعض حديثهم يصدق بعضا وان كان بعضهم اوعى له من بعض - الّذي حدثنى عروة ان عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فايّتهن خرج سهمها خرج بها فاقرع بيننا في غزوة « 1 » غزاها فخرج سهمى فخرجت وذلك بعد ما نزل الحجاب فكنت احمل في هودجى وانزل فيه - فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين اذن ليلة بالرحيل فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش - فلمّا قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى فلمست صدرى فإذا عقد من جزع اظفار « 2 » قد انقطع فرجعت فالتمست عقدى فجسنى ابتغاؤه
_________
(1) هى غزوة بنى المصطلق في السنة السادسة - الفقير الدهلوي -
(2) الأظفار جنس من الطيب لا واحد له من لفظه وقيل واحده ظفر وقيل هو من العطر اسود والقطعة منه شبهة بالظفر وجزع اظفار هكذا روى وأريد به العطر المذكور كان يؤخذ ويثقب ويجعل في العقد والقلادة - والصحيح في الروايات انه من جزع ظفار بوزن قطام وهى اسم مدينة لحمير باليمن - والجزع ظفار الخرز اليماني - نهاية - حاصل انكه جزع ظفار ظفار الطيبة يعنى وجزع اظفار عقيق يمانى - 12 منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 470(1/4588)
و اقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى فحملوا هودجى فرحلوه على بعيري الّذي اركب عليه وهم يحسبون انى فيه - وكان النساء إذ ذك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم انما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رحلوه ورفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا - ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيمت منزلى الّذي كنت فيه فظننت ان القوم سيفقدونى فيرجعون الىّ - فبينما انا جالسة في منزلى غلبتنى عينى فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمى ثم الذكوانى قد عرس وراء الجيش فادلج فاصبح عند منزلى فراى سواد انسان نائم فعرفنى حين راتى وكان رانى قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى فخمرت وجهى بجلبابي - واللّه ما كلمنى كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وقد أناخ راحلته فوطى على يدها فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى اتينا الجيش بعد ما نزلوا موعرين « 1 » فى نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأنى وكان الّذي تولّى كبر الافك عبد اللّه بن أبيّ بن سلول فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا والناس يفيضون في قول أهل الافك ولا أشعر بشيء من ذلك - وهو يريبنى في وجعي ان لا اعرف من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللطف الّذي كنت ارى منه حين اشتكى انما يدخل علّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف يتكم ثم ينصرف فذلك يريبنى ولا أشعر بالسرّ حتى خرجت حين نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا وكنا لا نخرج الا ليلا وذلك قبل ان يتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا امر العرب الأول في البرية قبل الغائط فكنا نتاذّى بالكنف ان نتخذها عند بيوتنا - قالت فانطلقت انا وأم مسطح (و هى ابنة أبى دهم بن عبد مناف
_________
((1/4589)
1) وفي الصحيح للبخارى رحمه اللّه موغرين بالغين المعجمة لا بالعين المهملة قال في مجمع البحار موغرين من وغرت الهاجرة وأوغر الرجل دخل في ذلك الوقت ووغر صدره إذا اغتاظ أو حمى واوغره غيره قال وروى موعرين بعين مهملة على ضعف انتهى الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 471
و أمها بنت صخر بن عامر خالة أبى بكر الصديق وابنها مسطح بن اثاثة) فاقبلت انا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا - فعثرت أم مسطح في من طها قبل المناصع فقالت تعس « 1 » مسطح فقلت لها بئس ما قلت ا تسبين رجلا شهد بدرا قالت أبى بنتاه الم تسمعى ما قال قلت ما ذا قال فاخبرتنى بقول أهل الافك فازددت مرضا إلى مرضى - فلما رجعت إلى بيتي ودخل علّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلم ثم قال كيف تيكم قلت أ تأذن لى ان اتى ابوىّ - وانا أريد ان أتيقن الخبر من قبلهما فاذن لى فجئت أبوي وقلت لامّى يا أماه ماذا يتحدث الناس - فقالت يا بنية هونى عليك فو اللّه لقل ما كانت امراة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها قلت سبحان اللّه وقد تحدث الناس بهذا فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لايرقألى دمع ولا اكتحل بنوم ثم أصبحت ابكى - ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علىّ بن أبى طالب واسامة بن زيد حسين استلبث الوحى يستشيرهما في فراق اهله - فامّا اسامة فاشار عليه بالذي يعلم من براءة اهله وفي رواية وبالذي يعلم بهم في نفسه من الود فقال اسامة يا رسول اللّه « 2 » أهلك ولا نعلم الا خيرا - واما علىّ فقال لم يضيق اللّه عليك والنساء سواها كثيرة وان تسئل الجارية تصدقك - فدعا بريرة فقال أى بريرة هل رأيت من شيء يربيك من عائشة قالت له بريرة والّذي بعثك بالحق ما رايت عليها امرا قط أغمصه عليها اكثر من انها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتاكله قالت فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المنبر فاستعذر « 3 » من عبد(1/4590)
اللّه بن أبيّ فقال يا معشر المسلمين من يعذرنى « 4 » من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو اللّه ما علمت على أهلي الا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا وما يدخل على أهلي الا معى قالت فقام سعد بن معاذ رضى اللّه عنه (أخو بنى عبد الأشهل) يا رسول اللّه انا عذرك « 5 »
_________
(1) فى مجمع البحار تعس مسطح أى عثروا نكب لوجهه هو بفتح عين وكسرها انتهى الفقير الدهلوي -
(2) أهلك بالنصب أى امسك أهلك أو بالرفع أى هم أهلك - الفقير الدهلوي -
(3) فاستعذر. [.....]
(4) من يعذرنى من رجل.
(5) انا أعذرك - يعنى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بقوم يعذرى ان كافاته على سوء صنيعه فلا يلومنى فقال سعد انا - نهاية منه رحمه اللّه تعالى -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 472(1/4591)
فان كان من الأوس اضرب عنقه وان كان من إخواننا من الخزرج امرتنا ففعلنا أمرك - قالت وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج - قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر « 1 » اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من أهلك ما احسب ان تقتله - فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر اللّه لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين - فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا ان يقتتلوا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم على المنبر - قالت فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت - قالت فبكيت يومى ذلك لا يرقألى دمع ثم بكيت تلك الليلة لا يرقألى دمع ولا اكتحل بنوم وأبواي يظنان ان البكاء فالق كبدى - فبينماهما جالسان عندى وانا ابكى استأذنت علىّ امراة من الأنصار فاذنت لها فجل ست تبكى معى - ثم دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلم ثم جلس قالت ولم يجلس عندى منذ قيل لى ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأنى شيء - قالت فتشهد ثم قال اما بعد يا عائشة فانه قد بلغني عنك كذا وكذا فان كنت بريّة فسيبرئك اللّه وان كنت ألممت بذنب فاستغفرى اللّه ثم توبى إليه فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب اللّه عليه - فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحس منه قطرة فقلت لالى أجب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما قال فقال واللّه ما أدرى ما أقول فقلت لامى أجيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت واللّه ما أدرى ما أقول فقلت (و انا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيرا من القرآن) واللّه لقد عرفت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم انى بريّة واللّه يعلم انى برية لا تصدقونى ولان اعترفت لكم بامر واللّه يعلم انى منه بريّة لتصدقونى و(1/4592)
اللّه لا أجد لى ولكم مثلا الا كما قال أبو يوسف فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون
_________
(1) لعمر اللّه قال القسطلاني هو بفتح العين أى وبقاء اللّه انتهى الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 473
ثم تحولت فاضطجعت على فراشى - قالت وانا حينئذ اعلم انى بريّة وان اللّه مبرئنى ببراءتي ولكن ما كنت أظن ان اللّه منزل في شأنى وحيا يتلى ولشأنى في نفسى كان احقر من ان يتكلم اللّه فيّ بامر يتلى ولكن أرجو ان يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النوم رويا يبرئنى اللّه بها - فو اللّه ما رام « 1 » رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى انزل اللّه على نبيه فاخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات من ثقل القول الّذي ينزل عليه - فلمّا سرى عنه سرى عنه وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها ان قال أبشري يا عائشة اما اللّه فقد براك - فقالت لى أمي قومى إليه فقلت واللّه لا أقوم إليه ولا احمد الا اللّه وهو الّذي انزل براءتي - وانزل اللّه.(1/4593)
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عشر آيات والافك ابلغ ما يكون من الكذب وهو في الأصل الصرف والقلب وذلك ان عائشة كانت تستحق الثناء والدعاء لما كانت عليه من الحصانة والشرف ولما كانت بنتا للصديق زوجا للرسول صلى اللّه عليه وسلم امّا للمؤمنين واجبة الإكرام والاحترام فمن رماها بسوء قلب الأمر عن وجهه غاية القلب عُصْبَةٌ وهى جماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين لا واحد لها من لفظها كذا في النهاية مِنْكُمْ يعنى من المؤمنين روى البخاري وغيره عن عائشة كانت تقول اما زينب بنت جحش فعصمها اللّه بدينها لم تقل الا خيرا واما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك - وكان الّذي يتكلم مسطح وحسان بن ثابت وعبد اللّه بن أبى المنافق وهو الّذي كان يستوشيه ويجمعه - وقال البغوي قال عروة لم يسم من أهل الافك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن اثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لى بهم غير انهم عصبة كما قال اللّه تعالى - قال عروة وكانت عائشة تكره ان يسب عندها حسان وتقول انه الّذي قال شعر.
فانّ أبى وأمي وأولادي وعرضى لعرض محمد منكم وفاء « 2 »
_________
(1) ما رام أى ما فارق مجلسه - قسطلانى - الفقير الدهلوي.
(2) الصحيح من الرواية
فان أبى ووالدتي وغرضى لعرض محمّد منكم وقاء
- الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 474(1/4594)
لا تَحْسَبُوهُ خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين غير العصبة فان شتم عائشة كان راجعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيسوءه ويسوع جميع المؤمنين فانه كان أبوهم صلى اللّه عليه وسلم يعنى لا تزعموه شَرًّا لَكُمْ حيث يأمركم على ذلك ويظهر كرامتكم على اللّه وينزل على رسوله في براءتها وتعظيم شأنها وتهويل الوعيد لمن تكلم بالإفك ما يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة - وجملة لا تَحْسَبُوهُ مستأنفة كانّه في جواب ما شأن هذا الافك - أو معترضة للتسلية لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أى من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أى جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه كان بعضهم افترى وأحب ان يشيع وبعضهم تكلم به بعد ما سمع من غيره وبعضهم ضحك ولم يتكلم وبعضهم سكت من غير رد - الموصول واعل للظرف أو مبتدا خبره الظرف المقدم عليه والجملة صفة لعصبة وخبر ثان لان - قال البغوي روى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم امر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا تمانين ثمانين - قلت فالحد والفضيحة جزاؤهم في الدنيا وجزاؤهم في الاخرة على ما أراد اللّه تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ قرأ يعقوب بضم الكاف والعامة بكسرها قال الكسائي هما لغتان أى تحمّل معظمه يعنى بدأ به واذاعه عداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتعييرا للمؤمنين - قال البغوي روى الزهري عن عائشة وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) قالت هو عبد اللّه بن أبى ابن سلول والعذاب العظيم هو النار في الاخرة - وروى ابن أبى مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الافك قالت ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم ان ينزلوا منتبذين من الناس فقال عبد اللّه بن أبيّ رئيسهم من هذه قالوا عائشة قال واللّه ما نجت منه وما نجا منها وقال امراة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها - وقيل المراد بالّذى تولّى(1/4595)
كبره عبد اللّه بن أبيّ بن سلول وحسان ومسطح وحمنة وهذا القول ضعيف ولو كان كذلك لقال اللّه تعالى والّذين تولّوا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 475
كبره وأيضا كان مسطح وحسان ممن شهد بدرا وقد غفر اللّه لاهل بدر ما تقدم من ذنبهم وما تأخر وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاهل بدر اعملوا ما شئتم فان اللّه قد غفر لكم وقد قال اللّه تعالى في حق جميع الصحابة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعنى الجنة - وهذه الآية لا ينافى العذاب لان دخول الجنة قد يكون بعد التعذيب - وقال قوم هو حسان بن ثابت روى البخاري عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشرها شعرا يشبب بأبيات له شعر
حصان « 1 » رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها لم تأذني « 2 » له ان يدخل عليك وقد قال اللّه وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ - قالت واىّ عذاب أشد من العمى وقد كان يرد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعنى كان يهجو المشركين إذا كانوا يهجون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وعلى هذا المراد بالعذاب العظيم عذاب الدنيا ولكن الصواب هو الأول - .
لَوْ لا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أى حديث الافك من المنافقين أيها العصبة المؤمنة ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ أى باهل دينهم من المؤمنين والمؤمنات يعبر من أهل الدين بالأنفس كما في قوله تعالى لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وقوله تعالى لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقوله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وقوله تعالى فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ - لان المؤمنين واهل كل دين من الأديان كنفس واحدة خَيْراً كان حق الكلام لو لا إذ سمعتموه ظننتم بانفسكم خيرا فعدل من الخطاب
_________
((1/4596)
1) الحصان المرأة العفيفة - الرزان امراة ذات ثبات ووقار وسكون - والرزانة في الأصل الثقل لا تزن أى لاتتهم والزنة التهمة - غرثى المرأة الجائعة - يعنى زنيست عفيفه با وقار وسكينه تهمت كرده نميشود بچيزى كه موجب شك باشد وصبح مى كند در حاليكه خاليست شكم أو از گوشت زنان غافلات يعنى غيبت هيچكس نميكند - 12 منه رحمه اللّه
(2) وفي الصحيح للبخارى قلت (اى قال مسروق قلت لعائشة) تدعين (بحذف همزة الاستفهام أى اتتركين) فما قاله المفسر رحمه اللّه تعالى لا يستقيم بوجه لان لم الاستفهامية لا تجزم المضارع وعلى جعل قوله لم تأذني نهيا لا يمكن ان تقام لم الجازمة مقام لا للنهى فالاولى ان يقال ان الصحيح من المفسر رحمه اللّه تعالى لم تأذنين استفهام والغلط من الناسخ واللّه تعالى أعلم - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 476
الى الغيبة مبالغة في التوبيخ واشعارا بان الايمان يقتضى حسن الظن بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبون عن أنفسهم - وانما جاز الفصل بين لو لا وفعله بالظرف لأنه نازل منزلته من حيث انه لا ينفك عنه ولذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره - وانما قدم الظرف لان ذكر الظرف أهم فان التخصيص على ان لا يخلوا باوله وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) كما يقول المستيقن المطلع على الحال لان الايمان سبب للمدح والتعظيم - فمن اتى بالسبّ والطعن فقد افك الأمر وقلّبه وصار عاصيا فاسقا بالافتراء أو الغيبة وشهادة الفاسق غير مقبولة - (مسئلة) من لههنا يظهران حسن الظن بالمؤمنين واجب لا يجوز تركه ما لم يظهر بدليل شرعى خلاف ذلك.(1/4597)
لَوْ لا هلا جاؤُ عَلَيْهِ أى على ما زعموا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ حتى يجب الحد على المقذوف فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الاربعة فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) فى ادعائهم الحسبة فان من رمى أحدا بالفاحشة فان اتى بالشهداء (حتى حد المقذوف) يحتمل كون إرادته بالرمي الزجر عن المعاصي وان لم يأت بالشهداء فلا وجه لقذفه الا اشاعة الفاحشة على المسلم دون اقامة حد شرعى فهو كاذب في دعواه الحسبة - وقيل معنى الآية فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أى في حكمه وشريعته كاذبون حتى أوجب عليهم حد القذف فعلى هذا الظرف متعلق بمضمون قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ والمعنى فاذ لم يأتوا باربعة شهداء يقام عليهم الحد لكونهم من الكاذبين حكما - قال البغوي روى عن عائشة انه لما نزلت هذه الآيات حدّ النبي صلى اللّه عليه وسلم اربعة نفر عبد اللّه بن أبيّ وحسان بن ثابت ومسطح بن اثاثة وحمنة بنت جحش.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 477(1/4598)
وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا بانواع النعم الّتي من جملتها التوفيق للاسلام وادراك صحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم الّتي هى مانعة من نزول العذاب والامهال والتوبة وَلو لا فضله ورحمته في الْآخِرَةِ حتى وعدكم فيها بالعفو والمغفرة والحسنى إلى الجنة لَمَسَّكُمْ أيها العصبة في الدنيا والاخرة فِيما أَفَضْتُمْ أى لاجل ما خضتم فِيهِ من الافك قيل الافاضة بمعنى الاشاعة يقال خبر مستفيض أى شائع عَذابٌ عَظِيمٌ (14) كما مس عادا وثمود وقوم لوط والمؤتفكات في الدنيا ما أوجب الاستيصال وفي الاخرة ما لا انقطاع له ولا عذاب فوقه - لهذه الآية في شأن المؤمنين من أهل الافك وبهذا يظهر ان قوله تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ محض باهل النفاق منهم وهو عبد اللّه بن أبيّ ومن كان معه من المنافقين كزيد بن رفاعة فان لو لا لامتناع الشيء لوجود غيره - فهذه الآية تدل على امتناع العذاب لوجود الفضل والرحمة وقوله تعالى والّذي تولى كبره يدل على ثبوت العذاب لهم.(1/4599)
إِذْ ظرف لمسكم أو أفضتم تَلَقَّوْنَهُ حذفت احدى التاءين من تتلقونه بِأَلْسِنَتِكُمْ أى يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال الكلبي وذلك ان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يعنى فماذا شأنه فيتلقونه تلقيا - وقال مجاهد يرويه بعضهم من بعض وقال الزجاج تلقه بعضكم من بعض وقرات عائشة إذ تلقونه بكسر اللام وتخفيف القاف من ولق يلق ولقا بمعنى الكذب وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أى تقولون كلاما مختصّا بالأفواه لا مصداق لها في الخارج وليس لكم به علم لان العلم فرع الوجود في الخارج وَتَحْسَبُونَهُ أى خوضكم في الافك هَيِّناً سهلا لا تبعة له وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) يعنى والحال انه عند اللّه عظيم في الوزر واستجرار العذاب فان قذف المحصنات من كبائر الذنوب وعامة العذاب بما صدر من الألسن لا سيما ما فيه هتك هرمة الرسول - عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلنى الجنة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 478
و يباعدنى من النار قال لقد سالت عن عظيم وانه ليسير على من يسر اللّه عليه تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلوة الرجل في جوف الليل ثمّ تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون ثم قال أ لا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول اللّه قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول اللّه فاخذ بلسانه وقال كف عليك هذه قلت يا نبىّ اللّه وانّا مواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم رواه احمد والترمذي وابن ماجة - .(1/4600)
وَ لَوْ لا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أيها المؤمنون هذا الافك والكلام الباطل من المنافقين قُلْتُمْ ردّا عليهم فصل بين لو لا وفعله بالظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره وفائدة تقديم الظرف بيان ان الواجب هذا القول على فور الاسماع بالإفك فلما كان ذكر الوقت أهم قدم به ما يَكُونُ لَنا أى ما يصح ولا ينبغى لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا يجوز ان يكون الاشارة بهذا إلى المخصوص وان يكون إلى نوعه - فان تعرض « 1 » الصديقة بنت الصديق حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشد على النفوس السليمة مع ان قذف أحد من المحصنين محرم شرعا يوجب الفسق والجلد ورد الشهادة ابدا سُبْحانَكَ اللهم يعنى تنزه للّه تعالى من ان يكون حرم نبيه فاجرة فان فجورها يرجع بالسوء والسباب إلى الزوج - والنبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب ان لا يكون معه ما ينفرهم عنه فجاز ان يكون امراة النبي كافرة كما كانت امراة نوح وامراة لوط عليهما السّلام ولا يجوز ان يكون فاجرة فهذا تقرير لما قبله وتمهيد لقوله هذا بُهْتانٌ أى زور يبهت من يسمع عَظِيمٌ (16) لعظمة المبهوت عليه
_________
(1) هكذا في الأصل ولعل الأحسن فان التعريض أو التعرض بالصديقة إلخ الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 479
فان حقارة الجنايات وعظمها باعتبار المجنى عليه.(1/4601)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ الوعظ زجر مقترن بتخويف وقال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يعنى يذكركم اللّه عقابه ويخوفكم في أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ لمثل هذا القول القبيح واستماعه أَبَداً ما دمتم احياء أو المعنى يزجركم ويخوفكم من مثل هذا القول كراهة ان تعودوا لمثله ابدا وقال مجاهد ينهاكم اللّه ان تعود والمثلة ابدا وجملة يعظكم صفة لبهتان عظيم أو معترضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مؤمنين فاتعظوا ولا تعود والمثلة ابدا فان الايمان يمنع عنه فمن سبّ عائشة وهم الروافض ليسوا مؤمنين.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الشرائع من الأوامر والنواهي ومحاسن الآداب والأخلاق وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمحاسن والمقابح فيأمر بالمحاسن وينهى عن المقابح أو عليم بالأحوال كلها بامر عائشة وبراءتها وامر القاذفين وكذبهم حَكِيمٌ (18) فى تدابيره لا يجوز نسبة السوء إلى نبيه ولا يقرره عليها.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ وهى ما قبح جدّا فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بالحد وَالْآخِرَةِ بالنار وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في الضمائر من الحسبة أو اشاعة الفاحشة فيعذب من يريد اشاعة الفاحشة وَأَنْتُمْ أيها الناس لا تَعْلَمُونَ (19) ذلك فعليكم اتباع ظاهر الأمر فمن قذف وكان له شهود اربعة فاحسنوا الظن به واعلموا انه انما اظهر امر الزنى حسبة لاقامة حد من حدود اللّه واخلاء العالم عن الشر - ومن لم يجد الشهود فاعلموا انه يحب اشاعة الفاحشة حيث لا يمكنه اقامة الحد فعذبوه بحدّ القذف وهو في حكم اللّه من الكاذبين حتى أوجب عليه حدّ المفترين وان كان صادقا في الواقع.(1/4602)
وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أيها المؤمنون الخائضون في امر عائشة وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) بكم لعذبكم في الدنيا بالاستيصال وفي الاخرة بالنار - المؤبدة لكن اللّه غفركم ببركة صحبة نبيه صلى اللّه عليه وسلم مع الايمان حذف جواب لو لا استغناء بذكره مرة وكرر التخويف والامتنان للدلالة على
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 480
عظم الجريمة - قال ابن عباس أراد اللّه سبحانه بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الآية عبد اللّه بن أبى وأصحابه من المنافقين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا الحد وفي الاخرة النار المؤبدة وأراد بقوله.
وَلَوْ لا ف َضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
مسطحا وحسان وحمنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أى اثاره باشاعة الفاحشة قرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة خطوات بسكون الطاء والباقون بضمها وقرئ بفتح الطاء وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أى ما أفرط قبحه عقلا ونقلا وَالْمُنْكَرِ أى ما أنكره الشرع - بيان لعلة النهى عن اتباعه وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أيها المؤمنون من العصبة بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها ما زَكى ما طهر من معصية الافك مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ... من زائدة ومحله الرفع أَبَداً اخر الدهر وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بحمله على التوبة وقبولها وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ (21) بنياتهم روى الشيخان وغيرهما في حديث الافك قال أبو بكر الصديق (و كان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه وفقره) واللّه لا أنفق على مسطح شيئا ابدا بعد الّذي قال لعائشة ما قال فانزل اللّه تعالى.(1/4603)
وَ لا يَأْتَلِ أى لا يحلف افتعال من الالية بمعنى القسم أو المعنى لا يقصر من الألو بمعنى التقصير - والاولى هاهنا معنى القسم لما ذكرنا ان أبا بكر كان قد اقسم ويؤيده قراءة أبى جعفر ولا يتالّ بتقديم التاء وتأخير الهمزة من التفعيل « 1 » من الالية أُولُوا الْفَضْلِ في الدين وهو الظاهر كيلا يلزم التكرار بقوله والسّعة ولان النهى انما هو لاهل الفضل في الدين نظرا إلى منزلتهم وفضلهم وإلا فترك بذل ماله في مقابلة الإيذاء ليس بمحرم موثم مِنْكُمْ يعنى أبا بكر وأمثاله وفيه دليل على فضل أبى بكر وشرفه أو المعنى ولا يترك أولوا الفضل منكم وَالسَّعَةِ يعنى الغنا في الدنيا فان النفقة عن ظهر غنى
_________
(1) بل من التفعل كالتجلى والتمني - الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 481(1/4604)
أَنْ يُؤْتُوا أى على ان يؤتوا أو في ان يؤتوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعنى مسطحا وأمثاله فهى صفات لموصوف واحد أى ناسا جامعين لهذه الصفات أو الموصوفين أقيمت الصفات مقام موصوفيها فيكون ابلغ في تعليل المقصود لان مسطحا كان مسكينا مهاجرا بدريّا ابن خالة أبى بكر وَلْيَعْفُوا ما فرط منهم وَلْيَصْفَحُوا بالإغماض عنه أَلا تُحِبُّونَ يا اولى الفضل والسعة أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ما فرطتم في جنب اللّه لاجل عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) مع كثرة آلائه وحقوقه وكمال قدرته على الانتقام فتخلقوا بأخلاقه روى الشيخان وغيرهما في ذلك القصة انه لما نزل هذه الآية قال أبو بكر واللّه انى أحب ان يغفر اللّه لى ورجع إلى مسطح النفقة الّتي كان ينفق عليه قال واللّه لا انزعها منه ابدا عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس الواصل المكافي ولكن الواصل الّذي إذا قطعت رحمه وصلها - رواه البخاري قال ابن عباس والضحاك اقسم ناس من الصحابة منهم أبو بكر ان لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الافك ولا ينفعوهم فانزل اللّه هذه الآية .(1/4605)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ العفيفات الْغافِلاتِ عن الفاحشة اللائي لا تقع الفاحشة في قلوبهن الْمُؤْمِناتِ باللّه ورسوله لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لما طعنوا فيهن كذبا وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) فى نار جهنم ولهذا حكم كل قاذف قذف محصنة مؤمنة غافلة وقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ الآية حكم كل قاذف محصنة غافلة كانت اولا - فالجلد وعدم قبول الشهادة حكم كل قاذف سواء كان في قذفه صادقا لم يجد الشهود أو كان كاذبا واللعن يختص بمن قذف كاذبا فان المقذوفة غافلة عما افترى عليها فان جريمته أعظم واكبر لكنه لا يستلزم الكفر إذ اللعن منها ما يستحقه بعض من ارتكب الكبائر دون الكفر كقاتل النفس عمدا - وقال مقاتل هذا الحكم خاص في عبد اللّه بن أبى ومطمح نظره
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 482(1/4606)
ان اللعن يختص بالكفار أخرج الطبراني عن خصيف قال قلت لسعيد بن جبير أيهما أشد الزنى أو القذف قال الزنى قلت ان اللّه يقول إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قال ذلك لعائشة خاصة - وفي اسناده يحيى الحماني ضعيف وكذا ذكر البغوي عن خصيف وروى عن العوام بن حوشب عن شيخ من بنى كاهل عن ابن عباس قال هذه في شأن عائشة وازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة - ومن قذف امراة مؤمنة فقد جعل اللّه له توبة ثم قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لاولئك توبة - وكذا أخرج الطبراني عن الضحاك بن مزاحم ان الآية في نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة وقال الآخرون نزلت هذه الآية في ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم كان ذلك كذلك حتى نزلت الآية الّتي في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - فانزل اللّه الجلد والتوبة - قلت ومبنى هذه الأقوال أمران أحدهما ان سبب نزول الآية كان قصة الافك وثانيهما ان اللعن لم يرد في شيء من المعاصي غير الكفر لكن خصوص السبب لا يقتضى تخصيص عموم الآية والعبرة لعموم اللفظ - واللعن قد ورد على بعض الكبائر كقتل النفس عمدا وعدم ذكر التوبة والمغفرة في هذه الآية لا يقتضى عدم قبول التوبة وعدم المغفرة مطلقا - وقد قال اللّه تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فلا وجه لتخصيص عموم الآية واللّه اعلم.(1/4607)
يَوْمَ تَشْهَدُ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية لتقدم الفعل والفصل والباقون بالتاء الفوقانية والظرف متعلق بما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) روى ابن جرير وابن أبى حاتم عن أبى موسى الأشعري قال يدعى المؤمن للحساب
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 483(1/4608)
يوم القيامة فيعرض عليه ربّه عمله فيما بينه وبينه فيعترف ويقول أى رب عملت عملت فيغفر اللّه ذنوبه ويستره منها قال فما على الأرض خليقة يرى من تلك الذنوب شيئا وتبدوا حسناته فرووا الناس كلهم يرونها - ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربّه عمله فيجحده فيقول أى رب وعزتك لقد كتب علىّ هذا الملك ما لم اعمل فيقول الملك اما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك فإذا فعل ذلك ختم على فيه قال أبو موسى فانى احسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم نختم على أفواههم الآية واخرج أبو يعلى والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه واخرج احمد بسند جيد والطبراني عن عقبة بن عامر سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال - واخرج احمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن جيدة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فاول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه - وروى مسلم عن أبى هريرة حديثا طويلا في روية اللّه « 1 » سبحانه وفيه فينطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله وذلك المنافق الّذي يسخط اللّه عليه - فان قيل قال اللّه سبحانه هاهنا تشهد عليهم ألسنتهم وقال في موضع اخر الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ فما وجه التطبيق قلنا المراد بقوله نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ انهم لا ينطقون بإرادتهم وذلك لا ينافى شهادة الالسنة عليهم من غير اختيارهم واللّه اعلم - قال القرطبي وانما يشهد الأعضاء على من قرأ كتابه ولم يعترف بما فيه وجحد وخاصم فيشهد عليه جوارحه بسيئاته - قلت فهذه الآية تدل على ان ما سبق من الآية في عبد اللّه بن أبيّ كما قال قتادة واللّه اعلم
_________
((1/4609)
1) وقد راجعت الصحيح لمسلم ولم أحده في باب روية اللّه سبحانه وتعالى والحديث المذكور في كتاب الزهد في فصل في بيان ان الأعضاء منطقة شاهدة يوم القيامة في المجلد الثاني من الصحيح لمسلم رحمة اللّه تعالى - الفقير الدهلوي.
.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 484
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أى جزاءهم الواجب وقيل حسابهم العدل وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) أى الثابت الموجود بذاته موجد الأشياء كلها جواهرها واعراضها قيوم الحقائق بأسرها وجودات ما سواه كانها ظلال لوجوده المتأصل الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه أو ذو الحق البين أى الظاهر عدله أو المبين ما كان يعدهم في الدنيا - قال ابن عباس وذلك ان عبد اللّه بن أبيّ كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ - قلت لعل معنى قول ابن عباس رضى اللّه عنهما ان الناس لا سيما الكفار منهم يزعمون للّه وجودا موهوما حتى ليسندون الحوادث إلى الدهر أو الكواكب أو نحو ذلك ويحسبون النفع والضر من العباد لا يخافون اللّه كما يخافون سلاطين الدنيا - فإذا كان يوم القيامة يبدأ لهم ما لم يكونوا يحتسبون ويعلمون انّ اللّه هو الحقّ المبين - .(1/4610)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ قال اكثر المفسرين معناه الخبيثات من الكلمات يعنى كلمات الذم والتحقير والشتم ونحو ذلك يستحقها الخبيثون من الناس والخبيثون من الناس يستحقون الذم ونحو ذلك والطيبات من الكلمات من المدح والثناء والدعاء يستحقها الطيبون والطيبون يستحقون الطيبات فعائشة تستحق الثناء والصلاة والسلام والدعاء دون ما قيل فيه من الافك أُولئِكَ يعنى عائشة وأمثالها مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ فيهم أهل الافك من الكلمة الخبيثة وقال الزجاج الخبيثات من الكلمات ككلمة الكفر والكذب وسبّ الصحابة واهل البيت وقدف المحصنات وأمثال ذلك للخبيثين من الناس نحو عبد اللّه بن أبى لا يتكلم بها الطيبون والخبيثون خلقوا وجبلوا لتلك الكلمات الخبيثة والطيبات من الكلمات كذكر اللّه وتلاوة القرآن والصلاة والسلام على النبي واهل بيته والدعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ميسر للطيبين من الناس والطيبون
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 485(1/4611)
من الناس خلقوا مستعدين للطيبات من الكلمات - أولئك يعنى الطيبين من الناس مبرءون من ارتكاب ما قاله أهل الافك ونحو ذلك فهو ذم للقاذفين ومدح للذين برّاهم اللّه - وقال ابن زيد الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال يعنى غالبا والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء - والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء يعنى في الأغلب ...(1/4612)
فعائشة طيبة ولذلك اختارها اللّه تعالى لازدواج رسوله الطيب الطاهر صلى اللّه عليه وسلم أولئك يعنى عائشة وأمثالها مبرءون مما يقول فيهم أهل الافك ولو لم تكن عائشة طيبة لما صلحت لمصاحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم فكانّ هذه الآية بمنزلة البرهان على كذب أهل الافك - عن هند بن أبى هالة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه أبى ان أتزوج أو أزوج الا أهل الجنة رواه ابن عساكر لَهُمْ يعنى لعائشة وأمثالها من المؤمنين الطيبين مَغْفِرَةٌ من الذنوب وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يعنى الجنة قال البغوي روى ان عائشة رضى اللّه عنها كانت تفتخر بأشياء أعطيتها ولم تعط امراة غيرها منها ان جبرئيل اتى بصورتها في خرقة من حرير وقال هذه زوجتك - قلت رواه الترمذي عن عائشة وروى انه اتى بصورتها في راحته وان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحى وهو معها في لحافه ونزلت براءتها من السماء وانها ابنة خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصديقة طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما - وكان مسروق إذا روى عن عائشة قال حدثتنى الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المبراة من السماء قال البيضاوي ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجدا غلظ مما نزل في افك عائشة رضى اللّه عنها في الصحيحين عن عائشة قالت قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اريتك في المنام ثلاث ليال يجئى بك الملك في سرقة « 1 » من حرير فقال لى هذه امرأتك فكشفت عن ومهك
_________
(1) فى سرقة من حرير أى قطعة من جيد الحرير وجمعها سرق مجمع البحار - الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 486(1/4613)
الثوب فإذا أنت هى فقلت ان يكن هذا من عند اللّه يمضيه - وفي الصحيحين عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عائشة هذا جبرئيل يقرؤك السلام قلت وعليه السلام ورحمة اللّه قالت وهو يرى ما لا ارى - وعنها قالت ان الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وقالت ان نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الاخر أم سلمة وسائر نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه حزب أم سلمة فقلن لها كلمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكلم الناس فيقول من أراد ان يهدى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فليهد إليه حيث كان - فكلمته فقال لا تؤذيني في عائشة فان الوحى لم يأتنى وانا في ثوب امراة الا عائشة قالت أتوب إلى اللّه من اذاك يا رسول اللّه - ثم انهن دعون فاطمة رضى اللّه عنها وعنهن فارسلن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمته فقال يا بنيه الا تحبين ما أحب قالت بلى قال فاحبى هذه متفق عليه وفي الصحيحين من حديث أبى موسى وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام - وعن أبى موسى قال ما أشكل علينا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديث قط فسالنا عائشة الا وجدنا عندها منه علما - رواه الترمذي وعن موسى بن طلحة قال ما رايت أحدا افصح من عائشة - رواه الترمذي قال البيضاوي برّا اللّه اربعة باربعة برّا يوسف بشاهد من أهل زليخا وموسى من قول اليهود فيه بالحجر الّذي ذهب بثوبه ومريم بانطاق ولدها وعائشة بهذه الآيات مع تلك المبالغات وما ذلك الا لاظهار منصب الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإعلاء منزلته قلت واظهار منزلتها من اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم واللّه اعلم - أخرج الفرياني وابن جرير عن عدى بن ثابت قال جاءت امراة من الأنصار فقالت يا رسول اللّه انى أكون في بيتي على حال لا أحب ان(1/4614)
يرانى عليها أحد وانه لا يزال يدخل علىّ رجل من أهلي وانا على تلك الحال فكيف اصنع فنزلت.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 487
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الّتي تسكنونها وليست الاضافة للملك فان المؤجر والمعير أيضا لا يدخلان الا بإذن الساكن حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يعنى حتى تستأذنوا يدل على ما روى انه كان ابن عباس يقرا حتّى تستأذنوا وكذلك كان يقرا أبيّ بن كعب والانس في اللغة ضد الوحشة والابصار والاحساس والعلم - واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سورة ابن أخي أبى أيوب قال قلت يا رسول اللّه هذا السلام فما الاستيناس قال يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت - قال في القاموس أنسه ضد الوحشة وانس الشيء أبصره وعلمه واحسه والصوت سمعه - وقال الخليل الاستيناس الاستبصار من قوله آنَسْتُ ناراً أى أبصرت وانما عبر الاستيذان بالاستيناس لان المستأذن متوحش خائف ان لا يؤذن له فإذا اذن استأنس لان المستأذن مستعلم للحال مستكشف انه هل يراد دخوله اولا - أو استفعال من الانس يعنى متعرف هل ثمه انسان وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أى على ساكنيها يعنى ان يقولوا السلام عليكم عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم تكون بركة عليك وعلى أهل بيتك - رواه الترمذي واختلفوا في انه هل يقدم الاستيذان أو السلام فقال قوم يقدم الاستيذان لتقدمها في الآية ولا دليل فيه لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وفي مصحف ابن مسعود حتّى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا - والأكثرون على انه يقدم السلام لحديث كلدة بن حنبل قال دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم اسلم ولم استأذن فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكمء ادخل - رواه أبو داود والترمذي وعن جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا نأذنوا لمن لم يبدا بالسلام - (1/4615)
رواه البيهقي في شعب الايمان قال البغوي عن ابن عمران رجلا استأذن عليه فقالء أدخل فقال ابن عمر لا فامر بعضهم الرجل ان يسلّم فسلّم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 488
فاذن له - وقال بعضهم ان وقع بصره على انسان قدم السلام والا قدم الاستيذان ثم سلّم - وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم - ومثله عن الحسن عن عطاء بن يساران رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال استأذن « 1 » على أمي فقال نعم فقال الرجل انى معها « 2 » فى البيت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استأذن عليها أ تحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها - رواه مالك مرسلا (مسئلة) إذا دعى أحد فجاء مع الرسول فلا حاجة إلى الاستئذان بحديث أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فان ذلك له اذن - رواه أبو داود وفي رواية له رسول الرجل إلى الرجل اذنه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من ان تدخلوا بغتة أو من تحية الجاهلية عن عمران بن حصين قال كنافى الجاهلية نقول أنعم اللّه بك عينا وأنعم صباحا فلمّا كان الإسلام نهينا عن ذلك - رواه أبو داود لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27).(1/4616)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أى في البيوت أَحَداً يأذن لكم فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ يعنى حتى يأتى ساكنها ويأذن لكم في الدخول فان المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس من الناس - مع ان التصرف في ملك الغير بغير اذنه محظور واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ولا تلحوا في الدخول هُوَ أَزْكى لَكُمْ أى الرجوع ازكى لكم من الإلحاح في الدخول والوقوف على الباب لما فيه من الكراهة وترك المروة - وفي حكم الأمر بالرجوع ان لا يأذن له صاحب البيت بعد الاستيذان ثلاث مرات لحديث أبى سعيد الخدري قال أتانا
_________
(1) استاذن بتقدير همزة الاستفهام - الفقير الدهلوي.
(2) انى معها إلخ كأنَّه يعنى ان الاستيذان انما يكون لاجنبى يدخل أحيانا 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 489(1/4617)
ابو موسى فقال ان عمر أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد على فرجعت فقال ما منعك ان تأتينا فقلت إلى أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم ترد علىّ فرجعت وقد قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال عمر أقم عليه البيّنة قال أبو سعيد فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت متفق عليه وعن أبى أيوب الأنصاري مرفوعا التسليم ان يقول السلام عليكمء أدخل ثلاث مرات فان اذن له دخل والا رجع - رواه ابن ماجة قال البغوي ورواه بشر بن سعيد عن أبى سعيد الخدري وفيه قال قال أبو موسى الأشعري قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع - قال الحسن الأول اعلام والثاني مؤامرة والثالث استئذان بالرجوع وعن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال السلام عليكم ورحمة اللّه فقال سعد وعليكم السّلام ورحمة اللّه ولم يسمع النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى سلم ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي صلى اللّه عليه وسلم فاتبعه سعد فقال يا رسول اللّه بابى أنت وأمي ما سلمت تسليمة الا هى بأذنى ولقد رددت عليك ولم أسمعك أحببت ان استكثر من سلامك ومن البركة - ثم دخلوا البيت فقرب له زبيبا فاكل النبي صلى اللّه عليه وسلم - فلمّا فرغ قال أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون - رواه البغوي في شرح السنة (مسئلة) إذا حضر أحد على باب أحد فلم يستأذن وقعد على الباب منتظرا حتى يخرج جاز كان ابن عباس يأتى باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج ولا يستأذن فيخرج الرجل ويقول يا ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو أخبرتني فيقول هكذا أمرنا ان نطلب العلم - قلت ويدل على هذا قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (مسئلة) إذا وقف أحد على باب أحد(1/4618)
للاستئذان لا يستقبل الباب من
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 490
تلقاء وجهه إذا لم يكن هناك ستر ولا ينظر من شق الباب إذا كان مردودا لحديث عبد اللّه بن بسر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الايمن أو الأيسر فيقول السّلام عليكم السّلام عليكم وذلك ان الدور لم يكن يومئذ عليها ستور - رواه أبو داؤد وعن سهل بن سعد الساعدي ان رجلا اطلع على النبي صلى اللّه عليه وسلم من ستر الحجرة وفي يد النبي صلى اللّه عليه وسلم مدرى « 1 » فقال لو اعلم ان هذا ينظرنى لطعنت بالمدرى في عينه وهل جعل الاستيذان إلا من أجل البصر - رواه البغوي وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لو ان امرا اطلع عليك بغير اذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح رواه احمد والشيخان في الصحيحين وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) فيعلم ما تأتونه وما تذرونه مما خوطبتم به أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان قال لما نزلت اية الاستئذان في البيوت قال أبو بكر يا رسول اللّه فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان فانزل اللّه عزّ وجلّ.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا أى في ان تدخلوا متعلق بجناح لتضمنه معنى المؤاخذة أو بعليكم بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ من غير استئذان فِيها مَتاعٌ أى منفعة لَكُمْ حال من بيوتا قال البغوي اختلف في هذه البيوت قال قتادة هى الخانات والبيوت والمنازل المبنية للسايلة ليأووا إليها ويأووا إليها أمتعتهم جاز دخولها بغير استئذان فالمنفعة فيها النزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحرّ والبرد - وقال ابن زيد هى بيوت التجار وحوانيتهم الّتي بالأسواق يدخلها الناس
_________
((1/4619)
1) مدرى إلخ في مجمع البحار المدرى والمدراة شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه 12 الفقير الدهلوي. [.....]
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 491
للبيع والشراء وهو المنفعة - وقال ابراهيم النخعي ليس على حوانيت السوق اذن وكان ابن سيرين إذا جاء إلى الحانوت الّتي في السوق يقول السّلام عليكمء أدخل ثم يلج وقال عطاء هى البيوت الخربة والمتاع هى قضاء الحاجة فيها من البول والغائط - وقيل هى جميع البيوت الّتي لا ساكن لها لان الاستئذان انما شرع لئلا يطلع على عورة أحد فإذا لم يخف ذلك فله الدخول من غير استئذان وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) وعيد لمن دخل لفساد أو اطلاع على عورات الناس.(1/4620)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه عن الحسن مرسلا قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعن اللّه الناظر والمنظور إليها رواه البيهقي في شعب الايمان يغضوا صيغة امر بحذف اللام ومن زائدة على قول الأخفش فانه يجوز زيادة من في كلام الموجب عنده وعند سيبويه من للتبعيض لان المؤمنين غير مأمورين بغض الابصار مطلقا بل بالغض عما لا يحل النظر إليه بل المنهي عنه النظرة الثانية الّتي يكون بالارادة دون الاولى الّتي لا تكون بالارادة لحديث بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلى يا على لا تتبع النظرة النظرة فان لك الاولى وليس لك الاخرة - رواه احمد والترمذي وأبو داود والدارمي وعن جرير بن عبد اللّه قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نظرة الفجاة فامرنى ان اصرف رواه مسلم وعن أبى امامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من مسلم ينظر إلى محاسن امراة أول مرة ثم يغض بصره الا أحدث اللّه له عبادة يجد حلاوتها - رواه احمد وَيَحْفَظُوا أى ليحفظوا فُرُوجَهُمْ الّا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فانّهم غير ملومين ولمّا كان الاستثناء معلوما بالضرورة عقلا ونقلا حذف من اللفظ - قال أبو العالية كل ما وقع في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى والحرام الا في هذا الموضع فانه أراد به الاستتار حتى لا يقع البصر عليه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 492(1/4621)
احفظ عورتك الا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت يا رسول اللّه أ فرأيت إذا كان الرجل خاليا قال فاللّه أحق ان يستحيى منه - رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياكم والتعري فان معكم من لا يفارقكم الا عند الغائط وحين يفضى الرجل إلى اهله فاستحيوهم وأكرموهم - رواه الترمذي ذلِكَ أى غض البصر وحفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ أى انفع لهم أو اطهر لما فيه من التباعد عن الزنى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) لا يخفى عليه اجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها فليكونوا على حذر منه أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل قال بلغنا ان جابر بن عبد اللّه حدث ان اسماء بنت مرثد كانت في نخل لها فجعل النساء يدخلن عليها غير متازّرات فيبدو ما في أرجلهن يعنى الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت اسماء ما أقبح هذا فانزل اللّه في ذلك.(1/4622)
وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ أى ليغضضن عمّا لا يحل النظر إليه وهذه الآية تدل على انه لا يجوز للمرءة النظر إلى الرجل الأجنبي مطلقا وبه قال الشافعي - وقال أبو حنيفة جاز لها ان ينظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه إذا امنت الشهوة - احتج الشافعي بحديث أم سلمة انها كانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وميمونة رضى اللّه عنهما إذا قبل ابن أم مكتوم فدخل عليه (و ذلك بعد ما أمرنا بالحجاب) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتجبا منه فقلت يا رسول اللّه ا ليس هو أعمى لا يبصرنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم افعميا وان أنتما أ لستما تبصر انه - رواه احمد وأبو داود والترمذي واحتج أبو حنيفة بحديث ابن عباس قال جاءت امراة من خثعم عام حجة الوداع قالت يا رسول اللّه ان فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل يقضى عنه ان أحج عنه قال نعم قال ابن عباس كان الفضل ينظر إليها و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 493(1/4623)
تنظر إليه فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الاخر الحديث - رواه البخاري ورواه الترمذي من حديث علىّ نحوه وزاد فقال العباس لوّيت عنق ابن عمك فقال رايت شابّا وشابة فلم أمن عليهما الشيطان صححه الترمذي واستنبط ابن القطان من هذا الحديث جواز النظر عند الامن من الفتنة من حيث انه لم يأمرها بتغطية وجهها ولو لم يفهم العباس ان النظر جائرة ما سال ولو لم يكن ما فهم لما أقرّه عليه وبحديث فاطمة بنت قيس ان زوجها طلقها فبتّ طلاقها فامرها النبي صلى اللّه عليه وسلم ان تعتد في بيت ابن أم مكتوم وهذا يدل على جواز نظر المرأة إلى الأعمى ونحوه يعنى عند الامن من الشهوة - (مسئلة) ولا يجوز للمرءة النظر إلى عورة المرأة يعنى تحت السرة إلى الركبة ولا للرحل النظر إلى عورة الرجل لحديث أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة - ولا يفضى الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا يفضى المرأة إلى المرأة في ثوب واحد - رواه مسلم وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالحلى والثياب والاصباغ فضلا عن مواضعها إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فان في سترها حرجا وقيل المراد بالزينة مواضع الزينة على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزينية - والمستثنى هو الوجه والكفان وابى حنيفة ومالك واحمد والشافعي لما روى الترمذي من طريق عبد اللّه بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الوجه والكفان ومن طريق عطاء عن عائشة نحوه وفي رواية المستثنى الوجه والكفان والقدمان والمشهور عن الشافعي الوجه فقط لما روى الطبراني من طريق مسلم الأعور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هى الكحل وتابعه خصيف عن عكرمة عن ابن عباس عند البيهقي فالوجه مستثنى باتفاق العلماء الاربعة والكفان التفسير(1/4624)
المظهري ، ج 6 ، ص : 494
عند أبى حنيفة ومالك وفي رواية للشافعى واحمد - لكن في مختلفات قاضى خان ان ظاهر الكف وباطنه ليسا عورتين إلى الرسغ وفي ظاهر الرواية ظاهره عورة كذا قال ابن همام - والقدمان عورة الا في رواية عن أبى حنيفة والحجة على كون القدمين عورة حديث أم سلمة انها سالت النبي صلى اللّه عليه وسلم اتصلي المرأة في درع وخمار وليس لها إزار فقال لا بأس إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها رواه أبو داود والحاكم وأعله عبد الحق بان مالكا وغيره رووه موقوفا وهو الصواب وقال ابن الجوزي في رفعه مقال لأنه من رواية عبد الرحمان بن عبد اللّه وقد ضعفه يحيى وقال أبو حاتم الرازي لا يحتج به - وأيضا قوله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ يدل على ان الخلخال من الزينة الباطنة فموضعه يعنى القدم عورة - قال البيضاوي الأظهر ان هذا في الصلاة لا في النظر فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها الا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة - وفي كتب الحنفية كون وجه الحرة خارجا عن العورة غير مختص بالصلوة قال في الهداية
لا يجوز ان ينظر الرجل إلى الاجنبية الا وجهها وكفيها لقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الا ما ظهر منها ولان في إبداء الكف والوجه ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وغير ذلك - فان كان الرجل لا يأمن من الشهوة لا ينظر إلى وجهها الا لحاجة كتحمل الشهادة وأدائها والقضاء - ولا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم أو كان اكبر زأيه ذلك قلت ومذهب أبى حنيفة يؤيده ما رواه أبو داؤد مرسلا الجارية « 1 » إذا حاضت لم يصلح يرى منها الا وجهها ويدها إلى المفصل - قلت إبداء المرأة زينتها الخفية لغير اولى الاربة من الرجال جائز اجماعا ثابت بنص الكتاب لعدم خوف الفتنة فابداء(1/4625)
_________
(1) وفي النسخة الّتي بايدينا ان المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها ان يرى منها الا هذا وهذا وأشار (اى النبي صلى اللّه عليه وسلم) إلى وجهه وكفيه قال أبو داود هذا مرسل 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 495
زينتها الظاهرة لهم اولى بالجواز ونظر الرجل إلى وجه امرأة اجنبية إذا شك في الاشتهاء لا يجوز على ما قال صاحب الهداية أيضا - وقال ابن همام حرم النظر إلى وجهها ووجه الأمرد إذا شك في الشهوة ويلزم هذا الحكم الحكم بان لا تبدو المرأة وجهها لرجل اجنبى إذا شك منه الشهوة والا لكان تعرضا للفساد وزوال احتمال الشهوة من الرجل الأجنبي ذى الاربة للمرءة الاجنبية غير متصور فيلزمنا القول بانه لا يجوز للمرءة الحرة إبداء وجهها لرجل ذى اربة غير الزوج والمحرم فان عامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها اكثر منه في النظر إلى سائر اعضائها وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان - رواه الترمذي عن ابن مسعود فان هذا الحديث يدل على انها كلها عورة غير ان الضرورات مستثناة اجماعا - والضرورة قد تكون بان لا تجد المرأة من يأتى بحوائجها من السوق ونحو ذلك فتخرج متقنعة كاشفة احدى عينيها لتبصر الطريق - فان لم تجد ثوبا سائغا تخرج فيما تجد من الثياب ساترة ما استطاعت وقد تكون إذا احتاجت إلى الطّبيب أو الشهود أو القاضي - فالمراد بالزينة في الآية ان كان نفس الزينة كما فسرناه تبعا لما قال البيضاوي بالحلى والثياب والاصباغ - ويكون حينئذ تحريم إبداء مواضع الزينة بدلالة النص بالطريق الاولى فلا خفاء على هذا في تأويل الاستثناء - حيث يقال معنى إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الا ثيابها الظاهرة قال البغوي قال ابن مسعود هى الثياب بدليل قوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وأراد به الثياب - وان(1/4626)
كان المراد بها مواضع الزينة فمعنى الاستثناء الّا ما ظهر منها عند الضرورات ضرورة الخروج لقضاء الحوائج أو ضرورة الاستشهاد أو نحو ذلك يعنى من غير قصد إلى ابدائها فاستثناء الوجه والكفين من عورة الحرة ليس الا لاجل الصلاة - ويدل على عدم جواز إبداء المرأة وجهها قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 496
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ(1/4627)
الاية - قال ابن عباس وأبو عبيدة أمرت نساء المؤمنين ان يغطين رءوسهن ووجوههن بالجلابيب الا عينا واحدا يعلم انهن حرائر - وما ذكرنا من حديث جاءت امراة من خثعم عام حجة الوداع سائلة مسئلة قضاء الحج عن أبيها محمول على جواز خروجها لضرورة السؤال عن المسألة وما ذكر من ان الفضل كان ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الاخر صريح في المنع عن النظر إلى وجه المرأة الاجنبية لعدم الا من عليهما من الشيطان - (مسئلة) هذه الآية مختص حكمها بالحرائر من النساء اجماعا - واما الإماء سواء كن قنات أو مكاتبات أو مدبرات أو أمهات أولاد فيجوز لهن ابدأ الرأس والوجه والساقين والساعدين فان عورة الامة عند مالك والشافعي واحمد كعورة الرجل من السرة إلى الركبة وزاد أبو حنيفة بطنها وظهرها - وقال اصحاب الشافعي كلها عورة الا مواضع التقليب منها وهى الرأس والساعدات والساق روى الشيخان في الصحيحين في قصة صفية ان حجبها فهى زوجة وان لم يحجبها فهى أم ولد - وهذا الحديث يدل على ان الامة تخالف الحرة فيما تبديه وقال انس مرت بعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع « 1 » أ تشتبهين بالحرائر القى القناع - وأيضا قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أيضا بمفهومه يدل على ان حكم الامة غير حكم الحرة قلت وجاز ان يكون حكم هذه الآية شاملة للاماء أيضا وانما جاز لها إبداء الراس والساعدين والساق للاستثناء - فان خروجها لخدمة المولى كثير وثياب مهنتها قصيرة فهذه الأعضاء تظهر منها غالبا بالضرورة واللّه اعلم
_________
((1/4628)
1) والرواية الصحيحة يا لكعاء أ تشبهين بالحرائر قال في مجمع البحار والمرأة لكاع كقطام واكثر مجيئه في النداء وهو اللئيم 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 497
وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ أى يضعن خمرهن من ضرب يده على الخائط أى وضعها عَلى جُيُوبِهِنَّ سترا لشعورهن وصدورهن وأعناقهن وقرطهن - قال البغوي قالت عائشة رضى اللّه عنها رحم اللّه النساء المهاجرات الأول لمّا انزل اللّه تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن فاختمرن به قرأ نافع وعاصم وهشام بضم الجيم والباقون بكسرها وَلا يُبْد ِينَ زِينَتَهُنَ(1/4629)
الاضافة للعهد يعنى زينتهن المستثناة منها ما ظهر منها كرره لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فلهم هم المقصودون بالزينة ولهم ان ينظروا إلى جميع أبدانهن حتى فروجهن لكنه يكره النظر إلى الفرج لقوله صلى اللّه عليه وسلم إذا اتى أحدكم اهله فليستتر ولا يتجردان تجرد العيرين - رواه الشافعي والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود عن عتبة بن عنبر والنسائي عن عبد اللّه بن سرجس والطبراني أيضا عن أبى امامة وروى ابن ماجة عن عائشة قالت ما نظرت أو ما رايت فرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قط أَوْ آبائِهِنَّ وكذا اباء الآباء واباء الأمهات وان علوا بدلالة النص والإجماع أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ أَبْنائِهِنَّ وأبناء الأبناء وأبناء البنات وان سفلوا بدلالة النص والإجماع أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ إِخْوانِهِنَّ سواء كانوا من اب أو من أم أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ وبنى أبنائهم وأبناء بناتهم وان سفلوا أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أو أبناء أبنائهن أو أبناء بناتهن وان سفلوا أباح اللّه تعالى للنساء إبداء محاسنهن لهؤلاء لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وعدم توقع الفتنة من قبلهم الا نادرا لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرابة والغيرة في انتسابهن إلى الفاحشة وأباح لهم ان ينظروا منهن ما يبدو عند المحنة والخدمة وهو الوجه والرأس والصدر والساقان والعضدان ولا يجوز لهم النظر إلى ظهورهن ولا إلى بطونهن ولا إلى ما بين السرة إلى الركبة لانها لا تنكشف عادة فلا ضرورة في النظر إليها - وهذا حكم جميع من لا يجوز المناكحة بينه وبينها على التأييد بنسب كان أو برضاع أو مصاهرة - وانما لم يذكر الأعمام
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 498(1/4630)
و الأخوال في الآية لانهم في معنى بنى الاخوان وبنى الأخوات بدلالة النص والإجماع فانه لما جاز للعمة إبداء زينتها لابن أخيها جاز لبنت الأخ إبداء زينتها لعمها بطريق المساوات ولما جاز للخالة إبداء زينتها لابن أختها جاز لبنت الاخت إبداء زينتها لخالها - ويحتمل ان يكون ترك ذكر الأعمام والأخوال في الآية للاشارة إلى ان الأحوط ان يتسترن عنهم حذرا ان يصفوهن لابنائهم - (مسئلة) لا بأس للرجل ان يمس ما جاز إليه النظر من ذوات محارمه لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة - وقلة الشهوة للحرم المؤبدة الا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة فحينئذ لا ينظر ولا يمس لقوله صلى اللّه عليه وسلم العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش - وفي رواية العينان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزنى - رواه احمد والطبراني عن ابن مسعود مرفوعا وحرمة الزنى بذوات المحارم اغلظ فيجتنب أَوْ نِسائِهِنَّ يعنى جاز للمرءة ان تنكشف للمرءة مؤمنة كانت أو كافرة حرة كانت أو أمة الا ما بين سرتها وركبتها وجاز لها النظر إليها بوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالبا وعن أبى حنيفة ان نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى محارمه - وقيل المراد بنسائهنّ النساء المؤمنات فلا يجوز للمرءة المسلمة ان تنكشف للمرءة الكافرة لانها ليست من نسائنا لكونها اجنبية في الدين وذلك لانهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال - عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها كأنَّه ينظر إليها - متفق عليه قال البغوي كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى عبيدة بن الجراح ان يمنع نساء أهل الكتاب ان يدخلن الحمام مع المسلمات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ عن ابن جريج انه قال المراد بنسائهنّ المؤمنات الحرائر منهن وبما ملكت ايمانهنّ الإماء دون العبيد فلا يحل لامراة مسلمة ان تتجرد بين يدى امراة مشركة الا إذا كانت(1/4631)
المشركة أمة مملوكة لها فعلى هذا التأويل لا يجوز لها الانكشاف بين يدى عبدها - ولا يجوز للعبد ان ينظر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 499
الى سيدته الا إلى ما يجوز للاجنبى النظر إليه منها وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه وبه قال بعض اصحاب الشافعي قال الشيخ
ابو حامد من الشافعية الصحيح عند أصحابنا ان العبد لا يكون محرما لسيدته - قال النووي هذا هو الصواب بل لا ينبغى ان يجرى فيه خلاف بل يقطع بتحريمه - والقول بانه محرم لها ليس له دليل ظاهر فان الصواب في الآية انها في الإماء قال صاحب الهداية لنا انه فحل غير محرم ولا زوج والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة يعنى بعد زوال ملكها والحاجة قاصرة لأنه يعمل خارج البيت والمراد بالنص يعنى بهذه الآية الإماء قال سعيد بن المسيب والحسن وغيرهما لا تغرنكم سورة النور فانها في الإناث دون الذكور - وهذا التأويل لا يصح الا على تقدير كون المراد بنسائهن المسلمات الحرائر دون عامتهن والا لزم التكرار والخلو من الفائدة - فيلزم على مذهب أبى حنيفة عدم جواز الانكشاف للمرءة المسلمة عند الكافرة - وقال مالك ما ملكت ايمانهن يعم العبيد والإماء فيجوز للسيدة - الانكشاف عند عبده كسائر المحارم ويجوز له النظر إليها ما يجوز من النظر إلى محارمه - والشافعي أيضا نص على ذلك وهو الأصح عند جمهور أصحابه لان الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استيئذان قال البغوي وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة ويؤيده حديث انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلمّا راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما تلقى قال انه ليس عليك بأس انما هو أبوك وغلامك - رواه أبو داؤد لكن يمكن ان يكون العبد صغيرا كما يدل عليه اطلاق لفظ الغلام ويؤيده أيضا حديث أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كانت(1/4632)
عند مكاتب أحدا كن وفاء فلتحجب منه - رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة لكن الاستدلال به بمفهوم المخالفة أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أى غير اولى الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهرم سماهم بالتابعين لانهم لا يقدرون على الاكتساب فيتبعون القوم ليصيبوا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 500(1/4633)
فضل طعامهم - قال الحسن هو الّذي لا ينتشر ذكره ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وعن ابن عباس انه العنين وقال سعيد بن جبير المعتوه وقال عكرمة المجبوب وقيل هو المخنث وقال مقاتل هو الشيخ الهرم والعنين والخصى والمجبوب والصحيح ان الخصى والمجبوب في النظر إلى الاجنبية كالفحل قال في الهداية لان الخصى فحل يجامع يعنى يحتمل المجامعة وكذا المجبوب لأنه يسحق وينزل وكذا المخنث في الردى من الافعال لأنه فحل فاسق يؤخذ فيه بمحكم كتاب اللّه يعنى قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم فانه محكم يشتمل المجبوب والخصى والمخنث وقوله تعالى أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غير قطعى الشمول لهؤلاء فلا بد فيهم الحكم بغض البصر قال في الكفاية قيد في الهداية المخنث بالردى من الافعال وهو ان يمكّن غيره من نفسه احترازا عن المخنث الّذي في أعضائه لين وفي لسانه انكسار باهل الخلقة لا يشتهى النساء - ولا يكون مخنثا في الردى من الافعال فانه قد رخص بعض مشائخنا في ترك مثله في النساء لأنه من غير اولى الاربة من الرجال - قلت واما الخنثى الأصلي يعنى الّذي له ذكر وفرج فان ظهر له علامات النساء وهو ان يكون له ثدى كثدى المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فحكمه حكم الأنثى وإلا فله حكم الذكر لا يجوز للنساء الانكشاف عنده ولا يجوز له النظر إليهن - وان كان مشكلا يوخذ فيه بالأحوط فلا ينكشف هو عند الرجال ولا تنكشف النساء عنده واللّه اعلم روى الشيخان في الصحيحين عن أم سلمة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان عندها وفي البيت مخنث فقال لعبد اللّه بن أبى امية (أخي أم سلمة) يا عبد اللّه ان فتح اللّه لكم غدا الطائف فانى أدلكم على ابنة غيلان فانها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يدخلن هؤلاء عليكم - احتج بعض العلماء بهذا الحديث على منع المخنثين من(1/4634)
الدخول
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 501
على النساء وفي الاحتجاج به نظر بل يمكن الاحتجاج بهذا الحديث على جواز دخول المخنثين على النساء لان النبي صلى اللّه عليه وسلم أقره في البيت ولم يمنعه من الدخول الا بعد ما وصف ابنة غيلان بانها تقبل بأربع وتدبر
بثمان وهذا امر اخر منع النبي صلى اللّه عليه وسلم لاجله عن دخول المرأة على المرأة كما مر في حديث ابن مسعود واللّه اعلم قرأ أبو بكر وابن عامر وأبو جعفر غير اولى الاربة بالنصب على الحال أو على انه بمعنى الّا للاستثناء معناه يبدين زينتهن للتابعين الا ذا الاربة منهم فانهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا اربة وقرأ الباقون بالجر على انه صفة للتابعين - أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف يعنى لم يبلغوا أو ان القدرة على الوطي من ظهر على فلان إذا قوى وقدر عليه - أو المعنى لم يظهروا أى لم يكشفوا عن عورات النساء بالجماع من الظهور بمعنى الغلبة ولذلك عدّى بعلى أو من الظهور بمعنى الاطلاع فان الكشف يستلزم الاطلاع والمراد بعدم الظهور وعدم الكشف أيضا عدم صلاحية ذلك فالحاصل انهم لم يبلغوا حد الشهوة وقال مجاهد معناه لم يعرفوا العورة من غيرها لاجل الصغر وعدم التميز - والاولى هو الأول فان الطفل ان كان مميزا لكنه لم يبلغ حد الشهوة جاز للنساء الانكشاف عنده الا من السرة إلى الركبة - ولا يجوز لها بحضرته كشف ما تحت السرة كما يدل عليه قوله تعالى لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - وان كان طفلا غير مميز بالكلية فهو كالجمادات والبهائم لا بأس لو كشفت عنده ما تحت الإزار أيضا - وان كان مراهقا يشتهى فحكمه حكم الرجال لأنه استعد للظهور على عوراتهن - أخرج ابن جرير عن حضرمى ان امراة اتخذت صرتين من فضة و(1/4635)
اتخذت جذعا فمرت على قوم وضربت برجليها فوقع الخلخال على الجذع فصوتت فانزل اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 502
وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قال البغوي كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها لتسمع صوت خلخالها فنهيت عن ذلك لأنه يورث في الرجال ميلا إليها - قال البيضاوي وهو ابلغ من النهى عن إبداء الزينة وادل على المنع من رفع الصوت لها ولذا صرح في النوازل بان نغمة المرأة عورة وبنى عليها ان تعلمها القرآن من المرأة أحب الىّ لان نغمتها عورة ولذا قال عليه السّلام التسبيح للرجال والتصفيق للنساء - متفق عليه من حديث سهل بن سعد فلا يحسن ان يسمعها الرجل قال ابن همام وعلى هذا لو قيل إذا جهرت المرأة بالقراءة في الصلاة فسدت كان متجها - ولذا منعها عليه السلام من التسبيح بالصوت لاعلام الامام بسهوه إلى التصفيق وهذه الآية تدل على ان القدم عورة - وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فانه لا يكاد يخلو أحد منكم في إتيان أوامره والانتهاء عن مناهيه من التفريط قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون - رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي قيل معناه راجعوا إلى طاعة اللّه فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة وقيل معناه توبوا عما كنتم تفعلونه في الجاهلية وان جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما تتذكروا قرأ ابن عامر ايّه المؤمنون هاهنا وفي الزخرف يآيّه السّاحر وفي الرحمان ايّه الثّقلان بضم الهاء في الثلاثة وصلا ويقف بلا الف - والباقون بفتح الحاءات على الأصل ووقف أبو عمرو والكسائي أيها بالألف والباقون بغير الف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) فان سعادة الدارين بالتوبة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا - وعن ابن عمر انه سمع رسول(1/4636)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فانى أتوب إلى ربى كل يوم مائة مرة وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه انى لاستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم اكثر من سبعين
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 503
مرة - رواه البخاري وعن الاعرابى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه ليغان على قلبى وانى لاستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم مائة مرة - رواه مسلم وعن ابن عمر قال انا كنا نعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المجلس يقول رب اغفر لى وتب علىّ انك أنت التواب الغفور مائة مرة - رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة.(1/4637)
وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ لمّا نهى اللّه تعالى عما يفضى إلى السفاح غالبا امر بالنكاح فانه اغض للبصروا منع من السفاح فقال وانكحوا ايّها الأولياء والسادة الأيامى منكم - والأيامى جمع ايّم مقلوب ايايم كيتافى أصله يتايم وهو من لا زوج له رجلا كان أو امراة وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ وهذا امر استحباب وتخصيص الصالحين بالذكر ليس للاحتراز بل لان إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم وقيل المراد به الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه - (مسئلة) النكاح واجب عند غلبة الشهوة إذا خاف الوقوع في الحرام وفي النهاية ان كان له خوف وقوع الزنى بحيث لا يتمكن من التحرز عنه كان فرضا قال ابن همام ليس الخوف مطلقا يستلزم بلوغه إلى عدم التمكن فليكن عند ذلك فرضا والا فواجب ما لم يعارضه خوف الجور فان عارضه خوف الجور كره - وأيضا قال ابن همام انه ينبغى تفصيل خوف الجور كتفصيل خوف الزنى فان بلغ ما افترض فيه النكاح حرم وإلا كره كراهة تحريم - وفي البدائع قيد الافتراض في التوقان بملك المهر والنفقة فان من تاقت نفسه بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر يعنى على ما لا بد من تعجيله وعلى النفقة ولم يتزوج يأثم - واما في حالة الاعتدال فقال داود وأمثاله من أهل الظواهر انه فرض عين على الرجل والمرأة في العمر مرة ان كان قادرا على الوطي والانفاق لقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وحديث سمرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن التبتل - رواه الترمذي وابن ماجة وقوله صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 504(1/4638)
لعكاف هل لك من زوجة قال لا قال ولا جارية قال لا قال وأنت موسر بخير قال وانا موسر قال أنت اذن من اخوان الشياطين - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان سنتنا النكاح شراركم عزابكم واراذل موتاكم عزابكم أبا لشيطين يحرسون - رواه احمد وقد مرّ هذا الحديث وحديث انس كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول تزوجوا الودود الولود انى مكاثر بكم الأتقياء يوم القيامة - رواه احمد وأبو داود والنسائي ونحوه في سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ - وقال بعض الحنفية واجب على الكفاية وادلة الوجوب على الكل لا ينفى كونه على الكفاية والمعرف لكونه يسقط بفعل البعض عن الباقين ان سبب شرعيته ابقاء المسلمين وعدم انقطاعهم وذلك يحصل بفعل البعض والإجماع على عدم كونه فرضا على الأعيان - ولا عبرة بقول داود وأمثاله وقيل واجب على الكفاية لان قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مسوق لبيان العدد - وهذه الآية خطاب للاولياء موجب لعدم ممانعتهم إذا أراد الأيامى النكاح وأحاديث الآحاد لا توجب الفرضية وقيل سنة مؤكدة وقيل مستحب إذا كان قادرا على الوطي والانفاق ولا يخاف الجور والا فهو حرام أو مكروه - وجه كونه سنة فعله صلى اللّه عليه وسلم وقوله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فان الصوم له وجاء - متفق عليه من حديث ابن مسعود وما روى ابن ماجة من حديث عائشة النكاح من سنتى فمن لم يعمل بسنتى فليس منى تزوجوا فانى مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم « 1 » في اسناده عيسى بن ميمون ضعيف وفي الصحيحين من حديث انس لكنى أصوم وأفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى - وروى الترمذي
_________
((1/4639)
1) وفيه فان الصوم له وجاء 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 505
عن أبى أيوب اربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح - وروى ابن ماجة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من أراد ان يلقى اللّه طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ما ذكرنا كله بمذهب علماء الحنفية رحمهم اللّه تعالى وبه قال احمد وقال الشافعي النكاح مستحب على كل حال ان كان قادرا على الوطي والانفاق ولا يخاف الجور لكن تركه لاجل الانقطاع للعبادة أفضل وان خاف الجوار ولم يكن قادرا على الانفاق أو الوطي فعليه حرام أو مكروه - وفي حالة التوقان وخوف الوقوع في الحرام يتاكد في حقه ويكون أفضل من نوافل الصلاة والصوم والجهاد والحج وبه قال مالك - فحاصل كلام الفريقين انه من خاف ان لا يقدر على أداء حقوق النكاح أو وقع بالنكاح في امر حرام فالنكاح في حقه مكروه أو حرام - ومن كان تائقا يخاف على نفسه الزنى ان لم ينكح وهو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه واجب على ما قال أبو حنيفة ومتأكد على ما قال الشافعي - قلت لا أشك في ان ضد الحرام يعنى الزنى واجب فلا بد من القول بالوجوب عند خوف الزنى - بقي الكلام في انه من كان في حالة الاعتدال لا يخاف على نفسه الزنى ان لم ينكح ولا يخاف الجور وهو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه وان كان مستحبّا سنة لكن ترك النكاح لاجل التخلّي للعبادة في حقه أفضل أم النكاح أفضل - قال أبو حنيفة النكاح أفضل من التقبل والتخلي للعبادة وقال الشافعي التخلي والتبتل أفضل وجه قول الشافعي ان اللّه سبحانه مدح يحيى بن زكريا عليهما السّلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه حيث قال سَيِّداً وَحَصُوراً أيضا وهذا معنى الحصور وقال ابن همام في جوابه ان حال يحيى ذلك كان أفضل في شريعتهم وقد نسخت الرهبانية في شريعتنا وإذا تعارض حال يحيى بحال نبينا صلى اللّه عليه وسلم وجب تقديم حال النبي(1/4640)
صلى اللّه عليه وسلم الا ترى ان حال النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الوفاة كان النكاح ومحال ان يقرر اللّه تعالى أفضل أنبيائه على ترك
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 506
الأفضل مدة حياته - روى الشيخان في الصحيحين ان نفرا من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فحمد اللّه واثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا ولكنى أصلي وأنام وأصوم وأفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى وروى البخاري عن ابن عباس انه قال تزوجوا فان خير هذه الامة كان أكثرهم نساء يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم - وقد مر نهيه صلى اللّه عليه وسلم عن التبتل نهيا شديدا - وتحقيق المقام عندى ان من راى من نفسه ان النكاح واشتغاله بامر الأهل والعيال لا يمنعه عن الإكثار في الذكر والانقطاع إلى اللّه من غيره وتعمير الأوقات بالطاعات فالنكاح في حقه أفضل من تركه وكان هذا شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصحابة وكثير من الأنبياء والصالحين من عباد اللّه وكيف لا يكون أفضل فان مجاهدته أشد واكثر من مجاهدة العزب فان القيام على العبادة مع الموانع اكثر ثوابا منه مع عدم الموانع ومن أجل ذلك كان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوامهم أفضل من عوامهم ومن عط راى من نفسه ضعفا وراى ان النكاح واشتغاله بامور الأهل والعيال يمنعه من الإكثار في الذكر والانقطاع إلى اللّه وتعمير الأوقات ولا يخاف من نفسه الوقوع في الزنى فترك النكاح في حقه أفضل قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقال اللّه تعالى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ(1/4641)
وَ أَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وقال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 507
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
- وكيف يكون النكاح أفضل من الاشتغال بعبادات اللّه النافلة مع(1/4642)
ان النكاح في نفسه امر مباح ليس بعبادة وضعا واستحبابه انما هو بالنظر إلى ما يترتب عليه من المصالح ولو كان النكاح في نفسه عبادة لكان الإسلام شرطا لاتيانها كما هو شرط لسائر العبادات وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه - متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ولو كان النكاح في نفسه عبادة لكانت الهجرة لاجل النكاح هجرة للّه تعالى وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حبب الىّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عينى في الصلاة - رواه النسائي وكذا روى الطبراني واسناده حسن وهو صريح في ان النكاح من الأمور الدنيوية المباحة كالطيب وتسميته سنة في قوله صلى اللّه عليه وسلم اربع من سنن المرسلين النكاح والتعطر الحديث بمعنى كونه سنة زائدة من السنن العادية لا انه من سنن الهدى فان سنة الهدى ما واظب عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم على سبيل العبادة لا يقال ان قوله صلى اللّه عليه وسلم من رغب عن سنتى فليس منى - يدل على كونه من سنن الهدى لانا نقول لا يدل هذا على ذك لان الرغبة عما فعله النبي صلى اللّه عليه وسلم واستحسنه قبيح يوجب الإنكار والعتاب لكن تركه لا يوجب العتاب كما يوجب ترك سنة الهدى - فان قيل ورد في الحديث حبب الىّ من الدنيا ثلاثة الطيب والنساء وجعلت قرة عينى في الصلاة - فهذا اللفظ يدل على كون الصلاة أيضا من الأمور الدنيوية - قلنا قال الحافظ ابن حجر لم نجد لفظة ثلاث في شيء من الطرق المسندة وحديث الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة - رواه مسلم عن عمرو بن العاص مرفوعا وهذا أيضا يدل على كون النكاح من الأمور الدنيوية المباحة فكل امر وقع في باب النكاح في الكتاب أو السنة محمول على الإباحة أو الاستحباب واما حديث عكاف أنت اذن
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 508(1/4643)
من اخوان الشياطين واقعة حال محمول على حالة شدة التوقان وخوف الفتنة - ثم النكاح يكون عبادة باقتران حسن النية بان يريد كثرة أهل الإسلام وغض البصر ونحو ذلك - وهذا شيء غير مختص بالنكاح بل الاكل والشرب والبيع والشراء والاجارة وسائر المعاملات المباحة كلها مع اقتران حسن النية تصير عبادات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلب الحلال فريضة بعد الفريضة رواه الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود ورواه الطبراني عن انس بن مالك بلفظ طلب الحلال واجب على كل مسلم - وكما ان النكاح فرض على الكفاية لبقاء النسل كذلك الاكل والشرب بقدر ما يسد الرمق فرض عين والتجارة وسائر انواع الحرف فرض على الكفاية أيضا لو تركها الناس أجمعون اختل امر معاشهم ومعادهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التاجر الصدوق الامين مع النبيين والصديقين والشهداء - رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدري وحسنه ورواه ابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه والبغوي في شرح السنة عن انس نحوه لكن حسن تلك الأشياء انما هو بالغير واما حسن الذكر والانقطاع إلى اللّه فانما هو بذواتهما فاين هذا من ذك عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن اللّه سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث رواه البخاري ولم يقل اللّه سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنكاح أو بالأكل والشرب وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما اوحى الىّ ان اجمع المال وأكون من التاجرين ولكن اوحى الىّ ان اسبح بحمد ربك وأكن من الساجدين - رواه البغوي في تفسير سورة الحجر - وما قيل في جواب حال يحيى انه كان أفضل في شريعتهم وقد نسخت الرهبانية في شريعتنا فليس بشيء بل النكاح كان أفضل من العزوبة في كل دين كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم اربع من سنن المرسلين
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 509(1/4644)
وعد منها النكاح - وقد كان آدم ونوح وابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وأيوب وداود وسليمان وزكريا كلهم كانوا متزوجين وكانوا أفضل من يحيى عليه السّلام فلعل يحيى عليه السلام راى التزوج في حقه مخلّا ببعض امور أفضل منه وأيضا كون الرهبانية مشروعة في دين عيسى ويحيى ومنسوخة في ديننا ممنوع
بل الرهبانية الّتي كانت النصارى تفعلها كانت مبتدعة حيث قال اللّه تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها - وما ورد في الأحاديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن التبتل وعن الرهبانية فليس المراد منه انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن التخلي للذكر والانقطاع عن الخلق إلى اللّه تعالى كيف وقد قال اللّه تعالى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير مال المسلم الغنم يتبعها شعف الجبال يفر بدينه عن الفتن - رواه البخاري بل المراد انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن ترك الأمور المباحة الّتي لا مثوبة عند اللّه في تركها كالنكاح والنوم على الفراش وأكل اللحم والكلام مع الناس كما كانت الرهبان من النصارى تفعلها قال اللّه تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ فالممنوع هو الرهبانية المبتدعة دون الرهبانية المشروعة وقد وقع في الحديث في مدح اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انهم رهبان بالليل ليوث بالنهار واللّه اعلم -
فائدة(1/4645)
قال البغوي تائيد المذهب الشافعي ان في الآية دليلا على ان تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء - لان اللّه تعالى خاطبهم به كما ان تزويج العبيد والإماء إلى السادة لقوله تعالى وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ - أراد البغوي ان الآية تدل على انه لا يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة بعبارتها من غير ولى وقد ذكرنا هذه المسألة واختلاف العلماء فيها وأدلتهم في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ - والاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة لا يصح لان الايم يعم الرجل والمرأة الصغيرين والكبيرين والبكر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 510(1/4646)
و الثيب وقد اجمعوا على ان نكاح الرجال البالغين ليس إلى الأولياء وعلى ان النكاح الباكرة الصغيرة إلى الأولياء فتخصيص هذه الآية بالنساء ليس اولى من تخصيصها بالصغار والصغائر - وأيضا يحتمل التجوز في لفظ الانكاح ولعله أراد بالانكاح عدم منعهم من النكاح وتائيدهم فيه وفي الآية دليل على ان المملوك إذا طلب من المولى ان يزوجه وجب عليه تزويجه وكذلك المرأة البالغة إذا طلبت من الولي تزويجها وجب على الولي انكاحها - هذا على اصل الشافعي ومن يقول بعدم جواز النكاح بعبارة النساء واما على اصل أبى حنيفة فمعنى الوجوب على الولي انه يحرم عليه منعها من النكاح فهذه الآية في هذه المسألة نظيرة لقوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ان لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض - رواه الترمذي وعن عمر بن الخطاب وانس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في التورية مكتوب من بلغت ابنته اثنتي عشرة سنة ولم يزوجها فاصابت اثما فاثم ذلك عليه - وعن أبى سعيد وابن عباس قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه فإذا بلغ فليزوجه فان بلغ ولم يزوجه فاصاب اثما فانما إثمه على أبيه روى الحديثين البيهقي في شعب الايمان - إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) رد لما عسى ان يمنع من النكاح يعنى لا يمنعنكم من النكاح الفقر « 1 » فان اللّه متكفل لارزاق العباد كلهم والمال غاد ورائح وقيل المراد بالغنى هاهنا القناعة وقيل اجتماع الرزقين رزق الزوج ورزق الزوجة والاول أصح فهو وعد من اللّه بالاغناء
_________
((1/4647)
1) عن أبى بكر الصديق قال أطيعوا اللّه فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغناء قال اللّه تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعن قتادة قال ذكر لنا ان عمر بن الخطاب قال ما رايت كرجل لم يلتمس الغناء من الباءة وقد وعد اللّه فيها ما وعد - وعن عمر بن الخطاب انه قال ابتغوا الغناء في الباءة واطلبوا الفضل في الباءة وتلا ان يكونوا فقراء يغنهم اللّه الآية 12 منه برد اللّه مضجعه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 511
للناكح - قال البغوي قال عمر عجب لمن يبتغى الغناء بغير النكاح واللّه تعالى يقول إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ - وروى البزار والخطيب والدار قطنى من حديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزجوا النساء فانهن يأتين بالمال - رواه أبو داود في مراسيله عن عروة مرسلا وروى الثعلبي والديلمي صاحب مسند الفردوس من حديث ابن عباس التمسوا الرزق بالنكاح - قلت ولعل لهذا الوعد لمن أراد التعفف بالنكاح وتوكل على اللّه في الرزق يدل على ذلك قوله تعالى.(1/4648)
وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً يعنى من لا يجد اسباب النكاح وما لا بد منه للناكح من المهر المعجل والنفقة ومنعه فقره من ان ينكح خوفا من الجور وفوات حقوق النكاح فعليه ان يجتهد في العفة ودفع الشهوة بالصوم وقلة الطعام ونحو ذلك حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن لم يستطع يعنى النكاح فعليه بالصوم فانه له وجاء حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أى يوسع عليهم من رزقه واللّه اعلم - أخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد اللّه بن صبيح عن أبيه قال كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسالته الكتابة فابى فنزلت وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أى يطلبون المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عبدا كان أو أمة - الموصول مع صلته مبتدا خبره فَكاتِبُوهُمْ جئ بالفاء لكون المبتدا متضمنا لمعنى الشرط أو الموصول منصوب بفعل مضمر يفسره قوله فكاتبوهم والفاء زائدة - قال البغوي لما نزلت هذه الآية كاتب حويطب عبده على مائة دينار ووهب له عشرين فادّاها فقتل يوم حنين في الحرب - وهذا امر استحباب عند جمهور العلماء حتى قال صاحب الهداية وهذا ليس بامر إيجاب بإجماع بين الفقهاء وانما هو امر ندب وهو الصحيح يعنى القول
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 512(1/4649)
بانه امر اباحة كما قال بعض مشائخنا ... غير صحيح إذ في الحمل على الإباحة الفاء الشرط إذ هو مباح بدونه واما الندبية فمعلق به - وأجيب بان الشرط خرج مخرج العادة لان المولى لا يكاتب عبده عادة الا إذا علم فيه خيرا - وروى عن بعض المتقدمين بانه للوجوب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار وقال احمد في رواية عنه بوجوبها إذا طلب العبد من سيده مكاتبته على قدر قيمته أو اكثر لما روى ابن سيرين سأل انس بن مالك ان يكاتبه فتلكا عنه فشكى إلى عمر فعلاه بالدرة فامره بالكتابة فكاتبه كذا ذكر البغوي في تفسيره - والكتابة عقد معاوضة يدل عليه صيغة المفاعلة يبتاع العبد من سيده نفسه بما يؤديه من كسبه واشتقاقه من الكتابة بمعنى الإيجاب فيشترط فيه الإيجاب والقبول من الجانبين وليس هو إعتاقا معلقا بأداء المال فيجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل البيع والشراء لتحقق الإيجاب والقبول إذ العاقل من أهل القبول والتصرف نافع في حقه - ولا يجوز كتابة مجنون وصبى لا يعقل لعدم تحقق القبول منه فلو ادى عنه غيره لا يعتق ويستردّ ما دفع - وصفته عند أبى حنيفة ان يقول المولى لعبده كاتبتك على مال كذا ويقول العبد قبلت فيعتق بادائه وان لم يقل المولى إذا أديتها فانت حر لأنه موجب العقد فيثبت من غير تصريح كما في البيع وبه قال مالك واحمد وقال الشافعي يشترط ان يقول المولى كاتبتك على كذا من المال منجما إذا أديته فانت حر فان ترك لفظ التعليق ونواه جاز - ولا يكفى لفظ الكتابة بلا تعليق ولا نية ويقول قبلت كذا في المنهاج - (مسئلة) ويجوز في الكتابة ان يشترط المال حالا ويجوز مؤجلا ومنجما وقال الشافعي واحمد لا يصح حالا ولا بد من نجمين لأنه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الاهلية قبله للرق - ولنا الإطلاق في الآية من غير شرط التنجيم وقد ذكرنا انه عقد معاوضة والبدل معقود به فاشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة على(1/4650)
التسليم - حتى جاز للمفلس اشتراء اموال عظيمة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 513
و من الجائز ان يرزق العبد على فور الكتابة أموالا عظيمة بطريق الهبة أو الزكوة فان كانت الكتابة حالا وامتنع من الأداء جاز للمولى رده إلى الرق - (مسئلة) وإذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ليتحقق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك البيع والشراء والخروج إلى السفر وان نهاه المولى ولا يخرج عن ملكه اجماعا لأنه عقد معاوضة فلا يخرج عن ملك المولى ما لم يدخل البدل في ملكه - (مسئلة) والكتابة عقد لازم من جهة المولى اتفاقا فلا يجوز للمولى فسخه الا برضاء العبد لانها موجب للعبد استحقاق العتق والعتق لا يحتمل الفسخ فكذا استحقاقه - ولانه عبادة كالعتق ففسخه يوجب ابطال العمل وقد قال اللّه تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ - لكنه غير لازم من جهة العبد فلا يجبر العبد على الاكتساب بل تفسخ الكتابة برضائه عند أبى حنيفة والشافعي واحمد غير انه ان كان بيد المكاتب مال يفى بما عليه يجبر على الأداء عند أبى حنيفة(1/4651)
و ليس له حينئذ فسخ الكتابة لأنه حينئذ متعنّت - وقال مالك ليس للعبد تعجيز نفسه مع القدرة على الاكتساب فيجبر على الاكتساب حينئذ - (مسئلة) وإذا لم يخرج المكاتب عن ملك المولى جاز للمولى ان يعتقه فيعتق مجانا ويسقط بدل الكتابة عن ذمته لأنه ما التزم الا مقابلا بالعتق وقد حصل له دونه فلا يلزمه والكتابة وان كانت لازمة من جانب المولى لكنها يفسخ برضاء العبد والظاهر رضاؤه توسلا إلى عتقه بغير بدل - (مسئلة) وإذا لم يخرج من ملكه جاز للمولى بيع رقبة المكاتب عند احمد ولا يكون البيع فسخا للكتابة بل يقوم المشترى فيه مقام البائع وهو القول القديم للشافعى وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز بيع رقبة المكاتب الا برضاه فهو فسخ للكتابة وهو القول الجديد للشافعى - لكن عند مالك جاز بيع المكاتبة والدين المؤجل بثمن حال ان كان عينا فيعرض أو عرضا فتعين - وجه قول
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 514(1/4652)
ابى حنيفة ومن معه ان المكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى ولو ثبت الملك بالبيع للمشترى لبطل ذلك وقد علمت ان ثبوت الملك للمشترى لا يقتضى فسخ الكتابة عند احمد ولا يبطل استحقاق المكاتب يدا على نفسه بل يقوم المشترى فيه مقام البائع وقد رضى المشترى بذلك ان علم كونه مكاتبا وان لم يعلم كان للمشترى حق فسخ البيع - احتج احمد بحديث عائشة ان بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتاعي فاعتقى فانما الولاء لمق أعتق - رواه احمد وأصله في الصحيحين انها قالت جاءت بريرة عائشة فقالت انى كاتبت على تسع أواق في كل عام اوقية فاعينينى فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة واعتقك فعلت ويكون الولاء لى - فذهبت إلى أهلها فابوا ذلك عليها فقالت انى قد عرضت ذلك عليهم فابوا الا ان يكون الولاء لهم - فسمع بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسالنى فاخبرته فقال خذيها فاعتقيها واشترطى لهم الولاء فان الولاء لمن أعتق الحديث - وروى النسائي هذه القصة عن بريره نفسها وفي هذا الحديث ليس حجة لاحمد فان النزاع فيما إذا كان بيع المكاتب بغير رضاه واما ان كان برضاه فاظهر الروايتين عن أبى حنيفة جواز البيع حينئذ وقد كان بيع بريرة برضاها - ولذلك عقد البخاري باب بيع المكاتب إذا رضى - (مسئلة) لا يعتق المكاتب الا بأداء كل البدل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المكاتب عبد ما بقي من مكاتبته درهم - رواه أبو داود والنسائي والحاكم من طرق ورواه النسائي وابن ماجة من وجه اخر من حديث عطاء عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص في حديث طويل ولفظه ومن كان مكاتبا على مائة اوقية وقضاها الا اوقية فهو عبد قال النسائي هذا حديث منكر وقال ابن حزم عطاء هذا هو الخراسانى لم يسمع
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 515(1/4653)
من عبد اللّه بن عمرو ورواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من كاتب عبده على مائة اوقية فاداها الا عشر أواق أو قال عشرة دنانير ثم عجز فهو رقيق - وروى مالك في الموطإ عن نافع عن ابن عمر موقوفا المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ورواه ابن قانع من طريق اخر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وأعله قال صاحب الهداية في هذه المسألة اختلاف الصحابة قال في الكفاية قال زيد بن ثابت مثل قولنا وقال علىّ يعتق بقدر ما ادى - وقال ابن مسعود إذا ادى قدر قيمته يعتق وفيما زاد ذلك يكون المولى غريما من غرمائه - وقال ابن عباس يعتق بنفس الكتابة ويكون المولى غريما من غرمائه - وانما اخترنا قول زيد للحديث المرفوع - قلت وقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه - وفي رواية له قال يؤدى المكاتب بحصة ما ادى دية حر وما بقي دية عبد - وضعفه وعن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان عند مكاتب أحدا كن وفاء فليحتجب منه - رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة (مسئلة) و
إذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله فان كان له دين يقتضيه أو مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه وانتظر ثلاثة ايام ولا يزاد عليه وان لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه وفسخ الكتابة عند أبى حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان - ولا يجوز للمولى تعجيزه الا بالقضاء أو برضاء العبد - (مسئلة) ما ادى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى وان كان غنيا أو هاشميّا لتبدل الملك فان العبد يتملك صدقة والمولى عوضا عن العتق واليه وقعت الاشارة النبوية في حديث عائشة رضى اللّه عنها - حيث قالت دخل رسول اللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 516(1/4654)
صلى اللّه عليه وسلم والبرمة تفور بلحم - فقرب إليه خبز وآدم من آدم البيت - فقال الم أر برمة فيها لحم قالوا بلى ولكن ذلك لحم تصدق على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال هو عليها صدقة ولنا هدية متفق عليه بخلاف ما إذا أباح للغنى أو الهاشمي لان المباح له يتناوله على ملك المبيح فلم يتبدل الملك فلم يتطيب ونظيره المشترى شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملّكه يطيب له - (مسئلة) إذا مات المكاتب قبل أداء بدل الكتابة مات رقيقا عند الشافعي واحمد ويرتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع - قال البغوي وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز وقتادة - وقال أبو حنيفة ومالك والثوري وعطاء وطاؤس والحسن البصري والنخعي ان ترك ما يفى بدل الكتابة فهو حرّ وبدل الكتابة للمولى والزيادة لورثته الأحرار - إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال ابن عمر يعنى قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقال الحسن والضحاك ومجاهد يعنى مالا لقوله تعالى في الوصية ان ترك خيرا أى مالا - روى ان عبدا ... لسلمان قال له كاتبنى قال لك مال قال لا قال تريد ان تطعمنى من أوساخ الناس ولم يكاتبه - وهذا القول ضعيف لان العبد وما في يده من المال ملك المولى إذ هو ليس أهلا لمالكية المال ...
للمنافاة بين المالكية والمملوكية والواجب عليه الأداء مما يملكه بعد ما صار أهلا لمالكيه المال يدا - وقال الزجاج لو أراد المال لقال ان علمتم لهم خيرا وقال ابراهيم بن زيد وعبيد صدقا وامانة - واخرج البيهقي عن ابن عباس قال امانة ووفاء وقال الشافعي اظهر معانى الخير في العبد الاكتساب مع الامانة فاحب ان لا يمتنع من كتابته إذا كان كذا - وقال صاحب الهداية المراد بالخير ان لا يضرّ بالمسلمين وان كان يضرّبهم بان كان كافرا يعين الكفار
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 517(1/4655)
او نحو ذلك يكره كتابته ولكن تصح لو فعله - وحكى عن عبيدة في قوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أى أقاموا الصلاة وقيل وهو ان يكون العبد عاقلا بالغا فاما الصبى والمجنون فلا يصح كتابتها لان الابتغاء منهما لا يصح - قلت رتب اللّه سبحانه الأمر بالكتابة على قوله وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ فاشتراط العقل فهم منه فيكون هذا الشرط على هذا التقدير لغوا واشتراط البلوغ لا وجه له لان الصبى العاقل يتحقق منه الابتغاء - (مسئلة) العبد الّذي لا كسب له لا يكره كتابته عند أبى حنيفة ومالك والشافعي واحمد في رواية عنه وفي رواية عن احمد يكره بناء على ارادة قدرة الاكتساب من الخير قلت لو سلمنا كون قدرة الاكتساب شرطا لاستحباب الكتابة فانعدام شرط الاستحباب لا يقتضى الكراهة - كيف ويمكنه الوصول إلى المال بقبول الصدقات - (مسئلة) يكره كتابة الامة الغير المكتسبة اتفاقا لانها عسى ان تكتسب المال بالزنى واللّه اعلم - وأتوهم من مال اللّه الّذى أتاكم حثّ لجميع الناس على اعانتهم بالتصدق عليهم فريضة كانت أو نافلة - وقيل المراد سهمهم الّذي جعل اللّه لهم من الصدقات المفروضات بقوله وفي الرّقاب وهو قول الحسن وزيد بن اسلم - ولفظ الآية لا يقتضى تخصيص الصدقات بالمفروضة فان هذا الأمر أيضا للاستحباب كالامر بالكتابة - وقيل هذا خطاب للسادة فقيل يستحب للمولى ان يحط « 1 » من بدل الكتابة شيئا وقيل يجب عليه ذلك قال البغوي وهو قول عثمان وعلّى والزبير وجماعة وبه
_________
(1) روى عن عمر انه كاتب عبد اللّه يكنى أبا امية فجاء بنجمه حين حلّ قال يا أبا امية اذهب فاستعن به في مكاتبتك قال يا امير المؤمنين لو تركته حين يكون من اخر نجم قال أخاف ان لا أدرك وكدت ثم قرأ وأتوهم من مال اللّه الّذى أتاكم - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 518(1/4656)
قال الشافعي ثم اختلفوا في قدره فقال قوم حط عنه ربع الكتابة وهو قول على أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية والبيهقي من طريق ابن عبد الرحمان السلمى ورواه بعضهم عن علىّ مرفوعا - وعن ابن عباس يحط عنه الثلث وقيل يحط عنه ما شاء وهو قول الشافعي قال نافع كاتب عبد اللّه بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين الف درهم فوضع في اخر كتابته خمسة آلاف درهم وقال سعيد بن جبير كان ابن عمر إذا كاتب لم يضع عن مكاتبه من أول نجومه مخافة ان يعجز فيرجع إليه صدقته ووضع في اخر كتابته ما احبّ - قلت تفسير الإيتاء بالحط غير صحيح لان الإيتاء يدل على التمليك ولا تمليك في الحط ومن هاهنا قال أبو حنيفة لا يجب على المولى قط شيء من البدل اعتبارا بالبيع فانه عقد معاوضة ولا يجب الحط في سائر المعاوضات فكذا فيها وهذا لان الكتابة سبب لوجوب مال الكتابة على العبد فلا يجوز ان يكون بعينه سببا لاستحقاق الحط الّذي هو ضد الوجوب كالبيع قلت بدل الكتابة غير مقدر اجماعا فلو كان حط شيء من بدل الكتابة واجبا على المولى لكان للمولى ان يكاتبه على الالف إذا أراد كتابته على سبعمائة فيحط عنه ثلاثمائة ويخرج عن العهدة ولا فائدة في ذلك - أخرج مسلم من طريق أبى سفيان عن جابر بن عبد اللّه قال كان عبد اللّه بن أبى بن سلول يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا فانزل اللّه تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ يعنى إمائكم عَلَى الْبِغاءِ يعنى على الزنى عطف على قوله وانكحوا الأيامى عطف النهى على الأمر وما بينهما معترضات واخرج مسلم من هذا الطريق ان جارية لعبد اللّه بن أبى يقال لها مسيكة واخرى يقال لها اميمة فكان يريدهما على الزنى فشكتا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى هذه الآية - واخرج الحاكم من طريق أبى الزبير عن جابر قال كانت مسيكة لبعض الأنصار فقالت ان سيدى يكرهنى(1/4657)
على البغاء فنزلت - واخرج
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 519
البزار والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال كانت لعبد اللّه بن أبيّ جارية تزنى في الجاهلية فلما حرم الزنى قالت واللّه لا ازنى فنزلت - واخرج البزار بسند ضعيف عن انس نحوه وسمى الجارية معاذة - واخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة ان عبد اللّه بن أبيّ كانت له امتان مسيكة ومعاذة فكان يكرههما على الزنى فقالت إحداهما ان كان خيرا فقد استكثرت منه وان كان غير ذلك فانه ينبغى ان ادعه فانزل اللّه - قال البغوي وروى انه جاءت احدى الجاريتين يوما ببرد وجاءت الاخرى بدينار فقال لهما فارجعا فازنيا قالتا واللّه لا نفعل قد جاء الإسلام وحرم الزنى فاتتا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشكتا فانزل اللّه تعالى هذه الآية واخرج الثعلبي من حديث مقاتل انه كان لعبد اللّه بن أبيّ ست جوار الحديث فنزلت وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أى تعففا قال البيضاوي ليس هذا شرطا قيدا للاكراه فانه لا يوجد بدونه وان جعل شرطا للنهى لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز ان يكون ارتفاع النهى بارتفاع المنهي عنه يعنى عند عدم ارادة التحصن يمتنع الإكراه بل يتحقق الزنى طوعا - قلت ان هاهنا بمعنى إذا وهو ظرف ليس بشرط والكلام خرج كذلك لمطابقة سبب النزول واختير ان موضع إذا للدلالة على ان ارادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر وفي هذا التقييد توبيخ للموالى وتشنيع لهم على إكراههم وتنبيه على انهن مع قصور عقلهن واشتهاء انفسهن لما أردن تحصنا فانتم أيها السادة مع انكم رجال غيور أحق بذلك - وقال الحسين وفضيل في الآية تقديم وتأخير تقديرها وانكحوا الأيامى منكم ان أردن تحصّنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا أى لتطلبوا أيها السادة باكراههن عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى كسبهن وبيع أولادهن وَمَنْ(1/4658)
يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) يعنى للمكروهات والوزر على المكره لما كان الحسن إذا قرأ
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 520
هذه الآية قال لهن واللّه لهن واللّه ولما في مصحف ابن مسعود من بعد إكراههنّ كهنّ غفور رّحيم - أخرج هذه القراءة عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود وعلى
هذا التأويل قوله مَنْ يُكْرِهْهُنَّ مبتدأ خبره محذوف لان الجملة التالية لا تصلح ان تكون خبرا له لعدم العائد إلى المبتدأ تقديره ومن يكرههنّ فعليه وزرهن فانّ اللّه من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رّحيم - ولو قيل تأويل الآية فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ له أى لمن اكره ان تاب جاز كونه خبرا للمبتدأ لكنه بعيد لان سياق الكلام للتوبيخ لمن اكره وذا لا يناسب الوعد بالمغفرة والرحمة كيف والآية نزلت في عبد اللّه بن أبيّ المنافق وقد نزل فيه قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ « 1 » .(1/4659)
فان قيل المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة قلنا الإكراه بجملته لا ينافى اهلية الأداء لوجود الذمة والعقل ولا يوجب وضع الخطاب بحال لان المكره مبتلى والابتلاء يحقق الخطاب ولذلك حرم على المكره بالقتل ونحوه الزنى ان كان رجلا اتفاقا - وكذا حرم قتل النفس على المكره بالفتح مطلقا اتفاقا ووجب عليه القصاص عند زفر خلافا لابى حنيفة على ما حقق في موضعه غير انه تعالى رفع الإثم ورخص في مواضع كاجراء الكفر على اللسان إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان - وإفساد الصلاة والصوم والإحرام وإتلاف مال الغير - إذا كان الإكراه كاملا ورفع الإثم والرخصة انما هو اثر الرحمة والمغفرة الم تسمع إلى قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث ذكر المغفرة والرحمة مع رفع الإثم - ويمكن ان يقال ان رفع الإثم انما هو في الإكراه الملجئ وهو ما يخاف منه المكره تلف نفس أو عضو ممن
_________
(1) وفي الأصل استغفر لهم أو لا تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم ان اللّه لا يهدى القوم الفاسقين - وليس في القرآن هكذا 12 الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 521
يقدر على إيقاعه والكلام هاهنا في اكراه عبد اللّه بن أبى على أمتيه والظاهر ان ذلك لم يكن ملجيا فلم يرتفع الإثم واللّه اعلم - .(1/4660)
وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا محمد في هذه السورة جواب قسم محذوف آياتٍ مُبَيِّناتٍ قرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر على صيغة اسم الفاعل يعنى آيات بينت الاحكام والحدود أو من بين بمعنى تبين يعنى واضحات تصدقها الكتب المقدمة والعقول السليمة - وقرأ الباقون بالفتح على صيغة اسم المفعول يعنى آيات بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الاحكام والحدود وَمَثَلًا مِنَ جنس أمثال الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يعنى قصة عجيبة مثل قصصهم وهى قصة عائشة فانها كقصة يوسف ومريم - أو المعنى شبيها من حالهم بحالكم أيها القاذفون ان يلحقكم مثل ما لحق من قبلكم من المفترين وَمَوْعِظَةً وعظ بها في تلك الآيات لِلْمُتَّقِينَ (34) فانهم هم المنتفعون بها وقيل المراد بالآيات القرآن وهو موصوف بالصفات المذكورة.
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور في الأصل كيفية يدركها الباصرة اوّلا ويدرك بها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجسام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على اللّه تعالى فهو ليس على ظاهره ويدل عليه إضافته إلى ضميره تعالى في قوله مثل نوره - فالمعنى اما بتقدير المضاف أو على المبالغة كقولك زيد كرم أى ذو كرم أو كريم غاية الكرم كأنَّه نفس الكرم مبالغة أو هو مصدر بمعنى الفاعل يعنى منور السموات والأرض بالشمس والقمر والكواكب وبالأنبياء والملائكة والمؤمنين كذا قال الضحاك ويقال منور الأرض بالنبات والأشجار وقيل معناه الأنوار كلها منه يقال فلان رحمة أى منه الرحمة - وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح يقول القائل إذا سار عبد اللّه من مرو ليلة - فقد سار منها نورها وجمالها - وقيل المعنى مدبرها من قولهم للرئيس الفائق في التدبير نور القوم لانهم يهتدون به في الأمور - وقيل معناه موجدها فان النور
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 522(1/4661)
ظاهر لذاته مظهر لغيره واصل الظهور الوجود كما ان اصل الخفاء العدم واللّه سبحانه موجود بذاته موجد لكل ما عداه - أو الّذي به يدرك أو يدرك أهلها من حيث انه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه - ثم على البصيرة لانها افوق إدراكا فانها يدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودة والمعدومة وتغوص في بواطنها ويتصرف فيها بالتركيب والتحليل - ثم ان هذه الإدراكات لبست لا هلها لذواتها ولا لما فارقتها فهى اذن من سبب يفيضها عليه - وهو اللّه سبحانه ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ويقرب من هذا القول ما ذكر البغوي من قول ابن عباس ان معناه هادى أهل السموات والأرض فهم بنوره يعنى بهدايته إلى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون فاضافته إليهما للدلالة على سعة اشراقه - أو لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليها وعلى المتعلق والمدلول بهما - مَثَلُ نُورِهِ أى صفة نور اللّه في قلب المؤمن الّذي يهتدى به إلى ذاته تعالى وصفاته وتصديق ما قال مما لا يستبد في إدراكه عقول الفحول ويرى به الحق حقّا والباطل باطلا قال اللّه تعالى فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ قال البغوي كان ابن مسعود يقرا مثل نوره في قلب المؤمن - وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل نوره الّذى اعطى المؤمن - وقال بعضهم الضمير عائد إلى المؤمن وكان أبى يقرأ مثل نور قلب من أمن وهو عبد جعل اللّه الايمان والقران في صدره - وقال الحسن وزيد بن اسلم أراد بالنور القرآن - وقال سعيد بن جبير والضحاك هو محمد صلى اللّه عليه وسلم - وقيل أراد بالنور الطاعة سمى طاعة اللّه نورا وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه كَمِشْكاةٍ وهى الكوة الّتي لا منفذ لها فان كان لها منفذ فهى الكوة - قيل هى حبشية وقال مجاهد هى القنديل والمضاف مقدر والمعنى مثل نوره كمثل نور مشكوة(1/4662)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 523
فِيها مِصْباحٌ أى سراج مفعال من الصبح بمعنى الضوء ومنه الصبح بمعنى الفجر الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أى في قنديل من الزجاج قال الزجاج انما ذكر الزجاجة لان النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوؤه يزيد في الزجاج وهذه الجملة صفة للمصباح والعائد المظهر الموضوع موضع المضمر ثم وصف الزجاجة بقوله الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ الجملة صفة لزجاجة والعائد فيها أيضا المظهر الواقع موضع الضمير - قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال والمد والهمزة فهو فعّيل من الدرء وقرا أبو بكر وحمزة بضم الدال والمد والهمزة وهذا الوزن شاذ قال اكثر النحاة ليس في كلام العرب فعّيل بضم الفاء وكسر العين وقال أبو عبيدة أصله فعول من دراأت مثل سبوح - ثم استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها إلى الكسرة كما قالوا عتيّا بضم العين من العتو - وعلى هذين القرائتين هو مشتق من الدرء بمعنى الدفع فانه يدفع الظلام بضوئه أو يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه أو يدفع الشياطين من السماء وشبّهه بحالة دفعة الشياطين لأنه يكون في تلك الخالة أضوء وأنور ويقال هو من درأ الكوكب إذا اندفع فيتضاعف ضوؤه في ذلك الوقت وقيل درا بمعنى طلع يقال درأ النجم إذا طلع وارتفع ويقال درأ علينا فلان أى طلع وظهر و(1/4663)
المعنى كانها كوكب طالع وقرأ الآخرون بضم الدال وتشديد الراء والياء منسوب إلى الدّر في صفائه وحسنه - فان قيل الكوكب اكثر ضوءا من الدّرّ فما وجه نسبته إليه قلنا معناه انه أضوء واحسن من سائر الكواكب كما ان الدر أضوء واحسن من سائر الحبوب - وقيل الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام وهى الرخل والمريخ والمشترى والزهرة وعطارد قلت لعل ذلك الكوكب هى الزهرة لكونها أضوء من غيرها - قيل شبه بالكوكب ولم يشبه بالشمس والقمر لان الشمس والقمر يلحقهما الخسوف والكسوف بخلاف الكواكب قلت بل وجه ذلك ان المصباح يشبّه بالشمس حيث قال اللّه تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فشبّه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 524(1/4664)
الزجاجة بالكوكب ليدل على انحطاط رتبة الزجاجة من رتبة المصباح ولو قال كانها شمس لزم فضل الزجاجة على المصباح وهو مخل بالمقصود - يُوقَدُ خبر ثان للمصباح أو حال من الضمير المستكن في الظرف المستقر اعنى في زجاجة العائد إلى المصباح - قرأ ابن كثير « 1 » وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب بفتح الماء الفوقانية وفتح الواو والقاف المشددة والدال على صيغة الماضي من التفعل بمعنى توقد المصباح أى اتقدت يقال توقدت النار أى اتقدت والباقون على صيغة المضارع المجهول من الافعال فابوبكر وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية على ان الضمير راجع إلى الزجاجة بحذف المضاف والتقدير توقد نار الزجاجة لان الزجاجة لا توقد - والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير للمصباح أى يوقد المصباح مِنْ شَجَرَةٍ من للابتداء يعنى ابتداء يوقد المصباح من شجرة أو للسببيّة على حذف المضاف أى من دهن شجرة - أبهم الشجرة ثم وصفها بقوله مُبارَكَةٍ ثم أبدلها وبينها بقوله زَيْتُونَةٍ تعظيما لشأنها وتفخيما لامرها لانها كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة فان الزيت يسرج به وهو اصقى وأضوء الادهان وهو ادام وفاكهة ولا يحتاج في استخراجه إلى عصّار بل كل واحد يستخرجه قال البغوي جاء في الحديث انه مصحح من الناسور وهى شجرة توقد من أعلاها إلى أسفلها - ذكر البغوي عن أسيد بن ثابت أو أسيد الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فانه شجرة مباركة ورواه الترمذي عن عمر مرفوعا واحمد والترمذي والحاكم عن أبى أسيد مرفوعا ورواه ابن ماجة والحاكم وصححه عن أبى هريرة مرفوعا كلوا الزيت وادهنوا به فانه طيب مبارك - ورواه أبو نعيم في الطب عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فانه شفاء من سبعين داء منها الجذام - لا شَرْقِيَّةٍ صفة لزيتونة وحرف النفي جزء من المحمول(1/4665)
_________
(1) وفي الأصل ابن ذكوان - وهو من زلة القلم - أبو محمّد عفا اللّه عنه.
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 525
قيل معناه ليس بمضحى تشرق عليها الشمس دائما فتحرقها وَلا غَرْبِيَّةٍ ولا في مقناة تغرب وتغيب عنها الشمس دائما فتتركها نيا وهو قول السدى وجماعة وقيل معناه لا شرقية تقع عليها الشمس عند طلوعها فقط ولا غربية تقع عليها الشمس عند غروبها دون طلوعها بل هى نابتة على قلة أو في صحراء واسعة تقع عليها الشمس دائما فيكون ثمرها انضج وزيتها أصفى - قال البغوي وهذا كما يقولون فلان لا بأبيض ولا بأسود يريدون ليس بأبيض خالص ولا باسور خالص بل اجتمع فيه الأمران يقال هذا الرمّان ليس بحامض ولا حلواى بل اجتمع فيه الحموضة والحلاوة وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين - وقيل معناه غير نابتة في مشرق الأرض ولا في مغربها بل في وسطها وهو الشام فان زيتون الشام يكون أجود - وقال الحسن ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا كانت شرقية أو غربية وانه مثل ضربه اللّه لنوره - قلت وعلى هذا القول لعل اللّه سبحانه أراد شجرة من أشجار الجنة ومثّل نوره بنور زيتون الجنة يَكادُ زَيْتُها أى دهنها يُضِي ءُ بنفسه لتلألؤه وفرط وبيصه وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يعنى قبل ان يصيبه النار هذه الجملة صفة اخرى لزيتونة وفيه مبالغة في بيان صفاء ...(1/4666)
زيت الزيتون وبياضه - وكلمة يكاد موجب لتصحيح المقال نُورُ به عَلى نُورٍ بالنار فهو نور متضاعف فان نور المصباح زاد في إنارته وصفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط مشكوة لا منفذ فيه - قال البغوي اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل قال بعضهم وقع التمثيل لنور محمد صلى اللّه عليه وسلم قال ابن عباس لكعب الأحبار أخبرني عن قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال كعب هذا مثل ضربه اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم فالمشكوة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيها النبوة يكاد نور محمد صلى اللّه عليه وسلم وامره يتبين للناس ولو لم يتكلم انه نبى كما كان يكاد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 526(1/4667)
ذلك الزيت ان يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور - ولنعم ما قال كعب فها انا اذكر فصلا في ظهور امر نبوته قبل ان يبعث وقبل ان يتكلم انه نبى - (فصل) (فى معجزاته الّتي ظهرت قبل بعثته صلى اللّه عليه وسلم) ذكر في خلاصة السير انه قالت أم النبي صلى اللّه عليه وسلم رايت في المنام حين حملت به انه خرج منى نور أضاء له قصور بصرى من الشام ثم وقع حين ولدته انه لواضع ....(1/4668)
بالأرض رافع رأسه إلى السماء - وقال الحافظ ابن حجران أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت لها قصور الشام وقال صححه ابن حبان والحاكم وعند أبى نعيم في الدلائل انه صلى اللّه عليه وسلم لما ولد ذكرت امه ان الملك غمسه في ماء انبعه ثلاث مرات ثم أخرج صرة من حرير ابيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة وروى البيهقي وابن أبى الدنيا وابن السكن ان ليلة ميلاده صلى اللّه عليه وسلم ارتجس ايوان كسرى وسقطت منه اربع عشرة شرافة وأفزع كسرى وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغارت بحيرة سلوة - وفي حديث عائشة كان يهودىّ سكن مكة يتجر فيها قال ليلة مولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معشر قريش ولد في هذه الليلة نبىّ هذه الامة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كانهن عرف الفرس فخرجوا باليهودى حتى أدخلوه على امه فقالوا اخرجى المولود ابنك فاخرجته وكشفوا عن ظهره فراى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه قالوا مالك مالك قال ذهبت واللّه النبوة من بنى إسرائيل - رواه الحاكم وفي المواهب اللدنية قصة عميصا الراهب كان يقول لاهل مكة يوشك ان يولد منكم يا أهل مكة مولود يدين له العرب ويملك العجم هذا زمانه - فلمّا ولد قال لعبد المطلب قد ولد لك المولود الّذي كنت احدّثكم عنه - وعن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول اللّه دعانى إلى الدخول في دينك امارة لنبوتك رايتك في المهد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 527
تناغى « 1 » القمر وتشير إليه بإصبعك فحيث أشرت إليه مال - قال كنت أحدثه ويحدثنى ويلهينى عن البكاء واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش وعد من الخصائص ان مهده صلى اللّه عليه وسلم كان يتحرك بتحريك(1/4669)
الملائكة - وروى انه صلى اللّه عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد - وروى أبو يعلى وابن حبان عن عبد اللّه بن جعفر عن حليمة مرضعة النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت لما وضعته في حجرى اقبل عليه ثدياى بما شاء « 2 » من لبن فشرب حتى روى وشرب معه اخوه تعنى ضمرة وناما - وما كان ينام قبل ذلك وما كان في ثديى ما يرويه ولا في شارفنا ما يغذيه - وقام زوجى إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا انها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة - ولما رجعنا ركبت أتاني وحملته عليها فو اللّه لقد قطعت « 3 » مالا يقدر عليها شيء من حمرهم - حتى ان صواحبى ليقلن لى ويحك يا بنت أبى ذويب اربعى علينا أ ليس هذه أتانك الّتي كنت خرجت عليها - فاقول بلى وكانت قبل ذلك قد اذمت بالركب حتى شق عليهم ضعفا وعجفا - وعن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث انها أول ما فطمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكلم فقال اللّه اكبر كبيرا والحمد للّه كثيرا وسبحان اللّه بكرة وأصيلا .... فلما ترعرع « 4 »
_________
(1) تناغى أى تجادل ناغت الام صبيها لا طفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة 12 منه رحمه اللّه.
هكذا في حاشية الأصل من يد المفسر رحمه اللّه تعالى والغالب انه تحادث لان المناغاة المحادثة فلعله من زلة القلم 12 الفقير الدهلوي -
(2) بما شاء أى بما شاء اللّه من لبن إلخ كذا في الزرقانى 12 الفقير الدهلوي.
(3) هكذا في الزرقانى وفي الأصل فو اللّه تقطعت إلخ الفقير الدهلوي -
(4) فى الأصل تزعزع بالزاءين المعجمتين وليس بشيء وفي مجمع البحار ترعرع الصبى بالرائين المهملتين إذا نشاء وكبر 12 الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 528(1/4670)
كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم الحديث - وعنه قال كانت حليمه لا تدعه يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة إلى البهم فخرجت حليمة تطلبه فوجدته مع أخته فقالت في هذا الحرّ فقالت أخته يا امه ما وجد أخي حرا رايت غمامة تظلّه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت معه وفي الشمائل المجدية قالت حليمة ما كنا نحتاج إلى السرّاج من يوم أخذناه لان نور وجهه كان أنور من السراج فإذا احتجنا إلى السراج في مكان جئنا به فتنورت الامكنة ببركته صلى اللّه عليه وسلم - وروى ان حليمة لمّا أخذته دخلت على الأصنام فنكس الهبل رأسه وكذا جميع الأصنام من أماكنها تعظيما له - وجاءت به إلى الحجر الأسود ليقبّله فخرج الحجر الأسود من مكانه حتى التصق بوجهه الكريم صلى اللّه عليه وسلم - وروى انه لمّا ارضعته حليمة درّ لبنها وانهمر فكانت ترضع معه عشرة أو اكثر - وكانت حليمة إذا مشت به على واد يابس اخضر في الوقت - وكانت تسمع الأحجار تنطق بسلامها عليه والأشجار تحن بأغصانها إليه - وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج .... هو واخوه يرعيان الغنم فقال اخوه ان أخي الحجازي إذا وقف بقدميه على الوادي يخضر لوقته - وإذا جاء إلى البئر ونحن نسقى الأغنام يعلو الماء إلى فم البئر وإذا قام في الشمس ظلته الغمامة - وتأتى الوحوش إليه وهو قائم فتقبّله - وفي خلاصة السير أن مرضعة النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت بينما هو في بهم لنا إذ جاء اخوه يشتد فقال أخي القرشي قد اخذه رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاه فشقا بطنه قالت فخرجنا نحوه فوجدناه قائما متقنعا وجهه فالتزمناه وقلنا مالك - قال جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعانى فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو - وفي رواية من حديث شداد بن أوس عند أبى يعلى وابى نعيم وابن عساكر فإذا انا برهط ثلاث
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 529(1/4671)
معهم طست من ذهب ملئى ثلجا فعمد أحدهم فاضجعنى على الأرض ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فانعم غسلها ثم أعادها مكانها - ثم قام الثاني واخرج قلبى وانا انظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى به - ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنَّه يتناول شيئا فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه - فختم به قلبى فامتلا نورا وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاد مكانه فوجدتّ برد ذلك الخاتم في قلبى دهرا - ثم قال الثالث لصاحبه تنح فامرّ يده بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتام ذلك الشق - وفي حديث انس قال لقد كنت ارى اثر المخيط في صدره صلى اللّه عليه وسلم - واخرج ابن عساكر ان أبا طالب حين أقحط الوادي استسقى ومعه النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو غلام فاخذ أبو طالب النبي صلى اللّه عليه وسلم والصق ظهره بالكعبة ولاذ النبي صلى اللّه عليه وسلم بإصبعه وما في السماء قزعة - فاقبل السحاب من هاهنا وهاهنا واغدق واغدق وانفجر له الوادي - وفي ذلك قال أبو طالب شعر
و ابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل « 1 »
و في خلاصة السير انه لمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام فلما بلغ بصرى راه بحيرا الراهب فعرفه بصفته فجاء فاخذ بيده وقال هذا رسول رب العالمين يبعثه اللّه رحمة للعالمين - فقيل وما علمك بذلك قال انكم أقبلتم من العقبة فلم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدا ولا يسجد ان الا للنبى وانا نجده في كتبنا - وقال لابى طالب لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود فرده خوفا عليه - ثم خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مرة ثانية إلى الشام وهو ابن خمسة وعشرين سنة مع ميسرة غلام خديجة في تجارة لها قبل ان يتزوجها -
_________
(1) أى المساكين من الرجال والنساء - وهو بالنساء أخص الّتي مات زوجها - منه رح.(1/4672)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 530
فلما قدم الشام نزل تحت ظلّ شجرة قريبا من صومعة راهب فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال من هذا الرجل قال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم فقال ما نزل تحت هذه الشجرة قط الا نبى - وفي بعض الروايات ان الراهب دنا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال امنت وانا اشهد انك الّذي ذكره اللّه في التورية فلما راى الخاتم قبّله وقال اشهد انك رسول اللّه النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة ولواء الحمد وقيل ان ميسرة قال كان إذا كانت الهاجرة واشتد الحرّ نزل ملكان يظلانه من حر الشمس وهو يسير على بعيره - ولما سمعت خديجة ذلك من ميسرة اشتاقت إلى ان يتزوجها صلى اللّه عليه وسلم -
فائدة
قال السهيلي في توجيه قول الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط الا نبى انه يريد ما نزل تحتها هذه الساعة ومبنى قوله هذا بعد العهد بالأنبياء واستبعاد بقاء الشجرة تلك المدة الطويلة واستبعاد وجود شجرة على الطريق تخلو من ان ينزل تحتها أحد قط لكن لفظة قط في الخبر يمنع هذا التوجيه - ولا شك ان المعجزات انما تكون بخرق العادات فلا وجه للاستبعاد فان اللّه قادر على ابقاء الشجرة وصرف الناس عن النزول تحتها زمانا طويلا على خلاف العادة واللّه اعلم - رجعنا إلى التفسير روى سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال المشكوة جوف محمّد صلى اللّه عليه وسلم والزجاجة قلبه والمصباح النور الّذي جعل اللّه فيه لا شرقية ولا غريبة أى لا نصرانى ولا يهودى توقد من شجرة مباركة يعنى ابراهيم عليه السّلام نور على نور نور قلب ابراهيم على نور قلب محمّد صلى اللّه عليه وسلم وقال محمد بن كعب القرظي المشكوة ابراهيم والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد صلى اللّه عليه وسلم سماه اللّه مصباحا كما سماه سراجا حيث قال وسراجا مّنيرا - توقد من شجرة مباركة وهى ابراهيم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 531(1/4673)
عليه السّلام سماه مباركا لان اكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية يعنى ابراهيم لم يكن يهوديّا ولا نصرانيّا ولكن كان حنيفا مسلما لان اليهود يصلّون قبل المغرب والنصارى قبل المشرق - يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار يكاد محاسن محمد صلى اللّه عليه وسلم تظهر للناس قبل ان يوحى إليه نور على نور نبى من نسل نبى نور محمد على نور ابراهيم عليهما الصلاة والسّلام - وقال بعضهم وقع هذا التمثيل لما نور به قلب المؤمن من العلوم والمعارف بنور المشكوة المثبت فيها من مصباحها ويؤيده قراءة أبيّ وابن مسعود روى أبو العالية عن أبى بن كعب قال هذا مثل المؤمن فالمشكوة نفسه والزجاجة صدره والمصباح ما جعله اللّه من الايمان والقران في قلبه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهى الإخلاص للّه وحده فمثله كمثل الشجرة الّتي التفت بها الشجر وهى خضراء ناعمة لا يصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت - وكذلك المؤمن قد احترس من ان يصيبه شيء من الفتن فهو بين اربع خلال إذا اعطى شكر وإذا ابتلى صبر وإذا حكم عدل وإذا قال صدق - يكاد زيتها يضئ أى يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل ان يتبين له لموافقته إياه نور على نور قال أبى وهو ينقلب بين خمسة أنوار قوله نور وعلمه نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة - وقال ابن عباس هذا مثل نور اللّه وهذا في قلب المؤمن يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور قلت يعنى قلب الصوفي ينشرح بالحق قولا وفعلا واعتقادا فيقبله وينقبض بالباطل فلا يقبله ومن ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استفت نفسك وان أفتاك المفتون - رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن فإذا جاءه العلم بالكتاب والسنة ازداد هدى ويقينا وقال الكلبي يعنى ايمان المؤمن وعمله وقال السدى نور الايمان ونور القرآن - وقال الحسن وابن زيد هذا مثل للقران(1/4674)
فالمصباح
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 532
هو القرآن فانه كما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقران والزجاجة قلب المؤمن والمشكوة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحى يكاد زيتها يضئ أى يكاد حجة القرآن يتضح وان لم يقرأ - يعنى القرآن نور من اللّه عزّ وجلّ لخلقه مع ما اقام لهم من الدلالات والاعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورا على نور - وقيل هو تمثيل للهدى الّذي دل عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة - أو تشبيه للهدى من حيث انه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح وانما دخل الكاف على المشكوة لاشتمالها عليه - أو تمثيل لما منح اللّه على عباده من القوى الدراكة الخمس المترتبة الّتي ينط بها المعاش والمعاد وهى الحساسة الّتي يدرك المحسوسات بالحواس الخمس والخيالة الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت - والعاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلية والمتفكرة الّتي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم مالم يعلم والقوة القدسية الّتي يتجلى فيها لوائح الغيب واسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنيّة بقوله(1/4675)
تعالى وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهى المشكوة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت - فان الحساسة كالمشكوة لان لها محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا يدرك ما وراءها واضاءتها بالمعقولات لا بالذات - والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للانوار العقلية وانارتها بما يشتمل عليها من العاقلة - والعاقلة كالمصباح لاضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الالهية - والمتفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة للزيت الّذي هو مادة المصباح الّتي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 533(1/4676)
فى القبيلتين منتفعة من الجانبين - والقوة القدسية كالزيت فانها لصفائها وذكائها يكاد يضئ بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم - أو تمثيل للقوة العقلية فانها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكوة ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط احساس الجزئيات بحيث يتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلالية في نفسها ......(1/4677)
فاذا حصل له العلوم فان كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وان كان بالحدث فكالزيت وان كان لقوة قدسية فكالذى يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لانها تكاد تعلم ولو لم يتصل بملك الوحى والإلهام الّذي مثله النار من حيث ان العقول تشتعل عنها - ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث يتمكن من إحضارها متى شاءت كان كالمصباح فإذا استحضرها كان نورا على نور ولى في هذه الآية تأويلان آخران مبتنيان على كشف المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه أحدهما اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى موجدها ومظهرها من كتم العدم في الخارج الظلي مثل نوره أى وجوده الّذي انبسط على ماهيات الممكنات - والاضافة للتشريف كما في بيت اللّه وناقة اللّه أو لأنه صادر منه كما يقال نور الشمس والقمر لما انبسط على الأرض من النور لاجل مقابلتهما كمشكوة أى كنور مشكوة على حذف المضاف فيها مصباح تنورت المشكوة بذلك المصباح فكما ان المشكوة استفادت النور وتنورت بالمصباح كذلك ماهيات الممكنات استفادت نور الوجود ووجدت بمصباح صفات اللّه سبحانه وأسمائه الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ نعت اللّه سبحانه المصباح بكونها في الزجاجة لكمال التصوير - فان المجدد رضى اللّه عنه قال ان مبادى تعينات عامة الممكنات (سوى الأنبياء والملائكة) ظلال الأسماء والصفات وذلك ان اللّه سبحانه كما يعلم صفات كماله كذلك يعلم نقائضها الّتي هى مسلوبة عنه تعالى كالموت نقيض الحيوة والجهل نقيض العلم والعجز نقيض القدرة والصمم نقيض السمع والعمى نقيض البصر والبكم نقيض الكلام والجبر نقيض الارادة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 534(1/4678)
و التعطل نقيض التكوين - وإذا اجتمعت في مرتبة العلم صفاته تعالى مع نقائضها انتقشت وتلونت صور تلك النقائض بعكوس الصفات فصارت مخلوطات حقائقها الاعدام وعوارضها عكوس الصفات - فتلك المخطوطات تسمى في اصطلاح الصوفية بظلال الصفات والأعيان الثابتة في مرتبة العلم ومبادى تعينات الممكنات وحقائقها ومربيات لها وهى كالزجاجة الّتي تنورت بنور المصباح والظرفية من حيث التجلّى فان الصفات تجلّت في الظلال .... فتنوّرت الظلال بانوارها كما ان الزجاجة تنوّرت بنور المصباح الكائن فيها والظلال تجلّت واعطت نورها المقتبس من الصفات على ماهيات الممكنات - فتنوّرت ووجدت وظهرت الماهيات بنور الظلال كما ان المشكوة تنورت بنور الزجاجة المقتبس من المصباح - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجابه النور لو كشفه لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه رواه مسلم في حديث أبى موسى لعل المراد بالنور في هذا الحديث هى مرتبة الظلال وسبحات الوجه صفات اللّه سبحانه - فان ماهيات الممكنات لدنو رتبتها وضعف استعداداتها غير صالح للاقتباس عن الصفات من غير توسط الظلال فلولاها لانعدم الممكنات بأسرها - لكن الأنبياء والملائكة لقوة استعداداتهم اقتبسوا من الصفات كما ان الظلال اقتبسوا منها ولاجل ذلك خلقوا معصومين لانعدام الشر في أصولهم الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يعنى انها لا معة بانوار المصباح بحيث تشتبه بالمصباح على الناظرين حتى لا يكادون يميزون بينها وبين المصباح قال الشاعر
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر
فكانّما خمر ولا زجاج وكانّما زجاج ولا خمر
و من أجل هذا التشابه والتشاكل بين الظلال والصفات زعم كثير من العرفاء (و هم الصوفية الوجودية) الظلال صفات للّه تعالى ولم تتميّز عندهم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 535(1/4679)
المرتبتان وقالوا الصفات عين الذات - وزعموا ماهيات الممكنات عين ما يتجلّى فيها من مربياتها - فقالوا ليس في الكون الا اللّه وليس في جبتى سوى اللّه وقال شاعرهم شعر
لا ملك سليمان ولا بلقيس ولا آدم في الكون ولا إبليس
و الكل صور وأنت المعنى يا من هو للقلوب مقناطيس
و ما هى الا هفوات نشات من السكر وغلبة العشق فلم يتميزوا بين المتجلّى وبين ما تجلّى فيه رحمهم اللّه - يوقد ذلك المصباح من شجرة مّبركة زيتونة يعنى من زيتها اعلم ان الصفات تنوّرت أى وجدت وظهرت في الخارج الحقيقي بذات اللّه سبحانه فهى ممكنة في نفسها واجبة بذات اللّه تعالى وهى من جهة إمكانها مربيات لتعينات الأنبياء والملائكة وهى موجودة بوجود قديم مستفاد من الذات فالذات شبّهت بشجرة مّباركة زيتونة - ولاجل ذلك نعتت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية لمتنزه الذات عن جميع الجهات - وهذه الصفات الّتي شبّهت بالمصباح زائدة على الذات على ما هو مستفاد من الكتاب والسنة وعليه انعقد اجماع أهل الحق من الامة - واما قول الأشعري انها لا عين الذات ولا غيرها معناه انها زائدة على الذات فليست عينها غير منفكة عنها وهو المعنى بلا غيرها وأنكر الفلاسفة والمعتزلة الصفات الزائدة وقالوا لو كانت الصفات غير الذات زائدة عليها لزم احتياج الذات إليها في ترتب الآثار - فقال المتكلمون الممتنع الاحتياج إلى شيء اجنبى واما الاحتياج إلى الصفات فغير ممتنع - وقال المجدد رضى اللّه عنه ان صفات اللّه تعالى الزائدة على الذات موجودة في الخارج على ما اقتضته الحكمة الخفية ودلت عليه النصوص والإجماع لكن ذاته تعالى في حد ذاته مستغن عن الصفات غير محتاجة إليها في ترتب الآثار حتى لو فرضنا عدم الصفات لكفى الذات في ترتب الآثار - فالذات كاف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 536(1/4680)
فى الاستماع ولو فرضنا عدم زيادة وصف السمع وكذلك كاف في الابصار ونحو ذلك فالذات باعتبار انها صالحة لترتب اثار الاستماع تسمى شأن السمع واعتباره وباعتبار انها صالحة للابصار تسمى شأن البصر وهكذا فالشيون اصول للصفات كما ان الصفات اصول للظلال - وهذه الاعتبارات والشيون الكائنة في الذات شبيهة بالزيت في الشجرة المباركة الزيتونة فتم التشبيه بقوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ حيث جاز ترتب الآثار على اعتبارات الذات ولو لم تكن هناك صفات شبيهة بنار المصباح - نور على نور - يعنى نور المصباح المنور للزجاج والمشكوة زائد على نور زيت الشجرة كما ان نور الصفات في ترتب الآثار عليها واضاءة الماهيات وإيجاد الممكنات زائد على نور اعتبارات في الذات يهدى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يعنى لا يعلم هذه المعارف الخاصة الا من يشاء اللّه من خواص العرفاء واللّه اعلم - وعلى هذا التأويل في هذه الآية اشارة إلى الإيجاد والولادة الاولى من كتم العدم إلى الوجود الخارجي الظلي المستلزم لا قربية الذات بسائر الموجودات عامة المكنى بقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقد ذكرنا تحقيق الاقربية في تفسير تلك الآية في سورة قاف -
و التأويل الثاني(1/4681)
على ما قاله السلف اللّه نور السّموت والأرض أى هادى أهل السموات والأرض فهو بنوره يهتدون إلى معرفة الذات والصفات ويرتقون إلى مدارح القرب الخاص المكنى عنه بقوله تعالى قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وقوله تعالى اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وقوله عليه السّلام حكاية عن اللّه سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أجبته فإذا أجبته كنت سمعه الّذي يسمع به الحديث - وهذا القرب هو المسمى بالولاية الخاصة مثل نوره في قلب المؤمن كمشكوة أى كنور مشكوة فيها مصباح فالمشكوة حينئذ مثال لقلب المؤمن والمصباح الموقد من شجرة مباركة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 537(1/4682)
زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار شبيه بما يتجلّى في قلب المؤمن من صفات اللّه سبحانه المنشعبة من الذات المندمج فيها الشيون والاعتبارات الذاتية على ما مرّ تقريره - وقوله الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ اشارة إلى ان عامة الناس من الأولياء ليس حظهم من تجليات الصفات الا من وراء حجب الظلال فان مبادى تعينات غير الأنبياء انما هى ظلال الصفات ففاية ارتقائهم بالاصالة إلى أصولهم وهى الظلال الّتي يقتبسون بتوسطها أنوار الصفات فيحصل لهم فيها الفناء والبقاء ويتقربون إلى اللّه بقرب يسمى ولاية الأولياء وهى الولاية الصغرى لكن بعض الآكلين منهم قد يحصل لهم الترقي من هذا المقام بتبعية صاحب الشريعة إلى مقام الصفات بل إلى الشيون والاعتبارات ويحصل فيها الفناء والبقاء فمقام الصفات من حيث الظهور يعنى من حيث قيامها بالذات يسمى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء ومن حيث البطون يسمى الولاية العليا ولاية الملائكة - ثم الصديقون منهم (و هم ثلّة من الاوّلين يعنى اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقليل من الآخرين) يرتقون من مقام الصفات والشيون إلى مرتبة الذات المتعالي من الشيون والاعتبارات حتى يتجلّى الذات بلا حجب الصفات والاعتبارات فتبارك اللّه رفيع الدرجات - وليس في هذه الآية اشارة إلى الفريقين الأخيرين غير ان قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ جاز ان يكون اشارة إلى تفاوت درجات الأولياء في مراتب وصولهم إلى اللّه تعالى - يعنى ان هناك نور على نور بعضها فوق بعض يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ على حسب ما شاء عن عبد اللّه بن عمرو قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه - رواه احمد والترمذي
التفسير المظهري ج 6 ، ص : (1/4683)
538
يعنى خلق اللّه خلقه في ظلمة أى جهل وضلال ناش من العدم الذاتي الكائن في مبادى تعيناتهم فالقى عليهم من نوره أى من النور الّذي اقتبس الظلال من الصفات فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن اخطأه ضل وطريق الاصابة ان يقتبس ذلك النور ممن بعثه اللّه رحمة للعالمين وشرح صدره وملأ قلبه نورا وحكمة وايمانا ويجعل قلبه مرءاة لقلبه عليه السّلام فيتنور قلبه بقدر الاقتباس والاقتفاء فمنهم من اكتسب صورة الايمان ونجا من الكفر في الدنيا والنيران في الاخرة ومنهم من اكتسب حقيقة الايمان على تفاوت الدرجات ومنهم من لم يقتبس أصلا فاخطأه النور وضلّ - عن أبى عنبسة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان للّه تعالى آنية من أهل الأرض وانية ربكم قلوب عباد اللّه الصالحين واحبّها إليه ألينها وأرقها - رواه الطبراني وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعنى يبين في القرآن للامور الّتي لا سبيل للحواس إليها بالأمثال المحسوسة ليحصل للناس بها علم ويزداد وضوحا - وجاز ان يكون معنى الآية ان اللّه يرى أولياءه في عالم المثال أمثالا لما لا مثل له حتى يتبين لهم الحق - وذلك ان القرب إلى اللّه سبحانه ثابت بالكتاب والسنة لا يزال العبد يتقرب إليه بالنوافل لكن ذلك القرب امر غير متكيف لا يمكن دركه بالحواس ولا بالعقل ولا يتعلق به علم حصولى ولا حضورى ولكن يدرك بعلم مفاض من اللّه تعالى س وى ما ذكر وهو المكنى بقوله حتى كنت سمعه الّذي يسمع به - وجعل اللّه تعالى لدركه وجها اخر وهو ان الأمور الّتي لا مثل لها يتمثل في عالم المثال بصورة الأجسام فيرى الصوفي في عالم المثال دائرة للظلال ودائرة للصفات ونحو ذلك - وكلّما يتقرب العبد إلى اللّه بالنوافل والانابة والاجتباء يرى الصوفي نفسه سائرا إلى دائرة الظلال حتى يصلها و(1/4684)
يضمحل فيها ويتلون بلونها - ثم يرى نفسه سائرا إلى الصفات حتى يصلها ويضمحل فيها ويتلون بلونها - وذكر التلون انما هو لقصور العبارة والّا فلا لون هناك قال اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 539
سنريهم ايتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم انّه الحقّ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35) هذه الجملة حال من فاعل يضرب.(1/4685)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ صفة لبيوت وان بتقدير الباء متعلق بإذن أى اذن اللّه بان ترفع تلك البيوت والمراد بها المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس المساجد بيوت اللّه في الأرض وهى تضيء لاهل السماء كما تضيء لاهل الأرض النجوم - ومعنى ان ترفع قال مجاهدان تبنى نظيره قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بنى للّه مسجدا بنى اللّه له بيتا في الجنة متفق عليه من حديث عثمان وقال الحسن معناه ان تعظم يعنى لا يذكر فيها القبيح من القول قال اللّه تعالى أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - قال البغوي روى صالح ... بن حبان عن بريدة في هذه الآية قال انما هى اربع مساجد لم يبنها الا نبى الكعبة بناها ابراهيم وإسماعيل وبيت المقدس بناها داود وسليمان ومسجد المدينة ومسجد قبا اسّس على التّقوى من اوّل يوم بناهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قلت ولا وجه لتخصيص هذه المساجد وان كن هى أفضل المساجد البتة - قوله في بيوت متعلق بما قبله أى كمشكوة في بعض بيوت كذلك أو توقد في بيوت كذلك فيكون تقييدا للممثل به - وهذا التأويل عندى ضعيف لان اللّه سبحانه شبّه نوره بنور المشكوة وقيدها بقيود تدل على قوة النور وشدة لمعانه ولا مدخل في ذلك لهذا القيد أصلا - والقول بان قناديل المساجد تكون أعظم ممنوع بل قناديل مجالس الأغنياء يكون أقوى نورا وأشد لمعانا من قناديل المساجد - فالاولى ان يقال انه متعلق بقوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فان الهداية غالبا يكون للعاكفين في المساجد والمصلين حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلاة معراج المؤمن « 1 » وقال
_________
(1) هكذا بياض في الأصل 12.(1/4686)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 540
اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء - رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبى هريرة وجاز ان يكون متعلقا بمحذوف يعنى سبحوا امر بالتسبيح لجلب هداية اللّه المذكور فيما سبق وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في الصلاة وخارجها قال ابن عباس يتلى فيها كتابه يُسَبِّحُ صفة اخرى لبيوت أو جملة مستأنفة أو خبر اخر للّه يعنى اللّه نور السّموت والأرض واللّه يسبح له - قرأ أبو بكر وابن عامر بفتح الباء على البناء للمفعول مسندا إلى احدى الظروف الثلاثة المذكورة بعدها والوقف على هذا على الآصال والباقون بكسر الباء على البناء للفاعل لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) قال أهل التفسير أراد به الصلوات المكتوبات فان المساجد بنيت لاجلها فصلوة الفجر تؤدّى بالغدو والاربعة الباقية بالآصال - والغدو في الأصل مصدر اطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع « 1 » اصل أى العشى وقيل أراد صلوة الصبح والعصر لكمال الاهتمام فان الصبح وقت النوم والعصر وقت الاشتغال بالسوق ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى البردين دخل الجنة - رواه مسلم من حديث أبى موسى وقال اللّه تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال البغوي روى عن ابن عباس قال التسبيح بالغدو وصلوة الضحى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مشى إلى صلوة مكتوبة وهو متطهر فاجره كاجر الحاج المحرم ومن مشى إلى صلوة الضحى لا ينصبه الا إياه فاجره كاجر المعتمر وصلوة على اثر صلوة كتاب في عليين - ذكره البغوي من حديث أبى امامة وروى الطبراني عنه بلفظ من مشى إلى صلوة مكتوبة في الجماعة فهى كحجة ومن مشى إلى صلوة تطوع فهى كعمرة نافلة - .
رِجالٌ فاعل يسبح على قراءة الجمهور وفاعل لفعل محذوف دل عليه يسبح على قراءة ابن عامر وابى بكر في جواب سوال مقدر كانّه قيل(1/4687)
_________
(1) وفي مجمع البحار الآصال جمع اصل (بضمتين) جمع اصيل وقيل غير ذلك 12 الفقير الدهلوي. [.....]
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 541
من يسبح له فقال يسبح له رجال - خص الرجال بالذكر لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد أو لان الغالب في النساء الجهل والغفلة لا تُلْهِيهِمْ أى لا تشغلهم تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ أفرد البيع بالذكر مع شمول لفظ التجارة إياه لأنه أهم من قسمى التجارة فان الربح يتوقع بالاشتراء ويتحقق بالبيع - وقيل أراد بالتجارة الاشتراء (و ان كان اسم التجارة يقع على البيع والاشتراء) يدل عطف البيع عليه - وانما ذكر لفظ التجارة موضع الاشتراء لان الاشتراء مبدأ التجارة وقيل أراد بالتجارة المعاملة الرابحة ثم ذكر البيع مبالغة بالتعميم بعد التخصيص - وقال الفراء التجارة لاهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعنى عن حضور المساجد لا قام الصلاة قال البغوي روى سالم عن ابن عمر انه كان في السوق فاقيمت الصلاة فقام الناس فاغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ان فيهم نزلت لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أو المراد لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه ودوام الحضور وهذا يعم من ترك المعاملات واستغرق أوقاته بالطاعات واعتزل الناس ومن لم يترك المعاملات وهو مع اشتغاله بالتجارات لا يشغل التجارة قلبه عن ذكر اللّه فهو في الناس كائن بائن ظاهره مع الخلق وباطنه مع اللّه غافل عما سواه وَإِقامِ الصَّلاةِ عوض فيه الاضافة من التاء المعوضة من العين الساقط بالاعلال - قال البغوي أراد اللّه سبحانه أداءها في أوقاتها لان من اخّر الصّلوة عن وقتها ليس هو مقيما للصلوة وَإِيتاءِ الزَّكاةِ المفروضة قال ابن عباس إذا حضر وقت الزكوة لم يحبسوها - وقيل هى الأعمال الصالحة كلها - يَخافُونَ حال من فاعل يسبح أو من(1/4688)
مفعول لا تلهيهم يعنى انهم مع ما هم عليه من الذكر والطاعة يخافون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ صفة ليوما والعائد ضمير فيه يعنى تضطرب وتتغير من الهول الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) وقيل
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 542
معناه تتقلّب قلوب الكفار عمّا كانت عليه في الدنيا من الكفر والشك وتنفتح أبصارهم من الاغطية فتبصر ما لم تكن تبصر ولم تحتسب وتتقلب قلوب المؤمنين وأبصارهم عما كانوا عليه من القناعة بمشاهدة المثال فيرون اللّه سبحانه كالقمر ليلة البدر وكالشمس في رابعة النهار - وقيل معناه تتقلب القلوب يوم القيامة من الخوف والرجاء يخشى الهلاك ويطمع النجاة وتتقلب الابصار حولهم من أى ناحية يؤخذا من ذات اليمين أم من ذات الشمال ومن اين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال - وقيل تتقلب القلوب من الخوف فترجع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج وتتقلب الابصار أى تشخص من هول الأمر وشدته.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بيسبح أو بلا تلهيهم وجاز ان يكون متعلقا بيخافون ويكون اللام حينئذ للعاقبة إذا لخوف ليس من الافعال الاختيارية - والعلة الغائية يختص بالافعال الاختيارية - أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا الموعود لهم من الجنة فهو منصوب على المصدر أو المعنى يجزيهم أعمالهم الحسنة فاحسن بمعنى حسن وهو منصوب على المفعولية وَيَزِيدَهُمْ على الجزاء الموعود أو على جزاء أعمالهم مالم يخطر ببالهم مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشية وسعة الإحسان يعنى يرزق اللّه ما لا نهاية له يقال فلان ينفق بغير حساب أى يوسع كأنَّه لا يحسب ما ينفقه - .(1/4689)
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وهو اللامع في المفازة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة يظن انه ماء يسرب أى يجرى - الجملة معطوفة على مضمون الكلام السابق تقديره المهتدون بنور اللّه يجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم والذين كفروا لا ينفعهم أعمالهم فانها كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ القيعة والقاع المستوي من الأرض وجمعه قيعان وتصغيره قويع وقيل هى جمع قاع كحيرة وحار
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 543
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ أى يتوهمه العطشان ماءً تخصيص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة حَتَّى إِذا جاءَهُ أى جاء ما توهمه ماءا وموضعه لَمْ يَجِدْهُ شيئا مما ظنه وَوَجَدَ اللَّهَ أى وجد عذاب اللّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أى أعطاه جزاء اعماله وافيا كاملا على حسب عمله - فان قيل وجد اللّه معطوف على لم يجده وعلى جاءه والضمير المرفوع في كل منهما راجع إلى الظمآن فما معنى وجد الظمآن عذاب اللّه عند السراب - قلت هذا الكلام عندى يحتمل التأويلين أحدهما ان الكافر إذا كان يوم القيامة اشتد عطشه فيرى النار سرابا يحسبه ماء فيسرع إليه حتى إذا جاءه لم يجده شيئا مما توهمه ووجد عذاب اللّه يعنى النار عنده وثانيهما ان المراد بعذاب اللّه ما يلحق الظمآن في الدنيا من الشدة واليأس ومبناه سيئات اعماله حيث قال اللّه تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ - والاولى ان يقال ان حتى ابتدائية يتصل بقوله أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ - والمعنى حتى إذا جاء الكافر عمله في الاخرة لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فالضمير المرفوع في جاءه راجع إلى أحد من الكفار لا إلى الظمآن والمنصوب إلى عمله لا إلى السراب وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) لا يشغله حساب عن حساب يحاسب عباده في قدر نصف يوم من ايام الدنيا - .(1/4690)
أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كسراب واو للتخيير كأنَّه يخير المخاطب في التشبيه فان أعمالهم لكونها غير نافعة موجبة للياس والتحسر كائنة كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كائنة كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب - أو للتنويع فان أعمالهم ان كن حسنات كالصدقة وصلة الرحم ونحوها فهى كالسراب وان كن قبيحات فكالظلمات أو للتقسيم باعتبار الوقتين فانها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الاخرة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 544(1/4691)
كثير الماء منسوب إلى اللج قال البيضاوي هو معظم الماء كذا في النهاية والقاموس وقيل هو تردد أمواجه يَغْشاهُ أى البحر مَوْجٌ يغشاه صفة اخرى للبحر والموج ما يعلو من الماء باضطراب الرياح مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ يعنى امواج مترادفة متراكمة مِنْ فَوْقِهِ أى من فوق الموج الثاني سَحابٌ يحجب أنوار النجوم قرأ البزي بغير تنوين مضافا إلى ظُلُماتٌ بالجر وبرواية القواس سحاب بالرفع والتنوين والظلمات بالجر على البدل من قوله كظلمات وقرأ الباقون سحاب ظلمت كلاهما بالرفع والتنوين فيكون تمام الكلام عند قوله سَحابٌ وظُلُماتٌ خبر لمبتدأ محذوف أى هى ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لينظر إليها وهى اقرب ما يرى لَمْ يَكَدْ يَراها أى لم يقرب ان يراها فضلا ان يراها والضمائر للواقع في البحر وان لم يجز ذكره لدلالة الكلام عليه كذلك اعمال الكفار ظلمات على قلبه بعضها فوق بعض مانعة لهم من الاهتداء وادراك الحق فالكفر الّذي هو من اعمال القلوب كالبحر اللجى المظلم يغشاه ظلمات المعاصي بعضها فوق بعض كالامواج الّتي بعضها فوق بعض والختم والطبع على قلبه كالسحاب على الأمواج - فإذا أراد الكافر التفكر في امور الدين وان يدرك ما هو اجلى البديهيات لم يكد يريها الا ترى انه ينكر الأنبياء مع تواتر معجزاتهم الباهرة ويعتقد الوهية الحجارة مع انحطاط رتبتها عن سائر المخلوقات وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) يعنى ان الهداية امر وهبى بل حصول العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين امر عادى وهبى ليس على سبيل الوجوب عند أهل الحق فكم من بله في امور الدنيا أكياس في امور الاخرة وكم من كيس جربز في الدنيا هم عن الاخرة غافلون وهم في امور الدين كالانعام - وهو المعنى من قوله صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه(1/4692)
ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 545
و قد مرّ فيما سبق قال البغوي قال مقاتل نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن امية كان يلتمس الدين في الجاهلية وليس المسوح فلما جاء الإسلام كفر.
أَ لَمْ تَرَ ا لم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة الحاصل بالوحى والاستدلال والكشف الصريح أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ أى يشهد على تقدسه وتنزهه عن المناقص مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وما في علم اللّه من جنوده وَمن في الْأَرْضِ من الانس والجنّ وغيرهم والمراد جميع المخلوقات وانما أورد كلمة من تغليبا لذوى العقول - والدليل على ارادة العموم قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أى باسطات أجنحتهن في الهواء قيد الطير بالصافات لئلا يلزم التكرار فان الطير الكائنة على وجه الأرض دخلت في من في الأرض كُلٌّ أى كل واحد من المسبحة قَدْ عَلِمَ اللّه صَلاتَهُ أى دعاءه وَتَسْبِيحَهُ وقيل معناه علم كل من المسبحة صلوة نفسه وتسبيحه بتعليم اللّه تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانه مالكهما وخالقهما ولما فيها من الذوات والصفات والافعال وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) مرجع الجميع فيجازى كلهم على حسب عمله حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.(1/4693)
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أى يسوق من التزجية وهو دفع الشيء - ومنه البضاعة المزجاة فانها يدفعها كل أحد ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أى يجمع بين قطع متفرقة بعضها إلى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أى بعضها فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أى المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أى من فتوقه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها بدل اشتمال من السماء ومن في الموضعين لابتداء الغاية وجاز ان تكون الثانية للتبعيض واقعا موقع المفعول مِنْ بيانية بَرَدٍ بيان للجبال فالمعنى على الأول ينزل من جبال كائنة في السماء كائنة تلك الجبال من برد وعلى هذا قال ابن عباس اخبر اللّه تعالى ان في السماء جبالا من برد وعلى الثاني ينزل من السماء بعض جبال يعنى قطعا عظاما تشبه بالجبال في عظمها وجمودها كائنة تلك الجبال من برد
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 546
و جاز ان تكون من هذه للتبعيض واقعا موقع المفعول فَيُصِيبُ بِهِ أى بذلك البرد مَنْ يَشاءُ فيهلك زرعه وأمواله وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا يضره يَكادُ سَنا أى ضوء بَرْقِهِ أى برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) قرأ أبو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء من الافعال فالياء على هذا زائدة.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أى يأتى بالليل بعد النهار وبالنهار بعد الليل أو يزيد في أحدهما ما ينقص من الاخر أو بتغير أحوالهما بالحرّ والبرد والظلمة والنور أو ما يعم ذلك عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل والنهار متفق عليه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَعِبْرَةً أى دلالة على وجود الصانع الواجب وجوده وكمال قدرته واحاطة علمه ونفاذ مشيته وتنزهه عن الاحتياج إلى غيره لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) أى لمن أعطاه اللّه بصيرة وعقلا سليما.(1/4694)
وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ قرأ حمزة والكسائي خالق كلّ دابّة باضافة اسم الفاعل إلى مفعوله حاملا لضمير الفاعل والباقون خلق على صيغة الماضي ونصب كلّ على المفعولية يعنى خلق كل من يدب على الأرض من الحيوانات مِنْ ماءٍ هو جزء مادية أو ماء مخصوص يعنى النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات مالا يتولد من النطفة - وقيل من ماء صفة لدابة وليس صلة لخلق ولا يدخل في الدابة الملائكة والجن - وقيل الماء اصل لجميع الخلائق قال البغوي وذلك ان اللّه خلق الماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة وبعضه نارا فخلق منها الجن وبعضه طينا فخلق منه آدم وسائر الحيوانات فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والديدان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالانسان والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والسباع ولم يذكر من يمشى على اكثر من اربع كالعناكب وبعض الحشرات لانها في صورة من يمشى على اربع وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الإجمال يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر وممّا لم
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 547
يذكر من البسائط والمركبات على اختلاف الصور والهيئات والحركات والطبائع والافعال مع اتحاد المادة على مقتضى مشيته وحكمته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45) فيفعل ما يشاء.(1/4695)
لَقَدْ أَنْزَلْنا فى القرآن آياتٍ أو أنزلنا في عالم الوجود الظلي دلائل مُبَيِّناتٍ مظهرات للحق شواهد على وجود الصانع العليم الحكيم القدير بانواع الدلالات وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) يعنى دين الإسلام الموصل إلى مراتب القرب والفوز إلى الجنة والنجاة من النار يعنى ان الايمان امر وهبى لا يحصل بالنظر في الدلائل الا بتوفيق من اللّه وهدايته واللّه اعلم - ذكر البغوي ان بشر المنافق كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في ارض فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن اشرف فان محمدا يحيف علينا فنزلت.
وَيَقُولُونَ يعنى بشرا وأمثاله من المنافقين آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا أى إياهما ثُمَّ يَتَوَلَّى عن الايمان وعن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه إذا كان حكمه على خلاف هواه فَرِيقٌ مِنْهُمْ الذين لم يكونوا في الخصومة على الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أى بعد قولهم هذا وَما أُولئِكَ اشارة إلى المنافقين كلهم وفيه اعلام بان جميعهم وان أمنوا بلسانهم لم يؤمن قلوبهم أو إلى الفريق المتولى منهم بِالْمُؤْمِنِينَ (47) التعريف للدلالة على انهم ليسوا من المؤمنين الذين عرفتهم ويعلم اللّه صدقهم وإخلاصهم - أخرج ابن أبى حاتم من مرسل الحسن قال كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو محق إذ عن وعلم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم سيقضى له بالحق وإذا أراد ان يظلم فدعى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم اعرض وقال انطلقوا إلى فلان فانزل اللّه.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أى إلى حكم اللّه ورسوله وقيل معنى قوله إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ دعوا إلى رسوله فقوله ورسوله منزلة التفسير لما سبق كما في قوله أعجبني زيد وكرمه - وجملة إذا دعوا إلى آخره
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 548(1/4696)
عطف على ما أولئك بالمؤمنين أو على يقولون لِيَحْكُمَ الرسول بحكم اللّه بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) يعنى فاجأ فريق منهم الاعراض عن الحكم أو عن الايمان يعنى من كان منهم يعلم انه على الباطل.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ على من يخاصمهم يَأْتُوا إِلَيْهِ صلى اللّه عليه وسلم مُذْعِنِينَ (49) منقادين لحكمه ليقينهم انه يحكم بالحق.
أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أى كفر وميل إلى الظلم أَمِ ارْتابُوا بان راؤا منك تهمة فزال ثقتهم ويقينهم بك أَمْ يَخافُونَ يقينا أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ فى الحكومة بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) على أنفسهم بالكفر وعدم الانقياد للّه ورسوله وعلى الناس الناس يريدون ان يأكلوا أموالهم بالباطل إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول وجه التقسيم ان امتناعهم اما لخلل فيهم أو في الحاكم والثاني اما ان يكون محققا عندهم أو متوقعا وكلاهما باطل لان منصب نبوته وفرط أمانته يمنعه فتعين الأول - ويشهد على ذلك إتيانهم للحكم إليه مذعنين إذا كان لهم الحق - أورد ضمير الفصل ليدل على نفى ذلك عن غيرهم لا سيما المدعو إلى حكمه - ثم عقب اللّه تعالى ذكر المؤمنين المخلصين وما ينبغى لهم على ما هو عادته في المثاني والقران العظيم فقال.
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قول منصوب على انه خبر لكان واسمه أَنْ يَقُولُوا يعنى قولهم سَمِعْنا الدعاء وَأَطَعْنا بالاجابة وَأُولئِكَ يعنى من كان هذا قوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) دون غيرهم.(1/4697)
وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس فيما ساءه وسرّه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما عمل من الذنوب وفي مخالفة أحكامه وَيَتَّقْهِ أى يتقى عذابه بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومحافظة أحكامه وحدوده - قرأ حفص بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء لسكون ما قبلها وهذا لغة إذا سقط اليا - للجزم يسكنون ما قبلها يقولون لم اشتر طعاما بسكون الراء والجمهور بكسر القاف على الأصل و
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 549
يسكن الهاء وصلا ووقفا أبو بكر وأبو عمرو وخلاد في رواية عنه عن حمزة والباقون يكسرون الهاء فيختلسها أبو جعفر وقالون ويعقوب ويشبعها الباقون لاجل تحرك ما قبلها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) بالنعيم المقيم ورضوان اللّه تعالى - .
وَأَقْسَمُوا
يعنى المنافقين بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
جهد منصوب على انه مصدر يعنى مضاف إلى مصدر اقسموا من غير لفظه أو حال من فاعل اقسموا باللّه جاهدين بايمانهم يعنى بالغين غايتها - وجهد اليمين مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها أو ظرف يعنى وقت جهدهم ايمانهم أى المبالغة فيه انكار للامتناع لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
يا محمد بالخروج عن ديارهم وأموالهم أو بالخروج للجهاد لَيَخْرُجُنَ
جواب لاقسموا على الحكاية وجزاء للشرط معنى - قال البغوي ذلك ان المنافقين كانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أينما كنت نكن معك لان خرجت خرجنا وان أقمت أقمنا وان امرتنا بالجهاد جاهدنا قال اللّه تعالى قُلْ
لهم لا تُقْسِمُوا
على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ(1/4698)
قال مجاهد أى هذه طاعة بالقول باللّسان دون الاعتقاد وهى معروفة أى امر عرف منكم انكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون - وقيل معناه طاعة معروفة بينة خالصة أفضل وأمثل من الخلف بالقول وقال مقاتل بن سليمان ليكن منكم طاعة معروفة وقيل معناه المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين بالطاعة نفاقا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(53) لا يخفى عليه سرائركم.
قُلْ كرد الأمر تأكيدا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ امر بتبليغ ما خاطبهم اللّه تعالى على الحكاية مبالغة في تبكيتهم فَإِنْ تَوَلَّوْا صيغة مضارع حذفت احدى التاءين بقرينة ان تطيعوه يعنى ان تتولوا أيها المنافقون عن الطاعة فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فَإِنَّما عَلَيْهِ أى على محمد ما حُمِّلَ من التبليغ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال جزاء الشرط محذوف أقيم علته مقامه والتقدير فان تتولوا تخسروا أنفسكم ولا تضرون الرسول شيئا لأنه انما
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 550(1/4699)
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ عليه وقد ادى ما كان عليه وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وأنتم تتولون عنه فتخسرون وَإِنْ تُطِيعُوهُ عطف على ان تولوا أى ان تطيعوا محمدا في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحق والى سبيل الجنة وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) أى التبليغ الموضح لما كلفتم به بيان لما حمل - أخرج الحاكم وصححه والطبراني عن أبيّ بن كعب قال لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون الا بالسلاح ولا يصبحون الا فيه فقالوا ترون انا نعيش حتى نبيت امنين مطمئنين لا نخاف الا اللّه فنزلت وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا أهل المدينة الذين هم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين نزول الآية وليس المراد من المؤمنين عامة لأنه يلزم حينئذ الاستدراك فان كلمة الذين أمنوا مغن عنه.(1/4700)
وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف تقديره وعد اللّه واقسم أى قال واللّه ليستخلفنّهم أو الوعد في تحققه نزل منزلة القسم أى لنورثنهم ارض الكفار من العرب والعجم فنجعلهم يعنى نجعلن منهم خلفاء ملوكا واجب الطاعة سياسة - أو المعنى لنجعلهم بأجمعهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ صفة لمصدر محذوف أى استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من الأنبياء داود وسليمان وغيرهما كذا قال قتادة أو كاستخلاف بنى إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم ارضهم وديارهم وأموالهم يعنى كما كان اللّه تعالى وعد موسى عليه السلام في التورية بفتح بلاد الشام ولم يتحقق انجاز الوعد في حياته عليه السّلام كما قال اللّه تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فاستخلف اللّه بعده يوشع بن نون وأنجز ذلك الوعد على يديه حتى فتح الشام وقسم البلاد في بنى إسرائيل
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 551(1/4701)
بوصية موسى - كذلك وعد اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليظهره على الدين كله ووعد بفتح الشام على ما قرئ غلبت الرّوم على البناء للفاعل في ادنى الأرض وهم من بعد غلبهم أى بعد ما غلبوا على الفارس سيغلبون على البناء للمفعول أى سيغلبهم المسلمون في بضع سنين وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده ولم يتيسر ذلك في حيوة النبي صلى اللّه عليه وسلم - فاستخلف اللّه أبا بكر وعمر وأنجز وعده حين قاتل أبو بكر ببني حنيفة ومن ارتد من العرب وفتح الشام في خلافة عمر حين غزاهم في السنة التاسعة من غلبة الروم الّذي كان يوم الحديبية في سنة ست من الهجرة - وكون الوعد منجزا في خلافة عمر مروى عن على حين استشار عمر اصحاب النبي في المسير إلى العراق للجهاد فاشار علىّ بالجهاد متمسكا بهذه الآية - روى هذا القول عن علىّ بطرق متعددة في كتبنا وفي النهج البلاغة من كتب الروافض قول علىّ رضى اللّه عنه ان هذا الأمر لم يكن نصرته ولا خذلانه بكثرة ولا قلة وهو دين اللّه الّذي أظهره وجنده الّذي أعزه وايّده حتى بلغ ما بلغ وطلع من حيث طلع ونحن على موعود من اللّه حيث قال وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية - فاللّه منجز وعده وناصر جنده إلى اخر ما قال قرأ أبو بكر استخلف بضم الهمزة والتاء وكسر اللام على البناء للمفعول والباقون بكسر الهمزة وفتح التاء واللام على البناء للفاعل لقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...(1/4702)
وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى أى اختار لَهُمْ قال ابن عباس يوسّع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم الإسلام على سائر الأديان وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف وسكون الباء من الابدال والباقون بالتشديد وفتح الباء من التبديل مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً جملة يعبدوننى حال من الّذين أمنوا منكم لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد أو استيناف لبيان المقتضى للاستخلاف وقوله لا يُشْرِكُونَ حال من فاعل يعبدوننى أو حال مرادف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 552
ليعبدوننى من الموصول - قال أبو العالية فاظهر اللّه نبيه على جزيرة العرب فامنوا ووضعوا السلاح ثم ان اللّه قبض نبيه فكانوا كذلك امنين في زمان أبى بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة قال أبو العالية مكث النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة بعد الوحى عشر سنين مع أصحابه وأمروا بالصبر على أذى الكفار ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه - فقال رجل منهم ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت هذه الآية - واخرج ابن أبى حاتم عن البراء قال فينا نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد فانجز اللّه وعده وابدلهم بعد الخوف أمنا وبسط لهم في الأرض - وفيه دليل على صحة النبوة لكونه اخبارا عن الغيب على ما صار الأمر إليه وصحة خلافة الخلفاء الراشدين إذ لو لم يكن المراد خلافة الخلفاء الراشدين لزم الخلف في وعد اللّه إذ لم يجتمع الموعود والموعود لهم الا في زمنهم وصحة مذهب أهل السنة وكونه دينا ارتضاه اللّه - وبطلان مذهب الروافض حيث قالوا الائمة خائفون إلى اليوم حتى لم يظهر المهدى وهو مختف لخوف الأعداء - وقولهم انه سينجز اللّه وعده حين يظهر المهدى باطل يأباه كلمة منكم في الآية واىّ ظهور(1/4703)
للدين ان ظهر بضع سنين بعد الف ومائة ما اجهلهم عن سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ثم قال يعنى سفينة امسك خلافة أبى بكر سنتين وخلافة عمر عشر أو خلافة عثمان اثنتي عشر وخلافة علىّ ستة - وعن عدى بن حاتم قال بينا انا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة واتى إليه اخر فشكى إليه قطع السبيل فقال يا عدى هل رايت الحيرة قلت لم ارها وقد انبئت عنها قال فان طالت بك الحيوة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا الا اللّه (قلت فيما بينى وبين نفسى فاين وعارطى قد سعروا البلاد)
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 553(1/4704)
و لئن طالت بك الحيوة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسر بن هرمر قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحيوة ترين الرجل يخرج ملاكفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه ولقين أحدكم ربه يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول الم ابعث إليك رسولا ليبلّغك فيقول بلى فيقول الم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى الا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى الا جهنم - قال عدى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول اتق النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة قال عدى فرايت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف الا اللّه وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحيوة لتربن ما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج الرجل ملاكفه فلا يجد أحدا يقبله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أى ارتد أو كفر النعمة ولم يشكر بعد تمكين المؤمنين واستخلافهم وتائيد دينهم الّذي ارتضى لهم فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) الخارجون عن الايمان أو عن حد الطاعة قال البغوي قال أهل التفسير أول من كفر بهذه النعمة وجحد بها الذين قتلوا عثمان رضى اللّه عنه فلمّا قتلوه غير اللّه ما بهم وادخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد ما كانوا إخوانا - روى البغوي بسنده عن حميد بن هلال قال قال عبد اللّه بن سلام في عثمان رضى اللّه عنه ان الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى اليوم فو اللّه لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون ابدا فو اللّه لا يقتله رجل منهم الا لقى اللّه أجذم لا يد له وان سيف اللّه لم يزل مغمودا واللّه لئن يسلنه اللّه لا يغمده عنكم (اما قال ابدا واما قال إلى يوم القيامة) فما قتل نبى قط الا قتل به سبعون الفا ولا خليفة الا قتل به خمسة وثلاثون الفا. قلت ثم كفر .....(1/4705)
باستخلاف الخلفاء طوائف الروافض والخوارج ويمكن ان يكون قوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اشارة إلى يزيد بن معاوية
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 554
حيث قتل ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من أهل بيت النبوة وأهان عترته وافتخر به وقال هذا يوم بيوم بدر - وبعث جيشا على مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفعل ما فعل في وقعة الحرة بالمدينة وبالمسجد الّذي اسّس على التّقوى من اوّل يوم وهو روضة من رياض الجنة ونصب المجانيق على بيت اللّه تعالى وقتل ابن الزبير ابن بنت خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفعل ما فعل حتى كفر بدين اللّه وأباح الخمر قوله تعالى.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به لَعَلَّكُمْ أى لكى تُرْحَمُونَ (56) جملة اقيموا مع ما عطف عليه معطوف على قوله وأطيعوا اللّه فان الفاصل وعد على المأمور به وتكرير الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وتعليق الرحمة بها.(1/4706)
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أى معجزين اللّه عن ادراكهم في الأرض وإهلاكهم - قرأ ابن عامر وحمزة لا يحسبنّ بالياء على الغيبة والموصول فاعل له أى لا يحسبن الكافرون أنفسهم معجزين والباقون بالتاء على الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم والموصول مفعوله الأول يعنى لا تحسبنهم معجزين وَمَأْواهُمُ النَّارُ حال من الموصول أو عطف على لا تحسبن من حيث المعنى كانّه قيل الذين كفروا لا يفوتون اللّه ومأويهم النّار وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) النار جملة لا تحسبن وعيد متصل بقوله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ - أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن خبان انه كان لاسماء بنت مرثد غلاما وكثيرا ما يدخل عليها في وقت تكره دخوله عليها فيه فاتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت ان خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في وقت نكرهها فانزل اللّه عزّ وجلّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ رجوع إلى تتمة الاحكام السابقة بعد ذكر ما يوجب الطاعة فيما سلف من الاحكام وغيرها والوعد عليها - والوعيد التف سير المظهري ، ج 6 ، ص : 555(1/4707)
على الاعراض عنها والمراد بالخطاب الرجال والنساء جميعا غلّب فيه الرجال وقال البغوي قال ابن عباس وجّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل وراى عمر بحالة كره عمر رؤية ذلك الحال فانزل اللّه هذه الآية وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يعنى الذين لم يقربوا الحلم من الأحرار كما في قوله تعالى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعنى قار بن البلوغ فدخل في حكم المنع عن الدخول المراهق فانه في حكم البالغ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أى ليستأذنوا في ثلاثة اوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ الّتي كانت لليقظة عند القيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ثلث بالنصب بدلا من قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ والباقون بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف أى هى ثلث عورت لّكم وجاز ان يكون مبتدأ خبره ما بعده - وقيل تقديره ثلاث ساعات انكشاف عورات لكم على حذف المضافين فالعورة على هذا بمعنى السوءة - وقال البيضاوي تقديره هى ثلاث اوقات تخيّل فيها تستّركم واصل العورة الخلل وقيل اصل العورة من العار فتكنى بالعورة عن سوءة الإنسان لما يلحق من ظهوره العار أى المذمّة ولذلك سمى النساء عورة ولذلك يقال العورة للكلمة القبيحة ويقال للشق من الثوب ويقال للخلل في البيت عورة للحوق العار به قال اللّه تعالى إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أى منخرقة - فعلى هذا سميت الأوقات الثلاث عورات للحوق العار برؤية الإنسان فيهن غير مستنر - وفي القاموس العورة الخلل في الثغر وغيره وكل مكمن للستر و(1/4708)
السوءة والساعة الّتي هى قمن من ظهور العورة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 556
فيها وهى ثلاث ساعات قبل صلوة الفجر وعند نصف النهار وبعد العشاء الاخيرة وكل امر يستحيى منه ومن الجبال شعوفها - (مسئلة) - مقتضى هذه الآية انه لا يجوز لعبد وان كان صغيرا عاقلا ان يدخل على سيده ولا لامة ان تدخل على سيدتها واما دخول العبد البالغ أو المراهق على سيدته فممنوع في جميع الأوقات لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...(1/4709)
وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الآية - والمماليك المستشهاة منها قد ذكرنا ان المراد به الإناث دون الذكور واما دخول الامة على سيدها الّتي يجوز له وبها فجائز في كل وقت كالزوجة - ولا يجوز لصغير عاقل ان يدخل في أحد هذه الأوقات بغير استئذان - ويجوز لهم ان يدخلوا بغير الاستيذان في غير هذه الأوقات كما قال اللّه تعالى - لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيها الذين تسكنون البيوت وَلا عَلَيْهِمْ أى المملوكين والأطفال الداخلين عليكم للخدمة ونحو ذلك جُناحٌ بَعْدَهُنَّ بعد هذه الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان لدفع الحرج لمخالطتهم وكثرة دخولهم كما يدل عليه قوله تعالى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أى هم أى الأطفال والعبيد طوافور عليكم يدخلون ويخرجون كثيرا استيناف لبيان المرخص في الدخول بلا استئذان بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض بدل من الجملة السابقة وبيان له جعل اللّه سبحانه العبيد والأطفال من جنس أنفسهم لكثرة مخالطتهم فجعلهم بعض المخاطبين كَذلِكَ أى تبيّنا مثل ذلك التبين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أى آيات الاحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (58) فيما شرع لكم قال البغوي اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هو منسوخ قال ابن عباس لم يكن للقوم ستور ولا حجاب وكان الولائد والخدم يدخلون فربما يرون مالا يحبون فامروا بالاستئذان ثم بسط اللّه الرزق واتخذوا الستور
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 557(1/4710)
فراى ان ذلك اغنى عن الاستئذان - وذهب قوم إلى انها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن عائشة قال سالت الشعبي عن هذه الآية أ منسوخة هى قال لا واللّه قلت ان الناس لا يعملون بها قال اللّه المستعان - وقال سعيد بن جبير في هذه الآية ان ناسا يقولون نسخت واللّه ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قلت والصحيح انها غير منسوخة لكن الحكم بالاستئذان معلول باختلال التستر في تلك الأوقات كما
يدل عليه قوله تعالى ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وهو الفارق بين تلك الأوقات وغيرها وعدم الحكم عند عدم العلة لا يكون نسخا - فما وقع في كلام ابن عباس انها منسوخة مبنى على التجوز فعلم انه إذا كان من شأن الناس عدم اختلال التستر في تلك الأوقات لا يستلزمهم الاستئذان واللّه اعلم.
وَإِذا بَلَغَ أى قارب البلوغ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فى الأوقات كلها لزوال المبيح للدخول بغير استئذان وهو المخالطة وكثرة الدخول - وحكم هذه الآية يعم كل من يريد الدخول على الرجال أو النساء محرمات كن أو اجنبيات ويؤيده ما روى عن أبى سعيد الخدارى قال أتانا أبو موسى فقال ان عمر رضى اللّه عنه أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علىّ فرجعت وقد قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع - قال عمر أقم عليه البينة قال أبو سعيد فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت - متفق عليه وعن عطاء بن يسار ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال استأذن على مى فقال نعم فقال الرجل انى معها في البيت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استاذن عليها أ تحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستاذن
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 558(1/4711)
عليها - رواه مالك مرسلا قال البغوي قال سعيد بن المسيب يستأذن الرجل على امه فانما أنزلت هذه الآية في ذلك وسئل حذيفة أ يستأذن الرجل على والدته قال نعم ان لم يفعل راى منها ما يكره - قلت لعل الأمر بالاستئذان في هذه الآية للاستحباب دون الوجوب فمن أراد الدخول في بيت نفسه وفيه محرماته يكره له الدخول فيه من غير استئذان تنزيها لاحتمال رؤيته واحدة منهن عريانة وهو احتمال ضعيف ومقتضاه التنزه عنه - واما الدخول في بيت غيره من غير استئذان فمحرم لا يجوز لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وكذا في بيت فيه نساء اجنبيات لا يجوز للرجل الدخول عليهن من غير استئذان لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ واللّه اعلم - وقال البيضاوي استدل بهذه الآية من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته وجوابه ان المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم - وكلام البيضاوي هذا يشعر باختلاف العلماء في وجوب استئذان العبد البالغ على سيدته بناء على اختلافهم في ان العبد هل هو محرم لسيدته كما قال به مالك والشافعي اولا كما قال به أبو حنيفة فمن قال بكونه محرما فالاستئذان عنده مستحب كالاستئذان على غيرها من المحرمات - ومن لم يقل بكونه محرما قال بوجوبه واللّه اعلم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (49) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان - .(1/4712)
وَ الْقَواعِدُ مبتدا مِنَ النِّساءِ حال من ضمير الفاعل جمع قاعد وهى المرأة الّتي يئست عن الحيض والحمل ولاجل اختصاصها بالنساء جاء قاعد بغير هاء كالحائض والحامل اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً صفة للقواعد أى لا يطمعن فيه لكبرهن قال ربيعة يعنى العجائز اللاتي إذا راهن الرجال استقذروهن فاما من كانت فيها بقية
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 559(1/4713)
جمال وهى محل للشهوة فلا تدخل في هذه الآية فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ خبر للمبتدا جئ بالفاء لتضمن المبتدا معنى الشرط أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أى في ان يضعن بعض ثيابهن يدل عليه قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب ان يّضعن من ثيابهنّ فلا يجوز لها كشف ظهرها وبطنها وما تحت سرتها لكن جاز لها كشف رأسها ووجهها وذراعيها ونحو ذلك غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ واصل البرج الظهور ومنه يقال البرج للركن والحصن وكواكب السماء والتبرج التكلف في اظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها - والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء الا انه خص في الاستعمال بتكشف المرأة زينتها وجمالها للرجال وقع في الحديث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكره عشر خلال منها التبرج بالزينة لغير محلها - قال صاحب الهداية التبرج اظهار الزينة للناس الا جانب وهو المذموم واما للزوج فلا وهو معنى قوله عليه السلام لغير محلها - وقوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من فاعل يضعن يفيد تقييد عدم الجناح في وضع ثياب العجائز ان يكون ذلك من غير ارادة اظهار الزينة للرجال فمن كانت منهن أرادت بها التبرج فذلك عليها حرام وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أى يطلبن من انفسهن العفة وهى كف النفس عمالا يحل كذا في القاموس - والمراد وان يكففن انفسهن عن وضع الثياب عند الرجال خَيْرٌ لَهُنَّ من وضعها لأنه قد يفضى إلى الفتنة والتستّر ابعد من التهمة وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهن للرجال عَلِيمٌ (60) بمقصود هن في وضع الثياب.(1/4714)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ قال البغوي قال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مواكلة الأصحاء لان الناس يتقذرونهم ويكرهون مواكلتهم فيقول الأعمى ربما أكل اكثر ويقول الأعرج
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 560(1/4715)
ربما أخذ مكان اثنين فنزلت هذه الآية يعنى ليس عليهم حرج في مواكلة الأصحاء - قال البغوي وكذا أخرج ابن جرير عن ابن عباس انه لما انزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرج المسلمون عن مواكلة المرضى والأعمى والأعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا اللّه تعالى عن أكل المال بالباطل والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فانزل اللّه هذه الآية إلى قوله مفاتحه وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في يعنى ليس عليكم حرج في الأعمى أى في مواكلته - وقال سعيد بن المسيب كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح بيوتهم ويقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا ممّا في بيوتنا فكانوا يتحرجون ويقولون لا ندخلها وهم غيب فانزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية رخصة لهم - وقال الحسن نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد - وقد تم الكلام هاهنا وما بعده كلام منقطع عنه وهو قوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أى البيوت الّتي فيها أزواجكم وعيالكم ودخل فيها بيوت الأولاد لان بيت الولد كبيته حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنت ومالك لابيك - أخرجه الستة وابن حبان والحاكم عن عائشة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه - رواه أبو داود والدارمي من حديث عائشة وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة نحوه والمعنى ليس عليكم حرج ان تأكلوا من اموال أزواجكم وأولادكم كذا قال ابن قتيبة - أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ(1/4716)
ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه ان يأكل من ثمر
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 561
ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر - وقال الضحاك يعنى بيوت عبيدكم ومماليككم وذلك ان السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن لقوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ - ويجوز ان يراد به ما يفتح به قال عكرمة إذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس ان يطعم الشيء اليسير - وقال السدى الرجل الّذي يولى طعامه غيره ليقوم فلا بأس ان يأكل منه - واخرج البزار بسند صحيح عن عائشة قالت كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم إلى زمناهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما احببتم فكانوا يقولون انه لا يحل لنا انهم أذنوا من غير طيب أنفسهم فانزل اللّه هذه الآية - واخرج ابن جرير عن الزهري انه سئل عن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هاهنا قال أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه قال ان المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فانزلت هذه الآية رخصة لهم - وقال قوم أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ما خزنتموه عندكم وقال مجاهد وقتادة من بيوت أنفسكم مما خزنتموه وملكتم أَوْ صَدِيقِكُمْ يعنى بيوت صديقكم الّذي صدقكم في المودة فانه ارضى بالتبسط في أموالهم واسر وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط - قال البغوي قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على اهله فلما رجع وجده مجهودا فساله عن حاله فقال تحرجت ان أكل من طعامك بغير اذنك فانزل اللّه تعالى هذه الآية - واخرج(1/4717)
الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس نحوه وذكر خالد بن زيد بدل مالك بن زيد - قال البغوي وكان الحسن وقتادة يريان دخول بيت الصديق والتمتع بطعامه من غير استئذان
منه
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 562
فى الاكل بهذه الآية - والمعنى فليس عليكم جناح ان تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وان لم يحضروا من غير ان تتزودوا وتتحملوا - قيل هذا الحكم كان في اوّل الإسلام فنسخ والصحيح انه ليس بمنسوخ لكنه محمول على ان هذا الحكم مختص بما إذا علم رضاء صاحب البيت بإذن صريح أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء بالذكر فانه يعتاد التبسط بينهم - فالتخصيص بهؤلاء خارج مخرج العادة والا فمن دخل بيت اجنبى وعلم رضاء صاحب البيت يأكل طعامه بإذن صريح أو دلالة جاز له ذلك - (مسئلة) وبهذه الآية الدالة على جريان العادة بالانبساط بين المحارم احتجت الحنفية على انه لا قطع على من سرق من بيت ذى رحم محرم منه سواء كان المسروق ماله أو مال غيره ويجب القطع على من سرق من بيت اجنبى مال ذى رحم محرم منه اعتبارا للتحرز وعدمه - فان قيل فعلى هذا لزم عدم القطع على من سرق من بيت صديقه أيضا بهذه الآية بعينها قلنا الصداقة امر عارض يوجد ويزول وقد عاداه بالسرقة فلم يبق الصداقة بخلاف القرابة فانها لا تزول واللّه اعلم وقال البغوي كانت العميان والعرجان والمرضى يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت ابائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى اللّه في هذه الآية - فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره فانزل اللّه هذه الآية - فعلى هذا معنى الآية ليس على الأعمى وأمثاله حرج ولا عليكم ان تأكلوا أنتم مع الأعمى وأمثالهم من بيوت أنفسكم وأولادكم وأزواجكم أو بيوت ابائكم إلى قوله أو صديقكم - وقال البغوي قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس قال كان الغنى يدخل على الفقير من ذوى قرابة أو صداقة يدعوه إلى طعامه(1/4718)
فيقول واللّه انى لاجنح أى اتحرج ان أكل معك وانا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 563
غنى وأنت فقير فنزلت هذه الآية - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أى مجتمعين أو متفرقين قال البغوي نزلت في بنى ليث بن بكر وهم حى من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا امسى ولم يجد أحدا أكل هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج واخرج ابن جرير عن عكرمة وابى صالح وذكر البغوي عنهما أيضا انهما قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم ان يأكلوا كيف شاءوا جميعا أو أشتاتا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت أو من غيرها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أى ليسلم بعضكم على بعض فانه يطلق الأنفس على جماعة متحدة دينا وقرابة قد قال اللّه تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ... لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ...(1/4719)
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً - وقيل معناه فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا أهل بها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يعنى قولوا السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين فان الملائكة ترد عليهم تَحِيَّةً مصدر من غير لفظة تسلموا فان التحية هو التسليم روى الشيخان في الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلق اللّه آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلمّا خلقه قال اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيوك فانها تحيتك وتحية ذريتك فقال السّلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة اللّه الحديث مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أى كائنة من عنده مشروعة من لدنه وجاز ان يكون صلة للتحية فانه طلب الحيوة وهى من عند اللّه مُبارَكَةً يعنى مقرونة بذكر البركة وهى الزيادة في الخيرات فيقول السّلام عليكم والبركة وقيل وصف تحية السّلام بالبركة لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب طَيِّبَةً أى لا رياء فيها ولا نفاق صادرة من
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 564
طيب النفس وقيل معناه تطيب بها نفس المستمع قال ابن عباس معنى مباركة طيبة حسنة جميلة - عن انس رضى اللّه عنه انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك فإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلوة الضحى فانها صلوة الأوابين - أخرجه البيهقي في شعب الايمان والثعلبي وحمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان وسنده ضعيف - قال البغوي هذه الآية في دخول الرجل في(1/4720)
بيت نفسه فانه يسلم على اهله ومن في بيته وهو قول جابر وطاءوس والزهري والضحاك وقتادة وعمرو بن دينار قال قتادة إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق ممن سلمت عليهم - وإذا دخلت بيتا لا أحد فيها فقل السلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين حدثنا ... ان الملائكة يرد عليهم - وروى البيهقي في شعب الايمان عن قتادة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسلا إذا دخلتم بيتا فسلموا على أهلها وإذا خرجتم فاودعوا اهله بسلام - وروى الترمذي عن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك - وعن ابن عباس قال ان لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة اللّه - وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في هذه الآية قال إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين - وعن عبد اللّه بن عمرو ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اىّ الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف - متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مرض ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعا ويسلمه إذا لقيه ويشمته إذا عطس وينصح له إذا غاب أو شهد - رواه النسائي وروى الترمذي والبزار نحوه وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا اولا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 565(1/4721)
أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم - رواه مسلم وعن أبى هريرة مرفوعا يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير متفق عليه وعنه عند البخاري يسلم الصغير على الكبير الحديث - وعن عمران بن حصين ان رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم عشر ثم جاء اخر فقال السّلام عليكم ورحمة اللّه فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء اخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون رواه الترمذي وأبو داود وروى أبو داود عن معاذ بن انس مرفوعا بمعناه وزاد ثم اتى اخر فقال السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته فقال أربعون قال وهكذا تكون الفضائل - وعن أبى امامة مرفوعا ان اولى الناس باللّه من بدا بالسلام وعن أبى هريرة مرفوعا إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فان بدا له ان يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الاولى بأحق من الاخرة - رواه الترمذي وأبو داود وعن علّى بن أبى طالب تجزئ عن الجماعة إذا مروا ان يسلم أحدهم وتجزى عن الجلوس ان يرد أحدهم ذكره البغوي في المصابيح موقوفا ورواه البيهقي في شعب الايمان مرفوعا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ كرره ثالثا لمزيد التأكيد وتفخيم الاحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهو علم اللّه وحكمته وهذا بما هو المقصود منه فقال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) الحق والخير في الأمور - أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا لمّا أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الاسيال من رومة بئر بالمدينة قائدها أبو سفيان وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقبين « 1 » إلى جانب أحد - وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه وعمل المسلمون فيه وابطأ رجال من المنافقين و(1/4722)
جعلوا يزورون بالضعيف من العمل فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) النقب هو الطريق بين الجبلين - مجمع البحار - الفقير الدهلوي -
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 566
و لا اذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة الّتي لا بد منها يذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فياذن له فإذا قضى به بشر فانزل اللّه تعالى.(1/4723)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآيات إلى اخر السورة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ من صميم قلوبهم دون من قالوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ... وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وصف الأمر بالجامع مجازا للمبالغة والمراد على امر يقتضى ان يجمع الناس لذلك الأمر كحفر الخندق والمشاورة والجهاد ونحو ذلك كالجمعة والأعياد لَمْ يَذْهَبُوا أى لم يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيأذن لهم ولا حاجة هاهنا إلى القول بان المراد بالمؤمنين الكاملون لأنه حكاية واخبار عن حال المؤمنين الموجودين في ذلك الوقت وما به كانوا يمتازون عن المنافقين وقد كانوا كلهم كاملين في الايمان وكان شأنهم ذلك دون المنافقين - ولما كان عدم التخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مواضع الشدة دليلا واضحا على صدق ايمانهم إعادة مؤكدا على اسلوب ابلغ فقال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ لاجل ضرورة أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بصميم قلوبهم يعنى ان المستأذن مؤمن لا محالة دون الذاهب بغير اذن فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ الّذي نابهم ودعاهم إلى الانصراف فيه مبالغة وتضييق للامر يعنى لا ينبغى للمؤمنين ان يستأذنوا لكل ما نابهم من النوائب بل لبعض ضرورى منها لا بد له من الانصراف فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ قيد الأمر بالاذن بالمشية للدلالة على ان هذا امر للاباحة وليس للوجوب ولو كان الاذن بعد الاستئذان واجبا على النبي صلى اللّه عليه وسلم بطل فائدة الاستئذان لأنه لا يعجز أحد عن الاستيذان - وفيه دليل على ان بعض الاحكام كان مفوضا إلى رأيه صلى اللّه عليه وسلم وكذا إلى رأى الامام ومن منع ذلك قيد المشيّة بان
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 567(1/4724)
يكون تابعة لعلمه بصدقه فكان المعنى فاذن لّمن علمت ان له عذرا أو يكون الأمر الجامع قاصرا في اقتضاء الاجتماع أو كان المستأذن مستغنى عنه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ يعنى بعد الاذن فان الاستئذان ولو بعذر قصور لان فيه تقديما لامر الدنيا على امر الدين إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ (62) بالتيسير عليهم وقال البغوي قال المفسرون في سبب نزول هذه الآية كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل ان يخرج من المسجد أحد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث يراه فيعرف انه انما قام ليستأذن فاذن لمن شاء منهم قال مجاهد واذن الامام يوم الجمعة ان يشير بيده - قال أهل العلم وكذلك كل امر اجتمع عليه المسلمون مع الامام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه الا باذنه وإذا استأذنوا الامام ان شاء اذن له وان شاء لم يأذن هذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام - فان حدث سبب يمنعه من المقام مثل ان يكون امراة في المسجد فتحيض فيه أو يجنب رجل أو عرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان - .(1/4725)
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يعنى إذا دعاكم الرسول إلى امر جامع أو غير ذلك فاجيبوا دعوته وامتثلوا امره ولا تجعلوا دعوته إياكم كدعوة بعضكم بعضا في جواز الاعراض والمساهلة في الاجابة والرجوع بغير اذن - فان المبادرة إلى اجابته واجبة والمراجعة بغير اذنه حرام بخلاف غير ذلك - فهذه بهذا التأويل نظيرة لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ - والاضافة في دعاء الرسول اضافة المصدر إلى فاعله والمفعول محذوف - وقال مجاهد والقتادة معنى الآية لا تجعلوا دعاءكم الرسول كدعاء بعضكم بعضا يعنى لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ولكن فخموه وشرفوه - أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس انه قال كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فانزل اللّه تعالى هذه الآية فقالوا
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 568(1/4726)
يا نبى اللّه يا رسول اللّه - لكن هذا التأويل لا يناسب ما سبق وما يتلوه فان الكلام في الخروج باستئذان وبغير استئذان وأيضا لا يناسبه نفس هذا الكلام لان المشبه به هو الدعاء المضاف إلى الفاعل لكون المفعول به بعده منصوبا فلا بد ان يكون في المشبه أيضا الرسول فاعلا للدعاء لا مفعولا - وقال البغوي قال ابن عباس معنى الآية احذروا عن دعاء الرسول عليكم إذا اسخطتموه فان دعاءه موجب ليس كدعاء غيره - روى البخاري في الصحيح عن عائشة قالت ان اليهود أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا السام عليك قال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم اللّه وغضب عليكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك العنف والفحش قالت ا ولم تسمع ما قالوا قال ا ولم تسمعى ما قلت رددتّ عليهم فيستجاب لى فيهم ولا يستجاب لهم فيّ - قلت على هذا كان حق الكلام لا تجعلوا دعاء الرّسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض - لكن يمكن على هذا معنى الآية لا تجعلوا دعاء الرّسول ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده اخرى - فان دعاءه مستجاب لا يرد لا محالة - قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ السل انتزاع الشيء من الشيء وإخراجه في اختفاء ولذلك يطلق على السرقة الخفية يقال سلّ البعير في جوف الليل وانسل واستل أى انطلق وخرج في اختفاء كذا في القاموس والمعنى الذين يخرجون مِنْكُمْ أى من بينكم مختفيا لِواذاً مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة ولو إذا وليس من لاذ يلوذ فان مصدره لياذوا للياذ الالتجاء بغيره والانضمام إليه ورد في الدعاء المأثور اللهم الوذ بك - واللو أذان يلوذ كل واحد منهم بالاخر والمعنى انهم يخرجون مستترين يلوذ ويستتر بعضهم ببعض يخرج أو يلوذ بمن يؤذن في الخروج فيخرج معه كأنَّه تابعه في القاموس اللوذ بالشيء الاختفاء والاحتضان به كاللواذ مثلثة
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 569(1/4727)
و كان هذا حال المنافقين في حفر الخندق على ما قال ابن إسحاق والبيهقي عن عروة ومحمد بن كعب القرظي كانوا .... ينصرفون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مختفين - وقال ابن عباس كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار - ولو إذا منصوب على الحال ومعنى قوله قد يعلم انه يجازيهم فان الجزاء فرع العلم - فَلْيَحْذَرِ تفريع على قوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ ... الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قيل عن زائدة والمعنى يذهبون سمتا خلاف سمته وقيل أورد عن لتضمن يخالفون معنى الاعراض - أو المعنى يصدون عن امره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لان المقصود بيان المخالف والمخالف عنه - وجاز ان يكون عن امره في محل النصب على الحال والمفعول محذوف تقديره الذين يخالفون الرسول ويخالفون المؤمنين عن امره وضمير امره اما راجع إلى اللّه أو إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أى محنة وبلاء في الدنيا كذا قال مجاهد أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) في الاخرة ان مع صلته في محل النصب على انه مفعول ليحذروا يعنى ليحذروا إصابة الفتنة أو إصابة العذاب الأليم وذلك بسبب المخالفة عن امره - وجاز ان يكون المفعول محذوفا تقديره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ عن المخالفة لئلا يصيبهم فتنة أو عذاب اليم - وهذه الآية حجة للقائلين بان مطلق الأمر يعنى مالا قرينة على كونه للوجوب أو للندب أو غير ذلك يكون
للوجوب فحسب وليس مشتركا بين الوجوب والندب على ما نقل عن الشافعي أو بينهما وبين الإباحة أو بين الثلاثة وبين التهديد على ما ذهب إليه الشيعة ونقل عن ابن شريح - فان خوف
التفسير المظهري ج 6 ، ص : 570(1/4728)
الفتنة والعذاب لا يتصور الا في ترك الواجب أو ارتكاب المحرم - .
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الايمان والنفاق والموافقة والمخالفة فهو خطاب لجميع المكلفين وجاز ان يكون خطابا للمنافقين خاصة على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وجملة قد يعلم تقرير لما سبق لان الّذي هو خالق ومالك لكل شيء لا بد ان يعلم احوال مخلوقاته ومملوكاته وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أى يوم يرجع الناس للجزاء إلى اللّه تعالى فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من الخير والشر بايفاء الجزاء والظرف يعنى يوم يرجعون متعلق بقوله ينبئهم والفاء زائدة كما في قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا وجاز ان يكون الظرف معطوفا على ظرف محذوف متعلق بقوله قد يعلم ما أنتم عليه تقديره قد يعلم ما أنتم عليه اليوم ويوم يرجعون إليه فينبّئهم بما عملوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64) لا يخفى عليه منكم خافية - روى البغوي عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن بالمغزل وسورة النور - صدق اللّه وصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصدق اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضى اللّه عنهم أجمعين تمّت سورة النور سادس والعشرين من رمضان من السنة الرابعة بعد الف سنة 1204 ومائتين ويتلوه سورة الفرقان إنشاء اللّه تعالى بتصحيح : مولانا غلام نبى تونسوى الراجي إلى مغفرة ربه القوى.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 3
الجزء السابع
[فهرس السور القرآنية من التفسير المظهري ]
فهرس سورة الفرقان(1/4729)
مضمون صفحه ما ورد فى حشر الكافر على وجهه 25 مسائل الماء وما يتنجس منه وما لا يتنجس منه والماء المستعمل 32 ما ورد فى فضل قيام الليل 46 ما ورد فى الخوف والرجاء 47 حديث أى الذنب أعظم 48 مضمون صفحه ما ورد فى الغىّ والأثام 48 ما ورد فى تبديل السيئات بالحسنات - 50 ما ورد فى شهادة الزور - 53 تعزير شهادة الزور - 53 ما ورد فى الغرفة وأهلها - 55
فهرس سورة الشعراء
لا يجوز أخذ الاجرة على الطاعة 77 لا يجوز صرف المال فى البناء فوق الحاجة وما ورد فيه 77 مسئلة يكره طول الأمل ويستحب قصره - 78 مسئلة جاز للجنب قراءة ترجمة القرآن ومسه وأجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسي فى حق جواز الصلاة خاصة والفتوى على عدم الجواز 84 اباء النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمهاته كلهم كانوا مؤمنين - 89 ما ورد فى استراق الشياطين السمع من الملائكة - 90 ما ورد فى ذم الشعر والشعراء - 92 ما ورد فى اباحة الشعر ومدحه - 93 الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح - 94 كتاب أبى بكر فى الوصية 95
فهرس سورة النّمل
يجوز نقل الحديث بالمعنى والنكاح بغير لفظ النكاح والتزويج بما يؤدى معناه - 98 ما ورد فى فضل العلماء - 103 ويل للروافض لم يشعروا شعور نملة 106 الاشتغال بغير ذكر اللّه هلاك 106
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 4
ما ورد فى تبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - 107 يجوز النظر إلى الاجنبية عند ارادة خطبة النكاح - 120 حديث كنت اوّل الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث - 124 ما ورد فى دابّة الأرض - 132 فصل فى اشراط الساعة - 134 ما ورد فى نفخة الفزع والصعق والبعث - 136 ما ورد فى ان الساعة لا تقوم الا على شرار الناس - 138
فهرس سورة القصص(1/4730)
مسئلة أخذ الاجرة على الطاعة 157 مسئلة النكاح على رعى الغنم - 159 مسئلة البكاء شوقا للقاء الرحمان - 160 حديث الكبرياء ردائى - 166 حديث ثلاثة لهم أجران - 172 ما ورد فى وفات أبى طالب - 173 ما ورد فيمن جر ثوبه خيلاء - 179 ما ورد فى الفرح من المدح والذم - 181 حديث اغتنم خمسا قبل خمس - 181 ما نظر أحد إلى نفسه فافلح - 182
فهرس سورة العنكبوت
ما ورد فى ان الصّلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر - 205 ما ورد فى فضل الذكر - 206 ما ورد فى التوكل - 214
فهرس سورة الرّوم
ما ورد فى كون السماع فى الجنة - 226 ما ورد فى ثواب التسبيح والتحميد 228 حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة - 232 حديث ان خلق أحد كم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة الحديث 233 حديث إذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوه - 233 حديث تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة - 234
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 5
حديث أصبح من عبادى مؤمن وكافر من قال مطرنا بفضل اللّه الحديث - 235 ما ورد فى ان دخول الجنة بمحض فضل اللّه دون الأعمال - 239 حديث ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه الا كان حقّا على اللّه ان يردّ عنه نار جهنم - 241 حديث يقول اللّه لاهل الجنة هل رضيتم - 244
فهرس سورة لقمان
مسئلة اتخاذ المعازف والمزامير حرام - 248 مسئلة الغناء حرام عند الفقهاء وقالت الصوفية منها ما لا بأس فيه 248 وما ورد فى الغناء تحريما واباحة 249 مسئلة يجب الانفاق على الأبوين الفقيرين الكافرين - 256 مسئلة لا يجب إطاعة الأبوين فيما لا يجوز شرعا ويجب إطاعتهما فى امور مباحة وهل يجب إطاعتهما إذا امرا بترك الإكثار فى الذكر والزهد فى الدنيا وترك مصاحبة الصالحين - 256 ما ورد فى المشي المتوسط والاسراع فيه - 259 حديث الايمان نصفان نصف شكر ونصف صبر - 263 حديث خمسة لا يعلمها الا اللّه 264
فهرس سورة السّجدة(1/4731)
حديث يقول ملك الموت أيها العبد كم خبر بعد خبروكم رسول بعد رسول الحديث - 270 حديث ملك الموت لا يعلم بوقت موت أحد ما لم يؤمر - 270 ملك الموت يظهر للمؤمن بأحسن صورة وللكافر باقبحها - 270 كيف يكون موت سوى الآدميين 271 ما ورد فى القضاء والقدر - 272 ما ورد فى الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع قيل هم المتهجدون وقيل غير ذلك - 274
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 6
حديث اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت الحديث 276 ما ورد فى لقاء موسى - 278 ما ورد فى فضل الم تنزيل وسورة الملك 280
فهرس سورة الأحزاب
ما ورد فى النهى عن الانتساب إلى غير أبيه - 285 الكلام فى التبنّي وفى قول الرجل لمملوكه هذا ابني - 285 ما ورد فى وجوب محبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وكونه اولى بالمؤمنين - 286 حديث كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث - 288 قصة غزوة الخندق - 289 ذكر ما فات لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوات وقضائها 300 مسئلة إذا فاتت صلوات وقضيت يؤذّن للاولى ويقيم لكل صلوة والاولى ان يؤذن ويقيم لكل صلوة - 300 نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يسمى المدينة بيثرب - 306 ما ورد فى مناقب انس بن النضر ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد اللّه 310 قصة غزوة بنى قريظة - 313 مسئلة لا اثم على المجتهد ان اخطأ - 314 اعتراف اليهود بكون محمد صلى اللّه عليه وسلم نبيّا - 317 مسئلة الغنيمة لمن شهد الوقعة وان مات قبل الاحراز 325 مسئلة يعطى للنساء الّتى يحضرن القتال ولا يسهم لهن 325 مسئلة لا يجوز ان يفرق بين صغيرين أو صغير وكبير بينهما رحم ومحرمية - 326 مسئلة من فرق بين والدة وولدها يأثم وهل يبطل البيع أو يفسد أو ينفذ 327 مسئلة يجوز التفريق بينهما ان كانا بالغين - 328
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 7(1/4732)
مسئلة إذا كان مع الصغير جماعة من أرحامه - 328 مسائل تفويض الطلاق وقول الزوج لامراته اختاري - 331 ما ورد فى فضل نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم وفضل فاطمة ومريم وآسية - 336 مسئلة لا يجوز لرجل وامراة أجنبيين ان يتكلما كلاما لينا فيطمع أحدهما من الاخر وهى مندوبة إلى الغلظة فى المقال - 337 حديث نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يكلم النساء الا بإذن أزواجهن - 337 الكلام فى أهل البيت - 339 مسئلة الأمر المطلق للوجوب - مسئلة العالم ومن له فضل فى الدين كفو للعلوى ونحوه - 345 ما ورد فى الحياء - 348 ما ورد فى اسماء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكونه خاتم الأنبياء 351 حديث إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرأك السلام - 353 مسئلة تعليق طلاق الاجنبية بالنكاح وما ورد فيه من اختلاف العلماء وأدلتهم - 356 مسئلة الطلاق قبل المسيس لا يستعقب العدة - 359 مسئلة إذا طلق ذمى ذمية وهم لا يعتقدون العدة فلا عدة عليها - 359 الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة فلا عدة عليها الا ان يكون حاملا 359 مسئلة هل يجوز النكاح بلفظ الهبة أو البيع أو نحوهما - 362 مسئلة يجوز النظر إلى امراة يريد نكاحها وما ورد فيه - 368 حديث من صلى علىّ عند قبرى سمعته ومن صلى غائبا بلغته - 373 مسئلة الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم فريضة قيل فى العمر مرة وقيل فى القعدة الاخيرة من كل صلوة وقيل كلما جرى ذكره - 375 فصل فى فضل الصلاة وكيفيتها - 377 حديث قال اللّه تعالى كذّبنى ابن آدم وشتمنى - 380
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 8(1/4733)
حديث قال اللّه تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر - 380 ما ورد فى التصاوير - 380 حديث قال اللّه تعالى من عادى لى وليّا فقد بارزني بالمحاربة 381 ما قيل ان إيذاء الرسول إيذاء للّه تعالى وكذا إيذاء اولياء اللّه 381 مسئلة ما حكم من سبّ النبي صلى اللّه عليه وسلم - 381 مسئلة سبّ الصحابة إيذاء للنبى صلى اللّه عليه وسلم - 382 حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من امنه الناس على دمائهم وأموالهم - 382 ما ورد فى اذن النساء للخروج لحاجتهن - 383 ما ورد فى ما أوذي موسى وأوذي محمد صلى اللّه عليهما وسلم - 386 الأبحاث الواردة فى عرض الامانة على السموات والأرض والجبال وابائهنّ وحملها الإنسان واقوال العلماء والصوفية فيه - 387 حديث ان فى جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله - 392.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 9
« 1 » سورة الفرقان
مكّيّة وهى سبع وسبعون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ « 2 » تفاعل من البركة وهى كثرة الخير يعنى تكاثر خيره وهذه الصيغة لا يتصرف فيه ولا يستعمل الا للّه تعالى قال ابن عباس معناه جاء كل بركة من قبله كذا قال الحسن وقيل معناه تزايد عن كل شىء وتعالى عنه فى صفاته وأفعاله فان البركة تتضمن معنى الزيادة ومن هاهنا قال الضحاك معناه تعظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ مصدر فرّق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمّى به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره والمحق والمبطل باعجازه أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض فى الانزال رتب اللّه سبحانه قوله تبارك على إنزال القرآن لما فيه من كثرة الخير ولدلالته على تعظمه سبحانه وتعاليه عَلى عَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ
_________
(1) يس فى الأصل عنوان السورة.
((1/4734)
2) أخرج مالك والشيخان عن عمر بن الخطاب رض قال سمعت هشام بن الحكيم يقرأ سورة الفرقان فى حيوة رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هم يقرا على حروف كثيرة لم يقرأينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكدتّ اساوره فى الصّلوة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فقلت له من اقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرا فقال اقرأنيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت كذبت فأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرات فانطلقت به أقوده إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت انى سمعت هذا يقرا سورة الفرقان على حروف لم تقرانيها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقرأ يا هشام فقرأ عليه بقراءة سمعته يقرأ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذلك كذلك أنزلت ثم قال لى اقرأ فقرات القراءة التي أقرأنيها صلى اللّه عليه وسلم فقال هكذا أنزلت ان هذا القرآن انزل على سبعة أحرف فاقرء واما تيسر منه 12 منه برد الله مضجعه.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 10
اى العبد أو الفرقان لِلْعالَمِينَ أى للانس والجن عامة وعموم الرسالة من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم نَذِيراً أى منذرا أو انذارا كالنكير بمعنى الإنكار وهذه الجملة وان كانت فى حيز الإنكار لاهل مكة المخاطبين بها ولا بد من ان تكون الصلة معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم.(1/4735)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى سلطانه والموصول بدل من الأول وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بقوله ليكون لان المبدل منه أى الموصول مع الصلة وقوله ليكون من متعلقات الصلة تعليل له فكان المبدل منه لم يتم الا به وجاز ان يكون الموصول مرفوعا بتقدير المبتدا أى هو أو منصوبا بتقدير اعنى أو امدح وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم النصارى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما يقول المجوس والثنوية اثبت له الملك مطلقا ونفى ما يقاومه فيه ثم نبّه على ما يدل عليه فقال وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ يعنى أحدث كل شىء مراعى فيه التقدير كخلقه لانسان من مواد مخصوصة على صور وإشكال معينة فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فسواه وهيأه لما أراد منه من الخصائص والافعال كتهية الإنسان للادراك الفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة وفراولة الأعمال المختلفة أو المعنى فقدره للبقاء إلى أجل مسمى وقد يطلق الخلق لمجرد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شىء فقدره فى إيجاده حتى لا يكون متفاوثا وقيل قدر لكل شىء تقديرا من الاجل والعمل والرزق فجرت المقادير على ما خلق ولمّا تضمّن الكلام اثبات التوحيد والنّبوة أخذ فى البرد على من انكرهما فى بيان نقص الهتهم الباطلة فقال.(1/4736)
وَ اتَّخَذُوا أى المنذرون « 1 » يدل عليه قوله نذيرا والمراد كفار مكة والجملة معطوفة على قوله تبارك مِنْ دُونِهِ أى غير اللّه من زائدة وهو فى محل النصب على الحال من قوله آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من الجواهر والاعراض والأعمال والأحوال صفة لالهة وَهُمْ يُخْلَقُونَ حيث خلق الله كل شىء وهذا المعنى يعم الالهة الباطلة كلها وان كان المراد بالالهة الأصنام فجاز ان يكون المعنى وهم ينحتون ويصورون أى حصلت لهم صورهم يكسب عبدتهم والجملة معطوفة على ما سبق أو حال أورد صيغة المضارع والمعنى على الماضي للاستحضار وَلا يَمْلِكُونَ أى لا يقدرون لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا أى دفع ضراريد بهم ان يّسلبهم الذّباب شيئا لا يستنقذوه منه وَلا نَفْعاً
_________
(1) وفى الأصل أى المنذر بن يدل عليهم إلخ الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 11
و لا جلب نفع وهذا حال الأصنام بل حال كل شىء سوى اللّه تعالى فان عيسى وعزيرا والملائكة مع علوم تبتهم لا يملكون لانفسهما نفعا ولا ضرّا الّا ما شاء اللّه قال اللّه تعالى قل لا املك لنفسى نفعا ولا ضرّا الّا ما شاء اللّه ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّنى السّوء وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً يعنى لا يملكون اماتة أحد ولا إحياءه اوّلا ولا بشبه ثانيا وهذا الأمور من لوازم الالوهية فكل من ليس كذلك فليس باله وفيه اشارة إلى ان الإله يجب ان يكون قادرا على البعث والجزاء.(1/4737)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على اتخذوا وضع الظاهر موضع الضمير للاشعاريان انكار النبوّة كفر كانكار التوحيد وذلك لان التوحيد على ما ينبغى لا يتاتى بمجرد العقل بل حقيقة التوحيد ما ورد به الشرع الا ترى إلى الفلاسفة وأمثالهم كيف خبطوا فى الالهيّات حتى ضلوا وأضلوا فى الصحيحين عن ابن عباس رض فى قصة وفد عبد القيس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ تدرون ما الايمان باللّه وحده قالوا اللّه ورسوله اعلم قال ان تشهدوا ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه الحديث إِنْ هَذا أى القرآن الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا إِفْكٌ أى كذب مصروف عن وجهه يعنى ليس هذا من كلام اللّه كما يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم بل افْتَراهُ يعنى اختلقه محمد صلى اللّه عليه وسلم وَأَعانَهُ أى محمدا صلى اللّه عليه وسلم عَلَيْهِ أى على اختلاق القرآن قَوْمٌ آخَرُونَ قال مجاهد يعنون اليهود وقال الحسن عبيد بن الحصر الحبشي الكاهن وقيل جبر ويسار وعداس عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب زعم المشركون ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم يأخذ منهم فَقَدْ جاؤُ يعنى قابلى هذه المقالة ظُلْماً حيث حكموا على الكلام المعجز بكونه إفكا مختلقا متلفقا من اليهود وَزُوراً حيث نسبوا الافتراء إلى من هو برئ منه قال البيضاوي اتى وجاء ليطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته وقيل هذان منصوبان بنزع الخافض تقديره فقد جاءوا بظلم وزور.(1/4738)
وَ قالُوا عطف على قال الّذين كفروا أى قال بعضهم يعنى النصر بن الحارث فانه كان يقول القرآن ليس من اللّه انما هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى ممّا سطره أى كتبه الأولون أى المتقدمون مثل قصة رستم وإسفنديار اكْتَتَبَها أى استكتبها محمد صلى اللّه عليه وسلم من جبر ويسار وعداس وأمثالهم فَهِيَ أى تلك الأساطير تُمْلى أى تقرا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ليحفظها فانه امىّ لا يقدر ان يكتب ولا ان يكرر من الكتاب.
قُلْ استيناف فانّه فى جواب ماذا أقول لهم يعنى قل لهم ردّا عليهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 12
ليس الأمر كما قلتم بل أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كما يدل على ذلك اعجازه البلخاء عن آخرهم عن معارضته وكونه مشتملا على علوم لا يعلمها الا عالم السر والخفيات فكيف تحكمون عليه بكونه من كلام البشر من المتأخرين لو المتقدمين إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فلذلك لا يعجلكم بالعقوبة على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم إياها.(1/4739)
وَ قالُوا عطف على قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى وقالوا فى مقام الاستدلال على انكارهم النبوة ما لِهذَا الرَّسُولِ أى ما لهذا الذي يدعى الرسالة وفيه استهانة وتهكم يَأْكُلُ الطَّعامَ كما يأكل أحدنا حال من المشار إليه والعامل فيه معنى الاشارة وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ كما يمشى أحدنا يعنى لو كان نبيا لامتاز عن غيره من الناس و « 1 » ليس فليس قال البغوي كانوا يقولون لست أنت بملك لانك تأكل والملك لا يأكل ولست أنت بملك لان الملك لا يتسوق وأنت تتسوق وتتبدل قلت كلامهم هذا فاسد لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدع الملكية ولا السلطان بل قال إنّما انا بشر مثلكم يوحى الىّ وادعاؤه النبوة غير مناف لاكل الطعام والمشي فى الأسواق الذي هو مقتضى البشرية التي هى من لوازم النبوة لان النبي لا يكون الا بشرا لان المجانسة شرط للافاضة والاستفاضة قال اللّه تعالى لو كان فى الأرض ملئكة يمشون مطمئنّين لنزّلنا عليهم من السّماء ملكا رسولا لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ نراه فَيَكُونَ جواب لولا معنى هلا منصوب بتقدير ان بعد الفاء مَعَهُ نَذِيراً فنعلم صدقه بتصديق الملك جملة لولا مع جوابه بدل اشتمال من الجملة السابقة يعنى ما لهذا الرسول بشرا ليس ملكا قويا بذاته ولا مؤيدا بأحد الأمور الثلاثة المذكورة انزل إليه ملك.
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ من السماء كَنْزٌ ينفقه فلا يحتاج إلى المشي فى الأسواق لطلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها صفة لجنة قرأ حمزة والكسائي نأكل بالنون على صيغة المتكلم مع الغير ذكروا كلا من الثلاثة على سبيل التنزل يعنون انه ان كان رسولا كان ملكا وان لم يكن ملكا كان معه ملك يصدقه وان لم يكن كذلك كان يلقى إليه من السماء كنز وان لم يكن كذلك فلا اقل ان يكون له بستان كما يكون الدهاقين والمياسير فيعيش بربحه وَقا لَ الظَّالِمُونَ(1/4740)
وضع الظالمين موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا إِنْ تَتَّبِعُونَ أيها المسلمون أحدا حين تتبعون محمدا صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً يعنى سحر فغلب على عقله وقيل أى مخدوعا وقيل مصروفا عن الحق وقيل مسحورا أى ذا سحر وهو الرئة
_________
(1) الاولى وإذ ليس فليس 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 13
اى بشرا وقيل هو مفعول بمعنى الفاعل.
انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ كيف ظرف متعلق بضربوا قدم عليه لتضمنه صدر الكلام والجملة بتأويل المفرد مفعول لانظر أى انظر إلى كيفية ضربهم الأمثال أى الأشباه يعنى جعلوك مثل المفترين والقاصين حتى حكموا عليك بالافتراء واستكتاب القصص ومثل المسحورين ومثل من يدعى الملكية أو السلطنة حتى حكموا عليك باستحالة الاكل والتسوّق واستلزام لوازم الأغنياء والسلاطين من الكنز والجنة فَضَلُّوا عطف على ضربوا أى كيف ضربوا وكيف ضلوا عن الطريق الموصل إلى الحق ومعرفة نبوتك بمعرفة خواص الأنبياء من كونه بشرا معصوما يوحى إليه من ربه ومعرفة ما يميّز بينه وبين المتنبّى من المعجزات الدالّة على نبوته فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الرشد والهدى عطف على ضلوا أو المعنى ضربوا لك أمثالا متناقضة فلا يستطيعون سبيلا إلى القدح فى نبوتك لان الكلام المتناقض ساقط واللّه اعلم.
اخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن جرير وابن أبى حاتم عن خيثمة قال قيل للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها لا ينقص ذلك عند ناشيئا فى الاخرة وان شئت جمعتها لك فى الاخرة قال لا اجمعهما لى فى الاخرة فنزلت.(1/4741)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ فى الدنيا خَيْراً مِنْ ذلِكَ الّذى قالوا من الكنز والبستان ولكن اخّره للاخرة لأنه خير وأبقى خيرا مفعول أول لجعل ولك مفعول ثان له قال البغوي وروى عن عكرمة عن ابن عباس قال يعنى خيرا من المشي فى الأسواق والتماس المعاش ثم بين ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ فهو بدل من خيرا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات وَيَجْعَلْ لَكَ عطف على جعل قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبى بكر بالرفع والباقون بالجزم لان الشرطان كان ماضيا جاز فى جزائه الجزم والرفع ويجوز ان يكون الرفع على الاستيناف على انه وعد بما يكون له فى الاخرة قُصُوراً أى بيوتا مشيدة والعرب تسمى كل بيت مشيد قصرا روى احمد والترمذي وحسنه عن أبى أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال عرض علىّ ربى ان يجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما وفى رواية عند البغوي أو قال ثلاثا ونحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو شئت لسارت معى جبال الذهب جاءنى ملك ان حجزته لتساوى الكعبة فقال ان ربك يقرأ عليك السلام ويقول ان شئت نبيّا عبدا وان شئت نبيّا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 14
ملكا فنظرت إلى جبرئيل فاشار الىّ ان ضع نفسك فقلت نبيّا عبدا قالت فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا ويقول أكل كما يأكل العبيد واجلس كما يجلس العبيد.(1/4742)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على قالوا يعنى قالوا ذلك بل قالوا اعجب من ذلك أو متصل بما يليه يعنى بل قصرت انظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا ان الكرامة انما هى بالمال فكذبوك وطعنوا فيك بالفقر وبما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة أو المعنى بل كذبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد اللّه لك فى الاخرة أو فلا تعجب تكذيبهم إياك فانه اعجب منه وَأَعْتَدْنا عطف على كذبوا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا شديدا لاسعار وقيل اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان.
إِذا رَأَتْهُمْ أى إذا رات النار الكفار حمل بعض المحققين اسناد الرؤية إلى النار على الحقيقة لما قال البغوي انه روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من كذب علىّ متعمدا فليتبوا مقعده بين عينى النار قالوا وهل لها من عينين قال الم تسمع قول الله تعالى إذا راتهم من مكان بعيد وقيل الاسناد مجازى فقيل والتقدير إذا راتهم زبانيتها على حذف المضاف وقيل بعيني إذا كانت بمرئ منها كقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تتراى نارهما أى لا يتقاربان بحيث يكون أحدهما بمرئى من الاخرى مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال الكلبي من مسيرة مائة عام وقيل من مسيرة خمس مائه سنة سَمِعُوا أى الكفار لَها أى للنار تَغَيُّظاً أى صورت تغيظ هى صوت غليانها شبيها بصوت المتغيظ وَزَفِيراً وهو صوت يسمع من جوقه والجملة الشرطية صفة لسعير وتأنيث ضمير راتهم لأنه بمعنى النار أو جهنم.(1/4743)
وَ إِذا أُلْقُوا يعنى الكفار عطف على الشرطية الاولى مِنْها أى من جهنم حال مما بعده مكانا ظرف لالقوا ضَيِّقاً لزيادة العذاب فان الكرب مع الضيق والرّوح مع السعة قرأ ابن كثير بسكون الياء والباقون بتشديدها أخرج ابن أبى حاتم عن يحيى بن أسيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن هذه الآية قال والّذى نفسى بيده ليستكرهون فى النّار كما يستكره الوتد فى الحائط واخرج عن ابن عمر فى الآية قال مثل الزّج فى الرمح وقال ابن المبارك من طريق قتادة قال ذكر لنا ان عبد اللّه كان يقول ان جهنم لتضيق على الكافرين كضيق الزّجّ على الرمح واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال إذا القى فى النار من يخلد فى النار جعلوا فى توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت فى توابيت من حديد ثم قذفوا فى أسفل جهنم فما يرى أحدهم انه يعذب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 15
غيره واخرج أبو نعيم والبيهقي عن سويد بن غفلة نحوه مُقَرَّنِينَ حال من الضمير المرفوع فى القوا يعنى وقد قرئت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل وقيل مقرنين مع الشياطين دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً جزاء للشرط قال ابن عباس يعنى ويلا وقال الضحاك هلاكا أخرج احمد والبزار وابن أبى حاتم والبيهقي بسند صحيح عن انس رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من بعده وذريته من بعده وهو ينادى يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقال لهم.(1/4744)
لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً استيناف كانّه فى جواب ماذا يقال لهم حين يدعون ثبورا يعنى هلاككم اكثر من ان تدعوا مرة واحدة فادعوا ادعية كثيرة وذلك لان عذابكم انواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته أو لأنه يتجدد كقوله تعالى كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب أو لأنه لا ينقطع فهو فى كل وقت ثبورا قال اللّه تعالى.
قُلْ يا محمد استيناف أَذلِكَ الذي ذكرت لك من صفة النار وأهلها أو أ ذلك الكنز والجنة التي فى الدنيا خَيْرٌ من جنة الخلد أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ خير من ذلك استفهام تقرير للتقريع مع التهكم والتوبيخ للكفار واضافة الجنة إلى الخلد للمدح أو للدلالة على خلودها أو للتميز عن جنات الدنيا الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ العائد إلى الموصول محذوف والمراد بالمتقين من يتقى الشرك والتكذيب بدلالة مقابلة الكفار وان الجنة يكون جزاء لكل مؤمن كانَتْ لَهُمْ فى علم اللّه أو اللوح المحفوظ أو لان ما وعد اللّه فى تحققه كالواقع جَزاءً ثوابا على أعمالهم وَمَصِيراً مرجعا ينقلبون إليه التنكير فيها للتعظيم وجزاء ومصيرا حالان من الضمير المرفوع فى كانت أو خبر ثان له وجملة كانت لهم حال من المفعول المقدر لوعد أى جنّة الخلد الّتى وعد المتّقون إياها وقد كانت لهم جزاء ومصيرا أو حال من المتّقون والرابط ضمير لهم.(1/4745)
لَهُمْ فِيها أى فى الجنة ما يَشاؤُنَ العائد محذوف أى ما يشاءونه من النّعيم يعنى على ما يليق برتبته إذا الظاهر ان الناقص لا يدرك ما يدركه الكامل بالتشهى وفيه تنبيه على ان جميع المرادات لا يحصل الا فى الجنة خالِدِينَ حال من أحد ضمائرهم كانَ الضمير الراجع إلى ما يشاءون عَلى رَبِّكَ وَعْداً أى موعودا من اللّه وكلمة على للوجوب استعمل لاستحالة الخلف فى الموعود ولا يلزم منه الا لجاء لان تعلق الارادة بالموعود مقدم على الوعد الموجب للانجاز وهو تحقق الاختيار مَسْؤُلًا أى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 16
حقيقا بان يسئل ويطلب أو مسئولا ساله الناس فى دعائهم ربّنا اتنا ما وعدتنا على رسلك قال محمد بن كعب القرظي كان مسؤلا من الملائكة بقولهم ربّنا وأدخلهم جنّت عدن الّتى وعدتهم.(1/4746)
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ متعلق بقالوا سبحانك وجملة قالوا سبحانك مع متعلقاتها عطف على واتّخذوا من دون اللّه الهة. قرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب وحفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم والتعظيم وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى كل معبود سواه عبد بالباطل عاقلا كان أو غير عاقل لان كلمة ما يعمهما على الأصح وقال مجاهد رض يعنى من الملائكة والجن وعيسى ع وعزير ع خص لهؤلاء بقرينة السؤال والجواب. وقال عكرمة والضحاك والكلبي يعنى الأصنام لان ما لغير ذوى العقول وهذا القول محمول على ان اللّه سبحانه يجعلها فى الاخرة ذات حيوة ونطلق فتنطق كما تنطق الجوارح والامكنة ونحو ذلك فَيَقُولُ للمعبودين بالباطل عطف على يحشر قرأ ابن عامر بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء على الغيبة أى يقول اللّه سبحانه لهم أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ بدل من عبادى يعنى أضللتم إياهم بدعوتكم إياهم إلى عبادة أنفسكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أى معرفة الحق لاخلالهم بالنظر الصحيح واعراضهم عن المرشد النصيح الفصيح وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبيد وأصلهء أضللتم أم ضلّوا فغير النظم ليلى حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولى للفعل دون نفس الفعل لأنه قطعى لا شبهة فيه والا لما توجه العتاب.(1/4747)
قالُوا أورد صيغة الماضي للمستقبل لتحقق الوقوع سُبْحانَكَ تعجبا لما قيل لهم لعصمتهم ان كانوا ملائكة أو أنبياء أو لعدم قدرتهم على الإضلال ان كانوا جمادات أو غير ذلك. أو اشعارا بانهم الموسومون بتسبيحه وتحميده حيث قال اللّه تعالى وان من شىء الّا يسبّح بحمده فكيف يليق بهم إضلال عبيده أو تنزيها للّه تعالى من ان يكون له شريك ما كانَ يَنْبَغِي لَنا جملة ينبغى خبر كان واسمه ضمير الشان أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ من مزيدة لتأكيد النفي أى ما يصح لنا ان نوالى أحدا غيرك للعصمة وعدم القدرة فكيف يصح لنا ان ندعو غيرنا إلى ان يتخذ وليا دونك وهذا جواب صحيح للانبياء والملائكة وكذا للجمادات واما من ادعى فى الدنيا الوهيّة باطلة من شياطين الجن والانس فهذا الجواب منهم كقولهم واللّه ربنا ما كنّا مشركين وكقول الشيطان لمّا قضى لامر انّ اللّه وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 17
الاية وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ بطول العمر والصحة وانواع النعم فاستغرقوا فى الشهوات حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ عطف على متّعتهم يعنى حتى غفلوا عن ذكرك وتذكّر آلائك والتّدبّر فى آياتك المنصوبة الدالّة على ذلك وعن احتياجهم إليك أو تركوا الموعظة والايمان بالقران فهو نسبة للضلال إليهم من حيث انه يكسبهم واسناد له إلى ما فعل اللّه بهم فحملهم عليه فهذه الآية حجة لنا على المعتزلة لا لهم علينا وَكانُوا فى قضائك عطف على نسوا قَوْماً بُوراً أى هلكا مصدر وصف به ولذلك يستوى فيه الواحد والجمع وقيل جمع بائر كعائذ وعوذ.(1/4748)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ خطاب مع المشركين فى الدنيا يعنى فسيكذبكم فى الاخرة الهتكم التي تعبدونها أورد صيغة الماضي للقطع بوقوعها كما فى قوله تعالى إذا السّماء انشقّت. وجاز ان يكون بتقدير القول يعنى فنقول حينئذ للمشركين فقد كذبكم المعبودون بِما تَقُولُونَ الباء بمعنى فى أى فى قولكم انهم الهة أو هؤلاء أضلونا وجاز ان يكون بما تقولون بدل اشتمال من الضمير المنصوب فى كذّبوكم يعنى كذبوا قولكم فَما تَسْتَطِيعُونَ عطف على فقد كذّبوكم قرأ حفص بالتاء على الخطاب للعابدين والباقون بالياء على ان الضمير راجع إلى المعبودين صَرْفاً أى لا يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم وَلا نَصْراً لكم اولا تستطيعون أنتم صرف العذاب عن أنفسكم ولا نصر أنفسكم. وقيل الصرف الحيلة ومنه قول العرب انه يتصرف أى يحتال وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أيها الناس نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ان كان المراد بالظلم الشرك فالجزاء لازم اجماعا وان كان يعم الكفر والفسق فاقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا وهو التوبة والإحباط بالطاعة اجماعا وبالعفو عندنا أخرج الواحدي من طريق جويبر والبغوي عن الضحّاك رض عن ابن عبّاس رض وابن جرير رض نحوه من طريق سعيد أو عكرمة عند انه لما عيّر المشركون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالفاقة وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشى فى الأسواق حزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل.(1/4749)
وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ يعنى الا رسلا انهم لياكلون فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه والمعنى الا رسلا آكلين الطعام والماشين فى الأسواق كقوله تعالى وما منّا الّا له مقام معلوم أى ما منّا من أحد الا من له مقام معلوم وجاز ان يكون حالا اكتفى منها بالضمير يعنى ما أرسلنا قبلك أحد من المرسلين فى حال من الأحوال الّا والحال انّهم لياكلون وجملة ما أرسلنا معترضة لتسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 18(1/4750)
اى بلية فالغنى فتنة للفقير يقول الفقير مالى لم أكن مثله والصحيح فتنة للمريض والشريف للوضيع وقال ابن عباس أى جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون فيهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى وقيل نزلت فى ابتلاء الشريف بالوضيع وذلك ان الشريف إذا أراد ان يسلم فراى الوضيع قد اسلم قبله انف وقد اسلم بعده. فيكون له على الشريف السابقة والفضل فيقيم على الكفر ويمتنع عن الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض وهذا قول الكلبي وقال مقاتل نزلت فى أبى جهل والوليد بن عتبة والعاص بن وائل والنضر بن الحارث وذلك انهم إذا راوا أبا ذر رض وابن مسعود رض وعمّارا رض وبلالا رض وصهيبا رض وعامر بن فهيرة قالوا نسلم ونكون مثل هؤلاء. وقال قتادة رض نزلت فى ابتلاء المؤمنين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون انظروا الّذين اتبعوا محمدا من موالينا ورذالتنا فقال اللّه تعالى لهؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى فتؤجروا أم لا تصبرون فتزدادوا غمّا إلى غمكم وحاصل المعنى اصبروا وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن صبر وجزع عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه فى المال والجسم فلينظر إلى من هو أسفل منه. رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 19
الجزء التّاسع والعشر.(1/4751)
وَ قالَ عطف على قال الّذين كفروا الَّذِينَ لا يَرْجُونَ أى لا يأملون لِقاءَنا بالخير لانكارهم البعث ولا لقاءنا بالشر اما مجازا واما على لغة تهامة قال الفراء ان الرجاء بمعنى الخوف على لغة تهامة ومنه قوله تعالى ما لكم لا ترجون للّه وقارا أى لا يخافون للّه عظمة واصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فانه وصول إلى المرئي والمراد به الوصول إلى جزائه لَوْ لا أى هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فيخبروننا بصدق محمد أو يكونون رسلا من اللّه إلينا أَوْ نَرى رَبَّنا فيامرنا باتباعه لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا جواب قسم محذوف فى شأن أَنْفُسِهِمْ حيث طلبوا لانفسهم ما ينفق لافراد من الأنبياء الّذين هم أكمل خلق اللّه فى أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك وَعَتَوْا تجاوزوا الحد فى الظلم وقال مجاهد طغوا وقال مقاتل علوا فى القول وقال البغوي العتو أشد الكفر وأفحش الظلم عُتُوًّا كَبِيراً بالغا أقصى مراتبه حيث طلبوا رؤية اللّه ولا شىء فوق ذلك وقيل عتوهم انهم عاينوا المعجزات الباهرة فاعرضوا عنها وطلبوا لانفسهم الخبيثة ما تقطعت دونه أعناق الطالبين الكاملين.
يَوْمَ يَرَوْنَ أى الكفار الْمَلائِكَةَ يعنى حين الموت أو يوم القيامة جملة معترضة والظرف امّا متعلق باذكر ويقولون حجرا محجورا عطف على يرون وجملة لا بشرى يومئذ لّلمجرمين معترضة اخرى واما متعلق بقوله تعالى لا بشرى بتقدير القول يعنى يوم يرون الملئكة يقولون أى الملائكة لا بُشْرى للمجرمين قال عطية ان الملائكة يبشرون المؤمنين يوم القيامة ويقولون للكافرين لا بشرى لكم.(1/4752)
و قيل معناه يوم يرون الملائكة لا يبشرون كما يبشرون المؤمنين بالجنة يَوْمَئِذٍ تكرير أو خبر للا أو ظرف لما تعلق به اللام فى للمجرمين لِلْمُجْرِمِينَ اما متعلق بالظرف المستقر اعنى يومئذ أو خبر للا أو متعلق بالبشرى ان قدرت منونة غير مبنية مع لا فانها لا تعمل وللمجرمين أمّا عام يتناول حكمه حكمهم واما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلا على جرمهم واشعارا بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابله وَيَقُولُونَ أى الملائكة عطف
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 20
على يقولون لا بشرى حِجْراً مَحْجُوراً كذا قال البغوي عن عطاء عن ابن عباس انه تقول الملئكة حراما محرما ان يدخل الجنة الا من قال لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه وعن مقاتل انه إذا خرج الكفار من قبورهم قالت الملائكة لهم حراما محرما عليكم ان تكون لكم الجنة وقال بعضهم معنى الآية يقولون أى المجرمون حين يخرجون من قبورهم ويرون الملائكة حجرا محجورا قال البغوي قال ابن جريح كانت العرب إذا نزلت بهم شدة وراوا ما يكرهون قالوا حجرا محجورا فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة ومعناه عوذا معوذا قال مجاهد يستعيذون من الملائكة يعنى يوم يرون الملائكة وتقول الملائكة لا بشرى ويقول المجرمون حجرا محجورا أى يطلبون من اللّه ان يمنع لقاءهم.(1/4753)
وَ قَدِمْنا أى عمدنا ذلك اليوم عطف على ويقولون إِلى ما عَمِلُوا أى الكفار مِنْ عَمَلٍ صالح كقرى الضيف وصلة الرحم واغاثة الملهوف ونحوها فَجَعَلْناهُ عائد إلى ما عملوا هَباءً مَنْثُوراً أى باطلا لا ثواب له لفوات شرط الثواب عليه من الايمان والإخلاص للّه تعالى قال على الهباء ما يرى فى الكوى إذا وقع الشمس فيها كالغبار ولا يمس منها بالأيدي ولا يرى فى الظل وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد - والمنثور المفرق صفة لهباء وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير هو ما تسفه الريح وتذريه من التراب وحطام الشجر وقال مقاتل هو ما يطير من حوافر الدّواب عند السير وقيل الهباء المنثور ما يرى فى الكوة والهباء المنبتّ ما يطيره الريح من سنابك الخيل شبه عملهم المحبط فى حقارته وعدم نفعه بالهباء ثم بالمنثور منه فى انتثاره بحيث لا يمكن نظمه أو فى تفرقه نحوا عراضهم التي كانوا يتوجهون نحوها أو مفعول ثالث من حيث انه كالخبر كقوله تعالى كونوا قردة خسئين.
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أى يوم يرون الملئكة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أى مكانا يستقر فى اكثر الأوقات وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج وهو التمتع بهن ويجوز ان يراد به مكان القيلولة على التشبيه إذ لا نوم فى الجنة وقال الأزهري القيلولة والمقيل الاستراحة نصف النهار وان لم يكن مع ذلك نوم لان اللّه تعالى قال واحسن مقيلا والجنة لا نوم فيها وفى احسن رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وغيره من المحاسن ويحتمل ان يراد بالمستقر والمقيل المصدر أو الزمان واشارة إلى ان مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الامكنة والازمنة والتفضيل اما لارادة الزيادة مطلقا أو بالاضافة إلى ما للمترفين فى الدنيا أخرج ابن المبارك فى الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم وصححه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 21(1/4754)
عن ابن مسعود رض قال لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء وذكر البغوي عن ابن مسعود رض لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة فى الجنة واهل النار فى النار وقرأ ثمّ انّ مقيلهم لالى الجحيم هكذا كان يقرأه - واخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم فى الحلية عن ابراهيم النخعي قال كانوا يرون انه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة نصف النهار فيقيل أهل الجنة فى الجنة واهل النار فى النار وقال البغوي كان ابن عباس رض يقول فى هذه الآية الحساب ذلك اليوم فى اوله وقال القوم حين قالوا فى منازلهم فى الجنة قال البغوي ويروى ان يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس.(1/4755)
وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ عطف على يوم يرون قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو بتخفيف الشين هاهنا وفى سورة ق بحذف احدى التاءين والباقون بالتشديد بإدغام التاء فى الشين السَّماءُ بِالْغَمامِ أى بسبب طلوع الغمام وهو الغمام المذكور فى قوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام والملئكة وقد مر فى سورة البقرة. وهو غمام ابيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن الا لبنى إسرائيل فى تيههم وقال البغوي الباء بمعنى عن يتعاقبان يقال رميت السهم بالقوس وعن القوس فالمعنى تشقق السماء عن الغمام وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ قرأ العامة بنون واحدة وتشديد الزاء وفتح اللام على صيغة الماضي المبنى للمفعول ورفع الملائكة على انه مسند إليه وقرأ ابن كثير بنونين وتخفيف الزاء وضم اللام على صيغة المضارع المبنى للفاعل المتكلم على التعظيم من الانزال ونصب الملائكة على المفعولية تَنْزِيلًا أخرج الحاكم وابن أبى حاتم وابن جرير وابن أبى الدنيا فى كتاب الأهوال عن ابن أبى عباس انه قرأ يوم تشقّق السّماء بالغمام قال يجمع اللّه الخلق يوم القيمة فى صعيد واحد الجن والانس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم اكثر ممّن فى الأرض من الجن والانس وجميع الخلق فيحيطون بالجن وو الانس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل أهل السماء الثانية وهم اكثر من أهل السماء الدنيا واهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون « 1 » لا فيحيطون بالملائكة الّذين نزلوا قبلهم وبالجن والانس وجميع الخلائق ثم ينزل أهل السماء الثالثة وهم اكثر من أهل السماء الثانية والاولى واهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم اكثر من أهل السماء الثالثة والثانية والاولى واهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم(1/4756)
_________
(1) وليس فى الأصل فيقولون لا 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 22
ينزل أهل السماء الخامسة وهم اكثر ممن تقدم ثم أهل السماء السادسة كذلك ثم أهل السماء السابعة وهم اكثر من أهل السماوات واهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل ربّنا فى ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم اكثر من أهل السماوات السبع والأرضين وحملة العرش لهم قرون ككعوب القنا ما بين قلام أحدهم كذا وكذا ومن أخص قدمه إلى كعبه خمس مائة عام ومن كعبه إلى ركبته خمس مائة عام ومن ركبته إلى ارنبه خمس مائة عام ومن ارنبه إلى ترقوته مقدم الحلق مسيرة خمس مائة ومن ترقوته إلى موضع القرط خمس مائة عام وقد مرّ هذا الحديث « 1 » واقوال فى أعلى الصيد وحيث تترقى النفس منه رح العلماء فى تاويل نزوله تعالى فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام. واخرج ابن جرير وابن المبارك عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة امر اللّه السّماء فتشققت باهلها فيكون الملائكة على حافتها حين يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفّوا صفّادون صف ثم ينزل ملك الا على مجنبته اليسرى جهنم فإذا راها أهل الأرض ندوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض الا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه وذلك قوله تعالى انّى أخاف عليكم يوم التّناد يوم تولّون مدبّرين وقوله تعالى وجاء ربّك والملك صفّا صفّا وجئ يومئذ بجهنّم وقوله تعالى يمعشر الجنّ والانس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار السّموت والأرض فانفذوا وقوله تعالى وانشقّت السّماء فهى يومئذ واهية والملك على أرجائها يعنى ما تشقق منها فبينما كذلك إذا سمعوا الصوت واقبلوا إلى الحساب.(1/4757)
الْمُلْكُ مبتدا يَوْمَئِذٍ أى يوم إذ تشقق السماء متعلق بالملك الْحَقُّ صفة للملك لِلرَّحْمنِ خبر للمبتدا يعنى الملك الثابت المتحقق الّذى لا زوال له يومئذ ثابت للرحمن دون غيره وجاز ان يكون يومئذ خبرأ للمبتدا وللرحمان متعلق به وَكانَ يَوْماً خبر كان واسمه ضمير مستتر عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً صفة ليوم وعلى الكافرين متعلق به يعنى كان ذلك البوم يوما شديدا على الكافرين وجاء فى الحديث عن أبى سعيد قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال والّذى نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا واللّه اعلم قال البغوي كان عقبة بن ابى
_________
(1) قال ابن كثير بعد سطر هذه الرواية فمداره على على بن زيد بن جدعان وفيه ضعف فى سباقاته غالبا وفيها نكارة شديدة أه الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 23(1/4758)
معيط لا يقدم من سفر الا صنع طعاما يدعو إليه اشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي صلى اللّه عليه وسلم فقدم ذات يوم من سفر فصنع الطعام فدعا الناس ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا قرب الطعام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما انا بأكل طعامك حتى تشهد ان لا اله الّا اللّه وانى رسول اللّه فقال عقبة اشهد ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه فاكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طعامه - وكان عقبة صديقا لابى بن خلف فلمّا اخبر أبيّ بن خلف قال له يا عقبه صبأت قال لا واللّه ما صبأت ولكن دخل على رجل فابى ان يأكل طعامى الا ان اشهد له فاستحييت ان يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم فقال ما انا بالّذى ارضى منك ابدا الا ان تأتيه فتبزق فى وجهه ففعل ذلك عقبة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا القان خارجا من مكة الا علوت رأسك بالسيف فقتل عقبة يوم بدر صبرا واما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد بيده وكذا أخرج ابن جرير مرسلا وفيه وقال أبيّ لعقبة ارضى منك الا ان تأتيه فتطأ قفاه وتبزق فى وجهه فوجده ساجدا فى دار الندوة ففعل ذلك فقال عليه السلام لا ألقاك خارجا من مكة الا علوت راسك بالسيف فاسر يوم بدر فامر عليا بقتله وطعن ابيّا بأحد فى المبارزة فرجع إلى مكة فمات ففى شأن عقبة وأبيّ نزلت.(1/4759)
وَ يَوْمَ يَعَضُّ عطف على يوم تشقّق الظَّالِمُ يعنى عقبة بن أبى معيط عَلى يَدَيْهِ من فرط الحسرة أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كان أبى بن خلف يحضر النبي صلى اللّه عليه وسلم فزجره عقبة بن أبى معيط فسنزلت هذه الآية إلى قوله خذولا واخرج مثله عن الشعبي ومقسم قال البيضاوي عض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة. قال الضحاك لما بزق عقبة فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاد بزاقه فى خده فاحترق خداه وكان اثر ذلك فيه حتى الموت وقال الشعبي كان عقبة بن أبى معيط خليل امية بن خلف فاسلم عقبة فقال امية وجهى من وجهك حرام ان بايعت محمدا فكفر وارتدّ فانزل اللّه عزّ وجلّ ويوم يعضّ الظّالم يعنى عقبة بن أبى معيط بن امية بن عبد الشمس بن عبد مناف على يديه ندما وأسفا على ما فرط فى جنب اللّه واوبق نفسه بالمعصية والكفر لطاعة خليله الّذى صده عن سبيل ربه قال عطاء يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ثم تنبتان ثم يأكل هكذا كلّما نبتت يده أكلها تحسرا على ما فعل يَقُولُ يا لَيْتَنِي تقديره يا قوم ليتنى قرأ أبو عمرو رض بفتح الياء والآخرون بإسكانها خال من فاعل يعض اتَّخَذْتُ فى الدنيا مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يليتنى اتبعت محمدا أو اتخذت معه سبيلا إلى الهدى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 24
و النجاة طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم ينشعب بي طريق الضلالة.(1/4760)
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً يعنى أبى بن خلف وفلان كناية عن الاعلام خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي فلان عَنِ الذِّكْرِ أى عن ذكر اللّه أو كتابه أو موعظة الرسول أو كلمة الشهادة جواب قسم محذوف بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أى الذكر مع الرسول وَكانَ الشَّيْطانُ يعنى الخليل المضلّ فان كل متمر دعات من الانس والجن وكل من صد عن سبيل اللّه فهو شيطان لِلْإِنْسانِ خَذُولًا فعول من الخذلان وهو ترك الاعانة والنصر يعنى لا يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه وهذه الآيات وان كان موردها خاصا لكنها عامة من حيث العمارة يشتمل حكمه كل متحابين اجتمعا على معصية عن أبى موسى رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك اما ان يجديك واما ان تبتاع منه أو تجد ريحا طيبة ونافخ الكير اما ان يحرق ثيابك واما ان تجد ريحا خبيثة رواه البخاري وعن أبى سعيد الخدري انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تصاحب الا مؤمنا ولا يأكل طعامك الا تقى رواه احمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المرء على دين خليله فلينظر من يخالل - رواه البغوي وفى الصحيحين وعند احمد واصحاب السنن عن انس وفى الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المرء مع من أحب.(1/4761)
وَ قالَ الرَّسُولُ محمد صلى اللّه عليه وسلم يومئذ عطف على يعضّ الظّالم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قرأ نافع وأبو عمرو والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أى متروكا فاعرضوا عنه ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه وقيل معناه جعلوه بمنزلة الهجر والهذيان والقول السيء فزعموا انه شعر أو سحر أو كهانة وهو قول النخعي ومجاهد وقيل معناه قال الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم فى الدنيا يشكوا قومه إلى ربه انّ قومى اتّخذوا لهذا القرآن مهجورا وعلى هذا قال الرسول عطف على قال الّذين لا يرجون ولما شكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومه إلى ربه عزاه اللّه تعالى بقوله.
وَكَذلِكَ أى جعلا مثل ما جعلنا لك اعداء من مشركى قريش جَعَلْنا عطف على قال الرّسول لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا لفظ العدو يحتمل للواحد والجمع مِنَ الْمُجْرِمِينَ أى من المشركين فاصيركما صبروا فانى ناصرك وهاديك وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً إلى طريق قهرهم وَنَصِيراً عليهم هاديا ونصيرا حال من فاعل كفى أو تمييز من النسبة مثل قوله تعالى وكفى باللّه شهيدا واللّه دره فارسله جملة كفى بربّك عطف على كذلك جعلنا.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 25
و أخرج ابن أبى حاتم والحاكم وصححه والضياء فى المختار عن ابن عباس انه قال المشركون ان كان محمد (كما يزعم) نبيّا فلم يعذبه ربه الا ينزل عليه القرآن جملة واحدة فانزل اللّه تعالى.(1/4762)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قال الّذين لا يرجون لَوْ لا هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أى انزل عليه كخبّر بمعنى اخبر كيلا يناقض قوله جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة حال من القرآن كما أنزلت التورية على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود عليهم الصلاة والسلام. قال البيضاوي هذا اعتراض لا طائل تحته لان الاعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع ان التفريق قوائد منها ما أشار إليه بقوله كَذلِكَ متعلق بمحذوف أى أنزلناه كذلك مفرقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أى لنقوى بتفريقه قلبك على حفظه وفهمه ولان نزوله بحسب الوقائع يوجب بصيرة فى المعنى ولانه إذا نزل منجما وهو يتحدى كل نجم فيعجزون عن معارضة ذلك زاد ذلك قوة قلبه ولانه إذا نزل به جبرئيل حالا بعد حال يثبت به فواده ومن فوائد التفريق فى النزول معرفة الناسخ من المنسوخ ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فانه يعين على البلاغة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عطف على أنزلناه المقدر الّذى تعلق به لنثبت قال ابن عباس رض بيّنّه بيانا والترتيل القراءة فى ترسل وتثبت وقال السدى فصلناه تفصيلا وقال مجاهد بعضه فى اثر بعض وقال النخعي والحسن فرقناه تفريقا واصل الترتيل فى الأسنان وهو تفليجها.
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أى سوال عجيب كأنَّه مثل يريدون به القدح فى نبوتك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ يعنى الّا جئنا لك فى جواب سوالهم بما يحق لرد ما جاءوك وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً عطف على الجار والمجرور أى بما هو احسن بيانا يزيل اشكالهم أو المعنى لا يأتونك بحال عجيب يقولون هذا كان حاله الا أعطيك من الأحوال ما يحق لك فى حكمتنا وما هو احسن كشفا لما بعثت له والفسر الا بانة وكشف المغطى كذا فى القاموس.(1/4763)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ ذم منصوب أو مرفوع أو مبتدا خبره أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا والمفضل عليه هو الرسول على طريقة قوله تعالى قل هل أنبئكم بخير من ذلك متوبة عند اللّه من لّعنه اللّه وغضب عليه كانّه قيل ان حالهم على هذه الاسئلة تحقير مكانه بتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا انهم هم شرّ مّكانا واضلّ سبيلا وقيل انه متصل بقوله تعالى اصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرّا واحسن مقيلا فالمفضل عليه عام كما كان هناك يعنى أولئك شر مكانا من كل مكين وأضل سبيلا من كل سالك ضالّ فكلمتا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 26
مكانا وسبيلا تميزان من النسبة ووصف السبيل بالضلال من الاسناد المجازى للمبالغة عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة اصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم فقال رجل يا رسول اللّه أو يمشون على وجوههم قال الّذى أمشاهم على أقدامهم قادر على ان يمشيهم على وجوههم. رواه أبو داود والبيهقي وعن انس رض سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه قال أ ليس الّذى أمشاه على رجليه فى الدنيا قادرا على ان يمشيه على وجهه يوم القيامة متفق عليه وعن معاوية بن حيدة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول انكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم. رواه الترمذي وحسنه وعن أبى ذر قال حدثنى الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم ان الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج يسحبهم الملائكة على وجوههم. رواه النسائي والحاكم والبيهقي ..
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أى التورية وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً يوارده ويعينه فى الدعوة وإعلاء كلمة اللّه ولا ينافى ذلك مشاركته فى النبوة لان المتشاركين فى الأمر متوازران عليه.(1/4764)
فَقُلْنَا لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فادعواهم إلى الايمان باللّه وآياته الدالّة على وجوده ووحدته وصفاته الكاملة فانهم كانوا ينكرون الصانع أو يشركون به غيره ويعبدون الأصنام وجاز ان يكون المراد بالآيات معجزات موسى عليه السلام وعلى هذا قوله تعالى الّذين كذّبوا بايتنا صادق بالنسبة إلى زمان الحكاية يعنى حين نزول القرآن ولا يجوز ان يكون المراد بالآيات آيات التوراة لانها ما نزلت الا بعد هلاك فرعون وقومه فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً فى الكلام حذف للايجاز تقديره فذهبا إليهم فدعواهم إلى الايمان باللّه وآياته فكذّبوهما فدمّرناهم تدميرا اقتصر على ما هو المقصود من القصة وهو الزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ منصوب باذكر أو بفعل مضمر يفسره قوله أغرقناهم يعنى أغرقنا قوم نوح ولا يجوز ان يكون معطوفا على هم فى دمّرناهم إذ لو كان كذلك لزم تعقيب تدمير قوم نوح بإتيان موسى وقد كان قبل ذلك لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ظرف لفعل مضمر ناصب لقوم نوح أو ظرف لما بعده والمراد بتكذيب الرسل تكذيب نوح ومن قبله من الرسل عليهم السلام أو تكذيب نوح وحده وأورد صيغة الجمع لان تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو المعنى كذبوا بعثة الرسل أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَجَعَلْناهُمْ أى جعلنا إغراقهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 27
او قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً عبرة وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر عَذاباً أَلِيماً وَعاداً وَثَمُودَ عطف على هم فى جعلنهم وجاز ان يكون منصوبا بفعل محذوف دلّ عليه سياق الكلام يعنى أهلكنا عادا وثمودا وباذكر وقد مرّ قصتهما فيما سبق من سورة الأعراف وغيرها.(1/4765)
وَ أَصْحابَ الرَّسِّ فى القاموس الرسّ ابتداء الشيء ومنه رسّ الحمى ورسيسها والبئر المطوية بالحجارة والإصلاح والإفساد ضد وواد بآذربيجان عليه الف مدينة والحفر ودفن الميت. ولعل اطلاق اصحب الرس على قوم معهودين لكونهم بلدين بالشر والكفر مفسدين فى الأرض أو لكونهم أهل بئر أو ساكنى تلك الوادي أو لانهم قتلوا نبيهم ودفنوه والمراد هاهنا قوم كانوا أهل بئر قعود عليها اصحب مواش يعبدون الأصنام فوجه اللّه عليهم شعيبا عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا فى طغيانهم وفى أذى شعيب عليه السلام فبينما هم حول البئر فى منازلهم انهارت البئر فخسف اللّه بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعا كذا قال وهب بن منبه وأخرجه ابن جرير وابن عساكر عن قتادة قال البغوي قال قتادة والكلبي الرس بئر بفلح اليمامة قتلوا نبيهم فقتلهم اللّه عزّ وجلّ وقال بعضهم هم بقية ثمود قوم صالح وهم اصحب البئر التي ذكرها الله تعالى فى قوله وبئر معطّلة وقصر مشيد وكذا أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن قتادة وقال البغوي قال سعيد بن جبير كان لهم نبى يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فاهلكهم اللّه.(1/4766)
قيل ابتلاهم اللّه بطير عظيم كان فيها من كل لون وسموها عنقا لطول عنقها وكانت تسكن جيلهم الذي يقال له فتح ادمخ وتنقضّ على صبيانهم فتخطفهم فدعا عليها حنظلة فاصابتها الصاعقة ثم انهم قتلوه واهلكوا - وقال البغوي قال كعب ومقاتل والسدى الرس بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيب النجار وهم الّذين ذكرهم اللّه فى سورة يس وقيل هم اصحاب الأخدود الذي حفروه وقال عكرمة هم رسّوا نبيهم فى البئر أى دفنوه وقيل الرسّ المعدن وجمعه رساس وَقُرُوناً عطف على اصحب الرّس يعنى وأهلكنا قرونا وهو جمع الكثرة لقرن وهو قوم مقترنون من زمن واحد - القرن إذا كان مضافا إلى شخص معين أو جمع معلوم يراد به من يقترن ويلاقى ذلك الشخص أو تلك الجماعة يعنى أكثرهم أو واحدا منهم ومنه ما يقال القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير بقوله صلى اللّه عليه وسلم خير القرون قرنى ثم الّذين يلونهم ثم الّذين يلونهم فقرن النبي صلى اللّه عليه وسلم هم الصحابة الّذين راوا النبي صلى اللّه عليه وسلم والقرن الثاني الّذين راوا واحدا من الصحابة أو اكثر والثالث الّذين راوا واحدا منهم أو اكثر وان كان غير مضاف يراد به قوم مقترنون فى زمن واحد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 28
و لا شك فى انه إذا اقترن جماعة فى زمان فكبارهم تقترن فى صغرهم بكبار سبقوا وصغارهم تفترن فى كبرهم بصغار تلحقهم - فوضعوا لاطلاق القرن مدة فقيل أربعون أو عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو تسعون أو مائة أو مائة وعشرون والاصحّ انها مائة سنة بقوله صلى اللّه عليه وسلم لغلام عش قرنا فعاش مائة سنة والمعنى على هذا وأهلكنا أهل اعصار كثيرة كافرة بَيْنَ ذلِكَ أى بين ماد وثمود واصحاب الرّسّ وقوم موسى كَثِيراً صفة لقرون.(1/4767)
وَ كُلًّا منصوب بفعل مضمر يدل عليه ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ والتنوين عوض من المضاف إليه تقديره وأنذرنا كل واحد من تلك القرون ضربنا له الأمثال أى بيّنّا له القصص العجيبة من القصص الأولين ليعتبروا بها وَكُلًّا أى كل واحد منهم تَبَّرْنا تَتْبِيراً أى أهلكنا إهلاكا لما لم يعتبروا بالأمثال وكذبوا المنذرين قال الأخفش معناه كسرناه تكسيرا قال الزجاج كل شىء كسرته وفتنه فقد تبّرته ومنه التبر لفتات الذهب والفضة.
وَلَقَدْ أَتَوْا جواب لقسم محذوف معطوف على ولقد اتينا موسى الكتاب والضمير راجع إلى أهل مكة أسند فعل البعض إلى الكل كما فى قوله فكذّبوه فعقروها يعنى واللّه لقد مرّ أهل مكة يعنى أكثرهم مرّوا مرامرا فى أسفارهم إلى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعنى سدوم عظمى قريات قوم لوط أمطرت عليها الحجارة لما كانوا يعملون الخبائث إتيان الرجال فى ادبارهم قال البغوي قريات قوم لوط كانت خمسا فاهلك اللّه تعالى منها أربعا ونجت واحدة وهى صغيرة وكان أهلها لا يعملون الخبيث وكانت تلك القرى على طريق أهل مكة عند ممرهم إلى الشام أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات وتقرير يعنى لقد كانوا يرونها فما لهم لم يعتبروا بها ولم يتذكروا بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً يعنى ليس عدم اتعاظهم لاجل عدم رؤيتهم بل لعمه فى قلوبهم لا يتوقعون نشورا ولا عاقبة أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون علما فى الثواب أو لا يخافونه على لغة تهامة ..(1/4768)
وَ إِذا رَأَوْكَ يعنى كفار قريش عطف على لا يرجون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أى ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً استثناء مفرغ منصوب على انه مفعول ثان ليتخذونك مصدر بمعنى المفعول أى مهزوّا به قال البغوي نزلت فى أبى جهل وأصحابه مرّوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا استهزاء أَهذَا يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم مبتدا خبره الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ أى بعثه اللّه رَسُولًا جملة أ هذا معمول لفعل محذوف تقديره يقولون أ هذا الّذى بعثه اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 29
رسولا والاستفهام للتعجب والإنكار وكلمة هذا للتحقير وجملة يقولون بيان لما سبق يعنى يتخذونك مهزوّا به يقولون فيك كذا.
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أى ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده فى الدعاء إلى التوحيد وكثرة إتيانه بما يسبق إلى الذهن انها حجج ومعجزات - ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة وفيه دليل على فرط اجتهاده صلى اللّه عليه وسلم وفى دعوتهم وعرض المعجزات المتكاثرة المتوافرة عليهم حتى شارفوا بزعمهم ان يتركوا دينهم المعوج إلى دينه القويم لو لا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة الهتهم ومن هذا شأنه ان لا يتذكر بمشاهدة المعجزات المتوافرة الباهرة فكيف يعتبر برؤية حجارة القرى الحالية لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا أى ثبتنا عَلَيْها واستمسكنا بعبادتها وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله تقديره لولا صبرنا ثابت أو لو لا ثبت صبرنا لاضلّنا. ولولا فى مثله تفيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ ولمّا كان كلامهم هذا مشعرا بنسبة الضلال إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قال اللّه سبحانه ردا عليهم وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أهم أضل سبيلا أم المؤمنون وفيه وعيد ودلالة على انه لا يهملهم اللّه.(1/4769)
أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بان أطاع هواه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة ولا يتبصر دليلا قدم المفعول الثاني للعناية به قال البغوي قال ابن عباس ارايت من ترك عبادة اللّه خالقه وهوى حجرا فعبده من شرطية جزاؤه أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا يمنعه عن ذلك والجملة الشرطية قائم مقام المفعولين لرايت والاستفهام الأول للتقرير والتعجيب والثاني للانكار يعنى لست عليهم حفيظا قال الكلبي نسختها اية القتال.
أَمْ تَحْسَبُ أم منقطعة يعنى بل أ تحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ كلام اللّه منك أَوْ يَعْقِلُونَ ما يستفاد منه والاستفهام للانكار يعنى انهم لا يسمعون ولا يعقلون حيث ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم والمراد بالسمع هاهنا سمع قلوبهم فهم لا ينتفعون بالمواعظ والحجج وفيه دليل على ان إفادة البرهان العلم بالنتيجة امر عادى منوط بمشية اللّه تعالى وتخصيص الأكثر لأنه كان منهم من أمن ومنهم من تعقل الحق وكابر استكبارا أو خوفا على الرياسة إِنْ هُمْ أى ما هم الضمير راجع إلى أكثرهم إِلَّا كَالْأَنْعامِ حيث يسمعون بآذانهم كالانعام ولا يسمعون بقلوبهم فلا ينتفعون به ولا يتدبرون فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا من الانعام فان الانعام ان لم يدركوا الحق حقّا والباطل باطلا فهم لا يزعمون الحق باطلا والباطل حقا فالانعام فى جهل بسيط والكفار فى جهل مركب ولا شك ان الجاهل بالجهل المركب أضل
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 30(1/4770)
و ابعد من الحق من الجاهل بالجهل البسيط فالانعام لا يميزون بين الحق والباطل والكفار يحكمون بحقيقة الشرك ويعبدون الحجارة بلا دليل بل مع ظهور بطلانها وينكرون الرسل مع شواهد الحجج والمعجزات وسطوع برهانها. وقيل لان البهائم تنقاد من يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسئ إليها وتطلب ما ينفعها وتهرب ممّا يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من اساءة الشيطان ويمكن ان يقال ان الانعام تعرف خالقها وتسجد له وتسبح له بحمده وتعقل وان كان تعقلهم غير مدرك للعوام. وقد روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال بينما رجل يسوق بقرة إذ عيى فركبها فقالت لم نخلق لهذا انما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان اللّه بقرة تكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانى أو من به وأبو بكر وعمر رض وما هما « 1 » ثمه وقال بينما رجل فى غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فاخذها فادركها صاحبها فاستنقذها فقال له الذئب فمن له يوم السبع إذ لا راعى لها غيرى فقال سبحان اللّه ذئب يتكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو من به انا وأبو بكر رض وعمر رض وماهما ثمّ.
فائدة : للملائكه روح وعقل وللبهائم نفس وهوى والآدمي مجمع للجميع فان غلب نفسه وهواه على الروح والعقل كان اضلّ من البهائم وان غلب عقله وروحه على النفس والهوى كان أفضل من الملائكة - .(1/4771)
أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ الم تنظر إلى صنعه كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ كيف بسطه أو المعنى الم تنظر إلى الظل كيف مده ربك فغير النظم اشعار ابان المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه هو « 2 » دلالة حدوث الظل وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة علا ان ذلك فعل للصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس أو المعنى الم ينته علمك إلى ربك كيف مد الظل وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا لأنه ظل لا شمس معه كما قال فى ظل الجنة وظلّ ممدود أو المراد بالظل ما يقع للجدران والأشجار بعد طلوع الشمس قال أبو عبيدة الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس فقبل الزوال يسمى ظلا وبعد الزوال فيا لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ويمكن ان يقال ان الظل هو ظلمة الليل تنسخه الشمس بطلوعها وَلَوْ شاءَ ربك لَجَعَلَهُ ساكِناً أى ثابتا مسنقرا من سكن بمعنى قرّبان جعل اللّيل سرمدا إلى يوم القيمة أو عير متقلص من السكون
_________
(1) قوله وما هما ثمه أى لم يكن أبو بكر رض وعمر رض حاضرين وانما قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما بقدرة اللّه تعالى فقوله وما هما ثمه قول راوى الحديث 12 الفقير الدهلوي
(2) وفى الأصل وهو دلالة إلخ ولم يستقم 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 31
بان يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد وجملة ولو شاء اما حال من ربك أو معترضه ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أى على الظل دَلِيلًا يعنى لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ظلا ولولا النور لما عرف الظلمة ظلمة فان الأشياء تعرف بأضدادها وأيضا لا يوجد الظل ولا يتفاوت الا بسبب حركات الشمس وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم.(1/4772)
ثُمَّ قَبَضْناهُ أى أزلناه بطلوع الشمس وارتفاعها ووقوع شعاعها موقع الظل لمّا عبر احداثه بالمد عبر عن إزالته بالقبض إِلَيْنا أى إلى حيث ما أردنا وقيل القبض إلى نفسه كناية عن الكف قَبْضاً يَسِيراً سهلا غير عسيرا وقليلا قليلا حيثما ترتفع الشمس تنقص الظل وان كان المراد بالظل ظلمة الليل فقبضه اليسير ازالة الظلمة قليلا قليلا حين طلوع الفجر تقل الظلمة انا فانا حتى تسفر جدّا ثم إذا طلعت الشمس تزول الظلمة عن مواضع تقع فيها شعاع الشمس وتقل الظلمة عن مواضع تقع فيها أنوارها مع الحجب على حسب تفاوت الحجب - وثمّ فى الموضعين لتفاضل اوقات ظهورها شبّه تباعد ما بينهما فى الفضل بتباعد ما بين الحوادث فى الوقت.(1/4773)
ولى هاهنا تأويل اخر وهو ان يراد بالظلّ عالم الإمكان فانه ظلّ لمرتبة الوجوب موجود بوجود ظلّى فى خارج ظلّى ويراد بالشمس مراتب صفات اللّه سبحانه وأسمائه - والمعنى الم تر إلى صنع ربّك كيف أوجد عالم الإمكان ومدّ الوجود المنبسط على هياكل الماهيات الممكنة الّذى هو ظل للوجود الحق ولو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على حالة واحدة ولكن لم يشأ ذلك بل جعله محلا للحوادث مستعدا للتغير والفناء حتى يتضح إمكانه وافتقاره انى ماهية متاصلة الوجود ذات الوجوب والبقاء قال اللّه تعالى ثمّ جعلنا الشّمس عليه دليلا وذلك حين يتجلّى على الصوفي اسماء اللّه تعالى وصفاته وشاهد ببصيرة القلب لوجود الحق فحينئذ ظهر له كون عالم الإمكان ظلّا من ظلاله وكان يزعم قبل تلك التجلّيات والمشاهدات ان عالم الإمكان هو الموجود على الحقيقة دون غيره ثم يعنى بعد تلك التجليات والمشاهدات قبضناه إلينا يعنى اجتبيناه وقربناه قربا غير متكيف إلينا أى إلى مرتبة الصفات والذات قبضا يسيرا - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن ربه صلى اللّه عليه وسلم لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به الحديث وقالت الصوفية من استوى يوماه فهو مغبون ..
وَهُوَ يعنى ربك الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شبه ظلمة الليل باللباس فى ستره وَالنَّوْمَ سُباتاً أى راحه للابد ان يقطع المشاغل واصل السبت القطع أو موتا كقوله تعالى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 32
و هو الّذى يتوفّيكم باللّيل ومنه المسبوت للميت وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أى ذا نشور وانتشار ينتشر فيه الناس لاكتساب المنافع الدينية والدنيوية.(1/4774)
وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ قرأ ابن كثير الرّيح على التوحيد ارادة للجنس والباقون على الجمع ملاحظة للافراد بُشْراً قرأ الجمهور بضم النون والشين من النشور وابن عامر بضم النون وسكون الشين على التخفيف وأصله ضم الشين جمع ناشرة يعنى ناشرات للسحاب وقرا حمزة وخلف أبو محمد والكسائي بفتح النون على انه مصدر وصف به وقرا عاصم بضم الباء التحتانية وتخفيف الشين تخفيف بشر جمع بشير بمعنى مبشرين بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أى قدام المطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً عطف على أرسل على سبيل الالتفات من الغيبة إلى التكلم والطهور اما اسم لما ينطهر به كالسحور لما يتسحر به والفطور لما يفطر به كما فى قوله صلى اللّه عليه وسلم ان الصعيد الطيب طهور المسلم ما لم يجد الماء ولو إلى عشّر حجج رواه احمد وأبو داود والترمذي عن أبى ذر وصححه وقوله صلى اللّه عليه واله وسلم جعل لنا الأرض كلها مسجدا وترابها طهورا واما مصدر كالقبول ومنه قول صلى اللّه عليه وسلم طهور اناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسل سبع مرات أولهن بالتراب رواه مسلم وأبو داود عن أبى هريرة وانما وصف الماء به مبالغة وما صفة للمبالغة كالصبور والشكور والقطوع والضحوك بمعنى الكامل فى الطاهرية قال البغوي ذهب قوم إلى ان الطهور ما يتكرر به التطهير كالصبور اسم لما يتكرر منه الصبر والشكور اسم لما يتكرر منه الشكر وهو قول مالك حتى جوز والوضوء بالماء الّذى استعمل فى الوضوء مرة.(1/4775)
قلت وهذا ليس بشئ لان الفعول ليس من التفعيل فى شىء وأيضا لا دلالة فيه على التكرار بل على المبالغة الا ان يقال الكمال فى الطاهرية اما بان يكون طاهرا فى نفسه مطهرا لغيره وقد ثبت كون الماء على هذه الصفة بالنصوص والإجماع والنقل المتواتر واما بان كان طاهرا بحيث لا ينجسه شىء وبه قال مالك محتجا بقوله صلى اللّه عليه وسلم الماء لا ينجسه شىء رواه احمد وابن خزيمة وابن حبان عن ابن عباس رض وروى اصحب السنن الاربعة بلفظ ان الماء لا يخبث ورواه الدار قطنى عن عائشة رض والطبراني فى الأوسط وأبو يعلى والبزار وأبو على بن السكن فى صحاحه من حديث شريك وروى احمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال قيل يا رسول اللّه أ نتوضا من بئر بضاعة وهى بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الماء طهور لا ينجسه شىء.
وروى ابن ماجة عن أبى سعيد قوله صلى اللّه عليه وسلم فى الحياض تردها السباع والكلاب والحمر لها ما حملت فى بطونها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 33(1/4776)
و لنا ما غير طهور. فان قيل هذه الأحاديث متروكة بالإجماع حتى ان مالكا يقول ان الماء إذا تغير أحد أوصافه يتنجس بوقوع النجاسة فيه قلنا إذا تغير أحد أوصاف الماء فهو ليس بماء مطلق وكلامنا فى الماء المطلق. والجواب عن هذا الاحتجاج ان المراد بالماء هاهنا الماء المعهود يعنى الماء الكثير المستقر فى الحياض وفى بئر بضاعة ونحو ذلك حتى يندفع التعارض بين هذه الأحاديث وأحاديث اخر تدل على تنجس الماء بوقوع النجاسة فيه وان لم يتغير أحد أوصافه منها قوله صلى اللّه عليه وسلم طهور اناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه ان يغسل سبع مرات أولهن بالتراب. رواه مسلم وأبو داؤد ومنها قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم الّذى لا يجرى ثم يتوضا منه متفق عليه وهذا لفظ البخاري ومنها قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاثا فان أحدكم لا يدرى اين باتت يده. رواه مالك والشافعي واحمد والبخاري ومسلم واصحاب السنن الاربعة عن أبى هريرة رض وقد روى نحو هذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابن عمر رض وجابر رض وعائشة رض فحملنا أحاديث تنجس الماء على القليل وأحاديث عدم التنجس على الكثير فاختلف العلماء فى حد الكثير فقال الشافعي واحمد الماء إذا بلغ القلتين (و هى خمسمائة رطل بالبغدادي وبالمساجة ذراع وربع ذراع طولا و(1/4777)
عرضا وعمقا) فهو كثير لا يتنجس الا إذا تغير بالنجاسة طعمه أو لونه أو ريحه وما دونه قليل يتنجس. وقال أبو حنيفة ما لا يصل فيه النجاسة من جانب إلى جانب اخر على اكبر رأى المبتلى به فكثير والا فقليل وقدّره بعض المتأخرين بعشر فى عشر وقيل خمسة عشر فى خمسة عشر وقيل اثنى عشر فى اثنى عشر وقيل ثمان فى ثمان وقيل سبع فى سبع بذراع الكرباس وهى سبع قبضات كل قبضة اربع أصابع والتقدير غير منقول عن أبى حنيفة ولا عن صاحبية. وجه قول أبى حنيفة ان التقدير لم يرد من جهة الشارع وحديث القلتين ضعيف فيجب تفويضه إلى رأى المبتلى به. واحتج الشافعي واحمد بحديث القلتين والحق انه حديث صحيح رواه الشافعي واحمد والاربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدار قطنى والبيهقي من حديث عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر رض بن الخطاب عن أبيه ولفظ أبى داود سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ولفظ الحاكم إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شىء.
و فى رواية لابى داود وابن ماجة فانه لا بنجس قال الحاكم صحيح على شرطهما وقد احتجا بجميع رواته
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 34(1/4778)
و قال ابن مندة اسناده على شرط مسلم وقد اعترف الطحاوي بصحة الحديث أيضا فان قيل مدار هذا الحديث على الوليد بن كثير فقيل عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير وقيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر تارة عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر رض وتارة عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر رض قلنا قال الحافظ هذا الاضطراب ليس بقادح فانه على تقدير كون الجميع محفوظا انتقال من ثقة إلى ثقة وعند التحقيق الصواب عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر المكبر وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر المصغر ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم وقد رواه جماعة عن الوليد بن كثير على الوجهين قال الدار قطنى القولان صحيحان عن الاسامة عن الوليد وله طريق ثالث رواه الحاكم وغيره من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر سئل ابن معين عن هذا الطريق فقال اسناده جيد فان قيل قد روى لم يحمل خبثا وقد روى لم ينجسه شىء وقد روى لا يتنجس قلنا هذا مبنى على الرواية بالمعنى وهى صحيحة والاضطراب فى المتن لا يقال الا عند التعارض فان قيل قد روى بالشك قلتين أو ثلاثا روى احمد عن وكيع والدار قطنى عن يزيد بن هارون كلاهما عن حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه مرفوعا إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شىء قلنا قال ابن الجوزي قد اختلف عن حماد فروى عنه ابراهيم بن الحجاج وهذبه وكامل بن طلحة فقالوا قلتين أو ثلاثا وروى عنه عقان ويعقوب بن إسحاق الحضرمي وبشر بن السرى والعلاء بن عبد الجبار وموسى بن اسمعيل وعبيد اللّه بن موسى العبسي إذا كان الماء قلتين ولم يقولوا ثلاثا واختلف عن يزيد بن هارون فروى عنه ابن السباح بالشك وروى عنه ابن مسعود رض بغير شك فوجب العمل على قول من لم يشك قلت ويمكن ان يقال ان كلمة(1/4779)
او ليس للشك بل للترديد والتخبير والمعنى أى المبلغين بلغ الماء لا يتنجس فلا يتنجس إذا بلغ القلتين كما لا يتنجس إذا بلغ ثلاثا. فان قيل قد روى أربعين قلة رواه الدار قطنى وابن عدى والعقيلي عن القاسم بن عبد اللّه العمرى عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا بلغ الماء أربعين قلة فانه لا يحمل الخبث قلنا قال احمد المقاسم كان يكذب ويضع الحديث وكذا قال يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة فلا يضطرب بروايته الحديث الصحيح فان قيل روى الدار قطنى بإسناد صحيح من طريق روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن ابن عمر موقوفا إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يتنجس. ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ابن المنكدر عنه نحوه ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر عنه نحوه وقول
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 35
الراوي على خلاف ما رواه طعن الحديث قلنا اولا ان مفهوم الشرط ليس بحجة عند أبى حنيفة مطلقا وكذا عند الشافعي وغيره إذا خرج على طبق السؤال وثانيا بان القلة لفظ مشترك ليطلق على الكوز والجرة أيضا صغرت أو كبرت فيحمل حديث الأربعين على الصغيرة التي تساوى عشرون منها قلة واحدة كبيرة لدفع التعارض. فان قيل إذا كان القلة لفظا مشتركا بين الجرة والقربة والدلو ورأس الجبل وغير ذلك قال فى القاموس القلّة بالضم أعلى الرأس والسنام والجبل أو كل شىء والجب العظيم والجرة العظيمة أو عامة أو من الفخار والكوز الصغير ضد. والتقييد بقلال هجر لم يثبت فى الحديث الصحيح المرفوع وما رواه ابن عدى من حديث ابن عمر رض إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شىء ففى اسناده مغيرة بن صقلان وهو منكر الحديث فلا بد ان يترك العمل بالحديث ما لم يتبين المراد منه كما هو الحكم فى المجمل ومن ثم قال الطحاوي هذا حديث(1/4780)
صحيح لكنا تركنا العمل به لعدم علمنا بالقلتين قلنا قد ترجح أحد معانيه وهى قلال هجر بوجوه فوجب العمل به لان رأس الجبل وكذا أعلى الرأس والسنام غير مراد بالإجماع لان وصول الماء إلى رأس الجبلين فى الارتفاع لا يتصور الا فى البحر المحيط أو عند الطوفان وأعلى الرأس والسنام أيضا غير مراد للاجماع علا ان الماء اقل من ذلك القدر يصير كثيرا فوجب الانصراف إلى الأواني وبعد الانصراف إلى آلاء انى ترجح قلال هجر بوجوه أحدها كثرة استعمال العرب لفظ القلة بهذا المعنى فى أشعارهم كذا قال أبو عبيدة فى كتاب الطهور قال البيهقي قلال هجر كانت مشهورة عندهم ولهذا شبّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما راى ليلة المعراج من سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل أذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر. ثانيها ان قلال هجر أكبرها كذا قال الأزهري فجعل الشارع الحد مقدرا بالعدد يدل على ان المراد بها أكبرها لأنه لا فائدة فى تقديرها لقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة. ثالثها ان الكبيرة ان كانت مرادة فذاك وان كانت الصغيرة مرادة فعدم تنجس الماء عند البلوغ قدر القلتين الكبيرتين اولى للقطع لوجود الصغيرة فى الكبيرة فحملنا القلتين على الكبيرتين احتياطا وبه يحصل التقن واللّه اعلم فان قيل قد ضعّف حديث القلتين الحافظ ابن عبد البر والعاصي إسماعيل بن اسحق وأبو بكر بن الولي المالكيون قال ابن عبد البر ما ذهب إليه الشافعي مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم ولان القلتين لم يوقف على مبلغهما فى اثر ثابت والا اجماع قلنا أقوالهم اجمالات للاسولة المتقدمة ولم يقل أحد بتضعيف واحد من رواته فانهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 36
رجال الصحيحين فإذا ظهر لك اجوبة الأسئلة اندفع ما قالوا واللّه اعلم.
((1/4781)
مسئلة) : - لا يجوز الوضوء والغسل بغير الماء من المائعات الطاهرة اجماعا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا وهل يجوز التطهير من النجاسة الحقيقية بغير الماء من المائعات الطاهرة أم لافعال الجمهور لا يجوز وقال أبو حنيفة يجوز احتج البغوي للجمهور بهذه الآية وقال الطهور فى الآية بمعنى المطهر لما قال فى اية اخرى وينزّل عليكم من السّماء ماء ليطهّركم فثبت ان التطهير مختص بالماء ولو جاز ازالة النجاسة بها لجاز ازالة الحدث بها. وهذا الاستدلال غير صحيح لان كون الماء مطهرا لا يدل على حصر التطهير فيه كما ان كونه طاهرا لا يدل على حصر الطهارة فيه والفرق لابى حنيفة فى الأحداث والأنجاس ان الحدث نجاسة حكمية غير مرئية لا يدركه وجوده ولا زواله الا من الشرع وزواله باستعمال الماء ثابت بالنص والإجماع واما باستعمال غير الماء فلم يثبت بنص ولا اجماع ولا يجوز إثباته بالقياس لان الأصل معدول عن سنن القياس - والنجاسة الحقيقية امر مرئى وإزالته بالماء معقول لكونه طاهرا مزيلا فيقاس عليه سائر المائعات لاجل هذا المعنى قلت لكن يرد عليه ان الماء إذا صب على النجس تنجس باول الملاقات فحصول الطهارة بالغسل ثلاثا أو سبعا امر تعبدى وبالعصر لا يخرج الماء يجمع اجزائه فكان القياس ان لا يتطهر الثوب ونحوه بالغسل ومن ثم كان فى شرائع من قبلنا قطع موضع النجاسة من الثوب ولما كان حصول الطهارة بالغسل ثابتا بالشرع على خلاف القياس فلا يجوز قياس المائعات على الماء.
((1/4782)
مسئله) الماء كما يتنجس بورود النجاسة عليه يتنجس بوروده على النجاسة عندنا لان المنجس انما هو اختلاط النجاسة بالماء ولا فرق فى الوجهين. وذكر ابن الجوزي مذهب احمد ان غسالة النجاسة إذا انفصلت غير متغيرة بعد طهارة المحل فهى طاهرة وكذلك البول على الأرض ونحوه إذا كوثر بالماء ولم يتغير الماء يحكم بطهارة الماء والمكان قال وهو قول مالك والشافعي واحتج على ذلك بحديث انس رض بن مالك قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا فى المسجد إذ جاء أعرابي قبال فى المسجد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرجل من القوم قم فأتنا بدلو من الماء فشنه عليه. رواه احمد والبخاري ومسلم فى الصحيحين وروى البخاري عن أبى هريرة نحوه قلنا هذا الحديث مخالف للقياس الصحيح فهو محمول على انه صلى اللّه عليه وسلم امر بصب الماء بعد نقل التراب من ذلك المكان ورواية بعض الحديث شائع من الصحابة والتابعين وغيرهم وقد روى ذلك بوجوه منها ما روى الدار قطنى من طريق عبد الجبار عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 37(1/4783)
عن انس ان أعرابيا بال فى المسجد فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم احفر وإمكانه ثم صبرا عليه ذنوبا من ماء - قال الحافظ رجاله ثقات فان قيل قال الدار قطنى وهم عبد الجبار على ابن عيينة لان اصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عنه عن يحيى بن سعيد ولم يذكروا الحفر قلنا عبد الجبار ثقة والزيادة من الثقة مقبولة ومنها ما رواه الدار قطنى عن ابن مسعود نحوه وسنده ضعيف لكن أحد من رواته لم يتهم بالكذب. ومنها ما رواه الدار قطنى وأبو داود عن عبد اللّه بن مغفل بن مقرن المزني قال الدار قطنى عبد اللّه بن مغفل تابعي ورواته ثقات غير ان من رواته جرير بن حازم قال الذهبي ثقة امام تغير قبل موته فحجبه ابنه وهب فما حدث حتى مات قال ابن معين هو فى قتادة ضعيف قلت وهذا الحديث ليس من قتادة بل هو عن عبد الملك بن عمير وعبد الملك ثقة مخرج فى الصحيحين فان قيل قال احمد هذا حديث منكر قلت هذا جرح اجمالى وهو غير مقبول وانما قال ذلك احمد لعدم وقوع الحفر فى الرواية المشهورة وذا ليس بجرح لان الزيادة من الثقة مقبولة - ومنها ما أخرج الطحاوي من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس وكذا روى سعيد بن منصور عن ابن عيينة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال احفروا مكانه. وهذا أيضا مرسل والمرسل عند أبى حنيفه رح أقوى من المرسل وعند مالك رح واحمد رح دونه لكنه حجة مطلقا وعند الشافعي لا يقبل المرسل الا بأحد امور خمسة ان يسند غيره أو يرسله غيره وعلم ان شيوخهما مختلفة أو يعضده قول صحابى أو قول اكثر أهل العلم أو يعلم من حاله انه لا يرسل الا برواية عن عدل وهاهنا مرسل طاءوس صحيح أيده مرسل عبد اللّه بن مغفل وهو حسن ومسند انس رض صحيح أو حسن ومسند ابن مسعود ضعيف.(1/4784)
فان قيل رواية انس التي فى الصحيحين أقوى وأرجح من تلك الروايات قلنا اولا ان حديث الصحيحين صحيح من حيث السند ضعيف من حيث المعنى لتعارضه بالأحاديث التي تكاد ان تكون مقواترة الدلالة على نجاسة الماء باختلاط النجاسة وثانيا ان الترجيح انما يعتير عند التعارض ولا تعارض هاهنا بل ما ذكرنا من الأحاديث ناطق. بحفر التراب وحديث انس ساكت عنه فلا يترك العمل بشئ منها.
(مسئلة) : - الماء المستعمل فى ازالة الحديث أو اقامة القرية طاهر عند الجمهور وروى الحسن عن أبى حنيفة انه نجس نجاسة غليظة وروى أبو يوسف عنه انه نجس نجاسة خفيفة لمكان الاختلاف وروى محمد عن أبى حنيفة مثل قول الجمهور وبه قال محمد - احتج الحنيفية على نجاسة الماء بالنص والقياس اما النص فما رواه مسلم من حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 38
عليه وسلم لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم وهو جنب - وروى أبو داود بلفظ لا يبولن.(1/4785)
أحدكم فى الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة - والنهى للتحريم يدل على تنجس الماء قلنا لا بل النهى للتنزيه لاحتمال تلوث بدن المجنب من المنى غالبا فهو كالنهى. للمستيقظ عن إدخال يده فى الإناء لاحتمال كون اليد نجسا بالنجاسة الحقيقية كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم فانه لا يدرى اين باتت يده واما القياس فقياسهم على ما يزيل النجاسة الحقيقية بجامع الاستعمال فى النجاسة. قلنا هذا قياس مع الفارق فان استعمال الماء فى ازالة النجاسة الحقيقية يوجب اختلاط الماء بأجزاء النجاسة وذلك سبب لتنجس الماء ولا اختلاط فى ازالة النجاسة الحكمية لان الحدث امر حكمى لا يتجزى زوالها فكل ماء استعمل فى عضو من الأعضاء لا يرقع به الحدث بل استعمال الماء فى جميع البدن للمجنب وفى الأعضاء الاربعة كلها للمحدث شرط لزوال الحدث يزول الحدث بعد ذلك فكل جزء من اجزاء ماء الوضوء طاهر فكذا جميعه لان انضمام ما ليس بنجس إلى ما ليس بنجس لا يوجب التنجس اجماعا.(1/4786)
و استدلوا على تنجس الماء باقامة القربة بقوله صلى الله عليه وسلم من توضأ فاحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره متفق عليه عن عثمان وعن أبى هريرة نحوه رواه مسلم قالوا هذا الحديث يدل على ان الخطايا تخرج من بدنه مع الماء ولا شك ان الخطايا قاذورات فيتنجس الماء باختلاطها كما يتنجس باختلاط سائر القاذورات وهذا ليس بشئ فان الخطايا ليست بأجسام ولا اعراض تقوم بالماء وليست مثل النجاسة الحقيقية من كل وجه وليس خروجها من البدن كخروج النجاسة الحقيقية حتى يلزم به تنجس الماء بل هو عبارة عن العفو والمغفرة ولو كانت الخطايا قاذورات لما جازت صلوة العصاة من المؤمنين وهى جائزة اجماعا بل هى مكفرة الخطايا قال اللّه تعالى ان الحسنات يذهبن السّيّئات وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر - رواه مسلم عن أبى هريرة وحديث ابن مسعود فى رجل أصاب من امراة قبلة فاخبر النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فانزل اللّه وأقم الصّلوة طرفى النّهار الآية متفق عليه ولنا على طهارة الماء المستعمل أحاديث منها حديث جابر قال جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعودنى وانا مريض لا عقل فتوضا وصبّ وضوءه علىّ فعقلت وقلت يا رسول اللّه انما يرثنى كلالة فنزلت اية الفرائض متفق عليه ومنها حديث السائب بن يزيد قال ذهبت بي خالتى إلى النّبى صلى اللّه عليه واله وسلم فقالت يا رسول اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 39(1/4787)
ان ابن أختي وجع فدعا بالبركة ثمّ توضا فشربت عن وضوئه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل ذر الحجلة. متفق عليه ومنها حديث المسور بن مخرمة ذكر فى صلح الحديبية قال فو اللّه ما تتخم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنخامة إلا وقع فى كف رجل منهم فذلك بها وجهه وصدره وإذا توضا كادوا يقتتلون على وضوئه - رواه البخاري (مسئلة) : - ازالة النجاسة الحقيقية بالماء المستعمل فى ازالة الحدث أو اقامة القربة جائز اتفاقا الا عند من يقول بكونه نجسا وهل يجوز به الغسل أو الوضوء اختلفوا فيه فقال محمد الماء المستعمل فى اقامة القربة لا يجوز به التوضي والغسل فهو طاهر غير مطهر وقال زفر والشافعي المستعمل فى ازالة الحدث طاهر غير مطهر وقال أبو حنيفة كل ماء استعمل فى ازالة الحدث أو اقامة القربة لا يجوز به التوضي والاغتسال فهو طاهر غير مطهر - استدلوا على كونه غير مطهر بالنص والقياس أمّا النص فقوله صلى اللّه عليه وسلم لا يغتسل أحدكم فى الماء الراكد قالوا هذا نهى مقتضاه أحد الامرين اما نجاسة الماء بالاستعمال واما سلب طهوريته لكن الأول لا يتصور فتعين الثاني قلنا ليس الأمر كذلك بل النهى للتنزيه يقتضى احتمال النجاسة بالنجاسة الحقيقية واحتمال النجاسة لا يوجب التنجس فان الطهارة اليقينية لا يزول بالشك وأيضا كون الماء مطهرا وصف لازم للماء المطلق واما القياس فالقياس على مال الزكوة بجامع اقامة القربة وإسقاط الفرض تقريره ان من المعلوم ان إسقاط الفرض واقامة القرية يوجب فى الآلة تدنسا لا يصل إلى التنجس كما فى مال الزكوة حيث حرّم على الهاشمي ولم يتنجس فكذا يوجب الاستعمال للقربة أو إسقاط الفرض تدنسا يسلب عنه وصف التطهير ولا يصل إلى التنجس. والجواب انا لا(1/4788)
نسلم ان اقامة القربة أو إسقاط الفرض موجب للتدنس مطلقا وحرمة مال الزكوة على الهاشمي امر تعبدى الا ترى ان الجسد والثوب يتادى بهما الصلاة ويسقط الفرض ويقام القربة ولا يتدنس منها شىء وكذا الاضحية يسقط بها الواجب ولا يتدنس لحمها حيث أكلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأيضا كون الماء مطهرا وصف لازم للماء المطلق الطاهر لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمّموا علّق التيمم يفقد الماء المطلق ولا شك ان الماء المستعمل ماء مطلق فلا يجوز التيمّم مع وجوده فيجب به الوضوء لا محالة - فان قيل هو ليس بماء مطلق لان الماء المطلق ما لم يقم به خبث ولا معنى يمنع جواز التوضي به للصلوة فخرج الماء المقيد والماء المتنجس
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 40(1/4789)
و الماء المستعمل قلنا اولا انا لا نسلم ان الماء المستعمل قام به معنى يمنع جواز التوضي به فهو مصادرة على المطلوب وثانيا ان الماء المطلق ما يطلق عليه اللغوي لفظ الماء بلا تقييد ولا شك ان اللغوي لا يفرق عند اطلاق لفظ الماء بين الماء الطاهر والمتنجس الذي لم يتغير أحد أوصافه والمستعمل فى قربة والمستعمل فى تبرد ومن ثم قال الزهري إذا ولغ الكلب فى اناء أحدكم وليس له وضوء غيره يتوضا به وقال سفيان هذا الفقه بعينه يقول اللّه تعالى فلم تجدوا ماء فتيمّموا وهذا ماء ذكره البخاري تعليقا. لكنّا نقول لمّا منع الشارع عن استعمال النجاسات وأمرنا بالاجتناب عنها حيث قال وثيابك فطهّر والرّجز فالهجر وقال فى اية الوضوء ولكن يريد ليطهّركم وقال عليه السلام إذا ولغ الكلب فى اناء أحدكم فلبرقه ثم ليغسله سبع مرات. رواه مسلم عن أبى هريرة وقال عليه السلام من ابتلى منكم بشئ من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه وقال اللّه تعالى يحلّ لكم الطيّبات ويحرّم عليكم الخبائث فمن كان قادرا على الماء المتنجس فهو غير واجد للماء حكما لكونه ممنوعا عن استعماله شرعا كالقاعد على شفير البئر من غير دلو ونحوه ممنوع عن استعمال الماء طبعا فان الطبع يمنعه عن السقوط فى البئر وكذا المريض الواجد للماء منوع عن استعماله طبعا وشرعا فان الممنوع شرعا كالممنوع طبعا واما الماء المستعمل فليس بواجب الاجتناب عنه شرعا لكونه طاهرا فواجده واجد للماء حقيقة وحكما فلا يجوز له التيمم ويجب عليه الوضوء فثبت ان كون الماء مطهرا لازم لكونه طاهرا.
((1/4790)
مسئلة) : - إذا وقع فى الماء شىء طاهر فان لم يتغير به أحد أوصافه ولم يزد على الماء اجزاء جازيه الوضوء اجماعا - وان تغير به أحد أوصافه أو اكثر فان كان الاحتراز عنه متعذرا كالطين والأوراق فى الخريف جاز به الوضوء اجماعا ما لم يخرجه عن طبع الماء أى رقته كما إذا تغير الماء بطول المكث وان لم يكن الاحتراز عنه متعذرا كالخل والزعفران والأشنان فان تغير به أحد أوصاف الماء لا يجوز به الوضوء عند الشافعي لأنه ماء مقيد والوظيفة عند فقد الماء المطلق التيمم وعند أبى حنيفة رحمه اللّه يجوز به الوضوء الا إذا اختلط الماء جامد أزال رقته أو غيّر اكثر أوصافه من الطعم أو اللون أو الريح كالانبذة أو مائع غلب عليه بالاجزاء أو غيّر اكثر أوصافه أو طبخ فى الماء غيره فغيّره كالمرق وماء الباقلا الا ما يقصد به النظافة كالاوس والسدر والأشنان ولا بأس لو تغير الماء باختلاط الطاهر تغييرا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 41
يسير المادوى ابن خزيمة والنسائي من حديث أم هانى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اغتسل هو وميمونة فى قصعة فيها اثر العجين. وما روى البخاري عن أم عطية الانصارية قالت دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال اغسلها ثلاثا أو خمسا أو اكثر من ذلك ان رايتن ذلك بماء وسدر واجعلن فى الاخرة كافورا وشيئا من كافور. وما رواه البزار من حديث أبى هريرة ان ثمامة بن أثال اسلم فامره النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يغتسل بماء وسدر - وحديث قيس بن عاصم انه اسلم فامره النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يغتسل بماء وسدر.(1/4791)
لِنُحْيِيَ بِهِ أى بالماء بَلْدَةً مَيْتاً ذكر ميتا لان البلدة بمعنى البلد أو بتأويل المكان أو لان تأنيثه غير حقيقى أو لأنه غير جار على الفعل كسائر ابنية المبالغة فاجرى مجرى الجامد وَنُسْقِيَهُ سقى وأسقي لغتان بمعنى واحد مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً يعنى أهل البوادي الّذين يعيشون بالمطر ولذلك نكر الانعام والاناسىّ وتخصيصهم لان أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والآبار والمنابع فيستغنون لانفسهم ولانعامهم عن سقى السماء ولان سياق الآية لتعداد النعم على الإنسان وعامة منافعهم وغالب معائشهم منوط بالانعام ولذلك قدم سقيها « كقطران دويبة كالهرة منتنة جمع طرابين وظرابى - قاموس منه رح » على سقيهم كما قدم عليها احياء الأرض فانه كقطران دوسية كالهرة منتنة جمع قطرابين وظرابى قاموس منه رح سبب لحياتها وتعيشها. واناسىّ جمع انسى أو جمع انسان كظرابى جمع ظربان علا ان أصله أناسين كبساتين جمع بستان فقلبت النون ياء.(1/4792)
وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ يعنى المطر بَيْنَهُمْ مرة ببلد ومرة ببلد اخر قال البغوي قال ابن عباس ما من عام بامطر من عام ولكن اللّه يصرفه فى الأرض وقرا هذه الآية وروى مرفوعا ما من ساعة من ليل ولانهار الا السماء يمطر فيها يصرفه اللّه حيث يشاء وذكر ابن إسحاق وابن جرع ومقاتل وبلغوا ابن مسعود يرفعه قال ليس من سنة بامطر من اخرى ولكن اللّه قسم هذه الأرزاق فجعلها فى السماء الدنيا فى هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف ذلك إلى الفيافي والبحار وقيل المراد بتصريف المطر تصريفه وابلا وطلّا « كسحاب المطر الضعيف 12 قاموس منه رح » ورذاذا ونحوها وقيل المراد تصريفه فى الأنهار أو فى المنابع كسحاب المطر الضعيف 12 قاموس منه رح وقيل التصريف راجع إلى القول يعنى صرفنا هذا القول بين الناس فى القرآن وسائر الكتب لِيَذَّكَّرُوا أى ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة فى ذلك ويقوموا بشكره أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أى الا كفر ان النعمة إذا مطروا قالوا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 42
مطرنا بنوء كذا عن زيد بن خالد الجهني رضى اللّه عنه قال صلى لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح بالحديبية فى اثرة سماء كانت بالليل فلمّا انصرف اقبل على النّاس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بي وكافه فاما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مومن بي وكافر بالكواكب واما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب. متفق عليه.
وَلَوْ شِئْنا بعث الرسول فى كل قرية لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيّا ينذر أهلها فيخف عليك اعياء التبليغ ولكن بعثناك إلى الناس كافة إجلالا لك وتعظيما لشأنك وتفضيلا لك على سائر الرسل.(1/4793)
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم ولكن اشكر إنعامنا عليك بالرسالة العامة فاثبت على ما أنت عليه من الدعوة واظهار الحق وَجاهِدْهُمْ بِهِ أى يا لله يعنى بعونه وتوفيقه أو بالقران أو بترك طاعتهم الّذى يدل عليه فلا تطع والمعنى انهم يجتهدون فى ابطال الحق فقابلهم بالاجتهاد فى مخالفتهم واحقاق الحق جِهاداً كَبِيراً شديدا بالقلب واللسان والسيف والسنان.
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أى خلاهما متجاورين متلاصقين يقال مرجت الدابة وامرجتها إذا أرسلتها فى المرعى وخلّيتها تذهب حيث تشاء عطف على قوله وهو الّذى أرسل الرّياح وما بينهما معترضات هذا عَذْبٌ فُراتٌ قامع للعطش من قرط عذريته وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أى مرّ شديد الملوحة من تأجّح النار إذا تلهب فانه يريد فى العطش هذان الجملتان بتقدير القول حال من البحرين أو صفة له على طريقة ولقد امرّ على اللئيم يسبنى أو بحذف الموصول مع الصلة والتقدير مرج البحرين الّذين يقال فى شأنهما هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وَجَعَلَ بَيْنَهُما عطف على مرج يعنى جعل بينهما بقدرته بَرْزَخاً حاجزا مانعا لاختلاط بعضها ببعض وَحِجْراً مَحْجُوراً أى سترا ممنوعا فلا يبغيان ولا يفسد الملح العذب. قال البيضاوي وذلك كدخيلة تدخل البحر فتشقه فتجرى فى خلاله فراسخ لا يتغير طعمها وقيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل وبالبحر الملح البحر الكبير وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فيكون القدرة فى الفصل واختلاف الصفة مع ان مقتضى طبيعة اجزاء كل عنصر ان تضامت وتلاصقت وتشابهت فى الكيفية.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أى من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أى قسّمه قسمين
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 43(1/4794)
ذوى نسب أى ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أى إناثا يصاهر بهن فهو كقوله تعالى وجعل منه الزّوجين الذّكر والأنثى وقيل جعله نسبا وصهرا أى ذا نسب « 1 » منسوب إلى الأباء ذكرا كان أو أنثى وذا مهربان يتزوج ذكرا أو أنثى وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أى قادرا على ما يشاء حيث خلق من مادة واحدة بشرا إذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ ان عبدوه عطف على الجملة السابقة أو حال بتقدير المبتدا يعنى وهم يعبدون ما لا ينفعهم وَلا يَضُرُّهُمْ ان هجروه وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أى معينا للشيطان على ربه بالمعاصي وقيل معناه كان الكافر على ربه هيّنا ذليلا يقال جعلنى ظهيرا أى ذليلا من ظهرت الشيء إذا جعلته خلف ظهرك ولم يلتفت اليه.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمومنين بالجنة وَنَذِيراً للكافرين من النار جملة معترضة.(1/4795)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على تبليغ الرسالة بدل عليه قوله مبشّرا ونذيرا مِنْ أَجْرٍ حتى يشق عليكم اتباعى خوف الغرامة جملة مستانفه الّا فعل مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ليتقرب إليه ويطلب الزلفى عنده جعل طاعة الرسول فى امتثال أوامر اللّه والانتهاء عن مناهيه اجرا على الرسالة من حيث انه مقصود منه واستثناه من الاجر المنفي سواله قلعا لشبهة الطمع واظهار الغاية المشفقة حيث جعل ما ينفعهم اجرا لنفسه وافيا مرضيّا به مقصودا عليه. واشعارا بان طاعتهم يعود عليه بالثواب من حيث انها بدلالته قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدال على الخير كفاعله رواه البزار عن ابن مسعود والطبراني عن سهل بن سعد وعن أبى مسعود ورواه احمد واصحب الكتب الستة والضياء بزيادة واللّه يحب اغاثة اللهفان عن بريدة وابن أبى الدنيا فى قضاء الحوائج عن انس نحوه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء - رواه مسلم فى حديث طويل عن جرير وقيل هذا استثناء منقطع ولكن من شاء ان يتّخذ إلى ربّه سبيلا بالإنفاق من ماله فى سبيله فليتخذ يعنى لا اسئلكم لنفسى اجرا ولكن لا منع من انفاق المال فى سبيل اللّه وطلب مرضانه واتخاذ السبيل إلى جنته ولعل اللّه سبحانه دفعا لتهمة سوال الاجر فى الأمر بأداء الزكوة وغيرها من الصدقات حرّم الصدقات على نبيه واهل بيته.
_________
(1) وعن ع بد اللّه بن المغيرة انه سئل عمر بن الخطاب عن نسب وصهر فقال أراكما لا وقد عرفتم النسب فاما الصهر فالاختان والصحابة - منه رح.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 44
((1/4796)
مسئله) : - يستنبط من هذه الآية انه لا يجوز الاستيجار للطاعة كتعليم القرآن والاذان والامامة ونحو ذلك وقوله إلى ربه أى إلى ثواب ربه حال من سبيلا وهو مفعول ليتخذ.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ فى دفع شرهما والاستغناء عن أجورهم فانه الحقيق بان يتوكل عليه من الاحياء الّذين يموتون فانهم إذا ما تواضاع من توكّل عليهم عطف على قل لا اسئلكم وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ونزّلهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بصفات الكمال طالبا لمزيد الانعام فقل سبحان اللّه وبحمده وقيل معناه صل للّه شكرا على نعمه وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أى عالما فيجازيهم بها جملة كفى به حال من الحي.
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ لعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بان يتوكل عليه من حيث انه الخالق للكل والمتصرف وفيه اشارة إلى الثبات والثاني فى الأمور فانه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ امره فى كل مراد خلق الأشياء على تود رو تدرج الموصول مبتدا وخبره الرَّحْمنُ أو الموصول صفة للحى أو منصوب على المدح بتقدير اعنى أو امدح والرحمان خبر مبتدأ محذوف أى هو الرحمان أو بدل من فاعل استوى فَسْئَلْ بِهِ أى بما ذكر من الخلق والاستواء خَبِيراً أى عالما يخبرك بحقيقته كذا قال الكلبي والخبير هو اللّه أو جبرئيل أو من قرأ فى الكتب المتقدمة ليصدقك فيه وقيل الضمير للرحمن والمعنى ان أنكروا اطلاقه على اللّه فسئل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجئ ما يرادفه فى كتبهم وعلى هذا يجوز ان يكون مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن يعدى بالباء وقيل معناه فسئل إليها الإنسان بالرحمن خبيرا يخبرك بصفاته.(1/4797)
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ عطف على قوله الّذى خلق السّموت والأرض فى ستّة ايّام ثمّ استوى على العرش الرَّحْمنُ أو على جملة هو الرّحمان اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ لانهم ما كانوا يطلقونه على اللّه وكانوا يقولون لا نعرف الرحمان الا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب يسمونه حمن اليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أنت يا محمد كذا قرأ الجمهور بصيغة المخاطب خطابا للنبى صلى اللّه عليه وسلم وقرأ حمزة والكسائي لما يأمرنا بصيغة الغائب يعنون لما يأمرنا محمد صلى اللّه عليه وسلم وَزادَهُمْ عطف على قالوا يعنى وزادهم الأمر بالسجود للرحمان نُفُوراً عن الايمان.
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قال الحسن ومجاهد وقتادة البروج هى النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها وقال عطية العوفى بروجا أى قصورا فيها الحرس وَ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 45
جَعَلَ فِيها سِراجاً
يعنى الشمس لقوله تعالى وجعل الشّمس سراجا وقرأ حمزة « و خلف أبو محمد » والكسائي سرجا على الجمع وهى الشمس وسائر الكواكب سوى القمر فانه ليس بسراج لان السراج ما يضئ بنفسه والقمر نوره مستفاد من نور الشمس كما يدل عليه كماله ونقصانه على حسب مقابلة الشمس ويدل عليه العطف بقوله وَقَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل.(1/4798)
وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أى ذوى خلفة يخلف كل واحد منهما الا خربان يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله فى أحدهما قضاه فى « 1 » الاخر قال البغوي جاء رجل إلى عمر رض بن الخطاب قال فاتتنى صلوة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلك فى نهارك قال اللّه تعالى لجعل اللّيل والنّهار خلفة لّمن أراد ان يذّكّر وقال مجاهد يعنى كل واحد منهما مخالف للاخر هذا اسود وهذا ابيض لِمَنْ أَرادَ متعلق بجعل أَنْ يَذَّكَّرَ قرأ حمزة والكسائي بتخفيف الذال والكاف وضمها مع سكون الذال من المجرد أى يذكر اللّه سبحانه والباقون بتشديد الذال والكاف وفتحهما من التفعل بإدغام التاء فى الذال يعنى لمن أراد ان يتذكر آلاء الله ويتفكر فى صنعه فيعلم انه لا بد له من صانع حكيم واجب لذاته رحيم على العباد أو المعنى أراد ان يذكر ما فاته فى أحد الملوين من خير يفعله فى الاخر أَوْ أَرادَ شُكُوراً أى شكر نعمة ربه عليه يعنى ان خلق الليل والنهار وما اظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار وما فيها من المنافع لاجل ان يتذكر فيهما المتذكرون ويشكر على نعمائه الشاكرون فمن خلا وقته عن الذكر والشكر والتذكر والتفكر فقد ضاع وقته وهلك رأس ماله.
وَعِبادُ الرَّحْمنِ مبتدا خبره أولئك يجزون الغرفة أضاف إلى نفسه تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم أو لأنهم هم الراسخون فى عبادته على ان عابد وعباد كتاجر وتجار وذكر من أسمائه اسم الرحمن اشعارا بانهم موصوفون بكمال الرحمة على الخلق وموعودون بكمال رحمة اللّه عليهم الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً هينين أو مشيا هيّنا مصدر وصف به والمعنى انهم يمشون على الأرض بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين ولا متكبرين « 2 » والهون فى اللغة الرفق وألين وفى القاموس الهون الوقار ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم
_________
((1/4799)
1) عن الحسن ان عمر أطال صلوة الضحى فقيل له صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعة فقال انه يقى على من وردى شىء فاحببت ان أتمه أو قال أقضيه وتلا وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة الآية - منه رح
(2) عن عمر انه راى غلاما يتبختر فى مشية فقال له ان التبختر به مشية مكروهة الّا فى سبيل الله وقد مدح اللّه أقواما فقال وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هونا فاقصد فى مشيك - منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 46(1/4800)
المؤمن هين لين حتى تخاله من اللين أحمق. رواه البيهقي بسند ضعيف عن أبى هريرة وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ عطف على يمشون يعنى إذا خاطهم السفهاء بما يكرهون قالُوا سَلاماً قال مجاهد يعنى سدادا من القول ما يسلمون فيه من الإيذاء والإثم كذا قال مقاتل بن حبان قال الحسن لو جهل عليهم جاهل حملوا ولم يجهلوا وروى عن الحسن معناه سلموا عليهم دليله قوله عزّ وجلّ وإذا سمعوا اللّغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم أعمالكم سلم عليكم قال الكلبي وأبو العالية هذا قبل ان يؤمر بالقتال ثم نسختها اية القتال والحق ان لاية محكمة غير منسوخة فانما الأمر بالقتال انما هو لا علاء كلمة اللّه حقا للّه سبحانه وهو منته يقول لا اله الا اللّه أو إعطاء الجزية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه - الحديث متفق عليه عن ابن عمر وقال اللّه سبحانه قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وهذا بيان لحال المؤمنين فى مقابلة السفهاء واعراضهم عن انتقامهم وعدم مواخذتهم لاجل أنفسهم عن أبى هريرة ان رجلا قال يا رسول اللّه ان لى قرابة أصلهم ويقطعونى واحسن إليهم ويسيؤن الىّ واحلم عنهم ويجهلون علىّ فقال لئن كنت كما قلت فكانها تسفهم المل ولا يزال معك من اللّه ظهير ما دمت على ذلك رواه مسلم روى عن الحسن البصري انه إذا قرأ هذه الآية قال هذا وصف نهارهم ثم قرا.(1/4801)
وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً فقال هذا وصف ليلهم وخص البيتوتة لان العبادة بالليل أشق وابعد من الرياء وأوفق للقلب باللسان ولان النهار خص لنوع اخر من العبادة وهو انهم يجاهدون فى سبيل اللّه لا يخافون فى اللّه لومة لائم ويصاحبون خيار الناس للتعليم والتعلم والإرشاد والاسترشاد قوله لربهم متعلق بسجّدا وهو جمع ساجد وقياما جمع قائم أو مصدر اجرى مجراه وتأخير القيام المروي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اشراف أمتي حملة القرآن واصحاب الليل - رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن أبى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أفضل الصلاة بعد المفروضة صلوة فى جوف الليل - رواه احمد وعن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليكم بقيام الليل فانه داب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم. رواه الترمذي وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة يضحك اللّه إليهم الرجل إذا قام بالليل يصلى والقوم إذا صفوا فى الصلاة والقوم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 47
إذا صفوا فى قتال العدو - رواه البغوي فى شرح السنة قال البغوي قال ابن عباس من صلى بعد العشاء الاخرة ركعتين أو اكثر فقد بات للّه ساجدا وقائما. وعن عثمان بن عفان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى العشاء فى جماعة كان كقيام تصف ليلة ومن صلى الفجر فى جماعة كان كقيام ليلة. رواه احمد ومسلم فى الصحيح.(1/4802)
وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ يعنى انهم مع حسن معاشرتهم مع الخلق واجتهادهم فى عبادة الحق خائفون من عذاب اللّه مبتهلون إلى اللّه فى صرفه عنهم لعدم اعتذارهم بأعمالهم وعدم وثوقهم على استمرار حالهم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تبارك وتعالى اوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عند الحساب يوم القيامة أشاء ان أعذبه إلا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي - رواه أبو نعيم إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أى لازما ومنه الغريم للملازمة وقال البغوي الغرام أشد اللازم وقيل غراما يعنى هلاكا وقيل الغرام ما يصيب الإنسان من شدة ومصيبة قال محمد بن كعب القرظي سال اللّه الكفار عن شكر نعمه فلم يؤدوا فاغرمهم اللّه فبقوا فى النار - قال الحسن كل غريم يفارق غريمه الا جهنم.
إِنَّها يعنى جهنم ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ساءت فعل ذم بمعنى بئست وفيها ضمير مبهم يفسره الضمير والمخصوص بالذم ضمير محذوف أى هى به يرتبط باسم انّ ومستقرّا حال أو تمييز والجملة تعليل للجملة الاولى أو تعليل ثان وكلاهما يحتملان الحكاية والابتداء من اللّه - وجاز ان يكون ساءت من الافعال المتصرفة من ساء يسوء سوءا ومساءة بمعنى مضاد لحسنت ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فى وصف الجنة حسنت مستقرّا ومقاما وعلى هذا فى ساءت ضمير مستتر راجع إلى اسم انّ ومستقرّا حال أو تمييز عن النسبة بمعنى ساء الاستقرار والاقامة فيها.(1/4803)
وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قرأ ابن كثير واهل البصرة يقتروا بفتح الياء وكسر التاء وقرا أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء وكلها لغات يقال اقتر يقتر وقتّر بالتشديد وقتر يقتر ويقتر على وزن ينصر ويضرب. والإسراف الانفاق فى معصية اللّه وان قلّت والاقتار منع حق اللّه تعالى وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج وبه قال الحسن فى هذه الآية ان معناه لم ينفقوا فى معاصى اللّه ولم يمسكوا عن فرائض الله وقال قوم الإسراف مجاوزة الحد فى الانفاق حتى يدخل فى حد التبذير. والاقتار التقتير عما لا بد منه وهذا معنى قول
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 48
ابراهيم لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف قلت وهذا القول راجع إلى القول الأول بل هو أخص منه فانه مجاوزة الحد المشروع فى الانفاق المباح حتى دخل فى حد التبذير وذلك حرام معصية حيث قال اللّه تعالى انّ المبذّرين كانوا اخوان الشّياطين وكان الشّيطن لربّه كفورا وانفاق من وجب نفقته عليه بحيث لا يجيعهم ولا يعريهم فريضة والإمساك عنه إمساك عن فريضة اللّه وَكانَ أى الانفاق بَيْنَ ذلِكَ أى بين الإسراف والاقتار قَواماً قصدا وسطا حسنة « 1 » بين السيئتين سمى الوسط قواما لاستقامة الطرفين كما سمى سواء لاستوائهما وهو خبر ثان أو حال مؤكدة وجاز ان يكون خبرا لكان وبين ذلك ظرفا لغوا وقيل انه اسم كان مبنى لاضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالاخبار بالشيء عن نفسه أخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابن مسعود قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ الذنب أعظم قال ان تجعل لله ندّا وهو خلقك قلت ثمّ اىّ قال ان تقتل ولدك مخافة ان يطعم معك قلت ثم اىّ قال ان تزنى حليلة جارك فانزل اللّه تصديقها.(1/4804)
وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف أى لا يقتلون قتلا الا قتلا بالحق أو متعلق بلا يقتلون أى لا يقتلون بسبب الا بالحق يعنى بقود أو رجم أو نحو ذلك وَلا يَزْنُونَ نفى عنهم أمهات المعاصي بعد ما اثبت لهم اصول الطاعات إظهارا لكمال ايمانهم واشعارا بان الاجر موعود للجامع بين ذلك وتعريضا للكفرة من الاتصاف بأضدادها كأنَّه قال والذين طهّرهم اللّه عما أنتم عليه من الشرور والسيئات ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم فقال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أى أشياء من هذه الأمور يَلْقَ أَثاماً يعنى جزاء اثم كذا قال ابن عباس وقال أبو عبيده الأثام العقوبة وقال مجاهد الأثام واد فى جهنم قال البغوي يروى ذلك عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ويروى فى الحديث الغىّ والأثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار قلت أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عمر فى هذه الآية قال واد فى جهنم واخرج هناد عن سفيان مثله واخرج ابن جرير والطبراني والبيهقي « 2 » قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لو ان صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت سبعين خريفا
_________
(1) قال ابن زيد بن حبيب أولئك (يعنى مصداق هذه الآية ) اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوبا للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يستر عوراتهم وما يكفهم من الحر والبرد. وقال عمر رض بن خطاب رضى اللّه عنه كفى سرفا ان لا يشتهى الرجل شيئا الا اشتراه فاكله 12 رحمه اللّه.
(2) هكذا بيا ض فى الأصل. [.....]
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 49(1/4805)
ثم تنتهى إلى غىّ واثام قلت وما غىّ واثام قال نهران فى أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللذان ذكرهما اللّه تعالى فى كتابه فسوف يلقون غيّاء وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ قرأ ابن كثير « ابو جعفر ويعقوب أبو محمد » وابن عامر يضعّف من التفعيل والباقون من المفاعلة لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لانضمام المعصية إلى الكفر وَيَخْلُدْ قرأ ابن عامر وأبو بكر يضاعف « 1 » ويخلد بالرفع على الاستيناف أو الحال والباقون بجزمهما بدلا من بلق فِيهِ قرأ ابن كثير على أصله وحفص هاهنا خاصة بصلة الضمير المجرور مبالغة فى الوعيد والباقون على ما هو الأصل فى الضمير المجرور إذا سكن ما قبله باختلاس كسرتها مُهاناً أى ذليلا حال أخرج الشيخان عن ابن عباس ان ناسا من أهل الشّرك قتلوا فاكثروا وزنوا فاكثروا ثم أتوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ان الّذى تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ان لعملنا كفارة فنزلت والّذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النّفس الّتى حرّم اللّه الّا بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما لّضعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهانا الّا من تاب عن الشرك.(1/4806)
وَ آمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً إلى قوله تعالى غفورا رحيما ونزلت قل يعبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم الآية قال ابن عباس الّا من تاب من ذنبه وأمن بربه وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه واخرج البخاري وخيره عن ابن عباس قال لما انزل فى الفرقان والّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر ولا يقتلون النفس الّتى الآية قال مشركوا مكة قد قتلنا النفس بغير الحق ودعونا مع اللّه الها اخر واتينا الفواحش فنزلت الّا من تاب وقال البغوي أخبرنا عن ابن عباس قال قرانا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنتين والّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر الآية ثم نزلت الا من تاب وأمن فما رايت النبي صلى اللّه عليه وسلم فرح بشئ فرحه بها وفرحه بانّا فتحنا لك فتحا مّبينا لّينفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تاخّر. فان قيل لا يجوز الاستثناء مفصولا فكيف يقال بنزوله بعد سنتين قلنا نزلت هذه الآية أول مرة بغير الاستثناء ثم نزلت تلك الآيات مع الاستثناء فهذه الآية ناسخة للاولى فى المقدار المستثنى فان قيل تقرر فى الأصول ان محل النسخ الاحكام دون الاخبار وهذه الآية اخبار فكيف يمكن نسخه قلنا عدم جواز النسخ فى الاخبار لعدم احتمال التخلف فيها كيلا يلزم الكذب واية الوعيد يجوز نسخه لأنه إنشاء للوعيد يحتمل التخلف فيه تفضلا ومغفرة هذه الآية تدل على ان الاستثناء من الإثبات نفى وبالعكس كما يدل على ذلك الاستثناء المفرغ وليس كما قالوا ان
_________
(1) أى قرأ ابن عاد يضعّف ويخلد وأبو بكر يضاعف ويخلد أبو محمد عفى عنه. -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 50(1/4807)
المستثنى فى حكم المسكوت عنه والاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا إذ لو كان كذلك لما جاز نسخ المنطوق بالمسكوت وقوله عملا صالحا منصوب على المفعولية أو المصدرية فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فذهب جماعة إلى ان المراد ان يمحو اللّه سوابق معاصيهم بالتوبة وثبت مكانها لواحق طاعتهم أو يبدل اللّه فى الدنيا ملكة المعصية فى النفس بملكة الطاعة ويوفقه لاضداد ما سلف منهم من المعاصي وهذا معنى ما قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والسدى يبدل الله بقبائح ما عملوا فى الشرك محاسن الأعمال فى الإسلام فيبدل اللّه لهم بالشرك التوحيد وبقتل المؤمنين قتل المشركين المحاربين وبالزنى عفة واحصانا وذهب جماعة إلى ان المراد ان اللّه تعالى يبدل سيئاتهم التي عملوها فى الإسلام حسنات يوم القيامة تفضلا وهو قول سعيد بن المسيب ومكحول وعائشة وابى هريرة وسلمان رضى اللّه عنهم أجمعين ويؤيده حديث أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغائر ذنوبه فتعرض عليه صغائرها وتخبأ كبائرها فيقال أعملت كذا وكذا وهو يقرّ ليس ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول ان لى ذنوبا لا أراها هاهنا فلقد رايت رسول اللّه ضحك حتى بدت نواجذه رواه مسلم واخرج ابن أبى حاتم عن سلمان قال يعطى رجل يوم القيامة صحيفة فيقرا أعلاها فإذا يكاد ليسوء ظنه نظر فى أسفلها فإذا حسناته ثم ينظر فى أعلاها فإذا هى قد بدّلت حسنات واخرج أيضا عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال ليأتينّ اللّه بناس يوم القيامة ودوا انهم أكثروا من السيئات قيل من هم قال الذين يبدل الله سيأتهم حسنات فان قيل كيف يتصور تبديل السيئة على هذا المعنى بالحسنة وكيف يثاب على السيئة فان السيئة امر مكروه غير مرضى الله تعالى فكيف يتصور كونه مرضيّا له تعالى فان الله لا يرضى(1/4808)
لعباده الكفر والعصيان قلت توجيه ذلك عندى بوجهين أحدهما ان عباد الله الصالحين كلما صدر عنهم ما كتب اللّه عليهم من العصيان ندموا غاية الندم واستحقروا أنفسهم غاية الاستحقار والتجئوا إلى اللّه تعالى كمال الالتجاء وخافوا عذاب اللّه مع رجاء المغفرة فاستغفروه حتى صاروا مهبطا لكمال الرحمة بحيث لو لم يذنبوا لم يصيروا بهذه المثابة فعلى هذا صار عصيانهم الذي كان سببا للعقاب سببا للثواب ولو بتوسط الندم والتوبة من هاهنا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والّذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء يقوم يذنبون فيستغفرون اللّه ويغفر لهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 51
رواه مسلم من حديث أبى هريرة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم استغفروا لماعز بن مالك لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخالد بن الوليد حين سبّ الامرأة الغامدية مهلا يا خالد فو الذي نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس « 1 » لغفر له - رواه مسمر فى قصة ماعز والغامدية عن بريدة وهذا ما قيل معصية أولها غفلة وآخرها ندامة خير من طاعة أولها عجب وآخرها رؤية ثانيهما ان الغائصين فى بحار المحبة قد يصدر منهم امور لا يتزن بميزان الشرع ككلمات الشح والسماع والوجد ورهبانية ابتدعوها يجعل اللّه تعالى هذه الأمور الصادرة منهم كلها حسنات لصدورها عن محبة صرفة ومن هاهنا قال العارف الرومي مثنوى
هر چه گيرد علتى علت شود كفر گيرد كاملى ملت شود
كار پاكان را قياس از خود مگير گر چه ماند در نوشتن شير شير
او بدل گشت وبدل شد كار أو لطف گشت ونور شد هر نار او(1/4809)
و لعل ما ورد فى حديث أبى ذر انه يقال اعرضوا صغائر ذنوبه فيعرض عليه صغائرها ويخبأ عنه كبائرها اشارة إلى هذا فان هذه الأمور التي تصدر من الكاملين لغلبة المحبة انما هى بميزان الشرع صغار الذنوب دون كبائرها يجعلها الله تعالى لهم حسنات لكونها ناشية من منابع المحبة واما كبار الذنوب التي صدرن عنهم على سبيل الندرة لما كتب اللّه تعالى صدورها عنهم فيخبأ عنهم ويغفر ويستر ولا يذكر كما أشير إليه بقوله تعالى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر الذنوب جميعا صغائرها وكبائره ا بالتوبة وو بلا توبة قلت لعل قوله تعالى والّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر اشارة إلى فناء القلب فان المرء بعد فناء قلبه لا يقصد شيئا غير اللّه ولا يرجوا شيئا الا منه ولا يخاف غيره وكل ما هو مقصود لك فهو معبود لك بل لا يرى غيره موجودا بوجود متاصل والا له هو الموجود بوجود بوجود متاصل يقتضى ذاته وجوده فان قيل أ ليس المؤمنون عامه قبل الفناء يعتقدون بان الله موجود بوجود يقتضيه ذاته وغيره ليس كذلك قلت بلى يعتقدون ذلك لكن بالاستدلال دون الرؤية والشهود ويشهد على
_________
(1) قوله صاحب مكسوم أى من يأخذ من التجار إذا مر وامسا أى ضريبه باسم العشر (مجمع البحار) وفيه ان المكس أعظم الذنوب وذلك لكثرة مطالبات الناس ومظلماتهم وصرفها فى غير وجهها وفى الحاشية المكس لنقصان وللماكس من العمال من ينقص من حقوق المساكين ولا يعطيها بتمامها قالد البيهقي 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 52(1/4810)
ذلك بداهة الوجدان وخوفهم وطمعهم من الخلق. وقوله تعالى ولا يقتلون النّفس الّتى حرّم اللّه الّا بالحقّ ولا يزنون اشارة إلى فناء النفس وان النفس الامارة بالسوء إذا فنيت واطمأنت بمرضاة اللّه تعالى انسلخ عن دواعى العصيان والدليل على هذه الاشارة وصفهم بهذه الصفات بعد وصفهم بصفات الكمال بقوله وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ إلى آخره ولو كان المراد به التوحيد المجازى والتقوى الظاهري لقدم ذلك على الصفات المذكورات فيما سبق.(1/4811)
وَ مَنْ تابَ عن الشرك والمعاصي بتركها والندم عليها والاستغفار وَعَمِلَ صالِحاً بتلافى ما فرط أو خرج عن الشرك والمعاصي ودخل فى الطاعة فَإِنَّهُ يَتُوبُ أى يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً لا إلى غيره فحق عليه تعالى ان يثيبه ويبدل سيئاته بالحسنات وهذه الجملة معترضة معطوفة على معترضة سابقة وهى قوله تعالى ومن يفعل ذلك يلق أثاما والجملتان وقعتا بين الموصولات التي هى صفات مارحة لعباد الرحمان الاولى منهما لبيان عقاب المسيئين المفهومين من قوله تعالى والّذين لا يدعون إلى آخره والثانية منهما لبيان عاقبة التوابين للذكورين فى الاستثناء قيل التنكير فى متابا للتعظيم والترغيب إلى التوبة لئلا يتحد الشرط يعنى انه يتوب إلى الله متابا مرضيا عند اللّه ماحيا للعقاب محصلا للثواب وقيل معناه فانه يرجع إلى اللّه أى إلى ثوابه مرجعا حسنا وهذه تعميم بعد تخصيص - وقال البغوي قال بعض أهل العلم هذه الآية فى التوبة عن غير ما ذكر فى الآية الاولى من القتل والزنى يعنى من تاب ورجع عن الشرك وادي الفرائض فمن لم يقتل ولم يزن فانه يتوب إلى اللّه أى يعود إليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره ممن قتل وزنى ثم تاب. فالتوبه الاولى أى الشرط اعنى قوله ومن تاب معناها رجع عن الشرك والثانية أى الجزاء اعنى فانّه يتوب إلى الله متابا معناها رجع إلى اللّه للحزاء والمكافاة فافترقا. وقال بعضهم هذه الآية فى التوبة عن جميع المعاصي ومعناه ومن أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه اللّه فقوله يتوب إلى اللّه متابا خبر بمعنى الأمر أى ليتب إلى اللّه وقيل معناه فليعلم ان توبته ومصيره إلى الله.(1/4812)
قلت وعلى تقدير كون المراد بقوله تعالى يبدّل اللّه سيّئاتهم التائبين الذين صدر عنهم بعض الأمور التي لم يتزن بميزان الشرع لغلبة السكر والمحبة فبدل الله سيئاتهم حسنات لاجل مجبتهم جاز ان يكون المراد بالتائبين فى هذه الآية عباد الله الصالحين الذين لم يصدر عنهم شىء من تلك الأمور يعنى من رجع عن جميع ما كره اللّه ولم يعملوا شيئا منها ولو يغلبة المحبة والسكر فانه يتوب إلى اللّه متابا احسن من الأولين وهم اصحاب الصحو من الأولياء كالنقسبندية الذين هم على هيئة اصحاب رسول اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 53
صلى اللّه عليه واله وسلم فى اتباع السنة واللّه اعلم ..(1/4813)
وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال البغوي قال الضحاك واكثر المفسرين يعنى الشرك فانه شهادة بالزور قلت ويلزم على ذلك التكرار لما مر من قوله تعالى والّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر وقال على بن طلحة يعنى لا يشهدون على الناس شهادة الزور (مسئله) : - قال البغوي قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخمّ « 1 » وجهه ويطاف به فى السوق.(1/4814)
و روى ابن أبى شيبة ثنا أبو خالد عن حجاج عن مكحول عن الوليد عن عمر انه كتب إلى عماله بالشام فى شاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم وجهه ويحلق رأسه ويطال حبسه وروى عبد الرزاق فى مصنفه عن مكحول ان عمر ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وقال أخبرنا يحيى بن العلا أخبرني الأحوص بن الحكيم عن أبيه ان عمر امر بشاهد الزور ان يسخم وجهه ويلقى عمامته فى عنقه ويطاف به فى القبائل ومن هاهنا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد انه يعزر شاهد الزور بالضرب ويوقف فى قومه حتى يعرفون انه شاهد الزور وزاد مالك فقال ويشهد فى الجوامع والأسواق قالوا انه كبيرة من الكبائر على ما صرح به النبي صلى اللّه عليه وسلم فى حديث انس رواه الشيخان فى الصحيحين وفيها رواه البخاري انه صلى الله عليه وسلم قال الا أخبركم بالكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول اللّه قال الشرك باللّه وعقوق الوالدين (و كان متكيا فجلس فقال) الا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت وقرن اللّه تعالى بينها وبين الشرك حيث قال فاجتنبو الرّجس من الأوثان واجتنبوا قول الزّور وإذا كان كبيرة وليس فيها تقدير شرعى فى الحد ففيها التعزير - وقال أبو حنيفة يكتفى فى تعزيره بالتشهير ولا يضرب ولا يحبس فان المقصود الانزجار ويحصل ذلك بالتشهير واما الضرب وغير ذلك فمبالغة فى الزجر لكنه يقع مانعا من الرجوع وشهادة الزور لا يظهر الا بالإقرار والرجوع فوجب التخفيف نظرا إلى هذا الوجه واثر عمر محمول على السياسة ومثل مذهب أبى حنيفة روى عن شريح روى محمد بن الحسن فى كتاب الآثار من طريق أبى حنيفة عن أبى الهيثم عمن حدثه عن شريح انه كان إذا أخذ شاهد الزور فان كان من السوق قال للرسول قل لهم أى لاهل السوق ان شريحا يقراكم السلام ويقول لكم انا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه فان كان من العرب أرسل إلى مسجد قومه اجمع ما كانوا فقال للرسول مثل ما قال(1/4815)
فى المرة والاولى وكذا روى ابن أبى شيبة عن شريح وقال ابن جريح المراد
_________
(1) قوله يسخّم وجهه أى سود والسخام الفحم (مجمع البحار الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 54
بشهادة الزور الكذب مطلقا وقيل معنى الآية لا يحضرون مجالس الكذب فان مشاهدة الباطل شركة فيه فلا يجوز ان يسمع قصة فيها أباطيل أو يقرأ شعرا كذلك قال مجاهد يعنى لا يحضر أعياد المشركين وقيل المراد به النوح وقال قتادة لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية لا يشهدون اللغو والغناء قال ابن مسعود العناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء الزرع قال البغوي واصل الزور تحسين الشيء ووضعه على خلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم انه حق قلت الزور فى اللغة الليل قال اللّه تعالى تزاور عن كهقهم وفى الكذب ميل من الحق إلى الباطل وكذا فى كل لغو وفى القاموس الزور بالضم الكذب والشرك باللّه وأعياد اليهود والنصارى والرئيس ومجلس الغناء وما يعبد من دون اللّه والقوة قلت وهذه الآية يصلح كل ما ذكر من المعاصي الا الرئيس والقوة وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً عطف على لا يشهدون الزّور فهما صلتان لموصول واحد والأظهر فى وجه اشتراكهما ان يراد بالزور المعاصي كلها وبالشهود الحضور وباللغو أيضا المعاصي كلها كما قال الحسن والكلبي والمعنى الّذين لا يحضرون مجالس المعاصي باختيارهم وإذا مروا هناك اتفاقا مروا كراما مسرعين معرضين غير مقبلين عليه يقال كرم فلان عما يشينه إذا تنزّه وأكرم نفسه عنه وقال مقاتل معنى الآية وإذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى اعرضوا واصفحوا وهو رواية ابن جريج عن مجاهد نظيره وإذا سمعوا اللّغو اعرضوا عنه قال السدى هى منسوخة باية القتال قلت بل هى غير منسوخة إذ القتال منته بإعطاء الجزية ولا يجوز القتال بالشتم والأذى.(1/4816)
وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالوعظ والقراءة أو بالدلالة على دلائل التوحيد والتنزيه لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أى لم يقيموا غير وأعين لها وغير متبصرين بعيون داعية متغافلين عنها كانهم صم لم يسمعوها وعمى لم يروها بل يسمعون ما يذكرون به سماع قبول فيفهم ونه ويرون الحق فيتبعونه والمراد نفى الحال دون الفعل كقولك لا يلقانى زيد راكبا ويقول الهاء للمعاصى المدلول عليها باللغو.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وذرّيّتنا بغير الف والباقون بالألف على الجمع قُرَّةَ أَعْيُنٍ تنكير الأعين لارادة تنكير القرة تعظيما وأورد الأعين بصيغة جمع القلة لان المراد أعين المتقين وهى قليلة بالاضافة إلى عيون غيرهم ومن ابتدائية يعنى هب لناقرة أعين كائنة من أزواجنا وذرياتنا يعنى اجعلهم صالحين تقربهم أعيننا قال القرطبي ليس شىء أقر لعين
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 55(1/4817)
المؤمن من ان يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عزّ وجل قال الحسن وحّد القرة لانها مصدر وأصلها من البرد لان العرب تتاذى من الحر وتستريح من البرد وتذكر قرة العين عند السرور وسخنة الأعين عند الحزن ويقال دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حاد وقال الأزهري معنى قرة الأعين ان يصادف قلبه من يرضاه وتقر عينه عن النظر إلى غيره وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً تأكيد للجملة السابقة فان أزواجهم وذرياتهم إذا كانوا متقين وهم ائمة لازواجهم وذرياتهم صاروا للمتقين اماما وحّد اماما للدلالة على الجنس وعدم اللبس كما فى قوله تعالى ثمّ يخرجكم طفلا وانّهم عدوّ لّى الّا ربّ العلمين وقيل لأنه مصدر كالقيام والصيام يقال امّ اماما كما يقال قام قياما وصام صياما أو لان المراد اجعل كل واحد منا للمتقين اماما كما فى قوله تعالى انّا رسول ربّ العلمين أو لكون كلهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم وقيل هى جمع امّ كصائم وصيام والمعنى قاصدين للمتقين سالكين سبيلهم.(1/4818)
أُوْلئِكَ أى عباد اللّه الصالحين الموصوفين بتلك الصفات يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أى يثابون أعلى مواضع الجنة روى الشيخان فى الصحيحين واحمد عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه والترمذي عن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان أهل الجنة يتراءون أهل الغرف فوقهم كما ترون الكوكب فى السماء الغابر من أفق المشرق أو المغرب لتفاصل ما بينهم قالوا يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلى والذي نفسى بيده رجال أمنوا بالله وصدقوا المرسلين وروى عن سهل بن سعد مثله واخرج احمد والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر والترمذي والبيهقي عن على واحمد عن أبى مالك الأشعري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال ان فى الجنة غز برى ظاهرها من باطنها من ظاهرها قالوا لمن يا رسول اللّه قال لمن أطاب الكلام واطعم الطعام أو بات فانتا والناس نيام. كذا فى حديث ابن عمر وفى حديث علىّ لمن أطاب الكلام وأفشى السلام ويطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام. وفى حديث أبى مالك لمن اطعم الطعام والان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام. واخرج البيهقي وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال قال لنا النبي صلى اللّه عليه وسلم الا أخبركم بغرف الجنة قلنا بلى يا رسول اللّه قال ان فى الجنة غرفا من اصناف الجواهر يرى ظاهرها من باطنها من ظاهرها فيها من النعيم واللذات والشرف مالا عين رأت ولا اذن سمعت قلنا يا رسول الله لمن هذه الغرف قال لمن أفشى السلام واطعم الطعام وادام لصّيام وصلى بالليل والناس نيام قلنا يا رسول الله ومن يطيق ذلك قال أمتي يطيق ذلك وساخبركم عن ذلك من
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 56(1/4819)
لقى أخاه وسلم عليه ورد عليه فقد أفشى السلام ومن اطعم اهله وعياله من الطعام حتى يشبعهم فقد أطعمهم الطعام ومن صام رمضان ومن كل شهر ثلاثة فقد ادام الصيام ومن صلى العشاء الاخيرة وصلى الغداة فى جماعة فقد صلى بالليل والناس نيام اليهود والنصارى والمجوس. واسناده غير قوى واخرج ابن عدى والبيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فى الجنة لغرفا فإذا كان ساكنها فيها لم يخف عليه ما خلفها وإذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها فقيل لمن هى يا رسول الله قال لمن أطاب الكلام وواصل الصيام واطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام قيل وما طيب الكلام قال سبحان اللّه والحمد لله ولا اله الا اللّه والله اكبر فانه يأتي يوم القيمة وهن مقدمات ومنجّيات ومعقّبات قيل وما وصال الصوم قال من صام شهر رمضان فصامه قيل فما اطعام الطعام قال من قات عياله قيل فما افشاء السلام قال مصاحبة أخيك وتحيته قيل وما الصلاة والناس نيام قال صلوة العشاء الاخرة - واخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد مرفوعا فى هذه الآية قال الغرفة من ياقوتة حمراء وزبرجد خضراء ودرة بيضاء ليس فيها قصم ولا وصم بِما صَبَرُوا أى بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وعلى تحمل المجاهدات وعلى أذى المشركين واخرج أبو نعيم عن أبى جعفر قال بما صبروا على الفقر فى دار الدنيا وَيُلَقَّوْنَ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف فِيها أى فى تلك الغرفة تَحِيَّةً وَسَلاماً أى يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم أى يدعون اللّه لهم أو يبشرهم بالبقاء والسلامة من كل آفة وقال الكلبي يحيى بعضهم على بعض بالسلام ويرسل الرب إليهم السلام أخرج احمد والبزار وابن حبان عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال أول من يدخل الجنة(1/4820)
من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسربهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملئكته ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء ونسلم
عليهم قال انهم كانوا يعبدوننى لا يشركون بي شيئا وتسربهم الثغور وتتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدرة لا يستطيع لها قضاء قال فتاتيهم الملئكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار وقيل معناه يلقون فيها تحية أى بقاء دائما وسلاما من الآفات.
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أى موضع قرار واقامة واخرج مسلم عن أبى سعيد الخدري وابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ينادى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 57
مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقنوا ابدا وان لكم ان تحيوا فلا تموتوا ابدا وان لكم ان تشبوا فلا تهرموا ابدا وان لكم ان تنعموا فلا تيئسوا ابدا ..(1/4821)
قُلْ يا محمد ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي جملة مستأنفة من عبأت الجيش عبوا أى رتبتهم وهيئتهم كذا فى النهاية يعنى ما يهييكم لدخول الجنة لَوْ لا دُعاؤُكُمْ أباه بالاستغفار وقيل لو لا عبادتكم وقيل لو لا ايمانكم وقيل لو لا دعاؤه إياكم أى الإسلام فإذا أمنتم هياكم لدخول الجنة وقيل ما يعبؤا من العبا بمعنى الثقل يعنى ما يرى ربكم لكم وزنا وقدرا ولا يعتد بكم لو لا دعاؤكم أى عبادتكم وطاعتكم إياه فان شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة والا فهو كالانعام بل هو أضل سبيلا أو لو لا دعاؤه إياكم إلى الإسلام فإذا أمنتم ظهر لكم قدر وقيل معناه ما يعبؤكم ولا يعتدبكم أى يخلقكم لو لا عبادتكم وطاعتكم يعنى انه خلقكم لعبادته كما قال ما خلقت الجنّ والانس الّا ليعبدون وقال البغوي هذا قول ابن عباس ومجاهد وقيل معناه ما يبالى بكم وهذا المعنى ماخوذ من الثقل والوزن والقدر فان الشيء الثقيل ذا القدر والوزن يبالى به فقيل معناه ما يبالى بمغفرتكم ربى لو لا دعاؤكم معه الهة وما يفعل بعذابكم لو لا شرككم كما قال اللّه تعالى ما يفعل اللّه بعذابكم ان شكرتم وأمنتم وقيل معناه ما يبالى بعذابكم لو لا دعاؤكم إياه فى الشدائد كما يدل عليه قوله تعالى فإذا ركبوا فى الفلك دعو اللّه مخلصين له الدّين وقيل معناه ما خلقكم ربكم وله إليكم حاجة وليس لكم فى جنبه تعالى قدر الا ان تسئلوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم فما على هذه الوجه نافية وان جعلتها استفهامية فحلها النصب على المصدر كانّه قيل أى عبا يعبؤا بكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ خطاب لكفار مكة يعنى ان اللّه دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذّبتم الرسول فلم تجيبوا فكيف يهيكم لدخول الجنة أو فكيف يكون لكم عنده وزن وقدر أو فكيف يبالى بعذابكم أو فكيف لا يبالى بمغفرتكم فَسَوْفَ يَكُونُ تكذيبكم لِزاماً أى لازما لكم فلا ترزقون التوبة حتى تجازى أعمالكم أو المعنى(1/4822)
يكون جزاء تكذيبكم لازما لكم يحيق بكم لا محالة أو اثره لازما بكم حتى يكبكم فى النار وقال ابن عباس لزاما يعنى موتا وقال أبو عبيدة هلاكا وقال ابن زيد قتالا وقال ابن جرير عذابا دائما لازما وهلاعا مفنيا يلحق بعضكم ببعض قال البغوي اختلفوا فيه فقال قوم هو يوم بدر قتل منهم سبعون وهو قول ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد يعنى انهم قتلوا يوم بدر واتصل به عذاب الاخرة لازما روى البخاري فى الصحيح عن ابن مسعود رض قال خمس قد قضين الدخان
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 58
و القمر والروم والبطشة واللزام وقيل اللزام هو عذاب الاخرة واللّه اعلم.
الحمد للّه رب العلمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين قد تم تفسير سورة الفرقان بعون للّه تعالى وحسن توفيقه سادس عشر صفر من السنة الخامسة بعد الف ومائتين ويتلوه ان شاء اللّه تعالى تفسير سورة الشعراء.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 59
سورة الشّعراء
مكيّة الّا اربع آيات من اخر السّورة من قوله والشّعراء يتّبعهم الغاوون وهى مائتان وسبع وعشرون اية روى الحاكم فى المستدرك عن معقل بن يسار قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطيت طه والطواسين والحواميم من الواح موسى ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/4823)
طسم قرأ حمزة « و خلف - أبو محمد » والكسائي وأبو بكر هاهنا وفى القصص والنمل بامالة الطاء واهل المدينة بين بين والباقون بالفتح واظهر النون عند الميم هاهنا وفى القصص أبو « 1 » جعفر وحمزة « بل قرأ هل المدينة بابا الفتح أبو محمد » وادعمها الباقون - قال البغوي روى عكرمة عن ابن عباس انه قال طسمّ عجزت العلماء عن تفسيرها وروى على بن طلحة الوالبي عن ابن عباس انه قسم وهو اسم من اسماء الله عز وجل وقال قتادة اسم من اسماء القرآن وقال مجاهد اسم للسورة وقال محمد بن كعب القرظي اقسم الله بطوله وسنانه ومجده والحق انه رمز بين الله وبين رسوله.
تِلْكَ اشارة إلى السورة أو القرآن آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الظاهر اعجازه وصحته أو المظهر للاحكام وسبيل الهدى.
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أى قاتل نفسك غمّا يقال بخع نفسه كمنع قتلها غمّا واصل البخع ان يبلغ الذبح البخاع بالفتح وهو عرق فى الصلب ويجرى فى أعظم الرقبة وذلك حد الذبح وهو غير النخاع بالنون فيما زعم الزمخشري ثم استعمل فى كل مبالغة أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أى لئلا يومنوا أو كراهة الا يكونوا مومنين نزلت هذه الآية حين كذّبه أهل مكة وشق ذلك عليه لما كان يحرص على ايمانهم وجاز ان يكون شدة غمه صلى اللّه وسلم على عد
_________
(1) قرأ أبو جعفر بالسكت على المقطعات فى جميع القرآن والا لمار فى السكت لازم. أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 60
ايمانهم خوفا من اللّه تعالى ان يعاقب لاجل انكار قومه فهذه الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وكلمة لعل للترجى وهاهنا للاشفاق يعنى اشفق على نفسك ولا تغتم فانّك ان تغنم فلعلك تقتل نفسك غمّا فانا لم نشأ ايمانهم فانه.(1/4824)
إِنْ نَشَأْ ايمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أى دالة ملجئة إلى الايمان أو بلية قاصرة عليه فَظَلَّتْ عطف على تنزل ومعناه فنظل أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أو منقادين قال قتادة لو شاء اللّه لانزل عليهم اية يذلّون بها فلا يلوى أحد منهم بعده معصية لا نزول عليهم وقال ابن جريح معناه لو شاء اللّه لانزل بهم امرا من أموره لا يعمل أحد منهم بعده معصية أورد خاضعين موضع خاضعة لوفاق رؤس الاى وقيل أصله فظلوا لها خاضعين فزيدت الأعناق مقحما لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله وقيل أصله ظلت اصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الاصحاب واقام الأعناق مقامهم لان الأعناق إذا خضعت فاربابها خاضعون فجعل الفعل اولا للاعناق ثم جعل خاضعين للرجال وقال الأخفش رد الخضوع على المضمر الّذى أضاف الأعناق إليه وقيل لما وصفت الأعناق بالخضوع وهو من صفات العقلاء أجريت مجراهم وقال قوم ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم على عادة العرب فى تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى المذكر وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى المؤنث وقيل أراد بالعنق جميع البدن كما فى قوله تعالى ذلك بما قدّمت يداك وألزمناه طائره فى عنقه والمعنى فظلوا خاضعين وقال مجاهد أراد بالأعناق الرؤساء الكبراء والمعنى فظلت كبراؤهم لها خاضعين وقيل أراد بالأعناق الجماعات يقال جاء القوم عنقا عنقا أى جماعات وطوائف.
وَما يَأْتِيهِمْ أى كفار مكة عطف على مضمون جملة سابقة أو حال مِنْ ذِكْرٍ موعظة أو طائفة من القرآن يذكر اللّه سبحانه من زائدة فى محل الرفع مِنَ الرَّحْمنِ من الابتداء صفة للذكر أى منزل منه على نبيه مُحْدَثٍ انزاله وان كان قديما فى الوجود إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ استثناء مفرغ حال من الضمير المنصوب فى يأتيهم أو المرفوع يعنى ما يأتيهم فى حال الا فى حال اعراضهم عن الايمان به.(1/4825)
فَقَدْ كَذَّبُوا بالذكر بعد اعراضهم وأمعنوا فى تكذيبه بحيث ادى بهم إلى الاستهزاء المخبر به عنهم ضمنا فى قوله تعالى فَسَيَأْتِيهِمْ إذا نزل بهم العذاب يوم بدر أو يوم القيامة أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من انه كان حقا أو باطلا كان حقيقا بان يصدّق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف امره ويستهزا به.
أَ وَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ الاستفهام للانكار وأبو أو للعطف على محذوف والتقدير أ يطلبون اية على ما يدعيه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 61
محمد صلى اللّه عليه وسلم من التوحيد والبعث بعد الموت ولم ينظروا إلى الأرض يعنى لا ينبغى لهم طلب الآية وقد نظروا إلى الأرض وهى اية فان انكار النفي اثبات كَمْ أَنْبَتْنا فِيها بدل اشتمال من الأرض وكم خبرية يعنى الم ينظروا إلى كثرة أنبأتنا فيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من النبات كَرِيمٍ حسن محمود كثير المنفعة غذاء للناس أو الدواب ودواء مفيدة فائدة ما اما وحده أو مع غيره وأيضا كرم كل زوج من نبات الأرض دلالته على قدرة الخالق على إيجاده وإعادته بعد الاعدام وتوحده وصفات كماله وكل لاحاطة الافراد وكم لكثرتها.
إِنَّ فِي ذلِكَ أى فى إنبات تلك الأصناف أو فى واحد منها لَآيَةً حوالة على فاعل واجب لذاته تام القدرة والحكمة سابغ النعمة والرحمة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فى علم الله وقضائه فلذلك لم ينفعهم تلك الآيات العظام وقال سيبويه كان هاهنا زائدة والمعنى وما كان أكثرهم مؤمنين بعد مشاهدة الآيات.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على انتقام من الكفرة الرَّحِيمُ حيث امهلهم أو العزيز فى انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وأمن ..(1/4826)
وَ اذكر إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى حين راى الشجرة والنار معطوف على مضمون قوله لعلّك باخع نفسك فان التقدير لا تحزن على كفر قومك ولا تبخع نفسك واذكر وقت نداء ربك موسى وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وجاز ان يكون كلاما مستانفا والظرف متعلق بقوله قال رب ان ائت ان مفسرة لنادى أو مصدرية أى ايت أو بان ايت الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر واستعباد بنى إسرائيل وسومهم سوء العذاب من ذبح الأبناء وغير ذلك.
قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل أو عطف بيان لما سبق ولعل الاقتصار على القوم للعلم بان فرعون كان اولى بذلك أَلا يَتَّقُونَ استفهام للانكار والتّوبيخ ومعناه الأمر أى ليتقوا أنفسهم عن عذاب الله بطاعته ويحتمل ان يكون التقدير أ لا يا قوم اتقون فهو بتقدير القول حال من فاعل ايت يعنى ايت قائلا لهم من الله الا يا قوم اتقون نظيره الا يسجدوا بتقدير الا يا قوم اسجدوا.
قالَ موسى رَبِّ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي
قرأ الجمهور بالرفع عطفا على أخاف ويعقوب بالنصب عطفا على يكذّبون وكذا الخلاف فى قوله وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي لاجل عقدة كانت فيه ويضيق صدرى لاجل عدم مساعدة اللسان لبيان المرام فى اقامة الحجة الدافعة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 62(1/4827)
للتكذيب وقال البغوي أى يضيق صدرى من تكذيبهم فَأَرْسِلْ الوحى أو أرسل جبرئيل بالوحى إِلى هارُونَ الفاء للسببيّة قال البيضاوي رتّب استدعاء ضم أخيه إليه واشراكه له فى الأمر على الأمور الثلاثة خوف التكذيب وضيق القلب انفعالا عنه أى عن التكذيب وازدياد الحبسة فى اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق لانها إذا اجتمعت الأمور مست الحاجة إلى معين يقوى قلبه ويتوب منابه متى يعتريه الحبسة حتى لا يحمل دعوته وليس ذلك تعللا منه وتوقفا فى امتثال الأمر بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله.
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ على حذف المضاف أى تبعه ذنب أو دعوى ذنب والمراد قتل القبطي سماه ذنبا عمل زعمهم والا فهو كان مباح الدم غير معصوم لاجل كفره وهذا اختصار قصة مبسوطة فى غير هذا الموضع فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أى أخاف ان يقتلونى قبل أداء الرسالة وهذا أيضا ليس تعللا وعدم امتثال الأمر بالتبليغ لخوف القتل بل استدفاعا للبلية المتوقعة المانعة من التبليغ.
قالَ اللّه تعالى كَلَّا فَاذْهَبا اجابة إلى الطلبين بوعده للدفع اللازم لروعة وضم أخيه إليه فى الإرسال والخطاب فى فاذهبا على تغليب الحاضر وهو معطوف على الفعل الذي دل عليه كلّا كأنَّه قال ارتدع يا موسى عن توهم قتلك فاذهب أنت ومن طلبت ضمه إليك بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ يعنى مع موسى وهارون ومن تبعهما بالنصر أو معكما ومن عاداكما بالعلم مُسْتَمِعُونَ أى سامعون ما جرى بينكم من الكلام فاظهر كما عليهم خبر ثان أو هو الخبر وحده ومعكم ظرف لغو.
ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ(1/4828)
أفرد الرسول لأنه هاهنا بمعنى الرّسالة وهو مشترك بين المرسل والرسالة فى القاموس الاسم الرسالة بالكسر والفتح وكصبور وامير والرسول أيضا المرسل قال البيضاوي لذلك ثنى تارة وأفرد اخرى يعنى إذا أريد به المرسل مثنى وإذا أريد به الرسالة أفرد والمعنى هاهنا انا ذو رسالة رب العلمين أو لان الفعول يطلق على الواحد والجمع قال فى القاموس لم يقل انّا رسل ربّ العالمين لان مفعولا وفعيلا تستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع وقال أبو عبيدة يجوز ان يكون الرسول بمعنى اثنين والجمع يقول العرب هذا رسولى ووكيلى وهذان رسولى ووكيلى كما قال اللّه تعالى وهم لكم عدوّ وقيل أفرد لاتحادهما للاخوة أو لوحدة المرسل به أو أراد ان كل واحد منا رسول رب العلمين.
أَنْ مفسرة لتضمن الرسول معنى الإرسال المتضمن معنى القول أَرْسِلْ أى خل مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ تذهب إلى الشام ولا تستعبدهم قال البغوي كان فرعون استعبدهم اربع مائة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 63(1/4829)
سنة وكانوا فى ذلك الوقت سة مائه وثمانين الفا - فانطلق موسى إلى مصر وهارون بها فاخبره وفى القصة ان موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفى يده عصاه والمكتل معلق فى راس العصا وفيه زاده فدخل وار نفسه واخبر هارون بان اللّه أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك حتى ندعو فرعون فخرجت أمهما وصاحت وقالت ان فرعون يطلبك ليقتلك ولو ذهبتما إليه تقصا فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون ليلا ودقا الباب ففزع البوابون وقالوا من بالياب وروى انه اطلع البواب عليهما فقال من أنتما فقال موسى انّا رسول ربّ العالمين فذهب البواب إلى فرعون وقال ان مجنونا بالباب ويقول انه رسول ربّ العالمين فترك حتى أصبح ثم دعاهما وروى انهما انطلقا جميعا إلى فرعون فلم يوذن لهما سنة فى الدخول وليه فدخل البواب وقال لفرعون هاهنا انسان يزعم ان رسول ربّ العالمين فقال فرعون ايذن له لعلنا نضحك منه فدخلا عليه واد يا رسالة اللّه عزّ وجلّ فعرف فرعون موسى لأنه نشأ فى بيته و.
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا فى منازلنا وَلِيداً طفلا سمى به لقربه من الولادة وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم ودعاهم إلى اللّه ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين سنة.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعنى قتل القبطي وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أى من الجاحدين بنعمتي وحق بزبيتى حتى عمدتّ إلى قتل خواصى كذا روى العوفى عن ابن عباس رض وهو قول اكثر المفسرين وقال ان فرعون لم يكن يعلم ما الكفر باللّه وقال الحسن والسدى أراد وأنت كنت من الكافرين بإلهك الذي تدعو إليه الان وتعبده حيث كنت معنا على ديننا والجملة وحال من احدى التاءين ويجوز ان يكون حكما مبتدا عليه بانه من الكافرين بالوهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة أو من الذين كانوا يكفرون فى دينهم.(1/4830)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً يعنى إذا فعلتها وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ الجملة حال من التاء فى فعلت يعنى فعلت ما فعلت وانا من الضّالّين إذا فعلت من الجحلين لم يأتنى من اللّه شىء أو الجاهلين بان ذلك يؤدى إلى قتله لأنه أراد به التأديب دون القتل وقيل من الضّالين عن طريق الصواب من غير تعمد يعنى من المخطئين وقيل من الفاعلين فعل اولى الجهل والسفه وقيل من الناسين من قوله ان تضلّ أحدهما فتذكّر إحداهما الاخرى.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أى حكمة علما وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ مبتدا اشارة إلى تربيته وليدا نِعْمَةٌ بدل من اسم الاشارة أو خبر منه تَمُنُّها عَلَيَّ سفة لنعمة أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ مرفوع على انه خبر مبتدا محذوف أى هى أو على انه بدل من
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 64(1/4831)
نعمة أو مجرور بإضمار الباء وهو خبر المبتدا يعنى بمقابلة جفائك أو بسبب جفائك والتي هى ان عبدت أو النصب بحذف الباء أو على الظرف بتقدير الوقت أو على الحال وقيل تلك اشارة إلى خصلة شنعاء صهمة وان عبّدتّ عطف بيان لها ومعنى عبّدتّ اتخذتهم عبيدا لك يقال عبّدت فلانا وأعبدته استعبدته وتعبّدته اتخذته عبدا اختلف المفسرون فى تاويل هذه الآية قال بعضهم هو اقرار عدّها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بنى إسرائيل فكانّه قال بلى وتلك نعمة تمنّها علىّ ان عبّدتّ بنى إسرائيل وتركتنى ولم تستعبد فى وقال بعضهم هو اقرار ظاهرا وانكار معنى رد موسى اولا ما وبّخه به قدحا فى نبوته ثم كر على ما عدّه من النعمة ولم يصرح بانكاره لأنه كان صادقا فى دعواه بل نبه على انه كان فى الحقيقة نعمة لكونه فى مقابلة الجفاء أو مسببا عنه فقال وتلك نعمة تمنّها علىّ ان عبّدتّ بنى إسرائيل فتلك النعمة مقابلة بالجفاء أو بسبب الجفاء فانه بسبب استعبادك بنى إسرائيل وقتلك أبناءهم رفعت إليك حتى ربّيتنى وكفلتنى ولو لم نستعبد هم كان لى من أهلي من يربينى ولم يلقونى فى اليم فتضمن هذا الإقرار الإنكار. وقيل هو انكار وهمزة الاستفهام للانكار مقدرة تقديره أ تلك التربية نعمة لك على ان عبّدتّ بنى إسرائيل يعنى أ تربيتك ايّاى نعمة وقت تعبدك بنى إسرائيل أو الحال انك عبدّتّ بنى إسرائيل فتعبيدك قومى بنى إسرائيل اهبط إحسانك الىّ - وانما وحّد الخطاب فى تمنها وجمع فيما قبله لان المنة كانت منه وحده والخوف والفرار منه ومن قومه ولمّا سمع فرعون جواب ما طعن فى موسى وراى انه ثم يرعو بذلك شرع فى الاعتراض على دعواه فبدا بالاستفسار عن حقيقة المرسل و.(1/4832)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ولمّا كان بيان حقيقة الواجب تعالى مستحيلا بما هو داخل فيه لاستحالة التركيب فى ذاته والامتناع تعريف الافراد الا بذكر الخواص والافعال ذكر موسى اظهر خواصه واثاره و.
قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا خبر مبتدأ محذوف أى يعنى ربّ العالمين ربّ السّموت والأرض وما بينهما من الكائنات إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بثبوت حقائق الأشياء فاستدلوا بها على خالقها فانها إحرام محسوسة ممكنة لتركمها وتعددها وتغير أحوالها فلا بد لها من مبدا واجب لذاته وذلك المبدا لا بد ان يكون مبد السائر الممكنات ما يمكن ان يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محالان اما التعدد فلا ستلزامه تركبهما مما فيه اشتراكهما وما به امتياز كل منهما عن الاخر والتركب دليل الحدوث مناف للوجوب واما الاستغناء فهو مناف للامكان. ثم ذلك لا يمكن تعريفه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 65
الا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب فى ذاته وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى ولمّا كان فرعون غبيّا لم يدرك حسن الجواب.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ تعجبا أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه يعنى انّى سالته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله أو يزعم ان للسموت ربّا وهى قديمة واجبة لذواتها كما هو مذهب الدهرية أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر.
فحينئذ.
قالَ موسى رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عدولا إلى ما لا يمكن توهم القدم والوجوب ولا يشك فى افتقارها إلى مصور حكيم ويكون اقرب للناظر وأوضح عند التأمل.
قالَ فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ اسئله عن شىء يعنى عن حقيقته ويجيبنى عن اخر وسماه رسولا على السخرية.(1/4833)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما تشاهدون كل يوم انه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير المدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به امور الكائنات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يعنى ان كان لكم عقل أدركتم انه لا جواب لكم فوق ذلك لاينهم اولا ثم لما راى شكيمتهم « 1 » أى شدتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.
قالَ فرعون عدولا عن المحاجة بعد الانقطاع إلى التهديد كما هو دأب الجاهل المحجوج لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي جواب قسم محذوف لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أى من المحبوسين واللام للعهد أى ممن عرفت حالهم فى سجنى قال الكلبي كان سجنه أشد من القتل لأنه كان يأخذ الرجل يطرجه فى مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا يهوى به فى الأرض - استدل فرعون بقدرته على التعذيب على ألوهيته وإنكاره للصانع وكان قوله الا تستمعون صادرا منه تعجبا من نسبة الربوبية إلى غيره ولعله كان دهريا يعتقد ان من الملك قطرا من الأرض وتولى امره بقوة طالعه استحق العبادة من اهله.
قالَ موسى فى جواب تهديده أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ الهمزة للاستفهام للتوبيخ والإنكار والواو للحال بعد حذف الفعل تقديره أ تجعلني من المسجونين ولو جئتك بشئ مبين توبيخ على الاساءة حال فجيئة بالحجة الواضحة على صدقه وقيل الواو للعطف على شرطية محذوفة والشرطيتان حال من فاعل فعل محذوف تقديره أ تجعلني من المسجونين لو لم أجبك لى دعوائى بحجة ولو جئتك بشئ مبين حجة والمال واحد.
قالَ فرعون فَأْتِ بِهِ أى بشئ مبين إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى ان ذلك بينة أو فى دعواك فان مدعى
_________
(1) الشكيمة الانفة يقال فلان شديد الشكيمة انف أبى قاموس منه رح
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 66
النبوة لا بد له من حجة.(1/4834)
فَأَلْقى موسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته أو مبين أى مظهر لصدق دعواه عطف على قال.
وَنَزَعَ موسى يَدَهُ إذا قال فرعون وهل غيرها فَإِذا هِيَ أى يدها بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ لها شعاع يكاد يغشى الابصار ويسد الأفق فتحير فرعون وعجز.
و قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ أى مستقرين حوله ظرف وقع موقع الحال إِنَّ هذا يعنى موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق فى علم السحر.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ لمّا غلب عليه سلطان للمعجزة حطة عن دعوى الربوبية إلى الاستظهار من القوم وجعلهم أمراء على نفسه وتنفيرهم عن موسى واظهار الخوف عن ظهوره واستيلائه على ملكه.
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يعنى اخر أمرهما وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ناسا يحشرون أى يجمعون السحرة.
يَأْتُوكَ مجزوم فى جواب الأمر بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يفضلون عليه فى السحر امال سحّار ابن عامر « 1 » وأبو عمرو والكسائي.
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ عطف على جمل محذوفة تقديره فبعث حشرين فذهبوا فحشروا السحرة لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة قال البغوي روى عن ابن عباس قال وافق ذلك يوم السبت فى أول يوم السنة وهو النيروز.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استفهام بمعنى الام وفيه استبطاء لهم فى الاجتماع حثّا على عدم الاستبطاء والمبادرة اليه.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ يعنون موسى وهارون وقومهما أى نتبعهم فى دينهم قلت وجاز انهم يعنون به السحرة الذين طلبهم أى لعلنا نتبع السحرة فى ابطال امر موسى إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ والترجي يناسب التأويل الثاني واما على التأويل الأول فالترجى باعتبار الغلبة المقتضية للاتباع ومقصودهم الأصلي ان لا يتبعو امر موسى.(1/4835)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ استفهام للتقرير.
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ عطف على مضمون نعم يعنى ان لكم اجرا وانكم إِذاً أى إذا كان لكم الغلبة متعلق بما بعده لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ التزم لهم القربة زيادة على ما طلبوا من الاجر عند الغلبة - فقال السحرة لموسى امّا ان تلقى وامّا ان نكون نحن الملقين كما مرّة فى الأعراف فحينئذ.
قالَ لَهُمْ
_________
(1) والصحيح امال سحّار أبو عمرو والدوري عن الكسائي والصوري عن ابن ذكوان وقال الأزرق عن ورش واما لاخفش عن ابن ذكوان فبا الفتح بلا خلاف وهى طريق التيسر والشاطبية وقرا هشام وأبو الحارث بالفتح بلا خلاف - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 67
مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به الأمر بالسحر بل أراد به الاذن فى تقديم ما هم فاعلون لا محالة توسلا إلى اظهار امره فلا يرد عليه ان الأمر بالمعصية حرام أو يقال هذا الأمر للتحقير أى لتحقير سحرهم فى مقابلة المعجزة فليس من باب الطلب فى شىء.
فَأَلْقَوْا أى السحرة حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ تبرّكوا بعزة فرعون لفرط اعتقادهم انه من السعداء أو اقسموا بعزته على إتيانهم بأقصى ما يمكن ان يؤتى به من السحر.
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أى تبتلع قرأ حفص بالتخفيف والباقون بالتشديد ما يَأْفِكُونَ ما موصولة يعنى ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيّل حبالهم وعصيهم انها حيات تسعى أو مصدرية أى تبتلع إفكهم تسمية للمافوك به مبالغة.(1/4836)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ يعنى انهم لمّا راو ما راوا لم يتمالكوا أنفسهم لعلمهم بان مثله لا يتاتى بالسحر فطرحوا على وجوههم وانه تعالى ألقاهم بما وفقهم للتوبة وفيه دليل على ان منتهى السحر تمويه وتزوير يخيّل شيئا لا حقيقة له.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل من القى بدل اشتمال أو حال بإضمار قد.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ابدال للتوضيح ودفع التوهم والاشعار على ان الموجب لايمانهم ما اجرى على أيديهما من المعجزة.
قالَ فرعون تعنتا ليلبس على قومه كيلا يعتقدوا انهم أمنوا عن بصيرة وظهور حق آمَنْتُمْ لَهُ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح ءامنتم بالهمزتين والباقون بهمزة واحدة « 1 » وحذف همزة الاستفهام الإنكاري قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فعلّمكم شيئا دون شىء ولذلك غلبكم أو المعنى انه وادعكم ذلك وتواطئتم عليه فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد اجمالا ثم فصله بقوله لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.
قالُوا لا ضَيْرَ أى لا ضرر علينا فى ذلك لاستلزامه الشهادة والاجر الجزيل الذي يتلاشى فى مقابلته المصائب الدنيوية إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بما توعّدنا به أو بسبب اخر من اسباب الموت وقتلك أنفعها وارجلها تعليل لنفى الضير.
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أى لان كنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من اتباع فرعون أو من أهل المشهد قلت والظاهر ان معناه ان كنّا
_________
((1/4837)
1) والصحيح انه قرأ فالون والأزرق عن ورش وابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان وأبو جعفر وهشام بخلف عنه ءامنتم بهمزة محققة فمسهلة ثم الف وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف وروح وهشام بوجهه الثاني بهمزتي ن محققتين ثم الف وقرأ الباقون وهم الاصبهانى عن ورش وحفص ورويس بهمزة واحدة محققة والف على الخبر 12 أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 68
من أول المؤمنين وأول المؤمنين هم الذين يقتدى بهم غيرهم والجملة تعليل ثان لنفى الضير أو تعليل للعلة المتقدمة أو بدل اشتمال لها.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما اقام بين أظهرهم سنين يدعوهم إلى الحق ويريهم الآيات فلم يزيدوا الا عتوّا وفسادا أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر تعطيل للاسراء قال البغوي روى عن ابن عباس قال اوحى الله إلى موسى عليه السلام ان اجمع بنى إسرائيل أهل كل اربعة أبيات فى بيت ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أبوابكم فانى سامر الملائكة فلا تدخل بيننا على بابه دم وسامرها فيقتل أبكار ال فرعون من أنفسهم وأموالهم. ثم اخبزوا خبزا فطيرا فانه اسرع لكم ثم اسر بعبادي حتى تنتهى إلى البحر فيأتيك امرى ففعل ذلك فلمّا أصبحوا قالوا لفرعون « اى طرى قريب حديث العمل - نهاية منه رح » هذا عمل موسى واتباعه قتلوا ابكارنا من أنفسنا وأموالنا فارسل فى اثره الف الف وخمس مائة الف ملك سود مع كل ملك الف وخرج فرعون فى الكرسي العظيم لكن قلت عدد جنوده بهذه للمثابة مما يستبعده العقل ولم يرو من النقل ما يوجب العلم به.(1/4838)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ معطوف على محذوف تقديره فاسرى موسى قومه فبلغ الخبر فرعون وأراد ان يتبعهم فارسل فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعنى الشرط ليحشروا أى ليجمعوا الجيش قلت لعله بعث ناسا ليجمعوا أهل المدائن المتصلة بمصر بحيث يمكن اجتماعهم فى تلك الليلة إلى الصباح قائلا لهم.
إِنَّ هؤُلاءِ يعنى بنى إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ بالكسر القليل من الناس كذا فى القاموس ثم أكده بقوله قَلِيلُونَ لاشعاره غاية القلة فهذه الآية تدل على بطلان ما روى انهم كانوا ست مائة وسبعين الفا وانما استقلهم بالاضافة إلى جنوده على ما قيل فى عدد جنوده انه كانت مقدمته سبع مائة الف والساقة والجناحين والقلب على قياس ذلك فانه لا يجوزه العقل نظرا إلى أجياد ملوك الأرض لا سيما ملك مصر. قلت لعل إيراد الشرذمة لبيان قلتهم بالنسبة إلى جنود فرعون وإيراد قليلون لبيان قلتهم فى نفس الأمر.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لنا متعلق بغائظون والمغني انهم اصحاب غيظ وعداوة لنا يعنى مبغضون لنا أو المعنى انهم لفاعلون بنا ما يغيظنا.
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرأ أهل الحجاز والبصرة حذرون وفرهين بغير الف ووافقهم هشام فى حذرون والباقون خاذرون وفارهين بالألف فيهما والاول للثبات والثاني للتجدد وهذا معنى ما قال الفراء الحاذر الذي يحذرك الان والحذر المخاوف وقيل حاذرون مؤدون مفوّون أى ذووا ازاءة وقوة أى مستعدون شاوا السلاح كذا قال الزجاج ومعنى حذرون خائفون مستيقظون أى غير غافلين.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 69
فَأَخْرَجْناهُمْ تقديره فاجتمعوا واتفقوا على الاتباع فاخرجناهم يعنى انهم خرجوا بتقديرنا ومشيتنا مِنْ جَنَّاتٍ أى بساتين وَعُيُونٍ انهار.
وَكُنُوزٍ أى اموال من الذهب والفضة وَمَقامٍ كَرِيمٍ أى منازل حسنة ومجالس بهيّة يعنى مجالس الأمراء والرؤساء تحفها الاتباع.(1/4839)
كَذلِكَ أى الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها يعنى تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك بان اللّه تعالى ردّ بنى إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن.
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أى داخلين فى وقت شروق الشمس.
فَلَمَّا تَراءَا قرأ حمزة بامالة فتحة الراء فإذا وقف اتبعها الهمزة فاما لها مع جعلها بين بين على أصله فيصير بين الفين ممالتين الاولى أميلت لامالة فتحة الراء والثانية أميلت لامالة فتحة الهمزة وهذا بحكم المشابهة غير ان هذا حقيقته على مذهبه والباقون يخلصون فتحة الراء والهمزة فى حال الوصل فاما الوقت فالكسائى يقف بامالة فتحة الهمزة فيميل الالف التي بعدها المنقلبة من الباء لامالتها وورش يجعلها فيه بين بين على أصله فى ذوات الياء والباقون يقفون بالفتح الْجَمْعانِ أى تقاربا بحيث يرى كل فريق من قوم موسى وقوم فرعون آخرين قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعنى سيد ركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم.
قالَ موسى ثقة بوعد الله كَلَّا لن يدركونا إِنَّ مَعِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها رَبِّي بالعون والحفظ سَيَهْدِينِ أى يدلنى على طريق النجاة - .
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ مفسرة لاوحينا لما فيه معنى القول اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ عطف على محذوف تقديره فضرب موسى عصاه على البحر فانفلق البحر أى النيل فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ من الماء كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الضخم الثابت فى مقره فدخل كل سبط فى شعب من شعابها.
وَأَزْلَفْنا أى قربنا ثمّ فى ذلك المكان الْآخَرِينَ يعنى قوم فرعون.
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحبس البحر عن الجريان إلى ان عبروا.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعنى قوم فرعون.(1/4840)
إِنَّ فِي ذلِكَ أى إنجاء موسى ومن معه وإهلاك فرعون وقومه لَآيَةً حجة واضحة على صدق موسى عليه السلام وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أى اكثر اتباع فرعون مُؤْمِنِينَ قيل لم يكن أمن لموسى من ال فرعون الا آسية امراة فرعون وحزئيل مومن ال فرعون الذي يكتم إيمانه وامرأته ومريم بنت ناموسيا التي دلت على قبر يوسف عليه السّلام.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ فى الانتقام
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 70
من أعدائه الرَّحِيمُ باوليائه ..
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أى على أهل مكة عطف قوله إذ نادى ربّك موسى لكونه مقدرا باذكر نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ ابراهيم متعلق بمحذوف أى اذكر إذ قال بدل من قوله اتل عليهم لِأَبِيهِ آزر سماه اللّه أبا لكونه عما ومربيا له وَقَوْمِهِ « 1 » ما تَعْبُدُونَ سالهم ليريهم ان ما يعبدونه لا يستحق العبادة.
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أطالوا فى الجواب تبجحا به وافتخارا ونظلّ هاهنا بمعنى ندوم وقال البغوي كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
قالَ ابراهيم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أى هل يسمعون دعاءكم وقال ابن عباس معناه هل يسمعون لكم إِذْ تَدْعُونَ أورد صيغة المضارع مع إذ على حكاية الحال الماضية.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ على عبادتكم لها أَوْ يَضُرُّونَ من اعرض عنها.
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعنون انها لا تسمع قولا ولا تنفع نفعا ولا تدفع ضرّا بل اقتدينا بآبائنا يفعلون مفعول ثان لوجدنا وكذلك صفة لمصدر محذوف ليفعلون يعنى بل وجدنا آباءنا يفعلون فعلا كذلك الفعل أى كفعلنا ذلك.(1/4841)
قالَ ابراهيم أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ همزة الاستفهام للتقرير أى حمل المخاطب على الإقرار والفاء للعطف على محذوف وما استفهامية والجملة الاستفهامية قائمة مقام مفعولى رايتم أو موصولة وهى مع صلتها أول مفعولى رايتم والثاني مقدر وتقدير الكلام أ تأملتم فرايتم اىّ شىء تعبدون يعنى تعبدون ما لا ينفعكم ولا يضركم تقليدا لابائكم عبثا. أو تقديره أ تأملتم فرايتم الذي تعبدونه شىء لا ينفعكم ولا يضركم ووصف الآباء بالتقدم للاشعار بان التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقا.
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي قرأ نافع وأبو عمره وورش « 2 » بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى ان عبدتهم فانهم عدولى أسند عداوتهم إلى نفسه تعريضا واشعارا بانهم اعداء لكم حيث يتضررون بعبادتها فوق ما يتضرر الرجل من عدوه. وهذا دأب الناصح الكريم يبدأ بنفسه والتعريض انفع من التصريح ونظيره قوله تعالى وما لى لا اعبد الّذى فطرنى يعنى ما لكم لا تعبدونه واطلاق العدو على الجمادات مبنى على التجوز اما لوصول الضرر من جهتها أو باعتبار ما يؤل الأمر إليه يوم القيامة قال اللّه سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّا وافراد العدو لأنه فى الأصل مصدر على
_________
(1) وليس فى الأصل وقومه
(2) لا وجه لذكر الورش بعد ذكر نافع لعله من سباق القلم - أبو محمد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 71(1/4842)
وزن فعول كالقبول أو على معنى ان كل معبود لكم فهو عدولى وقيل يجوز اطلاق العدو والصديق على الواحد والجمع لان كلّ صفة على وزن فعول أو فعيل يستعمل كذلك يقال رجل عدو وقوم عدو قال اللّه تعالى فان كان من قوم عدوّ لّكم وهو مؤمن وقال اللّه تعالى وكذلك جعلنا لكلّ نبىّ عدوّا شياطين الانس والجنّ إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع كأنَّه قال فانّهم عدوّ لّى لكن ربّ العلمين وليّي وقيل انهم كانوا يعبدون الأصنام مع اللّه تعالى فقال ابراهيم كل من تعبدونه عدوّ لّى الّا ربّ العلمين أو يقال كان من ابائهم من يعبد اللّه.
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ فانه يهدى كل مخلوق لما خلق له من امور المعاش والمعاد قال اللّه والّذى قدّر فهدى هداية مدرجة من مبدا الإيجاد إلى منتهى اجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار مبداها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من سرة ومنتهاها إلى طريق الجنة ولذائذها الموصول مع صلتها صفة لرب العلمين أو خبر مبتدا محذوف أى هو الّذى خلقنى أو منصوب على المدح والفاء للعطف واختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وللموصولات الثلاثة معطوفات عليه أو الموصول مبتدا خبره فهو يهدين والفاء للسببيه وقوله.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ على هذا مبتدا محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا الذان بعده وتكرير الموصول على الوجوه كلها للدلالة على ان كل واحد من الصلات مستقلة لاقتضاء الحكم.(1/4843)
وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطفه على يطعمنى ويسقين لكونها من روادفها فان الصحة والمرض فى الغالب يتبعان المأكول والمشروب ولم ينسب المرض إلى اللّه تعالى مع ان المرض والشفاء كلّا منهما بخلقه سبحانه رعاية لحسن الأدب كما قال خضر فاردت ان أعيبها وقال فاراد ربّك ان يّبلغا أشدّهما وأسند إلى نفسه هضما ونظرا ال ان ما أصاب الإنسان من مصيبة فيما كسبت يداه ولان المقصود تعديد النعم. وأسند الموت إلى الله سبحانه لان الموت من حيث انه لا يحس به لا ضرر فيه وانما الضرر فى مقدماته وهى المرض ولان الموت لاهل الكمال خلاص من انواع المحن ووصلة إلى نيل النعم التي يستحقر دونها الحيوة الدنيوية كما قيل الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب وفى الحديث موت الفجاءة راحة للمؤمن واخذة الأسف للفاجر. رواه احمد والبيهقي بسند حسن عن عائشة مرفوعا وفى الحديث الموت كفارة لكل مسلم. رواه أبو نعيم فى الحلية والبيهقي بسند ضعيف عن انس ولان المريض فى الغالب يحدث بتفريط الإنسان فى مطاعمه ومشاربه ولما بين الاخلاط والأركان من التنافي والتنافر
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 72
و الصحة انما يحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المحفوظ عليها قهرا بقدرة العزيز الحكيم.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ فى الاخرة.(1/4844)
وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ذكر ذلك « 1 » هضما لنفسه أو تعليما لامته ان يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر منها ويطلبوا المغفرة لما صدر عنهم أو استغفارا لما فات منه العزيمة وعمل بالرخصة شفقة على أمته كيلا يضيق عليهم نطاق الأمر وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث قوله انّى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم وقوله لسارة هذه أختي كما قال به مجاهد وقوله للكوكب هذا ربى كما قال الحسن زائدا على الثلاث ضعيف لانها معاريض وليست بخطايا واللّه اعلم روى البغوي عن مسروق عن عائشة انها قالت يا رسول الله ابن جدعان فى الجاهلية كان يصل الرحم ويطعم المساكين فهل كان نافعه قال لا ينفعه ان لم يقل يوما ربّ اغفر لى خطيئتى يوم الدّين - وهذا كله احتجاج من ابراهيم على قومه واشعار بانه من لا يستطيع ان يفعل هذا لا يصلح للالوهية.
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أى كمالا فى العلم والعمل بحيث يستعد خلافة الحق ورياسة الخلق وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ووفقني الكمال فى العمل حتى انتظم فى سلك الصالحين الّذين لا يشوبهم فساد أصلا وهم الأنبياء المعصومون.
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ يعنى ثناء حسنا وذكرا جميلا مطابقا للواقع وقبولا
_________
((1/4845)
1) قال الامام فخر الدين الرازي فى التفسير الكبير هذا ضعيف لأنه ان كان صادقا فى هذا التواضع لزم الاشكال يعنى كون النبي غير معصوم وان كان كاذيا يرجع الجواب إلى الحاق المعصية به لاجل تنزهه عن المعصية وأيضا لا يجوز ان يكذب نعرض تعليم الامة - قلت قول الرازي هذا ضعيف لأنه انما يلزم الكذب والمعصية إذا يرى نفسه بريّا من الذّنب ويقول بلسانه انى مذنب خاطئى وليس كذلك بل الأمر ان الصوفي إذا تم فقره وفناؤه يرى وجوده وكمالاته مستعارة من اللّه ويرى نفسه عدما محضا منشا للشر حيث قال اللّه تعالى ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيّئة فمن نفسك فحينئذ إذا قال انى مذنب لا يسمى كاذبا سهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلّم على رأس الركعتين من الظهر فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسمت يا رسول اللّه قال كل ذلك لم يكن قال ذو اليدين بعض ذلك قد كان فحاشا ان يكون قوله صلى اللّه عليه وسلم كل ذلك لم يكن كذبا أو ذنبا لما كان على نسيان فكذا قال المعصوم ربّ اغفر لى خطيئتى بل اولى لأنه إنشاء لا يحتمل الكذب ومعنى قولنا هضما لنفسه أى لاجل انهضام نفسه وحال كون نفسه منهضما منكسرا عند شعسعان جلال ربه لا انه يقول ذلك تواضعا مع ما يرى نفسه غير مذنب فيكون كذبا وسنذكر بعض هذا المقال فى سورة محمد صلى اللّه عليه وسلم فى تفسير قوله تعالى واستغفر لذنبك 12 منه برد اللّه مضجعه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 73
عامّا فى الأمم اللاتي يأتين من بعدي والمعنى يكون لسان الآخرين فى ثنائى صادقا.
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ فى الآخرين.
وَاغْفِرْ لِأَبِي قرأ نافع وأبو عمرو وورش « 1 » بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى اغفره بالهداية والتوفيق للايمان.(1/4846)
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ عن طريق الحق وكان هذا الدعاء قبل ان يتبين له انه عدو لله ولم يقدر له الهداية والايمان قال الله تعالى وكان استغفار ابراهيم لابيه الّا عن مّوعدة وّعدها ايّاه فلمّا تبيّن له انّه عدوّ للّه تبرّا منه أو لأنه لم يمنع بعد الاستغفار للكفار.
وَلا تُخْزِنِي أى لا تفضحنى بمعاتبتي على ما فرطت أو ينقص مرتبتى عن مرتبة الصالحين من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بمعنى الحياء يَوْمَ يُبْعَثُونَ الضمير للعباد لكونهم معلومين أو للضالين أخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر انه سئل كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى النجوى قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ثم يقول نعم ثم يقول انى سترتها عليك فى الدنيا وانا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه واما الكافر والمنافق فينادى به على رؤس الاشهاد هؤلاء الّذين كذّبوا على ربّهم الا لعنة اللّه على الظّالمين.(1/4847)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أى خالص من الشرك والشك فاما الذنوب فليس يسلم منها أحد قال البغوي هذا قول اكثر المفسرين قال سعيد بن جبير القلب السليم قلب المؤمن وقلب الكافر والمنافق مريض قال أبو عثمان النيشابوري هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة يعنى أهل السنة والجماعة يعنى لا ينفع مال ولا بنون أحدا الا مؤمنا فالمستثنى مفرغ فى محل النصب اولا ينفع مال ولا بنون الآمال مومن وبنوه فالمستثنى فى محل الرفع على البدلية والحاصل ان الكافر وان بذل ماله فى صلة الرحم واطعام المساكين لا ينفعه لعدم إسلامه وكذا بنوه وان كانوا صلحاء أو أنبياء لا ينفعون آباءهم بالشفاعة أو الاستغفار ما كان للنّبىّ والّذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى روى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزنى يوم يبعثون فاى خزى اخزى من أبى الأبعد فيقول اللّه انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ « 2 »
_________
(1) ذكر الورس هنا ايض ا من سياق قلم. أبو محمد عفا اللّه عنه -
(2) قوله بذيخ بكسر المعجمة وسكون التحتانية والمعجمة ذكر الضبع الكثير الشعر 12 الفقير الدهلوي.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 74
متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار فيتبرا منه يومئذ انتهى. واما المؤمن فينفعه ماله الذي أنفقه فى الطاعة وولده بالشفاعة والاستغفار وقيل الاستثناء منقطع والمعنى ولكن سلامة من اتى اللّه بقلب سليم ينفعه.(1/4848)
وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ بحيث يرونها من الموقف فيتججون بانهم للمحشورون.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ فيرونها مكشوفة ويرون انهم يساقون إليها قال البيضاوي وفى اختلاف القولين ترجيح لجانب الوعد.
وَقِيلَ لَهُمْ أى للغاوين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعنى اين الذين كنتم تعبدونها وترجون شفاعتها.
مِنْ دُونِ اللَّهِ حال من الضمير المنصوب هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ الاستفهام للانكار والتوبيخ أى هل يمنعونكم من العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ أى يدفعون العذاب عن أنفسهم بل هم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم.
فَكُبْكِبُوا فِيها قال البغوي قال ابن عباس أى جمعوا وقال مجاهد دهوروا وقال مقاتل قذفوا وقال الزجاج طرح بعضهم على بعض وقال القتيبي القوا على رؤسهم وفى القاموس كبه أى قلّبه وصرحه كاكّبه وكبكبه فاكب وهو لازم يعنى كبّ وكبكب بمعنى واحد وقال البيضاوي كبكب تكرير الكب لتكرير معناه كانّ من القى فى النار ينكب مرّة بعد اخرى حتى يستقر فى قعرها هم يعنى الالهة الباطلة وَالْغاوُونَ أى عابدوها.
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أى متبعوه من عصاة الثقلين ويقال ذريته أَجْمَعُونَ تأكيد للجنود ان جعل مبتدا خبره ما بعده أو للضمير المرفوع فى كبكبوا مع ما عطف عليه.
قالُوا يعنى الغاوون للشياطين والمعبودين وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ حال من فاعل قالوا والضمير المرفوع المنفصل يعود إلى العابدين والمعبودين جميعا ينطق اللّه الأصنام فيخاصمون العبدة.
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة والجملة مقولة قالوا.(1/4849)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ أيها المعبودون فى استحقاق العبادة بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ نسوّيكم متعلق بقوله كنا ويجوز ان يكون الضمير المنفصل وما يعود إليه راجعا إلى العبدة فحسب كما فى قالوا بناء على عدم صلاحية الاختصام فى الأصنام والخطاب إلى الأصنام وفائدة الخطاب المبالغة فى التحسر والندامة والمعنى انهم مع تخاصمهم فى مبدا ضلالهم معترفون بانهماكهم فى الضلالة فيتحسرون عليها.
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ قال مقاتل يعنون الشياطين وقال الكلبي الأولين الذين اقتدو بهم
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما ان للمؤمنين شفعاء من النبيين والملائكة وإخوانهم الصالحين.
وَلا صَدِيقٍ أى صادق فى المؤدة جمع الشافع ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء فى العادة وقلة الصديق ولان الصديق الواحد يسعى اكثر مما يسعى الشفعاء ولاطلاق الصديق على الجمع كالعدو
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 75
كما ذكرنا ان وزن فعول وفعيل يجىء فى الجمع والواحد ولانه فى الأصل مصدر كالجنين والصهيل حَمِيمٍ أى قريب فى القاموس حميم كامير القريب جمعه احماء وقد يكون الحميم للجمع والمؤنث يعنون انه ليس لنا صديق ولا قريب يشفع لنا فان الاخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ الّا المتّقين روى البغوي عن جابر بن عبد اللّه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الرجل ليقول فى الجنة ما فعل صديقى فلان وصديقه فى الجحيم فيقول اللّه تعالى اخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي فما لنا من شافعين ولا صديق حميم قال الحسن استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فان لهم شفاعة يوم القيامة
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أى رجعة إلى الدنيا بتمني للرجعة أقيم فيه لو مقام ليت لاشتراكهما فى معنى التقدير أو شرط حذف جوابه يعنى لكان خيرا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جواب للتمنى أو عطف على كرّة(1/4850)
إِنَّ فِي ذلِكَ أى فيما ذكر من قصة ابراهيم لَآيَةً أى لحجة واضحة لمن أراد ان يستبصر بها ويعتبر فانها جاءت على الظم ترتيب واحسن تقرير يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الاشارة إلى اصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالفته معهم وكمال اشفاقه عليهم وتصوير الأمر فى نفسه واطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وايقاظا ليكون ادعى لهم إلى الاستماع والقبول وأيضا فيه حجة واضحة على صدق دعوى محمد صلى اللّه عليه وسلم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أى اكثر قومه مُؤْمِنِينَ به
وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ القادر على الانتقام الرَّحِيمُ باهمال الكفار لكى يؤمنوا به هم أو واحد من ذريتهم. وانعام المؤمنين.
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ القوم مؤنث ولذلك تصغر على قويمة أورد المرسلين بصيغة الجمع والمراد به الجنس يقال يركب فلان الخيل وان لم يكن له إلا فرس واحد أو لانهم كانوا ينكرون بعث الرسل وروى عن الحسن البصري انه قيل له يا أبا سعيد ارايت قوله تعالى كذّبت قوم نوح ن المرسلين كذّبت عاد ن المرسلين كذّبت ثمود المرسلين وانما أرسل إليهم رسول واحد قال ان الاخر جاء بما جاء الأول فإذا كذّبوا واحدا كذّبوا الرسل
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ فى النسب لا فى الدين نُوحٌ عطف بيان للاخ أَلا تَتَّقُونَ الله فتتركون عبادة غيره
إِنِّي لَكُمْ لهدايتكم إلى ما هو خير لكم رَسُولٌ من الله أَمِينٌ على وحيه مشهور فيكم بالصدق والامانة
فَاتَّقُوا اللَّهَ اجتنبوا من عذابه وَأَطِيعُونِ فيما أمركم به من التوحيد والعبادة لله وحده
وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على دعائكم إلى الله والنصح مِنْ أَجْرٍ حتى تتّهمونى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 76(1/4851)
فى النصح بالطمع إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرره للتاكيد والتنبيه على ان دلالة كل واحد من أمانته وعدم طبعه مستقلة على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا
قالُوا يعنى قومه إنكارا عليه أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ حال بتقدير قد قرأ يعقوب اتباعك جمع تابع كشاهد وإشهاد أو تبع كبطل وابطال الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل على وزن اعور على السلامة فى القاموس وهو الدون الخسيس قال البيضاوي الأقل جاها ومالا قال البغوي السفالة وعن ابن عباس الصاغة قال عكرمة الحاكة والاساكفة وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على حطام الدنيوية حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعا عن اتباعهم وايمانهم بما يدعوهم إليه ودليلا على بطلانه واشاروا بذلك إلى ان اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة وانما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك
قالَ نوح وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى انى لا اعلم انهم عملوا ذلك الاتباع إخلاصا للّه أو طمعا فى رفعة فى الدنيا وما علىّ الا اعتبار الظاهر
إِنْ حِسابُهُمْ يعنى ما حسابهم على بواطنهم إِلَّا عَلى رَبِّي فانّه المطلع عليها لَوْ تَشْعُرُونَ يعنى لو كان لكم شعور لادركتم ذلك ولكن الله عطل مشاعركم عن درك الحق وأعمى بصائركم قال البغوي يعنى لو علمتم ذلك عبدتم لصنائعهم قال الزجاج الصناعات لا يضر فى الديانات
وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب لما أو هم قولهم من استدعاء طردهم(1/4852)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلة لعدم الطرد يعنى ما انا الا مبعوث لانذار الناس من عذاب الله ومنعهم عن الكفر والمعاصي ودعوة الخلق إلى اللّه تعالى سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يسوغ لى طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء إذ ما علىّ الا انذاركم قال الضحاك انذارا بينا بالبرهان الواضح فلا علىّ ان اطردهم لاسترضائكم
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما نقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المشتومين كذا قال الضحاك أو من المقتولين بالحجارة كذا قال مقاتل والكلبي
قالَ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ اظهار لما يدعو إلى دعائه عليهم وهو تكذيب الحق لا تخويفهم إياه واستخفافهم به
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً من الفتاحة وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ قرأ ورش وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من قصدهم أو شوم عملهم
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أى بعد انجائه والمؤمنين الْباقِينَ من قومه وهم الكافرون
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً شاعت وتواترت وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 77
مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ انثه باعتبار القبيلة وهو فى الأصل اسم أبيهم
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ فى النسب لا فى الدين هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه بالتوحيد وترك الإشراك
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أمين على الرسالة قال الكلبي أمين فيكم قبل الرسالة يعنى ما كنتم تتهمونى قبل ذلك فكيف تتهمونى اليوم(1/4853)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فان أداء الرسالة طاعة لله تعالى فاجره عليه مسئله لا يجوز أخذ الاجرة على الطاعة والا لا يكون الطاعة طاعة لله تعالى ولا يستحق الاجر من اللّه تعالى(1/4854)
أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ الاستفهام للتوبيخ أو التقرير والاستغراق فى كل ريع غير حقيقى بل المراد به الكثير بالكثرة فى نفسها دون الكثرة بالاضافة قال الوالبي عن ابن عباس أى بكل شرف يعنى بكل مكان مرتفع وريع الأرض لنمائها وقال الضحاك ومقاتل بكل طريق وهو رواية العوفى عن ابن عباس وعن مجاهد هو الفج بين الجبلين وعنه أيضا المنظر وفى القاموس الريع بالكسر والفتح المرتفع من الأرض أو الطريق المنفرج فى الجبل أو الجبل المرتفع أو مسيل الوادي من كل مكان مرتفع وبالكسر الصومعة وبرج الحمام آيَةً أى علامة مذكرة للبساتى تَعْبَثُونَ أى تفعلون فعلا لا يفيدكم فى الاخرة بل فى الدنيا أيضا أو معنى الآية علامة للمارّة تعبثون ببنائها إذ كانت المارّة يهتدون بالنجوم فى أسفارهم فلا يحتاجون إليها وقيل انهم كانوا يبنون المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة والسابلة فيسخرون منهم ويعبثون بهم وعن سعيد بن جبير هذا فى بروج الحمام أنكر عليهم هود اتخاذها بدليل قوله تعبثون أى تلعبون وهم كانوا يلعبون بالحمام قلت والظاهر انهم كانوا يبنون قصورا وبروجا وقلاعا تبقى على وجه الأرض بمر الدهور تكون ذلك علامة مذكرة لمن بناه كما هو داب أهل الدنيا يدل عليه قوله تعالى الم تر كيف فعل ربّك بعاد ارم ذات العماد الّتى لم يخلق مثلها فى البلاد وكل ذلك عبث فانكر عليهم هود عليه السلام كما أنكر النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال إذا أراد الله بعبد شرّا حصر له فى اللبن والطين حتى يبنى. رواه الطبراني بسند جيد من حديث جابر ورواه فى الأوسط من حديث أبى البشر الأنصاري بلفظ إذا أراد الله بعبد هوانا أنفق ماله فى البنيان وقال صلى الله عليه وسلم كل بنيان وبال على صاحبه الا ما كان هكذا.(1/4855)
و أشار بكفه رواه الطبراني بسند حسن عن واثلة بن الأسقع وعن انس ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم خرج يوما ونحن معه فراى قبة مشرفة فقال ما هذه قال أصحابه هذه لفلان رجل من الأنصار فكت وحملها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 78
فى نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم سلّم عليه فى الناس فاعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب منه والاعراض عنه فشكى ذلك إلى أصحابه فقال واللّه انى لانكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالو أخرج فراى قبتك فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض فخرج رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم فلم يرها قال ما فعلت القبة قالوا شكى إلينا صاحبها اعراضك عنه فاخبرناه فهدمها فقال اما ان كل بناء وبال على صاحبه الا مالا الا مالا - رواه أبو داود واللفظ له يعنى الا ما لا بد منه وروى احمد وابن ماجة عن انس عنه صلى اللّه عليه وسلم اما ان كل بناء فهو وبال على صاحبه يوم القيامة الا ما كان فى مسجد أو دار ويدل على ما ذكرت قوله تعالى
وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ ماخذ الماء وقصورا مشيدة وحصونا عطف على تبنون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ كانكم تبقون فيها ابدا فتحكمون بنائها (مسئلة) يكره طول الأمل ويستحب قصره عن ابن عمر قال أخذ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ببعض جسدى فقال كن فى الدنيا كانك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من اصحاب القبور رواه البخاري وعن عبد الله بن عمرو قال مرّ بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانا وأمي نطين شيئا فقال ما هذا يا عبد الله قلت شىء نصلحه قال الأمر اسرع من ذلك - رواه احمد والترمذي وقال هذا حديث غريب وعن ابن عباس ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم كان يهريق الماء فيتيمم بالتراب فاقول يا رسول اللّه ان الماء منك قريب فيقول ما يدرينى لعلى لا أبلغه. رواه البغوي فى شرح السنة وابن الجوزي فى كتاب الوفاء(1/4856)
وَ إِذا بَطَشْتُمْ أخذتم أخذا بالعنف تعذيبا الظرف متعلق بقوله بَطَشْتُمْ معطوف على تبنون جَبَّارِينَ قتّالين فى غير حق بلا رأفة فى القاموس الجبار المتكبر وقلب لا يدخله رحمة والقتال فى غير حق
فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فانه انفع لكم
وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ كرر الأمر بالتقوى مرتبا على امداد اللّه إياهم بما يعرفونه من انواع النعم تعليلا له وتغبيها على الواعد بدوام الامداد والوعيد على تركه بالانقطاع ثم فصّل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها اجالا بالإنكار فى الا تتّقون مبالغة فى الاتعاظ والحث على التقوى فقال
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ بدل من امدّكم السابق ثمّ أوعدهم فقال
إِنِّي فتح الياء حرميان وأبو عمرو والباقون يسكنونها أَخافُ عَلَيْكُمْ ان عصيتمونى كذا قال ابن عباس عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فى الدنيا أو الاخرة فان القادر على الانعام قادر على الانتقام والجملة فى مقام التعليل.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 79
قالُوا يعنى قوم هود فى جوابه سَواءٌ عَلَيْنا مصدر بمعنى المفعول غير مقدم لقوله أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ مبتدا بتأويل المصدر يعنى مستو عندنا وعظك إيانا وعدمه لا نترك ما نحن عليه بوعظك والوعظ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد غيّر شق النفي عما يقتضيه المقابلة حيث لم يقل أو عظت أم لم تعظ للمبالغة فى عدم اعتدادهم لوعظه(1/4857)
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بفتح الخاء وسكون اللام يعنى ما هذا الذي جئتنا به من الوعظ الا كذب الأولين واختلاقهم كما فى قوله تعالى وتخلقون إفكا أو المعنى ما خلقنا هذا الا خلق الأولين نحيى ونموت مثلهم لا بعث ولا حساب وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وابن كثير « 1 » بضمتين أى ما هذ الّذى جئتنا به إلا عادة الأولين كانوا يكذبون مثله أو ما هذا الّذى نحن عليه من الدين الا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحيوة والموت الا عادة قديمة لم يزل الناس عليها
وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه
فَكَذَّبُوهُ تأكيد وتقرير لما سبق من قوله ان هذا الّا خلق الأولين على بعض التأويلات فَأَهْلَكْناهُمْ السبب التكذيب بريح صرصر كما ذكر فى غير هذا الموضع إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فيه اشارة إلى انه لو أمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب وان قريشا انما عصموا عن مثله ببركة من أمن منهم قال اللّه تعالى ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنت إلى قوله لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابا أليما
وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا انكار لتركهم فيما انعموا فى الدنيا أو تذكير بالنعمة فى تخلية اللّه إياهم فى اسباب التنعم آمِنِينَ غير خائفين من العذاب ثم فسر ما هاهنا بقوله.(1/4858)
فِي جَنَّاتٍ مع ما عطف عليه بدل من قوله فيما هاهنا وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها أى ثمرتها هَضِيمٌ قال ابن عباس أى لطيف ومنه هضيم الكشح إذا كان لطيفا وروى عطية عنه نافع نضيج وقال عكرمة هو اللين وقال الحسن هو الرخو وقال مجاهد منهشم متفمّت إذا يبس وذلك انه مادام رطبا فهو هضيم فإذا يبس فهو هشيم وقال الضحاك ومقاتل قد ركب
_________
(1) قرأ ابن كثير بفتح الخاء وسكون اللام فعدها فى هذه القراءة سهو 12 أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 80
بعضها بعضا أى كثير وقال أهل اللغة هو المنضم بعضه إلى بعض فى دعائه قبل ان يظهر قال الأزهري هو الداخل بعضه فى بعض وقيل هضيم أى هاضم يهضم الطعام وكل هذا للطافة
وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً عطف على قوله امنين لتضمنه معنى الفعل على طريقة فالق الإصباح وجعل اللّيل سكنا والتقدير تأمنون وتنحتون أو حال من ضمير امنين بتقدير وأنتم تنحتون فارِهِينَ قرأ نافع « و أبو جعفر ويعقوب - أبو محمد » وابن كثير وأبو عمرو فرهين وهو ابلغ لأنه صفة مشبهة يدل على الدوام والباقون فارهين يعنى حاذقين بنحتها من قولهم فره الرجل فراهة فهو فاره وقال عكرمة معناه ناعمين وقال قتادة معجبين بصنيعكم وقال السدىّ متحيرين وقال الأخفش فرحين والعرب يعاقب بين الحاء والهاء مثل مدحته ومدهته وقال أى شرهبين يعنى حريصين والشّره غلبة الحرص وقال أبو عبيدة مرحين أشرين بطرين وهو الطغيان بالنعمة وعدم قبول الحق تكبرا
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس أى المشركين وقال مقاتل هم التسعة الذين عقر والناقة
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ ولا تطيعون اللّه فيما أمرهم به - (1/4859)
قالُوا يعنى ثمود إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أى من المسحورين المخذوعين كذا قال مجاهد وقتادة وقال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب يقال سحره أى علله بالطعام والشراب يعنى انك تأكل الطعام والشراب ولست بملك بل
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا أنت بنبي أو المعنى انك ذو سحر وهى الرية أى انسان فحينئذ ما أنت الّا بشر مثلنا تأكيد له فَأْتِ بِآيَةٍ دليل على صحة قولا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك - فاخرج الله سبحانه ناقة من الصخرة بدعائه على ما اقترحوا اية على صدقه حتى.
قالَ صالح هذِهِ ناقَةٌ اية صدقى لَها شِرْبٌ أى حظ ونصيب من الماء صفة لناقة وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها فى شربها والجملة حال عن الضمير المستكن فى لها شرب. فكانت الناقة تشرب الماء كله فى يوم نوبتها ولا تشرب أصلا فى يوم نوبتهم وهذا دليل على جواز المهاياة
وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أى بضرب وعقر عطف على هذه ناقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أى يوم عظيم عذابه وهو ابلغ من تعظيم العذاب لان الوقت إذا عظم بسببه كان وقعه من العظمة أشد
فَعَقَرُوها عطف على قال نسب العقر إلى الكل مع صدوره من بعضهم لامرهم ورضائهم به وكذلك أخذوا فى العذاب كلهم فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفا من نزول العذاب لا توبة أو عند معائنة العذاب حين لا ينفعهم
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 81(1/4860)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها « 1 » إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ جملة أ تأتون بيان أو بدل لقوله الا تتقون يعنى أ تأتون من دون من عداكم من العلمين الذكر ان تجامعونهم لا يشارككم فيه غيركم أو ا تأتون الذكر ان بالجماع دون النساء من العلمين من أولاد آدم عليه السلام مع كثرتهم وغلبة النساء فيهم فالمراد بالعلمين على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس
وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لاجل استمتاعكم مِنْ أَزْواجِكُمْ من للبيان ان أريد بما جنس الإناث وللتبعيض ان أريد به العضو المباح منهن فانهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم أيضا كما تفعله الرافضة - وفيه دليل على حرمة ادبار الزوجات وللملوكات بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ مجاوزون من حد الحلال إلى الحرام فى قضاء الشهوة زدتم فى قضائها على سائر الناس بل على الحيوانات أو مفرطون فى المعاصي وهذا من جملة ذلك أو أحقاء بان توصفوا بالعدوان لارتكاب هذه اللائمة -
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ جواب قسم محذوف يلوط عما تدعيه أو عن فهينا بقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من قريتنا(1/4861)
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين فابة البغض لا أبالي من الإخراج وهو ابلغ من ان يقول انّى لعملكم قال لدلالته على انه معدود فى زمرتهم مشهور بانه من جملتهم وكذلك قوله بل أنتم قوم عادون مكان تعدون ثم لمّا ظهر عند لوط عدم تأثير دعوته فيهم دعا ربه ان ينجوه من مصاحبتهم ويعافيهم عما يلحقهم من العذاب فقال
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أى من شومه وعذابه
فَنَجَّيْناهُ عطف على قال المقدر قبل قوله ربّ نجّنى وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أى أهل بيته ومتبعيه فى دينه بإخراجهم من بينهم وحلول العذاب بهم دونه
إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ مقدرة فى الباقين فى العذاب والهلاك أصابها حجر فى الطريق فاهلكها لانها كانت مائلة إلى القوم راضبة بفعلهم وقيل كانت فيمن بقي فى القرية ولم يخرج مع لوط عليه السلام
ثُمَّ دَمَّرْنَا أى أهلكنا الْآخَرِينَ وَ
_________
(1) وفى الأصل بياض لقدر ربع الصفحة بعد الا تتّقون وكذا بعد وما اسئلكم وكذا بعد بإسكانها 12 [.....]
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 82
أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قال وهب بن منبه الكبريت والنار
فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو ممطرهم(1/4862)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي الأيكة هاهنا فى سورة ص بالهمزة وسكون اللام وكسر التاء والحرميان وابن عامر ليكة بفتح اللام والتاء غير مهموز وهو اسم بلد غير منصرف ولم يختلفوا فى سورة الحجر « 1 » وق فانهما مهموزتان مكسورتان مع سكون اللام غير ان ورشا يلقى حركة الهمزة على اللام على أصله والايكة الغيضة من الشجر الملتف كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة فبعث الله تعالى إليهم شعيبا كما بعثه إلى مدين وكان شعيب من أهل مدين ولم يكن من اصحاب الايكة وكذلك قال
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل أخوهم شعيب كما قال فى ذكر مدين أخاهم شعيبا لأنه كان منهم نسبا
أَ لا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ انما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء كلهم فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص فى العبادة والامتناع من طلب الاجر على الدعوة وتبليغ الرسالة ومن ثم قال اللّه تعالى انّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيّين من بعده وقال اللّه تعالى اقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه
أَوْفُوا الْكَيْلَ يعنى اتموه الجملة مع ما عطف عليه بيان للتقوى وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين لحقوق الناس بالتطفيف(1/4863)
وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ قرأ مرّة « و حفص وخلف أبو محمد » والكسائي بكسر القاف والباقون بضمها وهو الميزان وهو ان كان عربيا فان كان من القسط بمعنى العدل ففعلاع بتكرير العين والا فهو فعلال رباعى الْمُسْتَقِيمِ المستوي الذي لا تطفيف فيه
وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أى لا تنقصوا شيئا من حقوقهم وَلا تَعْثَوْا أى لا تفسدوا فِي الْأَرْضِ بالقنل والغارة وقطع الطريق والنهب وغير ذلك مُفْسِدِينَ يعنى قاصدين الفساد فمن وقع منه نوع فساد بنية الإصلاح كمن رمى كافرا (تترّس بأسير مسلم) بنية الكافر وأصاب الأسير المسلم فلا غرم عليه ومن وقع منه فساد خطأ من غير قصد فهو غير مفسد
وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أى ذوى الجبلة الأولين
_________
(1) وفى للاصل فى سورة الحج وف وهو من سبق قلم لا شك فيه - أبو محمد عفا اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 83
يعنى من تقدمهم من الخلائق.
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا الواو للعطف على ما سبق للدلالة على انه جامع بين وصفين متنافيين للوسلة مبالغة فى تكذيبه وجاز ان يكون حالا مما سبق وَإِنْ نَظُنُّكَ يعنى وانا فظنك لَمِنَ الْكاذِبِينَ فى دعواك
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً قرأ حفص هاهنا وفى سبأ بفتح السين والباقون بسكونها أى قطعة مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك
قالَ شعيب رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من نجس الكيل والوزن وغير ذلك وهو يجازيكم عليه إنشاء وليس العذاب الىّ وما علىّ الا الدعوة(1/4864)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وذلك انه أخذهم حر شديد وكانوا يدخلون الا سراب فإذا دخلوها وجدوها أشد حرّا فاظلهم سحابة وهى الظلة فاجتمعوا إليها فامطرت عليهم نارا فاحترقوا وقد ذكر القصة فى سورة هود إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هذا اخر القصص السبع المذكورة على الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمكذبين به.
وَإِنَّهُ أى القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ مصدر بمعنى المفعول يعنى منزل من رب العالمين عطف على قوله تلك آيات الكتاب المبين
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ حال بتقدير قد أو تأكيد لما سبق أو علة لكونة تنزيلا من اللّه قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وحفص نزل بالتخفيف والرّوح الامين بالرفع على الفاعلية يعنى نزل بالقران الرّوح الامين يعنى جبرائيل عليه السلام وهو أمين الله على الوحى إلى الأنبياء وقرأ ابن عامر وأبو بكر « خلف ويعقوب أبو حمد » وحمزة والكسائي بتشديد الزاء ونصب الروح الامين على المفعولية يعنى نزّل الله جبرئيل بالقران
عَلى قَلْبِكَ يا محمد حتى وعيته والمراد بالقلب هو القلب الصنوبري دون اللطيفة الربانية اللامكانية التي أصلها فوق العرش وبرزتها فى القلب الصنوبري لأنه من عالم الأمر وهو لا يحتمل اعياء الوحى والنبوة بل الحامل لها هو القلب الصنوبري الجامع للعناصر والنقش وبرزات عالم الأمر ومن ثم لم يوجد الإيحاء الا بعد كمال البدن أو بلوغه أشدّه عند أربعين سنة لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أى المخوفين عمّا يؤدى إلى العذاب من فعل أو ترك
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى قال ابن عباس يعنى بلسان قريش لئلا يكون لهم عذر بانا لم نفهم ما اوحى إلينا متعلق بنزل أو بالمنذرين قيل معناه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 84(1/4865)
نزل به على قلبك بلسان عربى ولو كان اعجميّا لكان نازلا على سمعك دون قلبك لانك حينئذ تسمع صوتا لا تضهم معناه وقد يكون الرجل عارفا بعدة لغات فإذا كلمه أحد بلغة نشا عليها أحاط قلبه اولا بمعاني الكلام وان كلمه بغيرها كان قلبه اولا متوجها إلى ألفاظها ثم فى معانيها فيقول بلسان عربىّ تقرير لقوله نزل على قلبك
وَ إِنَّهُ أى ذكر إنزال القرآن كذا قال اكثر المفسرين وقال مقاتل أى ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم وقيل معناه أى القرآن لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أى كتبهم وهذه الجملة معطوفة على ما سبق أو حال وعلى التأويل الأخير قال بعض الحنفية القرآن اسم للمعنى فقط لأنه لم يكن فى الزبر السابقة بهذا اللفظ العربي قطعا ومن أجل ذلك أجاز أبو حنيفة القراءة فى الصلاة بالفارسي وهذا القول مردود بل القرآن اسم للنظم والمعنى جميعا حيث قال الله تعالى قرءانا عربيّا فان العربي صفة للنظم ولان القرآن معجز والاعجاز من خواص النظم ومن أجل ذلك جاز للمجنب ان يقرا ترجمة القرآن بالفارسي وانما أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسي فى حق جواز الصلاة خاصة لجعله النظم ركنا غير لازم فى الصلاة خاصة رعاية للخضوع وقد رجع أبو حنيفة عن هذا القول وقال بعدم جواز القراءة بالفارسي كما قال صاحباه واكثر الائمة وبه يفتى(1/4866)
أَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يعرفوا رسولهم ولم يكن لّهم اية على رسالته - قرأ ابن عامر تكن بالتاء الفوقانية واية بالرفع على انه اسم كان وخبره لهم وان يعلمه بدل من اية أو خبر مبتدا محذوف وجاز ان يكون لم تكن تامة فاعله اية ولهم حال منه وان يعلمه بدل من الفاعل أو خبر مبتدا محذوف أو يكون فى لم تكن ضمير القصة وان يعلمه مبتدا واية خبره مقدم عليه ولهم حال من اية والعامل معنى الثبوت المستفاد من الحمل والجملة خبر كان - وقرأ الباقون بالياء التحتانية واية منصوب على الخبرية واسمه ان يعلمه ولهم حال من اية أَنْ يَعْلَمَهُ يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم بنعته المذكورة فى التورية كما يعرفون أبناءهم أو يعلمون القرآن انه منزل من اللّه عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ قال عطية كانوا خمسة عبد اللّه بن سلام وابن يامين وثعلبة واسد وأسيد وقال ابن عباس بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة فسالوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا ان هذا لزمانه وانا لنجد فى التورية نعته وصفته
وَ لَوْ نَزَّلْناهُ أى القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ هو جمع أعجم وهو الّذى لا يفصح ولا يحسن العربية وان كان عربيّا فى النسب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 85
و العجمي هو المنسوب إلى العجم وان كان فصيحا بالعربية ومعنى الآية ولو نزّلناه على رجل غير فصيح اللسان بالعربية وقال البيضاوي هو جمع أعجمي على التخفيف ولذالك جمع جمع السلامة يعنى لو كان جمع أعجم لما جاز جمعه للسلامة لان مؤنثه عجماء فان افعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة ونظيره اشعرون جمع اشعرى على التخفيف أصله اشعريون والمعنى ولو نزّلنا القرآن عربيّا كما هو على بعض الأعجمين زيادة فى الاعجاز أو بلغة العجم(1/4867)
فَقَرَأَهُ أى الأعجمي عَلَيْهِمْ أى على أهل مكة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أفرط عنادهم واستكبارهم واستنكافهم من اتباع الأعجمي أو لعدم فهمهم يقولون ما نفقه ما تقول نظيره قوله تعالى ولو جعلناه قرءانا اعجميّا لّقالوا لو لا فصّلت آياته
كَذلِكَ فى محل النصب بفعل مضمر يفسره ما بعده سَلَكْناهُ الضمير عائد إلى الشرك التكذيب المدلول عليه بقوله ما كانوا به مؤمنين كذا قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعنى أدخلنا الشرك والتكذيب فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فيدل الآية على انه بخلق الله تعالى وقيل الضمير للقران أى أدخلنا القرآن فى قلوبهم فعرفوا معانيه واعجازه ومع ذلك لم يؤمنوا به عنادا
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أى بالقران بيان لقوله كذلك سلكناه أو حال أو دليل على ما سبق وفى الآية اخبار بحال من علم الله موته على الشرك حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الايما ن وذلك بعد الموت فى القبور
فَيَأْتِيَهُمْ العذاب بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه
فَيَقُولُوا حينئذ تحسرا وناسف هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ الاستفهام للتمنى يتمنون الرجعة والنظرة قال مقاتل لمّا أوعدهم اللّه سبحانه على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى ما توعدنا به ومتى هذا العذاب قال الله تعالى
أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ا بوعيدنا لا يستيقنون فبعذابنا يستعجلون وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة وقيل هذا كناية عن قولهم انزل علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب اليم وقولهم فاتنا بما تعدنا ولمّا كان استعجالهم العذاب بناء على اعتقادهم انه غير كائن وانهم يتمتعون أعمارا طوالا فى سلامة وأمن أنكر اللّه تعالى على استعجالهم ثم قال على تقدير التسليم(1/4868)
أَ فَرَأَيْتَ الاستفهام للتقرير والفاء للعطف على المحذوف تقديره أ تفكرت فرايت يعنى فعلمت إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ كثيرة ولو مدة حيوة الدنيا.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 86
ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ والمعنى انهم إذا راوا العذاب الأليم حين يأتيهم بغتة يقولون هل نحن منظرون ولكنهم لا ينظرون أى لا يمهلون ولو سلمنا إهمالهم فلو تفكرت علمت انا ان متعناهم سنين كثيرة ثم جاءهم ما كانوا يوعدون به من العذاب ما اغنى عنهم تمتيعهم وإهمالهم المتطاول فى دفع العذاب وتخفيفه بل صار التمتع نسيا منسيّا كانهم لم يكونوا فى نعيم قط
وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا قرية لَها مُنْذِرُونَ أى رسل انذروا أهلها فلم ير تدعوا
ذِكْرى أى تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدرية لانها فى معنى الانذار أو الرفع لانّها صفة منذرون بإضمار ذووا أو بجعلهم ذكرى مبالغة لامعائهم فى التذكرة أو خبر مبتدا محذوف والجملة اعتراضية وَما كُنَّا ظالِمِينَ
وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ عطف على نزل به الرّوح الامين يعنى ليس كما زعمت المشركون ان الشياطين يلقون القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أى للشياطين ان يلقوا القرآن على محمد فان القرآن هداية والشياطين انماهم دعاة إلى الضلال وَما يَسْتَطِيعُونَ ان يلقوا الاخبار بالمغيبات المذكورة فى القران
إِنَّهُمْ أى الشياطين عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة من السماء لَمَعْزُولُونَ أى محجوبون مرجومون بالشهب
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ تهييج لازدياد الإخلاص ولطف لسائر المكلفين قال ابن عباس رض يحذر به خيره يقول أنت أكرم الخلق علىّ ولو اتخذت الها غيرى لعذبتك(1/4869)
وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الأقرب منهم فالاقرب فانهم اولى باهتمام شأنهم أو لنفى التهمة فان الإنسان يساهل قرابته أو ليعلموا انه لا يغنى عنهم من الله شيئا وان النجاة فى اتباعه - قال البغوي روى محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس رض عن على بن أبى طالب رضى الله عنهم انه قال لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال يا على ان الله أمرني ان انذر عشيرتى الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت انى متى انذرهم واناديهم بهذا الأمر ارى منهم ما اكره فصمتّ عليها حتى جاءنى جبرئيل فقال يا محمد ان لم تفعل ما تؤمر بعذبك ربك فاصنع لنا صاما من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لى بنى عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 87(1/4870)
به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلمّا اجتمعوا له دعا بالطعام الذي صنعت فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذية « 1 » من اللحم فشقها بأسنانه ثم القاها فى نواحى الصحفة ثم قال خذوا بسم الله فاكل القوم حتى ما بهم حاجة وايم الله وان كان الرجل الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العش فشربوا حتى رووا جميعا وايم اللّه الرجل أو أحد يشرب مثله فلما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يكلمهم « اى سبقه - منه رح » بدره أبو لهب فقال سحركم صاحب كم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لغديا على ان هذا الرجل قد سبق إلى ما علمت من القول فتفرق القوم قبل ان أكلمهم فعدلنا بمثل ما صنعت ثم اجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعانى بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس فاكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بنى عبد المطلب انى قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة وقد أمرني الله ان أدعوكم إليه فأيّكم يوازرنى على امرى ويكون أخي ووصيي وخليفتى فاحجم القوم عنها جميعا فقلت وانا أحدثهم سنّا انا يا نبى اللّه انا وزيرك عليه فاخذ برقبتى ثم قال ان هذا أخي ووصيي وخليفتى فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون أمرنا ان نسمع لعلى ونطيع وفى الصحيحين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع ان يخرج أرسل رسولا فينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال ارايتكم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي يريد ان يغير عليكم أ كنتم مصدقى قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فانّى نذير لّكم بين يدى عذاب شديد قال أبو لهب تبّا لك(1/4871)
سائر اليوم ا لهذا جمعتنا فنزلت تبّت يدا أبى لهب وتبّ ما اغنى عنه ماله وما كسب إلى اخر السورة. وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال قام رسول الله صلى اللّه عليه وسلم حين انزل الله وانذر عشيرتك الأقربين قال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا اغنى عنكم من الله شيئا يا بنى عبد مناف لا اغنى عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا اغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا اغنى عنك من الله
_________
(1) وفى القاموس الحذية بالحاء المهملة المكسورة والذال المعجمة الساكنة فالياء ما قطع طولا أو القطعة الصغيرة 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 88(1/4872)
شيئا يا فاطمة بنت محمد سلينى ما شئت من مالى لا اغنى عنك من اللّه شيئا. وذكر البغوي حديث ابن عباس بلفظ لما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد على الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا فاجتمعوا إليه فقال ارايتم ان أخبرتكم ان خيلا يخرج من صفح هذا الجبل أ كنتم مصدقى قالوا ما جربنا عليك كذبا قال انى نذير لّكم بين يدى عذاب شديد قال أبو لهب تبّا لك ما جمعتنا الا لهذا ثم قام فنزلت تبّت يدا أبى لهب قد تبّ هكذا قرأ الأعمش يومئذ. وروى البغوي عن عبد الله بن حمار المجاشعي رضى اللّه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله امر فى ان أعلمكم ما جهلتم عما علمنى يومى هذا وانه قال كل مال نحلته عبادى فهو لهم حلال وانى خلقت عبادى خفاء كلهم فاتتهم الشياطين فاحتالهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وامرتهم ان لا يشركوا بي ما لم انزل به سلطانا وان الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب وان الله أمرني ان أخوف قريشا فقلت يا رب إذا يثلغوا رأسى حتى يدعوه خبزة فقال بعثت لابتليك وابتلى بك قد أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقراه فى المنام واليقظة فاغزهم تغزك وأنفق تنفق عليك وابعث جيشا غددك بخمسة أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك ثم قال أهل الجنة ثلاثة امام مقسط ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذى قربى ومسلم ورجل غنى عفيف متعفف متصدق واهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر « 1 » له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون بذلك أهلا ولا مالا ورجل ان أصبح أصبح يخادعك « 2 » عن أهلك ومالك ورجل لا يخفى له طمع وان دق الا ذهب به والشنظير « 3 » وذكر البخل والكذب والله اعلم أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال لما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين بدا باهل بيته فشقّ ذلك على المسلمين فانزل الله تعالى(1/4873)
وَ اخْفِضْ جَناحَكَ أى لئنّ جانبك لِمَنِ اتَّبَعَكَ مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد ان ينحط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بيان لمن اتّبعك لان من اتّبع أعم ممن اتبع الدين أو غيره أو للتبعيض على ان المراد بمن اتبعك كمال الاتباع وبالمؤمنين أعم منهم ومن عصاة المؤمنين كما يدل عليه قوله
فَإِنْ عَصَوْكَ فى بعض الأمور فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعنى برئ مما تعملون من المعاصي والسيئات وليس فيه براءة من أنفسهم
وَ تَوَكَّلْ قرأ أهل المدينة والشام فتوكّل بالفاء وكذا فى مصاحفهم على انه بدل من قوله فقل انّى برئ ممّا تعملون والباقون بالواو عطفا على قوله واخفض جناحك والتوكل تفويض امره إلى غيره
_________
(1) لا زبر له أى لا عقل له يزبره وينهاه عن الاقدام على ما لا ينبغى وروى بعضهم لا زبر لهم بالياء المثناة من تحت فسرده انه لا راى له والمحفوظ بالباء الموحدة 12 منه رحمه الله
(2) وفى الأصل ورجل ان أصبح مخادعك إلخ ولا يستقيم 12 الفقير الدهلوي؟.
(3) وفى مجمع البحار الشنظير بكسر شين وسكون نون الفحاش وهو السيئ الخلق 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 89
و ذالا يجوز عقلا وشرعا الا على من كان قادرا على نفعه ودفع الضرر عنه سميعا بأقواله بصيرا بأحواله عليما بعاقبة امره رقيبا عليه ولذلك قال عَلَى الْعَزِيزِ أى الغالب الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه الرَّحِيمِ الذي يرحم عليك وعلى اتباعك
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
داعيا للناس إلى التوحيد ومجاهدا فى سبيل الله أو المراد حين تقوم إلى الصلاة كذا قال المفسرون(1/4874)
وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ عطف على الضمير المنصوب فى يراك يعنى ويرى تقلبك فى صلاتك فى حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك أو فى محل تقوم يعنى يراك حين تقوم وحين تقلبك وقال عطية وعكرمة عن ابن عباس فى الساجدين أى فى المصلين وقال مقاتل أى ومع المصلين فى الجماعة يعنى يراك حين تصلى وحدك وحين تصلى مع المصلين فى الجماعة وقال مجاهد يرى تقلب بصرك فى المصلين فانه كان يبصر من خلفه كما كان تبصر من امامه. روى البغوي عن أبى هريرة ان رسول الله صل الله عليه وسلم قال هل ترون قبلتى هاهنا فو الله لا يخفى على خضوعكم انى لاراكم من وراء ظهرى وقال الحسن تقلبك فى الساجدين أى تصرفك فى ذهابك ومجيئك فى أصحابك المؤمنين وقال سعيد بن جبير يعنى وتصرفك فى أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك والساجدون هم الأنبياء وقيل معناه ترودك فى تصفح احوال المتهجدين قال البيضاوي روى انه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة وانما ذكر تقلبه فى الساجدين من أحواله لكونه من اسباب الرحمة المقتضية للتوكل على من يتصف به - وقال عطاء عن ابن عباس أراد تقلبك فى أصلاب الآباء من نبى إلى نبى لكن فى هذا التأويل ليس كمال المدح لاشتراك قريش بل جميع الناس فيه بل الاولى ان يقال المراد منه تقلبك من أصلاب الطاهرين الساجدين لله إلى أرحام الطاهرات الساجدات ومن أرحام السجدات إلى أصلاب الطاهرين أى الموحدين والموحدات حتى يدل على ان اباء النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا مؤمنين كذا قال السيوطي وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي (شعر) : -
و ينقل أحد نورا عظيما تلألا فى وجوه الساجدين
تقلب فيهم قرنا فقرنا إلى ان جاء خير المرسلين(1/4875)
و ممّا يؤيد هذا التأويل ما رواه البخاري فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه -
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 90
و روى مسلم من حديث واثلة بن الا سقع قوله صلى الله عليه وسلم ان الله اصطفى من ولد ابراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة واصطفى من بنى كنانة قريشا واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفائى من بنى هاشم وروى البيهقي فى دلائل النبوة من حديث انس قال ما افترق الناس فرقتين الا جعلنى الله من خيرهما فاخرجت من بين ابوىّ ولم يصبنى شىء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح لم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبى وأمي فانا خيركم نفسا وخيركم أبا - وقد صنف السيوطي رحمه اللّه فى اثبات ايمان اباء النبي صلى الله عليه وسلم اجمالا وتفصيلا كتابا وذكر فيه ما له وما عليه ولخصلت منه رسالة فليرجع إليها
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بأقواله الْعَلِيمُ بأفعاله ونيّاته وعواقب أموره فهو الحقيق بالتوكل.
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ متصل بقوله وما تنزّلت به الشّياطين جوابا عن قولهم تنزل عليه شيطان. ثم بين فقال
تَنَزَّلُ فى الموضعين مضارع من التفعل بإسقاط احدى التاءين عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ كثير الافك أى الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم غير مطيع لله تعالى ففيه بيان ان محمدا لا يصح ان يكون من يتنزل عليه شيطان بوجهين أحدهما انه انما يتنزل على شرير كذاب كثير الإثم لاشتراط التناسب بين المفيض والمستفيض ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك وثانيهما قوله(1/4876)
يُلْقُونَ السَّمْعَ إلى الشياطين فيتلقون منهم أشياء فيضمون إليها أشياء على حسب تخيلاتهم لا يطابق أكثرها الواقع وذلك قوله تعالى وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فانه يخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وكلما يخبر بشئ يطابق الواقع لا محالة والجملة صفة لا ثيم أو استيناف عن عائشة قالت سال أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انهم ليسوا بشئ قالوا يا رسول الله فانهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنّى فيقرها « 1 » فى اذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها اكثر من مائة كذبة متفق عليه وعنها قالت سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول ان الملائكة تنزل فى العنان وهو السحاب فيذكر الأمر الذي قضى فى السماء فتسترق الشياطين السمع فيسمعه
_________
(1) فيقرها قال فى مجمع البخار القرر وبدك الكلام فى اون المخاطب حتى يفهمه وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته فان ردّدت قلت قرقرت 12 فهو مضاعف من باب النصر الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 91(1/4877)
فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم رواه البخاري وعن أبى هريرة ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترفوا السمع ومسترقا لسمع هكذا بعضه فوق بعض (و وصفه سفيان يكفه فحرفها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الاخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما يلقيها قبل ان يدركه فيكذب معها مائة كذبه فيقال أ ليس قد قال لنا يوم كذا كذا ويوم كذا كذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء رواه البخاري وعن ابن عباس رض عن رجل من الأنصار انهم بيناهم جاوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم واستنار فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه واله وسلم ما كنتم تقولون فى الجاهلية إذا رمى مثل هذا قالوا الله ورسوله اعلم كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى امرا سبح جملة العرش ثم سالج أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم عمّا قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا فيخطف الجنّ السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون فما جاءو ا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون - رواه مسلم واللّه اعلم - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس قال تهاجا رجلان على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أحدهما من الأنصار والاخر من قوم آخرين وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فانزل اللّه تعالى(1/4878)
وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ كذا ذكر البغوي عن الضحاك قال وهى رواية عطية عن ابن عباس واخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة نحوه وقال اكثر المفسرين أراد به شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر مقاتل أسماءهم فقال عبد اللّه بن زبير السهمي وهبيرة بن أبى وهب المخزومي وشافع بن عبد مناف وأبو عزة عبد اللّه بن عمر الجمحي وامية بن أبى الصّلت الثقفي فتكلموا بالكذب والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد ويقولون اشعار أو يجمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيروون عنهم فذلك قوله تعالى والشّعراء يتّبعهم الغاوون هم الرواة الذين يروون هجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين وقال قتادة ومجاهد الغاوون هم الشياطين وهذه الجملة مستانفة لابطال
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 92
كون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا ويقرره قوله تعالى
أَ لَمْ تَرَ أيها المخاطب أَنَّهُمْ أى الشعراء فِي كُلِّ وادٍ من اودية الكلام كالمدح والذم والافتخار وبيان الحب والبغض وغيره الك - والوادي نوع من انواع الكلام يقال انا فى واد وأنت فى واد اخر يَهِيمُونَ جملة الم تر تعليل لما سبق والهائم الذاهب على وجهه بحيث لا يقف على حد يعنى يبالغون فى الكلام كل المبالغة لا يبالون الكذب واكثر مقدماتهم خيالية لا حقيقة لها قال قتادة يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل فى كل واد يهيمون أى على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون القوافي.(1/4879)
وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أى يكذبون كثيرا فى أشعارهم ولمّا كان اعجاز القرآن من جهة النظم والمعنى وكانوا يقدحون فى المعنى بانه ممّا تنزّلت به الشّياطين وفى اللفظ بانه من جنس الشعر رد اللّه سبحانه قولهم ببيان المباينة والمضادة بين حال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحال الكهنة والشعراء عن أبى هريرة رضى اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لان يمتلى جوف قيحا حتى يفسده خيرا له من ان يمتلى شعرا رواه البخاري ومسلم واحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وروى عن أبى سعيد الخدري قال بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج « 1 » إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لان يمتلى جوف رجل قيحا خير له من ان يمتلى شعرا عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون « 2 » قالها ثلاثا. رواه مسلم يعنى الغالون فى الكلام وعن أبى ثعلبة الخشتى ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال ان أحبكم إلى وأقربكم منى يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وان أبغضكم الىّ وأبعدكم منى مساويكم أخلاقا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون. رواه البيهقي فى شعب الايمان قال فى النهاية الثرثارون الذين يكثرون الكلام تكلفا وخروجا عن الحق والمتشدقون المتوسعون فى الكلام من غير احتياط واحتراز قلت وهذا صفة الشعراء وروى الترمذي عن جابر نحوه وفى رواية قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتقيهقون قال المتكبرون وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مررت ليلاة اسرى بي بقوم يقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبرئيل من هؤلاء قال خطباء أمتك الّذى يقولون ما لا يفعلون رواه الترمذي
_________
((1/4880)
1) بالعرج قال فى مجمع البحار العرج بفتح فسكون جبل بطريق مكة وهو أول تهامة 12 الفقير الدهلوي
(2) المتنطعون قال فى مجمع البحار هم المتعمقون الغالون فى الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل فى كل تعمق قولا وفعلا 12 الفقير دهلوى
فسير المظهري ، ج 7 ، ص : 93
و قال هذا حديث غريب والله اعلم أخرج ابن أبى حاتم عن عروة قال لما نزلت والشّعراء يتّبعهم الغاوون إلى قوله ما لا يفعلون قال عبد الله بن رواحة قد علم الله انى منهم فانزل الا الّذين أمنوا إلى اخر السورة واخرج هو وابن جرير والحاكم عن أبى الحسن البراد « 1 » قال لما نزلت والشعراء يتّبعهم الغاوون الآية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فقالوا يا رسول الله والله لقد انزل الله هذه الآية وهو يعلم انا شعراء هلكنا فانزل اللّه الّا الّذين أمنوا الآية فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم(1/4881)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً « 2 » أى لم يشغلهم الشعر عن الإكثار فى الذكر ويكون اكثر أشعارهم فى الذكر والتوحيد والثناء على الله والحث على طاعته قال أبو يزيد الذكر الكثير ليس بالعدد لكنه بالحضور وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ولو كان فى كلامهم هجو لاحد أرادوا به الانتصار مما هجاهم ومكافحة هجاء المسلمين روى البغوي فى شرح السنة والمعالم عن كعب بن مالك انه قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان الله تعالى قد انزل فى الشعر ما انزل قال النبي صلى الله عليه وسلم ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والّذى نفسى بيده لكانّما ترمونهم به نضح النبل. وفى الاستيعاب لابن عبد البر انه قال يا رسول الله ماذا ترى فى الشعر قال ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه وروى البغوي عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فى عمرة القضاء وابن رواحة يمشى بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفى حرم الله يقول الشعر فقال النبي صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر فلمى اسرع فيهم من نضح النبل وفى الصحيحين عن البراء بن عازب قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت اهج المشركين فان جبرئيل معك - وكان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول لحسان أجب عنى اللهم أيده بروح القدس - وروى مسلم عن عائشة ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال اهجوا قريشا فانه أشد عليهم من رشق النبل. وروى عنها أيضا قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان ان روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن اللّه ورسوله وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هجاهم حسان فشفا وأشفي.(1/4882)
و روى البخاري عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا فى المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو ينافح ويقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ان
_________
(1) هكذا فى الأصل وفى تهذيب التهذيب أبو الحسن مولى بنى نوفل. أبو محمد عفا اللّه عنه
(2) عن ابن عباس الّا الّذين أمنوا وعملو الصّلحت وذكروا اللّه كثيرا قال أبو بكر وعمر وعبد الله بن رواحة 14 منه رحمة اللّه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 94
اللّه يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - وروى البغوي عن عائشة ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال اهجوا قريشا فانها أشد عليهم من رشق النبل فارسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم وهاجهم فلم يرض فارسل إلى كعب ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلمّا دخل عليه حسان قال قد ان لكم ان ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثمّ اولع لسانه يحركه فقال والذي بعثك بالحق لافرينهم بلساني فرى الأديم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجل فان أبا بكر اعلم قريش بانسابها وان لى فيهم نسبا حتى يلخص لك فيهم نسبى فاتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول اللّه قد لخص لى نسبك فالّذى بعثك بالحق لاسلنك كما يسلى الشعر من العجين قال حسان شعر
هجوت محمّدا فاجبت عنه وعند اللّه فى ذاك الجزاء
هجوت محمّدا برّا حنيفا « 1 » رسول اللّه شيمته الوفاء
فان أبى ووالده وعرضى لعرض محمد منكم وفاء
أمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء
و جبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
و عن ابن سيرين مرسلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك هبه فانشده فقال لهو أشد عليهم عن وقع النيل.
((1/4883)
فائدة) : - ثبت من هذه الأحاديث ان الشعر لا بأس به ما اجتنب الكذب وأشباهه من المحرمات روى الدار قطنى عن عائشة قالت ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ورواه الشافعي عن عروة مرسلا وذكر البغوي انه قالت عائشة الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح - عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد الا كلّ شىء ما خلا اللّه باطل. متفق عليه وعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال هل معك من شعر امية بن الصلت شىء قال نعم قال هيه فانشدته بيتا فقال هيه ثم أنشدته بيتا فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت. رواه مسلم وعن جندب ان النبي صلى الله عليه وسلم كان فى بعض المشاهد وقد دميت إصبعه فقال
_________
(1) وفى تفسير البغوي تفيا 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 95
هل أنت الا إصبع دميت. وفى سبيل اللّه ما لقيت متفق عليه وعن الشعبي قال كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان على أشعر الثلاثة - وروى عن ابن عباس انه كان ينشد الشعر فى المسجد ويستنشد فروى انه دعا عمرو بن ربيعة فاستنشده القصيدة أولها شعر
أمن ال نعمى أنت غاد ومبكر غدة غدام رائح فمهجر(1/4884)
فانشد ابن أبى ربيعة القصيدة إلى آخرها وهى قريب من سبعين بيتا ثم ان ابن عباس أعاد القصيدة جميعا وكان يحفظها بمرة واحدة (فائده) : - الشعر طاعة ان كان فيه ذكر الله أو علما من علوم الدين أو نصحا ووعظا للمسلمين عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من الشعر حكمة رواه البخاري وعن الصخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان من البيان سحرا وان من العلم جهلا وان من الشعر حكما واف من القول عيالا رواه أبو داؤد وعن ابن عباس انّ من البيان سحرا وانّ من الشّعر حكما. رواه أبو داود واحد وقد مرّ فيما سبق ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه - وروى أبو داود والنسائي والدارمي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال جاهدوا المشركين باموالكم وأنفسكم والسنتكم.(1/4885)
و بعد ما ذكر اللّه سبحانه شعراء المشركين والمسلمين أوعد شعراء المشركين فقال وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أى أشركوا وهجوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَيَّ مُنْقَلَبٍ مصدر أو ظرف منصوب بما بعده قدمه لاقتضاء الاستفهام صدر الكلام والجملة الاستفهامية قائم مقام المفعولين لسيعلم والاستفهام للتهديد يَنْقَلِبُونَ يعنى أى رجوع أى مرجع يرجعون بعد الموت قال ابن عباس إلى جهنم والسعير قال البيضاوي تهديد شديد لما فى سيعلم من الوعيد البليغ وفى الّذين ظلموا من الإطلاق والتعميم وفى اىّ منقلب من الإيهام والتهويل - والمعنى ان الظالمين يطمعون ان ينقلبوا من عذاب وسيعلمون ان ليس لهم وجه من وجوه الانقلاب أخرج ابن أبى حاتم عن عائشة رضى الله عنها قالت كتب أبى فى وصية سطرين بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اوصى أبو بكر بن أبى قحافة عند خروجه من الدنيا حين يومن الكافر ويتقى الفاجر ويصدق الكاذب انى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فان يعدل فذاك ظنى به ورجائى فيه وان يجر ويبدّل فلا اعلم الغيب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 96
و سيعلم الّذين ظلموا اىّ منقلب ينقلبون 5 الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد واله أصحابه أجمعين. قد وقع الفراغ من تفسير سورة الشعراء من التفسير المظهرى يوم الخميس رابع رجب من السنة الخامسة بعد الف ومائتين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية ونتلوه سورة النمل ان شاء اللّه تعالى.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 97
سورة النّمل
مكّيّة وهى ثلاث وتسعون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/4886)
طس تِلْكَ اشارة إلى آيات السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ أى اللوح المحفوظ وإبانته انه خط فيه ما هو كائن فهو تنبيه للناظرين فيه وتأخيره هاهنا باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه فى الحجر باعتبار سبقه على القرآن فى الكتابة. أو المراد به القرآن المبين للاحكام من الحلال والحرام وغير ذلك ومبين لصحته باعجازه وعطفه على القرآن كعطف احدى الصفتين على الاخرى وتنكيره للتعظيم. نكر الكتاب هاهنا وعرفه فى الحجر ونكر القرآن هناك وعرف هاهنا لان القرآن والكتاب اسمان علمان لما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ووصفان له لأنه يقر أو يكتب فحيث جاء بلفظ التعريف أريد به العلم وحيث جاء بالتنكير أريد به الوصف.
هُدىً وَبُشْرى منصوبان حالان من القرآن والعامل فيهما معنى الاشارة أو مجروران بدلان منه أو مرفوعان خبران آخران لتلك أو خبران لمحذوف أى هى هدى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بهدى وبشرى على سبيل التنازع أو ببشرى فقط يعنى هدى لجميع الحلق فمن لم يهتد فبسوء اختياره وبشرى للمؤمنين خاصة.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أى يحافظون على فرائضها وسننها وآدابها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تمّة الصلة والواو للحال أو للعطف وتغير النظم بتقديم المسند إليه على الفعل للدلالة على قوة يقينهم وثباته وقصد الحصر يعنى ما يوقنون بالاخرة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 98
حق الإيقان الا هؤلاء الجامعين بين الايمان والأعمال الصالحة فان الجهد فى الأعمال دليل على ايقانهم. وجاز ان يكون خارجا عن الصلة استينافا كما يدل عليه تغير النظم يعنى الّذين كذلك هم الموقنون لا غير.(1/4887)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بتسليط النفس وجعلها مشتهاة لها فَهُمْ يَعْمَهُونَ لا يدركون عواقب أمرها جملة زيّنّا خبر لان وقولهم فهم يعمهون معطوف عليها أو هذا خبر لان والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط وزيّنّا حال من فاعل لا يؤمنون بتقدير قد وجملة انّ الّذين لا يؤمنون معترضة لبيان حال من نجاست المذكورين.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فى الدنيا اخبار بما يلحقهم يوم بدر من قتل واسر وذل وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ من غيرهم حيث أكرمهم الله من بين الناس حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يريد ان يطهرهم ويزكيهم ويوصلهم إلى أكرم الكرامات فى الدنيا والاخرة فاختاروا على هذا فى الدنيا القتل والاسر وفى الاخرة النار المؤيدة المؤصدة جملة أولئك إلى آخرها وما عطف عليها استيناف لبيان عاقبة أمرهم.
وَإِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عطف على آيات القرآن وتنكير الحكيم والعليم للتعظيم يعنى من عند اىّ حكيم واىّ عليم لا يدرك كنه علمه ولا حكمته أحد والجمع بين الوصفين مع ان العلم داخل فى الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والاشعار بان علوما منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والاخبار بالمغيبات وهذا تمهيد لما يذكر فيه من القصص منها ما قال.(1/4888)
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ فى مسيره من مدين إلى مصر الظرف متعلق باذكر وجاز ان يكون متعلقا بعليم إِنِّي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها آنَسْتُ أى أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ أى امكثوا مكانكم ساتيكم ذكر هاهنا ساتيكم على التيقن وفى القصص لعلىّ اتيكم على الترجي لان الراجي على تقدير حصول رجائه يعد بالإتيان قطعا اشعارا على غرفه وجزمه بما يعدبه وفيه دليل ع لى جواز نقل الحديث بالمعنى وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والترويح مما يؤدى معناه مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لأنه قد ضل الطريق والسين للدلالة على بعد المسافة الوعد بالإتيان وان ابطا أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قرأ الكوفيون « و يعقوب - أبو محمد » بالتنوين على ان قَبَسٍ بدل منه اوصف له فان الشهاب شعلة من نار ساطعة والقبس مشعلة يقتبس من معظم النار كذا فى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 99
القاموس. والباقون بلا تنوين باضافة الشهاب إلى القبس والاضافة بيانية لجواز اطلاق القبس على الشهاب. وقال البغوي الشهاب والقبس متقاربان فى المعنى فان القبس هو العود الذي أحد طرفيه تار وليس فى طرفه الاخر نار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ افتعال من الصلى وهو الإيقاد بالنار أى راجيا ان تستدفئوا بها من البرد وكان فى شدة الشتاء.(1/4889)
فَلَمَّا جاءَها يعنى لمّا قرب موسى من النار التي راها يقال بلغ فلان المنزل إذا قرب منه وان لم يبلغه بعد نُودِيَ أَنْ بُورِكَ ان مفسرة لما فى النداء معنى القول أو التقدير بان بورك على انها مصدرية أو مخففة من الثقيلة والتخفيف وان اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره فى احكام كثيرة مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها روى عن ابن عباس رض وسعيد بن جبير والحسن معناه قدس من فى النّار وهو اللّه سبحانه على معنى انه تعالى نادى موسى وأسمعه كلامه قيل كان ذلك نوره عزّ وجلّ حسبه موسى نارا فلذلك ذكر موسى بلفظ النار روى مسلم عن أبى موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال ان الله لا ينام ولا ينبغى له ان ينام يخفض القسط ويرفعه برفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفت لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.(1/4890)
و قال سعيد بن جبير كانت النار بعينها وهى احدى حجب الله تعالى كما ورد فى بعض الروايات حجابه النار لو كشفها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وعلى هذا التأويل هذه الآية من المتشابهات كقوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام ولمّا كان فى هذا الكلام إيهام التحيز والتشبيه نزه الله سبحانه نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وروى مجاهد عن ابن عباس انه قال بوركت النار وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رض انه قال سمعت ابيّا يقول ان بوركت النار ومن حولها وكلمة من على هذا زائدة وبورك النار وبورك فى النار معناهما واحد فان العرب يقول بارك الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد والمعنى بورك فى النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى عليه السلام ويسمى النار مباركة كما يسمى البقعة مباركة قال الله تعالى فى البقعة المباركة وقيل معناه بورك من فى طلب النار أو من فى مكان النار بحذف المضاف وهو موسى عليه السلام ومن حولها وهم الملائكة الذين حول النار حاضرين هناك فهذه تحية من اللّه لموسى بالبركة كما حيّا ابراهيم على السنة الملائكة حين دخلوا على ابراهيم فقالوا رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت وقيل من فى النار
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 100
هم الملئكة وذلك ان النور الذي راه موسى كان فيه ملائكة لهم رجل بالتسبيح والتحميد والتقديس ومن حولها موسى لأنه كان بالقرب منها وقيل من حولها عام شامل لكل من فى ذلك الوادي وحواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وتصدير الخطاب بذلك بشارة بانه قد قضى له امر عظيم ينتشر بركته فى أقطار الشام وعلى هذه التأويلات قوله تعالى وسبحن اللّه ربّ العلمين لدفع توهم التشبيه الناشي من سماع كلامه وللتعجيب من عظم ذلك الأمر.(1/4891)
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الضمير الشأن اسم ان وانا اللّه خبرها أو الضمير للمنادى اسمها وانا خبرها واللّه عطف بيان له والعزيز الحكيم صفتان له ممهدتان لما أراد ان يظهره يعنى انا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كتقليب العصا حيّة الفاعل لكل ما يفعله بحكمة وتدبير.
وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بورك داخل فى حيزان المفسرة يدل عليه قوله تعالى فى غير هذه السورة وان الق عصاك بعد قوله ان يا موسى انّى انا اللّه بتكرير ان والتقدير نودى هذا المقول وهذا المقول فهو من قبيل عطف المفرد على المفرد وليس من عطف الإنشاء على الخير فَلَمَّا رَآها أى راى موسى عصاه تَهْتَزُّ تتحرك بالاضطراب كَأَنَّها جَانٌّ أى حية خفيفة فى سرعة سيره وكثرة اضطرابه وَلَّى أى هرب موسى من الخوف مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أى لم يرجع من عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرار يا مُوسى لا تَخَفْ جملة النداء وما بعده فى محل النصب على تقدير القول يعنى قلنا يا موسى لا تخف من هذه الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ يعنى لاجل قربهم بي واستقرارهم بحضرتي الْمُرْسَلُونَ الجملة فى مقام التعليل لعدم الخوف يعنى الذين يبلغون رسالاتى فانهم يخشوننى وحدي ولا يخشون أحدا غيرى فلا منافاة بين هذه الآية وبين قوله عليه السلام انا أخشاكم بالله أو المعنى لا يخافون مطلقا عند نزول الوحى لفرط الاستغراق أو المعنى انهم لا يكون لهم سوء عاقبة فيخافون.(1/4892)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قيل هذا استثناء متصل وفيه اشارة إلى موسى حيث قتل القبطي والمعنى لا يخيف الله أنبياءه من أحد غيره الا بذنب أصابه أحدهم والمراد بالظلم الذنب الصغيرة أو ترك الأفضل وعلى هذا قوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ يعنى توبة بعد ذنب عطف على ظلم داخل فى الصلة وانما قيد بهذا إيذانا بانه لا يحوز صدور ذنب من الأنبياء وان كانت صغيرة أو قبل النبوة الا مستعقبا للتوبة فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ معطوف على بدل تقديره فانى اغفر له وارحمه وقيل قوله ثم بدل إلى آخره كلام مبتدا معطوف على محذوف بيان لحال من ظلم من الناس كافة تقديره فمن ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فانّى غفور رّحيم. وقيل الاستثناء منقطع لان المرسلين
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 101
لا يجوز منهم الظلم وعلى انقطاعه تقديره لكن من ظلم من الناس وهم غير المرسلين فانهم يخافون غير الله تعالى وقيل هو استدراك لما يختلج فى الصدور من نفى الخوف عن كلهم مع ان فيهم من فرطت منه صغيرة فالتقدير لكن من صدر منه صغيرة منهم فانه وان فعلها فقد اتبعها ما يبطلها واستحق به من الله مغفرة ورحمة فهو أيضا لا يخاف غير الله - لكن هذين التأويلين يقتضيان ان موسى لم يخف من الحية وذلك غير واقع لقوله فلمّا راها - ولّى يدبّرا ولم يعقّب وقوله تعالى فاوجس فى نفسه خيفة موسى الا ان يراد بنفي الخوف من الأنبياء ففى مطلق الخوف منهم لانتقاء سوء العاقبة نظيره قوله تعالى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لكن سوق الكلام يأبى عنه إذ الموجود المنهي عنه انما هو الخوف من الحية وقال بعض العلماء الا هاهنا بمعنى ولا يعنى لا يخاف لدىّ المرسلون ولا المذنبون التائبون أى هم صلحاء المؤمنين فان غير المعصوم لا يخلو عن ذنب لكن من استدرك ذنبه بالتوبة صار كمن لا ذنب له وهذا التأويل أيضا يناسب نفى مطلق الخوف لا خوف غير اللّه فقط كالتأويلين السابقين « 1 » .(1/4893)
وَ أَدْخِلْ يَدَكَ عطف على الق عصاك فِي جَيْبِكَ أى جيب قميصك وهو طرقه كذا فى القاموس وقيل الجيب هو القميص لأنه يجاب أى يقطع قال البغوي قال أهل التفسير كان عليه مدرعة من صوف لاكم لها ولا آزر تَخْرُجْ أى يدك مجزوم فى جواب الأمر بتقدير ان تدخل يدك تخرج بَيْضاءَ نيرة تغلب نور الشمس حال من الضمير المستتر فى تخرج مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أى كائنا من غير برص صفة لبيضاء أو حال مرادف له أو حال من الضمير فى بيضاء فِي تِسْعِ آياتٍ يعنى هاتان آيتان لك فى تسع آيات أى فى جملتها أو معها على التسع هى فلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والذم والطمسة والجذب فى بواديهم والفقصان
_________
((1/4894)
1) أقول هذا البحث الطويل لا يجدى شيئا ولا يشفى غليل الذكي للمتفطن والحق ما قاله حكيم الامة المحمدية خاتم المفسرين والمحدثين الولي الكامل الشيخ التهانوى نور اللّه مرقده فى تفسير المسمى ببيان القرآن فى تفسير قوله تعالى خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى ما نصه. اور موسى عليه السلام كادر جانا بعض نى كما هى كه طبعى هى جو كسى طرح جلالت شاركى منافى نهين اور بعض نى كها هى كه جو حادثه مخلوق كى جانب سى هواس مين تونه درنا كمال هى جيسى ابراهيم عليه السلام اتش نمرودى سى نهين درى اورجو امر خالق كى طرف سى هواس مين درناهى كمال هى كه وه فى الحقيقة حق تعالى سى درنا هى جيسى هواتيز هونى كى وقت جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاگهبرا جانا حديثون مين أيا هى سو چونكه أس تبدل مين مخلوق كاواسطه نه تها أس سى درگئى كه يه كوئى قهر الهى نهو وقال رحمه الله تعالى فى رسالته المسماة بمسائل السلوك من كلام ملك الملوك فى تفسير هذه الآية قال العبد الضعيف فيه بقاء الطبائع فى الكاملين حيث خاف عليه السلام خوفا طبعيا وفيه الأمر بتعديل الطبعيات بالعقليات انتهى فالحاصل وفه عليه السلام كان من الله تعالى الا من غيره أو كان طبعيا والمنتهى عنه هو الخوف العقلي فلا منافاة فلا حاجة إلى الدفع 12 لفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 102
فى مضارعهم ومن عدّ العصا واليد مع التسع عدّ الأخيرين واحدا ولم يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون أو التقدير اذهب فى تسع آيات على انه استيناف بالإرسال فيتعلق به قوله إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى الأولين تقدير هاهنا مبعوثا أو مرسلا على انه حال من فاعل الق وادخل على سبيل التنازع إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للارسال ..(1/4895)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا يعنى جاءهم موسى بها مُبْصِرَةً أى بينة واضحة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول اشعارا بانها لفرط وضوحها للابصار صارت بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر أو ذات بصر يبصر بها قالُوا يعنى فرعون وقومه هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته وجملة لمّا جاءتهم معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على نودى تقديره نودى ان الق عصاك وادخل يدك فى جيبك اذهب فى تسع آيات إلى فرعون وقومه أو مبعوثا إليهم اذهب إليهم فالقى موسى عصاه وادخل يده فى جيبه ثم ذهب إلى فرعون قومه فلمّا جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين.
وَجَحَدُوا بِها أى أنكروا بايتنا انّها من عند الله « 1 » عطف على قالوا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أى وقد استيقنتها لان الواو الحال والاستيقان ابلغ من الإيقان ظُلْماً وَعُلُوًّا منصوبان على العلة أو حالان من فاعل جحدوا يعنى لاجل الظلم والتكبر أو ظالمين أنفسهم باستيجارهم النار المؤبدة متكبرين عن الايمان بما جاء به موسى فَانْظُرْ أيها المخاطب نظر استبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف خبر لكان قدم عليه لاقتضائه الصدارة والجملة مفعول لانظر يعنى انظر كيفية عاقبتهم حيث اغرقوا فى الدنيا فادخلوا نارا بعد الموت ..
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً بذات اللّه سبحانه على حسب الطاقة البشرية وبصفاته وأحكامه وبأحوال المبدا والمعاد ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ولانه الحديد وَقالا شكرا للنعمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالنبوة والكتاب وغير ذلك عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عطفه بالواو اشعارا بان ما قالا بعض ما أتيا به فى مقابلة النعمة فهو معطوف على محذوف تقديره فعلا على حسب ما علما وعرفا حق النعمة وقالا هذا القول ولولا تقدير المحذوف لكان المناسب الفاء موضع الواو كما فى قولك أعطيته(1/4896)
_________
(1) قال البيضاوي رحمة اللّه تعالى وحجدوا بها أى فى ظاهر أمرهم إلخ فلا يردان الجحود بعد اليقين مستبعد 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 103
نشكر وفى الآية دليل على شرف العلم وكونه موجبا للفضل وتقدم العلماء على من سواهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما انما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ يحظ وافر. رواه احمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديث كثير بن قيس وسماه الترمذي قيس بن كثير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم الحديث رواه الترمذي عن أبى امامة الباهلي وفيها تحريض على الشكر على نعمة العلم وعلى ان يتواضع ويعتقد بانه وان فضل على كثير فقد فضل عليه كثير وفوق كلّ ذى علم عليم - .(1/4897)
وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ نبوته وملكه وعلمه كذا أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة واحتجّت الروافض بهذه الآية على ان الأنبياء يورثون كغيرهم وهى حجة عليهم لا لهم لدلالتها على انه ورث سليمان دون سائر أولاد داود وقد كان لداود تسعة عشر ابنا - والإرث عبارة عن ان ينقل شىء إلى أحد بعد ما كان لغيره من غير عقد جرى بينهم ولا ما يجرى مجرى العقد سواء كان بينهما قرابة اولا قال الله تعالى وأورثناها بنى إسرائيل وأورثكم ارضهم وديارهم - ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم لا نورث انه لا يملك أحد من الناس مال نبى بعد موته بل يكون ماله موقوفا محبوسا على ملك اللّه تعالى قال البغوي اعطى سليمان ما أعطي داؤد وزيد له تسخير الريح والشياطين وقال وقال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضي منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان شاكرا لنعم الله قلت وكذا داود وَقالَ سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فيه شكر لنعمة الله عليه ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة. والنطق والمنطق عبارة عما يعبر به عما فى الضمير مفردا كان أو مركبا فى القاموس نطق ينطق نطقا ومنطقا ونطوقا تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني ولما كان فهم المعاني للناس منحصرا فيما يتلفظ به الإنسان زعموه من خواص الإنسان. ولمّا كان سليمان عليه السلام يفهم من صوت الطير ما فى ضميرها كما كان يفهم من كلام الإنسان سماه منطقا قال البغوي روى عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول. لدوا للموت وابنوا للخراب.(1/4898)
و صاحت فاختة فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال انها تقول ليت هذا الخلق لم يخلق وصلح طاءوس فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول استغفروا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 104(1/4899)
لله يا مذنبون قال وصاحت طيطوى « 1 » فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال فانها يقول كل هى ميّت وكل جديد بال وصلح خطاف فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال انه يقول قدموا خيرا تجدوه وهدرت حمامة فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال تقول سبحان ربى الا على ملأ سماواته وارضه وصاح قمرى فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول سبحان ربى الا على قال والغراب يدعوا على العشار والحدأة تقول كل شىء هالك الا اللّه والقسطاة تقول من سكت سلم والببغاء يقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان ربى القدوس والبازي يقول سبحان ربى وبحمده والضفدعة سبحان المذكور بكل لسان. وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول الرحمان على العرش استوى. وعن فرقد السيحى قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال أ تدرون ما يقول هذا البلبل قالوا الله ونبيه اعلم قال انه يقول أكلت ونصف تمرة فعلى الدنيا العفا - وروى ان جماعة من اليهود قالوا لابن عباس انا سائلون عن سبعة أشياء فان اخبرتنا امنّا صدّقنا قال سلوا تفقها ولا تسئلوا تعنتا قالوا أخبرنا ما يقول القنبر « 2 » فى صفيره والديك فى صقيعه والضفدع فى نقيفه والحمار فى تهيقه والفرس فى صهيله وما ذا يقول الزرزور والدراج. قال نعم اما القنبر فيقول اللهم العن مبغضى محمد ومبغضى ال محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلون والضفدع يقول سبحان المعبود فى لجج البحار واما الحمار فيقول اللّهم العن الغشار واما الفرس يقول إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح واما الزرزور يقول اللهم انى أسئلك قوت يوم بيوم واما الدراج يقول الرحمان على العرش استوى فاسلم اليهود وحسن إسلامهم.(1/4900)
و روى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن على عليهم السلام قال إذا صاح النسر قال ابن آدم عشق ما شئت آخره الموت وإذا صاح العقاب قال السلامة فى البعد من الناس وإذا صاح
القنبر قال الهى العن مبغضى ال محمد وإذا صاح الخطاف قرأ الحمد للّه ربّ العالمين ويمد الضّالّين كما يمد القاري. قلت ما روى عن كعب شرح أصوات الطيور عن سليمان عليه السلام وكذا ما روى عن مكحول وعن فرقد عنه عليه السلام يحتمل حمله على ان كل واحد منها واقعة هان ولا يدل على انحصار نطقهم فى الكلمات المذكورة وما قص الله تعالى فى هذه السورة قصة النمل والهدهد صريح فى انها تتكلم بكل ماسخ لها لكن ما روى من سوال اليهود وعن ابن عباس رضى الله عنه وجوابه إياهم يدل على انحصار مقالهم فيما ذكر فان صح هذا
_________
(1) طيطوى كنينوى ضرب من القطا أو غيره كذا فى القاموس 12 الفقير الدهلوي [.....]
(2) القنبر هكذا فى الأصل قال فى القاموس القبر كشكرّ وصرد طائر الواحدة بهاء ويقال القنبراءة قنابر 12 الفقير الدهلوي
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 105(1/4901)
الرواية لزم تأويلها والله اعلم وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ المراد به كثرة ما اولى كما يقال فلان يقصد كل أحد ويعلم كل شىء ومثله وأوتيت من كلّ شىء والضمير فى علّمنا وأوتينا له ولابيه عليهما السلام اوله ولاتباعه فان اتباعه يأخذون منه ما علمه الله وأعطاه اوله وحده تعظيما على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة. وقال ابن عباس المراد كل شىء من امر الدنيا والاخرة وقال مقاتل يعنى النبوة وو الملك وتسخير الشياطين والرياح إِنَّ هذا العطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعنى ليس هذا باستحقاق منّا أو جزاء لاعمالنا بل تفضل من الله تعالى أو المعنى زيادة ظاهرة على من عدانا. وهذا القول وارد على الشكر كقوله صلى الله عليه واله وسلم انا سيد ولد آدم ولا فخر آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة امتثالا لقوله تعالى وامّا بنعمة ربّك فحدّث قال البغوي روى ان سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبع مائة سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا الجن والانس والطير والدوابّ والسباع واعطى مع ذلك العلم بمنطق كل شىء وفى زمنه صنعت الصنائع العجيبة.(1/4902)
وَ حُشِرَ أى جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فى مسير له فَهُمْ يُوزَعُونَ أى يكفون ويحبسون أى يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وفيه اشارة إلى انهم مع كثرتهم لم يكونوا مبعدين. فى القاموس وزعته أى كففته ومنه الوزعة جمع وازع وهم المانعون من المحارم والكلب والزاجر والتوزيع القسمة والتفريق كالايزاع والتوزع وقال مقاتل يوزعون أى يساقون وقال السدىّ يوقضون قال محمد بن كعب كان معسكر سليمان عليه السلام مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للجن وخمسة وعشرون منها للانس وخمسة وعشرون منها للطير خمسة وعشرون منها للوحش وكان له الف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة منكوحة وسبع مائة سرية يأمر الريح العاصف فترفعه ويأمر الرخاء فتسيره فاوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض انى قد زدتّ فى ملكك انه لا يتكلم أحد من الخلائق الا جاءت به الريح وأخبرتك.
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ وقف الكسائي بالياء فقال وادي والباقون بغير ياء النَّمْلِ تعدية الإتيان بعلى اما لان إتيانهم كان من عال واما لان المراد قطعه من قولهم اتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره روى عن وهب بن منبه عن كعب كان سليمان إذا ركب حمل اهله وخدمه وحشمه وقد أخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع فى قدر منها عشر جزائر وقد اتخذ ميادين الدواب له امامه فيطبخ الطباخون ويخبز الخيارون ويجرى الدواب من بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوى فسار من إصطخر إلى اليمن فسلك مدينة رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال هذه دار هجرة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 106(1/4903)
نبى اخر الزمان طوبى لمن أمن به وطوبى لمن اتبعه وراى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فاوحى الله إلى البيت ما يبكيك فقال يا رب أبكاني ان هذا نبى من أنبيائك وقوم من أوليائك مرو أبى ولم يصلّوا عندى والأصنام تعبد حولى من دونك فاوحى الله إليه ان لاتبك فانى سوف املؤك وجوها سجدا وانزل فيك قرأنا جديدا أو ابعث منك نبيا فى اخر الزمان أحب انبيائى واجعل فيك عمارا من خلقى يعبدوننى وافرض على عبادى فريضة يدفون إليك دفيف « الدّفيف السير الغير الشديد كذا فى النهاية منه رح » النسور إلى وكرها ويجنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبده الشياطين ثم مضى حتى مرّ بواد السدير واد من الطائف فاتى على واد النمل هكذا قال كعب انه واد بالطائف وقال مقاتل وقتادة هو ارض بالشام وقيل هو واد كان يسكنه الجن وأولئك النمل مراكبهم قال فرق الحميرى كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب وقيل كالبخاتى والمشهور انه النمل الصغير قالَتْ نَمْلَةٌ قال الشعبي كانت تلك النملة ذات جناحين وقيل كانت نملة عرجا وقال الضحاك كان اسمها طاحية وقال مقاتل كان اسمها حذمى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لم يقل ادخلن لان الإنسان إذا تكلم وهو يرى غيره من الحيوانات غير عاقلة فيجعل لها ضمائر الجمادات كما يجعل للنساء ضمائرها الحاقا اياهن بغير ذوى العقول لضعف عقولهن واما الحيوانات إذا تكلم بعضها بعضا ترى أنفسها من ذوى العقول فتخاطب العقلاء فحكى الله سبحانه قول النملة كما قالت لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ نهى لهم عن الحطم والمراد نهيهن عن التوقف والبروز كيلا يؤدى إلى حطمهم اياهن كقولهم لا ارينك هاهنا أى لا تقف هاهنا فهو استيناف أو بدل من الأمر لا جواب له فان النون لا تدخله فى السعة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ انهم يحطمونكم ولو شعروا لم(1/4904)
يفعلوا كانها شعرت عصمة سليمان وأصحابه من الإيذاء عمدا. فويل للروافض لم يشعروا شعور النملة حتى نسبوا الظلم إلى اصحاب سيد الأنبياء - فان قيل كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على نساط بين السماء والأرض قيل كان بعض جنوده ركبانا ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم وقيل يحتمل ان يكون هذا قيل تسخير الريح لسليمان. وقال بعض أهل العرفان معناه لا يحطمنكم اشتغالكم بروية جنود سليمان وطمكه وما أعطاه الله من زهرة الحيوة الدنيا فيشغلكم عن ذكر الله ويهلككم فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال كذا قال مقاتل وذلك لما انه كلما كان يتكلم خلق الا حملت الريح فالقته فى مسامع سليمان.
فَتَبَسَّمَ سليمان عطف على محذوف تقديره فسمع سليمان مقالها وأدرك معناها ففرح بما سمع وأدرك ما لا يسمع ولا يدرك غيره وبوصفها إياه وجنوده بالعدل أو تعجب
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 107(1/4905)
من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها فتبسم سرورا أو تعجبا ضاحِكاً حال من فاعل تبسم يعنى تبسم مبالغا فى التبسم وأصلا إلى الضحك وجاز ان يكون مصدرا أى تبسم تبسما شديدا كأنَّه ضحك على طريقة قمت قائما قال الرجاج اكثر ضحك الأنبياء التبسم وقيل كان اوله التبسم وآخره الضحك. عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ضاحكا مستجمعا حتى ارى لهواته انما كان يتبسم رواه البخاري وعن عبد الله بن الحارث بن جزء ما رايت أحدا اكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي مِنْ قَوْلِها أى لاجل قول النملة فحبس جنوده حتى دخل النمل مساكنهم وَقالَ شكر الله وهضما لنفسه من أداء الشكر واستعانة من الله على شكره رَبِّ أَوْزِعْنِي قرأ ورش والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها والمعنى الهمنى قيل هذا أيضا بمعناه الحقيقي كما ان معناه الحبس والمنع كذا فى القاموس وقال البيضاوي معناه اجعلنى أزع شكر نعمتك عندى أى اكفه وارتبطه لا ينفلت عنى بحيث لا انفك عنه وقال بعض المحققين معناه اجعلنى بحيت أزع أى احبس نفسى عن الكفر وقيل معناه احبس نفسى عن كل شى غيرك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ فان الانعام على الوالدين وجعل أحد ولدا الخيار الناس نعمة عليه قال الله تعالى الحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شىء وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فى بقية عمرى وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس يريد مع ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب ومن بعدهم من الأنبياء.(1/4906)
وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ أى طلبها وبحث عنها والتفقد طلب ما فقد فلم يجد فيها الهدهد وكان سبب تفقده ان سليمان كان إذا نزل منزلا تظله جنده الطير من الشمس فأصابته من موضع الماء تحت الأرض كما يرى فى الزجاجة ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض فتجئ الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء. كذا أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه عنه قال سعيد بن جبير لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن ازرق يا وصاف انظر ما يقول ان الصبى يضع الفخ ويحثو عليه التراب فيجئ الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع فى عنقه فقال له ابن عباس ويحك ان القدر إذا جاء حال دون البصر. وفى رواية إذا جاء القضاء والقدر ذهب وعمى البصر. فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فطلبوا فلم يجدوا فتفقد الهدهد ليدل على الماء فلم ير الهدهد وظن انه حاضر ولم يره لساتر أو غير ذلك فَقالَ هذه الجملة معطوفة على تفقّد الطّير وهى معطوفة على محذوف معطوف على وحشر لسليمان جنوده تقديره وامر الطيور بالاظلال فوقع الشمس على
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 108
سريره فنظر وتفقّد الطّير أو يقال حشر لسليمان جنوده فنزل منزلا فلم يجد الماء فطلب الهدهد وتفقّد الطّير فقال ما لِيَ قرأ عاصم وابن كثير والكسائي وهشام « و ابن وردان بخلاف عنه. أبو محم » بفتح الياء والباقون بإسكانها لا أَرَى الْهُدْهُدَ الاستفهام للتعجب وجملة لا ارى حال من الضمير للمتكلم والعامل فيه معنى التعجب فلما لم يره بعد التفقد ولاح له انه غائب فاضرب عن ذلك وسال عن صحة ما لاح له فقال أَمْ كانَ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة يعنى بل أ كان الهدهد مِنَ الْغائِبِينَ ولمّا ثبت انه غائب قال.(1/4907)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ليعتبر به أبناء جنسه قيل العذاب الشديد ان ينتف ريشه وذنبه ويلقيه فى الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من هو أم الأرض وقال مقاتل لاطلينّه بالقطران ولاشمسنّه وقيل لاودعنه القفص وقيل لافرقنّ بينه وبين الفه وقيل لاحبسته مع ضده وقيل اولا لزمنه خدمة اقرانه وكان التعذيب جائزا له عليه السلام أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي قرأ ابن كثير بنونين الاولى مشددة مفتوحة والثانية نون الوقاية والباقون بنون واحدة مشيددة مكسورة بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أى بحجة بينة فى غيبته وعذر ظاهر والحلف فى الحقيقة على أحد الاقرين بتقدير عدم الثالث لكن لمّا اقتضى ذلك وقوع أحد الثلاثة ثلّث المحلوف عليه بعطفه عليهما وجاز ان يكون أو فى أو لياتينّى بمعنى الّا ان كما فى قولك لالزمنك أو تعطينى حقى يعنى الا ان تعطينى حقى ..(1/4908)
فَمَكَثَ الهدهد قرأ عاصم « اى روح أبو محمد » ويعقوب بفتح الكاف والباقون بضمها وهما لغتان غَيْرَ بَعِيدٍ أى مكثا غير طويل أو زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا من سليمان على نفسه وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء ان سليمان لمّا فرغ من بناء البيت المقدس عزم على الخروج إلى ارض الحرم وامام هناك ما شاء الله ان يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين الف كبش وقال لمن حضره من اشراف قومه ان هذا مكان يخرج منه نبىّ عربىّ صفته كذا يعطى النصر على جميع من ناداه ويبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء لا تأخذه فى الله لومة لائم قالوا باىّ دين يدين يا نبى الله قال بدين الحنيفة فطوبى لمن أدركه وأمن به فقالوا كم بيننا وبين خروجه قال مقدار الف عام فليبلّغ الشاهد منكم الغائب فانه سيد الأنبياء وخاتم الرسل. قال فاقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة وسار صباحا نحو اليمن ووافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فراى أرضا حسنا تزهر خضرتها فاحب النزول بها ويصلى ويتغدّى فلمّا نزل قال الهدهد ان سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 109(1/4909)
فنظر يمينا وشمالا فراى بستانا لبلقيس فسال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط إليه وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان من اين أقبلت واين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبى سليمان بن داود فقال من سليمان قال ملك الجن والانس والشياطين والطير والوحوش والرياح فمن اين أنت قال من هذه البلاد قال ومن ملكها قال امراة يقال لها بلقيس وان لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثنى عشر الف قائد تحت يد كل قائد مائة الف مقاتل فهل منطلق معى حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف ان تفقدنى سليمان فى وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني ان صاحبك يسره ان تأتيه بخير هذه الملكة فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان الا وقت العصر قال فلمّا نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير الماء فسال الجن والانس والشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقّد الطير ففقد الهدهد فدعا عريف الطير وهو النسر فساله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك انا لا أدرى اين هو وما أرسلته فغضب عند ذلك ثم قال لاعذّبنّه عذابا شديدا أو لاذبحنّه أو لياتينّى بسلطان مبين ثم دعا العقاب سيد الطير فقال علىّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما راى الهدهد ذلك علم ان العقاب يقصده بسوء فناشده الله الذي قواك وأقدرك علىّ الا رحمتنى ولم تتعرض لى بسوء قال قولى عنه العقاب فقال له ويلك ثكلتك أمك ان نبى اللّه قد حلف ان يعذبك أو يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلمّا انتهيا إلى العسكر تلقاه المنسر والطير فقالوا له ويلك اين غبت فى يومك هذا لقد توعدك نبى اللّه وأخبره بما قال فقال الهدهد ما(1/4910)
استثنى رسول اللّه قالوا بلى قال أو ليايتينّى بسلطان مبين قال فنجوت إذا ثمّ طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبى الله فلما راه الهدهد رفع راسه وارخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان فلما دنى منه أخذ برأسه فمده إليه فقال له اين كنت لا عذبنك عذابا شديدا فقال الهدهد اذكر وقوفك بين يدى اللّه عزّ وجلّ فلمّا سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ثم ساله فقال ما الّذى ابطاك عنى فَقالَ الهدهد عطف على محذوف تقديره فانى فقال أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته واستعماله فى غير علم اللّه سبحانه اما بطريق المجاز أو المبالغة والمعنى علمت مستيقنا ما لم تعلم وفى مخاطبته إياه بذلك تنبيه
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 110
على ان فى ادنى خلق الله تعالى من أحاط علما ما لم يحط به سليمان ليتحاقر
اليه نفسه ويتصاغر لديه علمه وفيه دليل على بطلان قول الروافض ان الامام لا يخفى عليه شىء ولا يكون فى زمانه اعلم منه وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ اسم بلد باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة ايام قرأ أبو عمرو والبزي من سبا وبسبا فى سورة سبأ مفتوحة الهمزة بلا تنوين غير منصرف على تأويل البلدة أو المدينة وقرأ قنبل ساكنة الهمزة على نية الوقف والباقون بكسر الهمزة والتنوين منصرفا لما كان فى الأصل اسم رجل. قال البغوي جاء فى الحديث ان النبي صلى الله عليه واله وسلم سئل عن سبا فقال كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشام اربعة يعنى ستة منهم أخذوا اليمن وطنا والباقون أخذوا الشام وطنا بِنَبَإٍ يَقِينٍ أى بخبر متيقن قال سليمان وماذك قال.(1/4911)
إِنِّي وَجَدْتُ أى أصبت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ صفة لامراة كان اسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملك عظيم عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكا وهو فى آخرهم وكان يملك ارض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفوا لى وابى ان يتزوج فيهم فزوجوه امراة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. وورد فى الحديث ان احدى أبوي بلقيس كان جنيّا فلمّا مات أبو بلقيس طمعت فى الملك فطلبت من قومها ان يبايعوها فاطاعها قوم وعصاها آخرون فملّكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقيتن كل فرقة استولت على طرف من اليمن ثم ان الرجل الّذى ملّكوه أساء السيرة فى أهل مملكته حتى كان يمديده إلى حرم رعيته ويفجر بهن فاراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رات بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فارسلت إليه تعرض نفسها عليه وأجابها الملك وقال ما منعنى ان ابتداك بالخطبة الا الياس منك فقالت لا ارغب عنك كفو كريم فاجمع رجال قومى فاخطبنى إليهم فجمعهم وخطبها إليهم فقالوا لا نراها تفعل ذلك فقال لهم انما ابتدأت وانا أحب ان تسمعوا قولها فجاءوها فذكرو لها فقالت نعم أحببت الولد فزوجوها فلمّا زفت إليه خرجت فى أناس كثير من جيشها فلما راته سقته الخمر حتى سكر ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها فلمّا أصبح الناس راوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب داره فطموا ان تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك (حديث) : - روى احمد والبخاري فى الصحيح والترمذي والنسائي عن أبى بكرة رضى اللّه عنه قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى قال لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امراة قوله تعالى وَأُوتِيَتْ حال بتقدير قد من فاعل تملكهم مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 111(1/4912)
يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة أو المراد به الكثرة كما سبق وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ حال بعد حال أى سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد عليه سبعة أبيات على كل بيت باب يغلق. روى ابن أبى حاتم عن زهير بن محمد قال سرير من ذهب وصفحتاه موصول بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا فى عرض أربعين ذراعا وقال ابن عباس كان عرش بلقيس ثلاثون ذراعا فى ثلاثين ذراعا وطوله فى السماء ثلاثون ذراعا وقال مقاتل كان طوله ثمانين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا.
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظرف متعلق بيسجدون وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من عبادة الشمس وغيرها جملة وزين مع ما عطف عليه حال من فاعل يسجدون بتقدير قد فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه عطف على يسجدون.(1/4913)
أَلَّا يَسْجُدُوا قرأ أبو جعفر والكسائي « رويس أبو محمد » الا بالتخفيف على انه حرف تنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف تقديره الا يا هؤلاء اسجدوا قال أبو عبيدة امر مستأنف من الله تعالى وجاز كونه امرا من سليمان لمن حضره وعلى هذا حذفت همزة الوصل فى الدرج والالف من حرف النداء لالتقاء الساكنين فى اللفظ وفى خط مثبتان وإذا قف وقف على الا أو على يا وابتدا بقوله اسجدوا وقرأ الباقون الّا يسجدوا بالتشديد لاجل ادغام نون ان المصدرية فى اللام من حرف النفي الداخلة على المضارع وان مع صلته بتقدير حرف الجر متعلق بزين لهم أو بصدهم - والمعنى زيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم لئلا يسجدوا للّه أو يقال ان لا يسجدوا بدل من أعمالهم يعنى زين لهم الشيطان ان لا يسجدوا وجاز ان يكون لا زائدة وان مع صلتها متعلق بلا يهتدون تقديره فهم لا يهتدون ان يسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخبء بمعنى المخبؤ وهو ما خفى غيره وإخراجه إظهاره قال اكثر المفسرين خبء السماوات المطر وخبء الأرض النبات وقيل يريد علم غيب السموات والأرض واللفظ يعم اشراق الكواكب وإنزال المطر وإنبات النبات وإخراج ما فى الشيء من القوة إلى الفعل وإخراج ما فى الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم انه يختص بالواجب لذاته فهو يستحق بالاستحقاق للسجود دون غيره وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ فى سرائركم وَما تُعْلِنُونَ فيجب الحذر من اشراكه غيره فى العبادة سرّا وعلانية قرأ الكسائي وحفض بالتاء فيهما على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 112
الْعَظِيمِ
بدل من الضمير أو خبر ثان اللّه والجملة تعليل لا سجدوا يعنى فهو المستحق للسجود لا غير.(1/4914)
قالَ سليمان للهدهد سَنَنْظُرُ أى سنستعرف مشتق من النظر بمعنى التأمل أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ غيّر النظر ولم يقل أم كذبت للمبالغة (حيث جعلها منسلكا فى الكاذبين معدودا فيهم ويلزمه كونها كاذبا البتة) ورعاية الفواصل. فدلهم الهدهد على الماء فاحتفر والركايا وروى الناس والدواب ثم كتب كتابا. من عبد اللّه سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبا بسم اللّه الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا علىّ وأتوني مسلمين قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله فى كتابه وقال قتادة كذلك الأنبياء يكتب جملا لا يطيلن ولا يكثرون فلما كتب الكتاب وطبقه بالمسك وختمه بخاتمه قال للهدهد.(1/4915)
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بإسكان الصاد وأبو جعفر ويعقوب باختلاسها كسرا والباقون بإشباع الكسرة إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ أى تنح عَنْهُمْ إلى مكان قريب فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ أى ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول وأخذ الهدهد الكتاب واتى به بلقيس وكانت بأرض يقال لها مارب من صنعاء إلى ثلاثة ايام فوافاه فى قصرها وقد غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فاتاها الهدهد وهى نائمة مستلقية قفاها فالقى الكتاب على نحرها كذا أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة - وقال مقاتل حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة راسها فالقى الكتاب فى حجرها وقال ابن منبه وابن زيد كانت كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس فلم تعلمها فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرم الصحيفة إليها. فاخذت بلقيس الكتاب وكانت قارية فلما رات الخاتم ارتعدت وخضعت لان ملك سليمان كان فى خانمه وعرفت ان الّذى أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد فجاءت ففعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر الف قائد مع كل قائد مائة الف مقاتل وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة الف قيل مع كل قيل مائة الف والقيل الملك دون الملك الأعظم وقال قتادة ومقاتل كان أهل مشورتها ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة الان قال فجاءوا فاخذوا مجالسهم.
قالَتْ لهم بلقيس يا أَيُّهَا الْمَلَأُ وهم اشراف الناس وكبراؤهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 113(1/4916)
إِنِّي أُلْقِيَ قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمد » بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قال عطاء والضحاك سمته كريما لأنه كان مختوما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة الكتاب ختمه رواه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس واخرج ابن مردوية فى القى الىّ كتاب كريم قال مختوم وروى عن ابن جريح كريم أى حسن وهو اختيار الزجاج وروى عن ابن عباس كريم أى شريف لشرف صاحبه قيل سمته كريما لغرابة شانه إذ كانت مستلقية فى بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به وقيل سمته كريما لكونه مصدرا ببسم الله الرحمان الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت.
إِنَّهُ أى الكتاب أو العنوان مِنْ سُلَيْمانَ ثم بينت ما فيها فقالت وَإِنَّهُ أى المكتوب أو المضمون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ان مفسرة أو مصدرية وهو لصلته خبر محذوف أى هو أو المقصود ان لا تعلوا أو بدل من كتاب والمعنى لا تتكبروا ولا تمتنعوا من الاجابة فان ترك الاجابة من العلو والتكبر وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنين أو منقادين وهذا كلام فى غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدلالة على ذات الصانع وصفاته صريحا والتزاما والنهى عن الترفع الذي هى أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لامهات الفضائل وليس فيه الأمر بالانقياد قبل اقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فان إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلائل ..(1/4917)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أى أشيروا الىّ فيما عرض لى واجيبونى فيما أشاوركم فيه والفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أى حاكمة بامر حكما قطعيّا يقطع اختيار المحكوم عليه حَتَّى تَشْهَدُونِ أى حتى تحضروني وتشيرونى أو تشهدوا على كونه صوابا جملة قالت مع ما فى حيزها بدل اشتمال من قالت السابقة.
قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فى القتال وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ 5 عند الحرب قال مقاتل أرادوا بالقوة كثرة العدد وبالبأس شدة الشجاعة. لما ان الاستشار منها دائرا بين الصلح والقتال وكان القتال أصعب الامرين أجابوا بامتثال أمرها فى
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذ
سليمان من
م وان هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب فى أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت كأنَّه أراد اظهار معجزة فنحدّاهم اولا فلمّا قال عفريت ما قال استبطأه فقال له ذلك وأراد به انه يتاتى له ما لا يتهيا لعفاريت عن الحسن فضلا عن غيرهم والمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة أو اللوح واتيك فى الموضعين صالح للفعلية والاسمية والطرف تحريك الأجفان للنظر ولمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف وصف بردّ الطرف والطرف بالارتداد والمعنى انك ترسل طرفك نحو شىء فقيل ان ترده احضر عرشها وهذا غاية الاسراع ومثّل فيه.(1/4918)
فَلَمَّا رَآهُ سليمان معطوف على محذوف تقديره فامره سليمان بالإتيان بالسرير فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض فنبع عند سرير سليمان فلما راه مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ شكرا للنعمة كما هو دأب المخلصين من عباد الله هذا أى التمكن من إحضار العرش فى مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره مِنْ فَضْلِ رَبِّي أى بعض افضاله علىّ لِيَبْلُوَنِي قرأ نافع « و أبو جعفر - أبو محمّد » بفتح الياء والباقون بإسكانها أى فضل علىّ لاجل ابتلائى أَأَشْكُرُ نعمة فاراه فضلا من الله من غير حول منى ولا قوة وأقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بان أجد نفسى أهلا لها أو اقصر فى أداء موجبه ومحلهما النصب على البدل من الضمير المنصوب فى ليبلونى وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه به يستحب دوام النعمة ومزيدها فان الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة وبه يفرغ ذمته عن الواجب ويرتفع درجته عند الله تعالى ويستحق اجرا فى دار الجزاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر - رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن أبى هريرة ورواه احمد وابن ماجة بسند صحيح عن سنان بن سنة بلفظ الطاعم الشاكر له مثل اجر الصائم الصابر وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ ينعم على الشاكر والكافر جواب الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره ومن كفر فلا يضر ربى لأنه غنى كريم.
قالَ سليمان نَكِّرُوا لَها أى لبلقيس عَرْشَها يعنى اجعلوها بحيث لا تعرفها إذا رأت روى
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 119(1/4919)
انه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأحمر الأخضر ومكان الأخضر الأحمر نَنْظُرْ مجذوم على جواب الأمر أَتَهْتَدِي إلى معرفته أو للجواب الصواب أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ وانما حمل سليمان على ذلك (على ما ذكره كعب ووهب وغيرهما) ان الشياطين خافت ان يتزوجها سليمان فتفشى إليه اسرار الجن لان أمها كانت جنيّة وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير ولده وذريته من بعده فاساء والثناء عليها ليزهدوه فيها وقالوا ان فى عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار وانها شعراء الساقين فاراد سليمان ان يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدمها ببناء الصرح.(1/4920)
فَلَمَّا جاءَتْ عطف على قوله فلمّا جاء سليمان قال أ تمدّونن بمال وما بينهما معترضات قِيلَ لها أَهكَذا عَرْشُكِ شبّه الأمر عليها زيادة فى امتحان عقلها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قال مقاتل عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبّهوا عليها وقيل اشتبه الأمر عليها فلم يقل نعم ولا لاخوفا من الكذب فعرف سليمان عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل لها فانه عرشك فما اغنى عنك إغلاق الأبواب والحرس فقالت وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بكمال قدره الله وصحة نبوة سليمان مِنْ قَبْلِها أى قبل اية العرش بايات اخر من إلقاء هدهد الكتاب وامر الهدية والرسل وقيل انه من كلام سليمان عليه السلام وقومه عطفه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله تعالى ورسله جوّزت ان يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا وإحضاره ثمه من المعجزات التي لا يقدر عليها غير اللّه ولا يظهر الا على أيدي الأنبياء عليهم السلام والمعنى وأوتينا العلم بالله تعالى وقدرته وصحة ما جاء من عنده قبلها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لحكمه لم نزل على دينه ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم فى ذلك شكرا له وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله عزّ وجلّ.
وَصَدَّها أى منعها سليمان عليه السلام ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى عن عبادة الشمس فما فى محل النصب بحذف حرف الجر وإيصال الفعل إليه وقيل ما فى محل الرفع والمعنى وصدّها عن التوحيد ما كانت تعبد من دون اللّه لا نقصان عقلها كما قالت الجن ان فى عقلها شيئا إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ استيناف اخبر الله تعالى انها كانت من قوم تعبد الشمس فنشات فيهم ولم تعرف الا عبادة الشمس.
ثم أراد سليمان ان ينظر إلى قدميها وساقيها من غير ان يسئلها كشفها لما قالت الشياطين
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 120(1/4921)
ان رجليها كحافر الحمار وهى شعراء الساقين فامر الشياطين ان يبنوا له صرحا أى قصرا من زجاج وقيل بيتا من زجاج كأنَّه الماء بياضا وقيل الصرح صحن الدار والحضري تحته الماء والقى فيه كل شىء من دوابّ البحر السمك والضفادع وغيرهما. ثم وضع سريره على صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والانس والجن وقيل اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل الحيطان والضفادع فكان إذا راه أحد ظنّه الماء. فلما جلس على السرير دعا بلقيس فلمّا جاءت.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ
عطف على محذوف تقديره فدخلته يعنى من الباب ورأته أى الصرح بلا حجاب قبل ورودها فلمّا راته سِبَتْهُ لُجَّةً
من ماء كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوضه قرأ قنبل عن ساقيها هاهنا وفى ص بالسّؤق وفى الفتح على سؤقه بالهمزة فى الثلاثة - والباقون بغير همزة أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم فى حديث طويل عن ابن عباس ان سليمان امر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج ابيض واجرى من تحته الماء والقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره فى صدره فجلس عليه فلما بصرته ظنته ماء راكدا فكشف عن ساقيها لتخوضه وتخلص إلى سليمان فنظر سليمان فإذا هى احسن الناس ساقا وقد ما الا انها شعراء الساقين فلمّا راى سليمان ذلك صر بصره عنها ومن هاهنا يظهر ان النظر إلى الاجنبية على ارادة خطبة النكاح جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع ان ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل - رواه أبو داود عن جابر وروى احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدار هى عن مغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكماالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
اى مملس ومنه الأمرنْ قَوارِيرَ
من زجاج الَتْ(1/4922)
حين رات المعجزة من سليمان بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بالكفر وعبادة الشمس فتبت عنه الان أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
اى أخلصت له التوحيد وقيل انها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت فى نفسها ان سليمان يريد ان يغرقها وكان القتل أهون من هذا فقالت انّى ظلمت نفسى بذلك الظن لسليمان عليه السلام فتبت عنه وأسلمت - واختلفوا فى أمرها بعد إسلامها فقال عون بن عبد الله سال رجل عبد الله بن عيينة هل تزوجها سليمان قال انتهى أمرها إلى قولها وأسلمت مع سليمان للّه ربّ العلمين يعنى لا علم لنا وراء ذلك وقال بعضهم تزوجها أخرجه ابن عساكر عن عكرمة ولما أراد ان يتزوجها كره ما راى من كثرة شعر ساقيها فسال الانس
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 121(1/4923)
ما يذهب هذا قالوا الموسى فقالت المرأة لم تمسنى حديدة قط فكره سليمان الموسى وقال انه يقطع فسال الجن فقالوا لا ندرى ثم سال الشياطين فقالوا انا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلمّا تزوجها سليمان أحبها حبّا شديدا فاقرها على ملكها وامر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا وهى سلحون وسنون وعمد ان ثم كان سليمان يزورها كل شهر مرة بعد ان ردها إلى ملكها يقيم عندها ثلاثة ايام يبتكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام وولد له منها ذكر وروى عن وهب قال زعموا ان بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك أزوجكه قالت ومثلى يا نبى الله تنكح الرجال وقد كان لى فى قومى من الملك والسلطان ما كان قال نعم انه لا يكون فى الإسلام الا ذلك ولا ينبغى لك ان تحرمى ما أحل الله لك فقالت زوجنى ان كان لا بد ذلك من ذى تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا رديعه امير جن اليمن فقال اعمل لذى تبع ما استعملك فيه فلم تزل ملكا يعمل له فيه ما أراد حتى مات سليمان فلما ان حال الحول وتبينت الجن موت سليمان اقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان فى جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن ان ملك سليمان قد مات فارفعوا ايديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذى تبع وملك بلقيس مع ملك سليمن - قلت نظر سليمان إلى ساق بلقيس يؤيد قول من قال انه نكحها ويأبى قول من قال انه انكحها ذا تبع واللّه اعلم قيل ان الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة سبحان الله من لا زوال لملكه - شعر
لا ملك سليمان ولا بلقيس لا آدم فى الكون ولا إبليس
و الكل فصورة وأنت المعنى يا من هو للقلوب مقناطيس واللّه اعلم
.(1/4924)
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً جواب قسم محذوف وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ولقد اتينا داود وسليمان وقوله صالحا بدل من أخاهم أَنِ مفسرة لارسلنا أو مصدرية بتقدير الباء أى بان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده فَإِذا هُمْ مبتدا خبره فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ صفة لفريقين أى ففاجرا التفرق والاختصام فامن فريق وكفر فريق والواو فى يختصمون لمجموع الفريقين قال اختصامهم ما ذكر فى سورة الأعراف قال الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا إلى قوله ان كنت من المرسلين.
قالَ لهم صالح يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ أى بالعقوبة حيث تقولون يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين قَبْلَ الْحَسَنَةِ أى قبل التوبة حيث
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 122
تاخرونها إلى نزول العذاب الاستفهام للانكار والتوبيخ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ بالتوبة من كفركم قبل نزول العذاب لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أى لكى ترحموا بقبولها فانها لا تقبل بعد ما ترون العذاب.(1/4925)
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أى تشامنا بكم إذ وقع بيننا الافتراق حين اخترعتم دينا أو تتابع علينا الشدائد وامسك عنا المطر قالوا هذه الضراء والشدة من شومك وشوم أصحابك قالَ طائِرُكُمْ أى شومكم يعنى سبب شومكم الذي جاء منه شر عِنْدَ اللَّهِ وهو قضاؤه أو عملكم المكتوب عنده سمى القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان فانه لا شىء اسرع من قضاء مختوم وسمى العمل طائرا لسرعة صعوده إلى السماء وقال ابن عباس طائركم عند اللّه يعنى شومكم أتاكم من عند اللّه لكفركم وقيل سمى الشوم طائرا لان أهل الجاهلية كانوا يتشامون بصوت الطائر ومروره على تهج معين معروف عندهم إذا سافروا المستعير لفظ الطائر للشوم لذلك العرف بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب عن مفهوم الكلام السابق يعنى ليس طائركم منى ومن أصحابي بل أنتم تفتنون أى تعذبون بكفركم كذا قال محمد بن كعب وقال ابن عباس تختبرون بالخير والشر نظيره قوله تعالى ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنة.
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أى مدينة ثمود وهى الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ أى تسعة انفس وقع الرهط تميز للتسعة باعتبار المعنى فان معناه الجماعة من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة كما ان النفر من الثلاثة إلى التسعة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ خبر لكان واسمه تسعة رهط وفى المدينة حال منه أو ظرف وَلا يُصْلِحُونَ يعنى كان شانهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح وهم أبناء الشر افهم الذين اتفقوا على عقر الناقة وهم غواة قوم صالح واشقياهم وأشقاهم قزار بن سالف وهو الذي تولى عقرها.(1/4926)
قالُوا استيناف أو حال بتقدير قد يعنى قال بعضهم لبعض تَقاسَمُوا يعنى تحالفوا باللّه هو امر مقولة قالوا أو فعل ماضى وقع بدلا من قالوا أو حال بإضمار قد من فاعل قالوا لَنُبَيِّتَنَّهُ أى لنقتلن صالحا بياتا أى ليلا وَأَهْلَهُ أى قومه الذين اسلموا به ثُمَّ لَنَقُولَنَّ قرأ الأعمش و « خلف - أبو محمد و » حمزة والكسائي لتبيّننّه ولتقوّلنّ بالتاء للخطاب فيما بينهم فيهما وضم التاء الثانية فى الاولى وضم اللام فى الثانية لدلالتها على الواو المحذوفة للجمع والباقون بالنون للتكلم وفتح التاء واللام لِوَلِيِّهِ لولى دمه ما شَهِدْنا أى ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ قرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام من الإهلاك يحتمل للمصدر والزمان والمكان وكذا على قراءة حفص بفتح الميم وكسر اللام من الهلاك فان مفعلا قد جاء مصدرا لمرجع وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدرا وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعنى ونحلف
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 123
انّا لصادقون أو والحال انّا لصادقون فيما ذكر لان الشاهد للشئ غير المباشر له عرفا أو لانا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رايت ثم رجلا بل رجلين ..
وَمَكَرُوا مَكْراً أى غدروا غدرا حيث قصدوا تبييت صالح وَمَكَرْنا مَكْراً بان جعلناها سببا لاهلاكهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من فاعل مكرنا.(1/4927)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ عاقبة اسم كان وكيف خبره مقدم عليه لصدارته والاستفهام للتعجب. والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ الكوفيون ويعقوب انّا بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف أو بدل من اسم كان أو خبر له وكيف حال أو التقدير لانّا دمّرناهم والباقون بكسر الهمزة على الاستيناف وعلى هذا ان كان كان ناقصة فخبرها كيف وان كان تامة فكيف حال ولا يجوز ان يكون انّا دمّرناهم خبر كان لعدم العائد - اختلفوا فى كيفية إهلاكهم قال ابن عباس أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فاتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلهم وقال مقاتل جلسوا فى سفح الجيل ينتظرون بعضهم ليأتوا دار صالح فحثم عليهم الجبل فاهلكهم الله تعالى أخرج عبد الرزاق وعيد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال مكر الله بهم رماهم بصخرة فاخذتهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ اهلكهم الله تعالى بالصيحة.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أى خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط منصوب على الحال والعامل فيه معنى الاشارة بِما ظَلَمُوا أى خاوية بسبب كفرهم وظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ أى فيما فعل يثمود لَآيَةً على كمال قدر تناء صدق الأنبياء لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتعظون به.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي وهم صالح ومن معه وكانوا اربعة آلاف.(1/4928)
وَ لُوطاً منصوب بفعل مضمر يدل عليه قوله لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ تقديره وأرسلنا لوطا وجاز ان يكون منصوبا باذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لفعل مقدر وهو اذكر أو متعلق بأرسلنا على تقدير كونه عاملا فى لوطا أو بدل من لوط على تقدير كونه منصوبا باذكر أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أى الفعلة البالغة فى القبح الاستفهام للانكار والتوبيخ وكذا الاستفهام الثاني وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أى تعلمون فخشها من بصر القبائح مع ان اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح وقيل معناه ويبصر بعضكم بعضا فانهم كانوا يعلنون بها ويفعلونها بمشهد القوم فيكون افحش أو المعنى وأنتم تبصرون اثار من قبلكم من العصاة وما نزل بهم.
أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 124
الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ
اللائي خلقن لذلك بيان لاتيانهم الفاحشة وشهوة منصوب على العلية للدلالة على قبحه والتنبيه على ان الحكمة فى المواقعة طلب النسل لاقتضاء الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أى تفعلون فعل من يجهل بقبحها أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبح أو تجهلون العاقبة والتاء فى تجهلون لكون الموصوف به فى معنى المخاطب قيل اجتمع هاهنا الخطاب بقوله أنتم والغيبة بقوله قوم فغلب الخطاب على الغيبة. وهذه الآيات تدل على ان حسن الافعال وقبحها ثابتة لها فى أنفسها قبل ورود الشرع وان كانت معرفة بعضها متوقفة على الشرع.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أى يتنزهون عن أفعالنا أو عن الاقذار وجملة انهم أناس فى مقام التعليل للاخراج.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها أى قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ أى الباقين فى العذاب.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.(1/4929)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى امر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ناقص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظمة شأنه وما خص به رسله من الآيات والتشريفات ان يحمد الله على إهلاك الكفار من الأمم الخالية وعلى جميع نعمه وعلى اعلامه ما جهل من أحوالهم وان يسلم على من اصطفاه من عباده عرفانا بفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين وقوله الَّذِينَ اصْطَفى قال مقاتل هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وقال ابن عباس فى رواية مالك هم اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم عن سفيان الثوري انها نزلت فى اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية وقيل هم المؤمنون كلهم السابقون واللاحقون - وقيل هذا من تمام قصة لوط عليه السلام وخطاب للوط عليه السلام بتقدير القول يعنى وقلنا له قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ امره بان يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة من الهلاك أو على محمد وأمته فان ما وصل بالأنبياء والأمم من الكرامات ودفع البليّات كان ببركة نوره صلى اللّه عليه واله وسلم قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث.
رواه أبو سعد عن قتادة مرسلا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد ا لتفسير المظهري ، ج 7 ، ص : 125(1/4930)
رواه ابن سعد بسند صحيح عن ميسرة بن سعد عن أبى الجدعاء والطبراني عن ابن عباس آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ متصل بما سبق فى صدر السورة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إلى قوله هُمُ الْأَخْسَرُونَ وهذا الزام وهكم بهم وتسفيه لرأيهم بعد ما ذكر من القصص الدالة على قدرته تعالى على إكرام عباده الصّلحين وكبت أعدائه يعنى من هذا شانه هو مستحق للعبادة والخوف والرجاء خير من غيره امّا يشركونه من الأصنام وغيرها مما لا يضر ولا ينفع وضره اقرب من نفعه خير من اللّه القادر القاهر لمن يعبد - قرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب يشركون بالياء التحتانية على الغيبة والباقون بالتاء الفوقانية خطابا لاهل مكة اتيسوان پاره ختم.
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 126
(الجزء العشرون)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
.(1/4931)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أم متصلة وما عطف عليه بأم محذوف تقديره ءالهتكم التي لم يخلقوا شيئا وهم يخلقون خير أم من خلق. وقيل منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للاضراب عن الاستفهام السابق لبداهة كون الله تعالى مبدا لكل خير وعدم الخيرية رأسا فيما اشركوه فكيف يمكن الموازنة والاستفهام عنه والهمزة للتقرير أى حمل المخاطب على الإقرار بخيرية من خلق السّموات والأرض وَأَنْزَلَ لَكُمْ أى لاجل انتفاعكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أى بساتين جمع حديقة قال الفراء الحديقة البستان المحاط عليها فان لم يكن عليه حائط فليس بحديقة قال البيضاوي من الاحداق وهو الإحاطة ذاتَ بَهْجَةٍ أى حسن المنظر يبتهج به صفة لحدائق وافراد بهجة لتأويل حدائق بجماعة حدائق وفى الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته تعالى والتنبيه على ان اثبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما صرح بقوله ما كانَ أى ما يمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أى شجرة من أشجارها والاضافة للجنس والجملة ما كان لكم إلخ صفة لحدائق أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أعانه على ذلك الاستفهام للانكار يعنى ليس أحد أعانه على ذلك فلا مستحق للعبادة غيره معه لانفراده بالخلق بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ من لا يخلق بمن يخلق فيشركون به أو المعنى بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحق الذي هو التوحيد فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة - .
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلخ والكلام فى أم فى هذا وفى ما بعدها مثل ما سبق وجعلها قرارا إبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يمكن الاستقرار عليها
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 127(1/4932)
وَ جَعَلَ خِلالَها وسطها ظرف مستقر وقع ثانى مفعول جعل وكذا فى الجملة التاليتين أَنْهاراً جارية وَجَعَلَ لَها أى للارض رَواسِيَ جبالا ثابتة منعها من الحركة واتبع منها الأنهار وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذاب والملح حاجِزاً مانعا من الاختلاط أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ليس كذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ انه لا اله الا هو لاهمالهم النظر الصحيح مع الادلة القاطعة فيشركون به جهلا وبعضهم يعلمون ذلك ولكن ينكرونه تعنتا وعنادا.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ اسم فاعل من الاضطرار وهو افتعال من الضر يعنى من ابتلى بضر أحوجه شدته إلى الجاء إلى الله تعالى يجيبه إِذا دَعاهُ بفضله إنشاء فان اللام فى المضطر للجنس دون الاستغراق فلا يلزم منه اجابة كل مضطر وَيَكْشِفُ أى يدفع السُّوءَ الّذى ألجأه إلى الدعاء وَيَجْعَلُكُمْ عطف على يجيب خُلَفاءَ الْأَرْضِ أى خلفاء من قبلكم فى الأرض بان ورّثكم سكناها والتصرف فيها أو سلطانها - وقيل يعنى جعلكم خلفاء الجن فى الأرض قلت ويمكن ان يقال معناه جعل منكم خلفاء الله تعالى فى ارضه بدليل قوله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خلقكم بهذه النعم العامة والخاصة يعنى ليس كذلك قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ الا الله ما مزيدة وقليلا منصوب يتذكرون على المصدرية أو على الظرفية والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة قرأ أبو عمرو وهشام يذّكّرون بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرأ حمزة « خلف - أبو محمد » والكسائي وحفص بتخفيف الذال والباقون بتشديدها ..(1/4933)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم وعلامات الأرض فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إذا سافرتم فى الليالى أضاف الظلمات إلى البحر والبرّ للملابسة وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعنى المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر مثل ذلك تَعالَى اللَّهُ القادر الخالق عَمَّا يُشْرِكُونَ عن اشراك العاجز المخلوق - .
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الاماتة والكفار وان أنكروا الاعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها من النقل المشهود عليه بالمعجزات مع إمكانها عقلا وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أى من اسباب سماوية واسباب ارضية أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على ذلك قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ان مع اللّه الها اخر يقدر على شىء من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى الإشراك فان كمال القدرة من لوازم الالوهية قال البغوي ولمّا سال
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 128
المشركون النبي صلى اللّه عليه وسلم عن وقت قيام الساعة نزلت.
قُلْ يا محمد فى جوابهم لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَمن فى الْأَرْضِ من الجن والانس ومنهم الأنبياء عليهم السلام من موصول أو موصوف الْغَيْبَ يعنى ما غاب عن مشاعرهم ولم يقم عليه دليل عقلى إِلَّا اللَّهُ لكن الله يعلم ما غاب عنهم وغيره تعالى لا يعلم الا بإعلامه فالاستثناء منقطع لأنه تعالى منزه عن الاستقرار فى السموات والأرض ورفعه على لغة بنى تميم فانهم يجيزون النصب والبدل فى المنقطع كما فى المتصل وعليه قول الشاعر - شعر
و بلدة ليس بها أنيس الا اليعافير والا العيس(1/4934)
و قيل الاستثناء متصل ودخول المستثنى فى المستثنى منه على سبيل فرض المحال وفرض المحال ليس بمحال وقال فى البحر المواج المستثنى منه محذوف وفى الكلام حذف تقديره لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ لا يعلمه أحد الّا اللّه فهذه الجملة تعليل لنفى العلم قلت ويمكن ان يكون التقدير لا يعلم من فى السّموات والأرض الغيب بشئ الّا بالله أى بتعليمه وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أى متى يحشرون يعنى وقت حشرهم ممّا لا يدرك بالمشاعر فهو من الغيب الذي لا يمكن العلم به والاطلاع عليه الا بتعليم من الله تعالى وانه تعالى لم يطلع على ذلك أحدا بل استأثر علمه لنفسه فلا يتصور لهم العلم به وهذا تخصيص بعد تعميم وفائدته التأكيد ومطابقة الجواب السؤال وحتم احتمال التخصيص فانه قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ يفيد نفى علمهم بالغيب وذلك مخصوص بما حصل لهم بتعليم من الله تعالى بتوسط الرسل - .(1/4935)
بَلِ ادَّارَكَ كذا قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بهمزة القطع على وزن أكرم من الافعال أى بلغ ولحق عِلْمُهُمْ فاعل لادرك فِي الْآخِرَةِ ظرف لادرك والمفعول محذوف دلّ عليه ما سبق والمعنى انهم لا يدركون وقت قيام الساعة فى الدنيا قط بل يدرك علمهم ذلك فى الاخرة إذا عاينوه أو المعنى بل أدرك علمهم اليوم بتعليم الرسل صلى الله عليه وسلم إياهم فى شأن الاخرة أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكنهم لا يعلمون وقت مجيئها وفرأ الباقون بل ادّرك أصله تدارك يعنى تدارك وتكامل علمهم وحصل لهم اليوم بتعليم الرسول صلى اللّه عليهم وسلم فى شأن الاخرة أو يحصل لهم العلم بذلك إذا عاينوه يقال تدارك الفاكهة إذا تكاملت نضجا وحصول العلم القطعي للمؤمنين فى الدنيا ظاهر وللكافرين باعتبار قيام الادلة الموجبة للقطع مقامه بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة فِي شَكٍّ مِنْها أى من قيام الساعة بعد وجود ما يوجب القطع
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 129(1/4936)
من اخبار الرّسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات وقيل قوله بل ادّرك على طريقة الاستفهام معناه هل تدارك وتتابع علمهم فى الاخرة يعنى لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه لان فى الاستفهام ضربا من الجحد يدل هذا التأويل قراءة ابن عباس بلى بإثبات الالف المكتوب بصورة الياء ءادّرك بفتح الهمزة للاستفهام وسقوط همزة الوصل أى لم يدرك وفى قراءة أبيّ أم تدارك علمهم والعرب يضع بل موضع أم وأم موضع بل وذكر على بن عيسى وإسحاق ان بل فى بل ادّرك بمعنى لو والمعنى لو أدركوا فى الدنيا ما أدركوه فى الاخرة لم يشكوا بل هم اليوم فى شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها أى من الساعة عَمُونَ جمع عمى وهو عمى القلب نفى اللّه عنهم علم الغيب اولا ثم أكّد ذلك بنفي شعورهم بما هو ما لهم لا محالة ثم بالغ فيه بان اضرب عنه وبيّن ان منتهى علمهم وما تكامل فيه اسباب العلم من الحجج والآيات مقصور على ان القيامة كائنة لا محالة وهم لا يعلمونها كما ينبغى ثم اضرب عنه وقال بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منها بعد تكامل الادلة كمن يتحير فى امر لا يجد عليه دليلا فهم لا يستطيعون ازالة الشك ثم اضرب عنه وقال بل هم فى أسوأ حال منه فانهم عمون لا يدركون دليلهم لاختلال بصيرتهم وهذا أو ان اختص بالمشركين فمن فى السموات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل وقيل الاضراب الأول عن نفى الشعور بوقت القيامة عنهم بوضعهم باستحكام علمهم فى امر الاخرة تهكما وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدرك الشمرة لانها تلك غايتها التي عندها يعدم وما بعدها إضراب عن علمهم بامر الاخرة مبالغة فى نفيه ودلالة على ان شعورهم بها انهم شاكون فيها ثم اضرب عنه وقال هُمْ مِنْها عَمُونَ ليس لهم صلاحبة العلم أصلا - .(1/4937)
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على مضمون قوله تعالى بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ وكالبيان له وضع المظهر هاهنا موضع الضمير ولم يقل وقالوا لكون ذكر الكافرين مجملا فيما سبق أ إذا قرأ « و أبو جعفر - أبو محمد » نافع إذا بغير همزة الاستفهام على صيغة الخبر وهمزة الاستفهام على هذا مقدرة والباقون بهمزتين على الاستفهام كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا قرأ ابن عامر والكسائي بنونين أحدهما للوقاية وبهمزة واحدة على صيغة الخبر وتقدير همزة الاستفهام والباقون بنون واحدة وهمزتين على الاستفهام وضمير أ إنّا راجع إليهم والى ابائهم غلبت الحكاية على الغائب لَمُخْرَجُونَ من القبور أحياء ومن حال الموت إلى الحيوة وهذا كالبيان لعمهم والعامل فى إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره انخرج إذا كنا ترابا أ نحن مخرجون حينئذ والاستفهام للانكار - والجملة الاستفهامية
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 130
الثانية تأكيد للاولى تكرير للانكار مبالغة له ولا يجوز ان يكون مخرجون عاملا فى إذا لان كلام من الهمزة وانّ واللام مانعة من عمله فيما قبله.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا أى البعث جواب قسم محذوف نَحْنُ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَآباؤُنا على لسان غيره من الأنبياء مِنْ قَبْلُ وعد محمد صلى اللّه عليه وسلم وتقديم هذا على نحن هاهنا لان المقصود بالذكر هاهنا هو البعث وحيث اخّر فالمقصود هو المبعوث إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها كالاسمار.
قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تهديد لهم على التكذيب وتخويف بان ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم والتعبير عنهم بالمجرمين ليكون لطفا بالمؤمنين فى ترك الجرائم.(1/4938)
وَ لا تَحْزَنْ يا محمد عَلَيْهِمْ أى على تكذيبهم واعراضهم وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ قرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بالفتح وهما لغتان يعنى لا تكن فى ضيق صدر وغم مِمَّا يَمْكُرُونَ من للسببية وما مصدرية أى بسبب مكرهم قال البغوي نزلت فى المستهزئين الّذين عقاب مكة يعنى ان الله بالغ أمرك إلى الكمال ..
وَيَقُولُونَ عطف على قال الَّذِينَ كَفَرُوا وما بينهما معترضات مَتى هذَا الْوَعْدُ أى الموعود من العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان العذاب نازل.
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أى ردفكم واللام مزيدة للتاكيد يعنى عسى ان يتبعكم ويلحقكم بلا مهلة بَعْضُ تنازع فيه الفعلان يكون وردف اعمل أحدهما وأضمر فى الاخر الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله وهو عذاب يوم بدر قال البيضاوي عسى ولعل وسوف فى مواعيد الملوك كالجزم بها وانما يطلقونه إظهارا لوقارهم واشعارا بان الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده وهذا المعنى قول من قال ان عسى ولعل فى كلام الله واجبة الوقوع يعنى واما فى الوعيد فيجوز العفو بشرط الايمان واما الكافر فلا يستحق العفو وقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ليس من هذا الباب ومن ثم لم يوجد من فرعون تذكر ولا خشية.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيغفر المؤمن ان شاء ولا يستعجل الكافر بالعذاب وكذلك لم يعجل على أهل مكة بالعذاب كذا قال المقاتل هذه الجملة اما حال أو معترضة وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ولا يعرفون حق النعمة فيستعجلون العذاب بحملهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أى ما نخفى صدور الناس وَما
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 131
يُعْلِنُونَ(1/4939)
اى الناس من عداوتك فيجازيهم عليه وليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم وهذه الجملة معطوفة على عسى فان عسى فى كلام اللّه كالتحقق.
وَما مِنْ غائِبَةٍ اسم ما ومن زائدة أى ما من شىء غائب عن أبصار الناس وهى من الصفات الغالبة كالخافية والتاء فيهما للمبالغة كما فى الرواية أو اسمان لما يغيب ويختفى فالتاء فيه كالتاء فى عافية وعاقبة وقال البغوي هى صفة لمحذوف أى جملة غائبة من مكتوم سر وخفى امر وشىء غائب كائنة فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ظرف لغو متعلق بغائبة إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ مستثنى مفرغ خبر ما أى بين أو مبين ما فيه لمن يطالعه وهو اللوح المحفوظ.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أى يبيّن لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من امر الدين قال الكلبي ان أهل الكتاب اختلفوا بينهم وصاروا أحزابا يطعن بعضهم فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه هذه الجملة مع ما عطف عليه متصل بقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ واقعة عنها مقام التعليل وما بينهما معترضات.
وَإِنَّهُ أى القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون به دون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي أى يحكم بَيْنَهُمْ أى بين المختلفين فى امر الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ متعلق بيقضى فان قيل قوله يقضى معناه يحكم فكيف يتعلق به بحكمه فانه نظير ينصره بنصره وذالا يجوز قلنا المراد الحكم هذا بمعنى المحكوم والمعنى يحكم بما حكم به فى القرآن أو المراد بحكمته وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا رادّ لقضائه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضى فيه وحكمته.(1/4940)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تبال بمن عاداك متصل بقوله إِنَّ رَبَّكَ يقضى بينهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ البين حقيقة علل التوكل بانه على الحق الظاهر الّذى لا مساغ فيه اشارة إلى ان صاحب الحق حقيق بالوثوق على الله ونصره.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أى الكفار شبّههم بالموتى لعدم الانتفاع لهم بتسامع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالأصم فى قوله تعالى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ والدعاء مفعول للفعلين على التنازع قرأ ابن كثير لا يسمع بالياء وفتحها وفتح الميم على صيغة الغائب من المجرد والصّمّ بالرفع على الفاعلية وكذلك فى سورة الروم والباقون بالتاء وضمها وكسر الميم على صيغة المخاطب من الاستماع ونصب الصّمّ على المفعولية إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فان قيل ما معنى لهذا القيد فان الأصم الذي لا يسمع سواء عليه ان يولّى أو لا قيل ذكره على التأكيد والمبالغة وقيل الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت أو يفهم
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 132
بالاشارة أو الكتابة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم رأسا يعنى ان الكفار لفرطا عراضهم عما يدعون إليه كالميت الّذى لا سبيل إلى استماعه وكالاصم المدبر الذي لا سبيل إلى افهامه قيل الظرف متعلق بالفعلين على سبيل التنازع ويرد عليه ان نسبة التولي إلى الأصم جائز والى الموتى لا يجوز فكيف يتصور التنازع والجواب ان الموتى والأصم كلا منهما مستعار للكافر وهو من أهل التولي ويسمى هذه الاستعارة استعارة مجروة وهى ان يوصف المستعار بوصف ملائم للمستعار له والله اعلم - .(1/4941)
وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ قرأ الأعمش وحمزة هاهنا وفى الروم تهدى بالتاء المفتوحة واسكان الهاء بغير الف على صيغة المضارع والعمى بالنصب وإذا وقف اثبت ياء تهدى فى السورتين والباقون بالياء المكسورة وصيغة اسم الفاعل مضافا والعمى بالجر ووقفوا هاهنا بالياء وفى الروم بغير ياء اتباعا للمصحف عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعنى ما أنت بمرشد من أعمى الله قلبه عن الايمان إِنْ تُسْمِعُ يعنى لا تسمع ولا ينفع اسماعك القرآن أحدا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يعنى من قدّرنا إيمانه فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون من اسلم وجهه للّه - .(1/4942)
وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعنى إذ دنا وقوع معنى ما قيل عليهم أى ما وعدوا به من البعث والعذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً قال البغوي روى عن على رضى اللّه عنه ليس بدابة لها ذنب ولكن لها لحية كأنَّه يشير إلى انه رجل والأكثر على انها دابة ذات اربع قوائم. أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال الدابة ذات وبر وريش مولفة فيها من كل لون لها اربع قوائم ثم يخرج بعقب من الحاج وروى عن جريح عن أبى الزبير انه وصف الدابة فقال رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير واذنها اذن الفيل وقرنها قرن ابل وصدرها صدر اسد ولونها لون تمر وخاصرتها خاصرورة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنى عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سليمان فلا يبقى مومن الا نكتت فى مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضئ بها وجهه ولا يبقى كافر الا نكتت وجهه بخاتم سليمان نكتة سوداء فيسود بها وجهه حتى ان الناس يتبايعون فى الأسواق بكم يا مؤمن بكم يا كافر ثم تقول لهم الدابة يا فلان أنت من أهل الجنة يا فلان أنت من أهل النار وذلك قوله عزّ وجلّ وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ متعلق باخرجنا روى البغوي عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال تخرج من صدع فى الصفا كجرى الفرس ثلاثة ايام وما خرج ثلثا وروى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال ان الدابة تسمع قرع عصاى. وعن عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنهما قال تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب ورجلاها فى الأرض
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 133
ما خرجتا فتمرّ بالإنسان يصلى فتقول ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.(1/4943)
و ذكر البغوي حديث أبى شريحة الأنصاري رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال تكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا باليمن فيفشو ذكرها فى البادية ويدخل ذكرها القرية يعنى مكة ثم بينا الناس يوما فى أعظم المساجد على اللّه حرمة وأكرمها على اللّه عزّ وجل يعنى المسجد الحرام لم تر عنهم الا هو فى ناحية المسجد يدنو ويدنو كذا قال عمرو ما بين الركن الأسود إلى باب بنى مخزوم فى وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا انهم لم يعجزوا اللّه مخرجت عليهم تنفض راسها من التراب فمرّت بهم فجلّت عن وجوههم حتى تركتها كانها الكواكب الدرية ثم دكت فى الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى ان الرجل ليقوم فيعود منها بالصلوة فيأتيه من خلفه فتقول يا فلان الان تصلى فتقبل بوجهه وتسمه فى وجهه فتجاوز الناس فى ديارهم وتصطحبون فى أسفارهم وتشتركون فى الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر وعن حذيفة بن اليمان رضى اللّه عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة قلت يا رسول الله من اين تخرج قال من أعظم المساجد هرمة على الله تعالى بينهما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وتنشق الصفا مما يلى المشرق وتخرج الدابّة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها بلمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب وتسم الناس مومنا وكافرا اما المؤمن فتترك وجهه كأنَّه كوكب درى ونكتت بين عينيه مومن واما الكافر فنكتت بين عينيه نكتة سوداء ونكتت بين عينيه كافر.(1/4944)
رواه البغوي وكذا أخرج ابن جرير وروى البغوي عن سهل بن صالح عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال بئس الشعب شعب حناد مرتين أو ثلاثا قيل ولم ذلك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها بين الخافقين قال وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من راها ان أهل مكة كانوا محمد والقران لا يوقنون - تُكَلِّمُهُمْ صفة لدابة يعنى تكلم الدابة الناس قال السدىّ تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى دين الإسلام وقال بعضهم كلامها ان تقول لواحد هذا مؤمن ولاخر هذا كافر كما مرّ فى الأحاديث وقيل كلامها ما قال اللّه تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال مقاتل تكلمهم بالعربية فتقول عن اللّه تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 134
لا يُوقِنُونَ(1/4945)
تخبر الناس ان أهل مكة لم يؤمنوا بالقران والبعث - قرأ الكوفيون « و يعقوب - أبو محمد » انّ بالفتح وهو حكاية عن قول الدابة أو على تقدير الجار تقديره بان أو حكاية قول اللّه الّذى قيل عليه ودنا وقوعه أو علة خروجها على حذف اللام على قول غيره وقرأ الآخرون انّ بالكسر على الاستيناف أى انّ الناس كانوا بايتنا لا يوقنون قبل خروجها قيل أراد بايتنا خروجها أى خروج دابة الأرض وسائر اشراط الساعة وأحوالها فانها من آيات اللّه تعالى - قال البغوي قرأ ابن جبير وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي تكلّم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم بمعنى الجرح وقال ابن الحوراء سألت ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم أو تكلّمهم فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلّم الكافر قال ابن عمر رضى اللّه عنهما وذلك يعنى خروج الدابة حين لا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر قال الشيخ جلال الدين المحلى ومن خروج الدابة ينقطع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يؤمن كافر بعد ذلك كما اوحى الله إلى نوح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قلت وهذا يستنبط من الأحاديث والآثار - (فصل) عن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بادروا بالأعمال ستّا الدخان والدجال ودابّة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وامر العامة وخويصة أحدكم - رواه مسلم وعن عبد اللّه بن عمرو قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابّة على النّاس ضحى وأيتهما كانت قيل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا - رواه مسلم وعن حذيفة بن اسد الغفاري قال اطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قالوا نذكر الساعة قال(1/4946)
انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر ايت فذكر الدخان والدجال والدّابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وثلث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. وفى رواية نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر - وفى رواية فى العاشرة وريح يلقى الناس فى البحر رواه مسلم وعن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تخرج الدّابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم انف الكافر بالخاتم حتى ان أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا ... يا كافر. رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تخرج الدابّة قسّم الناس على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشترى الرجل الدابّة فيقال ممّن اشتريت فيقول من الرجل المختم رواه احمد
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 135(1/4947)
عن ابن عمر رضى الله عنهما قال تخرج الدابّة ليلة جمع والناس يشيرون إلى منى - واخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن الحسن ان موسى عليه السلام سال ربه ان يريد الدّابّة فخرجت ثلاثة ايام ولياليهن يذهب فى السماء لا يرى واحد من طرفيها قال فراى منظرا فظيعا فقال رب ردها فردها قلت والأحاديث المذكورة تدل على ان الدابة تميّز بين المؤمنين الصادقين فى ايمانهم وبين المنافقين الذين أظهروا الايمان وابطنوا الكفر والمراد بالكفر اما ضد الإسلام المجازى الّذى قلوب أهاليهم غير مصدقة بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم واما ضد الإسلام الحقيقي الّذى قلوب أهاليهم وافقت ألسنتهم فى التصديق لكن لم يؤمن نفوسهم ولم تطمئن فان كان المراد بالكافر هذا المعنى فقول الدّابة يا فلان أنت من أهل النار يراد به دخولها لا خلودها ولا يجوز ان يكون المراد بالكفر المجاهر بالكفر لان المجاهر بالكفر لم يبق بمكة بعد الفتح وأيضا المجاهر بالكفر ممتاز عن المسلمين قبل خروج الدابة لا حاجة فى امتيازهم إلى الدابة واللّه اعلم.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ يعنى يوم القيامة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أى من كل قرن جماعة كلمة من هاهنا للتبعيض وفوجا مفعول لنحشر ومن كل أمة حال منه قلت وذلك حين يقول اللّه تعالى لادم ابعث بعث النار من ذريتك وقد مرّ الحديث فى صدر سورة الحج مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا صفة لفوج ومن هاهنا للبيان أى فوجا مكذبين فَهُمْ يُوزَعُونَ أى يجلس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا قال البيضاوي هو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم.(1/4948)
حَتَّى ابتدائية داخلة على الشرطية إِذا جاؤُ إلى المحشر قالَ الله تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الاستفهام للتوبيخ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال يعنى أكذبتم بها بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وانها حقيقة بالتصديق أو التكذيب أو للعطف يعنى أجمعتم بين التكذيب بها وعدم النظر والتأمل فى حقيقتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تقديره أم لم تكذّبوا فان لم تكذّبوا فما ذا كنتم ودع يعنى اىّ شىء كنتم تعملون غير التكذيب وهذا أيضا توبيخ وتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون ان يقولوا فعلنا ذلك.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ عطف على قال فى حيز جزاء الشرط أى وجب عليهم العذاب الموعود لهم بِما ظَلَمُوا أى بسبب ظلمهم أى تكذيبهم بايات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ ليس لهم عذر فى نفس الأمر أو لما لا يؤذن لهم فيعتذرون وقيل لا ينطقون لان أفواههم مختومة وقيل لا ينطقون لشغلهم بالعذاب والظاهر هو الأول يدل عليه قوله.
أَ لَمْ يَرَوْا يعنى كيف يعتذرون على الكفر بعد رؤية الادلة الموجبة للايمان والاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات يعنى قد رئوا
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 136(1/4949)
أَنَّا جَعَلْنَا أى خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم والقرار وَالنَّهارَ مُبْصِراً كان أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه يجعل الابصار حالا من أحواله المجعول عليه بحيث لا ينفك عنه وجملة انّا جعلنا قائم مقام المفعولين لقوله الم تروا فان الرؤية بمعنى العلم يعنى الم يعلموا بتعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص نافع مناط لمصالح معاشهم ومعادهم انّ لها خالقا حكيما قادر قاهرا وان من كان قادرا على ذلك قادر على بعثة الرسل ليدعوا الخلق إلى عبادته وقادر على الانعام والانتقام على اطاعته وعصيانه وقادر على ابدال الموت بالحياة كما هو قادر على ابدال الظلمة بالنور واليقظة بالنوم وقد دلت المعجزات على صدق الرسل وما جاءوا به إِنَّ فِي ذلِكَ الأمور لَآياتٍ دالة على التوحيد وصدق الرسول فاىّ عذر للمكذب بعده وقيد ثبوت الآيات بقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لانهم هم المنتفعون بها قيل جملة الم يروا إلى آخرها دليل للحشر فان تعاقب اليقظة النوم يدل على جواز تعاقب الحيوة الموت - .(1/4950)
وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ معطوف على قوله ويوم نحشر عن ابن عمر ان أعرابيا سال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصور قال قرن ينفخ فيه. رواه أبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن حبان والحاكم وعن ابن مسعود نحوه رواه مسدد بسند صحيح وعن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يؤمر فسمع بذلك اصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فشق عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل - وروى احمد والحاكم والبيهقي والطبراني عن ابن عباس رض نحوه والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبى سعيد نحوه وأبو نعيم عن جابر نحوه واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعنى اسرافيل قال القرطبي علماء الأمم مجمعون على ان ينفخ فى الصور اسرافيل فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وأرواح المؤمنين وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس اختلف العلماء فى هذه النفخة هل هى الصعق أو غير ذلك فقيل النفخات ثلاث أولها نفخة الفزع تفزع منها الخلائق ثانيتها نفخة الصعق تصعق أى تموت بها الخلائق ثالثتها نفخة البعث فهذه الآية تدل على نفخة الفزع وقوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فيه اخرى فإذا هم قيام ينظرون تدل على نفخة الصعق ونفخة البعث وهذا اختيار ابن العربي. وقد صرّح بالنفخات الثلاث فى حديث طويل لابى هريرة وسنذكره من قريب. وقيل هما نفختان فقط ونفخة
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 137(1/4951)
الفزع هى نفخة الصعق قالوا الأمر ان متلازمان أى فزعوا فزعا ماتوا منه وهذا ما صححه القرطبي واستدل بانه استثنى من نفخة الفزع كما استثنى من نفخة الصعق حيث قال الله تعالى فيهما إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فدلّ على انهما واحد - وهذا الاستدلال غير صحيح لان الاستثناء منهما بقوله الا ما شاء اللّه لا يدل على اتحاد النفختين ولا على اتحاد المستثنى فيهما وان كان المستثنى منه فى الكلامين واحد قال البغوي واختلفوا فى هذا الاستثناء روى عن أبى هريرة رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن قوله تعالى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال هم الشهداء لانهم احياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم ثم ذكر البغوي قول الكلبي ومقاتل وذكر الحديث كما سنذكر من بعد لكن قول البغوي بالاختلاف فى هذه الآية مبنى على اتحاد نفخة الفزع ونفخة الصعق والظاهر انهما متغائران.(1/4952)
فلنذكر الأحاديث والآثار الواردة فى الاستثناء روى أبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال سالت جبرئيل عن هذه الآية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من الّذين لم يشاء اللّه ان يصعقهم قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه قالوا وانما صح استثناء الشهداء لانهم احياء عند ربهم قال البغوي وفى بعض الآثار الشهداء ثنية اللّه عزّ وجل أى الذين استثناهم الله تعالى كذا روى هناذ بن السرى والبيهقي والنحاس فى معانى القرآن عن سعيد بن جبير فى قوله تعالى الا من شاء الله قال هم الشهداء مقلدون السيوف حول العرش وقال الكلبي ومقاتل يعنى جبرئيل واسرافيل وملك الموت عليهم السلام وذلك لما أخرج الفريابي فى تفسيره عن انس قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ونفخ فى الصّور فصعق من فى السّموات ومن فى الأرض الّا من شاء اللّه قالوا يا رسول الله من هولاء الذين استثنى اللّه قال جبرئيل وميكائيل وملك الموت واسرافيل وحملة العرش فإذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت من بقي قال سبحانك ربى تبارك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت فيقول خذ نفس اسرافيل فياخذ نفس اسرافيل فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيأخذ نفس ميكائيل فيقع(1/4953)
كالطود العظيم فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول بقي جبرائيل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت - فيقول يا جبرائيل من بقي فيقول وجهك الكريم الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني قال فلا بد من موته فيقع ساجدا يخفق جناحيه قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ان فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب. واخرج البيهقي عن
التفسير المظهري ج 7 ، ص : 138(1/4954)