|
المؤلف : مظهرى محمد ثناء الله
الموضوع : تحليلى
القرن : 13
اللغة: عربى
ناشر: مكتبة رشديه
المطبعة : باكستان
سنة الطبع : 1412 هـ
تحقيق : غلام نبى تونسى
تم استيراده من نسخة : أ/علي عبد الباقي
ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذهم العهد والميثاق واشهدهم على أنفسهم الست بربكم قال اللّه تعالى فانى اشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع واشهد عليكم أباكم آدم ان تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا انه لا اله غيرى ولا رب غيرى ولا تشركوا بي شيئا انى سارسل إليكم رسلى يذكرونكم عهدى وميثاقى وانزل عليكم كتبى قالوا شهدنا بانك ربنا والهنا لا رب لنا غيرك ولا اله لنا غيرك فاقروا بذلك ورفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم فرأى الغنى والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب لو لا سويت بين عبادك قال انى أحببت ان اشكر ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور خصوا بميثاق اخر فى الرسالة والنبوة وهو قوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم إلى قوله وعيسى بن مريم وعيسى بن مريم كان فى تلك الأرواح فارسله إلى مريم فحدث عن أبى انه دخل من فيها رواه احمد زاد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 429
(1/2498)
فى بعض الروايات بعد قوله لا تشركوا بي شيئا قوله فانى سانتقم عمن أشرك بي ولم يؤمن بي وزاد بعد قوله فاقروا بذلك قوله ثم كتب اجالهم وأرزاقهم ومصائبهم وبعد قوله انى أحببت ان اشكر انه فلما قررهم بتوحيده واشهد بعضهم على بعض أعاد إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتّى يولد كل من أخذ ميثاقه قال البغوي ما معنى قوله وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم وانما أخرجهم من ظهر آدم قلت وبه نطق الأحاديث قيل فى جوابه ان اللّه أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالدون فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم انهم كلهم بنوه فاخرجوا من ظهره ولذلك لم يذكر ظهر آدم فى الآية قلت وإخراج كلهم إلى ظهر آدم انما أسند فى الحديث بناء على انه لما كان بعضهم فى ظهر بعض والأصول فى ظهر آدم فكان كلهم فى ظهره فصح اسناد إخراج كلهم إلى ظهره أو لان المراد بآدم فى الحديث آدم وبنيه اقتصر على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع قلت ومعنى قوله صلى اللّه عليه واله وسلم ضرب كتفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء انه ضرب كتفه أو كتف أحد من ابنائه فاخرج منها ذرية بيضاء وكتفه أو كتف أحد منهم اليسرى فاخرج منها ذرية سوداء ثم قال خلقت هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار قال البغوي قال أهل التفسير ان أهل السعادة أقروا طوعا واهل الشقاوة قالوا تقية وكرها و
(1/2499)
ذلك معنى قوله تعالى وله اسلم من فى السموات والأرض طوعا وكرها شَهِدْنا قال السدى هو خبر من اللّه تعالى عن نفسه وملئكته انهم شهدوا على اقرار بنى آدم وقال بعضهم هو خبر من قول بنى آدم حين اشهد اللّه بعضهم على بعض فقالوا بلى شهدنا وقال الكلبي ذلك من قول الملئكة وفيه حذف تقديره لما قالت الذرية بلى قال اللّه تعالى للملئكة اشهدوا قالوا شهدنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب على العلية قرأ أبو عمرو ويقولوا فى الموضعين بالياء التحتانية على الغيبة تقديره اشهدهم كراهية ان يقولوا أو لئلا يقولوا والباقون بالفوقانية على الخطاب تقديره اخاطبكم بالست بربكم كراهة ان تقولوا أو لئلا تقولوا قلت والاولى « 1 » ان يقال تقديره على قراءة أبى عمرو ذكرهم يا محمد بالميثاق كراهة ان يقولوا انا كنا عن هذا غافلين وعلى قراءة الجمهور أخبرتكم أيها الناس بالميثاق كراهة ان تقولوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا الميثاق أو الإقرار غافِلِينَ فان قيل كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق قيل لما اخبر بذلك المخبر الصادق المؤيد بالمعجزة لزمهم الحجة ولا يسقط الاحتجاج بعدم حفظهم
_________
(1) وجه الاولوية ان تذكير الميثاق بلسان صاحب المعجزة يزيل الغفلة لانفس الاشهاد والميثاق واللّه اعلم 12
.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 430
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ اتباعا لهم فاقتدينا بهم أَفَتُهْلِكُنا أى تعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أى الاسلاف المشركون يعنى كراهة ان تعتذروا بالغفلة أو بالتقليد للاباء وليس شىء من ذلك مسقطا للاحتجاج.
(1/2500)
وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أى نبينها ليتدبر فيها العباد ويتذكروا ما نسوا وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معطوف على مقدر تقديره لعلهم يتدبرون ويتذكرون ما نسوا ولعلهم يرجعون من الكفر إلى التوحيد كذا قال السلف الصالح وجمهور المفسرين على ما يشهد به الأحاديث وقال البيضاوي ومن تبعه معنى الآية وإذ أخذ ربك أى أخرج من صلب آدم وأصلاب بنيه نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن واشهدهم على أنفسهم أى نصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فى عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بالتوحيد حتى صاروا كانهم قيل لهم الست بربكم قالوا بلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم فيه منزلة الاشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل قال البيضاوي ويدل عليه قوله قالوا بلى شهدنا ان تقولوا أى كراهة ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين أى لم تنبه بالدليل أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لان التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم لا يصلح عذرا وقال والمقصود من إيراد هذا الكلام الزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعد ما الزمهم الميثاق المخصوص بهم فى التورية والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال اللّه تعالى وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون عن التقليد واتباع الباطل والقائل بهذا التفسير يأول الأحاديث المذكورة أيضا واللّه اعلم.
(1/2501)
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ أى اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها أى من الآيات بان كفر بها واعرض عنها قال ابن عباس هو بلعم بن باعور وقال مجاهد بلعام بن باعور قال عطية عن ابن عباس كان من بنى إسرائيل وروى أبو طلحة عنه انه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل من مدينة بلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس وابن اسحق والسدى وغيرهم ان موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين ونزل ارض بنى كنعان من ارض الشام اتى قوم إلى بلعم وكان عنده اسم الأعظم فقالوا ان موسى عليه السلام رجل حديد ومعه جنود كثيرة وانه قد جاءنا يخرجنا من ديارنا ويقتلنا ويحلها بنى إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع اللّه ان يردهم عنا قال ويلكم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 431
(1/2502)
نبى ومعه الملئكة والمؤمنون كيف ادعو عليهم وانا اعلم من اللّه ما اعلم وان فعلت هذا ذهبت دنياى وآخرتي فراجعوه وألحوا عليه فقال حتّى أو امر ربى تبارك وتعالى وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يومر فى المنام فامّر فى الدعاء عليهم فقيل له فى المنام لا تدع عليهم فقال لقومه وأمرت ربى وانى قد نهيت فاهدوا له هدية فقبلها ثم راجعوه فقال حتّى أوامر فامر فلم يجئى له شىء فقال قد وأمرت فلم يجئ الىّ شىء فقالوا لو كره ربك ان تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرة الاولى فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بنى إسرائيل يقال له حسان فلما سار عليها غير كثير ربصت « 1 » به فنزل عنها فضربها حتّى قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربصت فضربها حتّى اذن اللّه لها الكلام وكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعم اين تذهب الا ترى الملئكة امامى تردنى عن وجهى هذا تذهب إلى نبى اللّه والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع فخلى اللّه سبيلها فانطلقت حتّى إذا شرفت على جبل حسان جعل لا يدعو عليهم بشئ الا صرف لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير الا صرف لسانه إلى بنى إسرائيل فقال قومه يا بلعم أ تدري ما تصنع انما تدعوهم وعلينا قال هذا ما لا املك هذا شىء قد غلب اللّه عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم قد ذهبت الان منى الدنيا والاخرة فلم يبق الا المكر والحيلة فسامكر لكم واحتال جملوا النساء وزينوهن فاعطوهن السلع ثم ارسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ومروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فانهم ان زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخلت النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بنى إسرائيل يقال له زهرى بن شلوم راس سبط شمعون بن يعقوب عليه السلام فقام إليها فاخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم اقبل بها حتّى وقف بها على موسى عليه السلام فقال انى أظنك
(1/2503)
ستقول هذه حرام عليك قال أجل هى حرام عليك لا تقربها قال فو اللّه لا أطيعك فى هذه ثم دخل بها قبته فوقع عليها فارسل اللّه الطاعون على بنى إسرائيل فى الوقت وكان الفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب امر موسى وكان رجلا قد اعطى بسطة فى الخلق وقوة فى البطش وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون فى بنى إسرائيل فاخبر الخبر فاخذ بحربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعا إياهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه و
_________
(1) ربصت أى برلت 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 432
(1/2504)
اعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار وجعل يقول اللهم هكذا يفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون فهلك من بنى إسرائيل فى الطاعون فيما بين ان أصاب زمرى المرأة إلى ان قتله فنحاص سبعون الفا فى ساعة من النهار فمن هناك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصره واخذه إياهما بذراعه واسناده إياهما إلى لحيته والبكر من كل أموالهم لأنه كان بكر العيزار وفى بلعم انزل اللّه عز وجل واتل عليهم نبا الذي اتيناه آياتنا الآية وقال مقاتل ان ملك البلقاء قال لبلعام ادع اللّه على موسى فقال انه من أهل دينى لا ادعو عليه فتخشب خشبة ليصلبه فلما راى ذلك خرج على أتان له وليدعو عليه فلما عاين العسكر قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت لم تضربنى انى مامورة وهذه نار امامى قد منعتنى ان امشى فرجع فاخبر الملك فقال لتدعون عليه اولا صلبنك فدعى على موسى بالاسم الأعظم ان لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل فى التيه بدعائه فقال موسى عليه السلام يا رب باى ذنب وقعنا فى التيه فقال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعائه على فاسمع دعائى عليه فدعا موسى عليه السلام ان ينزع منه الاسم الأعظم والايمان فنزع منه المعرفة وسلخه منها فخرجت منصورة كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى فانسلخ منها وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن اسلم وليث بن سعد نزلت هذه الآية فى امية بن أبى الصلت الثقفي وكانت قصته انه كان قد قرأ الكتب وعلم ان اللّه مرسل رسولا فرجى ان يكون ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى اللّه عليه واله وسلم حسده وكفر به وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد صلى اللّه عليه واله وسلم فقال لو كان نبيا ما قتل أقربائه فلما مات امية أتت أخته فارعة رسول اللّه صلى
(1/2505)
اللّه عليه واله وسلم فسألها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم عن وفات أخيها فقالت بينما هورا قد أتاه إتيان وكشفا سقف البيت فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والاخر عند راسه فقال الذي عند رجليه للذى عند راسه اوعى قال وعى قال ازكى قال أبى قالت فسالته عن ذلك فقال خير أريد بي فصرف عنى فغشى عليه فلما أفاق قال
كل عيش وان تطاول دهرا صائر مرة إلى ان يزولا
ليتنى كنت قبل ما بدا لى فى قلال الجبال أرعى الوعولا
ان يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
ثم قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم انشدينى من شعر أخيك فانشدته بعض قصايده فقال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 433
(1/2506)
رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أمن شعره وكفر قلبه فانزل اللّه تعالى وتقدس فيه اتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها الآية وفى رواية عن ابن عباس انها نزلت فى البسولس رجل من بنى إسرائيل وكان اعطى له ثلث دعوات مستجابات وكانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعلنى منها دعوة واحدة فقال لك منها واحدة فما تريدين قالت ادع اللّه ان يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل فدعالها فجعلت أجمل النساء فى بنى إسرائيل فلما علمت انه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة والناس يعيروننا بها ادع اللّه ان يردها إلى الحال التي كانت عليها فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات كلها قال البغوي والقولان الأولان اظهر قلت بل القول الثاني يرده قوله تعالى قالوا يا موسى انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون قال رب انى لا املك الا نفسى وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض الآية فان ذلك الآية تدل على ان وقوعهم فى التيه لذلك القول لا لدعوة بلعام واللّه اعلم وقال الحسن وابن كيسان نزلت فى منافقى أهل الكتاب الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقال قتادة هذا مثل ضربه اللّه عز وجل لمن عرض عليه الهدى فابى ان يقبله فذلك قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا قال ابن عباس والسدى يعنى الاسم الأعظم قال ابن زيد كان لا يسأل شيئا الا أعطاه وقال ابن عباس فى رواية اخرى اوتى كتابا من كتب اللّه فانسلخ أى خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ يعنى لحقه وقيل استتبعه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من الضالين.
(1/2507)
وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار من العلماء بِها أى بسبب تلك الآيات وقال مجاهد لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أى مال إلى الدنيا والى السفالة كنى من الدنيا بالأرض لمناسبة الاسفلية أو لان ما فيها من البلاد والعقار كلها ارض وسائر متاعها مستخرج من الأرض قال الزجاج خلد واخلد واحد وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال اخلد فلان بالمكان إذا اقام به وَاتَّبَعَ هَواهُ فى إيثار الدنيا واسترضاء قومه واعرض عن مقتضيات الآيات أسند اللّه سبحانه الرفع إلى مشيئته والخلود إلى الأرض بمعنى الاقامة على الميل إلى الدنيا إلى العبد اشارة إلى ان هذا امر طبعى يقتضيه ذاته لاجل إمكانه وعدمه الذاتي والرفع إلى الدرجات العلى امر وهبى انما يستفاد من سبحانه بفضله وقال البيضاوي علق رفعه بمشية اللّه ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيها على ان المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وان عدمه دليل على عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه وان السبب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 434
(1/2508)
الحقيقي هو المشية وان ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة فى حصول المسبب من حيث ان المشية تعلقت به كذلك وكان من حقه ان يقول ولكنه اعرض عنها فاوقع موقعه اخلد إلى الأرض واتبع هواه مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وعلى ان حب الدنيا راس كل خطيئة وهذا حديث مرفوع رواه البيهقي عن الحسن مرسلا فَمَثَلُهُ أى صفته التي هى مثل فى الخسة كَمَثَلِ كصفة الْكَلْبِ فى اخس أحواله وهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أى يخرج لسانه من العطش أو من التعب والاعياء يعنى يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له لضعف فواده بخلاف سائر الحيوانات فانه لا يلهث شىء منها الا إذا حرك واعيا أو عطش والشرطية فى موضع الحال والمعنى لاهثا فى الحالين ذليلا دائم الذلة قال مجاهد هو مثل الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به والمعنى ان هذا الكافران زجرته ووعظته لم ينزجر وان تركته لم يهتد فهو ضال ابدا ذليل مثل ذلة الكلب لاهتا ابدا نظير هذه الآية فى المعنى قوله تعالى وان تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أ دعوتموهم أم أنتم صامعون ثم عم لهذا التمثيل جميع من كذب بايات اللّه تعالى فقال ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود حيث قرأوا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى التورية وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءتهم واظهر المعجزات وقرأ القرآن المعجز وعرفوه كما يعرفون أبنائهم انسلخوا من آيات التورية وكفروا بمحمد صلى اللّه عليه واله وسلم وصاروا أذلاء كالكلب لاهثا لم ينفعهم الزواجر والمواعظ التي فى التورية فَاقْصُصِ الْقَصَصَ المذكورة على اليهود فانها نحو قصصهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكرا يؤدى بهم إلى الاتعاظ فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته وقيل هذا مثال الكفار مكة وذلك انهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة
(1/2509)
اللّه عز وجل فلما جاء بهم نبى لا يشكون فى صدقه كذبوه فلم يهتدوا وادعوا أو تركوا.
ساءَ فاعله مضمر تميزه مَثَلًا الْقَوْمُ أى مثل القوم حذف المضاف واعراب المضاف إليه إعرابه الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ معطوف على كذبوا داخل فى الصلة يعنى الذين كذبوا وظلموا أنفسهم أو منقطع عما سبق والمعنى وما يظلمون الا أنفسهم فان وباله لا يتخطاها ولذلك قدم المفعول.
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أفرد حملا على لفظة من وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أورد لفظ الجمع حملا على المعنى فيه تصريح بان الهدى والضلال من اللّه تعالى وان هداية اللّه تعالى يختص ببعض دون بعض وانها مستلزمة للاهتداء وليس معنى الهدى من اللّه البيان كما قالت المعتزلة وفى افراد لفظ المهتدى وجمع الخاسرين تنبيه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 435
على ان المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين والاقتصاد فى الأخيار عمن هداه اللّه بالمهتدي تعظيم لشان الاهتداء وتنبيه على انه فى نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وانه المستلزم للفوز بالنعم الاجلة والعنوان لها عن عمر بن الخطاب انه خطب بالجابية فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال من يهده اللّه فلا مضل له ومن يضلل اللّه فلا هادى له فقال له قس بين يديه كلمة بالفارسية فقال عمر لمترجم له ما يقول قال يزعم ان اللّه لا يضل أحدا فقال عمر كذبت يا عدو اللّه بل اللّه خلقك وهو اضلك وهو يدخلك النار ان شاء اللّه تعالى ولو لا ان بيننا عقد لضربت عنقك فتفرق الناس وما يختلفون فى القدر.
(1/2510)
وَ لَقَدْ ذَرَأْنا أى خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنى المصرين على الكفر فى علمه تعالى عن عائشة عنه صلى اللّه عليه واله وسلم ان اللّه خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب ابائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم ونحو ذلك فيما مر من حديث إخراج الذرية من صلب آدم وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وفى يديه كتابان فقال أ تدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول اللّه الا ان تخبرنا فقال للذى فى يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء أهل الجنة واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء أهل النار واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول اللّه ان كان امر قد فرغ منه قال سددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وان عمل اىّ عمل وان صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وان عمل اىّ عمل ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق فى الجنة وفريق فى السعير رواه الترمذي فان قيل كيف التوفيق بين هذه الآية وو بين قوله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون قلنا خلق الجن والانس كلهم للعبادة من حيث نفس الخلق واصل الحكمة فى خلق العالم من غير ملاحظة علم اللّه فيهم اختيار الكفر وخلق كثيرا من الجن والانس لجهنم نظرا إلى انه تعالى علم منهم اختيار الكفر وحق القول منه لا ملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين ولا منافاة بين الحيثيتين وما قيل ان قوله تعالى ما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وان كان عاما صيغة لكن أريد به الخصوص يعنى من علم منهم الايمان والطاعة فليس بشئ وقول المعتزلة بان
(1/2511)
هذا لام العاقبة أى ليكون عاقبتهم جهنم فلما كان عاقبتهم جهنم جعل كانهم خلقوا لها قرارا عن ارادة اللّه المعاصي عدول عن الظاهر لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 436
بِها
اى ليس فيها استعداد معرفة الحق والنظر فى دلائله وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ونظر الاعتبار فى دلائله وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والموعظ سماع تأمل وتذكر أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ فى عدم الفقه والابصار للاعتبار والاستماع للتدبر وان مشاعرهم وقواهم مقصورة على الاكل والشرب والجماع واسباب التعيش بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الانعام لان للانعام تميزا بين الضار والنافع من وجه فتجتهد فى جذب المنافع ودفع المضار غاية جهدها والكفار منهم من يقدمون على النار المؤبدة معاندة مع العلم بالهلاك قال اللّه تعالى يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ومنهم من كابر العقول وارتكب الفضول وضيّع ما أودع اللّه فيه من العقل والشعور فكيف يستوى المكلف المأمور والمخلى المعذور أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ كمال الغفلة لا غيرهم بمثل تلك الغفلة هذه الجملة تدل على ان للانعام والجمادات شعورا ما بخالقهم ليسوا بغافلين كمال الغفلة ويشهد هذا قوله تعالى وان من شىء الا يسبح بحمده وقوله تعالى الم تر ان اللّه يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب قال مقاتل ان رجلا دعا اللّه فى صلوة ودعا الرحمن فقال بعض المشركين من أهل مكة ان محمدا صلى اللّه عليه واله وسلم وأصحابه يزعمون انهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين فانزل اللّه عز وجل.
(1/2512)
وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى دالة على معان هى احسن المعاني والمراد بها الألفاظ الدالة على الذات المتصفة بالصفات دون الصفات فحسب وبينهما بون بعيد فَادْعُوهُ بِها أى قسموه بتلك الأسماء فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان للّه تعالى تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدة من أحصاها دخل الجنة وفى رواية وهو وتر يحب الوتر ولم يذكر الشيخان تعيين الأسماء التسعة والتسعين المذكورة فى هذا الحديث لعدم ثبوته على شرطها وذكر الترمذي والبيهقي فى الدعوات الكبير تعيينها عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان للّه تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو اللّه الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوى المتين الولي الحميد المحصى المبدى المعيد المحى المميت الحي القيوم الواحد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 437
(1/2513)
الاخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال « 1 » والإكرام المقسط الجامع الغنى المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور واعلم ان اسماء اللّه تعالى غير منحصرة فى العدد المذكور ولعل الأسماء المذكورة فى الحديث من خواصها انه من أحصاها دخل الجنة ولذلك ضبطها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى سلك واحد واعلم ان من الأسماء التي وقعت فى رواية الترمذي لم يقع سبعة وعشرون اسما منها فى القرآن بصيغة الاسم الصريح وهو القابض والباسط والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل والجليل والباعث والمحصى والمبدى والمعيد والمميت والواجد والماجد والمقدم والمؤخر والوالي وذو الجلال والإكرام والمقسط والمغني والمانع والضار والنافع والباقي والرشيد والصبور وقد وقع فى القرآن بصيغة الاسم ما لم يقع فى رواية الترمذي وهو خير وأبقى واله وشاكر ورب العالمين وأحد ومالك يوم الدين والأعلى والأكرم وخفى واعلم بمن ضل عن سبيله واعلم بالمهتدين والقريب والنصير والقدير والمبين والخلاق والمبتلى والموسع والمليك والكافي وفاطر السموات والأرض والقائم بالقسط وغافر الذنب وقابل التوب وشديد العقاب ونعم المولى والغالب على امره وسريع الحساب وفالق الحب والنوى وفالق الإصباح وجاعل الليل سكنا وعلام الغيوب وعالم الغيب والشهادة وذو الطول وذو انتقام ورفيع الدرجات وذو العرش وذو المعارج وذو الفضل العظيم وذو القوة وذو المغفرة وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومتم نعمته ومتم نوره وعدو الكافرين وولى المؤمنين والقاهر فوق عباده واسرع الحاسبين ومخرج الميت من الحي ومحيى الموتى وارحم الراحمين واحكم الحاكمين وخير الرازقين وخير الماكرين وخير الفاتحين ومخزى الكافرين وموهن كيد الكافرين
(1/2514)
و فعال لما يريد والمستعان ونور السموات والأرض واهل التقوى واهل المغفرة ونعم الماهدون ورب الناس وملك الناس واله الناس واقرب من حبل الوريد والقائم على كل نفس بما كسبت وأحق ان تخشاه الذي هو اغنى واقنى والذي هو أمات واحيى والذي هو اضحك وابكى والذي خلق الزوجين الذكر والأنثى والذي أهلك عادا الاولى والذي لم يكن له ولد ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل والذي انزل على عبده الكتاب والذي بيده ملكوت كل شىء والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والذي يبدأ الخلق ثم يعيده والذي بيده الملك والذي بعث فى الأميين رسولا ونحو ذلك وقوله تعالى لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فى الحديث انه الاسم الأعظم وقد ذكرنا تحقيق الاسم الأعظم
_________
(1) هذا وقع فى التنزيل فى سورة الرحمن 12 أبو الخير
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 438
فى أوائل سورة ال عمران ومنها ما وقع فى الأحاديث سوى الحديث المذكور وليس فى القرآن كالحنان والمنان والجواد والأجود والفرد والوتر والصادق والجميل والقديم والبار والوافي والعادل والمعطى والمغيث والطيب والطاهر والمبارك وخالق الشمس والقمر المنير ورازق الطفل الصغير وجابر العظم الكسير وكبير كل كبير والذي نفسى بيده وغير ذلك ثم اعلم ان اسماء اللّه تعالى غير منحصرة فيما ورد فى القرآن والأحاديث فقد روى انه تعالى انزل فى التورية الفا من أسمائه وقد كان من دعائه صلى اللّه عليه واله وسلم اللهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك وأنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك فلا بد من الايمان مجملا بجميع اسماء اللّه تعالى التي سمى اللّه تعالى بها نفسه.
(1/2515)
وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قرأ حمزة هنا وفى فصلت بفتح الياء والحاء والباقون بضم الياء وكسر الحاء ومعنى الإلحاد واللحد الميل عن القصد قال يعقوب بن السكيت الإلحاد هو العدول عن الحق وإدخال ما ليس منه فيه يقال الحد فى الدين ولحد والذين يلحدون فى أسمائه هم المشركون عدلوا بأسماء اللّه عما هى عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من اللّه والعزى من العزيز ومناة من المنان هذا قول ابن عباس ومجاهد وقيل هو تسميتهم الأصنام الهة روى عن ابن عباس معنى يلحدون فى أسمائه يكذبون وقال أهل المعاني الإلحاد فى اسماء اللّه تعالى تسميته تعالى بما لم يتسم ولم ينطق به كتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه واله وسلم والحاصل ان اسماء اللّه تعالى توقيفية فانه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا ويسمى رحيما ولا يسمى رقيقا وقال اللّه عز وجل يخادعون اللّه وهو خادعهم وقال عز وجل ومكروا ومكر اللّه ولا يقال يا خادع يا مكار ويقال يا قائم بالقسط ولا يقال يا قائم ولا يقال يا خالق القردة والخنازير ويا كبير من زيد وان كان زيد اكبر من ملوك الدنيا بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على وجه التعظيم ولا يجوز لنا أخذ اسم من اسماء اللّه تعالى التي ورد فى التورية من اليهود لعدم الاعتماد على قولهم لكفرهم لكن من اسلم من أحبارهم وحسن إسلامه فلا بأس بالأخذ منه فان عمر رضى اللّه عنه وابن عباس وأبا هريرة وغيرهم من الصحابة كانوا يسألون أبناء التورية من كتب الأحبار وعبد اللّه بن سلام من غير نكير فمعنى الآية على هذا وذروا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لم يرد به الشرع أو المعنى ذروا الملحدين يعنى لا تبالوا بانكارهم فيما سمى به نفسه كقولهم ما نعرف إلا رحمن اليمامة أو المعنى ذروهم والحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق
(1/2516)
أسمائها منها كاللات ولا توافقوهم عليه أو اعرضوا عنهم فان اللّه مجازيهم كما قال سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال البغوي قال عطاء عن ابن عباس يريد أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 439
و هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان وقال قتادة بلغنا ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال هذه لكم وقد اعطى القوم بين ايديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقال الكلبي هم من جميع الخلق وعلى كلا التقديرين ذكر اللّه تعالى فى هذه الآية بعد ما بيّن انه خلق للنار طائفة ظالمين ملحدين عن الحق انه خلق للجنة أمة هاذين عادلين فى الأمر والاستدلال بهذه الآية على صحة اجماع كل عصر ضعيف إذ لا دلالة فيها على ان فى كل فرقة طائفة بهذه الصفة فلا مساس لهذه الآية بقوله صلى اللّه عليه واله وسلم لا يزال من أمتي أمة قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي امر اللّه وهم على ذلك متفق عليه من حديث معاوية بن أبى سفيان والمغيرة بن شعبة.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى كفار مكة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يعنى سنقربهم إلى الهلاك قليلا قليلا واصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال عطاء سنمكر بهم من حيث لا يعلمون وقال الكلبي تزين لهم أعمالهم فنهلكهم وقال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وقال سفيان الثوري نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر.
(1/2517)
وَ أُمْلِي لَهُمْ عطف على سنستدرجهم يعنى امهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم وازين أعمالهم السوء وامهلها ليتمادوا فى المعاصي المفضية إلى الهلاك إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أى أخذي شديد وانما سماه كيدا لان ظاهره احسان وباطنه خذلان قال ابن عباس ان مكرى شديد قيل نزلت فى المستهزئين فقتلهم اللّه فى ليلة واحدة واللّه اعلم أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يا بنى فلان يا بنى فلان يحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم ان صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح فانزل اللّه تعالى.
أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا سكته ما بِصاحِبِهِمْ محمد صلى اللّه عليه واله وسلم مِنْ جِنَّةٍ أى جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضح إنذاره بصوره جلى بحيث لا يخفى على أحد.
أَ وَلَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يعنى ما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يحصى الدلالة على كمال قدرة صانعها ووحدته ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت وان مصدرية أو خفيفة عن الثقيلة واسمه ضمير الشان وكذا اسم يكون والمعنى أو لم ينظروا فى اقتراب اجالهم وتوقع حلولها حتّى يسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل حلول اجالهم والاستفهام فى أو لم يتفكروا واو لم ينظروا للانكار والتعجب والواو للعطف على محذوف تقديره الم يؤمنوا بالقران والنبي ورموه بالجنون ولم يتفكروا ولم ينظروا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 440
(1/2518)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أى بعد القرآن العربي المعجز المشحون من العلم والحكمة على لسان رجل منهم أمي غير متهم قط بالكذب يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا بالقران يعنى لعل اجالهم قريبة فما بالهم لا يتبادرون الايمان بالقران وما يطلبون أوضح دليل منه فإذا لم يؤمنوا به فباى حديث أحق منه يريدون ان يؤمنوا به ثم ذكر علة اعراضهم فقال.
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى اللّه والباقون بالنون على التكلم وقرأ حمزة والكسائي يذرهم بالجزم عطفا على محل فلا هادى له كأنَّه قال فلا يهده أحد غيره ويذرهم والباقون بالرفع على الاستيناف فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين يعمهون حال من الضمير المنصوب فى يذرهم أخرج ابن جرير عن قتادة وغيره انه قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان بيننا وبينك قرابة فاشر إلينا متى الساعة واخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال قال حمل بن أبى قشير وسمول بن زيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم متى الساعة ان كنت نبيا كما تقول فانا نعلم ما هى فانزل اللّه تعالى.
(1/2519)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أى القيامة وهى من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها اما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو لانها على طولها عند اللّه كساعة أَيَّانَ متى مُرْساها مصدر ميمى يعنى ارسائها أى إثباتها واستقرارها ورسوا لشئ ثباته واستقراره ومنه رسا الجبل وارسى السفينة قال ابن عباس معناه منتهاها وقال قتادة قيامها قُلْ يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها لا يعلمها الا هو لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا لا يُجَلِّيها أى لا يظهر أمرها ولا يكشف خفائها لِوَقْتِها أى فى وقتها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى ثقل علمها وخفى أمرها بأعلى أهل السموات والأرض وكل خفى ثقيل أو يقال كل من أهل السموات والأرض من الملئكة وغيرهم أهمه شان الساعة ويتمنى ان يتجل له علمها وشق عليه خفائها أو ثقلت فيها لانهم يخافون شدائدها وأهوالها وقال الحسن معناه إذا جاءت ثقلت على أهلها من الملئكة والثقلين وعظمت كأنَّه اشارة إلى الحكمة فى اخفائها لا تَأْتِيكُمْ الساعة إِلَّا بَغْتَةً فجاءة على غفلة فى الصحيحين عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمها ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عمر قال لينفخن فى الصور والناس فى طرقهم وأسواقهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 441
(1/2520)
و مجالسهم حتى ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتّى ينفخ فى الصور فيصعق به قال وهى التي قال اللّه تعالى ما ينظرون الا صيحة واحدة قال تقوم الساعة والناس فى أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفى حوائجهم فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون واخرج عبد اللّه بن احمد فى رواية الزهد عن زيد بن العوام قال ان الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرأ فلا يستطيعون توصية الآية واخرج الطبراني بسند جيد عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع فى السماء تنتشر حتى تملأ السماء ثم ينادى مناديا أيها الناس اتى امر اللّه فلا تستعجلوه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم والذي نفسى بيده ان الرجلان ينشران الثوب فلا يطويانه وان الرجل ليمدد حوضه « 1 » فلا يسقى منه شيئا والرجل يحلب ناقته فلا يشربه يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فعيل من حفى الشيء إذا سال عنه وبالغ فى السؤال والمعنى كانك عالم بها فانه من بالغ فى السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ولذلك عدى بعن وقيل عنها متعلق يسئلونك تقديره يسألونك عنها كانك حفى أى عالم وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فان قريشا قالوا ان بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك عنها كانك شفيق بقريش تخصهم بالاطلاع عليها لاجل قرابتك بهم قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرره لتكرير يسألونك لمانيط به قوله كانك حفى وللمبالغة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ان علمها مما استاثره اللّه ولم يوته أحدا من خلقه.
(1/2521)
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أى جلب منفعة ولا دفع مضرة دينية ولا دنيوية وهو اظهار للعبودية والتبري عن دعوى العلم بالغيب إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من ذلك فيعلمنى به وحيا جليا أو خفيا ويعطنى قدرة على جلب النفع أو دفع الضرر وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعنى لاستكثرت من جلب المنافع ودفع المضار حتّى لا يمسنى سوء ولم أكن مغلوبا فى الحروب تارة وغالبا اخرى وقيل معناه لو كنت اعلم الغيب يعنى متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح وما مسنى السوء يعنى اجتنب عما يكون من الشر والفتنة وقيل معناه لو كنت اعلم الغيب أى متى الساعة لاخبرتكم حتّى تؤمنوا وما مسّنى السوء بتكذيبكم وقيل ما مسنى السوء كلام مبتدأ رد لقولهم انك مجنون يعنى ما مسنى جنون إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ للكافرين وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون وجاز ان يكون لقوم يؤمنون متعلقا
_________
(1) امدد الحوض طينه لتستلب منه الماء 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 442
لبشير ونذير كليهما على سبيل تنازع الفعلين فان النذارة والبشارة انما ينفعان فيهم.
(1/2522)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها أى من جسدها من ضلع من أضلاعها زَوْجَها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها أى ليانس بها ويطمئن إليها ذكر للضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب قوله فَلَمَّا تَغَشَّاها أى جامعها حَمَلَتْ حواء حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها ولم تلق منه ما تلقى الحوامل غالبا من الأذى أو محمولا خفيفا وهو النطفة فَمَرَّتْ بِهِ أى فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا ازلاق أو فاستمرت به وقامت وقعدت ولم يثقلها فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أى صارت ذات ثقل إذ اكبر الولد فى بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أى دعا آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا يا ربنا صالِحاً سويّا قد صلح بدنه مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجددة قال البغوي قال المفسرون لما حملت حواء أتاها إبليس فى صورة رجل وقال لها ما الذي فى بطنك قالت ما أدرى قال أخاف ان يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا وما يدريك من اين يخرج من دبرك فيقتلك أو من فيك أو ينشق بطنك فخافت حواء من ذلك وذكرت ذلك لادم عليه السلام فلم يزالا فى هم من ذلك ثم عاد إليها فقال انى من اللّه بمنزلة فان دعوت اللّه ان يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه أ تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس فى الملئكة الحارث فذكرت لادم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما إبليس حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث قال الكلبي قال لها ان دعوت اللّه فولدت إنسانا أ تسميه بي قالت نعم فلما ولدت قال سميه بي قالت وما اسمك قال الحارث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث وروى عن ابن عباس قال كانت حواء تلد وآدم يسميه عبد اللّه وعبيد اللّه وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فسمياه عبد الحارث فعاش واخرج احمد والترمذي وحسنه وقال غريب والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضى اللّه عنه قال قال رسول
(1/2523)
اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وامره قال البغوي جاء فى الحديث انه خدمهما إبليس مرتين مرة فى الجنة ومرة فى الأرض وقال ابن زيد ولد لادم فسماه عبد اللّه فاتها إبليس فقال ما سميتهما ابنكما قالا عبد اللّه وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد اللّه فمات فقال إبليس أ تظنان ان اللّه تارك عبده عندكما واللّه ليذهبن به كما ذهب بالاخر ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد الشمس قال البغوي والاول أصح.
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بشرا سويا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 443
فِيما آتاهُما
(1/2524)
قرأ أبو بكر شركاء بكسر الشين والتنوين أى شركة قال أبو عبيدة يعنى حظا ونصيبا وقرأ الآخرون بضم الشين وفتح الراء والمد والهمز جمع شريك قال البغوي اخبر عن الواحد بلفظ الجمع أى جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث وقال لم يكن هذا اشراكا فى العبادة ولا فى اعتقاد ان الحارث ربهما فان آدم كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد ان الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة امه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به انه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به انه معبود وهذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمى نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على ان الضيف ربه ويقول للغير انا عبدك وقال يوسف لعزيز مصر انه ربى احسن مثواى ولم يرد به انه معبوده كذلك هذا وقال الحسن وعكرمة معنى قوله تعالى جعلا له شركاء انه جعل أولادهما يعنى كفار مكة وغيرهم له تعالى شركاء فيما اتى أولادهما على حذف المضاف فى الموضعين واقامة المضاف إليه مقامه نظيره قوله تعالى ثم اتخذتم العجل وإذ قتلتم نفسا خطابا للذين كانوا فى عهد النبي صلى اللّه عليه واله وسلم من اليهود وكان ذلك من فعل ابائهم والمعنى ثم اتخذ آباؤكم العجل وإذ قتل اسلافكم نفسا ويؤيد هذا القول إيراد شركاء بصيغة الجمع وقوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يعنى الأصنام وكذا ما بعدها من الآيات وقال البغوي قيل هذا ابتداء كلام وأراد به اشراك أهل مكة ولئن أراد ما سبق فمستقيم من حيث انه كان الاولى بهما ان لا يفعلا ما فعلا من الإشراك فى الاسم وقال السيوطي هذا معطوف على خلقكم وما بينهما اعتراض وقال البغوي وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم اللّه أولادا فهودوهم ونصروهم وقال ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد المناف وعبد الشمس وقال عكرمة خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم من نفس واحدة أى من أبيه وجعل منها أى من جنسها زوجها قال
(1/2525)
البغوي وهذا قول الحسن والاول قول السلف ابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة من المفسرين انه آدم وحواء قلت ذكر اللّه سبحانه من آدم قصة أكل الشجرة بعد ما نهى عنه واشنع عليه فى القرآن فى عدة مواضع حيث قال وعصى آدم ربه فغوى وذكر انه ندم على ذلك كثيرا حيث قال ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فتاب اللّه سبحانه عليه وقال ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ومع ذلك ندم آدم على تلك الزلة ابدا حتّى انه ورد فى الصحيحين فى حديث طويل عن انس ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 444
من مكاننا فياتون آدم فيقولون أنت آدم أبو الناس خلقك اللّه بيده وأسكنك جنته واسجد لك ملئكته وعلمك اسماء كل شىء اشفع لنا عند ربك فيريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهى عنها ولم يذكر هذا الخطيئة من آدم عليه السلام ولو كانت تلك الخطيئة من آدم عليه السلام لكانت اغلظ من الاولى فى هذا المقام تاويل النصوص على ما قال الحسن وعكرمة.
أَ يُشْرِكُونَ به تعالى ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً يعنى إبليس والأصنام وَهُمْ يُخْلَقُونَ هم ضمير للاصنام جئ به بناء على تسميتهم الهة.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ أى الأصنام لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر أو نحو ذلك.
(1/2526)
وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أى المشركين إِلَى الْهُدى أى الإسلام لا يَتَّبِعُوكُمْ قرأ نافع هاهنا وفى الشعراء يتبعهم الغاوون بسكون التاء المثناة من فوق وفتح الموحدة من المجرد والباقون بتشديد المثناة وكسر الموحدة من الافتعال وهما بمعنى يقال تبعه واتبعه اتباعا وقيل الخطاب للمشركين والضمير المنصوب فى تدعوهم للاصنام أى ان تدعوا أيها الكفار الأصنام إلى ان يهدوكم لا يتبعوكم أى لا يجيبوكم إلى مرادكم كما يجيب اللّه سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ لم يقل أم صمتم لرعاية رؤس الاى وللمبالغة فى عدم إفادة الدعاء من حيث ان الدعاء مستو بالثبات على الصمات أو لانهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكانه قيل سواء عليكم أحداثكم دعائهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ أيها المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ أى تعبدونهم وتسمونهم الهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أى مخلوقة مملوكة مذللة مسخرة لما أريد منهم قال مقاتل أراد به الملئكة والخطاب مع قوم يعبدون الملئكة والاول أصح فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ انها الهة ويحتمل انهم لما نحتوا الأصنام بصورا لاناسى قال لهم ان منتهى أمرهم ان يكونوا احياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحقها بعضكم من بعض ثم بين انها دونكم منزلة فقال.
(1/2527)
أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها قرأ أبو جعفر هاهنا وفى القصص والدخان بضم الطاء والباقون بكسرها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها كما هى لكم فكيف تعبدون ما هى أدون منكم منزلة قُلِ يا محمد ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أيها المشركون ثُمَّ كِيدُونِ قرأ هشام بخلاف عنه بإثبات الياء فى الحالين وأبو عمرو بإثباتها فى الوصل خاصة والباقون بحذفها فى الحالين يعنى بالغوا فيما
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 445
تقدرون أنتم وشركاؤكم فى المكر وإصابة المكروه فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلونى فانى لا أبالي بكم لوثوقى على ولاية اللّه تعالى وحفظه.
إِنَّ وَلِيِّيَ أى حفيظى اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده فضلا من أنبيائه قال ابن عباس الذي لا يعدلون باللّه شيئا فاللّه يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا يعنى الأصنام وَتَراهُمْ أيها المخاطب يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يعنى انهم يشهون الناظر إليك لانهم صوروا الصورة الإنسان وقال الحسن معنى الآية ان تدعوهم يعنى المشركين على الإسلام لا يسمعوا أى لا يعقلون ذلك بقلوبهم وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم واللّه اعلم.
(1/2528)
خُذِ الْعَفْوَ قال عبد اللّه بن الزبير ومجاهد امر اللّه سبحانه نبيه صلى اللّه عليه واله وسلم ان يأخذ العفو من اخلاق الناس وأعمالهم وما يسهل عليهم وذلك مثل قبول اعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء والتجسس ونحو ذلك ولا تطلب ما يشق عليهم فالعفو هو ضد الجهد وقيل معناه خذ العفو عن المذنبين أخرج البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصين بن حذيفة فدخل على ابن أخيه الحر بن يقيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء اصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا فاستاذن لى عليه قال ساستاذن لك عليه قال ابن عباس فاستاذن الحر للعيينة فاذن له عمر فلما دخل قال يا ابن الخطاب فو اللّه ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتّى هم ان يوقع به فقال الحسن يا امير المؤمنين ان اللّه عز وجل قال لنبيه صلى اللّه عليه واله وسلم خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين وان هذا من الجاهلين واللّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب اللّه عز وجل عن انس بن مالك ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال إذا وقف العباد للحساب جاء قوم فذكر الحديث وفيه ثم نادى مناد ليقم من اجره على اللّه فليدخل الجنة قيل ومن ذا الذي اجره على اللّه قال العافون عن الناس فقام كذا وكذا الفا فدخلوها بغير حساب رواه الطبراني بإسناد حسن وروى انه نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لجبرئيل ما هذا قال لا أدرى حتّى اسأل ربى ثم رجع فقال ان ربك أمرك ان تصل من قطعك وتعطى من حرمك تعفو عمن ظلمك رواه ابن مردوية عن جابر وابن أبى الدنيا وابن جرير وابن أبى حاتم عن الشعبي مرسلا وعن أبى بن كعب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 446
(1/2529)
ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال من سره ان يشرف له البنيان ويرفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد كذا قال لكنه منقطع وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها رواه البخاري وعن أبى هريرة ان رجلا قال يا رسول اللّه ان لى قرابة أصلهم ويقطعونى واحسن إليهم ويسيئو إلى وأحلم عنهم ويجهلون علىّ فقال لئن كنت كما قلت فكانما تسفّهم المل « 1 » ولا يزال معك من اللّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك رواه مسلم وقال ابن عباس والضحاك والكلبي معنى الآية خذ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل من العيال وذلك معنى العفو فى قوله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أى بما هو معروف حسنة من الافعال شرعا وعقلا عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال من راى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان رواه مسلم وعن حذيفة ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال والذي نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن اللّه ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتد عنه ولا يستجاب لكم رواه الترمذي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ يعنى إذا سفه عليك الجاهلون فلا تقابلهم بالسفه ولا تكافيهم بمثل أفعالهم نظيره قوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال جعفر الصادق رضى اللّه عنه امر اللّه نبيه صلى اللّه عليه واله وسلم بمكارم الأخلاق وليس فى القرآن اية اجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وعن جابر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان اللّه عز وجل بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الافعال رواه البغوي وعن عائشة انها قالت لم يكن
(1/2530)
رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا فى الأسواق ولا يجزى السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح
رواه الترمذي والبغوي.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ما زائدة بعد ان الشرطية والنزع النخس وهو الضرب برؤس الأصابع والمراد هاهنا التحريك إلى الشر والإغراء والوسوسة والمعنى ان يصيبك ويعتريك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت قوله تعالى خذ العفو قال النبي صلى اللّه عليه واله وسلم كيف يا رب والغضب فنزل واما ينزغنك من الشيطان نزغ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
اى استجر به جواب الأمر محذوف أى يدفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ لقولك عَلِيمٌ بالتجائك وبما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه أو سميع لاقوال من اذاك عليم بأفعاله
_________
(1) المل الرمال الحار الذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج أراد انما تجعل المل لهم سقوفا يستفونه حتّى ان عطاءك إياهم حرام عليهم ونار فى بطونهم 12 [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 447
فيجازيه عليها مغنينا إياك عن الانتقام واتباع الشيطان.
(1/2531)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة على وزن فاعل من طاف يطوف والمراد به لمة كانها طافت بهم ودارت حولهم فلم يقدر ان يؤثر فيهم أو من طاف به الخيال يطيف طيفا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب طيف بغير همز على انه مصدر على وزن ضرب أو مخفف طيّف على وزن ليّن وهيّن مِنَ الشَّيْطانِ المراد به الجنس ولذلك جمع ضميره « 1 » تَذَكَّرُوا ما امر اللّه به ونهى عنه وثوابه وعقابه وان هذه لمة من الشيطان فَإِذا هُمْ أى الذين اتقوا مُبْصِرُونَ مواقع الخطاء مكائد الشيطان بسبب التذكر فيتحرّزون عنها ولا يتبعونه فيها قال السدى المتقى إذ ازل تاب وقال مقاتل ان المتقى إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف انه معصية فابصر ونزع عن مخالفة اللّه تعالى والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله.
وَإِخْوانُهُمْ أى اخوان الشياطين يعنى الفساق وجاز ان يكون المراد بالاخوان الشياطين ويعود الضمير إلى الجاهلين قال الكلبي لكل كافراخ من الشياطين يَمُدُّونَهُمْ قرأ نافع بضم الياء وكسر الميم من الامداد والباقون بفتح الياء وضم الميم من المجرد يعنى يمدهم الشياطين أى يعينونهم بالتسهيل والإغراء أو هم يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال فِي الغَيِّ أى الضلال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أى لا يكفوا الفساق عن الضلالة ولا يبصرون بخلاف المؤمنين تذكروا فإذا هم مبصرون كذا قال الضحاك ومقاتل أو المعنى ثم لا يكفون الشياطين عن اغوائهم حتّى يردونهم قال ابن عباس لا الانس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم.
(1/2532)
وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا محمد بِآيَةٍ من القرآن أو معجزة مما اقترحوه قالُوا يعنى الكفار لَوْ لا اجْتَبَيْتَها أى هلا جمعتها تقولا من نفسك يقول العرب اجتبيت الكلام إذا اختلقته أو هلا أخذتها من اللّه قال الكلبي كان أهل مكة يسألون النبي صلى اللّه عليه واله وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لو لا اجتبيتها أى هلا أنشأتها من عندك قُلْ لهم يا محمد إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أى لست بمختلق للايات أو لست بمقترح لها هذا القرآن بَصائِرُ للقلوب بها تبصر الحق من الباطل والصواب من الخطاء أو حجج وبرهان يظهر بها صدق دعواى مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي فى سننه من طريق أبى عياض عن أبى هريرة قال كانوا يتكلمون فى الصلاة فنزلت هذه الآية وفى رواية عنه انها نزلت فى رفع الأصوات خلف رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) فى وإخوانهم 12 أبو الخير
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 448
(1/2533)
عليه واله وسلم واخرج ابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن مسعود انه سلم على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وهو يصلى فلم يرد وكان الرجل قبل ذلك يتكلم فى صلوته ويأمر لحاجته فلما فرغ رد عليه وقال ان اللّه يفعل ما يشاء وانها نزلت وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون واخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال كنا نسلم بعضنا على بعض فى الصلاة فنزلت فاستمعوا له وانصتوا واخرج ابن مردوية والبيهقي فى سننه عن عبد اللّه بن مغفل قال كان الناس يتكلمون فى الصلاة فأنزل اللّه هذه الآية فنهى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم عن الكلام فى الصلاة واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو الشيخ وابن جرير والبيهقي عن قتادة قال كانوا يتكلمون فى الصلاة أول ما أمروا بها كان الرجل يجئ وهم فى الصلاة فيقول لصاحبه كم صليتم فيقول كذا وكذا فانزل اللّه هذه الآية فامروا بالاستماع والإنصات واخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال كانوا يتكلمون فى الصلاة فانزل اللّه هذه الآية فهذه الروايات تدل على ان الآية نزلت للنهى عن الكلام فى الصلاة فقال أبو حنيفة رحمه اللّه وهو رواية عن احمد ان الكلام فى الصلاة عامدا كان أو ناسيا أو ساهيا أو مكرها أو جاهلا بالتحريم قل أو كثر ينقض الصلاة غير ان السلام ناسيا غير مبطل للصلوة وعند الائمة الثلاثة إذا تكلم فى صلوته أو سلم ناسيا أو جاهلا بالتحريم أو سبق لها لسانه لا يبطل صلوته وان طال والأصح عند الشافعي ان الكلام ناسيا ونحو ذلك ان طال يبطل وعن مالك ان كلام العامد فيما فيه مصلحة وان لم يكن عائدة إلى الصلاة كارشاد الضال وتحذير الضرير لا يبطل الصلاة احتج الائمة الثلاثة بحديث ابن سيرين عن أبى هريرة قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم احدى صلوة العشاء فصلى ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة فى المسجد فاتكأ عليها كأنَّه غضبان ووضع يده اليمنى على
(1/2534)
اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الايمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا قصرت الصلاة وفى القوم أبو بكر وعمر فهاباه ان يكلماه وفى القوم رجل فى يديه طول يقال له ذو اليدين فقال يا رسول اللّه نسيت أم قصرت الصلاة فقال لم انس ولم تقصر فقال أ كما يقول ذو اليدين فقالوا نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع راسه ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع راسه وكبر فربما سألوه ثم سلم فيقول يعنى ابن سيرين نبئت ان عمران بن حصين قال ثم سلم متفق عليه وبحديث عمران بن حصين ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم سلّم فى ثلث ركعات
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 449
(1/2535)
من العصر ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان فى يديه طول فقال يا رسول اللّه فذكر به فخرج كأنَّه غضبان يجر ردائه حتّى انتهى إلى الناس فقال اصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم رواه مسلم وجه الاحتجاج ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم تكلم معتقدا ان صلوته قد تمت وانه ليس فى الصلاة وكذلك ذو اليدين لامكان النسخ واعترض على هذا الحديث بوجوه أحدها ان أبا هريرة اسلم فى سنة سبع وذو اليدين قتل يوم بدر فكيف يصح قوله صلى بنا وثانيها ان ألفاظه يختلف فتارة يروى فسلم من ركعتين وتارة من ثلث وثالثها ان هذا كان حين كان الكلام مباحا فى الصلاة ولهذا تكلم أبو بكر وعمرو الناس عامدين وأجيب بانه اتفق الائمة على صحة الحديث واسم ذى اليدين الخرباق كما ذكر فى حديث عمران بن حصين وهو عاش بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وانما المقتول يوم بدر ذو الشمالين اسمه عمير وانما وقع اعتراضهم على رواية الزهري لهذا الحديث فانه قال فى رواية فقام ذو الشمالين قال أبو داود السجستاني وهم الزهري فى هذا الحديث فرواه عن ذى الشمالين ظنا منه ان ذا الشمالين وذا اليدين واحد واما اختلاف ألفاظه فجوابه ان حديث أبى هريرة لم يختلف
(1/2536)
و انما يروى الثلث من عمران وهو من افراد مسلم وحديث أبى هريرة أصح وان الشك فى العدد لا يضر مع حفظ أهل الحديث وثبوت الكلام ناسيا واما تحريم الكلام فقال أبو حاتم بن حبان انما كان الكلام بمكة فلما بلغ المسلمون بالمدينة سكتوا وقال زيد بن أرقم وهو من أهل المدينة كنا نتكلم فى الصلاة حتى نزلت وقوموا للّه قانتين فامرنا بالسكوت وقال أبو سليمان الخطابي نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة وعلى القولين كان تحريم الكلام قبل اسلام أبى هريرة بيقين واما كلام أبى بكر وعمر الناس فاجيب عنه بوجهين أحدهما ان فى رواية حماد بن زيد عن أيوب انهم اومؤا أى نعم فدل ذلك ان رواية من روى انهم قالوا نعم فيه تجوز والمراد انهم اومؤا ثانيهما انه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لحديث أبى سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فى المسجد فدعانى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فلم أجبه حتّى أتيته فقلت يا رسول اللّه انى كنت أصلي فقال الم يقل اللّه استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم رواه البخاري واحتج أبو حنيفة بحديث معاوية بن الحكم قال بينا نحن نصلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت له يرحمك اللّه فرمانى القوم بأبصارهم فقلت وا ثكلى أمياه ما شانكم تنظرون الىّ فجعلوا يضربون بايديهم على افخاذهم فلما رأيتهم يصمتونى لكنى سكت فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم دعانى فبابى هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده احسن تعليما منه واللّه ما لهزنى « 1 » ولا شتمنى
_________
(1) اللهز الضرب بجمع الكف فى الصدر 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 450
(1/2537)
و لا ضربنى ثم قال ان هذه الصلاة لا تصلح فيها شىء من كلام الناس انما هو التسبيح والتكبير وقراءة للقران رواه مسلم وبحديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء رواه الدارقطني وأجيب بان حديث معاوية حجة على أبى حنيفة لا له حيث لم يأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم باعادة الصلاة وانما علمه احكام الصلاة وقال له لا يصلح لأنه مخطور فى الصلاة واما حديث جابر فهو من رواية أبى شيبة عن يزيد بن خالد عن أبى سفيان وأبو شيبة اسمه عبد الرحمن بن اسحق ضعيف كذلك قال يحيى بن معين وقال احمد ليس بشئ منكر الحديث ويزيد لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد كذا قال ابن حبان واللّه اعلم وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد ان الآية فى الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الامام يوم الجمعة واختار السيوطي هذا القول وقد ذكرنا مسئلة الإنصات فى الخطبة فى سورة الجمعة وقال عمر بن عبد العزيز الإنصات لقول كل واعظ وقال الكلبي كانوا يرفعون أصواتهم فى الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار يعنى بالدعاء والتعوذ وقال قوم نزلت الآية فى ترك الجهر بالقراءة خلف الامام قال البغوي روى زيد بن اسلم عن أبيه عن أبى هريرة قال نزلت هذه الآية فى رفع الأصوات خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى الصلاة وذكر البغوي عن المقداد انه سمع ناسا يقرءون مع الامام فلما انصرف قال اما ان لكم ان تفقهوا إذا قرأ القرآن فاستمعوا له وانصتوا كما أمركم اللّه قال البغوي وهذا قول الحسن والزهري والنخعي ان الآية فى القراءة فى الصلاة خلف الامام قال البغوي وهذا اولى ممن قال انها نزلت للانصات فى الخطبة لان الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة وقال ابن همام أخرج البيهقي عن الامام احمد قال اجمع الناس على ان هذه الآية فى الصلاة واخرج عن مجاهد كان عليه السلام يقرأ فى الصلاة فسمع قراءة فتى من
(1/2538)
الأنصار فنزل وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وانصتوا وقد ذكرنا مسئلة القراءة خلف الامام فى سورة المزمل فى تفسير قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن واخرج ابن جرير عن الزهري قال نزلت هذه الآية فى فتى من الأنصار كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم كلما قرأ شيئا قرأه قلت يعنى خارج الصلاة وقال سعيد بن منصور فى سننه حدثنى أبو معشر عن محمد بن كعب قال كانوا يتلقون من رسول الله صلى اللّه عليه واله وسلم إذا قرأ شيئا قرأوا معه حتّى نزلت هذه الآية فى الأعراف قال صاحب لباب النقول فى اسباب النزول ظاهر ذلك الرواية ان الآية مدنية.
(فصل) اختلف العلماء فى وجوب الاستماع والإنصات على من هو خارج الصلاة يبلغه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 451
(1/2539)
صوت من يقرأ القرآن فى الصلاة أو خارجها قال البيضاوي عامة العلماء على استحبابها خارج الصلاة وقال ابن همام وفى كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع فى الجهر بالقراءة مطلقا قال فى الخلاصة رجل يكتب الفقه وبجنبه يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالاثم على القاري وعلى هذا لو قرأ على السطح فى الليل جهرا والناس نيام يأثم وهذا صريح فى اطلاق الوجوب ولان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب قلت وقد ثبت عنه صلى اللّه عليه واله وسلم انه كان يقرأ القرآن بالليل جهرا بحيث يسمع من وراء حجرته وربما يسمعه الجيران روى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أم هانى قال كنت اسمع قراءة النبي صلى اللّه عليه واله وسلم بالليل وانا على عريشى قال البغوي فى شرح السنة العريش السقف سميت بيوت مكة عروشا لانها عيدان ينصب ويظلل وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال كان قراءة النبي صلى اللّه عليه واله وسلم على قدر ما يسمعه من فى الحجرة وهو فى البيت وروى الطحاوي بلفظ كان يصلى بالليل فيسمع قراءته من وراء الحجرة وهو فى البيت وقد كانت فى بيوت النبي صلى اللّه عليه واله وسلم نسائه وربما كانت إحداهن نائمة وهو يصلى روى البخاري فى الصحيح عن عائشة قالت كنت أنام بين يدى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ورجلاى فى قبلته فإذا سجد غمزنى فقبضت رجلى فإذا قام بسطتها قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح وكان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقرءون القرآن بالليل والنهار رافعى أصواتهم من غير نكير روى مسلم عن أبى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال له لقد رأيتنى وانا اسمع لقراءتك البارحة وفى الصحيحين عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم انى لاعرف أصوات رفقة الأشعريين حين يرحلون واعرف منازلهم من أصواتهم بالقران باليل وان كنت لم ار منازلهم حين نزلوا بالنهار و
(1/2540)
لا شك ان بعض الناس فى العسكر كانوا يناما وقت قراءة الأشعريين وروى ابن أبى داود عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه انه سمع ضجة ناس فى المسجد يقرءون القرآن فقال طوبى لهؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فهذه الأحاديث تدل على فساد ما افتى به صاحب الخلاصة واخرج ابن مردوية فى تفسيره قال ثنا أبو اسامة عن سفيان عن أبى المقدام هشام بن زيد عن معاوية ابن قرة قال سالت بعض مشايخنا من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم احسبه قال عبد اللّه ابن مغفل كل من سمع القرآن وجب عليه الاستماع والإنصات قال انما نزلت هذه الآية إذا قرأ القرآن فاستمعوا له وانصتوا فى القراءة خلف الامام قلت واللام فى قوله تعالى إذا قرئ القرآن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 452
للعهد دون الجنس والمراد به القرآن المقر ولاستماعكم كالامام يقرأ حتى يسمع من خلفه والخطيب يقرأ للتخاطب والمقري يقرأ على التلميذ واللّه اعلم : - (فصل) لا يجوز الدعاء والتعوذ للسامع إذا قرأ القاري فى القرآن ذكر الجنة والنار لما ذكرنا من قول الكلبي قال ابن همام ان اللّه وعده بالرحمة إذا استمع حيث قال فاستمعوا وانصتوا لعلكم ترحمون ووعده حتم واجابة دعاء المتشاغل عنه به غير مجزوم به وكذا الامام : - (مسئلة) وكذا المنفرد لا يشتغل بغير القراءة فى الفرض وفى النفل يسأل الجنة ويتعوذ من النار عند ذكرهما ويتفكر فى اية المثل لحديث حذيفة قال صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم صلوة الليل فما مر باية فيها ذكر الجنة الا وقف وسأل اللّه الجنة وما مر باية فيها ذكر النار الا وقف وتعوذ من النار رواه.
(1/2541)
وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ قال ابن عباس يعنى بالذكر القراءة فى الصلاة يريد يقرأ سرا فى نفسه فى صلوة السر تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أى متضرعا وخائفا منى وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أى متكلما كلاما فوق السر ودون الجهر أراد فى صلوة الجهر ولا تجهر جهرا شديدا بل فى خفض وسكون يسمع من خلفك كذا قال ابن عباس فى تفسير الآية فقوله ودون الجهر عطف على قوله فى نفسك قلت وجاز ان يكون المراد اقرأ القرآن فوق السر دون الجهر جهرا متوسطا نظيره قوله تعالى ولا تجهر بصلوتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ويؤيده حديث أبى قتادة قال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم خرج ليلة فإذا هو بابى بكر يصلى يخفض صوته ومر بعمر وهو يصلىرافعا صوته قال فلما اجتمعا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلى تخفض صوتك قال قد أسمعت من ناجيت يا رسول اللّه وقال لعمر مررت بك وأنت تصلى رافعا صوتك قال يا رسول اللّه اوقظ الوسنان واطرد الشيطان فقال النبي صلى اللّه عليه واله وسلم يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا رواه أبو داود وروى الترمذي نحوه من حديث عبد اللّه بن رباح الأنصاري وجاز ان يكون المعنى اقرأ القرآن سرا وجهرا دون الجهر الشديد يعنى على كلا الوجهين تارة كذا وتارة كذا روى أبو داود عن أبى هريرة قال كانت قراءة النبي صلى اللّه عليه واله وسلم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا وروى الترمذي عن عبد اللّه بن أبى قيس قال سألت عائشة عن قراءة النبي صلى اللّه عليه واله وسلم كان يسر بالقراءة أم يجهر قالت كل ذلك قد كان يفعل ربما اسر وربما جهر قلت الحمد للّه الذي جعل فى الأمر سعة قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب.
(فصل) اختلف العلماء فى كيفية القراءة فى الصلاة ليلا وخارج الصلاة فقال قوم لا بد من
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 453
(1/2542)
الجهر وكرهوا المخافة اتباعا لحديث أم هانى وابن عباس المذكورين انه صلى اللّه عليه واله وسلم كان يسمع قراءة من وراء الحجرة وهو فى البيت وسمعته أم هانى على عريشها والجمهور على ان القاري مخير ان شاء جهر وان شاء اخفت لما ذكرنا من حديث أبى هريرة وعائشة انه صلى اللّه عليه واله وسلم يرفع طورا ويخفض طورا قال الطحاوي فى حديث أم هانى وابن عباس ذكر رفعه صلى اللّه عليه واله وسلم صوته وهو لا ينفى الخفض أحيانا وحديث أبى هريرة يبين ان للمصلى ان يخفض ان أحب ويرفع ان أحب فهو اولى وبه يقول أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم اللّه تعالى ثم القائلون بالتخيير منهم من قال الإخفات أفضل بحديث عقبة بن عامر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول الجاهر بالقران كالجاهر بالصدقة والمسر بالقران كالمسر بالصدقة رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال الترمذي حديث حسن ولا شك ان صدقة السر أفضل من صدقة العلانية قال اللّه تعالى ان تبدوا الصدقات فنعما هى وان تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم وبه أخذ جماعة من السلف روى عن الأعمش قد دخلت على ابراهيم رضى اللّه عنه وهو يقرأ فى المصحف فاستاذن عليه رجل فنظاه « 1 » وقال لا يرى هذا انى اقرأ كل ساعة وعن أبى العالية رضى اللّه عنه قال كنت جالسا مع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقال رجل قرأت الليلة كذا وقالوا هذا حظك منه وقال كثير من العلماء الجهر أفضل لما ذكرنا فى ما سبق من الأحاديث فى الجهر ولما فى الصحيحين عن أبى هريرة قال سمعت النبي صلى اللّه عليه واله وسلم يقول ما اذن اللّه لشئ كاذنه لنبى حسن الصوت يتغنى بالقران يجهر به ومعنى اذن استمع وهو اشارة عن الرضا والقبول وفيهما عن أبى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال له أوتيت مزمارا « 2 » من مزامير ال داود وروى ابن ماجة من فضالة بن عبيد قال قال
(1/2543)
رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اللّه أشد اذنا « 3 » إلى الرجل الحسن الصوت بالقران يجهر بها من صاحب القينة « 4 » إلى قينته وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن البراء ابن عازب قال قال رسول
_________
(1) نظّاه أى بغده 12 نهايه
(2) المزمار الآلة التي يزمر بها والزمارة التغني يقال زمر إذا غنى شبه رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم حسن صوت أبى موسى وحلاوة نغمته بصوت المزمار داود النبي عليه السلام إليه المنتهى فى حسن الصوت بالقراءة ولفظ ال مقحمة وقيل معناه هاهنا الشخص 12
(3) أشد اذنا أى أشد استماعا 12
(4) القينة المغنية 12 : -
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 454
(1/2544)
اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم زينوا القرآن بأصواتكم قال أبو حامد الغزالي وغيره من العلماء طريق الجمع بين الاخبار ان الاسرار ابعد من الرياء فهو أفضل فى حق من يخاف ذلك فان لم يخف الرياء فالجهر أفضل لان العمل فيه اكثر ولان فائدته متعد إلى غيره فهو أفضل ولانه يوقظ قلب القاري ويجمع همته إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد فى النشاط ويوقظ غيره من نائم أو غافل وينشطه فمهما حضر شىء من هذه النيات فالجهر أفضل وان اجتمعت النيات تضاعف الاجر ولهذا قلنا القراءة فى المصحف أفضل قلت لا شك ان فى الجهر بالقران أحاديث كثيرة والآثار من الصحابة والتابعين اكثر من ان تحصى لكن فيمن لا يخاف رياء ولا إعجابا ولا غيرهما من القبائح ولا يؤذى جماعة يلبس عليهم صلواتهم ويخلطها عليهم فمن خاف شيئا من ذلك فلا يجوز له الجهر وان لم يخف استحب الجهر فان كانت القراءة فى جماعة مجتمعين مستمعين تأكد استحباب الجهر لكن لا يجوز كمال الجهر وان يجهد الرجل نفسه فى الجهر لقوله تعالى ودون الجهر من القول روى محمد ص فى موطاه عن مالك عن عمه أبى سهيل عن أبيه ان عمر بن الخطاب كان يجهر بالقراءة فى الصلاة وانه كان يسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دارابى جهيم فقال محمد الجهر بالقران فى الصلاة فيما يجهر بالقراءة حسن ما لم يجهد الرجل نفسه واللّه اعلم : - فان قيل الجهر بالذكر والدعاء بدعة والسنة فيهما الإخفاء كما مر المسألة فى تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فما وجه الفرق بين الذكر وقراءة القرآن مع ان القراءة أيضا ذكر قلنا القرآن مشتمل على الوعظ والقصص الموجبة للعبرة والاحكام ونظمه معجز جاذب للقلوب السقيمة إلى الإسلام ولذا قال اللّه تعالى وان أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام اللّه وقراءته باللسان عبادة زائدة على الذكر الذي هو عبادة عن طرد الغفلة عن الجنان وإسماعه غيره عبادة اخرى
(1/2545)
مرغوبة عند الرحمن بخلاف الذكر والدعاء فان المقصود من الدعاء الاجابة ومن الذكر النسيان عما يشغله من العزيز المنان حتى يسقط عن بصيرته نفس الذكر بل الذاكر أيضا ولا يبقى فى بصيرته الا الواحد القهار : - (فائدة) قال شعبة نهانى أيوب ان أحدث بهذا الحديث زينوا القرآن بأصواتكم قال أبو عبيدة وانما كره فيما نرى ان يتاول الناس بهذا الحديث الرخصة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى هذه الالحان المبتدعة ثم ذكر أبو عبيدة أحاديث كثيرة فى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 455
(1/2546)
تحسين الصوت بالقران ثم قال ومحمل هذه الأحاديث طريق الحزن والتخويف والتشويق لا الالحان المطربة الملهية وقد روى فى ذلك أحاديث مفسرة مرفوعة وغير مرفوعة منها عن طاؤس قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أى الناس احسن صوتا بالقران أو احسن قراءة فقال الذي إذا سمعته رأيته يخشى اللّه وعن طاؤوس احسن الناس صوتا بالقران اخشاها اللّه تعالى رواه الدارمي عن طاؤس مرسلا وعن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اقرؤا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجئ بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء والنوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شانهم رواه البيهقي فى شعب الايمان ورزين فى كتابه واللّه اعلم : - وقال مجاهد معنى الآية انه تعالى امر ان يذكروه فى الصدور بالتضرع إليه فى الدعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح بالدعاء فان الإخفاء ادخل فى الإخلاص قلت وعلى هذا قوله ودون الجهر عطف تفسيرى لقوله فى نفسك وقد ذكرنا مسئلة الذكر الخفي والجهر فى تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وما قال البيضاوي أو هو امر للماموم بالقراءة سرا بعد فراغ الامام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رحمه اللّه فليس بشئ فانه خطاب مع النبي صلى اللّه عليه واله وسلم وقد كان اماما ولم يكن ماموما ولو كان الخطاب للمامومين لكان بصيغة الجمع دون المفرد على نسق قوله تعالى فاستمعوا وانصتوا لعلكم ترحمون وأيضا القراءة سراينا فى الاستماع والإنصات كالقراءة جهرا وقوله بعد فراغ الامام عن قراءته غير مستفاد من الآية فيلزم حينئذ التعارض بين الآيتين و
(1/2547)
ايضا القراءة بعد فراغ الامام لا يتصور فان الامام بعد الفراغ من القراءة يركع ولا قراءة للماموم بعد ما ركع الامام اجماعا ولو قام الامام ساكتا حتّى يفرغ المأموم عن قراءته لزم قلب موضوع الامامة واللّه اعلم بِالْغُدُوِّ أى باوقات الغدو وهو مصدر غدا يغدو غدوا إذا دخل فى وقت البكرة يعنى أول النهار فى القاموس الغدوة بالضم البكرة أو ما بين صلوة الفجر وطلوع الشمس وَالْآصالِ جمع اصيل وهو العشى يعنى اخر النهار وقال البغوي هو ما بين العصر والمغرب خص هذين الوقتين بالذكر لفضلهما والمراد أمة الذكر كما يدل عليه قوله تعالى وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يعنى لا تغفل من اللّه أصلا فى وقت من الأوقات قلت وتذئيل قوله تعالى واذكر ربك فى نفسك بقوله بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 456
يدل على ان المراد بالذكر أعم من القراءة وغيره والمقصود طرد الغفلة باى وجه كان واللّه اعلم.
(1/2548)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ عندية وقربا غير متكيف بالفضل والكرامة لامتناع العندية الجسمانية فى جنابه تعالى والمراد بالموصول الأنبياء والملئكة وصالحوا المؤمنين لا يَسْتَكْبِرُونَ أى لا يتكبرون بانفسهم عَنْ عِبادَتِهِ قلت بل يستكبرون أنفسهم بعبادته وَيُسَبِّحُونَهُ وينزهونه عما لا يليق به ويذكرونه يقولون سبحان ربى الأعلى وَلَهُ يَسْجُدُونَ ع أى يخصونه بالسجود والعبادة ولا يشركون به غيره عن معدان بن طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلنى اللّه به الجنة فسكت ثم سألته الثانية فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقال عليك بكثرة السجود للّه فانك لا تسجد للّه سجدة الا رفعك اللّه بها درجة وحط عنك بها خطيئة قال معد ان ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لى مثل ما قال ثوبان رواه مسلم وفى رواية عن ثوبان بلفظ ما من عبد يسجد للّه سجدة إلا رفعه اللّه بها درجة وحط عنه بها سيئة رواه احمد والترمذي والنسائي وابن حبان والبغوي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء رواه مسلم وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويلتى امر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فابيت فلى النار رواه مسلم وعن ربيعة بن كعب قال كنت أبيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فاتيه بوضوئه وحاجته فقال لى سل فقلت اسألك مرافقتك فى الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذلك قال فاعنى على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة فى سورة انشقت واللّه اعلم : - تمت سورة الأعراف ونتلوها سورة الأنفال إنشاء اللّه تعالى سادس عشر من المحرم من السنة الاولى من
(1/2549)
المائة الثانية عشر سنه 12 هجرى فقط تمّت صحّحه المولوى عبد الرحمن مدرس ومفتى مدرسه امينيه دهلى 15 5/ 85 ه ثم مولوى؟؟؟ عنه ه سنه 1412 صفر.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 2
الجزء الرابع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرست سورة الأنفال من التفسير المظهرى
1 مضمون صفحه ذكر قتال بدر واختلافهم في الغنائم ونزول صدر السورة 6 ما ورد ان الأنفال يوم بدر كانت خالصة لرسول 6 اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم نسخها آية الخمس حديث بل تنصرون الا بضعفائكم 8 مسئلة القول انا مومن خفا أو إنشاء اللّه 9 حديث في الجنة مائة درجة 10 قصه غزوة بدر 11 سبب خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم 11 ذكر منام عاتكة ووصول ضمضم بن عمرو بمكة 12 خروج قريش من مكة وخوفهم من بنى كنانة 13 وظهور إبليس لهم في صورة سراقة بن مالك - رؤيا ضمضم بن عمرو 14 رؤيا جهيم بن صلت 15 خروج رسول اللّه عليه وسلم من المدينة 15 دعائه صلى اللّه عليه وسلم للمدينة 15 بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسيس بن 16 عمرو وعدى بن أبى الرغباء يتجسسان الاخبار عن أبى سفيان - إتيان خبر مسير قريش ومشاورته صلى اللّه عليه وسلم 216 مضمون صفحه أصحابه فتكلموا وأحسنوا واستبشر صلى اللّه عليه وسلم وبشرهم بأن اللّه وعد إحدى الطائفتين وكأني انظر مصارع القوم وكره جماعة لقاء العدو 17 ركب عليه السلام وأبو بكر يتجسسان الاخبار 17 ثم بعث عليا والزبير وغرهما لذلك فاصابوا غلامين 19 لقريش فاستخبرهما - رجع بسيس وعدى بخبر أبى سفيان 20 وصول أبى سفيان ببدر واطلاعه على مسير 20 رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واسراع سيره إلى الساحل حتى احرز عيره أرسل أبو سفيان أبى قريش ان ارجعوا 20 إلى مكة فابى أبو جهل وكره أهل الرأي منهم راى أبى جهل ورجع بنى زهرة إلى مكة بقول الأخنس نزلت قريش عند بدر بالعدوة القصوى - 21 ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون 21
(1/2550)
بالعدوة الدنيا وغلب المشركون على الماء فى أول أمرهم فظمى المسلمون ووسوس لهم الشيطان فانزل اللّه المطر على المشركين وابلا منعهم من التقدم وأفزعهم وعلى المسلمين طلّا طهّرهم واذهب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 3
فهرست التفسير المظهرى سورة الأنفال 1 عنهم رجز الشيطان وثبت أقدامهم واستولوا على الماء وبنوا حوضا وبنو الرسول اللّه عليه وسلم عريشا على التل وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشير هذا مصرع 22 فلان وهذا مصرع فلان فما تعدى أحد موضع إشارته حديث ثواب تلك الليلة لمن شهد - 23 مرأة الفئتين - 23 روية الكفار والمؤمنين قوما مستمنين وقول عتبة 23 وغيره لابى جهل ارجع إلى مكة وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبى جهل ان ارجع فأبى - شروع القتال - 24 رجوع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المعركة إلى العريش 26 يناشد ربه.
(1/2551)
بشاوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنزول الملئكة 28 وظهور بعض الملئكة على بعض الناس - قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم بنفسه الشريفة 31 قتالا شديد أو أبو بكر - النعاس في القتال امنة وفي الصلاة من الشيطان 32 ما ورد في قتال الملئكة - 33 وذكر موت أبى لهب - 35 ما ورد في ان مصيبة المؤمن في الدنيا كفارة لة 35 مسئله الفرار من الزحف كثيرة الا إذا كان 37 المؤمنون اقل من شطر الكفار - ما ورد في رميه صلى اللّه عليه وسلم بالحصب - 39 2 ما ورد في فضائل أهل بدر 40 استفتاح أبى جهل وذكر قتله - 42 ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - 47 قصة محاصرة بنى قريظة واستيثارهم 51 أبا لبابة وخيانة أبى لبابته لله ورسوله وذكر توبته - حديث اتقوا فراسة المؤمن - 52 حديث استفت نفسك 54 ما ورد في ان النجاة بفضل اللّه لا بالأعمال 55 قصة اجتماع قريش ومعهم إبليس في صورة 56 شيخ نجدى في دار الندوة وهجرته صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة - من اسلم من أسارى بدر 25 حديث الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة والحج 25 حديث لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر 22 الا ادخله اللّه كلمة الإسلام - حديث أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا 22 لا اله الا اللّه - مسائل الغنائم 62 مسئلة إذا دخل واحد أو اثنان دار الحرب 62 بغير اذن الامام هل يخمس ما أخذ - مسئله الخمس واجب في القليل والكثير والمنع عن الفلول - مصرف الخمس
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 4
(1/2552)
1 فهرست التفسير المظهرى سورة الأنفال مسئله هل يجوز صرف الخمس وصنف أو شخص واحد 29 مسئله حكم سهم الرسول صلى اللّه عليه وسلّم بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلّم 72 مسئله حكم سهم ذوى القربى بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلم - 72 فصل في الأخماس الاربعة - 72 مسئله سلب المقتول - 72 مسئله التنفيل بان شرط حالة القتال وقول الامام 80 من أصاب شيئا فهو له مسئله هل يجوز للامام ان يعطى بعض الغانمين 81 فوق سهمه بلا شرط سبق ان راى اجتهاده - مسئله الاختلاف في سهم الفارس سهمان أو ثلثه - 84 مسئله إذ الحق المدد بدار الحرب بعد الفتح 88 قبل الاحراز بدار الإسلام هل يسهم لهم - مسئله هل يسهم لاهل سوق العسكر ولا لسائسة الدواب 89 مسئله ان أطاق الصبى القتال واجازه الامام هل يكمل 89 له السهم مسئله العقار التي فتحت عنوة - 89 المعجزات التي ظهرت يوم بدر - 93 ما ورد في تصحيح النية في الجهاد وخطبة الجهاد 98 قصة فرار الشيطان من رفاقة الكفار حين 99 راى الملئكة - ذكر كون قريش إلى زمن قصى بن كلاب على 102 دين اسمعيل وأول من غير دينه فيهم - ذكر قتل بنى قريظة - 103 2 ذكر اجلاء بنى قينقاع - 105 ما ورد في فضل الرمي - 106 ما ورد في ربط الخيل - 107 ما ورد في فضيلة الانفاق على المجاهدين 108 في سبيل اللّه - ما ورد في اسلام عم ونزل قوله تعالى 110 حسبك اللّه ومن اتبعك من المؤمنين قصّة أسارى بدر ومشاورة النبي صلى اللّه 111 عليه وسلم أصحابه فيهم واشارة أبى بكر بالفداء وعم بالقتل ونزول العتاب الا على رأى عمر - مسئله يجوز قتل الأسارى وذكر من قتل 113 من أسارى بدر - مسئله يجوز استرقاق الأسارى 114 مسئله هل يجوز المن على الأسارى أو 114 الفداء بالمال أو بالأسير المسلم أو تركهم ذمة لنا - وذكر من من عليه رسول اللّه صلى اللّه 115 عليه وسلم من أسارى بدر - ذكر فداء بعض الأسارى بأسارى 116 المسلمين - قصّة اسلام ثمامة بن أثال - 116 حديث فضلت على
(1/2553)
الأنبياء بست أو نحو ذلك منها حل الغنائم 118
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 5
1 فهرست تفسير المظهرى سورة الأنفال قصه اسر العباس وتكليفه ان يفدى نفسه 119 وعقيل ونوفل وإنكاره المال عنده وقوله صلى اللّه عليه وسلم اين الذهب الذي وقعت أم الفضل واسلام العباس - قول عباس في نزول ان يعلم اللّه في قلوبكم 120 خيرا يوتكم خيرا مما أخذ منكم وقد أبدلني اللّه بعشرين اوقية عشرين عبدا كلهم تاجر بمالى أدناهم يضرب بعشرين الفا مسئلة لا يجوز للمؤمن موالاة الكفار ولا مناصرتهم - 121 ولا يرث المؤمن الكافر وبالعكس - 121 يكره موالاة الفاسق - 122 مسئلة اختلاف الدارين مانع من الإرث 122 2 مسئله لو أغار قوم من الكفار على 123 قوم منهم وفيهم مسلم مستأمن لا يحل له القتال الا إذا خاف على نفسه مسئله لو أغار الكفار على المسلمين و123 اسروهم وسبوا وزيتهم وأموالهم واحرزوها بدار الحرب وفيها مسلمون مستأمنون وجب عليهم ان يخلصوا المؤمنين وذراريهم من أيدي الكفار ولو بالقتال ولا يجوزهم التعرض للاموال
- مسئله ميراث ذوى الأرحام 124 تمام شد فهرست سورة الأنفال بتصحيح : مولانا غلام نبى تونسوى الراجي إلى مغفرة ربه القوى.
(1/2554)
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 6
سورة الأنفال
نحمد يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين سورة الأنفال ستة أو سبع وسبعون آية مدنية قيل الا سبع آيات من قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخر سبع نزلت بمكة والأصح انها نزلت بالمدينة وان كانت الواقعة بمكة ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
روى ابن أبى شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان وعبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن عابد وابن مردوية وابن عساكر عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال لما كان يوم بدر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن اسر أسيرا فله كذا وكذا وفي رواية ابن مردوية من طريق فيه الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس وعن عطاء عن ابن عجلان عن عكرمة عنه بلفظ من قتل قتيلا فله سلبه فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات واما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان اشركونا معكم فانا كنا لكم ردا ولو كان منكم شىء لجئتم إلينا فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وجاء أبو اليسر باسيرين فقال يا رسول اللّه قد وعدتنا فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أعطيت هؤلاء لم يبق لاصحابك شىء وانه لم يمنعنا من هذا زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ولا ضعن بالحياة ان نصنع ما صنع إخواننا ولكنا رأينا قد أفردت فكرهنا ان تكون بمضيعة وانما قمنا هذا المقام محافظة عليك ان يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزلت.
(1/2555)
يَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ الْأَنْفالِ يعنى ان الغنائم لمن هى والنفل الغنم لانها من فضل اللّه وعطائه قُلِ لهم يا محمد الْأَنْفالُ لِلَّهِ ملكا وَالرَّسُولِ تصرفا يقسمها الرسول على ما يأمره اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 7
يعنى أمرها مختص بهما قال ابن عباس فيما رواه الائمة المذكورون فنزعه اللّه تعالى من أيديهم فجعله إلى رسوله صلى اللّه عليه وسلّم فجعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بين المسلمين على بواء أى سواء فكان ذلك تقوى اللّه وطاعته وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلّم وإصلاح ذات البين كما قال اللّه تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف والمشاجرة وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ يعنى الصفة التي بينكم من المواسات والالفة والمساعدة فيما رزقكم اللّه تعالى وتسليم امره إلى اللّه تعالى ورسوله قال الزجاج يعنى ذات بينكم حقيقة وصلكم والبين الوصل وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) شرط استغنى عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مومنين كاملى الايمان فافعلوا ذلك فان مقتضى كمال الايمان الاطاعة في الأوامر والاتقاء عن المعاصي وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان والإيثار وذكر البيضاوي الحديث بلفظ شرط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لمن كان له غناء ان ينفله فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم وكان المال قليلا فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا ردا لكم وفئته تتحازون إليها فنزلت فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بينهم على السواء ثم قال البيضاوي ولهذا لا يلزم الامام ان يفي بما وعدهم وهو قول الشافعي رحمه اللّه وروى ابن أبى شيبة واحمد وعبد بن حميد وابن مردوية عن سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه قال لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان
(1/2556)
يسمى ذا الكتيفة فاتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه قد شفانى اللّه تعالى اليوم من المشركين فنفلنى هذا السيف فانا من قد علمت حاله قال هذا السيف لا لك ولا لى ضعه فوضعته ثم رجعت قلت عسى ان يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي فرجعت فقال اذهب فاطرحه في القبض « 1 » فرجعت وبي مالا يعلمه الا اللّه تعالى من قتل أخي وأخذ سلبى فرجعت به حتى إذ أردت ان ألقيه لا ميتنى نفسى فرجعت إليه فقلت أعطنيه فشد بي صوته فما جاوزت الا يسيرا حتى نزلت سوره الأنفال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم اذهب فخذ سيفك وفي رواية فجأنى الرسول انك
_________
(1) قبض بالتحريك قبض ما أخذ من اموال الناس
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 8
(1/2557)
سألتنى وليس لى وانه قد صار لى وهو لك وروى البخاري في تاريخه عن سعد بن جبير ان سعدا ورجلا من الأنصار خرجا ينتفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه فقال سعد هو لى وقال الأنصاري هو لى لا أسلمه حتى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فاتياه فقص عليه القصة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ليس لك يا سعد ولا للانصارى فنزلت ويسألونك عن الأنفال الآية ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى واعلموا انما غنمتم من شىء فان للّه خمسه وللرسول ولذى القربى وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال الأنفال المغانم كانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم خالصة ليس لاحد منها شىء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه فمن حبس ابرة أو سلكا فهو غلول فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان يعطيهم منها شيئا فانزل اللّه تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لى جعلتها لرسولى ليس لكم منها شيء فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم إلى قوله ان كنتم مومنين ثم انزل اللّه واعلموا انما غنمتم من شىء الآية ثم قسم ذلك الخمس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ولذى القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل اللّه وجعل اربعة أخماسه للناس فيه سواء للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل سهم قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد ولما امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان يقسم الغنائم على السواء قال سعد ابن معاذ يا رسول اللّه أ تعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطى الضعيف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ثكلتك أمك وهل تنصرون الا بضعفائكم ونادى مناديه صلى اللّه عليه وسلّم من قتل قتيلا فله سلبه ومن اسر أسيرا فهو له كان يعطى من قتل قتيلا سلبه وروى سعيد بن منصور واحمد وابن المنذر وابن حبان والحاكم والبيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت قال التقى الناس فهزم اللّه
(1/2558)
العدو وانطلقت طائفة إلى آثارهم يأسرون ويقتلون واكبت طايفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه وأحدقت طايفة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وأفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم نحن جمعناها وحويناها فليس لاحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 9
و قال الذين احدقوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لستم بأحق بها منا نحن احدقنا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حفظنا ان يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت يسألونك عن الأنفال الآية.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ خافت وفزعت قُلُوبُهُمْ استعظاما وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه وقيل هو الرجل يهم بالمعصية فيقال له اتق فينزع منه خوفا من عقابه فالمعنى إذا ذكر وعيد اللّه بحذف المضاف وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً لاطمينان النفس بنزول البركات عند تلاوة القرآن ورسوخ اليقين بتظاهر الادلة وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) يفوضون أمورهم إليه تعالى ولا يخشون ولا يرجون أحدا الا إياه.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ (3) أى يأتونها بحقوقها ويقيمونها كما يقام القداح وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم يُنْفِقُونَ (3) في سبيل اللّه.
(1/2559)
أُولئِكَ الموصوفون بمكارم اعمال القلوب من الإخلاص والخشية والتوكل واطمينان الأنفس بذكر اللّه ومحاسن اعمال الجوارح من الصلاة والصدقة هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا صفة لمصدر محذوف أى ايمانا حقا أو مصدر مؤكد يعنى حق إيمانه حقا لا شبهة فيه عن الحسن ان رجلا سأله أ مؤمن أنت قال ان كنت تسألنى عن الايمان باللّه وملئكته وكتبه ورسوله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وان كنت تسألنى عن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الآية فلا أدرى ا منهم انا أم لا قلت مراد الحسن ان كمال الايمان بالإخلاص وتصفية القلب وتزكية النفس وتحلية الجوارح بالطاعات وترك المعاصي وذلك امر نادر لا أدرى اتصاف نفسى به واما نفس الايمان. فموجود بفضل اللّه فليس هذا من قبيل انا مومن إنشاء اللّه وقال علقمة كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا من هؤلاء قالوا نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه فاخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم قال هلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم ان المؤمنين أهل الجنة وقال الثوري من زعم انه مؤمن حقا أو عند اللّه ثم لم يشهد انه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف وبهذا يتشبث من يقول انا مؤمن إنشاء اللّه يعنى المراد بالاستثناء عدم الجزم بحسن الخاتم الموجب لكونه من أهل الجنة لا الشك في إيمانه الحالي فان الشك ينافى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 10
(1/2560)
الايمان الاعتقاد الجازم وكان أبو حنيفة رحمه اللّه يكره هذا القول لكونه موهما للشك المنافي للاعتقاد الجازم ويقول انا مومن حقا باعتبار حصول الاعتقاد الجازم في الحال لا بمعنى الجازم بحسن الخاتمة فالنزاع انما هو في اللفظ دون المعنى لكن الأحوط قول أبي حنيفة قال أبو حنيفة لقتادة لم تستشنى في إيمانك قال اتباعا لابراهيم عليه السلام في قوله والذي أطمع ان يغفر لى خطيئتى يوم الدين فقال له هلا اقتديت به في قوله ا ولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى وعن ابراهيم التميمي قال قل انا مومن حقا فان صدقت اثبت عليه وان كذبت فكفرك أشد عليك من ذلك وعن ابن عباس من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقا لَهُمْ دَرَجاتٌ كرامة وفضل وعلو منزلة عِنْدَ رَبِّهِمْ نظيره قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة منها تفجر انهار الجنة الاربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم اللّه فاسئلوا الفردوس رواه الترمذي وقال البغوي قال الربيع بن انس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر « 1 » الفرس المضمر « 2 » سبعين سنة وَمَغْفِرَةٌ لما فرط معهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) حسن أعد اللّه لهم في الجنة ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا يخطر ببال أحد ولا ينقطع ابدا.
(1/2561)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ الذي بالمدينة أو المراد بالبيت المدينة نفسها لانها مهاجره ومسكنه فهى مختصة به كاختصاص البيت بصاحبه بِالْحَقِّ متعلق باخرج أى إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب لقتال الكفار ببدر وقوله كما اخرجك اما خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال يعنى كون الأنفال للّه والرسول وتقسيم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم الأنفال بين الناس على السواء وكراهة بعض الناس يعنى الشبان المقاتلة ثابت كحال اخراجك اللّه للحرب وكراهتهم له أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله للّه والرسول أى الأنفال ثبت للّه والرسول مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات اخراجك ربك من بيتك كذا قال المبرد وقيل تقديره امض لامر اللّه تعالى في الأنفال وان كرهوا كما مضيت امر اللّه في الخروج من البيت -
_________
(1) حضر الفرس يعنى عدو 12
(2) تضمير الخيل هو ان يظاهر عليها بالعلفة حتى تسمن ثم لا تعلف الا فوقا ليتخفف نهاية 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 11
(
(1/2562)
قصة غزوة بدر) والسبب في خروج النبي صلى اللّه عليه وسلّم انه سمع أبا سفيان ابن حرب مقبلا من الشام في الف بعير لقريش فيها اموال عظام ولم يبق بمكة قرشى ولا قرشية له مثقال فصاعدا الا بعث به في العير فيقال ان فيها خمسين الف دينار وفيها سبعين رجلا كذا ذكر ابن عقبة وابن عابد قال البغوي قال ابن عباس وابن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدى اقبل أبو سفيان من الشام في أربعين راكبا من كبار قريش فيهم عمرو بن العاص ومخرمة ابن نوفل الزهري فندب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم للخروج معه وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل اللّه ان يغتمكوها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وتخلف عنه بشر كثير وكان من تخلف لم يلم وذلك انهم لم يظنوا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يلقى حربا ولم يحتقل لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم احتقالا بليغا فقال من كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة قال لا الا من كان ظهره حاضرا - وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قبل خروجه من المدينة بعشر ليال طلحة بن عبيد اللّه وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان خبر العير فبلغا ارض خوار فنزلا على كشد بن مالك الجهني فأجارهما وانزلهما وكنتم عليها حتى مرت العير ثم خرجا وخرج معهما كشد ضى أوردهما ذا المروة « 1 » فقد ما ليخبرا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فوجداه قد خرج فلما أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ينبع « 2 » اقطعها لكشد فقال يا رسول اللّه انى كبير لكن اقطعها لابن أخي فاقطعه إياها فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة رواه عمر بن شيبة وأدرك أبا سفيان رجل من خدام بالرزقا فاخبره ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ينتظر رجوع العير فخرج أبو سفيان ومن معه خايفين للرصد ولما دنا أبو سفيان من الحجاز جعل يتجسس الاخبار ويسأل من نقى من الركبان تخوفا على امر
(1/2563)
الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان ان محمد صلى اللّه عليه وسلّم قد استنفر لك ولعيرك فحذر عند ذلك واستاجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا فبعثه إلى مكة وامره ان يجدع بعيره ويحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا يأتي مكة ويأتى قريشا وليستنفرهم إلى أموالهم
_________
(1) قرية بينها وبين المدينة ثمانية برد 12
(2) قرية جامعه بين مكة والمدينة 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 12
(1/2564)
و يخبرهم ان محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم سرعا إلى مكة وفعل ما امره به أبو سفيان (ذكر منام عاتكة) روى ابن إسحاق والحاكم والبيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس وموسى بن عقبة وابن إسحاق عن عروة والبيهقي عن ابن شهاب قالوا رات عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم على قريش بثلث ليال رويا فاصبحت عاتكة فاعظمتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي لقد رأيت رؤيا أفظعتني « 1 » ليدخلن على قريش منها شر وبلاء فقال وما هى قالت لن أحدثك حتى تعاهد في انك لا تذكرها فانهم ان يسمعوها آذونا واسمعونا ما لا نحب فعاهدها العباس فقالت رأيت ان رجلا اقبل على بعير فوق الأبطح فصاح بأعلى صوته انفروا يا آل عذر إلى مصارعكم في ثلث ثلث صيحات ما رأى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ثم مثل به بعيره فإذا هو على راس الكعبة فصاح ثلث صيحات فقال انفروا « 2 » يا ال « 3 » عذر إلى مصارعكم في ثلث ثم ارى بعيره مثل على راس أبى قيس فقال انفروا يا آل عذر إلى مصارعكم في ثلث ثم أخذ صخرة عظيمة فنزعها من أصلها فارسلها من اصل الجبل فاقبلت الصخرة تهوى لها حس شديد حتى إذا كانت في أسفل « 4 » ارفضت فما بقيت دار من دور قومك ولا بيث الا دخل فلقه فقال العباس واللّه ان هذه لرويا فاكتميها لئن بلغت هذه قريشا ليؤذوننا فخرج العباس من عندها فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس وكان صديقا له فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لابيه عتبة فتحدث بها وفشى الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برويا عاتكة فلما رانى قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فاقبل إلينا فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال لى أبو جهل يا بنى عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قلت وما ذاك قال رؤيا عاتكة قلت وما رأت قال يبنى عبد المطلب ما
(1/2565)
رضيتم ان تنبأ رجالكم حتى تنبا نساءكم ولفظ ابن عقبة اما رضيتم يا بنى هاشم يكذب الرجال حتى جئتم بكذب النساء انا كنا وآباؤكم كفرسى « 5 » رهان فاستبقنا المجد منه فلما تحاكت الركب قلتم منا نبى فما بقي الا ان تقولوا منا نبية فما اعلم في قريش أهل بيت أكذب امرأة ولا رجلا منكم وآذاه أشد الاذاء قد زعمت عاتكة
_________
(1) أفظعتني على يقال فظع الأمر فظاعة فهو فظع إلى شديد شنيع حادر المقدر 12
(2) انفروا سارعو
(3) غذر بضم العين معدول عن عافد القدر ترك الوفاء 12 [.....]
(4) ارفضت تقطعت 12
(5) أى يتساقان إلى غدر -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 13
(1/2566)
في روياها انه قال انفروا في ثلث فسنتربص بكم هذه الثلث فان يك حقا ما تقول فسيكون وان تمضى الثلث ولم يكن كتبنا عليكم كتابا انكم أكذب أهل بيت في العرب قال العباس فو الله ما كان منى إليه كثيرا الا انى جحدت ذلك وأنكرت ان تكون رأت شيئا وعند أبى عقبة في هذا الخبر ان العباس قال لابى جهل هل أنت منته فان الكذب فيك وفي أهل بيتك فقال من حضرهما ما كنت جهولا يا أبا الفضل ولا أحمق خرقا وكذلك قال ابن عابد وزاد مهلا يا مصفر استه « 1 » ولقى العباس عاتكة أذى شديدا حين افشا حديثها لهذا الفاسق قال العباس فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب الا أتتني قالت أقررتم لهذا الخبيث الفاسق ان يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم وأنت تسمع ثم لم يكن عندك كبير شيء مما سمعت قلت قد واللّه قد ما فعلت ما كان منى إليه كبير شيء مما سمعت وايم اللّه لا تعرض له فان عاد لا كفيكنه قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وانا جديد مغضب ارى انى قد فاتنى منه امر أحب ان أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته واللّه انى لأمشي نحوه اتعرضه ليعود لبعض ما قال فاقع به وكان رجلا خفيفا « 2 » حديد « 3 » الوجه جديد اللسان حديث النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد « 4 » قلت في نفسه ما له لعنه اللّه أكل هذا فرقا « 5 » منى ان اشاتمه قال وإذا هو قد سمع ما لم اسمع صوت ضمضم بن عمر يصرخ في بطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحول رجله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش يا ال لوت بن غالب اللطيمة اللطيمة « 6 » أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا ارى تدركوها الغوث الغوث واللّه ما ارى ان تدركوها ففزعت قريش أشد الفرع واشفقوا « 7 » من رويا عاتكة فشغله ذلك غنى وشلغنى عنه ما جاء من الأمر وقلت عاتكة (شعر) الم تكن رويا بحق وجاءكم بتصديقها قل « 8 » من القوم هارب فقلت ولم أكذب كذبت وانما يكذبنا بالصدق من هو كاذب فتجهز الناس
(1/2567)
سراعا وقالوا يظن محمد وأصحابه ان يكون كعير ابن الخضرمي كلا واللّه ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين اما خارج واما باعث مكانه رجلا وكان جهازهم في
_________
(1) رماه بالأبنة وهى تهمة الفاحشة 12
(2) خفيفا سريعا 12
(3) حديد الوجه قوية 12
(4) يشتد يعدو 12
(5) فرقا خوفا 12
(6) الجمال انى تحل العطر والبز غير المسيرة 12
(7) واشفقوا خافوا 12
(8) القل القوم المنهزمون 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 14
(1/2568)
ثلثة ايام ويقال يومين وأعان قويهم ضعيفهم ولم يتركوا كارها للخروج يظنون انه في صفو محمد وأصحابه ولا مسلما يعلمون إسلامه ولا أحدا من بنى هاشم الا من لا يتهمونه الا أشخصوه معهم وكان ممن اشخص العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب وعقيل ابني أبى طالب في آخرين ولم يتخلف أحد من قريش الا بعث مكانه بعثا الا أبا لهب مشوا إليه فابى ان يخرج أو يبعث أحدا ويقال انه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة واسلم بعد ذلك وكان قد لاط « 1 » له باربعة آلاف درهم كانت له عليه فاستاجره بها على ان يجرى عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب منعه من الخروج رويا عاتكة فانه كان يقول رويا عاتكة تأخذ باليل واستقسم امية بن خلف وعتبة بن شيبة وزمعة بن الأسود وعمير بن وهب وحكيم بن حزام وغيرهم عند هبل بالأمر والناهي من الأزلام فخرج القدح الناهي من الخروج فاجمعوا المقام حتى أزعجهم « 2 » أبو جهل ولما اجمع امية بن خلف القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا انى عقبة بن أبى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا بأعلى فانما أنت من النساء فقال قبحك اللّه وقبح ما جئت به ثم جهز وخرج مع الناس قال ابن إسحاق وغيره ولما فرغوا من جهازهم واجمعوا السير وخرجوا على الصعب « 3 » والزلول معهم القيان « 4 » والدفوف ذكروا ما بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الدماء فقالوا انا نحشى ان يأتينا من خلقنا فكاد ذلك ان يثيتهم « 5 » فسدى لهم عدو اللّه إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني وكان من اشراف بنى كنانته فقال انا جار لكم من ان يأتيكم كنافة من خلفكم شيء تكرهونه تخرجوا في خمسين وتسعمائة مقاتل وقيل في الف وكان معهم مأتا فرس وستمأة درع ولم يتخلف عنهم أحد من يطون قريش الا بنى عدى فلم يخرج معهم منهم أحد فقال ابن عقبة وابن عابد واقبل للمشركون ومعهم بليس يعدهم
(1/2569)
ان بنى كنانة ورائهم قد اقبلوا لنصرهم وانه لا غالب لكم من الناس وانى جار لكم قال في الامتناع فلما نزلوا بمر الظهران نحر أبو جهل عشر جزور فما بقي خباء من اخبية العسكر الا أصابه من دمها وراى ضمضم بن عمرو ان وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه ونحر لهم
_________
(1) اربى واللياط أبا 12
(2) أزالهم عن رايهم 12
(3) عن الإبل الذي لا ينقاد والزلول ضده 12
(4) قيان جمع قينة يقال للامة المعنية 12 [.....]
(5) أى يصرفهم عن السفر 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 15
(1/2570)
امية بن خلف بعسيف تسعا ونحر سهيل بن عمرو بقديد عشرا واسلم بعد ذلك ثم ذلك ثم مالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها فاقاموا بها فنحر لهم يومئذ عقبة بن ربيعة عشرا ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا عشرا ثم أكلوا من أزوادهم فلما وصلوا الجحفة عشاء نزلوا هناك روى البيهقي عن ابن شهاب وابن عقبة وعروة بن الزبير قالوا لما نزلت قريش بالحجفة كان فيهم رجل من بنى المطلب بن عبد مناة يقال له جهيم بن الصلت بن مخزمة واسلم بعد ذلك في حنين فوضع جهيم راسه فاغفا فقال لاصحابه هل رايتم الفارس الذي وقف على آنفا قالوا لا انك مجنون قال قد وقف على فارس آنفا فقال قتل أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة وزمعة وأبو البختري وامية بن خلف وعد رجالا ممن قتل يوم بدر من اشراف قريش ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء ممن اخبية العسكر الا أصابه من دمه فقال أصحابه انما لعب بك الشيطان ورفع الحديث إلى أبى جهل فقال قد جئتم بكذب بنى المطلب مع كذب بنى هاشم فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من المدينة واستخلف ابن أم مكتوم على الصلاة ورد أبا لبابة من الروحاء واستخلفه على المدينة قال ابن سعد خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من رمضان وقال ابن هشام لثمان وضرب عسكره ببئر أبى عتبة على ميل من المدينة فعرض أصحابه ورد من استصغر منهم فرد عبد اللّه بن عمرو اسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن حضير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعمير بن أبى وقاص فبكى عمير فاجازه فقتل يوم بدر وهو ابن ستة عشرة سنة وامر أصحابه ان يستقوا من بير السقيا وشرب من مائها وصلى عند بيوت السقيا وامر قيس بن أبى صعصعة حين فصل من السقيا ان يعد المسلمين فوقف بهم عند بير أبى عتبة فعدّهم ثم اخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بانهم ثلاثمائة و
(1/2571)
ثلثة عشر ففرح بذلك وقال عدة اصحاب طالوت ودعا يومئذ للمدينة فقال اللهم ان ابراهيم عبدك وخليلك ونبينك دعا لاهل مكة وانى محمد عبدك ونبيك أدعوك لاهل المدينة ان تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم اللهم حبب إلينا المدينة واجعل ما بها من الوباء بخم « 1 » اللهم انى حرمت ما بين لابتيها « 2 » كما حرم ابراهيم خليلك مكة وكان خبيب بن اساف ولم يكن
_________
(1) خم موضع على ثلثة أميال من جحفه 12
(2) لابتين تثنية لابة وهى الحرة وهى ارض ذات حجارة سود نخرة كانها أحرقت بالنار.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 16
(1/2572)
اسلم خرج منجد « 1 » القومة من الخزرج طالبا للغنيمة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يصحبنا الا من كان على ديننا فاسلم وابلى بلاء حسنا راح عشية الأحد من بيوت السقيا وقال صلى اللّه عليه وسلّم حين فصل منها اللهم انهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فاشبعهم وعالة فاغنهم بفضلك وكانت ابل اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم سبعين بعيرا فاعتقبوها روى احمد وابن سعد عن ابن مسعود قال كنا يوم بدر كل ثلثة على بعير وكان أبو لبابة وعلى زميلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قالا اركب يا رسول اللّه نحن نمشى عنك فقال ما أنتم باقوى منى على المشي وما انا اغنى عن الاجر منكما قال في البداية والعيون هذا قيل ان يرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أبا لبابة من الروحاء ثم كان زميلاه علبا وزيدا وكان معهم فرسان فرس للمقداد بن الأسود وفرس لزبير بن العوام وعند ابن سعد في رواية كان معهم ثلثة افرس فرس لمرثد بن أبى مرثد الغنوي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لسعد بن أبى وقاص وهو بتربان « 2 » انظر إلى الظبى فعوق « 3 » له بسهم وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فوضع ذقنه بين منكب سعد واذنه ثم قال ارم اللهم سدد رميته فما أخطأ سعد عن نحر الظبى فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وخرج سعد يعدو فاخذه وبه رمق فزكاه وحمله فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقسم بين أصحابه ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ذا سنجسج وهى بين الروحاء ثم ارتحل منها حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار وسلك ذات اليمين النازيه يزيد بدرا فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع « 4 » واديا يقال زحفان بين النازية وبين مضيق السفراء ثم على المضيق ثم انصب به حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسيس ابن عمرو الجهني حليف بنى ساعدة وعدى بن أبى الرغباء حليف بنى البخار إلى بدر يتجسان له الاخبار عن أبى سفيان
(1/2573)
و لما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من الصفراء بيسار وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران وجزع فيه ثم نزل أتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس فتكلم المهاجرون فاحسنوا فاستشارهم فقام أبو بكر فقال فاحسن ثم قام عمر فقال فاحسن ثم قام المقداد بن الأسود فقال يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه فنحن معك واللّه ما نقول كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون
_________
(1) يعنى ناصرا 12
(2) وادي على ثمانية عشر ميلا في المدينة
(3) أى وضع السهم في الوتر ليرمى به 12
(4) أى قطع 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 17
(1/2574)
و لكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك والذي بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد لجالدنا « 1 » معك من دونه حتى نبلغه فاشرق وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال له خيرا ودعا له ثم استشارهم ثالثا ففهمت الأنصار انه يعينهم وذلك انه عدد الناس فقام سعد بن معاذ جزاه اللّه خيرا فقال يا رسول اللّه كانك تعرض بنا قال أجل فقال سعد يا رسول اللّه قد أمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض لما أردت ولعلك يا رسول اللّه تخشى ان يكون الأنصار لا ينصروك الا في ديارهم وانى أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شيئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من امر فامر فاتبع لامرك فو اللّه لئن سرت حتى تبلغ برك من عمدان وفي رواية برك الغماد من ذى يمن لنسيرن معك وو اللّه لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان نلقى عدونا غدا انا بصير في الحرب لعل اللّه يريك منا ما تقربه عينك ولعلك خرجت لامر فاحدث اللّه غيره فسر بنا على بركة اللّه فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك ولا نكونن كالذين قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكم متبعون فاشرق وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بقول سعد رضى اللّه عنه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم سيروا على بركة اللّه وابشروا فان اللّه وعد احدى الطائفتين واللّه لكانى الان انظر إلى مصارع القوم وكره جماعة لقاء العدو كما قال اللّه تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) قال البيضاوي وغيره هذه الجملة في محل النصب على الحال من كاف اخرجك أى اخرجك من بيتك في حال كراهتهم خروجك
(1/2575)
قلت والظاهر انه استيناف ولا يجوز ان يكون في موضع الحال لوجوب اتحاد زمان الحال وصاحبه ولا شك انهم انما كرهوا الخروج إذا اتفق لهم القتال مع النضير واما وقت الخروج فكانوا راغبين في الخروج إلى العير طمعا في المال مع عدم القتال
_________
(1) الجالد المضاربة بالسيوف 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 18
روى ابن أبى حاتم وابن مردوية عن أبى أيوب الأنصاري رضى اللّه عنه قال لما سرنا يوما أو يومين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ما ترون في قتال القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم فقلنا واللّه ما لنا طاقة بقتال القوم ولكن أردنا العير ثم قال ما ترون في قتال القوم فقلنا مثل ذلك - .
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ في ايثارك الجهاد إظهارا للحق لايثارهم تلقى العير عليه وجدا لهم قولهم ما لنا طاقة لقتال القوم ولكنا أردنا العير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لهم باعلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم انهم ينصرون وذلك انه نزل جبرئيل عليه السلام حين كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بالروحاء وقال ان اللّه وعدكم احدى الطائفتين اما العير واما قريش كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ متعلق بقوله كارهون ...
(1/2576)
يعنى يكرهون القتالى كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك بقلة عددهم وعدم تاهبهم وقال ابن زيد هولاء المشركون جادلوه في الحق كانما يساقون إلى الموت وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ متعلق بمحذوف يعنى اذكر إذ يعدكم اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ اما العير واما قريش وهذا ثانى مفعولى يعدكم وقد أبدل عنها أَنَّها لَكُمْ بدل الاشتمال وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أى الشدة والقوة والحدة مستعاد من الشوك يعنى العير تَكُونُ لَكُمْ لكثرة المال وعدم القتال روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال كان اللّه تعالى وعدهم احدى الطائفتين وكانوا ان يلقوا العير أحب إليهم لكونهم أيسر شوكة فلما سبقت العير وفاتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم فكره القوم مسيرهم لكثرة القوم وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أى يظهره ويعليه بِكَلِماتِهِ للوحى بها في هذه الحال يعنى يأمره إياكم بالقتال أو باوامره للملئكة بالامداد وقيل بمواعدة التي سبقت من اظهار الدين وإعزازه وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) أى يستاصلهم حتى لا يبقى أحد من كفار العرب الا يقتل أو يسلم يعنى انكم تريدون ان تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها واللّه يريد إعلاء الدين واظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 19
(1/2577)
بيقطع أو بمحذوف تقديره فعل ما فعل ليثبت الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ يعنى الكفر وليس في الكلام تكرير فان الأول لبيان المراد وبيان ما بين مراده تعالى ومرادهم من التفاوت والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول إلى اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) يعنى المشركين ذلك رجعنا إلى القصة ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من ذفران فسلك ثنايا يقال له الاصافر « 1 » ثم الخط منها إلى بلد يقال له الدية وترك الجنان عن يمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم ثم نزل قريبا من بدر فركب هو وأبو بكر الصديق رض حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم قال الشيخ بلغني ان محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فانكان الذي أخبرني صدقنى فهم اليوم بمكان كذا للمكان الذي فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وبلغني ان قريشا خرجوا يوم كذا فانكان الذي أخبرني صدق فهم اليوم في مكان كذا للمكان الذي فيه قريش ثم قال من أنتما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن « 2 » من ماء قال ابن إسحاق ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أصحابه فلما امسى بعث على ابن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له فاصابوا راوية لقريش فيها اسلم غلام بنى الحجاج وأبو يسار غلام بنى العاصي بن سعيد فاتوا بهما فسألوهما ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قايم يصلى فقالا نحن سقاط قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا ان يكونا لابى سفيان فضربوهما فلما إذ « 3 » لقوهما قالا نحن لابى سفيان فتركوهما وركع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وسجد سجدتين وسلم وقال إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا واللّه انهما لقريش اخبر انى عن قريش قالاهم وراء هذا الكثيب الذي يرى بالعدوة « 4 » القصوى والكثيب العقنقل
(1/2578)
فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم كم القوم قالا كثير قال ما عدتهم قالا لا ندرى قال كم ينحرون كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ما بين التسعمائة والالف ثم قال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم
_________
(1) جمع اصفر جبال قريب من الجحفه عن يمين الطريق إلى مكة 12
(2) قاله توريه أراد من ماء دافق وأوهمه انه من ماء 12
(3) إذا لقوهما يعنى بالغوا في ضربهما 12
(4) العدوة الجانب المرتفع من الوادي 12 عه البعيد 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 20
(1/2579)
من فيهم من الاشراف قالا عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل ابن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث وربيعة الأسود وأبو جهل بن هشام وامية بن خلف ونبيه ومنهه ابنا الحجاج وسهل بن عمرو وعمرو بن عبد ود فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم هذه مكة قد القت إليكم أفلاذ « 1 » كبدها قال ابن عابد وكان مسيرهم وإقامتهم حتى بلغوا الجحفة عشر ليال وكان بسيس بن عمرو وعدى بن أبى الزغباء قد مضيا إلى بدر فاناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذ اشنانهما « 2 » يستقيان فيه ومجدى بن عمر الجهني على الماء فسمع عدى وبسبس جاريتين من جوار الحاضر « 3 » يتلازمان على الماء والملزومة تقول بصاحبتها انما يأتي العير غدا أو بعد غد فاعمل لهم ثم أعطيك الذي لك قال مجدى صدقت وسمع ذلك عدى وبسبس فجلسا على بعيرهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فاخبراه بما سمعا قال ابن إسحاق وغيره واقبل أبو سفيان بالعير وقد خاف خوفا شديدا حين دنوا المدينة واستبطأ ضمضم بن عمرو النضير حتى ورد بدرا وهو خائف وتقدم أبو سفيان امام العير حذرا حتى ورد الماء فرأى مجدى بن عمرو الجهني فقال له هل أحسست أحدا قال ما رايت أحدا أنكره الا انى رايت راكبين يعنى بسبسا وعديا قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فأتى أبو سفيان إلى مناخنهما فأخذ من ابعار بعيرهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه واللّه علائف يثرب فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل « 4 » بها وترك بدرا بيسار وانطلق واسرع فسار ليلا ونهارا فرقا من الطلب فلما رأى أبو سفيان انه قد احرز عيره أرسل إلى قريش قيس بن أمراء القيس انما خرجتم لتمتنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها اللّه تعالى فارجعوا فاتاهم الخبر وهم بالجحفة فقال أبو جهل واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدرا موسما
(1/2580)
من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف « 5 » علينا القينات ويسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا ابدا بعدها وكره
_________
(1) جمع فلذ وهى القطعة يعنى صميم قريش ولبابها 12
(2) الشن القربة 12 [.....]
(3) الحاضر القوم النزول على ماء يقيمون عليه ولا يرحلون 12
(4) فساحل يعنى سلك طريق ساحل البحر 12
(5) تعزف يعنى تلعب بالمعازف أى الملاهي 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 21
(1/2581)
اهل الرأي المسير ومشى بعضهم إلى بعض وكان ممن ابطاهم عن ذلك الحارث بن عامر وامية بن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وحكيم ابن حزام وأبو البختري وعلى بن امية بن خلف وأبو العاصي حتى بكتهم « 1 » أبو جهل بالجبن وأعانه عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث والجارث بن كلدة واجمعوا على المسير قال الأخنس بن شريف وكان حليف بنى زهرة يا بنى زهرة قد نجا اللّه أموالكم وخلص لكم صاحبكم محزمة بن نوفل وانما نفرتم لتمنعوه وماله فارجعوا إلى مكة وكانوا نحو مائة ويقال ثلاثمائة فلم يشهدها زهرى الا رجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري وقتلا كافرين قال ابن سعد ولحق قيس بن امرأ القيس أبا سفيان فاخبره بمجى قريش فقال وا قوماه هذا عمل عمرو بن هشام يعنى أبا جهل واغتبطت بنو زهرة بعد براى الأخنس فلم يزل فيهم مطاعا معظما وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل « 2 » وبطن الوادي ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بالعدوة الدنيا وغلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد والقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس إليهم تزعمون انكم اولياء اللّه وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم مصلون مجنبين فانزل اللّه تعالى تلك الليلة المطر وكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلا طهرهم اللّه تعالى به واذهب عنهم لو جز الشيطان وطابهم « 3 » الأرض وصلب الرمل وثبت الاقدام ومهدبه المنزل وربط « 4 » به على قلوبهم ولم يمنعهم عن المسير وسأل الوادي فشرب المؤمنون وملاؤا الاسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس القى عليهم فناموا حتى ان أحدهم وقفه بين يديه وما يشعر حتى يقع على جنبه روى أبو يعلى والبيهقي في
(1/2582)
الدلائل عن على قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رايتنا وما فينا الا نائم الا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم
_________
(1) بكتهم عيرهم وقبح فعلهم 12
(2) العقنقل الكثيب العظيم المتداخل الرمل 12
(3) طابه الأرض مهدا 12
(4) ربط على القلب قواه 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 22
(1/2583)
يصلى « 1 » تحت شجرة حتى أصبح وكانت ليلة الجمعة وبين الفريقين فوز « 2 » من الرمل وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عمار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود فاطافا بالقوم ورجعا فاخبر ان القوم مذعورون وان السماء تسيح عليهم وساد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عشاء يبادرهم الماء فسبقهم إليه ومنعهم من السبق إليه المطر حتى جاء ادنى ماء من بدر فنزل به فقال الحباب ابن المنذر بن الجموح فيما رواه ابن إسحاق يا رسول اللّه ارايت هذا لمنزل أ منزل نزلكه اللّه ليس لنا ان نتقدمه ولا نتاخر عنه أم هو الرأي والمكيدة قال بل الرأي والحرب والمكيدة قال يا رسول اللّه ليس هذا بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي ادنى ماء من القوم فتنزله ثم نغور « 3 » ما وراه من القليب ثم نبنى عليه حوضا فنملاه ماء فنشرب ولا يشربون فقال صلى اللّه عليه وسلّم لقد أشرت بالرأى وذكر ابن سعد ان جبرئيل نزل على النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقال الرأي ما أشار به الحباب فنهض صلى اللّه عليه وسلّم ومن معه من الناس حتى إذا اتى ادنى ماء من القوم نزل عليه نصف الليل ثم امر بالقليب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملى ماءا ثم قذفوا فيه الآنية فقال سعد بن معاذ يا رسول اللّه الا نبنى لك عريشا « 4 » تكون فيه ونعد عندك ركائيك ثم نلقى عدونا فان أظهرنا اللّه على عدونا كان ذلك ما أحبنا وانكانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن ورأينا فقد تخلف عنك أقوام يا نبى اللّه ما نحن أشد لك حيا منهم ولو ظنو انك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك اللّه عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم خيرا ودعا له ثم بنى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عريشا على تل مشرف على المعركة فكان فيه هو وأبو بكر وليس معهما غيرهما وقام سعد ابن معاذ على بابه متوشحا بالسيف ومشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم في موضع المعركة وجعل
(1/2584)
يشير بيده هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان إنشاء اللّه فما تعدى منهم أحد موضع إشارته رواه احمد ومسلم وغيرهما وروى الطبراني عن رافع بن خديج
_________
(1) يصلى تحت شجرة حتى أصبح وكانت ليلة الجمعة وبين الفريقين فوز ما في الرمل وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم 12
(2) الفوز العالي في الرمل كانة جبل 12
(3) نغور من رواية بغين معجمة فمعناة ندهنه وندفنه ومن رواه بالمهملة فمعناه فقد 12
(4) العريش شبهه الخيمة يستظل به 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 23
(1/2585)
ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال يوم بدر والذي نفسى بيده لو ان مولود اولد من أهل الدين يعمل بطاعة اللّه كلها إلى ان يرد إلى أرذل العمر لم يبلغ أحدكم هذه الليلة وقال ان الملئكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلاء على من تخلف منهم رجاله ثقات الا جعفر بن معلاص فانه غير معروف وأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ببدر وارتحلت قريش بحدها وحديدها تحاد « 1 » اللّه عز وجل وتحاد رسوله وجاؤا على حرد « 2 » قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وقتل من فيها وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه وذلك ما ذكرنا قصته في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه فلما راها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤا منه إلى الوادي وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه فاستجال « 3 » بفرسه يريد ان يتبوأ « 4 » للقوم منزلا فقال صلى اللّه عليه وسلم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها « 5 » وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أمتهم بالغداة ولما راى صلى اللّه عليه وسلّم عتبة بن ربيعة على جمل احمر قال ان بك في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ان يطيعوه يرشدوا فقال هو عتبة ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع ويقول يا قوم اعصبوها « 6 » اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأبو جهل يأبى وبعث خفاف بن أيما بن رحضة الغفاري أو أبوه واسلم الثلاثة بعد ذلك إلى قريش بجزائر أهداها لهم مع ابنه وقال ان احببتم ان نمدكم بسلاح ورجال فعلنا فارسلوا إليه ان وصلتك زحم قد قضيت الذي عليك فلعمرى لئن كنا انما نقاتل الناس ما بنا من ضعف عنهم ولئن كنا نقاتل اللّه كما يزعم محمد ما لاحد باللّه من طاقة فلما نزل الناس اقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول اللّه صلى
(1/2586)
اللّه عليه وسلّم منهم حكيم بن حزام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم دعوهم
_________
(1) تحاد اللّه قعاديه وتخالف امره 12
(2) استحال أى طاف به غير مستقر 12
(3) الحرد الغضب 12 [.....]
(4) ينبؤا منزلا أى يتخذه 12
(5) بالخيلاء التكبر والاعجاب 12
(6) اعصبوها اجعلوا عارها متعلقا بي 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 24
(1/2587)
فما شرب منهم أحد الا قتل الا ما كان من حكيم بن حزام فآنه لم يقتل واسلم بعد ذلك وحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجانى يوم بدر فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي واسلم بعد ذلك فقالوا له احرز لنا اصحاب محمد فجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون لكن أمهلوني حتى انظر للقوم كمين « 1 » مدد فضرب « 2 » فى الوادي حتى ابعد فلم يرشيئا فرجع إليهم فقال ما رأيت شيئا ولكن رأيت يا معشر قريش البلا « 3 » يا تحمل المنايا نواضح « 4 » يثرب تحمل الناقع « 5 » قوم ليس لهم منعة ولا ملجاء الا سيوفهم اما ترونهم حرسا يتكلمون يتلمظون « 6 » تلمظ الأفاعي واللّه ما ارى ان يقتل رجل منهم حتى يقتل منكم فإذا أصابوا منكم اعدادهم فما في العيش خير بعد ذلك فرأو آرائكم فبعثوا أبا سلمة الحشمى فاطاف بالمسلمين على فرسه ثم رجع فقال واللّه ما رأيت جلدا ولا عدوا ولا حلقة ولا كراعا ولكن رأيتهم قوما لا يرونهم يولوا إلى أهليهم قوما مسلمين مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجاء الا سيوفهم زرق الأعين كانهم الحصا تحت الحجف فرأو آرائكم فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فاتى عتبة بن ربيعة فكلمه يرجع بالناس وقال يا أبا الوليد انك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك من الأمر لا تزال تذكر منه يخبر إلى اخر الدهر قال وما ذاك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحتمل امر حليفك عمرو الحضرمي قال قد فعلت أنت على بذلك انما هو حليفى فعليّ عقله « 7 » وما أصيب من ماله فأت ابن حنظلة فابى لا أخشى ان يسحر امر الناس غيره يعنى أبا جهل ثم قال عتبة خطيبا في الناس فقال يا معشر قريش انكم واللّه ما تضعون فان تلقوا محمدا وأصحابه شيئا واللّه لئن أصبحتموه لا يزال الرجل في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فان أصابوه فذلك الذي
(1/2588)
أردتم وان كان غير ذلك القاكم « 8 » ولم تعرضوه منه بما تريدون انى
_________
(1) المستخفى في الحرب حيلة 12
(2) ضرب في الوادي سار فيه 12
(3) البلايا جمع بلية وهى الفاقة والداية تخف بيدها حضرة ويشد راسها إلى خلفها وتبلى أى تترك على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت وكان بعض العرب ممن يقر بالبعث يزعم ان صاحبها يحشر عليها راكبا وإذا لم يفعل بها ذلك يحشر ما شيئا 12 -
(4) الناضح الإبل تسقى عليها الماء 12
(5) الناقع البالع ويقال الثابت 12
(6) التلمظ إدارة اللسان في القم تتبع اثر ما كان
(7) عقل الدية 12
(8) القاكم اوحدكم 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 25
(1/2589)
ارى أقواما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون انى لست بأجبنكم فانطلقت حتى أتيت أبا جهل فوجدته قد نتل « 1 » درعا له من جرامها فهو يهيئها فقلت له يا أبا الحكم ان عتبة قد أرسلني لكذا وكذا اللذى قال فقال انتفخ « 2 » واللّه سجره حين رأى محمد أو أصحابه كلا واللّه لا يرجع حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى ان محمدا وأصحابه أكلته جزور فيكم ابنه قد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر الخضرمي فقال واللّه هذا حليفك عتبة يريد ان يرجع بالناس فقم فانشد « 3 » حفرتك ومقتل أخيك فقام عامر بن الخضرمي فكشف عن استه ثم صرخ وا عمراه فحميت الحرب واحقب « 4 » امر الناس واستو « 5 » سقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة ولما بلغ عتبة قول أبى جهل انتفخ واللّه سجره قال سيعلم مصفر استه من انتفخ سجره انا أم هو ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في راسه فما وجد في الجيش تسعة من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر ببرد على راسه وسل أبو جهل سيفه فضرب متن فرسه فقال له أيما بن رحضة بئس الفال هذا وذكر محمد بن عمر الأسلمي والبلاذري وصاحب الامتناع ان قريشا لما نزلت بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عمر بن الخطاب إليهم يقول لهم ارجعوا فانه ان يلى هذا الأمر منى غيركم أحب إلى من ان تلوه بنى فقال حكيم بن حرام قد عرض نصحا فاقبلوه فو اللّه لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف « 6 » فقال أبو جهل واللّه لا نرجع بعد ما أمكننا اللّه منهم روى ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن جريج ان أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذا واربطوهم في الجبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزل انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة الآية في سورة ن يعنى انهم في قدرتهم عليهم كما اقتدر اصحاب الجنة على الجنة ولما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم صف أصحابه
(1/2590)
فكانما يقوم بهم القداح « 7 » ومعه يومئذ قدح يشير إلى هذا تقدم والى هذا تأخر
_________
(1) نتل أى استخرج 12
(2) كلمة يقال للجبان الشدة والقوة
(3) أى اطلب في قريش الوفاء بخفرهم لك أى عندهم وكان حليفا لهم 12 [.....]
(4) أى اشتد 12
(5) بسينين مهملتين أى اجتمعوا واستقر رأيهم 12
(6) النصف العدل 12
(7) القداح خرد أسهم بلا فصل وريش 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 26
(1/2591)
حتى استووا ودفع رايته إلى مصعب بن عمير فتقدم حيث امره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان يضعها ووقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه واقبل المشركون فاستقبلوا الشمس ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بالعدوة الشامية ونزلوا بالعدوة اليمانية ولما عدل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم الصفوف تقدم سواد بن غزية امام الصف فدفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم في بطنه وقال استويا سواد قال يا رسول اللّه أوجعتني والذي بعثك بالحق نبيا أقدني فكشف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عن بطنه قال استقد فاعتنقه وقبله فقال ما حملك على ما ضعت قال حضر من امر اللّه ما قد ترى وخشيت ان اقتل فاردت ان أكون اخر عهدى بك وحينئذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إذا كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم كذا روى أبو داود عن أبى أسيد وخطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فحمد اللّه واثنى عليه واحث الناس على الصبر في القتال وابتغاء وجه اللّه وتعتبب قريش للقتال والشيطان لا يفارقهم فثبت المسلمون على صفهم وشد عليهم عامر بن الحضرمي فكان أول من خرج من المسلمين مهيجع بن عايش مولى عمر بن الخطاب فقتله ابن الحضرمي وكان أول قتيل من الأنصار حارثة بن سراقة قتله حيان بن عرفة وخرج عتبة بن ربيعة بن أخيه شيبة وابنه الوليد ودعوا لى المبارزة فخرج ثلثة من الأنصار عوذ ومعوذا بنا الحارث وأمها العفراء وعبد اللّه بن رواحة فقالوا اكفاء كرام ما لنا بكم حاجة ثم نادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قم يا عبيدة بن الحارث قم يا حمزة قم يا على فاما حمزة فلم يمهل شيبة ان قتله واما على فلم يمهل الوليد ان قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما اثبت صاحبه فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فذففا عليه و
(1/2592)
احتملا صاحبه وفي الصحيحين ان فيهم نزلت هذان خصمان اختصموا في ربهم في سورة الحج قال ابن إسحاق ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى العريش ومعه أبو بكر وليس معه غيره ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يناشدد به عز وجل ما وعده من النصر يقول فيما يقول اللهم ان تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 27
(1/2593)
و أبو بكر يقول يا رسول اللّه بعض منا شدتك ربك فان اللّه منجز لك ما وعدك روى ابن جرير وابن أبى حاتم والطبراني عن أبى أيوب الأنصاري ان عبد اللّه بن رواحة قال يا رسول اللّه انى أريد ان أشير عليك ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أعظم من ان بشار إليه ان اللّه تبارك وتعالى أجل وأعظم من ان ينشده وعده فقال يا ابن رواحة لانشدن اللّه وعده ان اللّه لا يخلف الميعاد وروى ابن سعد وابن جرير عن على بن أبى طالب وقال لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت مسرعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلّم لا نظر ما فعل فإذا هو ساجد يقول يا حى يا قيوم لا يزيد عليها ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذاك ثم ذهبت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك ثم ذهبت إلى القتال ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك ففتح عليه وروى البيهقي عن ابن مسعود حديث المناشدة قال ثم التفت كان وجهه القمر فقال كانما انظر مصارع القوم العشية وروى سعيد بن منصور عن عبيد اللّه ابن عبد اللّه بن عتبة قال لما نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى المشركين وتكاثرهم والى المسلمين واستقلهم ركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال صلى اللّه عليه وسلّم وهو في صلوته اللهم لا تخذلنى اللهم أنشدك ما وعدتني روى ابن أبى شيبة واحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى المشركين وهم الف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبى اللّه القبلة ثم مديديه فجعل يهتف بربه
(1/2594)
عز وجل يقول اللهم أنجز لى ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم ان تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه عز وجل مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط ردائه عن منكبه فاتاه أبو بكر فاخذ ردائه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبى اللّه كذاك « 1 » تناشدك لربك فانه سينجز لك ما وعدك فانزل اللّه تعالى.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إذ يعدكم أو متعلق بقوله لِيُحِقَّ أو على إضمار اذكر يعنى يستجيرون به من عدوكم وتطلبون الغوث فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي أى بانى فحذف الجار وسلط عليه الفعل مُمِدُّكُمْ مرسل إليكم مددا وردأ لكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ روى البيهقي عن ابن عباس وحكيم بن حزام وابراهيم
_________
(1) يعنى كفاك 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 28
(1/2595)
التيمي حديث دعائه صلى اللّه عليه وسلّم وقول أبى بكر نحو ما مر وفيه وخفق « 1 » رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال ابشر يا أبا بكر هذا جبرئيل متعجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض فلما نزل إلى الأرض تغيب عنى ساعة ثم طلع على ثناياه النقع يقول أتاك نصر اللّه إذ دعوته وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ قومه نحوه بلفظ هذا جبرئيل « 2 » أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع وروى البخاري والبهيقى عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال يوم بدر هذا جبرئيل أخذ برأس فرسه وعليه اداة الحرب مُرْدِفِينَ (9) قرأ نافع ويعقوب بفتح الدال أى أردفهم اللّه تعالى المسلمين وجاء بهم لهم مددا والباقون بكسر الدال أى متتابعين بعضهم اثر بعض وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال في تفسيره يعنى وراء كل ملك ملك وروى عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال متتابعين أمدهم اللّه تعالى بألف ثم بثلاثة آلاف ثم أكملهم خمسة آلاف وروى الطبراني عن رفاعة بن رافع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال أمد اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بألف وكان جبرئيل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة الحديث وروى ابن أبى حاتم عن الشعبي قال بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان كرز المحاربي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك عليهم فانزل اللّه تعالى أ لن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملئكة منزلين بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملئكة مسومين فبلغ كرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم فلم يمدهم اللّه بالخمسة الآلاف وكانوا قد امدوا بألف من الملئكة وروى أبو يعلى والحاكم عن على رضى اللّه عنه قال بينما انا من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم ار مثلها قط ثم جاءت ريح شديدة لم ار مثلها قط
(1/2596)
الا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة قال وكانت ريح الاولى جبرئيل عليه السلام نزل في الف من الملئكة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في الف من الملئكة عن يمين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وكان أبو بكر عن يمينه فكانت
_________
(1) حرك راسه وهو تاع 12
(2) ثنايا راسه وقواعه 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 29
(1/2597)
الثالثة اسرافيل نزل في الف من الملئكة عن ميسرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وانا في الميسرة الحديث وروى احمد والبزار والحاكم برجال صحيح عن على قال قال لى ولابى بكر يوم بدر قيل لاحدنا معك جبرئيل وقيل للآخر معك ميكائيل واسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل يكون في الصف وروى أبو يعلى عن جابر قال كنا نصلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم في غزوة بدر إذ تبسم في صلوته قلنا يا رسول اللّه رايناك تبسمت قال مربى جبرئيل وعلى جناحه اثر الغبار وهو راجع عن طلب القوم فضحك إلى وتبسمت إليه وروى ابن سعد وأبو الشيخ عن عطية بن قيس قال لما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من قتال بدر جاء جبرئيل على فرس أنثى احمر عليه درعه ومعه رمحه فقال يا محمد ان اللّه بعثني إليك وأمرني ان لا أفارقك حتى ترضى هل رضيت قال نعم رضيت فانصرف - (فايده) وقد ظهر بعض الملائكة لبعض الرجال في صورة الرجال روى ابراهيم الحرثى عن أبى سفيان بن الحارث قال لقينا ببدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض وروى البيهقي وابن عساكر عن سهل بن عمرو رضى اللّه عنه قال لقد رايت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون وروى محمد بن عمرو الأسلمي وابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال رايت يوم بدر رجلين عن يمين النبي صلى اللّه عليه وسلّم أحدهما وعن يساره أحدهما يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من خلفه ثم ربعهم رابع امامه وروى محمد بن عمرو الأسلمي عن ابراهيم الغفاري عن ابن عم له بينا انا وابن عم لى على ماء ببدر فلما راينا قلة من مع محمد وكثرة قريش قلنا إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه - فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحابه ونحن نقول هؤلاء ربع قريش فينا نحن نمشى في المسيرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح وسمعنا لرجل
(1/2598)
يقول لفرسه اقدم « 1 » خيزوم فنزلوا على ميمنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ثم جاءت اخرى مثل ذلك لكانت
_________
(1) اقدم بضم الدال والهمزة أو فتح الدال وكسر الهمزة أو عكسه ورجح النووي الثاني وهو في التقدم على الحرب أو الاقدام أو الشجاعة وحيزوم فيقول من الحزم والحيزوم يطلق أيضا على الصدر يجوز ان يكون سمى به لأنه صدر خيل الملئكة 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 30
(1/2599)
مع النبي صلى اللّه عليه وسلّم وأصحابه فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمى واما انا فما سكت وأخبرت النبي صلى اللّه عليه وسلّم وأسلمت وكذا روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس عن رجل من غفار وروى البيهقي عن السائب بن أبى حبيش انه يقول واللّه ما أسرني أحد من الناس فيقول لما انهزمت قريش انهزمت معها فادركنى رجل ابيض طويل على فرس بين السماء والأرض فاورثنى رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدنى مربوطا فنادى في العسكر من ربط هذا فليس يزعم أحد انه أسرني حتى انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقال من أسرك قلت لا أعرفه وكرهت ان أخبره بالذي رايت فقال أسرك ملك من الملائكة وروى احمد وابن سعد وابن جرير عن ابن عباس والبهيقى عن على قال كان الذي اسر العباس أبو اليسر وكان رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يا أبا اليسر كيف أسرت العباس قال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئة كذا وكذا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لقد اعانك عليه ملك كريم وروى ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه عن أبى أسيد الساعدي انه قال بعد ما عمى لو كنت معكم ببدر الان ومعى بصرى لاخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملئكة لا أشك ولا اتمارى وروى البيهقي عن ابن عباس قال كانت سيما الملئكة يوم بدر عمائم بيض قال أرسلوا في ظهورهم ويوم خيبر عمائم حمر وروى ابن إسحاق عن ابن عباس نحوه وزاد الا جبرئيل فانه كانت عليه عمامة صفراء وروى الطبراني بسند صحيح عن عروة قال نزل جبرئيل يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء وكذا روى ابن أبى شيبة وابن جرير وابن مردوية عن عبد اللّه بن الزبير وروى الطبراني وابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا في قوله تعالى مسومين قال معلمين وكانت سيما الملئكة يوم بدر عمائم سود و
(1/2600)
يوم أحد عمائم حمر قال ابن سعد كانت سيما الملئكة يوم بدر عمائم قد ارخوا بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور والصوف في نواصى خيلهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لاصحابه ان الملئكة قد سومت فسوموا فاعلموا بالصوف في مفارقهم وقلانسهم وكانت الملئكة على خيل بلق.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الامداد بالملائكة الذي دل عليه قوله ممدكم إِلَّا بُشْرى أى سببا لاستبشاركم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 31
فيزول ما بها من وجل نظرا على جرى عادة اللّه في غلبة الكثير على القليل قلت نظير حال النبي صلى اللّه عليه وسلّم هاهنا في اضطراب قلبه ومناشدته صلى اللّه عليه وسلّم ربه بعد ما وعده بالنصر حال ابراهيم عليه السلام حيث قال رب أرني كيف تحيى الموتى قال ا ولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى وكان حالهما عليهما السلام مبنيا على النزول الأتم كما حققناه في سورة البقرة في تفسير رب أرني كيف تحيى الموتى ولما لم يكن ابن رواحة رضى اللّه عنه في تلك المرتبة من النزول قال ان اللّه تبارك وتعالى أجل وأعظم ان ينشد وعده ولما كان أبو بكر اقرب منزلة من النبي صلى اللّه عليه وسلّم لم يقل كما قال ابن رواحة بل قال كذاك تناشدك لربك وكان اضطراب النبي صلى اللّه عليه وسلّم لحرصه على اشاعة الإسلام وهدم أساس الكفر ونظره على كمال استغنائه تعالى عن العالمين وعن عبادتهم واللّه اعلم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) وامداد الملئكة وكثرة العدد والأهب ونحوها وسايط في جرى العادة لا تأثير لها في نفس الأمر واللّه اعلم.
(
(1/2601)
فايدة) ولما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من مناشدته ربه قاتل بنفسه الشريفة قتالا شديدا وكذلك أبو بكر وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع ثم نزلا فحرضا وحشا الناس على القتال وقاتلا بابدانهما جمعا بين المقامات كذا قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد وروى ابن سعد والفريابي عن على قال لما كان يوم بدر وحضر البأس امّنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم واتقينا به وكان أشد الناس بأسا يومئذ وما كان أحد اقرب إلى المشركين منه ورواه احمد بلفظ لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم والنسائي بلفظ كنا إذا حمى البأس ولقى القوم اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أى النوم الخفيف قرأ ابن كثير وأبو عمرو إذ يغشاكم بفتح الياء والشين والف بعدها ورفع النعاس كما في سورة ال عمران امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ونافع بضم الياء وكسر الشين مخففا ونصب النعاس كما في قوله تعالى كانما أغشيت وجوههم والباقون كذلك الا انهم فتحوا الغين وشدد والشين كما في قوله تعالى فغشاها ما غشى و
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 32
(1/2602)
الفاعل على القرائتين هو اللّه والظرف بدل ثان من إذ يعدكم لاظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند اللّه من معنى الفعل أو بجعل أو بإضمار اذكر امنة منه أى أمنا كائنا من اللّه مصدر امنت أمنا أو امنة وأمانا مفعول له باعتبار المعنى فان قوله يغشيكم النعاس يتضمن معنى تنعسون ويغشاكم بمعناه والامنة فعل لفاعله ويجوز ان يراد به الايمان فيكون فعل المغشى وان يجعل على قراءة ابن كثير وأبو عمر فعل النعاس على المجاز لانها لاصحابه أو لأنه كان من حقه ان لا يغشاهم لشدة الخوف فلما غشاهم فكانه حصلت له امنة من اللّه لولاها لم يغشهم قال عبد اللّه بن مسعود النعاس في القتال امنة من اللّه عز وجل وفي الصلاة من الشيطان روى عبد بن جميد عن قتادة قال كان النعاس امنة « 1 » من اللّه وكان النعاس نعاسين نعاس يوم بدر ونعاس يوم أحد وقد مر ذكر النعاس في القصة وذكر المطر الذي ذكره اللّه تعالى في كتابه فقال وَيُنَزِّلُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الحدث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يعنى وسوسته إليهم تزعمون انكم اولياء اللّه وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم مصلون مجنبون وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ يقويها بالوثوق على لطف اللّه بهم وإنزال السكينة عليها يقال فلان رابط الجاش إذا قوى قلبه واصل الربط الشد وذلك يقتضى القوة والاستحكام وَيُثَبِّتَ بِهِ أى بالمطر الْأَقْدامَ (11) حيث صلب الرمل ولم يذهب الاقدام فيها أو بالصبر وقوة القلب.
(1/2603)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ الذين أمد بهم المؤمنين بدل ثالث أو متعلق بيثبت أَنِّي مَعَكُمْ في اعانة المؤمنين وثبتهم وهو مفعول يوحى فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بمحاربة أعدائهم وتكثير سوادهم وبشارتهم بالنصر قال مقاتل كان الملك يمشى امام الصف في صورة الرجل ويقول ابشروا فان اللّه ناصركم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ هو امتلاء القلب من الخوف يعنى الخوف من المؤمنين قرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بسكونها وهذا بمنزلة التفسير لقوله انى معكم روى أبو نعيم عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قلت لابى يا أبت كيف أسرك أبو اليسر ولو شئت لجعلته
_________
(1) يعنى الامن الذي هو ضد الخوف فعل لفاعل متنعون أى المخاطبون 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 33
(1/2604)
في كفك فقال يا بنى لا تقل ذلك لقينى وهو في عينى أعظم من الخندقه قلت وهذا الإلقاء اللّه الرعب في قلوبهم فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أى أعاليها التي هى المذابح والرؤوس وقال عكرمة يعنى الرؤوس لانها فوق الأعناق وقال الضحاك معناه فاضربوا الأعناق وفوق صلة وقيل معناه فاضربوا على الأعناق وفوق بمعنى على وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) قال عطية يعنى كل مفصل وقال ابن عباس وابن جريح والضحاك يعنى الأطراف والبنان جمع بنانة وهى أطراف أصابع اليدين والرجلين في القاموس الأصابع أو أطرافها والخطاب للملئكة يقتضيه سياق الآية وفيه دليل على ان الملائكة قاتلوا قال ابن الأنباري كانت الملائكة لا تعلم كيف يقتل الآدميون فعلمهم اللّه تعالى روى البخاري والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال وهو في قبة يوم بدر اللهم انى أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان تشأ لا تعبد بعد اليوم فاخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول اللّه لقد ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وامر وانزل اللّه تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم انى ممدكم بألف من الملئكة مردفين أى متتابعين يتبع بعضهم بعضا وانزل اللّه تعالى أ لن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين فاوحى اللّه تعالى إلى الملئكة انى معكم فثبتوا الذين أمنوا سالقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان وروى مسلم وابن مردوية عن ابن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في اثر رجل من المشركين امامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسمع صوت الفارس يقول اقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك امامه مستاتيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع اجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و
(1/2605)
سلّم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة وروى الحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم عن سهل بن حنيف قال لقد رايتنا يوم بدر ان أحدنا يشير بسيفه إلى راس المشرك فيقع راسه قبل ان يصل إليه وروى البيهقي عن الربيع بن انس قال كان الناس يعرفون قتل من قتلوه بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق وروى ابن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 34
(1/2606)
سعد عن حويطب بن عبد العزى قال شهدت بدرا مع المشركين فرأيت عيرا رأيت الملئكة تقتل وتاسر بين السماء والأرض وروى محمد بن عمر الأسلمي والبيهقي عن أبى بردة بن يناد رضى الله عنه قال جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بثلاثة رؤس فقلت يا رسول اللّه اما راسان فقتلتهما واما الثالث فانى رأيت رجلا ابيض طويلا ضربه فاخذت رأسه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذاك فلان من الملئكة وروى ابن سعد عن عكرمة قال كان يومئذ يندر رأس الرجل الا يدرى من ضربه وتندر يد رجل لا يدرى من ضربه وروى ابن إسحاق والبيهقي عن أبى واقد الليثي قال انى لا تبع يوم بدر رجلا من المشركين لا ضربه فوقع راسه قبل ان يصل إليه سيفى فعرفت ان غيرى قتله وروى البيهقي عن خارجة بن ابراهيم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لجبرئيل من القائل يوم بدر من الملئكة اقدم حيزوم فقال جبرئيل ما كل أهل السماء اعرف وروى ابن إسحاق عن أبى رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه وكان أبو لهب عدو اللّه قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحابه بل ركبه « 1 » اللّه وأخزاه فوجدنا فى أنفسنا قوة وعزة وكنت رجلا ضعيفا وكنت اعمل القداح وأنحتها فى حجرة زمزم فو اللّه انى لجالس انحت القداح وعندى أم الفضل جالسة إذ اقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليسه حتى جلس على طنب « 2 » الحجرة وكان ظهره إلى ظهرى فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن
(1/2607)
عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب الىّ ابن أخي فعندك الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه فقال أخبرني ابن أخي كيف كان امر الناس فقال لا شىء واللّه ان كان الا ان لقيناهم فمحناهم « 3 » أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاء وايم اللّه مع ذلك ما ملت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا واللّه ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك واللّه الملئكة قال فرفع
_________
(1) أى اذله 12.
(2) الطنب حبل الخباء وطرف الحجرة 12
(3) فمحناهم أعطيناهم 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 35
ابو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة فثاورته « 1 » فاحتملنى فضرب بي الأرض ثم برك علىّ يضربنى وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فاخذته فضربته به ضربة فلقت فى راسه شجة منكرة وقالت استضعفته ان غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فو اللّه ما عاش الا سبع ليال حتى رماه اللّه عز وجل بالعدسة فقتله قال ابن جرير والعدسة « 2 » قرحة كانت العرب يتشاءم بها ويرون انها تعدو أشد العدو فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه بعد موته ثلثا ولا تقرب جثته ولا يحاول دفنه فلما خافوا السبة « 3 » فى تركه حفروا له ثم وضعوه بعصا فى حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه قال ابن إسحاق فى رواية يونس بن بكير انهم لم يحفر واله ولكنه أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه.
ِكَ
اشارة إلى الضرب والأمر به والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو مبتدأ خبره أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يعنى بسبب انهم عاندوهما اشتقاقه من الشق لان كلا من المتعاندين فى شق خلاف شق الاخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يعاقبه اللّه عقابا شديداإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)
(1/2608)
تقرير للتعليل أو وعيد بما أعد لهم فى الاخرة بعد ما حاق بهم فى الدنيا.
ذلِكُمْ الخطاب مع الكفار على طريقة الالتفات ومحله الرفع أى الأمر ذلكم أو ذلكم العقاب واقع أو النصب بفعل دل عليه قوله تعالى فَذُوقُوهُ يعنى ذوقوا ذلكم العذاب فى الدنيا فذوقوه أو غير ذلك الفعل مثل باشروا أو عليكم ويكون الفاء حينئذ عاطفة وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) فى الاخرة عطف على ذلكم أو الواو بمعنى مع والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان الكفر سبب موجب للعذاب الاجل والجمع بينهما والمؤمن لو أصابه مصيبة فى الدنيا بما كسبت يداه كانت له كفارة ولا يعذب فى الاخرة إنشاء اللّه تعالى روى البغوي بسنده فى تفسير قوله تعالى ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم الآية عن على رضى اللّه عنه قال الا أخبركم بأفضل آية من كتاب اللّه حدثنا بها رسول اللّه
_________
(1) ثادرته أى نهضت 12
(2) عدسة بثرة شبيه العدس تخرج فى موضع من الجسد تقتل صاحبها غالبا 12 [.....]
(3) السبة طعن الناس وقولهم بالسوء 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 36
صلى اللّه عليه وسلم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير وسافسرها لك يا عليّ ما أصابكم من مرض أو عقوبته أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت ايديكم واللّه عز وجل أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة وما عفى اللّه عنه فى الدنيا فاللّه احكم من ان يعود بعد عفوه واللّه اعلم روى الترمذي وحسنه والحاكم عن عكرمة عن ابن عباس قال قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو أسير فى وثاقه لا يصلح فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم قال لان اللّه وعدك احدى الطائفتين وقد اعطاك ما وعدك قال صدقت.
(1/2609)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً حال من فاعل لقيتم ومفعوله أى متزاحفين بعضكم إلى بعض مختلطين المسلمون بالمشركين والتزاحف التداني فى القتال كذا قال البغوي قلت وانما سمى التداني فى القتال تزاحفا لأنه ماخوذ من زحف الصبى إذا دب على استه قليلا أو من زحف البعير إذا أعيى فيسير قليلا يجر فرسه فان مزاحمة العدو يمنعهم عن الاسراع فى المشي فكانهم يزحفون كما يزحف الصبى فالزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم قوم عدل وقال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم فهم الزحف بالفتح والإسكان والجمع الزحف بالضمتين وفى القاموس الزحف الجيش يزحفون إلى العدو واختار البيضاوي هذا المعنى حيث فسرز حفا بمعنى كثيرا فعلى هذا اما ان يكون حالا من الذين كفروا يعنى إذا لقيتم جماعة كثيرة من الكفار فضلا من ان يكونوا مثلكم أو قليلا منكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) أى لا تولوا ظهوركم بالانهزام واما من الفاعل والمفعول جميعا والمعنى إذا لقيتم متكثرين بجماعة كثيرة من الكفار وحينئذ يكون جريان الحال جريا على العادة فان الغالب قتال لمتكثرين بالمتكثرين واما من الفاعل وحده ويكون اشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر الفا والأظهر عندى فى تفسير الآية ما قال البغوي فانه يقتضى عموم النهى سواء كان من الفريقين جماعات أو فرادى فان مقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد على الآحاد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 37
(
(1/2610)
مسئله) الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر وعلى هذا اكثر أهل العلم وبه قال الائمة الاربعة من الفقهاء لكنهم قالوا ان المسلمين إذا كانوا على شطر من عدوهم لا يجوز لهم ان يفروا وإن كانوا اقل من ذلك جاز لهم ان يولوا ظهورهم ويتجاوزوا عنهم لقوله تعالى الان خفف اللّه عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فان يكن منكم مأته صابرة يغلبوا مائتين الآية قال عطاء ابن رباح هذه الآية يعنى لا تولوهم الأدبار منسوخة بقوله تعالى الان خفف اللّه عنكم وبحديث ابن عمر قال بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى سرية فحاص الناس حيصة فاتينا المدينة فاختفينا بها وقلنا هلكنا ثم اتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلنا يا رسول اللّه نحن الفرارون قال بل أنتم العكارون « 1 » وانا فئتكم رواه الترمذي وحسنه وفى رواية أبى داود نحوه وقال محمد بن سيرين لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر رضى اللّه عنهما فقال لو انحاز إلى كنت له فئة وانا فئة كل مسلم ومحمل هذين الحديثين قلة المسلمين من شطر الكفار قال البغوي قال ابن عباس من فرمن ثلثة فلم يفرو من فرمن اثنين فقد فرو قال بعض الناس لا بأس بالفرار مطلقا محتجا بما ذكرنا من حديث ابن عمرو محمد بن سيرين قال أبو سعيد الخدري هذا يعنى النهى عن التولي زحفا فى أهل بدر خاصة ما كان يجوز لهم الانهزام لان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان هناك ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين فاما بعد ذلك فان المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وقال يزيد ابن أبى حبيب أوجب اللّه تعالى النار لمن فريوم بدر فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى اللّه عنهم ثم كان يوم حنين بعد فقال ثم وليتم مدبرين ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشآء قلت وهذا القول ردّه اجماع الائمة على ما ذكرنا وما ذكر من الآيات فى يوم
(1/2611)
أحد ويوم حنين فهى حجة لنا لا علينا حيث قال اللّه تعالى انما استزلهم الشيطان وقال عفى اللّه عنهم والعفو يقتضى العصيان وكذا قوله تعالى ثم يتوب اللّه يدل على وجود المعصية واللّه اعلم وقد ذكر رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) الكرارون إلى الحرب يقال للرجل يولى عن الحرب لم يكرر اجفا إليها 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 38
عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات رواه الشيخان فى الصحيحين فى حديث أبى هريرة واصحاب السنن عن صفوان بن عسال وقد ذكرنا الكبائر فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم فالوعيد عام بقوله تعالى.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يعنى الذين كفروا يَوْمَئِذٍ أى يوم إذا لقيتموهم زحفا دُبُرَهُ أى ظهره فى أى حال كان إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أى متعطفا يريد ان يرى من نفسه الانهزام وقصده الغرة بالعدو وهو يريد الكر أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أى منضما صابرا إلى جماعة المسلمين إذا أعيى من القتال يريد العود بعد زوال التعب فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) جهنم وفى القصة ما ذكره البغوي انه قال مجاهد فلما انصرف المسلمون عن القتال كان الرجل يقول انا قتلت فلانا ويقول الاخر مثله فنزلت.
(1/2612)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصره إياكم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم وامداد الملئكة لكم والفاء جواب شرط محذوف تقديره ان افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم وهذا سبب أقيم مقام المسبب والأصل فى التقدير ان افتخرتم فقد أخطأتم إذ لم تقتلوهم بقوتكم ولكن اللّه قتلهم من غير تجشم منكم بامداده على خلاف جرى العادة وَما رَمَيْتَ يا محمد بالحصباء رميا يوصلها إلى أعينهم أجمعين ولم تكن تقدر على ذلك إِذْ رَمَيْتَ أتيت بصورة الرمي وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى اتى هو غاية الرمي فاوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف لكن فى الموضعين ورفع ما بعده والباقون بالتشديد ونصب ما بعده روى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس والأموي عن عبد اللّه ابن ثعلبه بن صفير ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يعنى فى مناشدته ربه ان تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض ابدا فقال له جبرئيل خذ قبضة من تراب فرمى بها فى وجوههم فما بقي من المشركين من أحد الا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه فولوا مدبرين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاصحابه احملوا فلم يكن الا الهزيمة فقتل اللّه من قتل من
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 39
(1/2613)
صناديد قريش واسر من اسر وانزل اللّه تعالى فلم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم الآية وروى الطبراني وأبو الشيخ برجال الصحيح عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعلى رضى اللّه عنه ناولنى قبضة من حصباء فرمى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى وجوه الكفار فما بقي أحد من القوم الا امتلأت عيناه من الحصباء وروى أبو الشيخ وأبو نعيم وابن مردويه عن جابر رضى اللّه عنه قال سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كانهن وقعن فى طست فلما اصطف الناس أخذهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرمى بهن وجوه المشركين فانهزموا وروى ابن أبى حاتم عن ابن زيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ بثلث حصيات فرمى بحصاة فى ميمنة القوم وحصاة فى ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال شاهت الوجوه فانهزم القوم وروى محمد بن عمرو الأسلمي امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخذ من الحصباء كفا فرمى به المشركين وقال شاهت الوجوه اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم فانهزم اعداء اللّه لا يلوذون على شيء والقواد روعهم والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد الا امتلأ وجهه وعيينه ما يدرى اين يوجه والملائكة يقتلونهم وروى الطبراني وابن أبى حاتم وابن جرير بسند حسن عن حكيم بن جزام قال لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض كأنَّه صوت حصاة وقعت فى طست ورمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتلك الحصاة وقال شاهت الوجوه فانهزمنا وفى شان نزول الآيات روايات أخو غريبة منها ما روى الحاكم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال اقبل أبى بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب بن عمير وراى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترقوة ابي من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فسقط من فرسه ولم يخرج من طعنه دم فكسر ضلعا من أضلاعه فاتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا
(1/2614)
ما أعجزك انما هو خدش فذكر لهم قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل انا اقتل أبيا قال والذي نفسى بيده لو كان هذا باهل ذى المجاز لماتوا أجمعين فمات أبى قبل ان يقدم مكة فانزل اللّه تعالى وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى اسناده صحيح لكنه غريب ومنها ما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم خبير دعى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 40
بقوس فرمى الحصن فاقبل السهم يهوى حتى قتل ابن أبى الحقيق وهو فى فراشه فانزل اللّه وما رميت إذ رميت وهذا مرسل جيد لكنه غريب واللّه اعلم وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أى لينعم اللّه عليهم مِنْهُ أى ما فعل بَلاءً حَسَناً نعمة عظيمة قوله تعالى ليبلى معطوف على محذوف يعنى فعل ما فعل ليظهر دينه ويقهر أعدائه ويبلى المؤمنين أى يعطيهم نعمة عظيمة النصر
(1/2615)
و الغنيمة وتقويته الايمان بمشاهدة الآيات واجر الجهاد والشهادة ودرجات القرب وغرفات الجنان ومرضاة اللّه تعالى قلت كأنَّه جواب سوال مقدر وهو ان اللّه تعالى كان قادرا على ان يهلك الكفار أجمعين من غير مجاهدة المؤمنين وقتالهم حتى قتل بعضهم ومن غير امداد الملئكة وأيضا كان ملك من الملئكة كاف فى إهلاكهم كما فعل بأشياعهم من قبل حيث قال وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين انكانت الا صيحة واحدة فإذا هم خامدون فاى فائدة فى امدادهم بثلاثة آلاف من الملئكة وقتال الملئكة وغير ذلك فيقول اللّه سبحانه فعلنا هذا كله لاظهار دينه وإعطاء المؤمنين من الانس والملئكة نعمة من اللّه من الاجر والثواب والنصر والغنيمة ولو أهلك كلهم بقدرته أو بصيحة ملك واحد ولم يبق من المشركين أحد لم ينل أحد منهم فضل الايمان باللّه تعالى وقد أمن كثير من بقي منهم بعد ذلك وما نال المؤمنون اجر الجهاد والشهادة والغنيمة والفضل وما نال الملئكة ذلك الفضل - (فصل) فيما ورد فى فضائل أهل بدر روى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال جاء جبرئيل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم قال أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال جبرئيل وكذلك من شهد بدر أمن الملائكة وروى احمد وابن ماجه عن رافع بن خديج نحوه وروى احمد بسند صحيح على شرط مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن يدخل النار رجل شهد بدرا والحديبية وروى أبو داود وابن ماجة والطبراني بسند جيد عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اطلع اللّه على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وروى احمد عن حفصة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول انى لارجوا ان لا يدخل النار إنشاء اللّه أحد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 41
(1/2616)
شهد بدر أو الحديبية قالت قلت أ ليس اللّه يقول وان منكم الا واردها قال اما سمعته يقول ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا وروى مسلم والترمذي عن جابر ان عبد اللّه بن حاطب جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يشكوا حاطبا إليه فقال يا رسول اللّه ليدخلن حاطب النار قال كذبت لا يدخلها فانه شهد بدر أو الحديبية وفي الصحيحين عن على قصة كتاب حاطب بن بلتعة وقول عمر يا رسول اللّه اضرب عنقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أ ليس من أهل بدر ولعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقال فقد وجبت لكم الجنة وقد ذكرنا الحديث في سورة الفتح وسورة الممتحنة وروى البخاري عن انس قال أصيب حارثة بن زيد يوم بدر فجاءت امه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه قد عرفت منزلة حارثة منى فان يك في الجنة اصبر واحتسب وان يك الاخرى فترى ما اصنع قال ويحك أو جنة واحدة هى انها جنان كثيرة وانه فى الفردوس وفي رواية عند غير البخاري عن انس ان حارثة كان في النظارة وفيه ان ابنك أصاب الفردوس الأعلى ففيه تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فانه لم يكن في بحجة القتال ولا في حومة الغوائل بل كان من النظارة من بعيد وانما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب جنة الفردوس التي هى أعلى الجنة وأوسطها ومنها تفجر انهار الجنة فإذا كان هذا حاله فما ظنك بمن كان في نحر العدد وهم على ثلثة أضعافهم عددا وعددا واستشكل قوله صلى اللّه عليه وسلّم اعملوا ما شئتم فان ظاهره للاباحة وهو خلاف عقد الشرع فقيل انه اخبار عن مغفرة الذنوب الماضية يدل عليه قوله قد غفرت لكم بصيغة الماضي ورد هذا القول بانه لو كان للماضى لما صح الاستدلال في قصة حاطب بن بلتعة لأنه صلى اللّه عليه وسلّم خاطب عمر منكرا عليه ما قال في امر حاطب فان هذه القصة كانت بعد بدر بست سنة فدل على ان المراد
(1/2617)
مغفرة الذنوب المستقبلة وانما أورد بلفظ الماضي مبالغة في تحققه والصحيح ان قوله صلى اللّه عليه وسلّم اعملوا للتشريف والتكريم
و المراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم وانهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيم التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لان
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 42
يغفر لهم للذنوب اللاحقة ان وقعت.
(فايده) اتفقوا على ان البشارة المذكورة فيما يتعلق باحكام الآخرة لا باحكام الدنيا من اقامة الحدود وغيرها واللّه اعلم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم ودعائهم عَلِيمٌ (17) بنياتهم وأحوالهم.
ذلِكُمْ اشارة إلى البلاء الحسن أو القتل والرمي ومحله الرفع أى المقصود أو الأمر ذلكم أو ذلكم الإبلاء حق وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) معطوف على ذلكم يعنى المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وابطال حيلهم قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر بفتح الواو وتشديد الهاء والباقون بإسكان الواو وتخفيف الهاء وقرأ حفص موهن بغير تنوين مضافا إلى كيد بالجر والباقون بالتنوين ونصب كيد روى ابن إسحاق واحمد عن عبد اللّه بن ثعلبة بن صعير بالمهملتين العذرى وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعضهم قال أبو جهل اللهم أينا كان اقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة اللهم من كان أحب إليك وارضى عندك فانصره فكان هو المستفتح على نفسه فانزل اللّه تعالى.
(1/2618)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أى تستنصر والأحب الناس وارضهم عند اللّه فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الذي طلبتم فقتل أبو جهل يوم بدر وروى احمد والشيخان وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف قال انى لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يمينى وعن شمالى فإذا انا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت ان أكون بين اضلع منهما فغمزنى أحدهما سرّا من صاحبه فقال أى عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي قال أخبرت انه يسب النبي صلى اللّه عليه وسلّم والذي نفسى بيده لئن رايته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منهما قال وغمزنى الاخر سرا من صاحبه فقال مثلها فعجبت لذلك فلم انشب ان نظرت إلى إلى جهل يحول في الناس وهو يرتجز - شعر : ما تنقم الحرب « 1 » العوان منى بازل « 2 » عامين حديث سنى لمثل هذا ولدتني أمي فقلت الا تريان هذا صاحبكما كما الذي تسالان عنه فابتدراه
_________
(1) الحرب العوان التي قوتل فيها مرة بعد أخرى 12
(2) البازل في الإبل الذي خرج نابه وهو في ذلك السن به قوته 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 43
(1/2619)
بسيفهما فضرباه حتى برد وانصرفا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فاخبراه فقال كلاكما قتله وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان هو ومعاذ بن عفراء وروى البخاري عن انس قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلّم يوم بدر من ينظر ما فعل أبو جهل قال فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد فاخذ بلحية وقال أنت أبو جهل قال وهل فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه وفي مسند احمد عن أبى عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود عن أبيه انه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو ضريع وقد ندب الناس فيه بسيف له فاخذته فقتلته به فنفلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم سيفه قال الحافظ هو معارض لما في الصحيح انه صلى اللّه عليه وسلّم اعطى سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ويمكن الجمع بان يكون نفل ابن مسعود سيفه الذي قتله به فقط وروى ابن إسحاق عن معاذ بن عمرو بن الجموح قال لما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من غزوة امر بابى جهل بن هشام ان يلتمس في القتلى وقال اللهم لا يعجزنك قال فلما سمعتها جعلته من سابق فصمدت نحوه فضربته ضربة اطنت قدمه بنصف ساقه قال وضربنى ابنه عكرمة على عاتقى فطرح يدى فتعلقت بجلدة من جنبى واجهضنى القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومى هذا وانى لاصحبها خلفي فلما آذتني وضعت قدمى ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها قال ابن إسحاق وعاش بعد ذلك إلى زمن عثمان قال القاضي زاد ابن وهب في روايته فجاء معاذ يحمل يده فبصق عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فلصقت كذا نقل عن القاضي في العيون وفي الشفاء قطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وألصقها فلصقت رواه ابن وهب قال إسحاق ثم مر بابى جهل وهو عفير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل ثم مر عبد اللّه بن مسعود بابى جهل قال ابن
(1/2620)
مسعود وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلى على عنقه ثم قلت هل أخزاك اللّه يا عدو اللّه قال وبماذا أخزاني هل اعمد « 1 » من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدابرة « 2 » قلت اللّه ولرسوله
_________
(1) يعنى زاد على رجل قتله توته وهل كان الا هذا يعنى انه ليس لعاد 12
(2) أى الدّالة والظفر والنصر 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 44
(1/2621)
و روى عن ابن مسعود انه قال قال لى أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقا صعبا ثم اخررت راسه ثم جئت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه هذا راس عدو اللّه أبى جهل فقال اللّه الذي لا اله غيره قلت ونعم والذي لا اله غيره ثم ألقيت بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فحمد اللّه وفي رواية خر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ساجدا وفي روايته صلى ركعتين وروى ابن عابد عن قتادة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال ان لكل أمة فرعون وفرعون هذه الامة أبو جهل قاتله اللّه قتله ابنا عفراء وقتله الملائكة وتدافه ابن مسعود يعنى اجهز عليه واسرع قتله وقال عكرمة قال المشركون واللّه ما نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فانزل اللّه تعالى ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح أى ان تستقضوا فقد جاءكم القضا وقال السدى والكلبي كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم الضر على الجندين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت فعلى هذه الروايات الخطاب لكفار مكة وقال أبى بن كعب هذا خطاب لاصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال اللّه تعالى للمسلمين ان تستفتحوا أى ان تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر والظفر روى البغوي بسنده عن قيس بن حباب قال شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا الا تدعوا اللّه لنا الا تستنصر لنا فجلس محمارا لونه أو وجهه فقال لنا لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق راسه ثم يجعل بفرقتين ما يصرفه عن دينه ويمشط بامشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ما يصرفه عن دينه وليتمن اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعا إلى حضرموت لا يخشى الا اللّه ولكنكم تعجلون وَإِنْ تَنْتَهُوا أيها الكفار عن الكفر باللّه والقتال مع نبيه
(1/2622)
صلى اللّه عليه وسلّم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فان فيه صلاح الدارين لكم وَإِنْ تَعُودُوا لحربه ومعاداته نَعُدْ بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر وَلَنْ تُغْنِيَ أى لن يدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أى جماعتكم شيئا من الإغناء أو شيئا من المضارّ وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 45
قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة وحينئذ عطف على محذوف يعنى لن تغنى عنكم فئتكم شيئا لاجل شوم كفركم ولان اللّه مع المؤمنين وقيل هو عطف على قوله ذلكم وان اللّه موهن كيد الكافرين وان اللّه مع المؤمنين وقرأ الباقون بالكسر على الاستيناف والعطف على لن تغنى وإن كان قوله تعالى ان تستفتحوا خطابا للمسلمين فالمعنى ان تستنصروا فقد جاءكم الفتح النصر وان تنتهو عن التكاسل في القتال والمجادلة في الحق والرغبة عما يستاثره الرسول فهو خير لكم وان تعودوا بعد بالإنكار وتهيج العدو ولن تغنى حينئذ كثرتكم إذا لم يكن اللّه معكم بالنصر فان اللّه مع المؤمنين الكاملين ويناسبه قوله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أى لا تعرضوا عن الرسول يعنى عن اطاعنه افراد الضمير لان المراد من الآية الأمر باطاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلّم والنهى عن الاعراض عنه وذكر اللّه تعالى للتوطية والتنبيه على ان طاعة اللّه تعالى في طاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلّم وقيل الضمير للجهاد أو للامر الذي يدل عليه الطاعة وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) القرآن والمواعظ وتصدقونه.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا يعنى المنافقين الذين ادعوا السماع والتصديق وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) سماع اتعاظ وقبول.
(1/2623)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أى شر ما يدب على الأرض أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ عن الحق لا يسمعه سماع قبول فلا ينطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) الحق عدهم من البهائم وجعلهم شرها لابطالهم ما امتازوا به من البهائم وفضلوا لاجله قال ابن عباس هم نفر من بنى الدار بن قصى كانوا يقولون نحن صم بكم عمى عما جاء به محمد فقتلوا جميعا بأحد وكانوا اصحاب اللواء ولم يسلم منهم الا رجلان مصطب بن عمير وسويط بن حرملة.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً يعنى استعداد قبول الحق وكانوا من أهل السعادة من مربيات اسم اللّه الهادي لَأَسْمَعَهُمْ سماع قبول وتفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سماع انتفاع وقفهم وقد علم ان لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا بعد الايمان والتصديق والانتفاع وارتدوا لما سبق عليهم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 46
الكتاب وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) بعد ظهور الحق عنادا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل أهل النار فيدخلها الحديث متفق عليه عن ابن مسعود قال البغوي وقيل انهم كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلّم احى لنا قصيا فانه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك فقال اللّه تعالى ولو أسمعهم كلام قصى لتولوا وهم معرضون.
(1/2624)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ يعنى أجيبوا هما بالطاعة إِذا دَعاكُمْ الرسول أفرد الضمير لما ذكرنا ولان دعوة اللّه يسمع من الرسول لِما يُحْيِيكُمْ قال السدى أى الايمان لان الكافر ميت وقال قتادة هو القرآن فيه الحيوة وبه النجاة والعصمة في الدارين وقال مجاهد الحق وقال ابن إسحاق هو الجهاد حيث أعزكم اللّه به بعد الذل وقال القتيبي هو الشهادة قال اللّه تعالى بل احياء عند ربهم يرزقون فرحين قلت والاولى ان يقال هو كل ما دعى له الرسول صلى اللّه عليه وسلّم والتقيد ليس للاحتراز بل للمدح والتحريض فان طاعة الرسول في كل امر يحى القلب وعصيانه يميته والمراد بحياة القلب طرد الغفلة عنه بخرق الحجب ودفع الظلمة روى الترمذي والنسائي من حديث أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلّم مر على أبى بن كعب وهو يصلى فدعاه فعجل أبى في صلوته ثم جاء فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ما منعك ان تجيبنى إذا دعوتك قال كنت في الصلاة قال أ ليس اللّه تعالى يقول يايّها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم فقال لا جرم يا رسول اللّه لا تدعونى الا أجبتك وان كنت مصليا وهذا الحديث يؤيد ما قلت بوجوب الاجابة لكل ما دعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم.
(مسئلة) قيل اجابة الرسول لا يقطع الصلاة وقيل دعائه إن كان لامر لا يحتمل التأخير فللمصلى ان يقطع الصلاة لاجله والظاهر هو المعنى الأول والا فقطع الصلاة يجوز لكل امر دينى مهم يفوت بالتأخير كالاعمى يقع في البير وهو يصلى لو لم يقطعها ولم يرشده واللّه اعلم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أى يميته
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 47
(1/2625)
فيفوته الفرصة التي هو واجدها لطاعة اللّه تعالى فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم للّه وسارعوا إلى الخيرات أو المعنى ان اللّه يحول بين الإنسان وبين ما يتمناه قلبه من طول الحيوة فيفسخ عزائمه فلا تسوقوا في امور الدين وقيل هو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى نحن اقرب إليه من حبل الوريد وتنبيه على انه مطلع على مكنونات القلب ما عسى ان يغفل عنه صاحبه فعليكم بالإخلاص وقيل هو تصوير وتخيل لتملكه على قلب العبد فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده يحول بينه وبين الكفر والعصيان ان أراد سعادته وبينه وبين الايمان والطاعة ان أراد شقاوته فلابد من دوام التضرع والالتجاء إليه وخوف الخاتمة عن انس بن مالك قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يكثر ان يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك قالوا يا رسول اللّه أمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال القلوب بين إصبعين من أصابع اللّه بقلبها كيف يشاء رواه الترمذي وابن ماجة وعن ابن عمر مرفوعا ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم وعن عمر بن الخطاب انه سمع غلاما يدعوا اللهم انك تحول بين المرأ وقلبه فحل بينى وبين الخطايا فلا اعمل بسوء منها فقال رحمك اللّه ودعا له بخير وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) فيجازيكم بأعمالكم.
(1/2626)
وَ اتَّقُوا فِتْنَةً أى معصية لا تُصِيبَنَّ الضمير راجع إلى فتنة بتقدير حذف المضاف أى لا يصيبن وبالها الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لا تصيبن صيغة نهى موكد بالنون صفة لفتنة على ارادة القول يعنى اتقوا فتنة يقال فيها لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل تعم الظالم وغيره أو صيغة نفي دخلها النون لتضمنها معنى النهى فمعنى الآية الأمر بالاتقاء عن فتنة موصوفة بعموم وبالها من ارتكبها ومن لم يرتكبها واختلفوا في ذلك الفتنة ما هى فقال قوم هى ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قال ابن عباس امر اللّه المؤمنين ان لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعهم اللّه بعذاب يصيب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 48
(1/2627)
الظالم وغير الظالم واستدلوا على ذلك بحديث أبى بكر الصديق قال يا أيها الناس انكم تقرءون هذه الآية يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يقول ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك ان يعمهم اللّه بعقاب من عنده رواه اصحاب السنن الاربعة وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان وحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل ان تدعوا اللّه فلا يستجيب لكم وقبل ان تستغفروه فلا يغفر لكم ان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يدفع رزقا ولا يقرب أجلا وان الأحبار من اليهود والنصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لعنهم اللّه على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء رواه الاصبهانى وله شاهد من حديث ابن مسعود وحديث عائشه وعن عدى بن عدى الكندي قال حدثنا مولى لنا انه سمع جدى يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يقول ان اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على ان ينكروه فلم ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه العامة والخاصة رواه البغوي في شرح السنة والمعالم وعن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم مثل المدهن في حدود اللّه والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصاروا بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتاذوا به فاخذ فاسا فجعل ينقر أسفل السفينة فاتوه فقالوا مالك قال تاذيتم بي ولا بد لى من الماء فان أخذوا على يديه انجوه وانجوا بانفسهم وان تركوه اهلكوه واهلكوا أنفسهم رواه البخاري قلت والاستدلال بهذه الأحاديث لا يصح فان مقتضى الأحاديث ان معصية أحد لا يعذب بها غيره الا إذا عمل بها بين اظهر الناس وهم قادرون على الإنكار فلم ينكروا فحينئذ يعم
(1/2628)
عذاب تلك المعصية فاعلها ومن لم يفعلها بل ترك النهى عنها ولا شك ان النهى عن المنكر فريضة تاركها ظالم فشموله عذاب المعصية إصابة عذاب الظالم وليس ذلك العذاب شاملا للظالم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 49
و غيره الم تسمع قصة القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت يعنى طائفة منهم وطائفة كانت ناهية عن المنكر وطائفة لم يأتوا بالمنكر لكنهم تركوا النهى عنه فقال اللّه تعالى فانجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب فهذا صريح في ان وبال ترك النهى لم ينل غير الظالم وهذه الآية تدل على فتنة ينال وباله الظالم وغيره وقال قوم هى البغي والفساد في الأرض فانه ينال وباله في الدنيا رجال معصومون يعنى يقتل الناس وينهب عن قتادة في الآية قال علم واللّه ذوو الألباب من اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلّم حين نزلت هذه الآية انه ستكون فتن ومن هاهنا قال ابن زيد أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا وقال الحسن نزلت الآية في على وعمار وطلحة والزبير عن مطرف قال قلنا للزبير يا أبا عبد اللّه قد ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه قال الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها يعنى ما كان منه يوم الجمل من البغي على على رضى اللّه عنه وكذا قال السدى والضحاك وقتادة قلت وعندى ان المراد بالفتنة المذكورة ترك الجهاد خصوصا عند النفير العام إذا دعاهم الامام إليه والتولي يوم الزحف بقرينة سياق القصة قال اللّه تعالى وان فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق و
(1/2629)
قال اللّه تعالى يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار وقال عز من قائل يا أيها الذين أمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم والمراد من إصابة الوبال للظالم وغيره وصول المكروه لجميعهم الا ترى ان ترك القتال يوجب غلبة الكفار وقتل المسلمين ونهب أموالهم من الصغار والكبار والنساء والقرار من الزحف يوجب قتل المجاهدين الصابرين الا ترى ان المسلمين إذا استزلهم الشيطان يوم أحد نال وباله سائر المسلمين حتى نال بعض المكروه للنبى المعصوم شج وجهه وكسر رباعيته واللّه اعلم وجاز ان يكون قوله تعالى لا تصيبن نهيا بعد امر باتقاء الذنب والمعنى اتقوا كل فتنة ولا يرتكبن أحد منكم فتنة ما فان وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه وفائدته ان الظالم منكم أقبح منه من غيركم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 50
(1/2630)
و هذا معنى ما قال البغوي ليس بجزاء محض ولو كان جزاء لم يدخل فيه النون لكنه نهى وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده تقديره واتقوا فتنة ان لم تتقوها أصابتكم خاصة فلا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ومثله ادخلوا مساكنكم ان لم تدخلوها يحطمنكم سليمان وجنوده واللّه اعلم وليس قوله تعالى لا تصيبن جوابا للامر لان المعنى حينئذ اتقوا فتنة ان تتقوها لا يصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وليس المعنى ان تتقوها لا يصيبنكم إذ نفي المقيد يرجع إلى القيد فالمعنى بل يعمكم وغيركم وفساده ظاهر قال البيضاوي جواب للامر على معنى ان أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة قلت لا بد في جواب الأمر من تقدير شرط ماخوذ من الأمر كما في قول القائل اسلم تدخل الجنة يعنى ان تسلم تدخل الجنة وقوله تعالى ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم يعنى ان تدخلوا لا يحطمنكم فتقدير ان أصابتكم لا يتصور إن كان جوابا للامر بل يكون الشرطية صفة لفتنة ويؤل التأويل إلى ما ذكرنا أو لا وأيضا لا يجوز ان يكون قوله تعالى لا تصيبن الذين ظلموا جواب قسم محذوف ويكون تقدير الكلام اتقوا فتنة واللّه لا يصيبن الفتنة الذين ظلموا منكم خاصة بل يعمكم لان الفتنة المامورة بالاتقاء عنها على هذا فتنة منكرة والنكرة إذا أضمرت في قوله تعالى لا تصيبن صارت عامة فيلزم عموم وبال كل معصية الظالم وغيره وفساده ظاهر لأنه خلاف الإجماع وخلاف منطوق قوله تعالى لا تزر وازرة وزر اخرى اللهم الا ان يقال المراد بالفتنة ما ذكرنا من ترك الجهاد والفرار من الزحف بقرينة السياق والمراد باصابتها إصابة وبالها في الدنيا واللّه اعلم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) فاحذروا عقابه بالاتقاء من الفتنة.
(1/2631)
وَ اذْكُرُوا أيها المهاجرون إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ارض مكة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يعنى كفار قريش وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قيل يا رسول اللّه من الناس قال أهل فارس فَآواكُمْ المدينة وَأَيَّدَكُمْ يوم بدر بِنَصْرِهِ على الكفار وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 51
(1/2632)
من المغانم أحلها لكم ولم يحلها لاحد قبلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) وقيل الخطاب للعرب كافة فانهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم كانوا جميعا معادين لهم متضادين فجعل لهم اللّه ماوى يتحصنون به عن أعدائهم يعنى جوار نبيه صلى اللّه عليه وسلّم وأيدهم بنصره على جميع أهل الملل واللّه اعلم روى سعيد بن منصور وغيره عن عبد اللّه بن أبى قتادة وذكره البغوي ان النبي صلى اللّه عليه وسلّم حاصر بنى قريظة احدى وعشرين ليلة فسالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بنى النضير على ان يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من ارض الشام فابى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان يعطيهم ذلك الا ان ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فابوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لان ماله وعياله وولده كانت فيهم فبعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فاتاهم فقالوا يا أبا لبابة ما ترى انزل على حكم سعد بن معاذ فاشار أبو لبابته إلى حلقه انه الذبح فلا تفعلوا وذكر في سبيل الرشاد انه أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أبا لبابته فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرّق لهم فقال كعب ابن اسد يا أبا لبابته انا قد اخترناك على غيرك ان محمدا أبى الا ان ننزل على حكمه يعنى حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم افترى ان ننزل على حكمه قال نعم وأشار بيده إلى حلقه انه الذبح قال أبو لبابته واللّه ما زالت قدماى مكانهما حتى عرفت انى قد خنت اللّه ورسوله فندمت فاسترجعت وان لحيتى لمبنلة من الدموع والناس ينتظرون رجوعه إليهم حتى أخذت من وراء الحصن طريقا اخرى حتى جئت إلى المسجد ولم ات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فارتبطت إلى اسطوانة المخلفة التي يقال لها اسطوانة التوبة وقلت لا أبرح من مكانى حتى أموت أو يتوب اللّه علىّ قال
(1/2633)
البغوي قال واللّه لا انحل ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه عليّ فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم خبره قال اما لو جاءنى لاستغفرت له فاما إذا فعل ما فعل فانى لا أطلقه حتى يتوب اللّه عليه فمكث سبعة ايام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 52
عليه كذا قال البغوي وفي سبيل الرشاد قال ابن هشام اقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته كل صلوة فتحله حتى يتوضأ ويصلى ثم يرتبط وقال ابن عقبة زعموا انه ارتبط قريبا من عشرين ليلة وقال في البدايته وهذا أشبه الأقاويل وقال ابن إسحاق خمسا وعشرين ليلة وروى ابن وهب عن مالك عن عبد اللّه بن أبى بكر انه ارتبط بسلسلة ربوض بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع وكاد يذهب بصره وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد ان يذهب لحاجته فإذا فرغ أعادت الرباط والظاهر ان زوجته كانت تباشر حله مرة وابنته مرة وانزل اللّه تعالى في توبته وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى اللّه ان يتوب عليهم ان اللّه غفور رحيم قال ابن إسحاق حدثنى يزيد بن عبد اللّه بن قسيط ان توبة أبى لبابة نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم من السحر وهو يضحك قالت فقلت يا رسول اللّه مم تضحك اضحك اللّه منك قال تيب على أبى لبابته قالت قلت أ فلا أبشره يا رسول اللّه قال بلى ان شئت فقامت على باب حجرتها وذلك قبل ان يضرب عليهن الحجاب فقالت يا أبا لبابة ابشر فقد تاب اللّه عليك قالت فثار الناس ليطلقوه فقال لا واللّه حتى يكون رسول اللّه هو الذي يطلقنى بيده فلما مر عليه خارجا إلى صلوة الصبح أطلقه قال السهيلي وروى حماد
(1/2634)
بن سلمة عن على بن زيد بن جدعان عن على بن الحسين رضى اللّه عنهما ان فاطمة رضى عنها جاءت تحله فقال انى حلفت ان لا يحلنى الا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان فاطمة بضعة منى وعلى بن زيد بن جدعان ضعيف ورواية على بن الحسين مرسلة ثم قال أبو لبابة من تمام توبتى ان اهجر دار قومى التي أصبت فيها الذنب وان انخلع من مالى كلها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلّم يجزيك الثلث ان تصدقت به فنزل في أبى لبابة قوله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ واصل الخون النقص كما ان اصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الامانة لتضمنه إياه وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو والظاهر
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 53
(1/2635)
هو الأول لان في الثاني يشترط معنى الجمعية وكل واحد من الخيانتين محرمة برأسها لا الجمع بينهما كما في لا تأكل السمك وتشرب اللبن وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) انها أمانته أو أنتم تعلمون ان ما فعلتم من الاشارة إلى الحلق خيانته وأنتم علماء تتميزون الحسن من القبح قال السدى إذا خانوا اللّه والرسول فقد خانوا أماناتهم قال ابن عباس لا تخونوا للّه بترك فرايضة والرسول بترك سنته وأماناتكم هى ما يخفى عن أعين الناس من فرايض اللّه تعالى والأعمال التي ائتمن اللّه عليها عبادة وقال قتادة اعلموا ان دين اللّه امانة فادوا إلى اللّه ما ائتمنكم عليه من فرايضه وحدوده ومن كانت عليه امانة فليود إلى من ائتمن عليها قلت حاصل قول ابن عباس وقتادة ان سبب نزول هذه الآية وإن كان ما فعل أبو لبابة لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد فيحرم الخيانة في دين اللّه من فرايضه وحدوده كلها ومنها ما فعل أبو لبابة واللّه اعلم فان قيل المستشار مؤتمن حديث صحيح رواه احمد من حديث أبى هريرة مرفوعا والترمذي عن أم سلمة وابن ماجة عن ابن مسعود وقد استشار اليهود من أبى لبابة فلو لم يفعل أبو لبابة ما فعل لزمه الخيانة في المشورة فكيف كان له التفصى قلت كان له التفصى بالسكوت وبان يقول لست أشير لكم قد بدا بينى وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تومنوا باللّه ورسوله واللّه اعلم واخرج ابن جرير عن السدى قال كانوا يسمعون من النبي صلى اللّه عليه وسلّم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنزلت فيه وروى ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد اللّه ان أبا سفيان خرج من مكة فاتى جبرئيل النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقال ان أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ان أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان ان محمدا يريدكم فخذوا حذركم فانزل اللّه هذه الآية وهذا غريب
(1/2636)
جدا في سنده وسياقه نظر.
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
اصل الفتن إدخال الذهب النار ليظهر جودته ومنه استعمل في الاختبار والامتحان قال اللّه تعالى نبلوكم بالشر والخير فتنة ويستعمل أيضا في العذاب قال اللّه تعالى يومهم على النار يفتنون ويستعمل أيضا في
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 54
الكفر والمعصية والفساد وكل ما يفضى إلى العذاب قال اللّه تعالى واتقوا فتنة وقال الا في الفتنة سقطوا والفتنة أشد من الكفر وتسمية الأموال والأولاد بالفتنة لانها سبب الوقوع في الإثم والعقاب أو لانها امتحان من اللّه تعالى فلا يحملنكم حبهم على الخيانة قيل هذا أيضا نزلت في أبى لبابة لان أمواله وأولاده كانت في بنى قريظة فقال ما قال خوفا عليهم عن عايشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلّم اتى بصبى فقبله فقال اما انهم مبخلة مجبنة « 1 » وانهم لمن ريحان اللّه رواه البغوي وروى أبو يعلى عن أبى سعيد الولد ثمر القلب وانه مجبنة مبخلة محزنة وروى الحكيم عن خولة بنت حكيم الولد من ريحان الجنة وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
لمن نصح لله ورسوله وادى أمانته ورعى حدوده وآثر رضاء اللّه تعالى على حبهم.
(1/2637)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بطاعته وترك معصيته يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أى بصيرة في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل وهو المعنى بقوله صلى اللّه عليه وسلّم اتقوا فراسته المؤمن فانه ينظر بنور اللّه رواه البخاري في التاريخ والترمذي عن أبى سعيد والطبراني وابن عدى عن أبى امامة وابن جرير عن ابن عمرو قوله صلى اللّه عليه وسلّم استفت نفسك وان أفتاك المفتون رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن قلت هذا بعد فناء القلب وتزكية النفس عن الرذائل وحينئذ يتحقق حقيقة التقوى ويسمى هذا في اصطلاح الصوفية بالكشف والمراد بالفرقان نصرا يفرق بين المحقق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين وقال مجاهد يجعل له مخرجا في الدنيا والاخرة عما يحذرون وقال مقاتل بن حيان مخرجا في الدين من الشبهات وهذا يناسب الأول وقال عكرمة نجاة يفرق بينكم وبين ما تخافون وقال الضحاك ثباتا وقال ابن إسحاق فصلا بين الحق والباطل يظهر اللّه به حقكم ويطفى بطلان من خالفكم والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أى يمحو عنكم ويستر لكم ما سلف من ذنوبكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ نعمائه روى
_________
(1) أى سبب للجبن والبخل لا يتصدى الرجل لاجل حبهم على الجهاد وعلى انفاق المال والولد محزن سبب للحزن 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 55
(1/2638)
البزار عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم يخرج لابن آدم ثلثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من اللّه فيقول اللّه لاصغر نعمه في ديوان النعم خذى منك من عمله الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح كله فإذا أراد اللّه ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سياتك ووهبت لك نعمتى واخرج الطبراني عن واصلة بن الأسقع يبعث اللّه يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول اللّه تبارك وتعالى إلى الامرين أحب إليك ان اجزى بعملك أو بنعمتي عليك قال يا رب أنت اعلم انى لم اعصك قال خذوا عبدى بنعمة من نعمى فما تبقى له حسنة الا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك ورحمتك ومن هاهنا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم انه لا ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يستغمدنى اللّه برحمة منه وفضل متفق عليه من حديث أبى هريرة وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى اللّه برحمته واليه أشار اللّه سبحانه بقوله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) يعنى ما وعدتكم على التقوى ليس مما يوجب ذلك علينا تقويكم بل انما هو تفضل واحسان كالسيد إذا وعد انعاما لعبده على عمل واجب عليه وان لم ينعم السيد ذلك وقيل معنى يكفر عنكم سيئاتكم يعنى الصغائر ويغفر لكم يعنى ذنوبكم الكبائر.
(1/2639)
وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قوله إذا أنتم قليل يعنى اذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا وإذ قالوا اللهم فان هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول كان بمكة روى ابن إسحاق وعبد الرزاق واحمد وابن جرير وأبو نعيم وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة ان قريشا لما أسلمت الأنصار رأت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحابا من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه المهاجرين إليهم عرفوا انهم نزلوا دارا وأصابوا جوارا ومنعة فحذروا خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 56
(1/2640)
إليهم وعرفوا انه قد اجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة وهى دار قصى بن كلاب التي كانت قريش لا تقضى امرا لا يتشاورن فيها فاجتمعوا لذلك واتعدوا وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى ان لا تعدموا منه رايا ولا نصحا قالوا أجل ادخل فدخل معهم واجتمع فيها اشراف قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وطعيمة بن عدى والنضر ابن الحارث بن كلدة وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام ونبيه ومنبه ابنا حجاج وامية بن خلف وأبو سفيان بن حرب وجبير بن معطم وحكيم ابن حزام واسلم الثلاثة الاخيرة بعد ذلك وغيرهم من كان منهم ومن غيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض ان هذا الرجل قد كان من امره ما قد رأيتم وانا واللّه ما ناء منه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا فاجمعوا فيه رأيا فتشاوروا فقال قائل منهم نقل السهيلي عن عبد السلام انه أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي لعنه اللّه واللّه ما هذا لكم برأى واللّه لئن حبستموه في بيت ليخرجن امره من وراء الباب الذي اغلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك ان يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من ايديكم قالوا صدق الشيخ فقال قائل منهم ذكر السهيلي انه أبو الأسود ربيعه بن عمر أخو بنى عامر بن لوى نخرجه من بين أظهرنا فلا يضرنا ما صنع واين وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فاصلحنا أمرنا وألفتنا فقال الشيخ النجدي لعنه اللّه ما هذلكم برأى الم تروا إلى حسن حديثه وحلاوة منطقة وغلبة قلوب الرجال بما يأتي به واللّه لئن فعلتم ذلك فيذهب
(1/2641)
فيستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم حتى يطاكم به فياخذ أمركم من ايديكم ثم يفعل بكم ما أراد فأروا فيه رايا غير هذا فقال أبو جهل واللّه ان لى فيه رايا ما أراكم وقفتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 57
الحكم قال ارى ان ناخذ من كل قبيلة شابا جلدا حسيبا وسطا ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا عليه بأجمعهم فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا به بالعقل فعقلناه لهم فقال الشيخ النجدي القول ما قال هذا الرجل هذا الرأي لا راى غيره وقال شعر
الرأي رايان راى ليس يعرفه هاد وراى كنصل السيف معروف
يكون اوله عزو مكرمة يوما وآخره حمد وتشريف
(1/2642)
فتفرق القوم على ذلك وهم مجتمعون له فانى جبرئيل عليه السلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي تبيت عليه وأخبره بمكر القوم واذن اللّه تعالى في الخروج فلما كانت العتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيبيتون عليه فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم مكانهم قال لعلي رضى اللّه عنه نم على فراشي وتسبح بردائي الأخضر الحضرمي فنم فيه فانه لن يخلص إليك منهم امر تكرهه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ينام في برده ذاك إذا نام فلما اجتمعوا قال أبو جهل ان محمدا يزعم انكم ان تابعتموه على امره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن « 1 » وان أنتم لم تفعلوا كان له فيكم ذبيح ثم بعثتم بعد موتكم فجعل لكم النار تحرقون فيها فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ومعه حفنة « 2 » من تراب ثم قال نعم انا أقول ذلك وأنت أحدهم وأخذ اللّه تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل يذرى التراب على رؤسهم وهو يتلوا هذه الآيات يس والقرآن الحكيم إلى قوله فهم لا يبصرون ولم يبق منهم رجل الا وقد وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم على رأسه ترابا وانصرف إلى حيث أراد ان يذهب فاتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنظرون هاهنا قالوا محمدا قال خيبكم اللّه عز وجل قد واللّه خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا الا وقد وضع على راسه ترابا وانطلق لحاجته فما
_________
(1) الأردن موضع معروف من ارض الشام قريب بيت المقدس 12
(2) الحفنة الكف 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 58
(1/2643)
ترون ما بكم ووضع كل رجل منهم يده على راسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا رضى اللّه عنه على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم متسبحا برداء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فيقولون واللّه ان هذا محمدا نائم عليه برده فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علىّ عن فراشه فقالوا واللّه لقد صدقنا الذي كان حدثنا وذهب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى غار ثور وسيجى باقى قصة خروجه صلى اللّه عليه وسلّم في سورة التوبة إنشاء اللّه تعالى روى الحاكم عن ابن عباس قال شرى عليّ نفسه ولبس ثوب النبي صلى اللّه عليه وسلّم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى اللّه عليه وسلّم وجعل عليّ يتضور « 1 » فإذا هو عليّ فقالوا انك لليئم انك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه فيك وروى الحاكم عن على بن الحسين قال ان أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان اللّه علىّ وقال في ذلك شعر
وقيت بنفسي خير من وطى الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول اله أخاف ان يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر
و بات رسول اللّه في الغار آمنا موقى وفي حفظ الإله وفي ستر
و بت أراعيهم وما يتهمونه وقد وطنت نفسى على القتل والاسر
(1/2644)
قال ابن إسحاق وكان مما نزل في ذلك اليوم وما اجتمعوا له قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أى يحبسوك ويوثقوك كما قال به أبو الحقيق أَوْ يَقْتُلُوكَ كما قال به أبو جهل وارتضى به إبليس لعنهما اللّه سبحانه أَوْ يُخْرِجُوكَ كما قال به أخو بنى عامر وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ط المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان مكر محمود وهو ان يتحرى بذلك فعل جميل ومذموم وهو ان يتحرى به فعل قبيح لكن اسناده إلى اللّه تعالى انما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتدا علما فيه من إيهام الذم والمعنى انهم احتالوا لابطال امر محمد واطفاء نور اللّه واللّه تعالى احتال لاتمام امره ونوره وإهلاك أعدائه وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (3) فان فعله تعالى
_________
(1) أى ينقلب ظهر البطن 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 59
(1/2645)
خير كله وحسن جميل وقيل معنى مكر اللّه انه يرد مكرهم وقيل معناه يجازيهم على المكر وقال بعضهم من مكر اللّه امهال العبد وتمكينه من اعراض الدنيا ولذلك قال أمير المؤمنين من وسع عليه دنياه ولم يعلم انه مكر فهو مخدوع عن عقله واخرج ابن جرير من طريق عبيد ابن عمير عن المطلب بن وداعة ان أبا طالب قال للنبى صلى اللّه عليه وسلّم ما يأتمر بك قومك قال يريدون ان يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى قال من حدثك بهذا قال ربى قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا قال انا استوصى به بل هو يستوصى بي فنزلت وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية قال ابن كثير ذكر أبى طالب فيه غريب بل منكر لان القصة ليلة الهجرة وذلك بعد موت أبى طالب بثلث سنين أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال قتل النبي صلى اللّه عليه وسلّم يوم بدر صبرا عقبة بن أبى معيط وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث وكان المقداد اسر النضر فلما امر بقتله قال المقداد يا رسول اللّه اسيرى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم انه كان يقول في كتاب اللّه ما يقول قال وفيه أنزلت.
(1/2646)
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا يعنى النضر بن الحارث واسناد الفعل إلى جميعهم لكونهم راضيا بقوله كما أسند عقر الناقة إلى ثمود في قوله تعالى فعقروها وكان العاقر أشقاها قذار بن هالف قَدْ سَمِعْنا يعنى القرآن لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وهذا غاية مكابرنهم وفرط عنادهم إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم ان يشاؤا وقد تحديهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم فلم يعارضوه سورة مع ألفتهم وفرط استنكافهم ان يغلبوا خصوصا في باب البيان يعنى إِنْ هذا يعنى القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) يعنى ما سطره وكتبه الأولون من اخبار الأمم الماضية جمع اسطورة وهى المكتوبة قال البغوي كان النضر بن الحارث تاجرا إلى فارس وحيرة فيسمع اخبار رستم وإسفنديار وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرؤن التورية والإنجيل ويركعون ويسجدون فجاء مكة فوجد محمد صلى اللّه عليه وسلّم يصلى ويقرأ القرآن فقال النضر قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا الآية.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا يعنى القرآن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 60
(1/2647)
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كما فعلت باصحاب الفيل وقوم لوط أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) مولم على إنكاره قالوا ذلك استهزاء وإيهاما بانهم على بصيرة وجزم ببطلانه أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير انها نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل بذلك قال البغوي قال ابن عباس لما قص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم شان القرون الماضية قال النضر لو شئت قلت مثل هذا ان هذا الا أساطير الأولين في كتبهم قال له عثمان بن مظعون اتق اللّه فان محمدا يقول الحق قال فانا أقول الحق قال عثمان فان محمدا يقول لا اله الا اللّه قال فانا أقول لا اله الا اللّه ولكن هذه بنات اللّه يعنى الأصنام ثم قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ وفيه نزل سأل سائل بعذاب واقع ومعناه إن كان القرآن حقا منزلا فامطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره أو ائتنا بعذاب اليم سواه والمراد منه التهكم واظهار اليقين على كونه باطلا قال عطاء لقد نزل في النضر بضعة عشر اية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قوله تعالى.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد ابن إسحاق هذا حكاية عن المشركين انهم قالوها وهى متصلة بالآية الاولى ذلك انهم كانوا يقولون ان اللّه لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمته نبيها معها فقال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلّم يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم ثم قال ردوا عليهم.
(1/2648)
وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وان كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وقال الآخرون هذا كلام مستانف روى البخاري عن انس قال قال أبو جهل بن هشام اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فنزلت وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم اخبارا عن نفسه فاختلفوا في تأويلها فقال الضحاك وجماعة وكذا أخرج ابن جرير عن ابن الزي تأويلها وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم بيان لموجب إمهالهم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 61
(1/2649)
و التوقف لاجابته دعائهم واللام لتاكيد النفي والدلالة على ان تعذيبهم عذاب استيصال والنبي بين أظهرهم خارج عن عادة اللّه تعالى غير مستقيم في قضائه خصوصا حال كونك فيهم وقد بعثت رحمة للعلمين وفيه اشعار بانهم يرصدون بالعذاب إذا هاجرت من بينهم قالوا نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وسلّم وهو مقيم بمكة ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقيته من المسلمين يستغفرون اللّه فانزل اللّه وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون يعنى فيهم من يستغفرون وهم المسلمون ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا واذن اللّه في فتح مكة وهو العذاب الأليم الذي وعدهم ويدل على ان كون المؤمنين بينهم واستغفارهم منعهم من العذاب قوله تعالى ولو لا رجال مؤمنون ونساء مومنات لم تعلموهم إلى قوله لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما قال ابن عباس لم يعذب اللّه قرية حتى يخرج النبي منها والذين أمنوا ويلحق بحيث يوم فقال وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون يعنى المسلمين فلما خرجوا قال اللّه تعالى ما لهم ان لا يعذبهم اللّه أى ما لهم مما يمنع تعذيبهم إذا زال ذلك وكيف لا يعذبون وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام وحالهم ذلك ومن صدهم الجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى الهجرة فعذبهم اللّه يوم بدر قال أبو موسى الأشعري كان فيكم أمانان وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون فاما النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة واخرج الترمذي وضعفه عن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم انزل اللّه علىّ امانين لامتى وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة وقال بعضهم هذا الاستغفار راجع إلى المشركين أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس
(1/2650)
قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون غفرانك غفرانك فانزل اللّه تعالى وما كان اللّه ليعذبهم الآية واخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرم اللّه من بيننا اللهم ان كان هذا هو الحق
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 62
من عندك فامطر علينا حجارة من السماء فلما امسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال اللّه سبحانه وما كان اللّه ليعذبهم وهم يستغفرون إلى قوله لا يعلمون وقال قتادة والسدى معنى ما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون ان لو استغفروا لم يعذبهم اللّه لكنهم لم يستغفروا ولو أقروا بالذنب واستغفروا لكانوا مؤمنين نظيره قوله تعالى ما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون وقيل معنى الآية ان اللّه تعالى يدعوهم إلى الإسلام ومصاحبة الرسول والاستغفار بهذا الكلام كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعنى أى أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد وعكرمة وهم يستغفرون أى يسلمون يقول لو اسلموا ما عذبوا وروى الوالبي عن ابن عباس ان معناه وفيهم من سبق له من اللّه انه يومن ويستغفر وذلك مثل أبى سفيان بن حرب وصفوان ابن امية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو حكيم بن حزام وغيرهم وروى عبد الوهاب عن مجاهد وهم يستغفرون يعنى وفي أصلابهم من يستغفر وقيل أراد بالعذاب في قوله تعالى وما كان اللّه ليعذبهم عذاب استيصال وفي قوله تعالى وما لهم ان لا يعذبهم اللّه العذاب بالسيف وقيل أراد بنفي العذاب عذاب استيصال في الدنيا وبوقوع العذاب عذاب الاخرة وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ قال الحسن كان المشركون يقولون نحن اولياء المسجد الحرام
(1/2651)
فنصد من نشاء وندخل من نشاء فرد اللّه عليهم بقوله وما كانوا أولياءه أى اولياء البيت إِنْ أَوْلِياؤُهُ أى البيت إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك الذين لا يعبدون فيه غير اللّه وقيل الضمير للّه تعالى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) ان لا ولاية لهم عليه كأنَّه نبه بالأكثر ان منهم من يعلم ذلك ويعاند أو أراد بالأكثر الكل كما يراد بالقلة العدم « 1 » .
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أى دعائهم أو ما يسمونه صلوة إِلَّا مُكاءً قال ابن عباس والحسن المكاء الصفير
_________
(1) عن رفاعة بن رافع ان النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال لعمر رضى اللّه تعالى عنه اجمع لى قومك فجمعهم فلما حصروا باب النبي صلى اللّه عليه وسلّم دخل عمر عليه قد جمعت الان قومى فسمع ذلك الأنصار فقالو قد لزل في قريش الوحى فجاء من المتمع والناظر ما يقال لهم خرج النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقام بين أظهرهم فقال هل فيكم من غيركم قالوا نعم حليفنا وابن اختينا وموالينا قال النبي صلى اللّه عليه وسلّم حليفنا منا وابن أختنا منها وموالينا منا وأنتم تسمعون ان أوليائي الا المتقون فانكنتم أولئك فذاك والا فانظروا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة ويأتون الأثقال فيعرض عنكم 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 63
(1/2652)
و هى في اللغة اسم طاير ابيض يكون بالحجاز له صفير كأنَّه قال إلا صوت مكاء وَتَصْدِيَةً وتصفيقا قال البغوي قال ابن عباس كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون وكذا أخرج الواحدي عن ابن عمر قال البغوي قال مجاهد كان نفر من بنى عبد الدار يعارضون النبي صلى اللّه عليه وسلّم في الطواف ويستهزؤن ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون فالمكاء جعل الأصابع في الشدق والتصدية الصفير ومنه الصداء الذي يسمعه المصوت من الجبل وفي اللغة الصداء صوت يرجع من كل جانب واخرج ابن جرير عن سعيد قال كانت قريش يعارضون النبي صلى اللّه عليه وسلّم في الطواف يستهزؤن به يصفرون ويصفقون فنزلت هذه الآية وقال البغوي قال جعفر بن أبى ربيعة سالت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله تعالى مكاء وتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا وقال مقاتل كان النبي صلى اللّه عليه وسلّم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن يساره فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى اللّه عليه وسلّم صلوته وهم من بنى عبد الدار وقال سعيد بن جبير التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وعن الدين وعن الصلاة فالتصدية مشتق من الصدد بالدالين قلبت حرف التضعيف بالياء وعلى هذه الوجوه معنى قوله تعالى ما كان صلوتهم ما وضعوه موضع الصلاة فانهم أمروا بالصلوة في المسجد فجعلوا ذلك مكانه فَذُوقُوا الْعَذابَ يعنى القتل يوم بدر وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل للعهد والمعهود العذاب المطلوب بقولهم ائتنا بعذاب اليم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) اعتقاد أو عملا وهذه الآية متصلة بما قبلها لتقرير استحقاقهم العذاب وعدم ولايتهم للمسجد فانها لا يليق بمن هذ صفته.
(1/2653)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا أى ليصرفوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن دين اللّه قال البغوي قال الكلبي نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنا عشر رجلا أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبه ابنا ربيعة بن عبد الشمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وابى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 64
ابن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش وكان يطعم كلو أحد منهم كل يوم عشر جزور وقال ابن إسحاق حدثنى الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى عبد اللّه بن أبى وعكرمة ابن أبى جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش أصيب آبائهم وأبنائهم فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في ذلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فاعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ان ندرك منه ثارا ففعلوا ففيهم كما ذكر ابن عباس انزل اللّه ان الذين كفروا ينفقون أموالهم إلى قوله يحشرون واخرج ابن أبى حاتم عن الحكم بن عتبة قال نزلت في أبى سفيان أنفق على المشركين أربعين اوقية من ذهب واخرج ابن جرير عن أبزى وسعيد ابن جبير قالا نزلت في أبى سفيان استاجر يوم أحد الفين من الأحابيش « 1 » ليقاتل بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عليهم قلت واللفظ عام يشتمل كلهم ومن فعل فعلهم فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندما وغما في الدنيا لفواتها من من غير حصول مقصود جعل وانها حسرة وهى عاقبة إنفاقها مبالغة ثُمَّ يُغْلَبُونَ 5 آخر الأمر وإن كان الحرب سجاه « 2 » قبل ذلك وَالَّذِينَ كَفَرُوا أى ثبتوا على الكفر منهم إذا اسلم بعضهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) يساقون.
(1/2654)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح واللام متعلقه بيحشرون أو يغلبون أو ما أنفقه المشركون من عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلّم مما أنفقه المسلمون في نصره واللام متعلقه بقوله ثم تكون عليهم حسرة قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ليميز بالتشديد من التفعيل وهو ابلغ من الميز وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ أى يجمعه ويضم بعضه إلى بعض ومنه السحاب المركوم جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله أُولئِكَ
_________
(1) حابيش احياء من القارة انضموا إلى نبى الليث في محاربتهم فرفساء التحبش التجمع وقيل حالفوا فريشا تحت جبل يسمى حبشا 12
(2) سبحا لا أى مرة للمؤمنين ومرة للكاذبين مستعار من المستقين بالسجل يعنى الدلو 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 65
اشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين هُمُ الْخاسِرُونَ (37) الكاملون في الخسران حيث اشتروا باموالهم عذاب الآخرة.
(1/2655)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول وقتاله يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الكفر والفساد والذنوب وقد اسلم جماعة كثيرة منهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعكرمة بن أبى جهل وعمرو بن العاص وغيرهم خلق كثير واسلم من أسارى بدر عباس بن عبد المطلب وعقيل ابن أبى طالب ونوفل بن حارث وأبو العاص بن الربيع وأبو عزيز بن عمير العبدري والصائب بن أبى جيش وخالد بن هشام المخزومي وعبد اللّه بن أبى السائب والمطلب بن حنطب وأبو وداعة السهمي وعبد اللّه بن أبى خلف ووهب بن عمير الجمحي وسهيل بن عمر العامري وعبد اللّه بن زمعة أخو أم المؤمنين سودة وقيس بن السائب ولسطاس مولى امية بن خلف والسائب بن عبيد اسلم يوم بدر بعد ان فدى نفسه وعدى بن خيار اسلم يوم الفتح والوليد بن الوليد بن المغيرة افتكه هشام وخالد فلما افتدى اسلم فعاتبوه في ذلك فقال كرهت ان يظن بي انى جزعت من الاسر ولما اسلم حبسه أخواله فكان عليه السلام يدعوا له في القنوت ثم أفلت ولحق بالنبي صلى اللّه عليه وسلّم عام القضاء روى مسلم عن عمرو بن العاص قال أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقلت ابسط يمينك فلا بايعك فبسط يمينه فقبضت يدى فقال مالك يا عمرو قال أردت ان اشترط قال تشترط ما ذا قلت ان يغفر لى قال ا ما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) الذين تحادوا الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك.
(1/2656)
وَ قاتِلُوهُمْ يعنى الكفار أيها المؤمنون حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أى فساد في الأرض يعنى حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ليس المراد بالدين هاهنا ملة الإسلام وما يتعبد اللّه به والا يلزم التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى حتى يعطوا الجزية بل المراد منه القهر والغلبة والاستعلاء والسلطان والملك والحكم ذكر تلك المعاني للدين في القاموس عن المقداد بن اسود انه سمع رسول اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 66
(1/2657)
صلى اللّه عليه وسلّم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر الا ادخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل اما يعزهم اللّه فيجعلهم أهلها أو يذلهم فيدينون لها فيكون الدين كله لله رواه احمد ومعنى قوله عليه السلام فيدينون لها أى يطيعون لاحكامها ويكونون من أهل الذمة فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر واسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) فيجازيهم على حسب أعمالهم عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة فإذا فعلوا ذلك عصم منى دمائهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه تعالى متفق عليه الا ان مسلم الم يذكر الا بحق الإسلام ورواه اصحاب الكتب الستة عن أبى هريرة قال السيوطي حديث متواترا والمعنى انتهوا عن القتال اما بالإسلام أو بإعطاء الجزية فان اللّه بما يعملون بصير يعنى لا تقاتلوهم أنتم لكن اللّه يجازيهم على إسلامهم وكفرهم وأعمالهم الحسنة والسيئة وعن يعقوب انه قرأ تعملون بالتاء على الخطاب للمؤمنين يعنى اعملوا بهم ما تعاملون بالمؤمنين ولا تظلموهم فان اللّه يجازيكم على حسب أعمالكم عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم عن آبائهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال الا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فانا حجيجه يوم القيامة رواه أبو داود هذا التأويل لقراءة يعقوب يصح على كلا التقديرين سواء كان المراد بالانتهاء الانتهاء عن الكفر بالإسلام أو الانتهاء عن القتال بأحد الامرين اما بالإسلام أو بإعطائه الجزية وقال البيضاوي تاويل قراءة يعقوب ان اللّه بما تعملون أيها المؤمنون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الايمان يصير يجازيكم
(1/2658)
و يكون تعليقه بالانتهاء دلالة على انه كما يستدعى اثابتهم للمباشرة يستدعى اثابة مقاتليهم بالتسبيب وهذا التأويل يختص بما إذا كان الانتهاء بمعنى الانتهاء من الكفر ومع ذلك بعيد جدا فان قوله بما تعملون يعم الحسنة والسيّئة واللّه اعلم.
وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام ولم ينتهو عن الكفر أو تولوا عن الانقياد ولم ينتهوا عن القتال فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم فثقوا به وقاتلوا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 67
الكفرة ولا تبالوا بمعاداتهم وإن كانوا متكاثرين نِعْمَ الْمَوْلى اللّه لا يضيع من تولاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) هو لا يغلب من نصره.
(1/2659)
وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ما بمعنى الذي ... وغنمتم صلته والعائد محذوف يعنى الذي غنمتموه ولا يجوز ان يكتب ما موصولا لأنه يكون حينئذ كافة والغنيمة مال حربى أخذ قهرا وغلبة ومن هاهنا قال أبو حنيفة إذا دخل واحد أو اثنان في دار الحرب بغير اذن الامام مغرين وأخذوا من مال أهل الحرب شيئا لا يجب فيه الخمس وان دخل اربعة يجب الخمس فيما أخذوا وفي المحيط عن أبى يوسف انه قدر الجماعة التي لا منعة لها بسبعة والتي لها منعة بعشرة ومذهب الشافعي ومالك واكثر أهل العلم انه يخمس ما اخذه واحد تلصصا لأنه مال حربى أخذ قهرا فكان غنيمة فيخمس بالنص وقال أبو حنيفة واحمد في رواية عنه انه ليس بغنيمة لأنه لم يوخذ قهرا بل اختلا ساو سرقة والمتلصص انما يأخذ بحيلة فكان اكتسابا مباحا من المباحات كالاحتطاب والاصطياد ومحل الخمس الغنيمة بخلاف ما لو دخل واحد أو اثنان بإذن الامام فانه غنيمة اتفاقا لان على الامام ان ينصره حيث اذن له كما ان على الامام ان ينصر الجماعة الذين لهم منعة كالاربعة أو العشرة وان دخلوا بغير اذنه تحاميا عن توهين المسلمين والدين فلم يكونوا مع نصرة الامام متلصصين واللّه اعلم مِنْ شَيْ ءٍ بيان لما الغرض منه التعميم يعنى ما يطلق عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى اللّه عليه وسلّم كان يقول أدوا الخياط والمخيط وإياكم والغلول فانه عاد على اهله يوم القيامة رواه الدارمي ورواه الشافعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفي رواية لابى داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وفيه فقام رجل في يده كبة من شعر فقال أخذت هذه لا صلح بها برذعة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلّم اما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فلك فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ دخلت الفاء لما في ما من معنى المجازاة وما بعده في محل الرفع مبتدأ محذوف الخبر يعنى فحق ان اللّه خمسه أو خبر مبتدأ
(1/2660)
محذوف يعنى فالحكم ان اللّه خمسه أبقى اللّه سبحانه خمس الغنائم على ملكه ولم يجعلها في ملك الغانمين ولذا قالت الحنفية ان خمس الغنيمة حق قائم بنفسه ليس واجبا في ذمة الغانمين كالزكوة فانها وجبت في ذمة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 68
المكلفين حيث أمروا بإتيانها ولذلك صار الزكوة من أوساخ الناس ولم يحل لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم واله لشرافته وحل له الخمس ثم بين اللّه سبحانه حيث يصرف خالص حقه تعالى فقال وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى يعنى أقارب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم واختلفوا فيهم فقال قوم هم جميع قريش وقال مجاهد وعلى بن الحسين هم بنو هاشم وقال الشافعي هم بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف وليس لبنى عبد الشمس وبنى نوفل منه شيء مع انهم كانوا ابني عبد مناف أيضا روى الشافعي عن الثقة عن ابن أبى شهاب عن ابن المسيب عن جبير بن مطعم قال قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب ولم يعط أحدا من بنى عبد الشمس ولا بنى نوفل شيئا وكذا روى البخاري عنه في صحيحه وفي رواية للشافعى عنه قال لما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب أتيته انا وعثمان بن عفان فقلنا يا رسول اللّه هؤلاء إخواننا من بنى هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك اللّه فيهم ارايت إخواننا من بنى المطلب اعطيتهم وتركتنا أو منعتنا وانما قرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم انما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه وكذا روى أبو داود والنسائي قال البرقاني وهو على شرط مسلم وفي هذا الحديث اشارة إلى شان الصحيفة القاطعة التي كتبها قريش على ان لا تجالسوا بنى هاشم ولا تبايعوهم ولا تناكحوهم وبقوا على ذلك سنة ولم يدخل في بيعتهم بنو المطلب بل خرجوا مع بنى هاشم إلى شعب ابى
(1/2661)
طالب كذا في السنن والمغازي وروى البيهقي في السنن والدلائل قال الخطابي وكان يحيى بن معين يرويه انما بنو هاشم وبنو
المطلب سيّ واحد بالسين المهملة والياء المشددة أى مثل وسواء يقال سيان أى مثلان قلت هذا الحديث يدل على ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم الحق بنى المطلب ببني هاشم وعدهم منهم لكمال موافقتهم ومواذرتهم في الجاهلية والإسلام لا لكونهم من بنى عبد مناف والا فبنى عبد الشمس وبنى نوفل كانوا مثلهم في ذلك وما قال صاحب الهداية ان هذا الحديث يدل على ان المراد قرب النصرة لا قرب القرابة فليس بشيء لأنه لو كان المراد قرب النصرة لكان عثمان بن عفان اولى به
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 69
(1/2662)
من العباس فان عثمان اسلم في بداية الإسلام وعباس بعد قتال بدر بل لزم ان يكون غير أقرباء النبي من المهاجرين والأنصار مستحقين لذلك السهم وَالْيَتامى جمع يتيم وهم صغير لا اب له وفي القاموس اليتيم فقدان الأب وانما قيدناه بكونه صغيرا لما رواه أبو داود وعن عليّ في حديث لا يتم بعد الاحتلام وقد أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان والمنذرى وغيرهم وحسنه النووي ورواه الطبراني بسند اخر عن عليّ ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده وفي الباب حديث طلحة بن حذيفة عن جده واسناده لا بأس به وهو في الطبراني الكبير وغيره وعن جابر رواه ابن عدى في ترجمة حزام بن عثمان وهو متروك وعن انس وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وسنذكر تحقيقه في مصارف الصدقات في سورة التوبة وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر البعيد عن منزله نسب إلى السبيل لما رسقه إياه اجمع الامة على ان هذه الأصناف الثلاثة يستحقون لفقرهم وحاجتهم فلا يعطى للاغنياء من اليتامى وأبناء السبيل وكذا قال بعض الناس في ذوى القربى انهم يستحقون لفقرهم وحاجتهم وهذا القول مردود لان لفظ ذوى القربى لا يشعر بالفقر أصلا بخلاف لفظ اليتيم وابن السبيل وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يعطى العباس وكان كثير المال واجمع الائمة واتفقت الرواة على ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقسم الغنيمة على خمسة أسهم اربعة أخماسه للغانمين ويجعل الخمس على خمسة أسهم فيجعل سهما لنفسه فينفق منه على نفسه واهله ويعطى منه اهله نفقة سنة وما فضل جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل اللّه وفي مصالح المسلمين وسهما يقسمها في بنى هاشم وبنى مطلب يعطى منها الغنى والفقير والذكر والأنثى منهم وثلثة أسهم يقسمها في اليتامى والمساكين وأبناء السبيل فلينظر هل كان هؤلاء الذين ذكرهم اللّه تعالى في كتابه من الأصناف الخمسة هل كان كل واحد منهم مستحقا لحصته منها
(1/2663)
لا يجوز منعه عنه ولا صرفه إلى غيره أو كان الأصناف المذكورة مصرفا لها جاز للامام ان يصرفها إلى صنف واحد منها اولى شخص واحد منه ولا يجوز له التجاوز عنها إلى غيرها وبالشق الثاني قال أبو حنيفة قال ابن همام انه ذكر في التحفة ان هذه الثلاثة يعنى اليتامى والمساكين وابن السبيل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 70
مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرف إلى صنف واحد منها جاز وقال الشافعي وجماعة من السلف والخلف بالشق الأول قالوا لا يجوز للامام ان يصرفها إلى صنف أو صنفين بل يجب صرفها إلى جميعها فانكان كل صنف منها جماعة محصورين لا يجوز منع واحد منها وسوى بينهم بالقسمة كما يقسم الأسهم الاربعة بين الغانمين لا يجوز منع واحد منهم اجماعا والحق الشافعي سهم ذوى القربى بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير انهم يعطون القريب والبعيد وفقال يفضل الذكر على الأنثى فيعطى للذكر سهمين والأنثى سهما وإن كانوا غير محصورين لا يمكن استيعابهم لا بد عنده ان يعطى من كل صنف ثلثة لان اللّه تعالى ذكر لام الاختصاص وذلك يقتضى الملك أو استحقاق الملك وذكر كل صنف بلفظ الجمع واقله ثلثة وقال أبو حنيفة ومن معه اللام لمطلق الاختصاص ومن الاختصاص ان لا يجوز الصرف إلى غير تلك الأصناف واللام ليس للاستغراق بل للجنس ولام الجنس يبطل الجمعية والحجة لهذا القول أن الأصناف المذكورة متداخلة بعضها في بعض فان من ذوى القربى اليتامى والمساكين وابن السبيل ومن اليتامى ذو والقربى والمساكين وابن السبيل ومن المساكين ذوو القربى واليتامى وأبناء السبيل
(1/2664)
و لو كان كل صنف منها مختص بسهم ولا يجوز صرفها إلى صنف اخر لزم ذكر كل صنف منها بحيث لا يصدق عليه عنوان صنف اخر وأيضا إذا كان شخص واحد داخلا في الأصناف كلها لزم حينئذ ان يعطى له لاجل كل وصف سهما كما يعطى من الميراث للزوج إذا كان ابن عم لها لاجل الحيثيتين سهمين مختلفين فرضا وعصوبة ومن المنقول ما في الصحيحين عن على رضى اللّه عنه ان فاطمة رضى اللّه عنها أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها ان جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة قال فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال مكانكما فقعد بينى وبينها حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال الا أدلكما على خير ما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما تسبحا ثلثا وثلثين واحمدا ثلثا وثلثين وكبرا أربعا وثلثين فهو خير لكما من خادم وفي رواية لمسلم الا ادلك على ما هو خير من خادم تسبحين اللّه ثلثا وثلثين وتحمدين ثلثا وثلثين وتكبرين أربعا وثلثين عند كل صلوة وعند
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 71
(1/2665)
منامك وروى الطحاوي عن علىّ بلفظ انه قال لفاطمة رضى اللّه عنهما ذات يوم قد جاء اللّه أباك بسعة ورقيق فاتيه فاستخدميه فاتته فذكرت ذلك فقال واللّه لا أعطيكها وادع أهل الصفة ليطوون بطونهم ولا أجد ما أنفق عليهم ولكن أبيعها وأنفق عليهم الا أدلكما على خير مما سألتما علمنيه جبرئيل كبر اللّه دبر كل صلوة عشرا وسبحا عشرا واحمدا عشرا وإذا أتيتما إلى فراشكما وروى الطحاوي عن الفضل بن حسن ابن عمر بن الحكم ان امه حدثته انها ذهبت هى وأمها حتى دخلن على فاطمة فخرجن جميعا فاتين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقد اقبل من بعض غزواته ومعه رقيق فسألته ان يخدمهن فقال سبقكن يتامى أهل بدر فان هذه الأحاديث تدل على ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان قد يعطى بعض الأصناف ولا يعطى بعضا اخر والا لما منع فاطمة عن حقها وقد كان لها حظ من الخمس ولما بعض صرف حق فاطمة إلى فقراء أهل الصفة ويتامى أهل بدر فان سهم ذوى القربى لا يجوز صرفها عند الشافعي إلى الفقراء واليتامى بل لكل من الصنفين عنده سهم من الخمس غير سهم ذوى القربى ويؤيد ما قلت ما روى أبو يوسف في كتاب الخراج قال حدثنى اشعث بن سوار عن أبى الزبير عن جابر بن عبد اللّه انه كان يحمل من الخمس في سبيل اللّه ويعطى منه نائبة القوم فلما كثر المال جعل في اليتامى والمساكين وابن السبيل قلت عندى معنى الآية ان للّه خمسه يعنى ملكا حيث أبقاه سبحانه على ملك نفسه ولم يعطه أحدا غيره وامر رسوله صرفه كما امر وللرسول ذلك الخمس استحقاقا وتصرف على نفسه وفي مصارفه كيف يشاء ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل مصرفا ولذلك ذكر الصنفين الأخيرين عطفا على ذى القربى بلا لام وذكر الأصناف الاربعة بلام واحد لكون كلها من جنس واحد مختصا باختصاص المصرفية ولم يعطفها على الرسول كما عطف الأخيرين وأورد اللام على الرسول ولم يعطف على
(1/2666)
اللّه لكون كل اختصاص منها نوعا علحدة فالاختصاص باللّه اختصاص الملك وليس بالرسول اختصاص الملك لما روى انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال لا يحل لى من غنائمكم مثل هذا الا الخمس والخمس مردود فيكم رواه أبو داود ومن حديث عمرو بن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 72
عنبسة وكذا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ليس لى من هذا الفيء شيء ولا هذا يعنى وبر البعير الا الخمس والخمس مردود فيكم ولم يقل الا خمس الخمس فاللام في الأنواع الثلاثة من الاختصاصات المذكورة كالمشترك أو كالحقيقة والمجاز ولا يجوز الجمع بين المشترك ولا بين الحقيقة والمجاز فلذلك أورد اللام ثلث مرات واللّه اعلم (مسئلة) اختلف العلماء في سهم الرسول صلى اللّه عليه وسلّم بعد وفاته صلى اللّه عليه واله وسلّم فقال الشافعي هو اليوم لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام لأنه صلى اللّه عليه واله وسلم
(1/2667)
كان يجعل ما بقي من نفقة في السلاح والكراع قال البغوي روى الأعمش عن ابراهيم قال كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم في الكراع والسلاح وقال قتادة هو لخليفة بعده لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يستحقه بامامته وقال أبو حنيفة ان سهم الرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم سقط بموته ولم يكن سهم لامامته بل رسالته فان الحكم إذا علق بمشتق دل على علية ماخذه ولا رسول بعده وقد كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حق الصفي اصطفى ذا الفقار سيف منبه بن حجاج حين اتى به على يوم بدر بعد ان قتل منبها ثم دفعه إليه واصطفي صفية بنت حيى بن اخطب من غنيمة خيبر رواه أبو داود في سننه عن عائشة والحاكم وصححه وقد اجمعوا ان سهم الصفي ليس لاحد بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وان حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم في ذلك خلاف حكم الامام من بعده فكذا سهمه من الغنيمة لا يكون لاحد بعده (مسئلة) واختلفوا في سهم ذوى القربى بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال أبو حنيفة سهم ذوى القربى أيضا سقط بموت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ذكر الحنفية لسقوطه وجوها قال صاحب الهداية لان النبي صلى اللّه عليه وسلّم كان يعطيهم النصرة لما مر من حديث جبير بن مطعم انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم اعطى بنى المطلب ولم يعط بنى نوفل وبنى عبد الشمس وقال انهم يعنى بنى المطلب لم يزالوا هكذا في الجاهلية والإسلام وشبك بين أصابعه وبهذا يظهر ان المراد بالنص قرب النصرة لاقرب القرابة ولما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يبق النصرة وهذا التوجيه ضعيف وقد ذكرنا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 73
(1/2668)
تضعيفه من قبل وقال الطحاوي وجه سقوطه ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لما اعطى ذلك السهم بعض القرابة يعنى بنى المطلب وحرم من قرابتهم منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كقرابتهم يعنى بنى نوفل وبنى عبد شمس ثبت بذلك ان اللّه عز وجل لم يرد بما جعل لذوى القربى كل قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم وانما أراد خاصا منهم وجعل الرأى في ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يضعه فيمن شاء منهم فإذا مات وانقطع رأيه انقطع ما جعل لهم من ذلك كما قد جعل اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان يصطفي من المغنم لنفسه سهما أى سهم الصفي فكان ذلك ما كان حيا يختار لنفسه من المغنم ما شاء فلما مات انقطع ذلك وقال الطحاوي مرة اخرى كان اللّه عز وجل قد جعل كل قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم في قوله ولذى القربى فلم يخص أحدا منهم دون أحد ثم قسم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فاعطى منهم بنى هاشم وبنى مطلب خاصة وحرم بنى امية وبنى نوفل وكانوا محصورين معدودين وفيمن اعطى الغنى والفقير وفيمن حرم كذلك فثبت ان ذلك السهم كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم يجعله في أى قرابته شاء فصار حكمه حكم سهمه والذي كان يصطفيه لنفسه فلما كان ذلك مرتفعا بوفاته غير واجب لاحد بعده كان هذا كذلك أيضا مرتفعا بوفاته غير واجب لاحد من بعده قال وهو قول أبي حنيفة وابى يوسف ومحمد قلت وهذين التوجيهين أيضا ضعيفان لما ذكرنا ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم انما اعطى بنى مطلب لما جعلهم تبعا لبنى هاشم وعدهم منهم لموازرتهم وموانستهم معهم كما حرم الصدقة على موالى بنى هاشم بتعالهم لا لكونهم من بنى عبد مناف قوله حرم من قرابتهم منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كقرابتهم ممنوع فان بنى هاشم كانوا اقرب من غيرهم ولو نسلم ان اللّه سبحانه ذكر ذوى القربى وأراد بعضها منهم لا
(1/2669)
كلهم ولم يدر منهم فحينئذ كان مجملا فإذا لحقه البيان من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حيث اعطى بنى هاشم وبنى
المطلب دون بنى امية وبنى نوفل زال الإجمال والإجمال لا يقتضى البيان كل مرة ولو نسلم ان اللّه تعالى جعل الرأى في ذلك إلى رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقوله إذا مات انقطع رأيه ممنوع إذ بعد موته الرأي لخلفائه كما في سهم المساكين واليتامى وأبناء السبيل في المغانم والصدقات كان تخصيص بعض دون بعض إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 74
(1/2670)
ثم صار لخلفائه وأيضا كون تخصيص بعض دون بعض من ذوى القربى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم لا يقتضى كون ذلك السهم له صلى اللّه عليه وآله وسلّم فان تخصيص بعض من المساكين واليتامى وأبناء السبيل أيضا كان إليه صلى اللّه عليه وسلّم ولم يكن ذلك الأسهم له صلى اللّه عليه وآله وسلّم اجماعا ولم يسقط شيء منها بموته فكذا هذا واللّه اعلم ثم استدل كلا الفريقين بعمل الخلفاء الراشدين رضى اللّه عنهم قال صاحب الهداية لنا ان الخلفاء الراشدين قسموه على ثلثة أسهم على نحو ما قلنا وكفى بهم قدوة وقال أيضا انه لم ينكر عليهم أحد مع توافر الصحابة مع علمهم فكان اجماعا وقال البغوي الخلفاء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كانوا يعطون ذوى القربى ولا يفضل فقير على غنى لان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله فلا بد من الكلام في عمل الخلفاء فنقول قال أبو يوسف في كتاب الخراج ان الكلبي محمد بن السائب حدثنى عن أبى صالح عن ابن عباس ان الخمس كان في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم على خمسة أسهم للّه وللرسول سهم ولذى القربى سهم ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلثة أسهم ثم قسمه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذى النورين رضى اللّه عنهم على ثلثة أسهم وسقط سهم الرسول وسهم ذوى القربى وقسمه الثلاثة على الباقين ثم قسمه على بن أبى طالب على ما قسمه عليه أبو بكر وعمر وعثمان وقال أبو يوسف وحدثنى محمد بن إسحاق عن الزهري ان نجدة كتب إلى ابن عباس يسئله عن سهم ذوى القربى لمن هو فكتب إليه ابن عباس رضى اللّه عنه كتبت إلى تسالنى عن سهم ذوى القربى لمن هو وهو لنا وان عمر بن الخطاب دعانا إلى ان ينكح منه ايمنا ويقضى عنه عن مغرمنا ويخدم منه عائلنا فابينا الا ان يسلم لنا فابى ذلك علينا وقال أبو يوسف وحدثنا قيس
(1/2671)
بن مسلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال اختلف الناس بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم في هذين السهمين سهم الرسول وسهم ذوى القربى فقال قوم سهم الرسول للخليفة من بعده وقال آخرون سهم ذوى القربى بقرابة النبي صلى اللّه عليه واله وسلّم وقالت طائفة سهم ذى القربى لقرابة الخليفة بعده فاجمعوا على ان يجعلوا هذين السهمين في الكراع والسلاح وروى الطحاوي بسنده عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 75
ابن الحنيفة نحوه وزاد كان ذلك في امارة أبى بكر وعمر وروى الطحاوي حدثنا محمد بن خزيمة قال حدثنا يوسف بن عدى قال حدثنا عبد اللّه بن المبارك عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر قال أ رأيت على بن أبى طالب حيث ولى العراق ما ولى من امر الناس كيف صنع في سهم ذوى القربى قال سلك به واللّه سبيل أبى بكر وعمر قلت كيف وأنتم تقولون ما تقولون قال انه واللّه ما كان اهله يصدرون الا عن رائه قلت فما منعه قال كره واللّه ان يدعى عليه خلاف أبى بكر وعمر قلت وهذه الآثار لو ثبتت لثبت ان الخلفاء قسموا الخمس على ثلثة أسهم ولم يعطوا ذوى القربى سهمهم ولما تقدم ما ذكرنا انه يجوز للامام ان يصرف الخمس إلى صنف واحد منها وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه لا يثبت بعدم إعطاء الخلفاء سهم ذوى القربى سقوط سهمهم وعدم جواز اعطائهم كيف وقال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثنى محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبيه قال سمعت عليا رضى اللّه عنه بقول قلت يا رسول اللّه ان رأيت ان
(1/2672)
توليتنى حقنا من الخمس فاقسم في حياتك كيلا ينازعنا أحد بعدك فافعل ففعل قال فولانية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقسمته حياته ثم ولانيه أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه فقسمته حياته ثم ولانيه عمر رضى اللّه عنه فقسمته حياته حتى إذا كانت اخر سنة من سنى عمر فاتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل الىّ فقال خذه فاقسمه فقلت يا امير المؤمنين بنا عنه العام غنى وبالمسلمين إليه حاجة فرده عليهم ذلك تلك السنة ولم يدعنا إليه أحد بعد عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه حتّى قمت مقامى هذا فلقينى العباس بن عبد المطلب بعد خروجى من عند عمر بن الخطاب فقال يا عليّ لقد حرمتنا الغداة شيئا لا يرد علينا ابدا وكذا روى أبو داود عنه فهذا الحديث يدل على ان أبا بكر وعمر كانا يعطيان ذوى القربى كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يعطيهم الا ان عمر منعهم اخر خلافته باشارة علىّ ولعل قول ابن عباس ان عمر دعانا إلى ان ينكح منه ايمنا ويقضى عنه مغرمنا ويخدم منه عائلنا فابينا الا ان يسلمه إلينا فابى ذلك علينا حكاية عما بعد قول عليّ لعمر بنا العام عنه غنى وبالمسلمين حاجة وهذا وجه توفيق الآثار وبهذا يثبت ان سهم ذوى القربى لم يسقط ويجوز دفعه إليهم غنيهم وفقيرهم لكن جاز للامام ان يدفع
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 76
(1/2673)
ذلك السهم إلى غيرهم إن كان بهم عنه غنى وبالناس إليه حاجة كما فعل عمر باشارة علىّ وسلك عليّ ذلك السبيل في خلافته وكره في ذلك مخالفتهم لما رأى فيه مصلحة وقال أبو يوسف حدثنى عطاء ابن السائب ان عمر بن عبد العزيز بعث سهم الرسول وسهم ذوى القربى إلى بنى هاشم قلت ولعل ذلك لما راى عمر بن عبد العزيز في بنى هاشم حاجة كثيرة بعث إليهم سهمين واللّه اعلم وروى أبو داود عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يقسم لبنى عبد الشمس ولا لبنى نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبنى هاشم وبنى المطلب قال وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم غير انه لم يكن يعطى قربى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما كان يعطيهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه وهذا الحديث يدل على ان الخلفاء منعوا تارة واعطوا تارة فروى كل على ما علم وهذا يؤيد ما قلنا واللّه اعلم (فصل) واعلم ان الآية كما تدل بعبارتها على ان ما غنمتم فخمسه خالص للّه تعالى يصرف في سبيله في الأصناف المذكورة تدل باشارتها على ان الباقي يعنى الأخماس الاربعة جعلتها لكم أيها الغانمون فكون الأخماس الاربعة للغانمين مسكوت في حكم المنطوق كما ان قوله تعالى وان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث تدل على ان الثلثين للاب وهو مسكوت في حكم المنطوق فهذه الآية بهذا الاعتبار ناسخة لقوله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرسول حيث لم يجعل اللّه فيها شيئا لغيره الا ما أراد رسوله كما ذكرنا من رواية البخاري في تاريخه عن سعيد بن جبير قيل هذه الآية نزلت في غزوة بنى قينقاع بعد غزوة بدر بشهر للنصف من شوال على راس عشرين شهرا من الهجرة أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن سعيد بن كعب ومن طريق سعيد بن المسيب نحوه والصحيح
(1/2674)
انها نزلت في غزوة بدر بعد ما نزلت يسألونك عن الأنفال واللّه اعلم (مسئلة) اجمعوا على ان اربعة أخماس الغنيمة للغانمين لا يجوز للامام منع واحد منهم عن نصيبه واختلفوا في سلب المقتول فقال الشافعي واحمد هو للقاتل وحده ولا يجب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 77
فيه الخمس بشرط ان يعرض نفسه على القتل في قتل مشرك وأزال امتناعه فان رمى من بعيد وقتل السهم رجلا من صف المشركين لا يجب للقاتل سلبه ويشترط عند الشافعي كون القاتل من أهل السهم وقال احمد وإن كان من أهل الرضح أيضا وقال أبو حنيفة ومالك وهى رواية عن احمد لا يستحق القاتل السلب الا ان يشترط الامام فحينئذ يحسب عند أبي حنيفة من اربعة الأخماس وعند مالك من الخمس عن أبى قتادة
(1/2675)
قال خرجنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع فاقبل عليّ فضمنى ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فارسلنى فلحقت عمر بن الخطاب فقلت ما بال الناس قال امر اللّه ثم رجعوا وجلس النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فقلت من يشهد لى ثم جلست فقال النبي صلى اللّه عليه واله وسلّم مثله فقلت من يشهد لى ثم جلست ثم قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم مثله فقمت فقال مالك يا با قتادة فاخبرته فقال رجل صدق وسلبه عندى فارضه منى فقال أبو بكر لاها اللّه إذ لا يعمد إلى اسد من اسد اللّه يقاتل عن اللّه ورسوله فيعطيك سلبه فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم صدق فاعطه فاعطانيه فابتعت منه مخرفا فى بنى سلمة فانه لاول مال تاثلته في الإسلام متفق عليه وفي رواية للطحاوى عن أبى قتادة انه قتل رجلا من المشركين فنفله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم سلبه ودرعه فباعه بخمس أواق وعن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم قال يوم حنين من قتل قتيلا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين فاخذ سلبهم رواه الدارمي والطحاوي وأبو داود وعن سلمة ابن الأكوع قال غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم هوازن قتلت رجلا ثم جئت بجمله أقوده وعليه رحله وسلاحه فاستقبلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم والناس معه فقال من قتل الرجل قالوا ابن الأكوع فقال له سلبه اجمع رواه الطحاوي وعنه قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم عين من المشركين فجلس يتحدث عند أصحابه ثم انسل فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم اطلبوه فاقتلوه فسبقتهم فقتلته
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 78
(1/2676)
و أخذت سلبه فنفلنى إياه رواه الطحاوي وروى الحاكم بإسناد فيه الواقدي ضرب محمد بن سلمة ساقى مرحب فقطعهما ولم يجهز عليه فمر به عليّ فضرب عنقه واعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم سلبه محمد بن مسلمة والصحيح ان على بن أبى طالب هو الذي قتله لما ثبت في صحيح مسلم وعن عوف بن مالك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم جعل السلب للقاتل رواه الطحاوي وفي رواية له عنه وعن خالد بن الوليد نحوه وكذا روى احمد وأبو داود والطبراني وروى احمد عن عوف بن مالك وخالد بن الوليد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يخمس السلب وكذا روى أبو داود وابن حبان والطبراني بلفظ قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس وروى احمد عن سمرة بن جندب مرفوعا من قتل قتيلا فله سلبه وسنده لا بأس به وروى الطحاوي عن ابن عباس قال انتدب « 1 » رجل من المشركين فامر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم الزبير فخرج إليه فقتله فجعل له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم سلبه قال ابن همام لا خلاف فيه فانه صلى اللّه عليه وآله وسلّم قال ذلك يعنى قوله من قتل قتيلا فله سلبه انما الكلام ان هذا منه نصب الشرع على العموم في الأوقات والأحوال كلها أو كان تحريضا بالتنفيل قاله في تلك الواقعة فعند الشافعي نصب الشرع لأنه هو الأصل في قوله لأنه انما بعث لذالك قلت سياق حديث أبى قتادة صريح في ان قوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليس على سبيل التنفيل قبل القتال بل هو بعد ان قتل أبو قتادة مشركا وكذا حديث سلمة بن الأكوع وما ورد في الحديث انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يخمس السلب حجة للشافعى واحمد على مالك حيث قال ان السلب يحسب من الخمس.
(
(1/2677)
فائدة) روى الطحاوي عن انس بن مالك ان البرآء بن مالك أخا انس بن مالك بارز مرزبان الزارة فطعنه طعنة فكسر القربوس وخلصت إليه فقتلته فقوم سلبه ثلثين الفا فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر فقال لابى طلحة انا كنا لا نخمس الاسلاب وان سلب البراء قد بلغ مالا ولا أرانا الا خامسيه فقومناه ثلثين الفا فدفعنا إلى عمر ستة آلاف وروى الطحاوي من وجه بلفظ ان البراء بن مالك بارز رجلا من عظماء فارس فقتله فاخذ البراء سلبه فكتب فيه إلى عمر فكتب عمر إلى الأمير ان اقبض إليك خمسة وادفع إليه ما بقي فقبض الأمير
_________
(1) أى طلب المبازرة 12 [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 79
(1/2678)
خمسه قلت وهذين الأثرين يدلان على ان السلب للقاتل وانه لا يخمس غير انه يجوز للامام ان استكثر المال ان يخمسه واستدل أبو حنيفة على ان السلب ليس للقاتل خاصة الا ان يكون الامام قاله في وقت يحتاج إلى تحريضهم بما رواه الطبراني في الأوسط والكبير انه بلغ حبيب بن سلمة ان صاحب قبرص خرج يريد طريق اذربيجان ومعه زمرد وياقوت ولؤلؤ وغيرهما فخرج إليه فقتله فجاء بما معه فاراد أبو عبيدة ان يخمسه فقال له حبيب لا تحرمنى رزقا رزقنيه اللّه فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم جعل السلب للقاتل فقال معاذ يا حبيب اني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يقول للمرأ ما طابت به نفس امامه وهذا معلول فانه فيه عمرو ابن واقد ورواه إسحاق بن راهويه بسنده عن جنادة بن امية قال فذكر الحديث انه بلغ حبيب بن سلمة إلى ان قال فجاء بسلبه على خمسة ابغال من الديباج والياقوت والزبرجد فاراد حبيب ان يأخذ كله وأبو عبيدة يقول بعضه فقال حبيب لابى عبيدة قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم من قتل قتيلا فله سلبه قال أبو عبيدة انه لم يقل ذلك للابد وسمع معاذ ذلك فاتى وعبيدة وحبيب يخاصمه فقال معاذ الا تتقى اللّه وتأخذ ما طابت به نفس امامك فان مالك ما طابت نفس امامك وحدث بذلك معاذ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فاجتمع رايهم على ذلك فاعطوه بعد الخمس فباعه حبيب بألف دينار وفيه رجل مجهول وبما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف في مقتل أبى جهل يوم بدر فان فيه ان قال عليه السلام لمعاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء بعد ما رأى سيفهما كلا كما قتله ثم قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحده ولو كان للقاتل لقضى به لهما وبما رواه مسلم وأبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي قال خرجت مع زيد بن حادثة غزوة مؤتة ورافقنى مددى من أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر على سرج مذهب و
(1/2679)
سلاح مذهب وجعل يغرى بالمسلمين وقعد له المددى خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر فعلا فقتله فحاز فرسه وسلاحه فلما فتح اللّه على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فاخذ منه بعض السلب قال عوف فاتيت خالدا فقلت له يا خالد اما علمت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم قضى بالسلب للقاتل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 80
(1/2680)
قال بلى ولكنى استكثرته قلت لتردن أو لاعرفتكما عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فابى ان يعطيه قال عوف فاجتمعنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقصصت عليه قصة المددى وما فعل خالد فقال عليه السلام يا خالد رد عليه ما أخذت منه قال عرف قلت دونك يا خالد الم أوف لك فقال صلى اللّه عليه وآله وسلّم وما ذاك قال فاخبرته قال فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركو لى أمراء لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره وجه الاستدلال انه منع خالد أمن رده بعد ما امره به ولو كان شرعا لازما لم يمنعه من مستحقه قال الخطابي انما منعه ان يرد على عوف سلبه زجر العوف لئلا يجترئ الناس على الائمة وخالد كان مجتهدا فامضاه عليه الصلاة والسلام والضرر اليسير يتحمل للنفع الكثير قال ابن همام وهذا غلط وذلك لان السلب لم يكن للذى تجرأ وهو عوف وانما كان للمددى ولا تزر وازرة وزر اخرى فالوجه انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أحب اولا ان يمضى شفاعته للمددى في التنفيل فلما غضب عليه رد شفاعته بمنع السلب لا انه لغضبه وسياسته يزجره بمنع حق من لم يقع منه جناية فهذا يدل على انه ليس شرعا لازما قلت حديث حبيب كما سمعت معلول وضعيف ولو ثبت لثبت للامام حق التخميس من السلب لما أراد أبو عبيدة ان يخمسه ولا يثبت منه انه لا حق للقاتل في السلب بل هو كسائر الغنائم وحديث سلب أبى جهل منسوخ قال البيهقي ان غنيمة بدر كانت للنبى صلى اللّه عليه وسلم بنص الكتاب يعنى بقوله تعالى قل
(1/2681)
الأنفال للّه والرسول يعطى من يشاء وقد قسم لجماعة لم يحضروا ثم نزلت اية الغنيمة بعد بدر فقضى السلب للقاتل استقر الأمر على ذلك وقول عوف اما علمت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم قضى بالسلب للقاتل وقول خالد بلى وتسليم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ذلك حتى امر خالدا برد ما أخذ من سلبه دليل على التشريع عموما وجرأة عوف كان لاجل المددى وكان المددى راضيا به فهو يستحق الزجر والمنع وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم هل أنتم تاركوا لى أمراء لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره يدل على ان الامام وان ظلم ومنع أحدا حقه فعليه كدره لكن يجب على الناس اطاعته.
(مسئلة) التنفيل يعنى إعطاء الامام رجلا فوق سهمه جائز اجماعا ان شرط الامام في
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 81
حالة القتال قبل الاصابة لأنه نوع تحريض على القتال وهو مامور به قال اللّه تعالى حرض المؤمنين على القتال فجاز للامام ان يقول من قتل قتيلا فله عشرة دراهم أو من دخل هذا الحصن فله كذا وقال لسرية جعلت لكم النصف أو الربع بعد الخمس أو قال من أصاب جارية فهى له عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لانفسهم خاصة سوى قسمة عامة الجيش متفق عليه لكن لا يجوز للامام ان يقول من أصاب شيئا فهو له لأنه يستلزم بطلان الخمس الثابت بكتاب اللّه تعالى وبطلان الأسهم المنصوصة للراجل والفارس في الأحاديث وبطلان حق من لم يصب من المجاهدين وفي بعض روايات الحنفية لو نقل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى الامام المصلحة فيه روى الحاكم من رواية مكحول عن أبى امامة عن عبادة بن الصامت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين التقى الناس ببدر نفل كل امرأ ما أصاب وأجيب بان هذا منسوخ واية الخمس نزلت بعد ذلك.
(
(1/2682)
مسئلة) ثم محل التنفيل اربعة الأخماس قبل الاحراز بدار الإسلام وبعد الاحراز لا يصح الا من الخمس عند أبي حنيفة واحمد وعند مالك والشافعي لا يصح مطلقا الا من الخمس لأنه المفوض إلى راى الامام وما بقي للغانمين روى مالك عن أبى الزياد عن سعيد بن المسيب كان الناس يعطون النفل من الخمس وروى ابن أبى شيبة عن سعيد ابن المسيب ما كانوا ينفلون الا من الخمس وعن ابن عمر قال نفلنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم نفلا سوى نصيبنا من الخمس فاصابنى شارف والشارف المسن الكبير متفق عليه وأبو حنيفة يحمل هذه الآثار على ما بعد الاحراز بدار الإسلام واما قبل ذلك فيعطى النفل من اربعة أخماس الغانمين لان المعطى له من الغانمين لا من المساكين واليتامى وابن السبيل وقال البغوي النفل من خمس سهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي رحمه اللّه وهذا معنى قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم مالى مما أفاء اللّه عليكم الا الخمس والخمس مردود فيكم قلت إعطاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم النفل أحدا من خمس خمسه هبة منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وذلك
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 82
(1/2683)
لا يستلزم عدم جواز النفل من اربعة الأخماس كيف وقد روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن عبادة بن الصامت انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم نفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث وكذا روى أبو داود وعن حبيب بن سلمة الفهري ومعنى الحديث على ما قال الخطابي ان السرية إذا ابتدأت السفر نفلها الربع فإذا قفلوا ثم رجعوا إلى العدو ثانية نفلهم الثلث لان نهوضهم بعد قفولهم أشق عليهم قلت وهذا الحديث يرد قول من قال لا يجوز النفل الا من الخمس أو من خمس الخمس لان إعطاء الربع والثلث لا يتصور من الخمس بل لا يكون الا من اصل الغنيمة كما قال بعضهم أو من اربعة الأخماس فان قيل جاز ان يكون معنى الحديث نفل في البدأة الربع من الخمس وفي الرجعة الثلث من الخمس كذا قال الطحاوي قلنا الحديث لا يدل على هذا التقييد وليس هو الا تسوية الحديث على مدعاه وأيضا قد روى حديث حبيب بن سلمة عند الطحاوي بلفظ الرابع بعد الخمس والثلث بعد الخمس وكذا روى احمد واستدل به ابن الجوزي على جواز إخراج النفل من اربعة الأخماس.
(
(1/2684)
مسئلة) جاز للامام ان يعطى بعض الغانمين فوق سهمه بعد القتال بلا شرط سبق منه ان رأى اجتهادا منه فوق اجتهاد غيره وقال أبو حنيفة رحمه اللّه لا يجوز ذلك الا من الخمس لان بعد القتال تعلق به حق الغانمين فلا يجوز ابطال حقهم والحجة عليه حديث سلمة بن الأكوع قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بظهره مع رباح غلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وانا معه فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد انمار على ظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقمت على اكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلثا يا صاحباه ثم خرجت في اثار القوم ارميهم بالنبل وارتجز أقول انا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فما زلت ارميهم واعقر لهم حتى ما خلق اللّه من بعير من ظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم الا خلفته وراى ظهرى ثم اتبعتهم ارميهم حتى القوا اكثر من ثلثين بردة وثلثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا الا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه حتى رأيت من فوارس رسول اللّه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 83
(1/2685)
عليه وآله وسلّم ولحق أبو قتادة فارس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعبد الرحمن فقتله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة قال ثم أعطاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما إلى جميعا ثم أردفني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ورائه على العضباء راجعين إلى المدينة رواه مسلم والجواب لأبي حنيفة ان الحديث رواه ابن حبان وقال كان سلمة بن الأكوع في تلك الغزاة راجلا فاعطاه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم من خمسه لا من سهمان المسلمين ورواه القاسم بن سلام وقال قال ابن مهدى فحدثت به سفيان فقال هذا خاص بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهذا عندى اولى من حمله على انه أعطاه من سهمه والا لم يسم نفلا بل هبة قلت ولا وجه للحمل على ذلك ولا على القول بالتخصيص وسنذكر حديث اخر لسلمة بن الأكوع انه غزونا فزارة مع أبى بكر في مسئلة جواز فداء أسارى المشركين بأسارى المسلمين وفيه نفل أبو بكر سلمة امرأة واستدل بعض العلماء في هذه المسألة بما ذكرنا من حديث عبادة بن الصامت وحبيب بن سلمة ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم نفل في بدأته الربع وفي رجعته الثلث على معنى انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم نفل في رجعته يعنى بعد الرجوع من القتال بالثلث وحمل الطحاوي هذا الحديث بهذا المعنى على انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم نفل في الرجعة الثلث مما يجوز له النفل وهو الخمس ليوافق مذهبه ومذهب أبى حنيفة واللّه اعلم وكان إعطاء بعض الغانمين شيئا زائدا من الغنيمة على سبيل النفل امرا معروفا في الصحابة لكنهم كانوا مختلفين في محله روى الطحاوي بوجوه عن انس انه كان مع عبيد اللّه بن أبى بكرة في غزوة غزاها فاصابوا سبيا فاراد عبيد اللّه ان يعطى أنسا من السبي قبل ان يقسم فقال انس لا ولكن اقسم ثم أعطني
(1/2686)
من الخمس قال قال عبيد اللّه لا الا من جميع الغنائم فابى انس ان يقبل منه وابى عبيد اللّه ان يعطيه من الخمس شيئا وروى الطحاوي عن سليمان بن يسار انهم كانوا مع معاوية ابن خديج في غزوة المغرب فنفل الناس ومعنا اصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فلم يرد ذلك غير جبلة بن عمرو وعن خالد بن أبى عمران قال سألت سليمان بن يسار عن النفل في
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 84
الغزو فقال لم ار أحدا صنعه غير ابن جريج نفلنا بافريقية النصف بعد الخمس ومعنا اصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم من المهاجرين الأولين أناس كثير فابى جبلة ان يأخذ منها شيئا.
(
(1/2687)
مسئلة) يقسم الأخماس الاربعة بين الغانمين للراجل سهما وللفارس ثلثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه قال القاضي عبد الوهاب به قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب ولا مخالف له من الصحابة وبه قال من التابعين عمر بن عبد العزيز وابن سيرين ومن الفقهاء مالك والأوزاعي وليث بن سعد وسفيان الثوري والشافعي واحمد بن حنبل وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ولم يخالف في هذه المسألة غير أبي حنيفة وحده حيث قال للفارس سهمان وللراجل سهم وقال ابن الجوزي قال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان للفارس ثلثة سهم احتج الجمهور بأحاديث منها حديث المنذرين الزبير بن العوام عن أبيه ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم اعطى الزبير سهما وفرسه سهمين رواه احمد وكذا روى الدار قطنى عن عبد اللّه بن الزبير عن الزبير والدار قطنى أيضا عن جابر وأخرجه أيضا من حديث أبى هريرة وأيضا من حديث سهل بن حثمة وفي حديث عبد اللّه ابن أبى بكر بن عمرو بن حزم من طريق ابن إسحاق في غزوة قريظة انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم جعل للفارس وفرسه ثلثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان وفي الباب حديث ابن عمر انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما رواه البخاري واصحاب السنن الا النسائي وفي مسلم عنه قسم في النفل للفرس سهمين وللراجل سهما وفي رواية بإسقاط لفظ النفل وفي رواية أسهم للرجل ولفرسه ثلثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وحديث ابن عباس نحوه رواه إسحاق بن راهويه وكذا أخرج أبو داود من حديث ابن أبى عمرة عن أبيه وكذا أخرج البزار من حديث المقداد وحديث أبى كبشة الأنماري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم عام الفتح انى جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصها نقصه اللّه عز وجل رواه الدار قطنى والطبراني قال ابن همام فيه محمد ابن عمران العبسي اكثر الناس على
(1/2688)
تضعيفه وحديث أبى دهم غزوت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم انا وأخي ومعنا فرسان فاعطانا ستة أسهم اربعة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 85
أسهم لفرسينا وسهمين لنا رواه الدار قطنى وروى أبو يوسف في كتاب الخراج بسنده عن أبى حازم قال أبو ذر الغفاري شهدت انا وأخي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يوم حنين ومعنا فرسان لنا فضرب لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بستة أسهم اربعة لفرسينا وسهمان لنا فبعنا ستة أسهم بحنين ببكرين واحتج أبو حنيفة بحديث مجمع بن جارية الأنصاري قال قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش الفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فاعطى الفارس سهمين وللراجل سهما رواه أبو داود وقال أبو داود هذا وهم انما كانوا مائتى فارس فاعطى الفرس سهمين والرجل يعنى صاحبه سهما كذا قال الشافعي قلت وكذا ذكرنا في سورة الفتح في قصة غنائم خيبر وحديث المقداد بن عمر انه كان يوم بدر على فرسه يقال له سنجه فاسهم له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم سهمين لفرسه سهم وله سهم رواه الطبراني وفي سنده الواقدي ضعيف واخرج الواقدي أيضا في المغازي عن جعفر بن خارجة قال قال الزبير ابن العوام شهدت بنى قريظة فارسا فضرب لى بسهم ولفرسى بسهم واخرج ابن مردويه في تفسيره حدثنا محمد بن محمد السرى حدثنا المنذر بن محمد حدثنى أبى حدثنا يحيى بن محمد بن هانى عن محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم سبايا بنى المصطلق فاخرج الخمس منها ثم قسمها بين المسلمين فاعطى الفارس سهمين والراجل سهما وروى ابن أبى شيبة في مصنفه ومن طريقة الدارالقطني حدثنا أبو اسامة وابن نمير قال حدثنا عبيد اللّه عن نافع عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم جعل
(1/2689)
للفارس سهمين وللراجل سهما قال الدار قطنى قال أبو بكر النيشابوري هذا عندى
وهم من ابن أبى شيبة لان احمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشير وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا على ما تقدم يعنى ثلثة أسهم للفارس ثم أخرج الدار قطنى عن نعيم حدثنا ابن المبارك عن عبيد اللّه ابن عمر عن نافع عن ابن عمر كما روى ابن أبى شيبة قال ابن الجوزي لعل الوهم من نعيم لان ابن المبارك من اثبت الناس قال ابن همام ونعيم ثقة واخرج الدار قطنى أيضا عن يونس بن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 86
(1/2690)
عبد الأعلى حدثنا ابن وهب عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يسهم للخيل للفارس سهمين وللراجل سهما وتابعه ابن أبى مريم وخالد بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن عمر العمرى ورواه القعنبي عن العمرى بالشك في الفارس أو الفرس ثم أخرج عن حجاج بن منهال حدثنا حمار بن سلمة حدثنا عبيد اللّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم قسم للفارس سهمين وللراجل سهما وخالفه النضر بن محمد بن حماد قال ابن همام وممن روى حديث عبيد اللّه متعارضا الكرخي لكن رواية البيهقي عنه اثبت قال ابن الجوزي عبيد اللّه بن عمر ضعيف وروى الدار قطنى بسنده عن عبد الرحمن بن أمين عن ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقسم للفارس سهمين وللراجل سهما وروى أبو يوسف عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم قسم غنائم بدر للفارس سهمان وللراجل سهم قال أبو يوسف في كتاب الخراج انه كان الفقيه المقدم أبو حنيفة تغمده اللّه برحمته يقول أ للراجل سهم للفارس سهم وقال لا أفضل بهيمة على رجل مسلم ويحتج بما حدثناه عن زكريا بن الحارث عن المنذر بن أبى حمصة الهمداني ان غلاما لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قسم في بعض الشام للفرس سهم وللرجل سهم فرفع ذلك إلى عمر رضى اللّه تعالى عنه فاجازه وكان أبو حنيفة يأخذ بهذا الحديث ويجعل للفرس سهما وللرجل سهما وما جاء من الآثار والأحاديث ان للفرس سهمين وللرجل سهما اكثر من ذلك وأوثق والعامة عليه وليس هذا على وجه التفضيل وما كان ينبغى ان يكون للفرس سهم وللرجل سهم لأنه قد سوى بهيمة برجل مسلم انما هذا على ان يكون عدة الرجل اكثر من عدة الاخر وليرغب الناس في ارتباط الخيل في سبيل اللّه الا ترى ان سهم الفرس يرد على صاحب الفرس ولا يكون للفرس دونه و
(1/2691)
المتطوع وصاحب الديوان في القسمة سواء قال ابن همام إذا تعارض الروايات ترجح النفي بالأصل ويحمل رواية الثلاثة على التنفيل وما ورد في حديث جابر اعطى الفارس منا ثلثة أسهم ونحو ذلك ظاهر في انه ليس الأمر المستمر كذلك والا يقال كان عليه السلام وقضى عليه السلام وحديث أبى كبشة انى جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصهما نقصة اللّه لا يصح كما مر
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 87
مسئله لو كان مع رجل فرسان فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يسهم الا الفرس واحد قال مالك في الموطإ لم اسمع بالقسم الا لفرس واحد وقال أبو يوسف واحمد يسهم لفرسين ولا يسهم لاكثر من فرسين اجماعا والحجة لابى يوسف ما رواه الدار قطنى من حديث بشير بن عمر بن محصن قال أسهم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلّم لفرسي اربعة أسهم ولى سهما فأخذت خمسة أسهم وروى عبد الرزاق أخبرنا ابراهيم بن يحيى السلمى عن مكحول ان الزبير حضر خيبر بفرسين فاعطاه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم خمسة أسهم وهذا منقطع وقال الواقدي في المغازي حدثنا عبد الملك بن يحيى عن عيسى بن عمر قال كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم خمسة أسهم وقال أيضا حدثنى يعقوب بن محمد عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبى صعصعة عن الحارث بن عبد اللّه بن كعب ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم قاد في خيبر ثلثه أفراس لزاز والضرب والسكب وقاد الزبير بن العوام أفراسا وقاد حراس بن الصمت فرسين وقاد البراء بن
(1/2692)
أوس فرسين وقاد أبو عمرة الأنصاري فرسين فاسهم عليه الصلاة والسلام لكل من كان له فرسان اربعة أسهم وسهما له وما كان اكثر من فرسين لم يسهم له وروى ابن الجوزي بسنده عن سعيد بن منصور عن ابن عياش عن الأوزاعي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يسهم للخيل ولا يسهم للرجل فوق فرسين وان كان معه عشرة أفراس وقال قال سعيد بن منصور ثنا فرج بن فضالة ثنا محمد بن الوليد عن الزهري ان عمر بن الخطاب كتب إلى أبى عبيدة بن الجراح ان أسهم للفرس سهمين وللفرسين اربعة أسهم ولصاحبهما سهما فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الاثنين فهو جنائب وقال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثنا ابن يحيى بن سعيد عن الحسن في الرجل يكون في الغزو معه الافراس قال لا يقسم له من الغنيمة لاكثر من فرسين قال وحدثنى محمد بن إسحاق عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول قال لا يقسم لاكثر من فرسين قال صاحب الهداية ما روى حجة لابى يوسف واحمد محمول على التنفيل كما اعطى سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل قلت ما قال صاحب الهداية ان إعطاء سهمين
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 88
لفرس واربعة أسهم لفرسين محمول على التنفيل انما يتصور صحته لو قيل جاز للامام ان يعطى بعض الغانمين فوق سهمه بعد القتال من غير شرط سبق منه والا فلم يروا في شى مما ذكر من الأحاديث انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم شرط ذلك.
(
(1/2693)
مسئلة) إذا لحق المدد في دار الحرب قبل إحراز الغنائم بدار الإسلام بعد انقضاء القتال لا يسهم لهم عند الائمة الثلاثة وعند أبي حنيفة يسهم لهم احتجوا بما رواه ابن أبى شيبة والطحاوي بسند صحيح عن طارق بن شهاب الاخمسى ان أهل بصرة غزوا نهاوند فامدهم أهل الكوفة وعليهم عمار بن ياسر فظهروا فاراد أهل البصرة ان لا يقسموا لاهل الكوفة فقال رجل من بنى تميم وعند الطحاوي من بنى عطارد أيها العبد الأجدع تريد ان تشاركنا في غنائمنا وكانت اذنه جدعت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال عمار خير اذنى سببت ثم كتب إلى عمر فكتب عمران الغنيمة لمن شهد الوقعة واخرج الطبراني الغنيمة لمن شهد الوقعة مرفوعا وموقوفا وقال الصحيح الموقوف وأخرجه ابن عدى من طريق بخترى بن مختار عن عبد الرحمن بن مسعود عن عليّ موقوفا وروى الشافعي من طريق زيد بن عبد اللّه بن قسيط ان أبا بكر بعث عكرمة بن جهل في خمسائة من المسلمين مدد الزياد بن لبيد فذكر القصة وفيها فكتب أبو بكر ان الغنيمة لمن شهد الوقعة لكن في اثر أبى بكر انقطاع وبحديث أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعث ابان بن سعيد بن العاص في سرية قبل نجد فقدم ابان بعد فتح خيبر فلم يسهم له رواه أبو داود وأبو نعيم موصولا والبخاري في صحيحه تعليقا وأجاب الحنفية عن هذا الحديث ان خيبر بعد ما فتحت صارت دار الإسلام فقدومهم بعد الفتح لحوق بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام ولا خلاف في انه من لحق بعد الاحراز لا سهم له في الغنيمة فانهم ملكوها بالاحراز قبل لحوقهم واما اسهامه لابى موسى الأشعري على ما في الصحيحين عنه انه قال وافينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين افتتح خيبر فاسهم لنا ولم يسهم لاحد غاب عن فتح خيبر الا لاهل سفينتنا فقال ابن حبان انما أعطاهم من خمس الخمس واللّه اعلم.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 89
(
(1/2694)
مسئلة) ولا حق لاهل سوق العسكر ولا لسائسة الدواب عند أبى حنيفة رحمه اللّه الا ان يقاتلوا وقال الشافعي يسهم لهم لما مر من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم قد شهدوا الوقعة وقد مر انه لم يصح رفعه بل هو حديث موقوف ومعناه لمن شهد الوقعة على قصد القتال وذلك انما يعرف بأحد أمرين اما بإظهار خروجه للجهاد والتجهيز له لا لغيره واما بحقيقة قتاله ولو كان من شهد الوقعة على عمومه لزم ان يسهم للنساء والأطفال والعبيد أيضا وقد اجمعوا على انه لا سهم لهولاء روى مسلم وأبو داود عن ابن عباس انه سئل عن النساء هل كن يشهدن الحرب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهل كان يضرب لهن سهم فقال كن يشهدن واما ان يضرب لهن سهم فلا وفي رواية لابى داود وقد كان يرضح لهن فان قيل يعارضه حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أسهم لهن كما أسهم للرجال أخرجه أبو داود والنسائي قلنا حشرج مجهول.
(مسئلة) ان أطاق الصبى القتال واجازه الامام يكمل له السهم عند مالك وقال الجمهور لا يسهم له بل يرضخ روى أبو داود من طريق مكحول ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم للنساء والصبيان والخيل وهذا مرسل لو صح فلعل المراد بقوله أسهم اعطى لهم شيئا وهو الرضخ.
(
(1/2695)
مسئلة) اختلفوا في العقار التي استولى عليها المسلمون عنوة فقال الشافعي يجب ان يقسمها الامام بين الغانمين بعد التخميس كالمنقول كما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم خيبر وهى رواية عن احمد لعموم هذه الآية الا ان يطيب انفس الغانمين ويسقطوا حقوقهم فحينئذ يوقفها على المسلمين كما فعل عمر بسواد العراق وقال مالك ليس للامام ان يقسمها بل يصير بنفس الظهور عليها وقفا وهى رواية ثانية عن احمد وقال احمد وهى رواية عن مالك ان الامام مخير بين ان يقسمها على الغانمين بعد التخميس للّه وبين ايقافها على جماعة المسلمين وقال أبو حنيفة الامام مخير بين قسمتها بين الغانمين بعد التخميس للّه وبين اقرار أهلها بالخراج وبين ان يصرفها عنهم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 90
(1/2696)
الى قوم آخرين يضرب عليهم الخراج وليس له ان يقفها والحجة لاحمد حديث سهل بن حشمة قال قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم خيبر نصفين نصف لنوائبه وحاجته ونصف بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما رواه ابن الجوزي وروى الطحاوي عن ابن عباس قال اعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم وعن ابن عمر انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من الزرع وعن جابر قال ما أفاء اللّه خيبر فاقرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما كانوا وجعل بينه وبينهم فبعث عبد اللّه بن رواحة عليهم ثم قال الطحاوي فثبت بذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن قسم خيبر بكمالها لكنه قسم طائفة منها وترك طائفة فلم يقسمها قلت قد ذكرنا في سورة الفتح في قصة فتح خيبر قول ابن إسحاق كانت المقاسم على اموال خيبر على الشق والنطاة والكثيبة كانت الكثيبة في الخمس والشق والنطاة أسهم الغزاة ثمانية عشر سهما النطاة خمسة أسهم والشق ثلثة عشر والوطيح والسلاليم كانت لنوائب المسلمين عامله فيها اليهود بالنصف وكان ابن رواحة يأتيهم كل سنة فيخرصهم فاجلاهم عمر لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم نقركم على ذلك ما شئنا قلت قد جرى الخلاف بين الصحابة في خلافة عمر حين افتتح العراق قال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثنى غير واحد من علماء المدينة قال لما قدم على عمر جيش العراق من قبل سعد بن أبى وقاص شاور اصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم في قسمة الأرضين التي أفاء اللّه على المسلمين من ارض العراق والشام فتكلم قوم فيها وأرادوا ان يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا فقال عمر فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا برأي فقال عبد الرحمن بن عوف فما الرأي بالأرض والعلوج الا مما أفاء اللّه عليهم فقال عمر ما
(1/2697)
هو الا كما تقول ولست ارى ذلك واللّه لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى ان يكون كلا على المسلمين فإذا قسمت ارض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره وان أهل الشام والعراق أكثروا على عمر قالوا تقف ما أفاء اللّه علينا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 91
بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولابناء قوم ولابناء أبنائهم ولم يحضروا فكان لا يزيد على ان يقول هذا رأي قالوا فاستشر قال فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا فاما عبد الرحمن بن عوف فكان رأيه ان يقسم لهم حقوقهم ورأى عثمان وعليّ وطلحة رأى عمر رضى اللّه عنهم أجمعين فارسل إلى عشرة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم واشرافهم فلما اجتمعوا حمد اللّه واثنى عليه بما هو اهله ومستحقه ثم قال انى لم أزعجكم الا لان تشركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم فانى واحد كاحدكم وأنتم اليوم تقرون الحق خالفنى من خالفنى ووافقنى من وافقنى ولست أريد ان تتبعوا الذي هو هواى معكم من اللّه كتاب ينطق بالحق فو اللّه لئن كنت نطقت بامر أريده ما أردت به الا الحق قالوا قد نسمع يا امير المؤمنين قال قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا انى اظلّمهم حقوقهم وانى أعوذ باللّه ان اركب ظلما لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم
(1/2698)
لقد شقيت ولكن رايت انه لم يبق شيء يفتح بعد ارض كسرى وقد غنمنا اللّه أموالهم وأرضيهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا أورثه بين اهله وأخرجت الخمس ووجهته على وجهه وانا في توجيهه ورايت ان احبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فيكون شيئا للمسلمين للمقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم ارايتم هذه الثغور بدلها من رجال يلزمونها ارايتم هذه المدن العظام والشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر بد من ان تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم فمن اين يعطى هولاء إذا قسمت الأرضين والعلوج فقالوا جميعا الرأى رأيك فنعم ما قلت وما رايت ان لم يشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال ويجرى عليهم ما يقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم فقال قد بان لى الأمر فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا له تبعثه إلى أهم ذلك فان له بصرا وعقلا وتجربة فاسرع إليه عمر فولاه مساحة ارض السواد فادت جباية سواد الكوفة قبل ان يموت عمر بعام مائة الف الف والدرهم كانت يومئذ وزن المثقال قال أبو يوسف وحدثنى محمد بن إسحاق عن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 92
(1/2699)
الزهري ان عمر بن الخطاب استشار الناس في السواد حين افتتح فراى عامتهم ان يقسم وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك وكان راى عمران يتركه ولا يقسمه قال اللّهم اكفنى بلا لا ومكثوا في ذلك يومين أو ثلثا أو دون ذلك ثم قال عمر اني قد وجدت حجة قال اللّه عز وجل في كتابه ما أفاء اللّه على رسوله منهم إلى قوله والذين جاؤا من بعدهم الآيات من سورة الحشر قال فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم فقد صار هذا الفيء على هؤلاء جميعا فكيف تقسم هؤلاء وتدع من يخلف بغير قسم فاجمع على تركه وجمع خراجه قال أبو يوسف وحدثنى الليث بن الليث بن سعد عن حبيب بن أبى ثابت ان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وجماعة المسلمين أرادوا عمر بن الخطاب ان يقسم الشام كما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيبر وانه كان أشد الناس في ذلك الزبير بن العوام وبلال بن رباح فقال عمر اذن اترك من بعدكم من المسلمين لهم ثم قال اللّهم اكفنى بلالا وأصحابه قال ورأى المسلمون ان الطاعون الذي أصابهم لعمواس كان من دعوة عمر قال وتركهم عمر ذمة يؤدون الخراج إلى المسلمين قلت فثبت انعقاد الإجماع على جواز ترك الأرض في أيدي أهلها يؤدون الخراج فان قيل كيف يجوز نسخ الآية بالإجماع والإجماع لا يكون ناسخا ولا منسوخا وما استدل به عمر من قوله تعالى ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى ليس بحجة لأنه فيما قال اللّه تعالى ما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب وكلا منا فيما اوجف عليه المسلمون خيلا وركابا قلنا أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يجتمع على الضلالة فاجماعهم على هذا يدل على ان قوله تعالى ما غنمتم من شيء ليس على عمومه كيف وقد كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الصفي وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السلب للقاتل ولم يخمس السلب وجاز ان يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا ما وجدوه من الطعام عن محمد
(1/2700)
ابن أبى المجالد عن عبد اللّه بن أبى اوفى قال قلت هل كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يجيئ فياخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف وعن ابن عمران جيشا غنموا في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يوخذ منهم الخمس وعن القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض اصحاب النبي فسير المظهري ، ج 4 ، ص : 93
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال كنا ناكل الجزور في الغزو ولا نقسمه حتى كنا لنرجع إلى رجالنا وأخرجتنا منه مملوة روى الأحاديث الثلاثة أبو داود.
(
(1/2701)
فائدة) حمل اصحاب الشافعي ما فعل عمر في سواد العراق والشام على انه وقف الأرض برضاء الغانمين وإسقاطهم حقوق أنفسهم قلنا لو كان كذلك لاخرج منها اولا خمس اللّه تعالى إذ ليس الخمس للامام ولا للغانمين ولا يسقط باسقاطهم وأيضا وضع عمر على جريب الكرم شيئا معلوما وعلى جريب الحنطة شيئا معلوما فلا يجوز ان يكون الأرض مملوكة للمسلمين موقوفة والا يلزم بيع المعدوم وبيع ما ليس عندك بل يظهر بهذا ان الأرض مملوكة للكافرين وضع عليهم خراج الأرض كما وضع عليهم الجزية وهم أحرار ولا يجوز ان يكونوا عبيدا للمسلمين ويكون الجزية ضريبة للمسلمين عليهم بعلة الملك لأنه أهل نسائهم ومشايخهم وصبيانهم وان كانوا قادرين على الاكتساب اكثر مما يقدر عليه بعض الرجال البالغين فظهر انه ليس بعلة الملك على وجه الضريبة واللّه اعلم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وما عطف على باللّه أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من الملئكة والنصر والآيات المعجزة منها ان اللّه تعالى تحقق ما وعدهم احدى الطائفتين وانه أخبرهم بميلهم إلى العير دون الجيش وانه جاء المطر بحيث كان للمسلمين نعمة وعلى الكافرين نقمة وان امر اللّه تعالى بالملائكة حتى سمعوا أصواتهم حين قالوا اقدم حيزوم ورأوا الرؤوس تتساقط من الكواهل من غير قطع واثر سياط في أبى جهل وانه رمى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم المشركين بالحصباء حتى عميت أبصار الكفار أجمعين وانه قلل المشركين في أعين المسلمين لتشجيعهم وانه أشار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى مصارع المشركين هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فرأى المسلمين ذلك على ما أشار وانه تعالى حقق قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم بعقبة بن أبى معيط ان وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اخبر عمه العباس بما استودع أم الفضل فزالت شبهة العباس في نبوته وان اللّه
(1/2702)
تعالى تحقق وعده للمؤمنين بقوله ان يعلم في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا مما أخذ منكم فاعطى العباس بدل عشرين اوقية عشرين غلاما
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 94
يتجرون بماله وان اللّه سبحانه اطلع نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ايتمار عمير بن وهب وصفوان ابن امية بمكة على قتله فعصم اللّه وجعله سببا لاسلام عمير بن وهب وعاد داعيا إلى الإسلام ومنها انقلاب العرجون سيفا روى ابن سعد عن زيد بن اسلم ويزيد بن رومان وغيرهما والبيهقي وابن عساكر عن عمران عكاشة بن محصن قاتل يوم بدر بسيفه حتى انقطع فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاعطاه جزلا من حطب وقال قاتل بهذا يا عكاشه فلما اخذه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هزه فكان سيفا في يده طويل القامة مديد المتن ابيض الحديدة فقاتل به حتى فتح اللّه على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العيون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى قتل في ايام الورد قتله طلحة بن خويد الأسدي وروى البيهقي عن داود بن الحصين عن رجال من بنى عبد الأشهل عدة قالوا انكسر سيف سلمة بن اسلم بن الحرش يوم بدر فبقى اعزل لا سلاح معه فاعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قضيبا كان في يده من عراجين نخل بنى طابة فقال اضرب به فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم خيبر أبى عبيدة ومنها ما روى البيهقي انه ضرب جيب بن عدى يوم بدر فمال شقه فتفل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولامه ورده فانطبق ومنها ما روى البيهقي عن قتادة ابن النعمان انه أصيب عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته فارادوا ان يقطعوها فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال لا فدعاه به فغمز حدقته براحته فكان لا يدرى أى عينه أصيب ومنها ما روى البيهقي عن رفاعة بن رافع قال لما كان يوم بدر رميت بسهم فقئت عينى فبصق فيها رسول اللّه صلى اللّه
(1/2703)
عليه وآله وسلم ودعا لى فما آذاني منها شيء ومنها ما روى ابن سعد من طريق إسحاق عن عبد اللّه بن نوفل عن أبيه قال اسر نوفل يوم بدر فقال
له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم افد نفسك برماحك التي بجدة قال واللّه ما علم أحد ليعلم ان لى بجدة رماحا بعد اللّه غيرى اشهد انك رسول اللّه ففدى نفسه بها وكانت الف رمح يَوْمَ الْفُرْقانِ أى يوم بدر فرق اللّه فيه بين الحق والباطل حيث أعز اللّه الإسلام ودفع الكفر واهله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ حزب اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 95
(1/2704)
و حزب الشيطان وكان يوم الجمعة بسبع عشرة مضت من رمضان بعد ستة عشر شهرا من الهجرة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (31) إِذْ أَنْتُمْ بدل من يوم الفرقان يعنى إذ كنتم أيها المسلمون نازلين بِالْعُدْوَةِ أى شط الوادي الدُّنْيا تأنيث الأدنى يعنى العدوة الشامية القريبة إلى المدينة وَهُمْ يعنى المشركين بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى تأنيث الأقصى وكان قياسه قصببا بقلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو اكثر استعمالا من القصيا يعنى العدوة اليمانية البعيدة من المدينة قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر العين فيهما والباقون بضمها فيهما وهما لغتان وَالرَّكْبُ يعنى العير يريد أبا سفيان وأصحابه أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر على ثلثة أميال من بدر منصوب على الظرف مرفوع المحل على انه خبر مبتدأ والجملة حال من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة وتوطين نفوسهم على ان لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم وضعف شان المسلمين واستبعاد غلبتهم عادة ولذا ذكر مركز الفريقين فان العدوة الدنيا كانت رخوة تسوح فيها الأرجل ولا يمشى فيها الا بتعب ولم يكن بها ماء بخلاف العدوة القصوى وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أيها المؤمنون أنتم مع الكفار الاجتماع للقتال ثم علمتم قلتكم وكثرة عدوكم وقوتهم لَاخْتَلَفْتُمْ أنتم فِي الْمِيعادِ هيبة عنهم ويأسا من الظفر عليهم وَلكِنْ اللّه تعالى جمعكم من غير ميعاد حيث خرجتم للعير وخرج الكفار ليمنعوا عيرهم فالتقوا على غير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ أى صار مَفْعُولًا 5 من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وقوله لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل من ليقضى اللّه أو متعلق بقوله مفعولا والمعنى ليموت من مات منهم
(1/2705)
عن بينة راها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه ويعيش من عاش منهم عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة فان وقعة بدر من الآيات الواضحات وقال محمد بن إسحاق معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويومن من أمن على مثل ذلك استعارة للهلاك
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 96
و الحيوة للكفر والإسلام يعنى من لهذا حاله في علم اللّه وقضائه قرأ ابن كثير برواية البزي ونافع وأبو بكر ويعقوب حيى بفك الإدغام حملا على المستقبل وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (32) بكفر من كفر وعقابه وايمان من أمن وثوابه ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الامرين على القول والاعتقاد.
(1/2706)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدر با ذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بعليم أى يعلم المصالح ان يقللهم في عينك في رؤياك حتى تخير به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم وذلك ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لاصحابه يوم بدر في أول الأمر لا تقاتلوا حتى أو ذنكم وان كثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيف حتى يغشوكم فنام في العريش نومة فقال أبو بكر يا رسول اللّه قد دنا القوم وقد مالوا منا فاستيقظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد أراه اللّه عز وجل إياهم في منامه قليلا فاخبر بذلك أصحابه وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ من قومه انتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال ابشر يا أبا بكر أتاك نصر اللّه هذا جبرئيل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع قال الحسن معنى في منامك في عينك لان العين موضع النومة وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ امر القتال وتفرقت آرائكم في الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أى سلمكم عن المخالفة والفشل إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (33) يعلم ما يكون فيها وما يتغيرا حوالها وقال ابن عباس علم ما في صدوركم من الحب للّه.
(1/2707)
وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا قال ابن مسعود لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبى أ تراهم تسعين قال أراهم مائة فاسرنا رجلا منهم فقلناكم كنتم قال الفا وَيُقَلِّلُكُمْ يا معشر المؤمنين فِي أَعْيُنِهِمْ كيلا يهربوا قال أبو جهل ان محمدا وأصحابه أكلة جزور روى ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن جريج ان أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذا واربطوهم في الجبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزل انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة قال وذلك قبل التحام الحرب فلما التحم أراهم إياهم مثليهم رأى العين كما في ال عمران لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 97
كرره لاختلاف الفعل المعلل به أو لان المراد بالأمر ثمه الالتقاء على الوجه المحكي وهاهنا إعزاز الإسلام واهله وإذلال الشرك وحزبه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (34) يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ للمحاربة فِئَةً يعنى جماعة كافرة ولم يصفها اشعار ابان المؤمنين لا يقاتلون الا الكفار فَاثْبُتُوا لقاتلهم فان الفرار من الزحف كبيرة كما ورد في الصحاح من الأحاديث وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً داعين له بالنصر مستظهرين بذكره مترقبين لنصره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة وفيه تنبيه على ان العبد ينبغى ان لا يشغله شيء عن ذكر اللّه وان يلتجى إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشر أشره فارغ البال واثقا بان لطفه لا ينفك عن عبده المؤمن في شيء من الأحوال.
(1/2708)
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قتال أعدائه وإعزاز دينه وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراء كما فعلتم يوم بدر في أول الأمر ويوم أحد فَتَفْشَلُوا أى تجبنوا منصوب بإضمار ان جواب للنهى وقيل عطف عليه ولذلك قرئ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الجزم والريح استعير للدولة ونفاذ الأمر وجريانه على المراد وكذا قال الأخفش كانها في تمشى أمرها ونفاذه مشبهة بالريح في هبوبها ونفوذها وقال السدى جرأتكم وقال مقاتل حدتكم وقال النصر بن شميل قوتكم وقال قتادة وابن زيد المراد به الحقيقة قالا لم يكن النصر قط الا بريح يبعثها اللّه يصرف وجوه العدو وكذا أخرج ابن أبى حاتم عن أبى زيد ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم نصرت بالصبا وأهلك عاد بالدبور متفق عليه من حديث ابن عباس وعن النعمان بن مقرن قال شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر رواه ابن أبى شيبة وَاصْبِرُوا على الموت والجراح إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (36) بالنصر والاثابة روى البخاري في صحيحه عن سالم أبى النصر مولى عمرو بن عبد اللّه وكان كاتبا له قال كتب عبد اللّه بن أبى اوفى كتابا فقراته ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية فإذا لقيتم فاصبروا واعلموا ان الجنة تحت
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 98
(1/2709)
ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ولما امر اللّه سبحانه بالجهاد والصبر عليه امر بإخلاص النية إذ لا عبرة بالأعمال الا بالنيات عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ان اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم رواه مسلم وفي الصحيحين في حديث ابن عباس قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن جهاد ونية فقال عز وجل.
وَلا تَكُونُوا في المجاهدة والقتال كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعنى أهل مكة حين خرجوا منها الحماية العير بَطَراً أى فخرا أو أشرا قال الزجّاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها قيل البطر ان يشغله سكر النعمة عن شكرها وَرِئاءَ النَّاسِ وهو اظهار الجميل ليرى وابطان القبيح يعنى خرجوا متكبرين بكثرة العدد والمال ورياء الناس ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ويعترفوا لعظمتهم وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الايمان به وبرسوله وذلك انه لما راى أبو سفيان انه احرز عيره أرسل إلى قريش انكم خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها اللّه فارجعوا فقال أبو جهل واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم بها ثلثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القينان ويسمع بها العرب ولا يزالون يهابوننا ابدا فوافوها فسقوا كاس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينان فنهى اللّه سبحانه ان يكون المؤمنين مثلهم بطرين مرائين وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه وموارزة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
(1/2710)
وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (44) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مقدر باذكر أَعْمالَهُمْ يعنى عداوة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وارادة قتله وقتاله وقد ذكرنا في القصة حضور الشيطان عند قريش في دار الندوة وحين أرادوا المسير فذكرت التي بينهم وبين بنى بكر من الحرب جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وَقالَ لهم لا غالِبَ لَكُمُ ولكم خبر لا يعنى لا غالب كائن لكم وليس صلته والا انتصب كقولك لا ضاربا زيدا عندك الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ لكثرة عددكم وما لكم وأوهمهم ان ما يفعلون قربات مجيرة لهم حتى قالوا اللهم انصر اهدى الفئتين وأفضل الدينين وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ من كنانة فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 99
(1/2711)
المسلمون والمشركون وراى إبليس الملئكة نزلوا من السماء وعلم انه لا طاقة له بهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ولى مدبرا هاربا روى الطبراني عن رفاعة بن رافع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال امر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف وكان جبرئيل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته في صوره رجال من بنى مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وانى جار لكم من الناس واقبل جبرئيل إلى إبليس فلما راه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبر أو شيعته فقال الرجل يا سراقة الست تزعم انك جار لنا وَقالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (45) فذلك حين رأى الملئكة فتشبث به الحارث بن هشام واسلم بعد ذلك وهو يزعم انه سراقة لما سمع كلامه فضرب الشيطان في صدر الحارث فسقط الحارث وانطلق إبليس لا يلوى حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال يا رب وعدك الذي وعدتني اللهم انى اسألك نظرتك إياي وخاف أى يخلص إليه القتل فقال أبو جهل يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة فانه كان على ميعاد من محمد ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة فانهم قد عجلوا فو اللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال ولا الفين رجلا منكم قتل رجلا منهم ولكن خذوهم أخذا نعرفهم سوء صنيعهم ويروى انهم راوا سراقة بمكة بعد ذلك فقالوا له يا سراقة اخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة فقال واللّه ما علمت شيئا من أمركم حتى كانت هزيمتكم وما شهدت وعلمت فما صدقوه حتى اسلموا وسمعوا ما انزل اللّه فيه فعلموا انه كان إبليس تمثل لهم قال البغوي قال قتادة قال إبليس انى ارى ما لا ترون وصدق وقال انى أخاف اللّه وكذب واللّه ما
(1/2712)
به مخافة اللّه ولكن علم انه لا قوة به ولا منعة فاوردهم وأسلمهم وذلك عادة عدو اللّه لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقال عطاء معناه انى أخاف اللّه ان يهلكنى فيمن يهلك وقال الكلبي خاف ان يأخذه جبرئيل ويعرفهم حاله فلا يطيعوه وقيل انى أخاف اللّه أى اعلم صدق وعده لاوليائه لأنه كان على ثقة من
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 100
امر اللّه وقيل معناه أخاف اللّه عليكم واللّه شديد العقاب وقيل انقطع الكلام عند قوله انى أخاف اللّه ثم قال اللّه شديد العقاب عن طلحة بن عبيد اللّه بن كربز رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال ما رأى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا ادحر ولا احقر ولا اغيظ منه يوم عرفة وما ذلك الا لما يرى من تنزل رحمة اللّه وتجاوز اللّه عن الذنوب العظام الا ما كان يوم بدر فقيل وما راى من يوم بدر قال اما انه قد راى جبرئيل عليه السلام وهو يزع الملئكة رواه مالك مرسلا والبغوي في شرح السنة والمصابيح والمعالم واذكر.
(1/2713)
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ بالمدينة حين خرج المسلمون وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وسمعوا خروج أبى جهل وغيره في زهاء الف لقتالهم اغتروا بدينهم حيث خرجوا لمقاتلة من لا يدلهم بهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى الذين لم يطمئنوا إلى الايمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة وقيل هم المشركون وقيل المنافقون والعطف لتغائر الوصفين وقال البغوي هؤلاء يعنى الذين في قلوبهم مرض قوم كانوا بمكة مستضعفين قد اسلموا وحبسهم اقربائهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا غَرَّ هؤُلاءِ يعنى المؤمنين دِينُهُمْ فقتلوا جميعا منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعلى بن امية بن خلف الحجمى والعاص بن منبه بن الحجاج وروى الطبراني عن أبى هريرة بسند ضعيف انه قال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين غر هؤلاء دينهم فقال اللّه سبحانه جوابا لهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذلّ من استجار به وان قل حَكِيمٌ (49) يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه ففعل بالكفار ما لم يكونوا يحتسبون ولما ذكر اللّه سبحانه سوء عاقبة الكفار في الدنيا بالقتل والهزيمة اردفه بما صنع بهم بعد الموت فقال.
وَلَوْ تَرى يا محمد يعنى ولو رأيت فان لو نقيضه ان تجعل المضارع ماضيا إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ببدر وغير ذلك ظرف لترى والمفعول محذوف يعنى ولو ترى الكفرة أو حالهم حين يتوفهم الْمَلائِكَةُ فاعل يتوفى يدل عليه قرأة ابن عامر تتوفى بالتاء وجاز على قرأة الجمهور ان يكون فاعل يتوفى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 101
(1/2714)
ضمير اللّه تعالى والملئكة مبتدأ خبره يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ والجملة حال من الذين كفروا واستغنى فيه بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملئكة أو منها لاشتماله على الضميرين وَأَدْبارَهُمْ ظهورهم بسياط النار ومقامع من حديد أراد تعميم الضرب أى يضربون ما اقبل منهم وما أدبر وقال سعيد بن جبير ومجاهد يريد بادبارهم أستاههم ولكن اللّه حيى يكنى وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) عطف على يضربون بإضمار القول أى يقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب النار المؤبدة فعلى هذا بيان لعذابهم في عالم البرزخ وقال ابن عباس كان المشركون ببدر إذا اقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملئكة وجوههم بالسيوف وإذا ولوا أدركتهم الملئكة وضربوا ادبارهم فقتلوا من قتل منهم وكانت تقول الملئكة ذوقوا عذاب الحريق قيل كان مع الملئكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم فذلك قوله تعالى ذوقوا عذاب الحريق وقال ابن عباس يقولون لهم ذلك بعد الموت وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فزيعا مهولا.
ذلِكَ الذي وقع لكم في الدنيا والاخرة كائن بِما أى بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أى كسبتم من الكفر والمعاصي عبر باليدين لان عامة الافعال يزاول بهما وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) عطف على ما كسبت للدلالة على ان سببية مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لامكن ان يعذبهم بغير ذنوبهم لا ان لا يعذبهم بذنوبهم فان ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا بل هو رحمة ومغفرة فلا ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام للتكثير لاجل العبيد وهذا بقية كلام الملئكة للكفار.
(1/2715)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خبر مبتدأ محذوف يعنى دآب هؤلاء الكفار يعنى عملهم وطريقهم الذي دابوا فيه أى داموا عليه كدأب ال فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدابهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بالعذاب بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاء إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) لا يغلبه شىء ولا يدفع عذابه شيء.
ذلِكَ الذي حل بهم بِأَنَّ أى بسبب ان اللَّهَ لَمْ يَكُ أصله يكون حذف الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ مبدلا إياها بالنعمة كما بدل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 102
(1/2716)
نعمته باهل مكة من الا من والرزق والعزة وكف اصحاب الفيل عنهم بالقتل والاسر يوم بدر حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أى يبدلوا ما بهم من حال إلى حال أسوأ منه كتغير قريش حالهم من اتباع دين إسماعيل وملة ابراهيم وصلة الرحم وسدانة البيت واطعام الضيف وسقاية الحاج بمعاداة الرسول صلى اللّه عليه واله وسلم من معه وصدهم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا ان يبلغ محله والسعى في اراقة دماء من قال لا اله الا اللّه والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة قال اصحاب التاريخ ان كلاب بن مرة ابن كعب بن لوى جد عبد مناف جد جد رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ومن قبل كلاب كانوا على دين اسمعيل عليه السلام كابرا عن كابر وكان كل واحد منه ومن ابائه وصيا لابيه قائما مقامه في الرياسة بالوصية عن أبيه وموسوما بالخير والجود وما ظهرت عبادة الأصنام وتبديل دين ابراهيم عليه السلام في أولاد اسمعيل الا في زمن قصى بن كلاب وكان كعب بن لوى أول من جمع العروبة وكانت تجمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ويعلمهم بانه ولده ويأمرهم باتباعه والايمان به وينشد أبياتا منها قوله يا ليتنى شاهدا فحواى دعوته إذا قريش يبغى الحق خذلانا وكان قصى يصنع طعاما كثيرا للحاج ايام منى وعرفات وهذه هى الرمادة ويصنع حياضا من آدم فيسقى فيها من المياه التي بمكة ومنى وعرفات ويقال لها السقاية يجرى ذلك بامره في الجاهلية حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام على ذلك وأحدث قصى وقود النار بالمزدلفة حتى يريها من دفع من عرفة ولا يضل الطريق ولم يزل ذلك الوقود وكانت النار توقد بالمزدلفة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وابى بكر وعمر وعثمان وأول من غير دين اسمعيل وعبد الأصنام وسيب السوائب عمرو بن لحى الخزاعي قال السدى نعمة
(1/2717)
اللّه محمد صلى اللّه عليه واله وسلم أنعم اللّه تعالى على قريش واهل مكة فكذبوه وكفروا به فنقله اللّه إلى الأنصار وقيل لم يكن لاهل مكة وال فرعون حالة مرضية لكنهم تغيروا الحال المسخوطة إلى أسخط منها فانهم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة الأصنام وبعد البعثة كذبوا الرسول وسعوا في قتله وصدوا عن سبيل اللّه فغيروا حالهم إلى أسوأ مما كانوا عليه فغير اللّه نعمة الامهال بتعجيل العذاب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 103
في الدنيا وليس السبب عدم تغيّر اللّه ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جرى عادة اللّه على تغييره نعمائه بالنقمات إذا غيروا حالهم وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون عَلِيمٌ (53) بما يفعلون.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فيه زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أهلكنا بعضهم بالغرق وبعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم بالريح وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ كذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف لما كذبوا بايات ربهم وكرر اللّه سبحانه قوله كداب ال فرعون إلخ للتاكيد وقيل الأول بسببية الكفر والاخذ به والثاني بسببية التغير في النعمة بسبب تغيرهم ما بانفسهم أو لان الأول الاخذ بالذنوب بلا بيان وهاهنا بين انه الهلاك والاستيصال ووَ كُلٌّ من الأولين والآخرين كانُوا ظالِمِينَ (54) أنفسهم بالكفر والمعاصي.
(1/2718)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أصروا على الكفر ورسخوا فيه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) احترز به عن الذين كفروا ثم أمنوا وحسن إسلامهم أو هو اخبار عن قوم طبعوا على الكفر بانهم لا يؤمنون والفاء للعطف والتنبيه على ان تحقق المعطوف عليه يستدعى تحقق المعطوف يعنى الذين كفروا واستقر في علم اللّه تعالى كفرهم فهم لا يومنون وهذا عام يشتمل كل من يموت على الكفر واخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال نزلت ان شر الدواب عند اللّه الذين كفروا الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن التابوت وقوله تعالى.
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من الذين كفروا اما بدل البعض للتخصيص بذمهم واما بدل الكل على رواية سعيد بن جبير والمعنى عاهدتهم وكلمة من لتضمن المعاهدة معنى الاخذ يعنى أخذت منهم العهد ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عاهدتهم وهم بنو قريظة كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهود وعاهدهم واشترط لهم وعليهم واقرهم على دينهم وأموالهم لما امتنعوا عن الإسلام كذا قال ابن إسحاق وذكر نسخة الكتاب نحو ورقتين ثم هم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى اللّه عليه واله وسلم وأصحابه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 104
(1/2719)
ثم قالوا نسينا واخطأنا فعاهدهم ثانيا فنقضوا العهد ومال الكفار على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) اللّه حيث يكفرون برسوله بعد ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم وينقضون العهود منه كل مرة روى عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم انه قال لليهود معاذ بن جبل وبشر بن البرام وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا اللّه واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبرون انه مبعوث وتصفون بصفته جعلهم اللّه تعالى شر الدواب لان شر الناس بل شر الخلائق الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرون الناكثون العهود فهم شر الدواب.
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ تدركنهم فِي الْحَرْبِ ناسرتهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ اصل التشريد التفريق على اضطراب قال ابن عباس معناه فنكل بهم من ورائهم يعنى افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل تفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن يقال شردت بفلان أى فعلت به فعلا شرد غيره ان يفعل فعله ومن هاهنا لما أمكن اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه واله وسلم على بنى قريظه قتل رجالهم كل من أنبت وسبى نسائهم وذراريهم وقسم أموالهم روى الطبراني عن اسلم الأنصاري قال جعلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم على أسارى بنى قريظة فكنت انظر إلى فرج الغلام فان رايته أنبت ضربت عنقه لَعَلَّهُمْ أى لعل من خلفهم يَذَّكَّرُونَ (57) يتذكرون ويتعظون فلا ينقضون العهد.
(1/2720)
وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً أى نقض عهد يظهر لك منهم اثار الغدر فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أى اطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ أى على عدل وطريق قصد أو على سواء منك وهم في العلم بنقض العهد يعنى أعلمهم قبل الحرب انك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى لا يكون خيانة منك روى أبو الشيخ عن ابن شهاب قال دخل جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقال قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فاخرج فان اللّه قد اذن لك في قريظة وانزل فيهم واما تخافن من قوم خيانة الآية قلت وذلك بعد غزوة الأحزاب وقال الحافظ محمد يوسف الصالحي في سبيل الرشاد كانت قينقاع أول
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 105
(1/2721)
يهود نقضوا العهد وأظهروا البغي والحسد وقطعوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم من العهد فبينما هم على ما هم من اظهار العداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب يجلب لها قناعها بسوق بنى قينقاع وجلست إلى صائغ بها لحلى فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فلم تفعل فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها من ورائها فخله بشوكة وهى لا تشعر فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ونبذوا العهد واستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود وغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع وانزل اللّه سبحانه واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ان اللّه لا يحب الخائنين فقال صلى اللّه عليه واله وسلم انما أخاف من بنى قينقاع فسار إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بهذه الآية وحمل لواه حمزة بن عبد المطلب واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر فتحصنوا في حصنهم فحاصرهم أشد الحصار خمسة عشر ليلة حتى قذف اللّه في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم على ان لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أموالهم وان لهم النساء والذرية وأمرهم ان يجلوا من المدينة فخرجوا بعد ثلث فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم صفيه والخمس وقسم اربعة أخماسه على أصحابه وكان أول خمس بعد بدر إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (59) روى البغوي بسنده عن رجل من حمير قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس وهو يقول اللّه اكبر اللّه اكبر وفاء لا غدر فإذا عمرو بن عنبسة فارسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقده ولا يحلها حتى ينقضى أمدها أو ينبذ
(1/2722)
إليهم عهدهم على سواء فرجع معاوية.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا قرأ حفص وابن عامر وحمزة لا يحسبن بالياء التحتانية على ان الفاعل الموصول والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار أو الفاعل ضمير من خلفهم وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على الخطاب ومفعولاه الذين كفروا سبقوا يعنى لا تحسبنهم سابقين فائتين من عذابنا قال البغوي
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 106
نزلت الآية في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) قرأ ابن عامر بفتح الالف والمعنى لانهم لا يعجزون وقيل لا زائدة والمعنى لا يحسبن الذين كفروا انهم يعجزون وسبقوا حينئذ حال بمعنى سابقين أى مفلتين وقرأ الجمهور بكسر الالف على الابتداء.
(1/2723)
وَ أَعِدُّوا أيها المؤمنون لَهُمْ أى لنا قضى العهد أو للكفار مَا اسْتَطَعْتُمْ إعدادها والاعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة مِنْ قُوَّةٍ أى أسباب وآلات واعمال يقويكم على حربهم من الخيل والسلاح والمصارعة ونحو ذلك واللهو بالرمي والبندقة وغير ذلك ومنه جمع المال عدة للجهاد وقيل هى الحصون عن عقبة بن عامر يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وهو على المنبر يقول واعدوا لهم ما استطعتم من قوة الا ان القوة الرمي الا ان القوة الرمي الا ان القوة الرمي رواه مسلم وعنه قال ستفتح عليكم الروم ويكفيكم اللّه فلا يعجز أحدكم ان يلهو باسهمه رواه مسلم وعن أبى نجيح السلمى قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول من بلغ بسهم في سبيل اللّه فهو له درجة في الجنة ومن رمى بسهم في سبيل اللّه فهو له عدل محرر رواه النسائي وروى أبو داود الفصل الأول وروى الترمذي الفصل الثاني وزاد من شاب شيبة في سبيل اللّه كانت له نورا يوم القيامة وروى البيهقي في شعب الايمان الفصول الثلاثة غير انه قال من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة وعن عقبة بن عامر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول من علم الرمي ثم تركها فليس منا أو قد عصى رواه مسلم وعن أبى أسيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل رواه البخاري وعن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول ان اللّه تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله فارموا واركبوا وان ترموا أحب إلى من ان تركبوا كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه بفرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق رواه الترمذي وابن ماجة وزاد أبو داود والدارمي ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة
(1/2724)
عنه فانه نعمة تركها أو قال كفرها وفي رواية للبغوى ان اللّه يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلثة صانعه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 107
و الممد به والرامي به في سبيل اللّه وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يعنى ربط الخيل واقتناءها للغزو فهو مصدر سمى به قال البيضاوي هو اسم للخيل الذي يربط في سبيل اللّه مصدر سمى به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا أو فعال بمعنى مفعول أو جمع ربيط كفصيل وفصال وعطفها على القوة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملئكة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم البركة في نواصى الخيل متفق عليه وعن جرير بن عبد اللّه قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يلوى ناصية فرس بإصبعه وهو يقول الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الاجر والغنيمة رواه مسلم ورواه البغوي من طريق البخاري من حديث عروة البارقي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم من احتبس فرسا في سبيل اللّه ايمانا باللّه وتصديقا بوعده فان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة رواه البخاري وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال الخيل ثلثة هى لرجل وزر ولرجل ستر ولرجل اجر فأما التي هى له وزر فرجل ربطها رياء وفخر أو نواء على أهل الإسلام فهى له وزر وأما التي هى له ستر فرجل ربطها في سبيل اللّه ثم لم ينس حق اللّه في ظهورها ولا في رقابها فهى له ستر واما التي هى له اجر فرجل ربطها في سبيل اللّه لاهل الإسلام في مرج « 1 » وروضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء الا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ولا يقطع طولها « 2 » فاستنت « 3 » شرفا أو شرفين الا كتب له عدد اثارها وأرواثها حسنات ولا مر بها صاحبها على هر فشربت منه ويريد ان يسقيها الا كتب اللّه له عدد ما شربت حسنات رواه مسلم وفي رواية بلغوى في
(1/2725)
الصنف الثاني رجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس
حق اللّه في رقابها ولا ظهورها فهى لذلك ستر وعن أبى وهب الجشمي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ارتبطوا الخيل وامسحوا لنواصيها واعجازها أو قال اكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار رواه أبو داود والنسائي تُرْهِبُونَ بِهِ أى تخوفون به وعن يعقوب ترهبون
_________
(1) المرج الأرض الواسعة ذات نبات كثير تمرج فيه الدواب أى يخلى تسرح مختلطة واصل المرج الاختلاط 12 نهاية
(2) الطول الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في الوتد أو غيره والطرف الاخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب بوجهه 12
(3) أسنتت شرفا أو شرفين أى عدت شوطا أو شوطين واشرف العلو وإمكان المرتفع 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 108
(1/2726)
بالتشديد والضمير لما استطعتم أو للاعداد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الاضافة للعهد يعنى كفار مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أى من غير أهل مكة من الكفار وقال مجاهد ومقاتل هم بنو قريظة وقال السدى هم أهل فارس وقال ابن زيد والحسن هم المنافقون لا تَعْلَمُونَهُمُ لانهم معكم يقولون لا اله الا اللّه وقيل هم كفار الجن أخرجه أبو الشيخ من طريق أبى المهدى عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم واخرج الطبراني مثله من حديث يزيد بن عبد اللّه بن غريب عن أبيه عن جده مرفوعا اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يوفر لكم جزاؤه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) لا ينقص أجوركم عن زيد بن خالد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف في اهله فقد غزا متفق عليه وعن أبى مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لك بها يوم القيمة سبعمائة ناقة كلها مخطومة رواه مسلم وعن انس عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال جاهدوا المشركين باموالكم وأنفسكم والسنتكم رواه أبو داود والنسائي والدارمي وعن خزيم بن فاتك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم من أنفق في سبيل اللّه كتب له بسبعمائة ضعف رواه الترمذي والنسائي وعن عبد اللّه بن عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال للغازى اجره وللجاعل اجره واجر الغازي رواه أبو داود وعن علىّ وابى الدرداء وابى هريرة وابى امامة وعبد اللّه بن عمرو وجابر ابن عبد اللّه وعمران بن حصين رضى اللّه عنهم أجمعين كلهم يحدث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم انه قال من أرسل نفقة في سبيل اللّه واقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة دراهم ومن غزا بنفسه في سبيل اللّه وأنفق في
(1/2727)
وجهه فله بكل درهم سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الآية وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ رواه ابن ماجة وعن عبد الرحمن ابن حباب قال شهدت النبي صلى اللّه عليه واله وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول اللّه علىّ مائة بعير باحلاسها « 1 » وأقتابها « 2 » في سبيل اللّه ثم حضّ على الجيش فقال
_________
(1) يعنى الاكسية التي تلى ظهر البعير 12
(2) القتب للجمل كالاكاف لغيره 12 -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 109
عثمان فقال علىّ مأتا بعير باحلاسها وأقتابها في سبيل اللّه فانا رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذا ما على عثمان ما عمل بعد هذا رواه الترمذي وعن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة نشرها في حجره فرأيت النبي صلى اللّه عليه واله وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين رواه احمد.
(1/2728)
وَ إِنْ جَنَحُوا أى مالوا يعنى الكفار ومنه الجناح ويعدى باللام والى لِلسَّلْمِ أى للصلح قرأ أبو بكر بكسر السين والباقون بالفتح فَاجْنَحْ لَها أى مل إليها وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضه وهى الحرب قال الحسن وقتادة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقال البيضاوي الآية مخصوصة باهل الكتاب لا تصالها بقصتهم قلت لا وجه لتخصيصها باهل الكتاب ولا بالقول بكونها منسوخة بل الأمر للاباحة والصلح جائز مشروع ان رائ الامام فيه مصلحة وقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ليس على عمومه بل خص منه أهل الذمة وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أى ثق به ولا تخف من ابطانهم خداعا فيه فان اللّه يعصم من يتوكل عليه من مكر الأعداء ويحيفه بهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (61) بنياتهم.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح ليستعدوا لك أو يغدروا أو يمكروا بك في الصلح فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فحسبك اللّه وكافيك لدفع خداعهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) جميعا.
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بعد ما كان بين جماعة منهم اعنى الأوس والخزرج من العداوة والضغينة والشر والفساد كما ذكرنا في سورة ال عمران في تفسير قوله تعالى إذ كنتم اعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخوانا لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يعنى كانت العداوة بينهم بمرتبة لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض جميعا من الأموال لم يقدر على الالفة والإصلاح وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 110
فان القلوب كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء إِنَّهُ عَزِيزٌ تام القدرة والغلبة لا يمكن تخلف مراده حَكِيمٌ (63) يعلم انه كيف ينبغى ان يفعل ما يريده.
(1/2729)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كافيك وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (63) قال اكثر المفسرين محله الجر عطف على الكاف على مذهب الكوفيين أو النصب على انه المفعول معه كقول الشاعر حسبك والضحاك سيف مهند والمعنى حسبك وحسب من اتبعك اللّه وهذا بعيد لفظا قريب معنى وقال بعض المفسرين محله الرفع عطفا على اسم اللّه تعالى يعنى حسبك اللّه ومتبعوك من المؤمنين وهذا قريب لفظا بعيد معنى لكن يؤيده ما رواه ابن أبى حاتم بسند صحيح عن سعيد قال لما اسلم مع النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ثلث وثلثون رجلا وست نسوة ثم اسلم عمر نزلت هذه الآية واخرج أبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال لما اسلم عمر انزل اللّه في إسلامه حسبك اللّه الآية واخرج الطبراني وغيره من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال اسلم مع النبي صلى اللّه عليه واله وسلم تسع وثلثون رجلا وامرأة ثم ان عمر اسلم فصاروا أربعين فنزل يايها النبي حسبك اللّه الآية وروى البزار بسند ضعيف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال لما اسلم عمر قال المشركون قد انتصف القوم منا اليوم وانزل اللّه هذه الآية هذه الأحاديث تدل على ان الآية مكية وسياق الكلام يقتضى كونها مدنية فان السورة نزلت بعد غزوة بدر.
(1/2730)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أى بالغ في حثهم عليه واصل الحرض ان ينهكه المرض حتى يشرفه على الهلاك كان المبالغ في الحث على الأمر يجعل المأمور عاجزا مضطرا إلى فعله كما يجعل المرض عاجزا مضطرا إلى الهلاك إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ رجلا صابِرُونَ على القتال محتسبون يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من عدوهم ويقهروهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ قرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية مِائَةٌ صابرة محتسبة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) يعنى ان المشركين يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب جاهلين باللّه واليوم الاخر فلا يثبتون
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 111
إذا اصبرتم على القتال لطلب الثواب والدرجات العلى فانهم يخافون الموت وهذا خبر بمعنى الأمر بمصابرة الواحد في مقابلة العشرة ووعد بانهم ان صبروا غلبوا بعون اللّه وتائيده وكان هذا يوم بدر فرض اللّه تعالى على رجل واحد قتال عشرة من الكفار أخرج إسحاق ابن راهويه في مسنده عن ابن عباس قال لما افترض اللّه عليهم ان يقاتل الواحد عشرة ثقل ذلك عليهم وشق فوضع اللّه عنهم وانزل.
(1/2731)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً في البدن وقيل في البصيرة وكانوا متفاوتين فيها قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بالضم وهما لغتان وقرأ أبو جعفر ضعفاء بفتح العين والمد والباقون بسكون العين فَإِنْ يَكُنْ قرأ الكوفيون بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفار وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ صابرة يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ أى بإرادته فرد الأمر من العشرة إلى اثنين فان كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم الفرار وقال سفيان قال شيرمة وارى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مثل هذا قيل كان فيهم قلة فامروا بقتال واحد مع العشرة ثم لما كثروا خفف اللّه عنهم وتكريرا لمعنى الواحد بذكر الاعداد المتناسبة للدلالة على ان حكم القليل والكثير واحد وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون ولم لا يصبرون روى احمد عن انس وابن مردويه عن أبى هريرة وابن أبى شيبة واحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود وابن مردويه عن ابن عباس وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عمرانه لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم العباس رضى اللّه عنه اسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار ان يقتلوه فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لم أنم الليلة من أجل عمى العباس وقد زعمت الأنصار انهم قاتلوه فقال له عمر رضى اللّه عنه فأتيهم قال نعم فاتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس فقالوا واللّه لا نرسله فقال لهم عمر فكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم رضا قالوا فانكان لرسول اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 112
(1/2732)
صلى اللّه عليه واله وسلم رضا فخذوه فاخذه عمر فلما صار عباس في يده قال له يا عباس اسلم فو اللّه لئن تسلم أحب الىّ من ان يسلم الخطاب وما ذاك الا لما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يعجبه إسلامك وروى البخاري والبيهقي عن انس بن مالك ان رجالا من الأنصار استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقالوا يا رسول اللّه ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه قال لا واللّه لا تذرن درهما فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقال ما تقولون في هؤلاء الأسرى ان اللّه قد مكنكم منهم وانما هم إخوانكم فقال أبو بكر يا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أهلك وقومك قد اعطاك اللّه الظفر ونصرك عليهم هولاء بنو العم والعشيرة والاخوان استبقهم وانى ارى ان تأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى ان يهديهم بك فيكونوا لك عضداء فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ما تقول يا ابن الخطاب قال يا رسول اللّه قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ما ارى ما رأى أبو بكر ولكنى ارى ان تمكننى من فلان قريب لعمر فاضرب عنقه حتى يعلم اللّه انه ليست في قلوبنا مودة للمشركين هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم وقال عبد اللّه ابن رواحة يا رسول اللّه انظروا ديا كثير الحطب فاضرمه عليهم نارا فقال العباس وهو يسمع ما يقول قطعت رحمك فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم البيت فقال ناس يأخذ بقول أبى بكر وقال ناس يأخذ بقول عمرو قال ناس يأخذ بقول عبد اللّه بن رواحة ثم خرج فقال ان اللّه تعالى ليلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن وان اللّه ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر في الملئكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة ومثلك في الأنبياء مثل ابراهيم قال من اتبعنى فانه منى ومن عصانى فانك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال ان
(1/2733)
تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم ومثلك يا عمر في الملئكة مثل جبرئيل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على اعداء اللّه ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ومثلك في الأنبياء مثل موسى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 113
إذ قال ربّنا اطمس على أموالهم و
اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يرووا العذاب الأليم لو انفقتما ما خالفتكما أنتم عالة فلا يفلتن منهم أحد الا بفداء وبضرب عنق فقال عبد اللّه بن مسعود يا رسول اللّه الا سهل بن بيضاء فانه سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال فما رأيتنى في يوم أخاف ان يقع على الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم حتى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الا سهل بن بيضاء فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول اللّه ما يبكيكما فان وجدت بكاء بكيت والا تباكيت لبكائكما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إن كان يصبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب اليم ولو نزل العذاب ما أفلت منه الا ابن الخطاب لقد عرض علىّ عذابكم ادلى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه فانزل اللّه تعالى.
(1/2734)
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ « 1 » قرأ أبو جعفر وأبو عمرو بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية لَهُ أَسْرى كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو جعفر أسارى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أى يكثر القتل ويوهن الكفار ويذل الكفر من أثخنه المرض أثقله فالمفعول محذوف أى يثخن الأسرى في الأرض قال في القاموس أثخن فلانا أى أى أوهنه وأثخن في العدو أى بالغ بالجراحة فيهم تُرِيدُونَ أيها المؤمنون عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ لكم ثواب الْآخِرَةَ بقتل المشركين ونصركم دين اللّه وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم نسخ اللّه تعالى هذا الحكم بقوله فاما منا بعد واما فدآء فجعل لنبيه صلى اللّه عليه واله وسلم والمؤمنين في امر الأسارى خيار ان شاؤا قتلوهم وان شاؤا استعبدوهم وان شاؤا أفادوهم وان شاؤا اعتقوهم.
_________
(1) قال القاضي أبو الفضل العياض رحمه اللّه في الشفاء ليس في قوله تعالى ما كان للنبى ان يكون له اسرى الا الزام ذنب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من سائر الأنبياء فكانه هذا النبي غيرك كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أحلت لى الغنائم ولم يحل لنبى قبلى قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه اللّه خطاب لمن أراد ذلك منهم وتجرد غرضه الغرض الحيوة الدنيا ولاستكثار منها وليس المراد بهذا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا عامة أصحابه بل قد روى عن الضحاك انهما نزلت حين انهزم المشركون يوم يدر واشتغل الناس بالسلم وجمع الغنائم عن القتل حتى خشى عمر ان يعطف عليهم العدو. 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 114
(
(1/2735)
مسئلة) اجمع العلماء على انه يجوز للامام في الأسارى القتل كما يدل عليه هذه الآية وكما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ببني قريظة وقد قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم صبرا النضر بن الحارث وطعيمة بن عدىّ وعقبة بن أبى معيط قال في سبيل الرشاد قال عقبة بن أبى معيط يا محمد من للصبية قال النار قتله ابن أبى الأفلح في قول ابن إسحاق وقال ابن هشام قتله على بن أبى طالب.
(مسئلة) ويجوز استرقاق الأسارى أيضا اجماعا لان فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لاهل الإسلام ومن هاهنا قال أبو حنيفة ليس لواحد من الغزاة ان يقتل أسيرا بنفسه لان الرأي فيه إلى الامام ولكن لا يضمن بقتله شيئا.
(
(1/2736)
مسئلة) واختلف العلماء في المنّ على الأسارى يعنى إطلاقهم إلى دار الحرب من غير شيء وفي الفداء بالمال وفي الفداء بأسير مسلم وفي تركهم ذمة لنا فقال مالك والشافعي واحمد والثوري وإسحاق وبه قال الحسن وعطاء يجوز المنّ والفداء بالمال وبالأسارى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي وبه قال قتادة والضحاك والسدى وابن جريج لا يجوز المنّ أصلا وكذا الفداء بالمال لا يجوز على المشهور من مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وفي السير الكبير انه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة وكذا المفادة بالأسارى لا يجوز على رواية من أبي حنيفة وبه قال صاحب القدورى والهداية واظهر الروايتين عنه ما قال صاحبا لا انه يجوز المفاداة بالأسارى واما تركهم أحرارا في دار الإسلام ذمة لنا فاجازه أبو حنيفة ومالك محتجين بما فعل عمر باهل العراق والشام وقال الشافعي واحمد لا يجوز ذلك لانهم ملكوا وجه قول أبي حنيفة في عدم المنّ والفداء ان ردهم إلى دار الحرب اعانة للكفار فانهم يعودون حربا علينا فلا يجوز بالمال ولا بالأسير المسلم لان الأسير المسلم إذا بقي في أيديهم كان في حقه ابتلاء من اللّه تعالى غير مضاف إلينا والاعانة بدفع أسيرهم مضاف إلينا ووجه قوله الجمهور قول تعالى فاما منا بعد واما فداء قال أبو حنيفة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم وقوله تعالى اقتلوا المشركين
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 115
(1/2737)
حيث وجدتموهم وعند الجمهور قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء غير منسوخ لما ذكرنا من قول ابن عباس انه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم انزل اللّه تعالى فاما منا بعد الآية وقوله تعالى اقتلوا المشركين المراد به غير الأسارى للاجماع على جواز استرقاقهم وقد قال أبو حنيفة يجوز تركهم ذمة لنا أخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين واخرج احمد ومسلم واصحاب السنن الاربعة عن سلمة بن الأكوع قال غزونا فزارة مع أبى بكر امرّه علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه فانظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت ان ...
(1/2738)
يسبقونى إلى الجبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما راوا السهم وقفوا فجئت بهم اسوقهم وفيهم امرأة من بنى فزارة عليها قشع من آدم معها ابنة لها من احسن العرب فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلنى ابنتها فقدمنا المدينة ما كشفت لها ثوبا فلقينى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم في السوق فقال يا سلمة هب لى المرأة فقلت يا رسول اللّه قد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا فسكت حتى إذا كان من الغد لقينى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم في السوق فقال يا سلمة هب المرأة للّه أبوك فقلت هى لك يا رسول اللّه واللّه ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة وروى ابن إسحاق بسنده وأبو داود من طريقه إلى عائشة قالت لما بعث أهل مكة في فدآء أساراهم بعث زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم في فداء أبى العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة رضى اللّه عنها أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى عليها فلما رأى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لاصحابه ان رأيتم ان تطلقوا لها أسيرها وتردوا الذي لها فافعلوا ففعلوا ورواه الحاكم وصححه وزاد وكان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قد أخذ عليها ان يخلى زينب إليه ففعل وذكر ابن إسحاق ان ممن منّ عليه رسول اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 116
صلى اللّه عليه واله وسلم المطلب بن حنطب اسره أبو أيوب الأنصاري فخلى سبيله وأبو عزة الجمحي كان محتاجا ذا بنات فكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فمن عليه وأخذ عليه ان لا يظاهر عليه أحدا وامتدح رسول اللّه صلى اللّه عليه واله و
(1/2739)
سلم بأبيات ثم قدم مع المشركين في أحد فاسر فقال يا رسول اللّه أقلني فقال عليه السلام لا تمسح عارضيك بمكة بعدها تقول خدعت محمدا مرتين ثم امر بضرب عنقه وذكر في سبيل الرشاد جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يوم بدر فدأ الرجل اربعة آلاف إلى ثلثة آلاف إلى الفين إلى الف ومنهم من منّ عليه لأنه لا مال له وفي صحيح البخاري قوله صلى اللّه عليه واله وسلم في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى في هولاء لتركتهم له وعن أبى هريرة قال بعث النبي صلى اللّه عليه واله وسلم خيلا قبل يمامة فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه في سارية من سوارى المسجد فخرج إليه النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندى خير يا محمد ان تقتلنى تقتل ذا دم وان تنعم تنعم على شاكر وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت فتركه حتّى كان الغد ثم قال له ما عندك يا ثمامة فقال كما قال بالأمس فتركه حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندى ما قلت لك قال أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد ان محمدا رسول اللّه يا محمد واللّه ما كان على وجه الأرض وجه ابغض الىّ من وجهك ...
(1/2740)
فقد أصبح وجهك أحب الوجوه الىّ واللّه ما كان دين ابغض اليّ من دينك فاصبح دينك أحب الأديان اليّ واللّه ما كان من بلد ابغض اليّ من بلدك فاصبح بلدك احبّ البلاد اليّ وان خيلك أخذتني وانا أريد العمرة فماذا ترى فبشره رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وامره ان يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل صبوت قال لا ولكنى أسلمت مع محمد صلى اللّه عليه واله وسلم لا واللّه لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم واللّه اعلم روى احمد عن انس حال ستشار النبي صلى اللّه عليه واله وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال ان اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 117
قد أمكنكم منهم فقال عمر بن الخطاب يا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اضرب أعناقهم فاعرض عنه فقام أبو بكر فقال ترى ان تعفو عنهم وان تقبل منهم الفداء فعفى عنهم وقبل منهم الفداء فانزل اللّه تعالى.
(1/2741)
لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ يعنى انه لا يضل أى لا ينسب إلى الضلال ولا يعذبهم قوما بعد إذ هدهم حتى يبين لهم ما يتقون وانه لا يأخذ قوما فعلوا شيئا قبل النهى كذا قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير في تفسير الآية واخرج الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال لم يحل الغنائم لاحد سود الروس من قبلكم كانت تنزل نار من السماء فتاكلها فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل ان يحل لهم فانزل اللّه تعالى لو لا كتب من اللّه يعنى قضاء من اللّه سبق في اللوح المحفوظ انه يحل لكم الغنائم كذا قال ابن عباس وقيل معناه لو لا حكم من اللّه سبق في اللوح المحفوظ وهو ان لا يعاقب المخطى في اجتهاده وكان هذا اجتهاد أمتهم بان نظروا في استبقائهم ربما كان سببا لاسلامهم كما وجد من كثير منهم وان فدآئهم يتقووا به على الجهاد وخفى عليهم ان قتلهم أعز للاسلام واهيب لمن ورائهم وقيل معناه لو لا كتاب في اللوح المحفوظ انه لا يعذب أهل بدر « 1 » لَمَسَّكُمْ لنا لكم فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء بالاجتهاد وقبل ان تؤمروا به أو من الغنائم قبل ان يحل « 2 » لكم عَذابٌ عَظِيمٌ (68) قال ابن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر الا أحب الغنائم الا عمر بن الخطاب فانه أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بقتل الأسرى وسعيد بن معاذ قال يا نبى اللّه كان الإثخان في القتل احبّ الىّ من استبقاء الرجال فقال
_________
(1) وقيل معنى الآية لو لا ايمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم ويزاد تفسير أو بيانا بان يقال لو لا ما كنتم مؤمنين بالقران ولو لا كنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم كما عوقب من بعدي قبل فهذه التأويلات كلها ينفى المعصية لأنه من فعل ما أحل له لم يعص اللّه 12.
(
(1/2742)
2) قال القاضي بكر بن العلا اخبر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه واله وسلم في هذه الآية ان تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم والفداء وقد كان قبل هذا فادوا فى سرية عبد اللّه بن جحش التي قتل فيها ابن الحضري بالحكم بن كهنان وصاحبه فما عتب اللّه ذلك عليهم وذلك قبل بدر بأزيد من عام فهذا كله يدل على ان فعل النبي صلى اللّه عليه واله وسلم في شان الأسرى كان على تاويل وبصيرة على ما تقدم قبل مثله فلم ينكره اللّه عليهم لكن اللّه تعالى أراد لعظم امر بدر وكثرة اسراهم واللّه اعلم اظهار نعمته وتأكيد منة بتقريعهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم لا على وجه انكار وعتاب وتذنيب هذا معنى كلامه كذا في الشفاء 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 118
رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ وروى ابن أبى شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن سعد وابن جرير وابن حبان والبيهقي عن على رضى اللّه عنه قال جاء جبرئيل إلى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فقال يا محمد ان اللّه تعالى قد كره ما صنع قومك في أخذهم « 1 » فدآء الأسرى وقد أمرك ان تخيرهم بين أمرين اما ان يقدموا فيضرب أعناقهم وبين ان يأخذوا منهم الفداء على ان يقتل منهم عدتهم فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الناس فذكرهم ذلك فقالوا يا رسول اللّه عشائرنا وإخواننا نأخذ منهم الفداء فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره قال البغوي روى انه لما نزلت الآية السابقة كف اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزل.
(1/2743)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ الفاء للتسبيب والسّبب محذوف تقديره ابحت لكم الغنائم فكلوا حَلالًا حال من المغنوم أو صفة للمصدر أى أكلا حللا وفائدته ازاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب المعاتبة ولذلك وصفه بقوله طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) أباح لكم ما أخذتم من الفداء والمغنم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فضلت على الأنبياء بست وذكر فيه وأحلت لى الغنائم رواه الترمذي عن أبى هريرة وروى الطبراني بسند صحيح عن السائب بن يزيد فضلت على الأنبياء يخس وفيه وأحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبلى والبيهقي عن أبى امامة بسند صحيح نحوه غير انه قال فضلت بأربع والطبراني عن أبى الدرداء نحوه وروى البغوي
_________
(1) قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه اللّه انهم لم يفعلوا إلا ما اذن لهم لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك يعنى ترك الاولى وبين لهم ضعف احسارهم وتصويب احسار غيرهم وكلهم غير عصاة والى نحو هذا أشار الطبري وقوله عليه السلام في هذه القصة لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه الا عمر اشارة إلى هذا من تصويب رايه وراى من مثله يعنى هذه القصة أوجبت عذابا نجا منه عمر ومثله وعنى عمر لأنه أول من أشار بقتلهم ولكن لا يقدر عليهم في ذلك عذابا بحله لهم فيما سبق قال الداودي والخبر بهذا لا يثبت ولو ثبت لما جاز ان يظن ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم حكم مما لا نص فيه ولا جعل الأمر اللّه وقد نزهه اللّه عن ذلك هذا الحديث دليل على نافلة 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 119
(1/2744)
عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لم تحل الغنائم لاحد قبلنا وذلك بان اللّه رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا وقال البغوي روينا عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال أحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبل واللّه اعلم ذكر البغوي ان العباس بن عبد المطلب اسر يوم بدر وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فكان يوم بدر نوبته وكان خرج بعشرين اوقية من ذهب ليطعم بها الناس فاراد ان يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرين اوقية معه فاخذت معه في الحرب فكلم النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ان يحتسب العشرين اوقية من فدآئه فابى وقال اما شى خرجت به تستعين فلا اتركه لك وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث فقال العباس يا محمد تركتنى اتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فاين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت حروجك من مكة وقلت لها انى لا أدرى ما يصيبنى في وجهى هذا فان حدث بي حدث فهذا لك ولعبد اللّه ولعبيد اللّه والفضل وقثم يعنى بنيه الاربعة فقال له العباس وما يدريك قال أخبرني به ربى فقال العباس اشهد ان لا اله الا اللّه وانك عبده ورسوله ولم يطلع عليه أحد الا اللّه وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي وأبو نعيم وإسحاق بن راهويه والطبراني وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس وابن إسحاق وأبو نعيم عن جابر بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اسر يوم بدر سبعين من قريش منهم العباس وعقيل فجعل عليهم الفداء أربعين اوقية من الذهب وروى البيهقي عن اسمعيل ابن عبد الرحمن قال كان فداء العباس وعقيل ونوفل وأخيه اربعمائة دينار قال ابن إسحاق وكان اكثر الأسارى فداء يوم بدر فداء العباس نفسه بمائة اوقية من ذهب وروى أبو داود عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية
(1/2745)
يوم بدر اربعمائة وادعى العباس رضى اللّه عنه انه لا مال عنده فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فاين المال الذي دفعته أنت أم الفضل وقلت بها ان أصبت في سفرى هذا فهذا لبني الفضل وعبد اللّه والقثم فقال
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 120
و اللّه لا علم انك لرسول اللّه ان هذا شيء ما علمه الا انا أو أم الفضل واللّه اعلم وقال سعيد بن جبير وجعل على العباس مائة اوقية وقالوا أربعين وعلى عقيل ثمانين اوقية فقال العباس لقد تركتنى أفقر قريش ما بقيت فانزل اللّه تعالى.
(1/2746)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الآية وذكر محمد بن يوسف الصّالحى في سبيل الرشاد انه قال جماعة من الأسارى لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم منهم العباس رضى اللّه عنه انا كنا مسلمين وانما خرجنا كرها فعلام يوخذ منا الفداء فانزل اللّه تعالى يايها النبي قل لمن في ايديكم من الأسرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ايمانا وإخلاصا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء بان يضعّفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الاخرة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال قال العباس واللّه نزلت حين أخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بإسلامي وسألته ان يحاسبنى بالعشرين الاوقية التي وجدت معى فاعطانى بها عشرين عبد أكلهم تاجر بما لى في يده مع ما أرجو من مغفرة اللّه وذكر البغوي قول العباس انه أبدلني اللّه عنها عشرين عبد أكلهم تاجر يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين الف درهم مكان العشرين أوقية وأعطاني زمزم وما أحب ان لى بها جميع اموال أهل مكة وانا انتظر المغفرة من ربى وذكر في سبيل الرشاد قول العباس حين أنزلت لوددت انك كنت أخذت منى اضعافها فاتانى اللّه خيرا منها أربعين عبد أكل في يده مال يضرب به وانى أرجو من اللّه المغفرة واللّه اعلم روى البخاري وابن سعد ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم اتى بمال من البحرين فقال انشروه في المسجد إذ جاءه العباس فقال يا رسول اللّه أعطني انى فاديت نفسى وو فاديت عقيلا فقال خذ فحثا فى ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه الىّ قال لا ... قال فارفعه أنت قال لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق وهو يقول انما أخذ ما وعد اللّه فقد الجز فما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 121
(1/2747)
يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرصه فما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وثم منها درهم.
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعنى نقض ما عهدوك عند انفكاكهم من الاسر بالاقتداء أو بغيره فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ هذا بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بقوله الست بربكم أو بالعقل فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ يعنى فامكنك منهم يوم بدر جزاء الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره ان يريدوا خيانتك يعود عليهم وباله بدليل انهم قد خانوا اللّه من قبل فامكنك فان عادوا فسنمكنك منهم مرة اخرى كما ذكرنا عن ابن إسحاق انه صلى اللّه عليه واله وسلم من على أبى غزة الجمحي يوم بدر بلا فداء وأخذ عليه ان لا يظاهر عليه أحدا فقدم مع المشركين يوم أحد فاسر فقتله رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم صبرا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في صدورهم حَكِيمٌ (71) فيما يفعل.
(1/2748)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا قومهم وديارهم حبا للّه ورسوله يعنى الذين هاجروا من مكة وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها في السلاح والكراع وأنفقوها في المحاويج وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمباشرة القتال وإتيان كل ما امر اللّه به من العبادات البدنية وَالَّذِينَ آوَوْا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ومن معه من المهاجرين في ديارهم بالمدينة وَنَصَرُوا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم على اعداء اللّه يعنى الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دون اقربائهم من الكفار فلا يجوز للمؤمنين موالاة الكفار ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ولا مناصرتهم وقال ابن عباس هذا في الميراث كانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون يتوارثون دون ذوى الأرحام وكان من أمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى فتحت مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا وصار ذلك منسوخا بقوله عز وجل وأولوا الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب اللّه قلت وعندى ان هذه الآية غير منسوخة إن كان المراد به الميراث أيضا فانه متى أمكن الجمع بين الآيتين لا يجوز القول بنسخ أحدهما ومعنى قول ابن عباس كان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوى الأرحام ان ذوى الأرحام الكفار
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 122
(1/2749)
لا يرثون من المهاجرين لاختلاف الدينين وكان من أمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر لاختلاف الدارين حتى فتحت مكة وصارت دار اسلام انقطعت الهجرة واسلم أهل مكة كلّهم توارثوا بالارحارم وكان وجه أخذ الأنصاري ميراث المهاجر عقد الموالات وذلك سبب للارث عند أبى حنيفة رحمه اللّه إذا لم يكن للميت وارث من النسب أو السبب بلا مانع من الإرث غير منسوخ واما أخذ المهاجر ميراث الأنصاري أو الأنصاري ميراث المهاجر مع وجود قريب الميت مؤمنا بالمدينة فلم يثبت ولا دلالة في الآية عليه فلا يجوز القول بكون الآية منسوخة واللّه اعلم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ قرأ حمزة بكسر الواو تشبيها لها بالعمل والصناعة كالكتابة والرياسة كأنَّه بتولية صاحبه يزاول عملا والباقون بفتح الواو مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا نفى لولايته من لم يهاجر من المؤمنين بمعنى النهى لاجل فسقهم بترك فريضة الهجرة ومنه يظهر انه يكره للمؤمن ولاية المؤمن الفاسق ما لم يتب وان كان المراد بالولاية الميراث فالاية حجة على كون اختلاف الدارين مانعا من الميراث وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ يعنى المؤمنين الذين لم يهاجروا استنصروكم فِي الدِّينِ على أعدائهم من أهل الحرب فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم ان تبصروهم عليهم إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فانه لا يجوز نقض العهد ولهذا لم ينصر رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أبا جندل وقصته في سورة الفتح وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) تحذير عن تعدى حدود الشرع.
(1/2750)
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ والمقصود منه انه لا يجوز للمؤمنين موالاة الكفار ولا مناصرتهم وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه الشيخان في الصحيحين واصحاب السنن الاربعة من حديث اسامة بن زيد وقد ذكرنا المسألة في سورة النساء في تفسير (فائدة) لا يجوز لاحد تولية نفسه وان يزعم لزوم فسق منه ومعهذا لا يجوز ولاية الفاسق فالعدل للولاية أفضل من نفسه وصالحى المؤمنين 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 123
اية الميراث (مسئله) ذكر في المبسوط انه لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدار من الكفار التي فيها المؤمن المستأمن لا يحل له قتال هؤلاء الكفار الا ان خاف على نفسه لان القتال لما كان تعريضا لنفسه على الهلاك لا يحل الا لاعلاء كلمة اللّه تعالى وإعزاز دينه أو لدفع الضرر عن نفسه وهو إذا لم يخف على نفسه فقتاله لا يكون الا لاهل الدار من الكفار لاعلاء كلمتهم وذا لا يجوز (مسئله) لو أغار أهل الحرب الذين فيهم مسلمون مستامنون على طائفة من المسلمين فاسروا ذراريهم فمروا بهم على أولئك المستأمنين وجب عليهم ان يقاتلوهم ويخلصوا المؤمنين من أيديهم لانهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم ولم يضمنوا ذلك بخلاف الأموال لانهم ملكوها بالاحراز عند أبي حنيفة وقد ضمنوا لهم ان لا يتعرضوا أموالهم وكذلك لو كان المأخوذ ذرارى الخوارج لانهم مسلمون إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعنى ان لا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم والتناصر وقطع العلائق بينكم وبين الكفار حتى قطع التوارث تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ يحصل فتنة عظيمة وهى ظهور الكفر وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) يعنى ضعف الإسلام بترك الجهاد واختلاط المسلمين الكفار.
(1/2751)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان الصادقون في ادعائهم إسلامهم حَقًّا حق ذلك الأمر حقا لانهم حققوا ايمانهم بتحصيل مقتضياته من الهجرة وبذل الأموال والأنفس في سبيل اللّه ونصرة الحق بخلاف من أمن ولم يهاجر ولم يجاهد فانه وان صح عليه اطلاق المؤمن حيث قال اللّه تعالى والذين أمنوا ولم يهاجروا لكنهم ليسوا كاملين في الايمان ولم يتحقق صدقهم ويحتمل نفاقهم ولا تكرار لان الآية الاولى للامر بالتواصل وهذه الآية واردة للثناء عليهم والوعد لهم بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة تهدم ما كان قبلها وقد مر من حديث عمرو بن العاص واعلم انه كان بعض
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 124
المهاجرين أهل الهجرة الاولى وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ومنهم من كان ذا الهجرتين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة منهم عثمان وجعفر الطيار وغيرهم وكان بعضهم أهل الهجرة الثانية وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة والمراد بالآية الاولى أهل الهجرة الاولى لفضلهم ثم الحق بهم أهل الهجرة الثانية فقال.
(1/2752)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أى بعد صلح الحديبية وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ وكذا من ايتسم بسمتهم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أيها المهاجرون الأولون والأنصار يعنى من جملتكم ومن جنسكم يتولى بعضكم بعضا ويرث بعضكم بعضا وَأُولُوا الْأَرْحامِ من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ من الأجانب في التوارث وصلة الرحم وهذا لا ينافي ما سبق والمعنى ان المؤمن إن كان له ذا رحم فهو اولى به من سائر المؤمنين في التوارث فان كان له ذا رحم الذين ذكر اللّه تعالى في سورة النساء فهو اولى من غيره يعطى له الميراث على ما أوصله اللّه تعالى في كتابه وان لم يكن منهم أحد وكان ذو رحم من غيرهم فهو اولى من الأجانب بهذا الآية وبقوله صلى اللّه عليه واله وسلم الخال وارث من لا وارث له وقد ذكرنا الحديث في سورة النساء فهذه الآية حجة على الشافعي حيث قال يوضع ماله في بيت المال ان لم يكن للميت ذا فرض ولا عصبة ولا يرث غيرهم من ذوى الأرحام وقدم المسألة في سورة النساء والمؤمن ان لم يكن له أحد من اولى الأرحام مؤمنا فاوليائه جماعة المؤمنين بما سبق من الآية الاولى فيوضع ماله في بيت المال لجماعة المسلمين فِي كِتابِ اللَّهِ يعنى في حكم اللّه وقسمته أو في اللوح المحفوظ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75) ومنها المواريث والحكمة في اناطتها بالقرابة والإسلام والنكاح والولاء واللّه اعلم تمت تفسير سورة الأنفال من التفسير المظهرى ويتلوه إنشاء اللّه تعالى تفسير سورة البراءة.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 125
فهرس للتفسير المظهرى سورة التّوبة
(1/2753)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتّفسير المظهرى تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمد ثناء اللّه العثماني الحنفي المظهرى النقشبندي الفاني فتى رضى اللّه عنه وعن آبائه ومشائخه ولد رحمه اللّه في سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة 1123 أو قبله بسنة أو سنتين بفانى فت ونشا بها فحفظ القرآن وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتجر فيها ثم ارتحل إلى دهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا الشاه ولىّ اللّه المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمد عابد السنامى ثم انسلك بخدمة الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع إلى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف في نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عدة في التفسير والفقه وغيرهما تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها إلى اللّه وازديادا مجتهدا في الخيرات إلى ان أدركته المنية فتوفى في غرة الرجب المرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة 1225 على صاحبها التحية مكتبه رشيديّه سركى رود - كوئطه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 126
(1/2754)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ما ورد في أسمائها ووجه تسميتها - 131 ما ورد في وجه ترك البسملة - 132 تحقيق يوم الحج الأكبر - 134 حرمة الأشهر الحرم منسوخة أم لا - 135 قصة بعث أبى بكر أميرا للحج وعليا ليقرأ 136 على الناس سورة براءة - هل يجوز القتال في حرم مكة مسئله يجوز القتال 139 في الأشهر الحرم وفي الحرم ان بدأ المشركون بالقتال ما ورد في الصلاة والزكوة وجواز القتال على 143 منع الزكوة - فائدة ليكن غرض المسلمين في قتال الكفار إعلاء 144 كلمة اللّه ومنع الناس عن الشرك والمعاصي دون الملك والمال - حديث لا يزال من أمتي أمة قائمة بامره - 146 مسئله مع الكفار عن دخول المسجد الحرام وعن تعميره 146 ما ورد في فضل ادامة العبادة والذكر في المساجد 148 وفي بناء المسجد وتزئينه وتنزيهه - مسئله دوام الذكر أفضل من الجهاد - 159 قصة استقاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من زمزم 2151 قصة غزوة حنين - 154 ذكر شروع القتال وإعجاب المسلمين بالكثرة وفرارهم 156 ذكر ثبات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - 159 ذكر ارادة بعض المشركين الفتك برسول اللّه 160 صلى اللّه عليه وسلم وإسلامهم بعد روية المعجزة - فائدة في بيان كم بقي ثابتا مع رسول اللّه صلى 162 اللّه عليه وسلم ذكر رجوع المنهرمين - عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفا من الحصى 164 نزول الملئكة والنصر من السماء - 164 ذكر قتل الكفار حتى الذراري والمنع من قتل 166 الذراري - ذكر فرار المشركين وفرار مالك بن عوف 166 رئيسهم إلى الطائف - جمع غنايم وإرساله إلى جعرانة - 167 ذكر حصار الطائف وعدم خروج أهلها للبراز 167 وقتالهم من وراء الحصن - ذكر من استشهد رجال من المسلمين - 167 ورجوعه صلى اللّه عليه وسلم بعد عشرين ليلة 168 أو نحو ذلك إلى جعرانة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 127
(1/2755)
مضمون صفحه ذكر قسمة غنايم حنين - 169 ذكر إتيان أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبيه 169 وأخته من الرضاعة وغيرهم تائبين ورد سباياهم ذكر إعطاء المؤلفة قلوبهم وتقسيم الأموال - 171 ووجد الأنصار واستمالتهم - 173 ذكر إتيان مالك بن عوف راس هوازن حسن إسلامه 175 ذكر نجاسة المشرك - مسئله هل يجوز للمشركين واهل الكتاب دخول 176 المسجد الحرام أو الحرم أو غير ذلك من المساجد وهل يجوز مقامهم في الحجاز - مسئله اختلاف العلماء في أخذ الجزية من 179 عبدة الأوثان ومن العرب - مسئله اختلاف في قدر الجزية - 184 مسئله لا يجوز أخذ الجزية من فقير غير معتمل - 186 مسئله يسقط الجزية بالإسلام - 187 مسئله الجزية يجب باول الحول وتسقط بالموت - 188 مسئله لا جزية على الصبيان والمجانين ولا 189 على النساء والعبيد - مسئله ما ينقض به عقد الذمة - 190 مسئله ينتقض العهد بذكر اللّه سبحانه 190 القرآن أو الإسلام أو النبي صلى اللّه عليه وسلم بما لا يليق بهم - مسئلة إذا استعلى ذمى على مسلم على وجه 192 صار مستمرا عليه حل قتله حتى يرجع إلى الذل والصغار قصة عزير عليه السلام - 192 قصة إضلال بولس النصارى - 193 مسئله بضم الذهب إلى الفضة لاداء الزكوة 196 ما ورد ان النفقات الواجبة اكثر اجر أو أفضل - 197 مسئله جواز كنز الأموال إذا
(1/2756)
ادى ما وجب فيها 198 وما قبل انه لا يجوز ذلك - حديث ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يودى 200 حقها الحديث - مسئله تحريم القتال في الأشهر الحرام - 201 ذكر النبي وأول من نسا - 203 ما ورد في فضل أبى بكر لمصاحبته في الغار - 207 قصة خروجه صلى اللّه عليه وسلم من مكة مهاجرا - 208 حديث اللهم اجعل أبا بكر معى في درجتى في 210 الجنة الحديث - قصة أم معبد ومعجزة حلب الحائل العازب - 214 قصة سراقة والمعجزة 217 حديث عجبا « 1 » لامر المؤمن ان امره كله خير - 223 قصة خروجه صلى « 2 » اللّه عليه وسلم إلى غزوة تبوك - 226 قصة تخلف جد بن قيس المنافق - 225 مصارف الصدقات - 231
_________
(1) هذا مؤخر 12
(2) هذه مقدم والذي بعده 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 128
(1/2757)
مضمون صفحه مسئله لا يجوز دفع الزكوة إلى كافر - 231 مسئله الاولى ان يلتمس لدفع الزكوة سببا 240 يترجح المعطى له من غيره من الفقراء كالمسكين الذي لا يسال الناس والغازي والحاج والكاتب ومن اسباب المزية القرابة وما ورد في إعطاء 240 القريب لا يجوز دفع الزكوة إلى من بينهما ولادا وزوجية - 240 وعند أبى يوسف يجوز دفع زكوتها إلى زوجها - 241 ومن اسباب المزية الجوار وما ورد فيه - 243 ما ورد في وضع الزكوة في أى صنف شاء - مسئله حد الغنى الذي يمتنع أخذ الزكوة والذي 246 يمنع السؤال - مسئله الفقير إذا كان قويا قادرا بالكسب 249 هل يجوز دفع الزكوة إليه - مسئله لم يكن الصدقة حلالا للنبى صلى اللّه 250 عليه وسلم - مسئله الذين يحرم عليهم الصدقة خمسة بطون 252 مسئله يحرم الزكوة على مواليهم - 253 مسئله يكره نقل الصدقة من بلد إلى بلد - 253 ما ورد في جنة عدن - 264 ما ورد في رضوان اللّه - 266 قصة ثعلبة بن حاطب - 269 قصة تصدق عبد الرحمن بن عوف وعاصم 271 ابن عدى وأبو عقيل الأنصاري رضى اللّه عنهم ولمز النافقين - ما ورد في بكاء أهل النار في النار - 274 ما ورد في كراهة كثرة المضحك في الدنيا 275 واستحباب البكاء من خشية اللّه - ذكر موت عبد اللّه بن أبى المنافق 276 ما ورد في قبائل العرب - 279 ما ورد في قوله صلى اللّه عليه وسلم بالصلوة 281 على من تصدق - ذكر السابقين الأولين من المهاجرين 285 والأنصار ذكر أول من اسلم من المهاجرين واصحاب 285 العقبات الثلث من الأنصار مسئله اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم 287 كلهم في الجنة - قصة أبى لبابة وأصحابه - 289 مسئله هل يجب الدعاء على الامام عند 292 أخذ الصدقة - مسئله هل يجوز الصلاة على غير الأنبياء 292 ذكر بناء مسجد الضرار - 295 وهدمه - 297
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 129
(1/2758)
مضمون صفحه ذكر مسجد أسس على التقوى - 297 ما ورد في مسجد المدينة ومسجد قبا - 297 ما ورد في ثناء أهل قبا في الطهور - 299 قصة بيعة الأنصار في ليالى العقبة وخروج 302 المهاجرين إلى المدينة - حديث أول من يدعى إلى الجنة الحمادون 304 ما ورد في تفسير الصائمين في فضل الصوم 304 فالجهاد وطلب العلم - ما ورد في فضل الصلاة - 305 ذكر ظاهر الشريعة وباطنها - 305 ذكر موت أبى طالب - 306 مسئله لا يجوز القول بكون أبوي النبي 307 صلى اللّه عليه وسلم مشركين وما ورد في ذلك ما ورد في عسرة الصحابة وشدتهم في غزوة 311 تبوك ومعجزة الاستسقاء قصة لحوق أبى ذر الغفاري وابى خيثمة 312 بعد ما ابطأ في غزوة تبوك - قصة تخلف كعب بن مالك الشاعر وهلال 313 ابن امية ومرارة بن الربيع عن غزوة تبوك ونزول توبتهم - ما ورد في رضاء اللّه سبحانه بتوبة العبد - 314 ما ورد في فضل الجهاد 321 مسئلة الجهاد فرض على الكفاية وعند النفير 321 العام فرض عين ما ورد في فضل الانفاق في الجهاد - 321 ما ورد في فضل العلم والعلماء وما هو فرض عين 322 وفرض كفاية منه والعلم اللدني - مسئله يجب الجهاد على أهل كل ثغر بمن 325 يليهم من الكفار فان لم يكن بهم كفاية أو تكاسلوا يجب على من يفرب منهم ثم وثم إلى الشرق والغرب وكذا جهاز الميت والصلاة عليه ما قيل ان الايمان يزيد وينقص - 326 فصل في بقية قصة غزوه تبوك - 328 لما مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحجر تقنع 329 بردائه واسرع السير ونهى الناس عن شرب مائها والوضوء منه وقال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم الا ان تكونوا باكين واهريقوا القدور واعلقوا العجين الذي عجن من مالها الإبل - المعجزات 330 منها الاخبار بهبوب الريح وما ورد فيه - 330 منها قصة ضلال الناقة والاخبار بها وبقول المنافق 330 وقصة اقتداء عليه السلام بعبد الرحمن بن عوف 330 قصة عارض الناس حية عظيمة وكان من الجن 330 التفسير
(1/2759)
المظهري ، ج 4 ، ص : 130
منها قصة عين تبوك 330 منها قصة مرور الغلام بينه عليه السلام وبين 331 القبلة وهو في الصلاة فصار مقعدا بدعائه عليه السلام - منها قصة البركة في التمرات 331 منها اخبار النبي صلى اللّه عليه وسلم لموت 332 منافق بالمدينة - منها قصة نفر من سعد بن هزيم - 332 منها قصة صلوته عليه السلام على معاوية 333 ابن معاوية غائبا وقد مات بالمدينة وفيه ذكر فضل سورة الإخلاص 333 منها قصة نحى السمن قصة بعثه صلى اللّه عليه وسلم كتابا إلى هرقل مع دحية الكلبي - وقصة بعث هرقل كتابه إلى رسول اللّه صلى اللّه 333 عليه مع التنوخي وما فيه من المعجزات - وكتابه مع دحية الكلبي في الجواب 335 قصه
بعثه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر 335 بدومة وما فيها طن المعجزات وفتح حصنه - وقسمته غنائمه وقدوم أكيدر مع خالد على رسول 336 اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما اهدى وقع الصلح على الجزية 336 قصة قدوم ملك ايلة يحنه وكتاب 337 الصلح له والجزية وقدوم أهل جربا واذرح وكتاب 337 الصلح والجزية با أهل مقنا - ذكر مدة إقامته صلى اللّه عليه وسلم 337 بتبوك ورجوعه إلى المدينة - حديث النهى عن الخروج من ارض 337 فيها الطاعون وعن الدخول فيها - من المعجزات قصة البركة في الأزواد 338 بعد نفادها - منها قصة نبع الماء بين أصابعه عليه 339 السلام - ومنها قصة انخراق الماء من وشل 339 كان في وادي الناقة - منها قصة نبع الماء واتساعه وانبساطه 340 في القعب منها قصة جهد الظهور فقويت بدعائه 340 عليه السلام - ذكر قدومه عليه السلام المدينة 340 حديث للمدينة هذه طابة - 340 حديث لا يزال عصابة من أمتي 340 يجاهدون على الحق اللهم صلى على 340 محمد وآله وأصحابه أجمعين - 5 - (فهرس تمام شد)
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 131
(1/2760)
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شيء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلىّ ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيّين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين 5.
سورة التّوبة
مدنيّة وهى مائة وتسع وعشرون اية أو ماية وثلثون اية عن « 1 » أبى عطية الهمداني قال كتب عمر بن الخطاب تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور قلت لان في البراءة الحث على الجهاد وفي النور الحث على الحجاب وعن « 2 » عثمان بن عفان قال كانت البراءة والأنفال تدعيان في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرينتين فلذلك جمعتهما في السبع الطوال 5 منه ولها اسماء سميت براءة لانها براءة عن الكافرين وسورة التوبة لان فيها توبة على المؤمنين والمقشقشة أخرجه أبو الشيخ وابن مردوية عن زيد بن اسلم عن عبد اللّه بن عمر لانها تقشقش أى بترأ من النفاق والمبعثرة أخرجه ابن المنذر عن محمد بن إسحاق لما كشفت عن سرائر الناس والبحوث أخرجه ابن أبى حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أبى رشد الحراني عن المقداد بن الأسود والمثيرة أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن أبى حاتم عن قتادة لانها نبعثر النفاق وبتحت عنها وتثيرها وتظهر عوراتهم وتخفر عنها والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب أخرج ابن أبى شيبة والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وابن مردوية عن حذيفة رضى اللّه عنه قال التي تسمونها سورة التوبة هى سورة العذاب واللّه ما تركت
_________
(1) عن أبى عطية للهمدانى قال كتب عمر بن الخطاب تعلموا سوره براءة وعلموا نسائكم سورة النور قلت لان في البراءة الحث على الجهاد وفي النور الحث على الحجاب 12 منه
(
(1/2761)
2) وعن عثمان بن عفان قال كانت البراءة والأنفال تدعيان في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرينتين فلذلك جمعتهما في السبع الطوال 12 منه -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 132
أحد الا نالت فيه واخرج سورة العذاب أيضا أبو عوانة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس عن عمرو الفاضحة لكونها فاضحة للمنافقين قال البغوي قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة التوبة قال هى الفاضحة ما زالت تنزل وتنبئهم حتى ظنوا انها لم تبق أحدا منهم الا ذكرها فيها قال قلت سورة الأنفال قال تلك سورة بدر قال قلت سورة الحشر قال قل سورة النضير وفي وجه ترك البسملة عنها روى البغوي بسنده واحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قلت لعثمان رضى اللّه عنه ما حملكم على ان عمدتم إلى الأنفال وهى من الثاني وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فقال عثمان رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فإذا نزل عليه الشيء يدعوا بعض من كان يكتب عنده فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة وكانت براءة من اخر ما نزلت وفي لفظ وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة وكانت البراءة من اخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين لها انها منها فمن ثم فرنت بينهما ولم اكتب سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال وقيل وجه ترك البسملة انها نزلت لرفع الامان وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمان كذا أخرج أبو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس قال سالت على ابن أبى طالب رضى اللّه عنه لم لم يكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم في براءة قال لان
(1/2762)
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمان وبراة نزلت بالسيف وقيل اختلف اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال بعضهم الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ويعد السابعة من الطوال وهى سبع وقال بعضهم هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان وتركت بسم اللّه الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة قال البغوي قال المفسرون لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجعون الأراجيف يعنى يقولون أقوالا يضطرب بها المسلمون اضطرابا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 133
شديدا وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت وذلك لزعهم ان المسلمين لا يقاومون قتال قيصر ملك الشام فامر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بنقض عهودهم فقال.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ « 1 » قال الزجاج يعنى قد برئ اللّه ورسوله اعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا فقوله براءة خبر مبتدا محذوف أى هذه براءة وهى ضد المعاهدة وهى مصدر كالنشاءة والدناءة ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره واصلة من اللّه ورسوله ويجوز ان يكون براة مبتدأ لتخصيصها بصفتها خبره إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أى عاهدتموهم أيها الرسول والمؤمنون مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) بيان للموصول علقت البراءة باللّه ورسوله والمعاهدة بالرسول والمؤمنين للدلالة على انه يجب عليهم نبذ عهودهم.
(1/2763)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فيه التفات حيث خاطب المشركين بعد ما ذكرهم على الغيبة أو المعنى فقل لهم سيحوا أى سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين امنين غير خائفين أحدا من المسلمين والسياحة السير على مهل أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أى غير فائتين ولا سابقين وان أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) أى مذلهم بالقتل والاسر في الدنيا والعذاب في الآخرة قال الزهري الأشهر الاربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لان الآية نزلت في شوال وقال اكثر المفسرين ابتدائها يوم الحج الأكبر وانقضائها إلى عشر من شهر ربيع الاخر لقوله تعالى.
وَأَذانٌ أى اعلام فعال بمعنى الافعال كالامان والعطاء ومنه الاذان للصلوة يقال اذنته فاذن أى أعلمته فعلم وأصله من الاذن أى أوقعت في اذنه ورفعه كرفع براءة على الوجهين
_________
(1) وقرئ رسوله بالجر للجوار عن ابن أبى مليكة قال قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب فقال من يقرأني عما انزل اللّه على محمد فاقراه براءة فقال ان اللّه برئ من المشركين ورسوله بالجر فقال الاعرابى لقد برئ اللّه من رسوله ان يكن اللّه برئ من رسوله فانا ابرأ منه فتبع عمرو قالة الاعرابى ابترا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يا امير المؤمنين انى قدمت المدينة ولا علم لى بالقران فسالت من يقرائنى فاقرانى هذه السورة براة فقال اللّه برى من المشركين ورسوله وقال الاعرابى وانا واللّه ابرا مما برا للّه منه فامر محمد بن الخطاب ان لا يقرا الناس الا عالم باللغة وامر الأسود فوضع النحو 12. [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 134
(1/2764)
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ « 1 » الْأَكْبَرِ قال البغوي روى عكرمة عن ابن عباس انه يوم عرفة قال وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عمرو ابن الزبير « 2 » رضى اللّه عنهم وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب قلت ومستند هذا القول قوله صلى اللّه عليه وسلم الحج عرفة أخرجه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والدار قطنى والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن معمر واخرج ابن أبى حاتم عن مسور ابن مخرمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم عرفة وهذا يوم الحج الأكبر قال البغوي قال جماعة هو يوم النحر روى عن يحيى بن الخراز قال خرج على رضى اللّه عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل أخذ بلجام دابته وساله عن يوم الحج الأكبر فقال يومك هذا خل سبيلها أخرج الترمذي عن على قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر قال وبروى ذلك عن عبد اللّه بن أبى اوفى والمغيرة ابن شعبة وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير والسدى قلت واخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر انه صلى اللّه عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر قال البغوي وروى ابن جريح عن مجاهد يوم الحج الأكبر حين الحج ايام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول يوم الحج الأكبر ايام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين والزمان فان هذه الحروب دامت أياما كثيرة ووصف الحج بالأكبر لان العمرة يسمى بالحج الأصغر كذا قال الزهري والشعبي وعطاء واللّه اعلم قالوا هذه الآية تدل على ان ابتداء الأشهر الاربعة يوم الحج الأكبر قلت ليس في آية الاذان الواقع يوم الحج الأكبر التقييد باربعة أشهر حتى يدل على ان ابتداء الأشهر من ذلك اليوم بل قال اللّه تعالى وأذان من اللّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أَنَّ اللَّهَ اى
(1/2765)
بان اللّه بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 5 وَرَسُولُهُ قرأ يعقوب رسوله بالنصب عطفا على اسم ان أو لان الواو بمعنى مع والباقون بالرفع
_________
(1) وعن الحسن انه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال ذاك عام حج فيه أبو بكر استخلفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحج بالناس واجتمع فيه المسلمون والمشركون فلذلك سمى الحج الأكبر ووافق عبد اليهود والنصارى 12
(2) عن الشعبي ان أبا ذر والزبير بن العوام سمع أحدهما من النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قرأها يوم الجمعة على المنبر فقال لصاحبه متى أنزلت هذه الآية فلما قضى صلوته قال له عمر بن الخطاب لا جمعة لك فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك فقال صدق عمر 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 135
(1/2766)
عطفا على المستكن في برئ أو على الابتداء والخبر محذوف أى ورسوله برئ وهذا تعميم بعد تخصيص فان الآية الاولى فيها براءة مختصة بالذين عوهدوا والمراد به الناكثين منهم بدليل الاستثناء الآتي وفي هذه الآية براءة عامة إلى المشركين أجمعين عاهدوا ثم نكثوا أو لم يعاهدوا منهم ولذا قال إلى الناس فلا تكرار غير ان الذين عاهدوا ولم ينكثوا خارجون عن هذه البراءة أيضا لقوله تعالى فاتموا إليهم عهدهم وليس في هذه الآية الأمر بالسياحة اربعة أشهر حتى يلزم اعتبار ابتداء المدة من هذا اليوم وعندى ان قوله تعالى براءة من اللّه ورسوله وان اللّه برئ وان كانت نازلة في المشركين الموجودين في ذلك الوقت الناكثين عهودهم في غزوة تبوك وغير المعاهدين منهم لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد فالآية محكمة ناطقة لوجوب قتال الناكثين وغير المعاهدين ابدا فالمراد بقوله تعالى فسيحوا في الأرض اربعة أشهر من كل سنة وهى الأشهر الحرم بدليل قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية وقوله تعالى ان عدة الشهور عند اللّه اثنى عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض منها اربعة حرم فان قيل قال قوم القتال في الأشهر الحرم كان كبيرا ثم نسخ بقوله تعالى قاتلوا المشركين كافة كأنَّه يقول فيهن وفي غيرهن وهو قول قتادة وعطاء الخراسانى والزهري وسفيان الثوري وقالوا لان النبي صلى اللّه عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف وحاصر في شوال وبعض ذى القعدة قلنا هذا لقول عندى غير صحيح لان قوله تعالى قاتلوا المشركين كافة من تتمة قوله تعالى ان عدة الشهور عند اللّه اثنى عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض منها اربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ولا بد في الناسخ من التراخي والقول بالتخصيص هاهنا غير متصور والقول بان معنى قوله تعالى قاتلوا المشركين كافة
(1/2767)
فيهن وفي غيرهن باطل لأنه يدل على تعميم الافراد دون تعميم الزمان وحصاره صلى اللّه عليه وسلم الطائف في بعض ذى القعدة ثابت بأحاديث الآحاد ولا يجوز نسخ الكتاب بها كيف وسورة التوبة نزلت بعد غزوة الطائف وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في خطبة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 136
(1/2768)
يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بثمانين يوما ان الزمان استدار كهيئة يوم خلق السّموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها اربعة حرم ثلث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان الحديث رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أبى بكرة ويحتمل ان يكون جواز حصار الطائف في ذى القعدة مختصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم أبيح له القتال فيها كما أبيح له القتال في الحرم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة وانه لم يحل القتال لاحد قبلى ولم يحل لى الا ساعة من نهار الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس وفي الصحيحين من حديث أبى شريح العدوى فان أحد ترخص بقتال رسول اللّه فيها فقولوا له ان اللّه قد اذن لرسوله ولم يأذن لكم وانما اذن لى فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس - (قصّة) لما نزلت هذه في شوال سنة تسع بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا ليقرأها على الناس في الموسم روى النسائي عن جابر انه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر على الحج فاقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب « 1 » بالصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره ووقف عن التكبير فقال هذه رغوة ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجدعاء لقد بد الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الحج فلعله ان يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنصلى معه فإذا على عليها فقال له أبو بكر امير أم رسول قال لا بل رسول أرسلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببراءة اقرأها على الناس في مواقف الحج « 2 » فقدمنا مكة فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على
_________
(1) تثويب الصلاة خير من النوم گفتن در أذان فجر 12.
(
(1/2769)
2) عن عروة قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر أميرا على الناس سنة تسع وكتب سنن الحج وبعث معه على بن أبى طالب بآيات من براءة فامره ان يوذن بمكة وبمنى وبعرفات والمشاعر كلها بانه بريت ذمة اللّه وذمة رسوله من كل مشرك حج بعد العام أو طاف بالبيت عريانا وأجل من كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد اربعة أشهر رسار على راحلة والناس كلهم يقرأ عليهم القرآن براءة من اللّه ورسوله وقرأ عليهم يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد واخرج الترمذي عن انس قال بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ببراءة مع أبى ثم دعاه فقال لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا الا رجل من أهلي فدعا عليا فاعطاه إياها وعن سعد بن أبى قاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث عليا على اثره فاخذنا منه وقال أبو بكر وجد في نفسه قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر لا يودى عنى الا انا أو رجل منى 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 137
(1/2770)
الناس براءة حتى ختمها ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر فافضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها قال البغوي بعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر سورة براءة وامره ان يوذن بمكة ومنى وعرفات ان قد برئت ذمة اللّه وذمة رسوله من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فرجع أبو بكر فقال يا رسول اللّه بابى أنت وأمي ا انزل في شانى شىء قال لا ولكن لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا الا رجل من أهلي اما ترضى يا أبا بكر انك كنت معى في الغار وانك صاحبى على حوضى قال بلى يا رسول اللّه فسار أبو بكر رضى اللّه عنه أميرا على الحج وعلى رضى اللّه عنه ليؤذن براءة فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب أبو بكر الناس وورثهم عن مناسكهم واقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج حتى إذا كان يوم النحر قام على ابن أبى طالب رضى اللّه عنه فاذن في الناس بالذي امر وقرأ عليهم سورة براءة « 1 » وقال زيد ابن تبغ سالنا عليا باى شىء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فاجله اربعة أشهر ولا يدخل الجنة الا نفس مومنة ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا روى الشيخان في الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال بعثني أبو بكر رضى اللّه عنه في تلك الحجة في مؤذنى يوم النحر يؤذن بمنى الا لا يحج
(1/2771)
بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال حميد بن عبد الرحمن ثم اردف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا فامره ان يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فاذن معنا على في أهل منى يوم النحر لا يحج بعد
_________
(1) واخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر وامره ان يناوى بهؤلاء الكلمات ثم اتبعه عليا وامره ان يناوى بهؤلاء الكلمات فانطلقا فحجا فقام على في ايام التشريق فنادى ان اللّه برى من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض اربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريانا ولا يدخل الجنة الا مومن فكان على ينادى فإذا عيى قام أبو بكر فناوى بها 12
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 138
(1/2772)
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان - (فائدة) هذه القصة صريح في ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يعزل أبا بكر عن امارة الحج وانما بعث عليا ينادى بهذه الآيات وكان السبب في هذا ان العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العقود ونقضها ان لا يتولى ذلك الا سيدهم أو رجل من رهط فبعث عليا ازاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه فينا في نقص العهود وهذا معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا الا رجل من أهلي أخرج هذا اللفظ احمد والترمذي وحسنه من حديث انس رضى اللّه عنه وما ذكرنا من القصة بعضها في سند احمد وبعضها في الدلائل للبيهقى من حديث ابن عباس وبعضها في تفسير ابن مردوية من حديث أبى سعيد الخدري وغيره رضى اللّه عنهم فَإِنْ تُبْتُمْ رجعتم من الكفر وأسلمتم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فى الدنيا والآخرة من كل شىء وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة والإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا وتقدير الكلام وان توليتم يعذبكم اللّه في الدنيا والآخرة لانكم غير معجزيه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) بالقتل والاسر في الدنيا وبالنار في الآخرة.
(1/2773)
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من عهدهم الذين عاهدتموهم عليه وَلَمْ يُظاهِرُوا أى لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم قال البغوي هم بنو حمزة من بنى كنانة وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وهم لم ينقضوا العهد فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ أى إلى تمام مدتهم الذي عاهدتموهم عليه ولا تجروهم مجرى الناكثين ولا مجرى من لا عهد بينكم وبينهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) تعليل وتنبيه على ان إتمام عهدهم من باب التقوى قوله تعالى الا الذين عاهدتم إلخ استثناء من المشركين بمعنى الاستدراك كأنَّه قيل انما أمرتم بنبذ العهد إلى الناكثين أو بقتال من لا عهد بينكم وبينهم من المشركين لا بقتال المعاهدين مدة معلومة أو مؤيدة غير ناكثين.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 139
(1/2774)
فَإِذَا انْسَلَخَ أى انقضى واصل الانسلاخ خروج الشيء مما هو لابسه من سلخ الشاة الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ قال مجاهد وابن إسحاق هى شهور العهد فمن كان له عهد فعهده اربعة أشهر ومن لا عهد له فاجله إلى انقضاء المحرم خمسين يوما وقيل لها حرم لان اللّه حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم فان قيل هذا القدر بعض الأشهر الحرم واللّه تعالى يقول فإذا انسلخ الأشهر قيل لما كان هذا القدر متصلا بما مضى اطلق عليه اسم الجميع ومعناه مضت المدة المعلومة المضروبة التي يكون مع انسلاخ الأشهر الحرم ولا يخفى ما فيه من التكلف والظاهر ما قلنا ان المعنى إذا انسلخ الأشهر الحرم من كل سنة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غير من عوهدوا ولم ينقضوا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال اكثر المفسرين في تفسيره في حل أو حرم وهذا يناقض قوله صلى اللّه عليه وسلم ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة وانه لم يحل القتال لاحد قبلى ولا يحل لى الا ساعة من النهار وقوله صلى اللّه عليه وسلم فان أحد ترخص بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها فقولوا له ان اللّه قد اذن رسوله ولم يأذن لكم وانما اذن لى فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس والحديثان في الصحيحين وقد ذكرناهما من قبل وقوله عليه السلام إلى يوم القيامة يمنع كونه منسوخا فالاولى ان يقال عموم الامكنة المفهوم من هذه الآية مخصوص بما سوى الحرم - (مسئله) القتال في الحرم والأشهر الحرام يحل ان بدأ المشركون بالقتال لقوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الآية وقد ذكرنا في سورة البقرة وَخُذُوهُمْ أى اسروهم والأخيذ الأسير وَاحْصُرُوهُمْ قال ابن عباس يريد ان تحصنوا فاحصروهم أى امنعوهم من الخروج حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام او
(1/2775)
قبول الجزية وقيل امنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ على كل طريق والمرصد الموضع الذي يرصد فيه العدو من رصدت الشيء ارصده إذا ترقبته يريد كونوا لهم رصدا لتاخذوهم من كل وجه توجهوا ولا تتركوهم ينبسطوا في البلاد ويدخلوا مكة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 140
فَإِنْ تابُوا من الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ يعنى قبلوا اقام الصلاة وإيتاء الزكوة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ (5) قال الحسن ابن فضيل هذه الآية نسخت كل اية في القرآن فيها ذكر الاعراض والصبر على أذى الأعداء.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين امرتك بقتالهم وقتلهم أحد مرفوع بفعل مضمر يفسره اسْتَجارَكَ استامنك وطلب منك جوارك فَأَجِرْهُ فامنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره فيظهر له صدقك باعجازه ويعلم ما له وما عليه من الثواب ومن العقاب ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أى موضع امنه ودار قومه ان لم يسلم فان قاتلك بعد ذلك فقاتله واقتله ان قدرت عليه ذلِكَ الا من أو الأمر بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) الحق من الباطل فلا بد لهم من سماع كلام اللّه تعالى حتى يعلموا قال الحسن هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.
(1/2776)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ لا خبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند اللّه وهو على الأولين صفة للعهد أو ظرف له أو ليكون وكيف على الآخرين حال من العهد وللمشركين ان لم يكن خبرا فتبين والاستفهام للانكار والاستبعاد على وجه التعجيب استبعاد لان يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع كمال عنادهم وفسقهم أو لان يفى اللّه ورسوله عهدهم وهم ينكثون إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ محله النصب على الاستثناء أو الجر على البدل وجاز ان يكون الاستثناء منقطعا إن كان المراد بالمشركين الناكثين منهم أى ولكن الذين عدهدتم منهم عند المسجد الحرام فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء وما يحتمل الشرطية والمصدرية قال ابن عباس المراد بالدين عاهدتم عند المسجد الحرام قريش وقال قتادة هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية امر اللّه رسوله بالتبرص في أمرهم ان استقاموا على العهد يستقام لهم على الوفاء فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بنى بكر على خزاعة فغزا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى فتح مكة ثم جعل لهم الامان وضرب لهم بعد الفتح اربعة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 141
(1/2777)
أشهر يختارون من أمرهم ما شاؤا الا ان يسلموا واما ان يلحقوا باى بلاد شاؤا فاسلموا قبل الاربعة الأشهر وقال السدى والكلبي وابن إسحاق هم من قبايل بكر بنو خزيمة وبنو مدلج وهو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية فلم يكن نقض الا قريش وبنو الديل من بنى بكر فامر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة قال البغوي هذا القول اقرب للصواب لان هذه الآية نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة فكيف يقول بشئ قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم فانما هم الذين قال اللّه عز وجل الا للذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا كما نقضكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بنو بكر على خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) والاستقامة على إيفاء العهد من التقوى.
(1/2778)
كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكم إيفاء عهدهم مع التنبيه على علة الاستبعاد وحذف الفعل للعلم به يعنى كيف يكون لهم عهد وحالهم انه وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أى يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا أى لا يحفظوا وقال الضحاك لا ينظروا وقال قطرب لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا قال قتادة حلفا وقال ابن عباس والضحاك قرابة وقال يمان رحما وقال السدى هو العهد وكذلك الذمة الا انه كرر لاختلاف اللفظين وقيل ربوبيته قال بيضاوى لعله اشتق للحلف من الال وهو الجوار لانهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم وشهروه ثم استعير للقرابة لانها تعقد بين الأقارب ما لا يعقد الحلف ثم لربوبيته ولتربيته وقيل اشتقاقه من ال الشيء إذا حدده أو أل البرق إذا لمع وقال أبو مجيز ومجاهد الال هو اللّه لفظ عبرى وكان عبيد بن عمير يقرأ جبرال بالتشديد يعنى عبد اللّه وفي الخبران ناسا قدموا على أبى بكر من قوم مسيلمة الكذاب فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرؤا فقال أبو بكر رضى اللّه عنه ان هذا الكلام لم يخرج من ال يعنى اللّه عز وجل والدليل على هذا التأويل قرأة عكرمة لا يرقبون في مؤمن الا يعنى الله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل وفي القاموس الال بالكسر العهد والحلف والجار والقرابة والأصل الجيد والمعدن والحقد والعداوة والربوبية
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 142
(1/2779)
و اسم اللّه تعالى وكل اسم آخره ال أو إيل فمضاف إلى اللّه تعالى والوحى والامان والجزع عند المصيبة وَلا ذِمَّةً عهدا أو حقا يعاب على إغفاله يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ أى يقولون أقوالا موجبة مرضائكم نفاقا وتقية من الوعد بالايمان والطاعة ووفاء العهد وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ما يتفوهون به ويستبطنون الكفر والمعاداة بحيث ان ظفروا خالفوا ما تفوهوا به جملة يرضونكم مستانفه لبيان أحوالهم المنافية لثباتهم على العهد المقتضية لعدم مراقبتهم عند الظفر ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فانهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) المراد بالفسق هاهنا نقض العهد وكان بعض المشركين يوفون العهود ويستنكفون من نقضها ولذلك خصص الفسق بأكثرهم دون كلهم.
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ استبدلوا بالقرآن ثَمَناً قَلِيلًا عوضا يسيرا من اعراض الدنيا قال البغوي ذلك انهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم باكلة أطعمهم أبو سفيان قال مجاهد اطعم أبو سفيان حلفاؤه فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعنى منعوا الناس من الدخول في دين اللّه والفاء للدلالة على ان اشترائهم أداهم إلى الصد قال ابن عباس وذلك ان أهل الطائف امددهم بالأموال ليقووا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) أى عملهم هذا وما دل عليه قوله.
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً فهو تفسير لقوله ما كانوا يعملون لا تكرير وقيل الأول عام في المنافقين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والاعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) المجاوزون عن الحد في الشرارة.
(1/2780)
فَإِنْ تابُوا عن الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ أى فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وَنُفَصِّلُ الْآياتِ تنبيها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) اعتراض للحث على تأمل ما فصل من احكام المعاهدين والتائبين قال ابن عباس حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة وقال ابن مسعود أمرتم بالصلوة والزكوة فمن لم يزك فلا صلوة له روى البخاري وغيره عن أبى هريرة قال لما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 143
فقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا اللّه فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر واللّه لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكوة فان الزكوة حق المال واللّه لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فو اللّه ما هو الا ان قد شرح اللّه صدر أبى بكر فعرفت انه الحق وعن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى صلوتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة اللّه وذمة رسوله رواه البخاري وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكوة فإذا فعلوا ذلك عصم منى دمائهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه الا ان مسلما لم يذكر وحسابهم على اللّه.
(1/2781)
وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أى نقضوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ كما نكث كفار قريش وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بالتكذيب وتقبيح الاحكام قال البغوي هذا دليل على ان الذي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد قلت وهذا الاستدلال ضعيف فان الشرط مجموع الامرين نقض العهد والطعن في الدين فلا يترتب الحكم على أحدهما فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ الكوفيون وابن عامر بهمزتين محققتين حيث وقع وفي رواية عن هشام انه ادخل بينهما الفا والباقون بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مد وضع أئمة الكفر موضع الضمير والمعنى فقاتلوهم للدلالة على انهم صاروا بذلك ذوى الرياسة والتقدم في الكفر احقا بالقتل وقيل المراد بأئمة الكفر رؤس المشركين وقادتهم وهم أهل مكة ووجه تخصيصهم بالذكر اما ان قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع عن مراقبتهم قال ابن عباس نزلت في أبى سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو عكرمة بن أبى جهل وسائر روساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد وهم الذين هموا بإخراج أهلها بعد إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أى لا عهود لهم جمع يمين يعنى لا يجب عليكم وفاء عهودهم بعد ما نكثوا وقال قطرب لا وفاء لهم بالعهد وقرأ لا ايمان لهم بكسرة الهمزة أى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 144
لا تصديق لهم ولا دين لهم وقيل هو من الامان أى لا تؤمنوا هم بل اقتلوهم حيث وجدتموهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) متعلق بقاتلوا وجملة انهم لا ايمان لهم معترضة بينهما أى ليكن غرضكم في المقاتلة ان ينتهوا عما هم عليه من الشرك والمعاصي لا إيصال الاذية بهم كما هو طريقة الموذين ولا إحراز المال والملك كما هو داب السلاطين ثم حث المسلمين على القتال فقال.
(1/2782)
أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ يعنى نقضوا عهودهم وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قيل المراد به اليهود وغيرهم من المنافقين وكفار المدينة نكثوا عهودهم حين خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك وهوا بإخراجه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة حيث قالوا لعنهم اللّه ليخرجن الأعز منها الأذل وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالمعاداة حيث عاونوا المشركين عليه أَوَّلَ مَرَّةٍ قبل ان يقاتلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا اظهر لان السورة نزلت بعد غروة تبوك وقد اسلم أهل مكة قبل ذلك وأيضا هموا بإخراج الرسول يدل على انهم هموا بذلك ولم ينالوا به بخلاف أهل مكة فانهم هموا قتله واضطروه إلى الخروج فاخرجوا كما قال اللّه تعالى وإخراج اهله منه اكبر عند اللّه وقال بعض المفسرين المراد بالذين نكثوا ايمانهم الذين نقضوا صلح الحديبية وأعانوا بنى بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول صلى اللّه عليه وسلم من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة وهم بدأوكم بالقتال أول مرة لأنه صلى اللّه عليه وسلم بدأ بالدعوة والزام الحجة بالكتاب والتحدي به فعدلوا عن معارصته إلى المعاداة والمقاتلة حتى اجتمعوا في دار الندوة واجمعوا على قتله أو لان أبا جهل قال يوم بدر بعد ما سلم العير لا ننصرف حتى نستاصل محمدا وأصحابه أو لانهم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا التأويل لا يتصور الا إذا كان نزول هذه الآيات قبل فتح مكة وحينئذ يستقيم ما قال ابن عباس ان قوله تعالى وان نكثوا ايمانهم وطعنوا في دينكم نزلت في أبى سفيان وغيره المذكورين من قبل وقوله تعالى الا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا المراد به قريش امر اللّه رسوله بالتربص في أمرهم ان استقاموا على العهد يستقام لهم لكنهم لم يستقيموا واللّه اعلم أَتَخْشَوْنَهُمْ أ تتركون قتالهم خشية ان ينالكم مكروه
(1/2783)
منهم استفهام للانكار يعنى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 145
لا ينبغى ذلك فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فى ترك امتثال امره فى قتال أعداءه والفاء للسببية فان كون اللّه تعالى أحق ان يخشى سبب للانكار على الخشية من غيره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) شرط استغنى عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مؤمنين فلا تخشوا الا الله فان مقتضى الايمان هذا لان من يعتقد ان خالق الأشياء الجواهر والاعراض وافعال العباد ليس الا الله وان أحدا لا يستطيع النفع والضرر الا بمشية اللّه تعالى وإرادته لا يخشى أحدا غيره تعالى ثم لما وبخهم على ترك القتال جرد لهم الأمر به فقال.
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ قتلا وَيُخْزِهِمْ ويذلهم اسرار وقهرا وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وعد لهم بالنصر والتمكن من قتل أعدائهم وإذلالهم وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعنى كربها ووجدها بمعونة قريش بنى بكر عليهم أخرج أبو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بنى بكر بمكة واخرج عن عكرمة قال نزلت هذه الآية فى خزاعة واخرج عن السدى ويشف صدور قوم مؤمنين قال هم خزاعة خلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشف صدورهم من بنى بكر وفي الآية معجزات وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء اخبار بان بعضهم يتوب عن كفره وكان ذلك أيضا معجزة وقد هدى إلى الإسلام كثيرا من قريش مثل أبى سفيان وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما كان وما يكون حَكِيمٌ (15) لا بفعل الا بمقتضى الحكمة قال البغوي روى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوم الفتح ارفعوا لا خزاعة من بنى بكر إلى العصر.
(1/2784)
أَمْ حَسِبْتُمْ خطاب للمومنين حين كره بعضهم القتال وقيل المنافقين وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة والاستفهام للتوبيخ على الحسبان أَنْ تُتْرَكُوا فلا تومروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يعنى لم يتحقق منكم من جاهد في سبيل اللّه نفى العلم وأراد نفى المعلوم للمبالغة فانه كالبرهان عليه من حيث ان تعلق العلم به مستلزم لوقوعه أو على طريق ذكر اللازم وارادة الملزوم فان وقوع شيء لا يمكن ان يتخلف من علم اللّه تعالى به وَلَمْ يَتَّخِذُوا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 146
عطف على جاهدوا يعنى ولما يعلم اللّه الذين لم يتخذوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم وفي لما اشارة إلى توقع وجود المجاهدين المخلصين في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزال من أمتي أمة قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امر اللّه وهم على ذلك متفق عليه من حديث معاوية وروى ابن ماجة بسند صحيح عن أبى هريرة نحوها والحاكم وصححه عن عمر بلفظ لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقوم الساعة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) فيه دفع لما يتوهم من ظاهر قوله تعالى ولما يعلم اللّه قال البغوي قال ابن عباس لما اسر العباس يوم بدر غيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم واغلظ علىّ القول فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا فقال ... على الكم محاسن قال نعم انا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج فانزل اللّه تعالى ردا على العباس.
(1/2785)
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ الآية أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق على بن أبى طلحة عنه بلفظ قال العباس ان كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ولقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاج ونفك العاني فانزل اللّه تعالى هذه الآية يعنى ما صح للمشركين وما ينبغى لهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ « 1 » يعنى شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام فانه يجب على المسلمين منهم من ذلك لان مساجد اللّه انما يعمر لعبادة اللّه وحده فمن كان كافرا باللّه فليس من شانه ان يعمرها فذهب جماعة إلى ان المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو اوصى به لا ينفذ وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه أخرج احمد والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رايتم الرجل بعامر المسجد فاشهدوا له بالايمان قال اللّه تعالى انما يعمر مساجد اللّه من أمن باللّه وقال الحسن ما كان للمشركين ان يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام قرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوب مسجد اللّه على التوحيد
_________
(1) عن عمر بن الخطاب سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بنى مسجدا يذكر فيه اسم اللّه بنى اللّه له بيتا في الجنسة 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 147
(1/2786)
و المراد الجنس وقيل أراد به المسجد الحرام لقوله وعمارة المسجد الحرام ولقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام وذلك هو المراد بصيغة الجمع قال الحسن انما قال مساجد اللّه لأنه قبلة المساجد كلها فكان عمارته عمارة الجميع وقال القراء ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد الا ترى ان الرجل يركب البرذون ويقول أخذت في ركوب البراذين ويقال فلان كثير الدرهم والدينار يريد الدراهم والدنانير شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أى مظهرين الشرك وتكذيب الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو حال من ضمير يعمروا والمعنى ما استقام لهم ان يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت اللّه وعبادة غيره وقال الحسن لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر وقال الضحاك عن ابن عباس شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للاصنام وذلك ان كفار قريش نصبوا الأصنام خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طاقوا شوطا سجدوا لاصنامهم وقال السدى شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو ان النصراني يسال فيقال من أنت فيقول نصرانى واليهودي يقول يهودى ونحو ذلك أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها ويزعمونها محاسن من سقاية الحاج وعمارة البيت وفك العاني لانها ليست للّه تعالى خالصا وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) لاجل الكفر والمعاصي وحبط الحسنات.
(1/2787)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ قف أى لم يخف في الدين غير اللّه ولم يترك امر اللّه مخافة غيره والا فالخشية من المخاوف امر جبلى لا يكاد العاقل يتمالك عنها خص اللّه سبحانه عمارة المسجد بالمؤمنين فانهم هم الجامعون لهذه الكمالات العلمية والعملية وانما لم يذكر الايمان بالرسول لان الايمان باللّه كما ينبغى لا يتصور الا أخذا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ تدرون ما الايمان باللّه وحده قالوا اللّه رسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه الحديث في الصحيحين عن ابن عباس في قصة وقد عبد القيس والمراد بعمارة المسجد ادامة العبادة والذكر فيه ودرس العلم والقرآن عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 148
(1/2788)
صلى اللّه عليه وسلم إذا رايتم الرجل يعتاد المسجد وفى لفظ يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالايمان فان اللّه تعالى قال انما يعمر مساجد اللّه من أمن باللّه واليوم الآخر رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي والبغوي وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من غدا إلى مسجد أو راح أعد اللّه له منزلة من الجنة كلما غدا أو راح متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبعة يظلهم اللّه فى ظله يوم لا ظل الا ظله وذكر فيهم رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود فيه متفق عليه وعن سلمان رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من توضاء في بيته فاحسن الوضوء ثم اتى المسجد فهو زائير اللّه حق على المزور ان يكرم زائيره رواه الطبراني وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيرهما والبيهقي في شعب الايمان وعن عمرو بن ميمون قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون ان بيوت اللّه في الأرض المساجد وان حقا على اللّه ان يكرم من زاره فيما رواه البيهقي في شعب الايمان وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيرهما ومن عمارة المسجد بنائها وتزيينها وتنويرها بالسرج وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا والبيع والشراء وغير ذلك عن محمود ابن لبيد ان عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا ان يدعه قال عثمان سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من بنى للّه مسجدا بنى اللّه له بيتا في الجنة وفي رواية بنى اللّه له كهيئته في الجنة وفي لفظ من بنى مسجدا ينبغى به وجه اللّه نبى اللّه له مثله في الجنة رواه احمد والشيخان في الصحيحين والترمذي وصححه وابن ماجة والبغوي وكذا روى ابن ماجة عن على وروى احمد عن ابن عباس بسند صحيح من بنى اللّه مسجدا ولو كقحص قطاة لبيضها بنى اللّه له بيتا في الجنة والطبراني عن أبى امامة بسند صحيح من بنى اللّه مسجدا بنى اللّه له
(1/2789)
في الجنة أوسع منه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سمع رجلا ينشد ضانة في المسجد فليقل لا ردها اللّه عليك فان المساجد لم تبن لهذا رواه مسلم وعن عايشة قالت امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببناء المسجد في الدور وان ينظف ويتطيب رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تناشد الاشعار في المسجد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 149
و عن البيع والاشتراء فيه وان يتحلق الناس قبل الصلاة في المسجد رواه أبو داود والترمذي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رايتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا اربح اللّه تجارتك وإذا رايتم من ينشد ضالة فقولوا لا رد اللّه عليك رواه الترمذي والدارمي واللّه اعلم فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) المتمسكين بطاعة اللّه التي يؤدى إلى الجنة ذكر بصيغة التوقع قطعا لاطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم في القطع بانهم مهتدون فان هؤلاء مع كمالهم إذا كان ابتدائهم دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باضدادهم ومنعا
(1/2790)
للمومنين بان يغتروا بأعمالهم ويتكلوا عليها أخرج أبو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تبارك وتعالى اوحى إلى بنى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا انا أصيب عبد الحساب يوم القيامة أشاء أعذبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك ان لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي واللّه اعلم أخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم ما أبالي ان لا اعمل اللّه عملا بعد الإسلام الا ان أسقي الحاج وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل اللّه خير مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فانزل اللّه تعالى.
أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية واخرج الفريابي عن ابن سيرين قال قدم على بن أبى طالب مكة فقال للعباس أى عم الا تهاجر الا تلحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اعمر المسجد الحرام واحجب البيت فانزل اللّه تعالى هذه الآية قال البغوي قال ابن عباس قال العباس حين اسر يوم بدر لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاج فانزل اللّه تعالى هذه الآية واخبر ان عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك باللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 150
(1/2791)
و الايمان باللّه والجهاد مع النبي صلى اللّه عليه وسلم خير مما هم عليه وقال البغوي قال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وكذا أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي انها نزلت في على بن أبى طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة انا صاحب البيت بيدي مفاتيحه وقال العباس انا صاحب السقاية والقائم عليها وقال على ما أدرى ما يقولون لقد صليت إلى القبلة ستة سنة يعنى قبل الناس وانا صاحب الجهاد فانزل اللّه أ جعلتم سقاية الحاج وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ السقاية والعمارة مصدر ان من أسقي وعمر فلا بد هاهنا من تقدير ما يقال بحذف المضاف في المشبه أو في المشبه به فيقال أ جعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن أمن أو يقال أ جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كايمان من أمن باللّه وجهاد من جاهدوا ما ان يقال المصدر بمعنى الفاعل يعنى ساقى الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله تعالى والعاقبة للتقوى يويده قراءة عبد اللّه بن الزبير أ جعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ...
(1/2792)
على جمع الساقي والعامر والاستفهام للانكار فان كان نزول الآية في اختلاف المؤمنين بالمشركين كما يدل عليه قول ابن عباس ومحمد بن كعب وغيرهما فلا خفاء في انكار المشابهة بين المشركين وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وإن كان نزولها في اختلاف المؤمنين كما روى مسلم عن النعمان بن بشير فالمراد بعمارة المسجد بنائها دون ادامة الذكر والصلاة فيها فان دوام الذكر أفضل من الجهاد لقوله صلى اللّه عليه وسلم ما من شيء أنجى من عذاب اللّه من ذكر اللّه رواه مالك والترمذي وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل ورواه البيهقي في الدعوات الكبير من حديث عبد اللّه بن عمر وزاد قالوا ولا الجهاد في سبيل اللّه قال ولا الجهاد في سبيل اللّه الا ان يضرب بسيفه حتى ينقطع وقوله صلى اللّه عليه وسلم الا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر اللّه رواه احمد والترمذي
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 151
(1/2793)
و ابن ماجه عن أبى الدرداء ورواه مالك موقوفا على أبى الدرداء وعن أبى سعيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل أى العباد أفضل وارفع درجة عند اللّه يوم القيامة قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات قيل يا رسول اللّه ومن الغازي في سبيل اللّه قال لو ضرب بسيفه في الكفار حتى ينكسر أو يختضب دما فان الذاكر للّه أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال حديث غريب واللّه اعلم لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ تقرير لعدم المشابهة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) هذا يؤيد قول من قال ان المراد عدم الاستواء بين فعل المؤمنين من الايمان والجهاد وفعل المشركين من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام والمعنى واللّه لا يهدى القوم الظالمين بالشرك فكيف يساوون الذين هديهم اللّه ووفقهم للحق والصواب وقيل المراد بالظلمين الذين يحكمون بالمساواة بينهم وبين المؤمنين واللّه اعلم (قصّه استقاء من زمزم) روى البخاري وغيره عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال يا رسول اللّه انهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم اتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال اعملوا فانكم على عمل صالح ثم قال لو لا ان تغلبوا لنزلت حتى اصنع الحبل على هذه وأشار إلى عاتقه وروى مسلم عن بكر بن عبد اللّه المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس رضى اللّه عنهما عند الكعبة فاتاه أعرابي فقال مالى ارى بنى عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ ا من حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس رضى اللّه عنهما الحمد للّه ما بنا من حاجة ولا بخل قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم على راحلته وخلفه اسامة فقال أحسنتم واجملتم كذا فاضعوا فلا نريد نغير ما امر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(1/2794)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً أعلى رتبته واكثر كرامة عِنْدَ اللَّهِ من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج أو من لم يستجمع هذه الصفات من المؤمنين
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 152
وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) الناجون من النار الواصلون إلى الجنة والدرجات العلى دون المشركين وان كانوا سقاة الحاج وعمار المسجد.
يُبَشِّرُهُمْ قرأ حمزة بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعل رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها أى في الجنات نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) دائم تنكير المبشر به للاشعار بانه وراء التعيين والتعريف.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أكد الخلود بالتابيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يستحقر دونه ما استوجبوا لاجله أو نعم الدنيا واللّه اعلم.
(1/2795)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ قال البغوي قال مجاهد هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس لما امر النبي صلى اللّه عليه وسلم الناس بالهجرة فمنهم من تعلق به اهله وولده يقولون ننشدك باللّه ان يقنعنا فيرق عليهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال مقاتل نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى اللّه المؤمنين عن ولايتهم وانزل هذه الآية يعنى لا تتخذوهم اولياء بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم اسراركم وتوثرون المقام معهم على الهجرة ان استحبوا أى اختار والكفر على الايمان كذا روى الثعلبي عنه وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فيطلعهم على عورات المسلمين ويؤثرون المقام ... معهم على الهجرة والجهاد فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) لوضعهم الموالاة في غير موضعه فان محل موالاة المسلمين المسلمون قال البغوي لما نزلت الآية المذكورة قال الذين اسلموا ولم يهاجروا ان نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا فنزلت.
قُلْ يا محمد للمتخلفين عن الهجرة إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ قرأ أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم بالألف على الجمع والباقون بلا الف يعنى اقربائكم ماخوذ من العشرة وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أى اكسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أى فوت وقت رواجها ونفاقها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 153
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
(1/2796)
فقعدتم لاجله عن الهجرة والجهاد فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ جواب ووعيد قال عطاء بقضائه يعنى بالعقوبة العاجلة والاجلة وقال مجاهد ومقاتل بفتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) الخارجين عن طاعة اللّه تعالى أى لا يرشدهم قال البيضاوي المراد الحب الاختياري يعنى إيثار هذه الأشياء وترك امتثال أوامر اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم دون الحب الطبيعي فانه لا يدخل تحت التكليف والتحفظ عنه قلت وكمال الايمان ان يكون الطبيعة تابعة للشريعة فلا يقتضى الطبيعة الا ما يأمره الشريعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب للّه وابغض للّه واعطى للّه ومنع للّه فقد استكمل الايمان وفي رواية فقد استكمل إيمانه رواه أبو داود عن أبى امامة والترمذي عن معاذ بن انس مع تقديم وتأخير وفي الصحيحين عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين والمراد لا يومن ايمانا كاملا وفيهما عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثبت من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحب الا للّه ومن يكره ان يعود في الكفر بعد ان أنقذه اللّه منه كما يكره ان يلقى في النار قلت وجدان حلاوة الايمان عبارة عن الاستلذاذ به كما يستلذذ الرجل بالشهوات الطبيعية وذلك كمال الايمان ولا يكتسب ذلك الا من مصاحبة ارباب القلوب الصافية والنفوس الزاكية رزقنا اللّه سبحانه وهذه الآية وما ذكرنا من الأحاديث « 1 » يوجب افتراض اكتساب التصوف من خدمة المشايخ رضى اللّه عنهم أجمعين ومعنى قوله تعالى واللّه لا يهدى القوم الفاسقين يعنى لا يرشدهم إلى معرفته قال البيضاوي في الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص عنه قلت ذلك القليل هو الصوفية العلية قال صاحب المدارك الآية تنعى على الناس ما
(1/2797)
هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين إذ تجد من
_________
(1) عن عبد اللّه بن هشام قال كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال واللّه لانت يا رسول اللّه أحب الىّ من كل شيء الا نفسى فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 154
أورع الناس من يستجب دينه على الآباء والأبناء والأموال وحظوظ الدنيا قلت الا من أعطاه اللّه معرفته فيقول ما قال الشاعر بالفارسية.
آنكس كه ترا شناخت جان را چه كند فرزند وعيال وخان ومان را چه كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى ديوانه تو هر دو جهانرا چه كند
.
(1/2798)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يوم بدر وقينقاع والأحزاب والنضير أو قريظة والحديبية وخيبر وفتح مكة وغيرها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على مواطن اما بتقدير المضاف في المعطوف يعنى مواطن حنين أو في المعطوف عليه يعنى في ايام مواطن كثيرة أو يفسر المواطن بالأوقات كمقتل الحسين رضى اللّه عنه إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ كانوا اثنى عشر الفا أو اربعة عشر الفا كما سيجئى في القصة والكفار اربعة آلاف كذا جزم غير واحد وجزم الحافظ وغيره بانهم كانوا ضعف عدد المسلمين أو اكثر من ذلك فعلى هذا كان المشركون اربعة وعشرين الفا أو ثمانية وعشرين الفا وقوله إذا أعجبتكم بدل من يوم حنين ولم يمنع إبداله منه ان يعطف على موضع في مواطن فانه لا يقتضى مشاركتهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضى كثرتهم وإعجابهم كثرتهم في جميع المواطن وحنين واد بين مكة والطائف إلى جنب ذى المجاز قريب من الطائف بينه وبين مكة بضع عشر ميلا حارب فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هوازن وهو قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان بن الياس بن مضر وثقيف بطن منها (قصّة غزوة حنين) قال ائمة المغازي لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة مشت اشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض واشفقوا ان يغيروهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا قد فرغ لنا فلا ناحية « 1 » له دوننا والرأي ان نغزوه فاجمعوا أمركم فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل ان يسير إليكم فاجتمعت هوازن وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النضري واسلم بعد ذلك واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها
_________
(1) أى لا مانع 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 155
(1/2799)
و نصر وجشم كلها وسعد بن بكر ناس من بنى هلال وهم قليل لا يبلغون مائة ولم يشهدها من قيس بن غيلان ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب مشى فيها ابن أبى براء فنهاها عن الحضور وقال واللّه لو ناوى أى عادى محمد ما بين المشرق والمغرب لظهر عليهم وكان في جشم دريد بن الصمة ابن ستين ومائة سنة أو عشرين ومائة سألوا دريدا الرياسة عليهم لرايه قال ما ابصر ولا استمسك على الدابة ولكن احضر معكم لان أشير عليكم براى على ان لا تخالفوني فان تخالفوني لا أخرج فجاءه مالك بن عوف وكان امر الناس إليه وهو ابن ثلثين سنة فقال لا نخالفك فلما اجمع مالك المسير إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر الناس فخرجوا معهم باموالهم ونسائهم ثم انتهى إلى أوطاس فعسكر به وجعلت الامداد تأتيه من كل جهة واقبل دريد بن الصمة فقال مالى اسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاء وخوار البقر قالوا ساق مالك مع الناس أبنائهم ونسائهم وأموالهم فقال دريد لمالك لم سقت قال أردت ان اجعل خلف كل انسان اهله وماله ...
(1/2800)
يقاتل عنهم فقال دريد هذا راعى ضان ماله وللحرب وصفق دريد احدى يديه على الاخرى تعجبا هل يرد المنهزم شيء انها انكانت لك لم ينفعك الا رجل بسيفه ورمحه وانكانت عليك فضحت في أهلك ومالك ارفع النساء والذراري والأموال إلى عليا قومهم وممتنع بلادهم ثم الق القوم على متون « 1 » الخيل والرجال فانكانت لك لحق بك من ورائك وإن كان عليك فقد أحرزت أهلك ومالك قال مالك لا افعلي قد كبرت وكبر عقلك فغضب دريد ثم قال دريد يا معشر هوازن ما فعلت كعب وكلاب قالوا ما شهد منهم أحد قال غاب الحد « 2 » والجد « 3 » لو كان يوم علاء ورفعة « 4 » ما تخلفوا عنه يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء قابوا عليه قال فمن شهدها منكم قالوا عمرو بن عامر وعوف بن عامر قال ذانك جذغان « 5 » من بنى عامر لا ينفعان ولا يقران قال لدريد هل من راى غير هذا قد امر القوم قال دريد نعم تجعل كمينا « 6 » يكونون لك عونا ان حمل القوم عليك جاءهم الكمين
_________
(1) متون جمع متن بمعنى الظهر 12.
(2) الحد بفتح الحاء المهملة المنع 12.
(3) الجد يكسر الجيم الشجاعة 12.
(4) عطف تفسير 12.
(5) يعنى انهمك ضعيفان في الحرب نزلة الجذع 12.
(6) أى الجيش المختفى 12. [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 156
(1/2801)
من خلفهم وكررت أنت بمن معك وانكانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد فذلك حين امر مالك ان يكونوا كمنافى الشعاب وبطون الاودية فحملوا الحملة الاولى التي انهزم فيها اكثر اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبر هوازن وما عزموا عليه أراد التوجه إلى قتالهم واستخلف عتاب بن أسيد أميرا على مكة وهو ابن عشرين سنة ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه وروى البخاري عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال حين أراد حنينا منزلنا غدا إنشاء اللّه بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر واستعار من صفوان بن امية ادرعا وسلاحا فقال أ غصبا يا محمد أم عارية قال بل عارية ...
(1/2802)
مضمونة فاعطى له مائة درع بما يكفيهما من السلاح كذا روى ابن إسحاق عن جابر وأبو داود واحمد عن امية بن صفوان قال السهيلي واستعار من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلثة آلاف رمح فقال كانى انظر إلى رماحك هذه في تقصف ظهر المشركين فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في اثنى عشر الف من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة والفين من أهل مكة يوم السبت بست خلون من شوال سنة روى أبو الشيخ عن محمد بن عبيد اللّه الليثى كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل المدينة عشرة آلاف اربعة آلاف من الأنصار ومن كل من جهينة ومزينة واسلم وغفار وأشجع الف ومن المهاجرين وغيرهم الف وقال عروة والزهري قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة باثنى عشر الف وأضيف إليهم الفان من الطلقاء فكانوا اربعة عشر الفا قال ابن عقبة ومحمد بن عمر لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حنين خرج معه أهل مكة لم يغادر منهم أحدا ركبانا ومشاة حتى خرجن معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم ولا يكرهون ان يكون الصدمة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان معه أبو سفيان بن حرب وصفوان بن امية وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما ومع النبي صلى اللّه عليه وسلم زوجتيه أم سلمة وميمونة ضربت لهما قبة روى ابن إسحاق والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن الحارث بن مالك قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حنين
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 157
(1/2803)
و نحن حديثوا عهد بالجاهلية وكانت لكفار قريش ومن سواهم شجرة عظيمة وعند الحاكم في الإكليل سدرة خضرا يقال لها ذات نواط « 1 » ياتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما قرابنا ونحن نسير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سدرة خضرا عظيمة فتنادينا يا رسول اللّه اجعل ذات نواط كما لهم ذات نواط فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه اكبر اللّه اكبر قلتم والذي نفسى بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا الها كما لهم الهة قال انكم قوم تجهلون انها لسنن لتركبن سنن من قبلكم حذوا لقده بالقذة وعن سهيل بن حنظلة رضى اللّه عنه قال جاء فارس فقال يا رسول اللّه طلعت جبل كذا وكذا فإذا هوازن جاءت عن بكرة أبيها « 2 » بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال تلك غنيمة المسلمين إنشاء اللّه تعالى ثم قال من يحرسنا الليلة قال انس بن مالك أبى مرثد انا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فاركب واستقبل هذا الشعب حتى تكون أعلاه ولا تغرن من قبلك فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح فإذا هو قد جاء فقال انى انطلقت حتى كنت في أعلا هذا الشعب حيث أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كلاهما فنظرت فلم ار أحدا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أوجبت فلا عليك ان لا تعمل بعدها رواه أبو داود والنسائي وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن حدرد ليكشف خبر هوازن فدخل فيهم فاقام فيهم يوما أو يومين فسمع من مالك يقول لاصحابه ان محمدا لم يقاتل قوما قبل هذه المرة انما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم فاذا
(1/2804)
كان السحر فصفوا مواشيكم ونسائكم وأبنائكم من ورائكم ثم يكون الجملة منكم واكسروا جفون سيوفكم فتلقون بعشرين الف سيف مكسورة الجفون واحملوا حملة رجل واحد واعلموا ان الغلبة لمن حمل اولا كذا روى ابن إسحاق عن جابر بن عبد اللّه وعمرو بن شعيب وعبد اللّه بن أبى بكر بن عمرو بن حزم وروى محمد بن عمر عن أبى بردة بن بيار قال كنا باوطاس
_________
(1) من ناط ينوط إذا علقة وكلما علق من شيء فهو نوط 12.
(2) عن بكرة أبيها بفتح الموحدة وسكون الكاف كلمة للعرب يريدون به الكثرة يعنى انهم جادا جميعا لم يتخلف منهم أحد وليس هذا البكرة على الحقيقة وهى التي يستقى عليها الماء 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 158
(1/2805)
نزلنا تحت شجرة عظيمة نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحتها فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس وعنده رجل جالس فقال ان هذا الرجل جاءنى وانا نائم فسل سيفى ثم قام به على راسى فانتبهت وهو يقول يا محمد من يمنعك منى فقلت اللّه فسللت سيفى وقلت يا رسول اللّه دعنى اضرب عنق عدو اللّه فانه من عيون المشركين فقال لى اسكت يا با بردة فما قال له شيئا ولا عاقبه فقال يا أبا بردة ان اللّه مانعى وحافظى حتى يظهر دينه على الدين كله وروى أبو نعيم والبيهقي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى حنينا مساء الليلة الثلثاء لعشر خلون من شوال وبعث مالك بن عوف ثلثة من هوازن ينظرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأمرهم ان يتفرقوا في العسكر فرجعوا إليهم وقد تفرقت أوصالهم فقال ويلكم ما شانكم فقالوا رأينا رجالا بيضا على خيل بلق فو اللّه ما تماسكنا ان أصابنا ما ترى واللّه ما نقاتل أهل الأرض انما نقاتل أهل السماء وان اطعتنا رجعت بقومك فان الناس ان راوا مثل الذي راينا أصابهم مثل الذي أصابنا فقال أف لكم بل أنتم اجبن أهل العسكر فحبسهم عنده فرقا ان يشيع ذلك الرعب في العسكر وقال دلونى على رجل شجاع فاجمعوا له على رجل فخرج ثم رجع إليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم فقال مثل الذي قالت الثلاثة قال محمد بن عمر لما كان ثلثا الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبّاهم « 1 » في وادي حنين وهو واد أخوف خطوطه ذو شعاب ومضائق وفرق الناس فيها وقال لهم ان يحملوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حملة رجل واحد وعبّا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه وصفهم صفوفا في السحر ووضع الالوية والرايات في أهلها وليس درعين والمغفر والبيضة واستقبل الصفوف وطاف عليها بعضها خلف بعض يتحدرون فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح ان صدقوا وصبروا وقدم خالد بن وليد في بنى سليم واهل مكة
(1/2806)
و جعل ميمنة وميسرة وقلبا وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه روى أبو الشيخ والحاكم وصححه والبزار وابن مردوية عن انس قال لما اجتمع يوم حنين أهل مكة واهل المدينة أعجبتهم كثرتهم فقال القوم اليوم واللّه نقاتل
_________
(1) عبّا تعبية أى رتبهم في مواضعهم وهياهم للحرب 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 159
(1/2807)
و لفظ البزار قال غلام من الأنصار لن تغلب اليوم من قلة فما هو الا ان لاقينا عدونا فانهزم القوم وولوا مدبرين وفي روايته يونس بن بكر في زيادات المغازي كره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قالوا وما أعجبتهم كثرتهم وكذا روى ابن المنذر عن الحسن وذلك قوله تعالى إذ أعجبتكم كثرتكم فَلَمْ تُغْنِ أى الكثرة عَنْكُمْ شَيْئاً من الإغناء أو من امر العدو وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ما مصدرية والباء بمعنى مع أى مع رحبها أى سعتها أو المعنى ملتبسة برحبها على ان الجار والمجرور في موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر أى ملتبسا بها يعنى ان الأرض مع سعتها لا تجدون فيها مقرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تبوئون السفر أى ملتبسا بها يعنى ان الأرض مع سعتها لا تجدون فيها كمن لا يسعه مكانه ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الكفار ظهوركم خطاب إلى الذين انهزموا من المؤمنين مُدْبِرِينَ (25) منهزمين الأدبار الذهاب إلى خلف ضد الإقبال روى ابن إسحاق واحمد وابن حبان عن جابر وأبو يعلى ومحمد بن عمر عن انس قال جابر لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا من واد أخوف ذو خطوط له مضائق وشعب وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي فكمنوا في شعابه واخبانه ومضائقه وتهيئوا عدوا فو اللّه ما راينا ونحن منحطون الا الكثائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وكانوا رماة وقال انس استقبلنا من هوازن شيء لا واللّه ما رايت مثله في ذلك الزمان قط من الكثرة وله بسواد وقد ساقوا نسائهم وأبنائهم وأموالهم ثم صفوا صفوفا فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال تم جاؤا بالإبل والبقر والغنم فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم فلما رائينا ذلك السواد حسبناه رجالا كلهم فلما انحدرنا من الوادي فبينا نحن فيه في غلس الصبح ان شعرنا الا بالكثائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه فحملوا حملة رجل واحد فانكشف أوائل الخيل بنى سليم مولية
(1/2808)
و تبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفه قال جابر واتخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات اليمين ثم قال أيها الناس هلم إلى انا رسول اللّه انا محمد بن عبد اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 160
روى البخاري وابن أبى شيبة وابن مردوية والبيهقي عن ابن إسحاق قال رجل للبراء بن عازب يا با عمارة أ فررتم يوم حنين قال لا واللّه ما ولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه حسرا ليس عليهم كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فاقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام كانها رجل جراد « 1 » ما يكادون يخطؤن واقبلوا هناك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقود به فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعا واستنصر وقال انا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب وفى روايته قال البراء كنا إذا احمر البأس نتقى به وان الشجاع منا الذي يحاذيه يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ابن إسحاق لما انهزم الناس تكلم رجال في أنفسهم من الضغن « 2 » فقال أبو سفيان بن حرب وكان إسلامه بعد مدخولا لا ينتهى هزيمتهم دون البحر وان الأزلام لمعه في كنانة وصرح جبلة ابن الحنبل وقال ابن هشام كلدة بن الحنبل واسلم بعد ذلك وهو مع أخيه لامه صفوان بن امية وصفوان مشرك في المدة التي جعل له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا بطل السحر اليوم فقال له صفوان ان اسكت فو اللّه لان يرمينى رجل من قريش أحب إلى من يرمينى رجل من هوازن روى ابن سعد وابن عساكر عن عبد المالك بن عبيد والطبراني والبيهقي وابن عساكر وأبو نعيم عن عكرمة قالا قال شيبة بن عثمان لما كان عام الفتح ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة عنوة وغزا حنينا قلت أسير مع قريش إلى هوازن فعسى ان اختلطوا أصيب
(1/2809)
محمدا غرة وتذكرت أبى وقتله حمزة وعمى وقتله على ابن أبى طالب فقلت اليوم أدرك ثارى من محمد وأكون انا الذي قمت بثار قريش كلها وأقول لو لم يبق
من العرب والعجم الا اتبع محمدا ما تبعته ابدا فكنت مرصدا لما خرجت لا يزداد الأمر في نفسى الا قوة فلما انهزم أصحابه جئته من عن يمينه فإذا بالعباس قائم عليه درع بيضاء فقلت عمه لن يخذله فجئته عن يساره فإذا بابى سفيان بن الحارث فقلت ابن عمه لن يخذله فجئته من خلفه فلم
_________
(1) بكسر الراء وسكون الجيم الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة وهو جمع على غير لفظ الواحد 12.
(2) أى الحقد يعنى كينه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 161
(1/2810)
يبق الا ان اسوّره سورة بالسيف إذا ارتفع إلى فيما بينى وبينه شواظ من نار كأنَّه يرق فخفت ان يتمخشنى « 1 » فوضعت على بصرى خوفا عليه ومشيت القهقرى وعلمت انه ممنوع فالتفت إلى وقال يا شيبة ادن منى فدنوت منه فوضع يده على صدرى وقال اللهم اذهب عنه الشيطان فرفعت إليه راسى وهو أحب الىّ من سمعى وبصرى وقلبى ثم قال يا شيبة قاتل الكفار قال فتقدمت بين يديه أحب واللّه ان أقيه بنفسي كلشيء فلما انهزمت هوازن ورجع إلى منزله دخلت عليه فقال الحمد للّه الذي أراد بك خيرا ثم حدثنى بما هممت به صلى اللّه عليه وسلم وروى محمد بن عمر عن النضر بن الحارث كان يقول الحمد للّه الذي أكرمنا بالإسلام ومنّ علينا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ولم نمت على ما مات عليه الآباء فذكر حديثا طويلا ثم قال خرجت مع قوم من قريش هم على دينهم بعد وابى سفيان بن حرب وسفيان بن امية وسهيل بن عمر ونحن نريد انكانت دبرة على محمد ان نغير عليه فيمن يغير عليه فلما تراءت الفئتان ونحن في خير المشركين حملت هوازن حملة واحدة ظننا ان المسلمين لا يجترونها ابدا ونحن معهم وانا أريد بمحمد ما أريد وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباؤ حوله رجال بيض الوجوه فاقبلت عامدا إليه فصاحوا بي إليك إليك فرعب فوادى وأرعدت جوارحى قلت هذا مثل يوم بدر ان الرجل لعلى حق انه لمعصوم وادخل اللّه قلبى الإسلام وغيّره عما كنت أهم به الحديث بطوله وروى محمد بن عمر عن أبى قتادة قال مضى سرعان الناس منهزمين حتى دخلوا مكة ساروا يوما وليلة يخبرون أهل مكة بهزيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعتاب بن أسيد يومئذ امير على مكة ومعه معاذ بن جبل فجاءهم امر غمهم وسرّ بذلك قوم من أهل مكة وأظهروا الشماتة وقال قائل منهم يرجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه فتكلم عتاب بن أسيد يومئذ فقال ان قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم فان دين
(1/2811)
اللّه قائم والذي يعبده محمد حى لا يموت فما امسوا من ذلك اليوم حتى جاء الخبر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أوقع هوازن فسر عتاب بن أسيد ومعاذ بن جبل رضى اللّه عنهما وكبت اللّه من ......
هناك ممن كان يسر بخلاف ذلك فرجع المنهزمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) أي يتخوفني.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 162
(1/2812)
فلحقوه باوطاس وقد راحل منها إلى الطائف (فائدة) قال انس رضى اللّه عنه بقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده وقال العباس فيما روى عنه مسلم وابن إسحاق وعبد الرزاق كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين فلزمت انا وأبو سفيان بن الحارث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم نفارقه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بغلة له شهباء فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يركض بغلة قبل الكفار وانا أخذ بلجام بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكفها ان لا يسرع وهو لا يألوا ما اسرع نحو المشركين وأبو سفيان بن الحارث أخذ بركاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي أحاديث آخر انه بقي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة قال محمد بن يوسف الصالحي في الجمع بين الأقوال المراد انه بقي وحده متقدما مقبلا على العدو والذين ثبتوا كانوا وراءه والوحدة بالنسبة لمباشرة القتال وأبو سفيان بن الحارث وعباس كانوا يخدمونه في إمساك البغلة ونحو ذلك واختلفوا في عدد الثابتين يوم حنين قال الكلبي كان حول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وروى البيهقي عن حارثة بن النعمان لقد حرزت من بقي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أدبر الناس فقلت مائة وروى احمد والطبراني والحاكم وأبو نعيم برجال ثقات عن ابن مسعود قال كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين فولى الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وروى البزار عن انس ان أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضى اللّه عنهم ضرب كل منهم بضعة عشر ضربة وروى ابن مردوية عن أبى عمر لم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مأته رجلا ولا منافاة بين نفي المائة واثبات ثمانين قال محمد بن عمر ا
(1/2813)
يقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لحارثة بن النعمان حين انكشف عنه الناس يوم حنين يا حارثة كم ترى الناس الذين ثبتوا فنظرت عن يمينى وعن شمالى فقلت هم مأته فما علمت انهم مأته حتى كان يوم مررت على النبي صلى اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 163
عليه وسلم وهو يناجى جبرئيل عند باب المسجد فقال جبرئيل يا محمد من هذا قال حارثة بن النعمان فقال جبرئيل هو أحد المائة الصابرة يوم حنين لو سلمت لوددت عليه فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حارثة قال ما كنت أظن الا دحية الكلبي واقف معك وذكر النووي ان الذين ثبتوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنا عشر رجلا ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب ان الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط قوله
نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعة وفر من قد فر عنه فاقشعوا
و عاشرنا لاقي الحمام بنفسه لما مسه في اللّه لا يتوجع
قال الصالحي قال الحافظ لعل هذا هو الا ثبت ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعد فيمن لم ينهزم وثبت اربع من النساء أم سليم بنت ملحان وأم عمارة نسيت وأم سليط وأم الحارث قال اللّه تعالى.
(1/2814)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أى رحمته التي استقروا بها وأمنوا عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين انهزموا وانما ذكر الرسول لان السكينة انما نزلت على المنهزمين ببركة وجود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبتوسطه نزلت على غيره وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حالهما وقيل المراد بالمؤمنين الذين ثبتوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يفروا أخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلايل عن ابن مسعود قال كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين نزلت عليهم السكينة قال ابن عقبة قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الركابين وهو على البغلة فرفع يديه إلى اللّه تعالى يقول اللهم انى أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغى لهم ان يظهر علينا انتهى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عباس ناديا معشر الأنصار يا اصحاب السمرة يا اصحاب سورة البقرة قال العباس وكان رجلا ميتا فقلت يا على صوتى اين الأنصار اين اصحاب السمرة اين اصحاب سورة البقرة قال فو اللّه لكانما عطفتهم حين سمعوا صوتى عطفة البقر على أولادها وفي حديث عثمان بن أبى شيبة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 164
(1/2815)
عند أبى القاسم البغوي والبيهقي يا عباس اصرخ بالمهاجرين بايعوا تحت الشجرة وبالأنصار اللذين آووا ونصروا قال فما شبهت عطفة الأنصار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا عطفة الإبل على أولادها حتى نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كأنَّه في خرجة فلرماح الأنصار كانت أخوف عندى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من رماح الكفار فقالوا يا لبيك يا لبيك الحديث وروى أبو يعلى والطبراني برجال ثقات عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ يوم حنين كفا من حصى ابيض فرمى به وقال هزموا ورب الكعبة وكان على رضى اللّه عنه أشد الناس قتالا بين يديه وروى ابن سعد وابن أبى شيبة واحمد وأبو داود والبغوي وغيرهم في حديث طويل عن أبى عبد الرحمن يزيد الفهري واسمه كرز ولى المسلمون مدبرين كما قال اللّه تعالى فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يا أيها الناس انا عبد اللّه ورسوله فاقتحم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن فرسه وحدثنى من كان اقرب إليه منى انه أخذ حفنة من تراب فخشاه في وجوه القوم وقال شاهت الوجوه قال يعلى بن عطاء أخبرنا أبنائهم عن آبائهم قالوا ما بقي منا أحد الا امتلأت عيناه وفمه من التراب وسمعناه صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست فهزمهم اللّه تعالى قال اللّه تعالى - وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها روى ابن أبى حاتم عن السدى الكبير قال هم الملئكة وروى أيضا عن سعيد بن جبير قال في يوم حنين أمد اللّه تعالى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمسة آلاف من الملئكة مسومين وروى ابن إسحاق وابن المنذر وابن مردوية وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم قال رايت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود اقبل من السماء حتى سقط بين القوم فنظرت فإذا نمل اسود قد ملا الوادي ثم أشك انها الملئكة ولم يكن الا هزيمة القوم وروى محمد بن عمر عن يحيى بن عبد اللّه عن شيوخ
(1/2816)
قومه من الأنصار قالوا رأينا يومئذ كالبجد الأسود هوت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث فان كنا لننفضه عن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 165
ثيابنا فكان نصر اللّه أيدنا به وروى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال حدثنى رجل كان من المشركين يوم حنين قال التقينا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة ان كفيناهم فبينا نحن نسوقهم في ادبارهم إذا التقينا صاحب البغلة فإذا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي رواية إذ بينا وبينه رجال بيض حسان الوجوه قالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا وكانت إياها وروى ابن مردوية والبيهقي وابن عساكر عن شيبة بن عثمان الحجبي قال خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين ما خرجت إسلاما ولكن خرجت آنفا ان يظهر هوازن
على قريش فو اللّه انى لواقف مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ قلت يا رسول اللّه انى لارى خيلا بلقا قال يا شيبة انه لا يراها الا كافر فضرب بيده على صدرى وقال اللهم اهد شيبة فعل ذلك ثلث مرات فو اللّه ما رفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الثانية حتى ما أجد من خلق أحب إلى منه فالتقى المسلمون فقتل من قتل ثم اقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمر آخذ باللجام والعباس أخذ بالثغر فنادى العباس اين المهاجرين اين اصحاب سورة البقرة بصوت عال هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاقبل المسلمون والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول
انا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب
(1/2817)
فجالدوهم بالسيوف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآن حمى « 1 » الوطيس وروى محمد بن عمر عن مالك بن أوس بن الحدثان قال حدثنى عدة من قومى شهدوا ذلك اليوم يقولون لقد رمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الرمية من الحصباء فما من أحد الا يشكوا القذى في عينه ولقد كنا نجذ في صدورنا خفقانا كوقع الحصا في الطساس ما يهدى ذلك الخفقان ولقد راينا يومئذ رجالا بيضا على خيل بلق عليها عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض كثائب كثائب أى لا يعقلون ما يليقون ...
... ولا تستطيع ان تتاملهم من الرعب منهم قال اللّه تعالى وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) روى ابن أبى حاتم عن السدى الكبير قال
_________
(1) حمى الوطيس هو شىء كالتنور يخبز فيه شبه شدة الحرب به وقيل حجارة مدورة إذا حميت منعت الوطي عليها فضرب مثلا للام يشتد 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 166
(1/2818)
يعنى قتلهم بالسيف وروى البزار بسند رجاله ثقات عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم حنين اجزروهم جزرا وأومى بيده إلى الحلق وروى البيهقي عن عبد اللّه بن الحارث عن أبيه قال قتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر يعنى سبعين رجلا واستشهد بحنين ايمن ابن أم ايمن وسراقة بن الحارث ويتيم بن ثعلبة ويزيد بن زمعة وأبو عامر الأشعري باوطاس كما سياتى وروى محمد بن عمر عن محمد بن عبد اللّه بن صعصعة ان سعد بن عبادة جعل يصيح يا للخررج ثلثا وأسيد بن حضير يا للاوس ثلثا فثابوا من كل ناحية كانهم النحل يأوي إلى يعسوبها قال أهل المغازي فنحق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى اسرع القتل في ذرارى المشركين فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية الا لا تقتل الذرية فقال أسيد بن الخضير يا رسول اللّه أولاد المشركين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو ليس خياركم أولاد المشركين كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنهما لسانها فابواه يهودانها وينصرانها قال محمد بن عمر قال شيوخ ثقيف ما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في طلبنا في ما نرى حتى ان الرجل منا ليدخل حصين الطائف وانه ليظن انه على اثره من رعب الهزيمة قالوا اهزم اللّه تعالى أعدائه من كل ناحية واتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم اللّه نسائهم وذراريهم وفر مالك بن عوف حتى بلغ حصين الطائف هو وأناس من اشراف قوم وقال ابن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما لما هزم اللّه هوازن أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم باوطاس وتوجه بعضهم نحور نخلة ولم يتتبع من سلك الثنايا وقتل ربيعة بن رفيع من بنى سليم دريد بن الصمة قال البغوي فلما هزم اللّه المشركين وولوا مدبرين انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا من الأشعريين يقال له ابو
(1/2819)
عامر وامره على جيش إلى أوطاس فسار إليهم فاقتتلوا وقتل الدريد بن الصمة وهزم اللّه المشركين وسبى المسلمون عيالهم وهرب مالك بن عوف النضري فاتى الطائف وتحصن بها وأخذ ماله
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 167
و اهله فيمن أخذ وقتل امير المسلمين أبو عامر واسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين راوا فصر اللّه رسوله وإعزاز دينه ومما جمعت الغنائم امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ينحدر إلى جعرانة فوقف بها إلى ان انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حصار الطائف قال ابن سعد وتبعه في العيون كان السبي ستة آلاف راس والأهل اربعة وعشرون الف بعير والغنم اكثر من أربعين الف شاة واربعة آلاف اوقية فضة وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال سبى يومئذ ستة آلاف سبى بين امراة وغلام فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وقال البلاذري بديل بن ورقاء الخزاعي وقال ابن إسحاق جعل على المغانم مسعود بن عمر الغفاري قال ابن إسحاق ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل قريبا من الطائف فضرب عسكره واشرف ثقيف على حصنهم ولا مثل له في حصون العرب وأقاموا وهم مأته رام فرموا بالسهام والمقاطيع من بعد حصنهم ومن دخل تحت الحصين ولوا عليه بسكك الحديد محماة من النار تطير منها الشرر فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا كأنَّه رجل جراد حتى أصيب ناس المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا فارتفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى موضع مسجده اليوم الذي بنته ثقيف بعد إسلامهم وقال عمرو بن امية الثقفي واسلم بعد ذلك لا يخرج إلى محمد أحد إذا دعى أحدا من أصحابه إلى البراز ودعوه يقيم ما اقام ثم اقبل خالد بن الوليد فنادى من يبارز فلم يطلع عليه أحد ثم دعا فلم ينزل إليه أحد فنادى عبد يا ليل لا ينزل إليك أحد ولكنا نقيم في حصننا خباءنا فيه ما يصلحنا لسنين فإذا أقمت حتى ذهب ذلك الطعام خرجنا
(1/2820)
إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت فقاتلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالرمي وهم يقاتلونه بالرمي من وراء الحصين ولم
يخرج إليه أحد وكثرت الجراحات له من ثقيف بالنبل وقتل جماعة من المسلمين روى ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا نادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج من الحصن بضعة عشر رجلا فاعتقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال محمد بن عمر وشاور رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه فقال سلمان الفارسي
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 168
(1/2821)
ارى ان تنصب المنجنيق فنصبه على حصين الطائف وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يقطع أعنابهم وتخيلهم قال عروة امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل رجل من المسلمين ان يقطع خمس نخلات وخمس حيلات فقطع المسلمون قطعا ذريعا فنادت ثقيف لم تقطع أموالنا اما ان تأخذها ان ظهرت علينا واما ان تدعها للّه وللرحم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانى ادعها للّه وللرحم قال ابن إسحاق وبلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لابى بكر انى رايت ان أهديت قعبة مملوءة زبدا فنظرها ديك فهراق ما فيها فقال أبو بكر ما أظن ان تدرك منهم يومك هذا ما تريد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا ارى ذلك وروى محمد بن عمر عن أبى هريرة قال لما مضمت خمسة عشر من حصار الطائف استشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نوفل بن معاوية الدئلي رضى اللّه عنه فقال يا نوفل ما ترى في المقام عليهم فقال يا رسول اللّه ثعلب في جحر ان أقمت عليه أخذته وان تركته لم يضرك وروى الشجال عن ابن عمر وعمر رضى اللّه عنهما قال لما حاصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطائف ولم ينل منه شيئا قال انا قافلون عذا إنشاء اللّه فثقل عليهم قالوا تذهب ولا نقبح فقال اغدوا فغدوا فقاتلوا قتالا شديدا فاصابهم جراح فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا قافلون غدا إنشاء اللّه تعالى قال فاعجبهم فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر الصالحي انه استشهد من المسلمين بالطائف اثنا عشر رجلا روى البيهقي عن عروة امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لا يسرحوا ظهرهم فلما أصبحوا ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ودعا حين ركب قافلا اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم وروى الترمذي وحسنه عن جابر قالوا يا رسول اللّه احرفتنا نبال ثقيف فادع اللّه عليهم فقال اللهم اهدهم ثقيفا وايت بهم قال ابن إسحاق في
(1/2822)
رواية حاصر أهل الطائف ثلثين ليلة أو قريبا من ذلك وفي رواية بضعا وعشرين ليلة وقيل عشرين يوما وقيل بضع عشرة ليلة قال ابن حزم هو الصحيح بلا شك وروى احمد ومسلم وعن انس انهم حاصروا الطائف أربعين ليلة واستغربه في الهداية قال البغوي حاصرهم بقية الشهر يعنى شوال
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 169
فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم قلت هذا يوافق ما قال ابن حزم وعلى هذا لا دلالة فيه على القتال في الشهر الحرام كما ذكر من ادعى نسخ حرمة القتال فيها فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجعرانة فاحرم منها بعمرة قال اللّه تعالى.
(1/2823)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ ان يهديه إلى الإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكر عن ابن عمر قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحنين فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وهم اربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم بويرقان عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الرضاعة وقد اسلموا فقال يا رسول اللّه انا اصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من اللّه عليك وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال يا رسول اللّه ان ما في الحظائر « 1 » من السبايا عماتك وخالاتك يعنى من الرضاع وحواضنك « 2 » اللاتي كن يكفلنك ولو انا ملحنا للحارث بن أبى شمر يعنى ملك الشام من العرب أو للنعمان بن المنذر يعنى ملك العراق من العرب ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عايدنهما وعطفهما وأنت يا رسول اللّه خير المكفولين ثم انشد بعض الشعر وروى الصالحي عن زهير بن صرد الجشمي يقول لما أسرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين ويوم هوازن وذهب يفرق السبي والشاء أتيته فانشاءت أقول امنن علينا رسول اللّه في كرم فانك المرأ نرجوه وننتظر وقرأ اشعارا قال فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا الشعر قال ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم وقالت قريش ما كان لنا فهو للّه ولرسوله وقالت الأنصار ما كان لنا فهو للّه ورسوله قال الصالحي هذا حديث جيد الاسناد عال جدا رواه أيضا المقدسي في صحيحه ورجح الحافظ بن حجر انه حديث حسن وروى البخاري في الصحيح حديث مروان ومسور بن محزمة قالا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسالوه ان يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معى من ترون وأحب الحديث الىّ أصدقه فاختاروا احدى الطائفتين اما السبي و
(1/2824)
اما المال قالوا فانا نختار
_________
(1) جمع حظيرة وهو الذرب الذي يصنع للابل والغنم وكان السبي في خطاء مثلها 12.
(2) الحاضنة المرضعة جمع حواضن 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 170
سبيا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاثنى على اللّه بما هو اهله ثم قال اما بعد فان إخوانكم قد جاؤ تائبين وانى رايت ان أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم ان يطيب بذلك فليفعل ومن أحب ان يكون على حظه لغطيه إياه من أول ما يفى اللّه علينا فليفعل فقال الناس قد طبنا ذلك يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا لا أدرى من اذن منكم في ذلك فمن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفائكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفائهم ثم رجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه فاخبروه انهم قد طيبوا وأذنوا روى أبو داود والبيهقي وأبو يعلى عن أبى الطفيل قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بالجعرانة لحما فجاءت امراة بدوية فلما دنت من النبي صلى اللّه عليه وسلم بسط لها ردائه فجلست عليه فقلت من هذه فقالوا امه التي ارضعته وروى أبو داود في المراسيل عن عمرو بن السائب قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت امه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر ثم جائه اخوه من الرضاعة فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاجلسه بين يديه وقال محمد بن عمر لما هزم المشركون يوم حنين امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطلب العدو وقال لخيله ان قدرتم على بجاد رجل من بنى سعد فلا يفلتن منكم وقد كان أحدث حدثا عظيما كان اتى رجلا مسلما فاخذه فقطعه عضوا عضوا ثم حرقه بالنار وكان قد عرف جرمه فهرب فاخذته الخيل فضموه إلى الشيما بنت الحارث بن عبد العزى اخت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعنى من الرضاعة واتبعوها في الساق فجعلت شيما تقول
(1/2825)
انى واللّه اخت صاحبكم فلم يصدقوها فاتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا محمد انى أختك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما علامة ذلك فارته عضة بابها مها فقالت عضة عضضيتها وانا متوركتك « 1 » بوادي السرب ونحن نرعى بهم أبيك وابى وأمك وأمي وقد نازعتك الثدي فعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العلامة فوثب قائما بسط ردائه ثم قال اجلسي عليه وترحب بها ودمعت عيناه وسألها عن امه وأبيه فاخبره بموتهما فقال ان أحببت أقيمي عندنا محيته مكرمة وان أجبت ان ترجعى إلى قومك وصلتك ورجعتك إلى قومك قالت بل ارجع إلى قومى فاسلمت فاعطاها
_________
(1) أى جعلتك على وركي 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 171
(1/2826)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلثة اعبد وجارية وامر لها ببعير أو بعيرين وقال لها ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك فانى امضى إلى الطائف فرجعت إلى جعرانة ووافاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعطاها نعما وشاء ولمن بقي من أهل بيتها وكلمته في بجاد ان يهيه لها ويعفو عنه ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ابن إسحاق في رواية يونس بن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فرغ من رد سبايا هوازن ركب بعيره وتبعه الناس يقولون يا رسول اللّه اقسم علينا فيئا حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت ردائه فقال يا أيها الناس ردوا على روائى فو الذي نفسى بيده لو كان عندى شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما القيتمونى بخيلا ولا كذا بالحديث قال ابن إسحاق اعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وكانوا اشرافا من اشراف العرب يأتلف بهم قلوبهم قال محمد بن عمر بالأموال فقسمها واعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس قال الصالحي فمنهم من اعطى مائة بعير ومنهم من اعطى خمسين وجميع ذلك يزيد على خمسين رجلا ثم ذكر الصالحي اسمائهم فذكرهم سبعا وخمسين رجلا روى الشيخان في الصحيحين عن حكيم بن حزام قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحنين مائة من الإبل فاعطانيها ثم سالته مائة فاعطانيها ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا حكيم ان هذا المال حلوة فمن أخذ بسخاوة نفس بورك فيه ومن اخذه بإسراف نفس لم يبارك فيه وكان كالذى يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول فقال حكيم والذي بعثك بالحق لا ازرى أحدا بعدك شيئا فكان عمر بن الخطاب يدعوه إلى عطائه فيابى ان يأخذ فيقول عمر أيها الناس أشهدكم على حكيم بن حزام ادعوه إلى عطائه فيابى ان يأخذ قال ابن أبى الزياد أخذ حكيم المائة الاولى فقط وترك الباقي واعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سهيل بن عمر مائة وأبو سفيان بن حرب
(1/2827)
ماية من الإبل وأعطاه أربعين اوقية فضة وابنه معاوية مائة من الإبل وأربعين اوقية فضة ويزيد بن أبى سفيان مائة بعير وأربعين اوقية وهكذا روى البخاري عن صفوان قال ما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطينى من غنايم حنين وهو ابغض الخلق الىّ حتى ما خلق اللّه شيئا أحب إلى منه وفي صحيح مسلم انه صلى اللّه عليه وسلم أعطاه مائة من النعم ثم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 172
(1/2828)
ماية ثم مائة قال محمد بن عمر يقال ان صفوان طاف مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء اللّه على رسوله فيه غنم وابل ورعاء مملوا فاعجب صفوان وجعل ينظر إليه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب قال نعم قال هو لك بما فيه فقال صفوان اشهد انك رسول اللّه ما طابت بهذا نفس أحد قط الا نبى روى احمد ومسلم والبيهقي عن رافع بن خديج ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعطى المؤلفة قلوبهم من سبى حنين كل رجل منهم مائة من الإبل وذكر الحديث وفيه اعطى العباس بن مرداس دون المائة فانشاء العباس يقول أ تجعل نهبى ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان حصين ولا جالس يقومان مرداس في الجمع إلى اخر الأبيات فاتم له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المائة واعطى عثمان بن وهب وعدى بن قيس وعمير بن وهب وعلاء بن جارية ومخرمة بن نوفل وغيرهم كلواحد منهم خمسين بعيرا ثم امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس فكانت سهمانهم لكل رجل منهم اربعة من الإبل أو أربعين شاة فانكان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل أو عشرين ومأته شاة وإن كان معه اكثر من فرس واحد لم يسهم له قلت عطائه صلى اللّه عليه وسلم المؤلفة قلوبهم يبلغ اربعة آلاف بعيرا وزايدا عليه وقد مر فيما سبق ان ابل المغنم كانت اربعة وعشرين الف بعيرا الغنم اكثر من أربعين الف شاة وهى تساوى اربعة آلاف بعير فصار المجموع ثمانية وعشرون الف بعير فخمسة يكون
(1/2829)
اقل من خمسة آلاف بعير فعطا المؤلفة لا يخلوا اما ان يكون من راس الغنيمة أو من جميع الخمس ولا يمكن ان يكون من خمس الخمس سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيلزم من هذا اما التنفيل بعد الاحراز بلا شرط سبق والصرف الخمس إلى صنف واحد وجعل المؤلفة صنفا من الفقراء واللّه اعلم ولما كان رجال العسكر اثنى عشر الفا أو ستة عشر الفا ومنهم الفرسان وصار سهم الراجل اربعة بعير والفارس اثنى عشر بعيرا فهذا يقتضى ان يبلغ الغنيمة ستين الف بعيرا واكثر أو اقل ولعل ذلك بضم قيمة العروض والنقود إلى المواشي واللّه اعلم قال محمد ابن إسحاق حدثنى محمد بن الحارث التيمي ان قائلا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أصحابه قال
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 173
(1/2830)
محمد بن عمر هو سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه يا رسول اللّه أعطيت عيينة بن حصين والأقرع بن حابس مأته وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة بن حصين والأقرع بن حابس ولكنى اتالفها ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه وروى البخاري عن عمرو بن ثعلب قال اعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوما ومنع آخرين فكانهم عتبوا فقال انى لاعطى أقواما أخاف هلعهم وجوعهم وأكل أقواما إلى ما جعل اللّه في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن ثعلب قال عمرو فما أحب ان لى بكلمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمر النعم وفي هذا المقام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى لاعطى الرجل وغيره أحب إلى منه خشية ان يكبه اللّه في النار على وجهه رواه البخاري عن سعد بن أبى وقاص روى ابن إسحاق واحمد عن أبى سعيد الخدري واحمد والشيخان من طرق عن انس ابن مالك والشيخان عن عبد اللّه بن يزيد بن عاصم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أصاب غنائم حنين وقسم المتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم وفي رواية طفق يعطى رجالا المائة من الإبل ولم يكن في الأنصار منها شىء قليل ولا كثير وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم المقالة حتى قال قائلهم يغفر اللّه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان هذا لهو العجب يعطى قريشا وبتركنا وسيوفنا يقطر من دمائهم إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا ودوننا ممن كان هذا فان كان من اللّه صبرنا وإن كان من رسول اللّه استعتبناه فقال رجل من الأنصار لقد كنت أحدثكم ان لو استقامت الأمور لقد اثر عليكم فردوا عليه ردا عنيفا قال انس فحدث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمقالتهم فقال أبو سعيد فمشى سعد بن عبادة فقال يا رسول اللّه ان هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في
(1/2831)
أنفسهم قال فبم قال فيما كان من قسمك هذا الغنائم في قومك وفي ساير العرب ولم يكن فيهم من ذلك شىء فقال اين أنت من ذلك يا سعد قال ما انا الا امرا من قومى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاجمع لى قومك في هذه الحظيرة فخرج سعد يصرح فيهم حتى جمعهم فجاء رجل من المهاجرين فاذن له فيهم وجاء آخرون فردهم حتى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 174
إذا لم يبق من الأنصار أحد خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحمد اللّه واثنى عليه بما هو اهله ثم قال يا معشر الأنصار ا لم تكن ضلالا فهداكم اللّه وعالة فاغناكم اللّه واعداء فالف بين قلوبكم قالوا بلى اللّه ورسوله أمن وأفضل فما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا الا قالوا اللّه ورسوله أمن وأفضل ثم قال لا تجيبون يا معشر الأنصار قالوا وما نقول يا رسول اللّه وبماذا نجيبك أمن للّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم قال واللّه لو شئتم لقلتم وصدقتم وصدقتم جئتنا طريدا فاويناك وعائلا فآسيناك وخائفا فامنك ومخذولا فنصرناك ومكذبا فصدقناك فقالوا المن للّه ولرسوله فقال فما حديث بلغني عنكم فسكتوا فقال ما حديث بلغني عنكم فقال فقهاء الأنصار اما رأسنا فلم يقولوا شيئا واما أناس منا حديثة أسنانهم
(1/2832)
قالوا يغفر اللّه لرسوله يعطى قريشا وتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى لاعطى رجالا حديثى عهد بكفر أتألفهم وفي رواية ان قريشا حديثوا عهد لجاهلية ومصيبة وانى أردت ان اجبرهم في رواية من الجبر ضد الكسر وفي رواية براء معجمة من الجائزة وأتألفهم اوجدتم يا معشر الأنصار في نفوسكم في لعاعة من الدنيا « 1 » تألفت بها قوما اسلموا ووكلتكم إلى ما قسم اللّه لكم من الإسلام أ فلا ترضون يا معشر الأنصار ان يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وفي لفظ بالدنيا وتذهبون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى رحالكم تحوزورنه إلى بيوتكم فو الذي نفسى بيده لو ان الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار أنتم الشعار والناس الدثار الأنصار كرشى « 2 » وعيبتى « 3 » ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا رضينا باللّه وبرسوله حظا وقسما وذكر محمد بن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أراد حينئذ ان يكتب بالبحرين يكون خاصة بعده دون الناس وهى يومئذ أفضل ما فتح عليه من الأرض فابوا وقالوا لا حاجة لنا بالدنيا بعدك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انكم ستجدون بعدي اثرة « 4 » شديدة فاصبروا حتى تلقونى على الحوض قال أهل المغازي قال
_________
(1) هى لقلة خضراء ناعمة شبه الدنيا لقلة بقائها 12.
(2) الكرش مجمع العلف من الحيوان 12.
(3) عينه مستودع الثياب 12.
(4) أى استأثر عليكم بما لكم فيه اشتراك في الاستحقاق 12. [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 175
(1/2833)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوفد هوازن ما فعل مالك بن عوف قالوا يا رسول اللّه هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اخبروه انه ان يأتي مسلما رددت إليه اهله وماله وأعطيته مأته من الإبل وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر بحبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد اللّه بنت أبى امية فلما بلغ مالكا ما صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وان اهله وماله موفور وقد خاف مالك ثقيفا على نفسه وخاف ان يسمعوا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له ما قال فيحبسونه فامر براحلته فقدمت له بوحناء وامر بفرس له فاتى به ليلا فخرج من الحصن فجلس على فرسه ليلا فركضه حتى اتى وحناء فركب بعيره فلحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فادركه بالجعرانة أو بمكة فرد عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اهله وماله وأعطاه مأته من الإبل واسلم فحسن إسلامه فاستعمله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على من اسلم من قومه من تلك القبائل من هوازن ودوسا وثقيفا وثمالة وكان قد ضوى إليه قوم مسلمون واعتقد لواء فكان يقاتل بهم من كان على الشرك ويميل بهم على ثقيف فيقاتلهم بهم ولا يخرج لثقيف سرح إلا غار عليه وكان لا يقدر على سرح الا اخذه ولا على رجل الا قتله وكان يبعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخمس مما يغنم مرة مائة بعير ومرة الف شاة ولقد أغار على سرح لاهل الطائف فاستاق لهم الف شاة في غداة واحدة قال ابن إسحاق في رواية يونس قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ثقيف في رمضان سنة تسع فاسلموا وذلك بعد غزوة تبوك واللّه اعلم قال اللّه تعالى.
(1/2834)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ مصدر من نجس ينجس على وزن سمع يسمع أو كرم يكرم ولذا لا يثنى ولا يجمع ويستوى فيه الذكر والأنثى وحمله اما على المبالغة أو بتقدير ذو في القاموس النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ...
ضد الطاهر قلت وهو ما يستقذره الطبع السليم ويطلق عليه النجاسة الحقيقية كالقاذورات والدم والحق بها الشارع النجاسات الحكمية من الحدث والجنابة وانقطاع الحيض والنفاس فهو ما يستقذره الشرع فالكافر نجس شرعا لأنه خبيث لخبث باطنه ليستقذره الشرع
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 176
(1/2835)
و يجب الاجتناب عنه كما يجب على المصلى الاجتناب عن النجاسة الحقيقية فلا يجوز موالاتهم قال الضحاك وأبو عبيدة نجس يعنى قذر قال البغوي أراد به نجاسته الحكم لا نجاسة العين سموا نجسا على الذم وقال قتادة سماهم نجسا لانهم يجتبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤن ولا يجتنبون من النجاسات وعن ابن عباس ان أعيانهم نجسة كالكلاب أخرج أبو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صافح شركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه وهذا القول متروك بالإجماع فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قالت الحنفية المراد به النهى عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا بدليل ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث عليا رضى اللّه عنه ينادى في الموسم لا يحج بعد العام مشرك فظهر ان المراد منعهم عن الحج والعمرة فيجوز عنده دخول الكافر المسجد الحرام ودخول غيره بالطريق الاولى وورد النهى عن الاقتراب للمبالغة وقالت الشافعية هو نهى عن دخولهم الحرم لانهم إذا دخلوا بالحرم فقد اقتربوا من المسجد الحرام وهذا كما قال اللّه تعالى سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام وأراد به الحرم لأنه اسرى به من بيت أم هاني قال البغوي رضى اللّه عنه جملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلثة اقسام أحدها الحرم فلا يجوز للكافران يدخله ذميا كان أو مستامنا لظاهر هذه الآية وإذا جاء رسول من دار الكفار إلى الامام والامام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم والقسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز فلا يجوز للكافر الاقامة فيها اكثر من مقام السفر وهو ثلثة ايام لكن جاز له دخولها لما روى عن عمر بن الخطاب انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لئن عشت إنشاء اللّه لا خرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا ادع الا مسلما فمضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واوصى فقال اخرجوا المشركين
(1/2836)
من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر واجلاهم عمر رضى اللّه عنهما في خلافته وأجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلثا وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى الشام في العرض والقسم الثالث ساير بلاد الإسلام
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 177
يجوز للكافر ان يقيم فيها بذمة أو أمان ولكن لا يدخلون المساجد الا بإذن مسلم وقال الحافظ ابن حجر المروي عن الشافعي التفضيل بين المسجد الحرام وغيره من المساجد فلا يجوز له دخول المسجد الحرام ويجوز له دخول غيرها من المساجد وعند المالكية والمزني لا يجوز للكافر دخول شيء من المساجد قياسا على المسجد الحرام وعقد البخاري بابا على دخول المشرك المسجد يعنى على جواز دخوله وذكر فيه حديث أبى هريرة قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيلا بل تجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سوارى المسجد وقد ذكرنا حديث قصة ثمامة بن أثال وإسلامه في سورة الأنفال في مسئلة جواز المن على الأسارى وهذا الاستدلال ضعيف لان قصة ثمامة بن أثال كان قبل فتح مكة وقد منع الكفار عن الحج أو الدخول في المسجد الحرام في سنة تسع حيث قال اللّه تعالى بَعْدَ عامِهِمْ هذا ط يعنى العام الذي نزلت فيه سورة التوبة وحج فيه أبو بكر ونادى علىّ ببراءة وهى سنة تسع من الهجرة وقيل يوذن للكتابى خاصة بدخول المسجد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في باب دخول المشرك المسجد ان حديث الباب يرد على هذا القول فان ثمامة بن أثال لم يكن من أهل الكتاب واللّه اعلم قال البيضاوي في هذه الآية دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع نظرا إلى انه سبحانه نهاهم عن اقتراب المسجد وهذا ليس بشيء فان الخطاب في الآية للمؤمنين حيث قال اللّه تعالى يا أيها الذين أمنوا انما المشركون نجس الآية فالمومنون مامورون بمنعهم عن المسجد الحرام وإن كان ظاهر
(1/2837)
الآية نهيا للكفار كيف ولو كان الكفار مخاطبين بالفروع
كانوا مخاطبين مامورين بالحج إذ الحج من الفروع مع ان الآية يمنعهم عن الدخول والحج فيلزم التناقض ولو كانوا مخاطبين بهذه الآية بعدم الدخول وترك الحج لكانوا ممتثلين بتركهم الحج فيلزم ان يكونوا ماجورين مثابين في ذلك وذلك باطل واللّه اعلم أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس وابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطية العوفى والضحاك وقتادة وغيرهم انه كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام فلما نهوا عن إتيان البيت ونزلت انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 178
هذا شق على المسلمين وقالوا من يأتينا بالطعام وبالمتاع فانزل اللّه تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أيها المسلمون من أهل مكة عَيْلَةً يعنى فقرا وفاقة يقال عال يعيل عيلة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ قيده بالمشية لينقطع بالآمال إليه ولينبه على انه متفضل في ذلك وان الغنى الموجود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوال عباده حَكِيمٌ (28) فيما يعطى ويمنع قال عكرمة فاغناهم اللّه بان انزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم وقال مقاتل اسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة « 1 » الكثيرة إلى مكة فكفاهم اللّه تعالى ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة عوضهم اللّه منها الجزية فاغناهم بها وذلك قوله تعالى.
(1/2838)
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ قال مجاهد نزلت هذه الآية حين امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك فان قيل أهل الكتاب يؤمنون باللّه واليوم الاخر أجيب بانهم لا يؤمنون على ما ينبغى فانهم إذا قالوا عزير بن اللّه والمسيح بن اللّه لم يكن ايمانهم باللّه على حقيقة ولم يعتقدوا كونه أحدا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وإذا قالوا لا يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى وان النار لا يمسهم الا أياما معدودات واختلفوا في نعيم الجنة اهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره وفي دوامه وانقطاعه وقال بعضهم لا أكل فيها ولا شرب لم يكن ايمانهم بالآخرة على حقيقة فايمانهم كلا ايمان وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أى ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل المراد برسوله الذي يزعمون اتباعه والمعنى انهم يخالفون اصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا فان موسى وعيسى امرا باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أى لا يدينون الدين الحق أضاف الاسم إلى الصفة وقال قتادة الحق هو اللّه أى لا يدينون دين الله فان الدين عند اللّه الإسلام وقيل الحق الإسلام والمعنى دين الإسلام وقال أبو عبيدة معناه لا يطيعون اللّه طاعة أهل الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين لا يؤمنون يعنى اليهود والنصارى
_________
(1) هى الطعام ونحوه مما يجلب للبيع 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 179
(1/2839)
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهى في اللغة الجزاء وانما بنيت على فعلة للدلالة على الهيئة وهى هيئة الاذلال عند العطاء على ما ستعرف والمراد به الخراج المضروب على رقابهم وقيل هى مشتق من جزى دينه إذا قضاه عَنْ يَدٍ حال من الضمير أى عن يد مواتية غير ممتنعة يعنى منقادين أو عن يد من يعطى خراجه يعنى مسلمين بايديهم غير باعثين بايدى غيرهم كذا قال ابن عباس ولذلك يمنع من التوكيل في أداء الجزية أو المعنى عن قهر وذل قال أبو عبيدة يقال لكل من اعطى شيئا كرها من غير طيب نفس أعطاه من يد وقيل معنى عن يد نقد الانسية وقيل عن اقرار بانعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم عوضا عن القتل وَهُمْ صاغِرُونَ (29) أذلاء مقهورون قال عكرمة يعطون الجزية قياما والقابض جالس وعن ابن عباس قال يوخذ ويوطا عنقه وقال الكلبي إذا اعطى صفع في قفاه وقيل يوخذ بلحيته فيضرب في لهزمته وقيل يليب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف وقيل إعطائه إياه وهو الصغار وقال الشافعي الصغار هو جريان احكام الإسلام عليهم ظاهر هذه الآية يقتضى ان انتهاء القتال بإعطاء الجزية مختص باهل الكتاب ولاجل هذه لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذها من مجوس هجر رواه البخاري في صحيحه من حديث بجالة بن عبدة واختلف كلام الشافعي في بجالة فقال في الحدود مجهول وقال في الجزية حديث ثابت ولاجل هذا الحديث انعقد الإجماع على جواز أخذ الجزية من المجوس - (مسئلة) اختلف العلماء في باب الجزية فقال أبو حنيفة توخذ من أهل الكتاب على العموم عربيا كان أو أعجميا ومن مشركى العجم على العموم مجوسيا كان أو وثنيا الا المرتدين وقال أبو يوسف يوخذ من أهل العجم دون أهل العرب كتابيا كان أو مشركا وقال مالك والأوزاعي يوخذ من كل كافر عربيا كان أو أعجميا الا مشركى قريش خاصة والمرتدين وذهب الشافعي إلى ان الجزية
(1/2840)
على الأديان لا على الإنسان فيوخذ من أهل الكتاب عربا وعجما ولا يوخذ من أهل الأوثان بحال واما المجوس فهم عنده أهل كتاب لما روى مالك في الموطإ والشافعي في الام عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر قال ما أدرى ما اصنع في أمرهم يعنى المجوس
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 180
فقال له عبد الرحمن بن عوف اشهد لسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب وقال الشافعي ثنا سفيان عن سعيد بن المرزبان عن نصر بن عاصم قال قال فروة بن نوفل على ما يوخذ الجزية من المجوس فليسوا باهل كتاب فقام إليه المستورد فاخذ بلبته وقال يا عدو اللّه أ تطعن أبا بكر وعمر وامير المؤمنين يعنى عليا وقد أخذوا منهم الجزية فذهب إلى القصر فخرج عليهم على فقال ايته انا اعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وان ملكهم سكر فوقع على ابنته أو امه فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاؤا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعى أهل مملكته فقال تعلمون دينا خيرا من دين آدم قد كان آدم ينكح بنيه ببناته فانا على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فاصبحوا وقد اسرى علمائهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر منهم الجزية ذكر الحديث ابن الجوزي في التحقيق وقال سعيد بن مرزبان مجروح قال يحيى بن سعيد لا استحل ان يروى عنه وقال يحيى ليس بشى ولا يكتب حديثه وقال القلاس متروك الحديث وقال أبو اسامة كان ثقة وقال أبو ذرعة صدوق مدلس قلت وذكر أبو يوسف في كتاب الخراج قال حدثنا سفيان بن عيينة عن نضر بن عاصم الليثي عن على بن أبى طالب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر وعمر أخذوا الجزية من المجوس وقال انا اعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرؤنه وعلم يدرسونه فنزع من صدورهم قال أبو يوسف و
(1/2841)
حدثنا نصر بن خليفة ان فروة بن نوفل الأشجعي قال ان هذا الأمر عظيم يوخذ من المجوس الخراج وليسوا أبا هل الكتاب قال فقام
اليه مستوردين الأحنف قال طعنت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتب والا قتلتك وقال قد أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مجوس أهل هجر الخراج قال فارتفعا إلى على رضى اللّه عنه فقال انا احدثكما بحديث ترضيانه جميعا عن المجوس ان المجوس كانوا أمة لهم كتاب يقرونه وان ملكا شرب حتى سكر فاخذ بيد أخته فاخرجها من القرية واتبعه اربعة رهط فوقع عليها وهم ينظرون إليه فلما أفاق من سكره قالت له أخته انك صنعت كذا وفلان وفلان
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 181
(1/2842)
و فلان وفلان ينظرون إليك فقال ما علمت ذلك قالت فانك مقتول الا ان تطيعنى قال فانى أطيعك قالت فاجعل هذا دينا وقل هذا دين آدم وقل حواء من آدم وادع الناس إليه واعرضهم على السيف فمن بايعك فدعه ومن أبى فاقتله ففعل فلم يتابعه أحد فقتلهم يومئذ حتى الليل فقالت له انى ارى الناس قد احتروا على السيف وهم على النار لكع فاوقد لهم نارا ثم اعرضهم علينا ففعل وهاب الناس من النار فبايعوه قال على رضى اللّه عنه فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخراج لاجل كتابهم وحرم مناكحهم وذبائحهم لشركهم وروى ابن الجوزي في التحقيق ان ابن عباس قال ان أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية والجواب ان قوله صلى اللّه عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب لا يدل على كونهم من أهل كتاب ولا على ان يفعل بهم كل ما يفعل باهل الكتاب بل يدل على جواز أخذ الجزية منهم للاجماع على انه لا يجوز مناكحه نسائهم ولا أكل ذبائحهم وما ذكر من حديث على حجة لنا لا علينا لانهم وإن كان أسلافهم أهل كتاب يدرسونه لكنهم منذ تركوا ذلك الدين والعمل بالكتاب ورفع العلم منهم وكتب لهم إبليس المجوسية لم يبقوا أهل كتاب ومن هاهنا اتفق العلماء على ان المجوس ليسوا باهل كتاب الا في قول للشافعى وفي قول هو مع الجمهور انهم ليسوا باهل كتاب قلت ولو كفى كون أسلافهم من أهل الكتاب لكان عبدة الأوثان من أهل الهند اولى بهذا الاسم فانهم يقرؤن الكتاب ويدرسونه ويسمونه بيد وهى اربعة اجزاء ويزعمونه من عند اللّه تعالى ويوافق أصولهم في كثير من الأمور بأصول الشرع وما يخالف الشرع فذلك من اختلاطات الشيطان كما تفرق فرق الإسلام إلى ثلث وسبعين فرقة بتخليطه الشيطان ودعوتهم هذا مؤيد من الشرع حيث قال اللّه تعالى وان من أمة الا خلا فيها نذير فهم اولى من المجوس في كونهم أهل كتاب لان ملك المجوس لما سكر وزنا بأخته ترك دينه وكتابه وادعى دين آدم
(1/2843)
و هؤلاء الكفار لم يفعلوا ذلك الا انهم كفروا بتركهم الايمان بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وقد ذكر لى ان في الجزء الرابع من بيد بشارة ببعثة خاتم النبيين محمد صلى اللّه عليه وسلم حتى اسلم بعض من قرأ ذلك الجزأ واللّه اعلم وقد يحتج للشافعى على ان الوثني
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 182
لا يوخذ منهم الجزية بان القتال واجب بقوله تعالى قاتلوهم حتى لا تكون فتنة الا انا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر يعنى انه صلى اللّه عليه وسلم أخذها من مجوس الهجر فبقى من ورائهم على الأصل قلنا قوله تعالى قاتلوا المشركين خص منه المجوس بالإجماع فجاز تخصيصه بالمعنى وبالحديث اما المعنى فان عبدة الأوثان في معنى المجوس فانهم مشركون كهيئتهم وكون أصولهم من أهل الكتاب لا يفيدهم وأيضا يجوز استرقاقهم بالإجماع فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كلواحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فانه يكتسب ويودى إلى المسلمين ونفقته في كسبه واما الحديث فحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا امر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة بتقوى اللّه ... ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا بسم اللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تقلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلث خصال أو خلال فايتهم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فان أجابوك فاقبل منهم وكف ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار الهجرة فاخبرهم انهم ان فعلوا ذلك فلهم ما
(1/2844)
للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فان أبوا ان يتحولوا منها فاخبرهم انهم يكونون كاعراب المسلمين يجرى عليهم حكم اللّه الذي يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفى شيء الا ان يجاهدوا مع المسلمين فان هم أبوا فسلهم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان هم أبوا فاستعن باللّه وقاتلهم الحديث رواه مسلم والحجة على جواز أخذ الجزية من الكتابي العربي حديث انس قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فاخذوه فاتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية رواه أبو داود وروى أبو داود والبيهقي من حديث يزيد بن رومان وعبد اللّه بن أبى بكر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى البدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا على دومة فذكره مطولا وفيه انه صالحه على الجزية قال الحافظ ان ثبت ان أكيدر كان كنديا ففيه دليل على ان الجزية لا يختص بالعجم من أهل الكتاب لان أكيدر عربى وإذا ثبت ان الجزية لا يختص باهل الكتب ولا باهل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 183
(1/2845)
العجم ثبت مذهب أبى حنيفة ومالك غير ان أبا حنيفة يقول لا يجوز أخذ الجزية من عبدة الأوثان من أهل العرب ولا استرقاقهم أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري انه صلى اللّه عليه وسلم صالح عبدة الأوثان الا من كان من العرب قال أبو حنيفة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نشأ بين اظهر العرب والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم اظهر فلا يقبل منهم الا الإسلام أو السيف وكذا المرتد فانه كفر بربه بعد ما هدى إلى الإسلام ووقف على محاسبه فلا يقبل منه الا الاستلام أو السيف ذكر محمد بن الحسن عن مقسم عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يقبل من مشركى العرب الا الإسلام أو القتل وإذا ظهر على عبدة الأوثان من العرب أو المرتدين يسترق نسائهم وصبيانهم لان النبي صلى اللّه عليه وسلم استرق ذرارى أوطاس وهوازن وهم من مشركى العرب وكذا ذرارى بنى المصطفى وغيرهم وأبو بكر استرق ذرارى بنى حنيفة لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين وكانت منهم أم محمد بن على بن أبى طالب وأم زيد بن عبد اللّه بن عمر ثم ان ذرارى المرتدين ونسائهم يجبرون على الإسلام بعد الاسترقاق بخلاف ذرارى عبدة الأوثان وقال الشافعي يسترق ذرارى عبدة الأوثان من العرب والجواب لابى يوسف ان أخذ الجزية من كفار العرب كتابيا كان أو مشركا وان ثبت بحديث أخذ الجزية من أكيدر لكنه نسخ بالأحاديث الواردة في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وان لا يترك فيها الا مسلما فان أخذ الجزية من كفار العرب فرع تركهم فيها عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اوصى بثلث قال اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بما كنت اجيزهم قال ابن عباس وسكت عن الثالثة أو قال نسيتها متفق عليه وعن جابر بن عبد اللّه قال أخبرني عمر بن الخطاب انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا ادع فيها الا مسلما رواه
(1/2846)
مسلم وروى مالك في الموطإ عن ابن شهاب مرسلا لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ووصله صالح بن أبى الأخضر ... عن الزهري عن سعيد عن أبى هريرة أخرجه إسحاق في مسنده وروى احمد والبيهقي عن أبى عبيدة بن الجراح آخر ما تكلم به النبي صلى اللّه عليه وسلم ان قال اخرجوا اليهود من
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 184
(1/2847)
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 184
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 184
الحجاز واهل نجران من جزيرة العرب - (مسئلة) اختلفوا في قدر الجزية فقال أبو حنيفة ان وضع الجزية بالتراضي والصلح فيقدر بحسب ما يقع عليه الصلح كما صالح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل نجران على الفى حلة روى أبو داود عن ابن عباس قال صالح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل نجران على الفى حلة النصف في صفر والنصف في رجب وقال أبو يوسف في كتاب الخراج وأبو عبيدة في كتاب الأموال كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل نجران إلى ان قال الفى حلة كل حلة اوقية يعنى قيمة اوقية قال ابن همام فقول الولوجى كل حلة خمسون درهما ليس بصحيح لان الاوقية أربعون درهما والحلة ثوبان إزار ورداء
(1/2848)
و يعتبر هذه الحلل في مقابلة روسهم وأراضيهم قال أبو يوسف الفاحلة على أراضيهم وعلى جزية رؤسهم يقسم على روس الرجل الذين لم يسلموا وعلى كل ارض من أراضي نجران وان كان بعضهم قد باع ارضه أو بعضها من مسلم أو ذمى أو تغلبى والمرأة والصبى في ذلك سواء في أراضيهم واما جزية روسهم فليس على النساء والصبيان وروى ابن أبى شيبة انه صالح عمر نصارى بنى تغلب على ان يؤخذ منهم ضعف ما يوخذ من المسلم المال الواجب وان غلب عليهم الامام واقرهم على املاكهم فيضع على الغنى الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في شهر اربعة دراهم وعلى وسط الحال اربعة وعشرون درهما في كل شهر درهمان وعلى الفقير المعتل اثنا عشر درهما في كل شهر درهم إذا كان صحيحا في اكثر السنة عند أبى حنيفة رحمه اللّه وقال مالك في المشهور عنه على الغنى والفقير جميعا اربعة دنانير في السنة أو أربعين درهما لا فرق بينهما وقال الشافعي الواجب دينار يستوى فيه الغنى والفقير وعن احمد اربع روايات أحدها كقول أبى حنيفة والثانية انها مفوضة إلى راى الامام وليست بمقدرة وبه قال الثوري والثالثة انه يقدر الأقل منها بدينار دون الأكثر والرابعة انها في أهل اليمن خاصة مقدر بدينار دون غيرهم اتباعا لحديث ورد فيهم عن معاذ ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن امره ان يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله المعافر ثياب يكون بايمن رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدار قطنى وابن حبان والحاكم وبه أخذ الشافعي على الإطلاق قال
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 185
(1/2849)
ابو داود وحديث منكر وقال بلغني عن احمد انه كان ينكره وذكر البيهقي الاختلاف فيه فبعضهم رواه عن الأعمش عن أبى وائل عن مسروق عن معاذ وقال بعضهم عن الأعمش عن أبى وائل عن مسروق ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما بعث معاذ الحديث وأعله ابن حزم بالانقطاع وان مسروقا لم يلق معاذا وقال الحافظ ابن حجر فيه نظر وقال الترمذي حديث حسن وذكر ان بعضهم رواه مرسلا وانه أصح ومذهب أبى حنيفة منقول عن عمر وعثمان وعلى ذكر الاصحاب في كتبهم عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن الحكم ان عمر بن الخطاب وجه حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى السواد فمسحا ارضها ووضعا عليها الخراج وجعلا الناس ثلث طبقات على ما قلنا فلما رجعا أخبراه بذلك ثم عمل عثمان كذلك وروى ابن أبى شيبة ثنا على بن مسهر الشيباني عن ابن عون محمد بن عبد اللّه الثقفي قال وضع عمر بن الخطاب في الجزية على رؤس الرجال على الغنى ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط اربعة وعشرون وعلى الفقير اثنى عشر درهما وهو مرسل ورواه ابن زنجويته في كتاب الأموال ثنا مندل عن الشيباني عن ابن عون عن المغيرة بن شعبة ان عمر وضع الحديث إلى آخره وطريق آخر رواه ابن سعد في الطبقات إلى نضرة ان عمر بن الخطاب وضع الجزية على أهل الذمة فيما فتح البلاد فوضع على الغنى إلى آخر ما ذكر ومن طريق آخر أسنده عبد القاسم بن سلام إلى حارثة بن مضر عن عمر انه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين واربعة وعشرين واثنا عشر وقد كان ذلك بمحضر من الصحابة بلا نكير فحل محل الإجماع وقال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثنى السرى بن اسمعيل عن عامر الشعبي ان عمر بن الخطاب مسح السواد فبلغ ستة وثلثين الف الف جريب وانه وضع على جريب الزرع درهما وقفيزا على الكرم عشرة دراهم وعلى الرطبة خمسة دراهم وعلى الرجل اثنى عشر درهما واربعة وعشرون وثمانيته وأربعون درهما قال وحدثنى سعيد بن ابى
(1/2850)
عروية عن قتادة عن ابن مجلز قال بعث عمر بن الخطاب عمار بن ياسر على الصلاة والحرب وبعث عبد اللّه بن مسعود على القضاء وبيت المال وبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرض وجعل بينهم شاة كل يوم شطرها وبطنها لعمار وربعها لعبد اللّه بن مسعود والربع الاخر لعثمان بن حنيف
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 186
و قال انى أنزلت نفسى وإياكم بهذا المال بمنزلة والى
(1/2851)
اليتيم فان اللّه قال من كان غينا فليستعفف ومن كان فقيرا فلياكل بالمعروف واللّه ما ارى أرضا يوخذ منها شاة في كل يوم الا سيسرع ضرابها قال فمسح عثمان الأرضين فجعل على جريب العنب عشرة وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب القصب ستة وعلى جريب الحنطة اربعة وعلى جريب الشعير درهمين وعلى الراس اثنا عشر درهما واربعة وعشرين وثمانية وأربعين وعطل من ذلك النساء والصبيان قال سعيد وخالفنى بعض أصحابي فقال على جريب النخل عشرة وعلى جريب العنب ثمانية قال وحدثنى محمد بن إسحاق عن حارثة بن مطرف عن عمر انه أراد ان يقسم السواد بين المسلمين فامر بهم ان يحصوا فوجد الرجل نصيبه الاثنين والثلاثة من العلاجين فشاور اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال على رضى اللّه عنه وعنهم يكونون مادة للمسلمين فبعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين واربعة وعشرين واثنا عشر وأجاب الحنفية عن حديث معاذ انه محمول على انه كان صلحا فان اليمن لم يفتح عنوة بل صلحا فوقع على ذلك وبان كان أهل اليمن أهل فاقة والنبي صلى اللّه عليه وسلم يعلم ذلك ففرض عليهم ما على الفقراء يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابي نجيح قلت لمجاهد ما شان أهل الشام عليهم اربعة دنانير واهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من قبل اليسار ووجه قول الثوري واحمد انه صلى اللّه عليه وسلم امر معاذا بأخذ الدينار وصالح نصارى نجران على الفى حلة وجعل عمر الجزية على ثلث طبقات كما قال أبو حنيفة وصالح بنى تغلب على ضعف ما يوخذ من المسلمين فهذا يدل على انه لا تقدير فيه بل هو مفوض إلى راى الامام - (مسئلة) لا يوخذ الجزية من فقير غير معتمل عند أبى حنيفة ومالك واحمد وللشافعى فيه اقوال أحدها انه لا يوخذ منه والثاني انه يجب عليه لكن يطالب عند يساره والثالث انه إذا حال عليه الحول ولم يتيسر له الحق بدار الحرب له اطلاق قوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث
(1/2852)
معاذ خذ من كل حالم ولنا ان عثمان بن حنيف لم يوظف الجزية على فقير غير معتل روى ابن رنجوية في كتاب الأموال ثنا الهشيم بن عدى عن عمر بن نافع حدثنى أبو بكر العنبسى صلة بن زفر قال ابصر عمر شيخا كبيرا من أهل الذمة ليال فقال له مالك قال ليس لى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 187
مال وان الجزية يوخذ منى فقال له عمر ما انصفناك أكلنا شبيبتك ثم ناخذ منك الجزية ثم كتب عمر إلى عماله ان لا تأخذوا الجزية من شيخ كبير « 1 » وقد جاء في بعض طرقه وعلى الفقير المكتسب اثنا عشر أخرجه البيهقي قال أبو يوسف حدثنى عمرو بن نافع عن أبى بكر قال مر عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل شيخ كبير ضرير البصر فذكر نحوه وقال فوضع عنه الجزية وعن ضربائه قال أبو بكر انا شهدت ذلك من عمر ورايت ذلك الشيخ وقال أبو يوسف حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن الخطاب انه مر بطريق الشام هو راجع في مسيره من الشام على قوم قد اقيموا في الشمس يصب على روسهم الزيت فقال ما بال هؤلاء قالوا عليهم الجزية لم يؤدوا فهم يعذبون حتى يؤدوا قال عمر فما يقولون ما يعتذرون في الجزية قالوا يقولون لا نجد قال فدعوهم لا تكلفوهم مالا يطيقون فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تعذبوا الناس فان الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم اللّه يوم القيامة وامر بهم فخلى سبيلهم وقال أبو يوسف وحدثنى بعض المشيخة المتقدمين يرفع الحديث إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم انه ولى عبد اللّه بن أرقم على جزية أهل الذمة فلما ولى من عنده ناداه فقال الا من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته أو ينقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيبة نفسه فانا حجيجه يوم القيامة وهذا الحديث يؤيد مذهب احمد ان الجزية مفوض إلى راى الامام ينظر طاقة الذمي ولا يكلفه فوق طاقته - (مسئلة) لو وجبت الجزية على كافر بتمام السنة بعد عقد الذمة فلم يؤدها حتى اسلم فعند الشافعي يوخذ منه جزية ما مضى لان الجزية
(1/2853)
اجرة الدار وقد استوفى سكنى الدار كما هو أحد قوليه أو وجبت بدلا عن العصمة الذي يثبت للذمى بعقد
الذمة كما هو قوله الآخر وقد وصل إليه المعوض وهو حقن دمه وسكناه فتقرر البدل دينا عليه في ذمته فلا يسقط عنه كساير الديون وعند أبى حنيفة ومالك واحمد يسقط الجزية بإسلامه لان الجزية عقوبة على الكفر ولا عقوبة بعد التوبة وهى غاية للقتال منه ... لهذه الآية
_________
(1) وروى عن عمر بن الخطاب انه مر برجل من أهل الكتاب مطروح على باب قال استكدونى وأخذوا منى الجزية حتى كف بصرى فليس أحد يعود على بشيء فقال عمر ما انصفنا إذا ثم قال هذا من الدين قال اللّه انما الصدقات للفقرا والمساكين ثم امر له برزق يجرى عليه.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 188
(1/2854)
و قد انتهى القتال بالإسلام وكون الجزية اجرة الدار ممنوع فانه يسكن دار ملكه لنا حديث ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس على المسلم جزية رواه احمد والترمذي وأبو داود قال أبو داود سئل سفيان الثوري عن هذا فقال يعنى إذا اسلم فلا جزية عليه وباللفظ الذي فسر به سفيان الثوري رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من اسلم فلا جزية عليه وضعف ابن القطان من رواة حديث ابن عباس قابوس بن أبى الظبيان وليس قابوس في سند الطبراني قال ابن همام هذا الحديث بعمومه يوجب سقوط ما كان استحق عليه قبل إسلامه بل هو المراد بخصوصه لأنه موضع الفائدة إذ عدم الجزية على المسلم ابتداء من ضروريات الدين في الاخبار به من جهة الفائدة ليس كالاخبار بسقوطها في حال البقاء قال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثنى شيخ من علماء الكوفة قال جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن كتبت إلى تسالنى عن أناس من أهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة وتستأذن في أخذ الجزية منهم وان اللّه تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه جابيا فمن اسلم من أهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه فان قيل ما الفرق بين الخراج والجزية والاسترقاق مع ان كلواحد منها عقوبة على الكفر فكيف يقولون بسقوط الجزية وعدم سقوط الخراج والرق قلنا في الجزية ذل ظاهر ومبناه على الصغار والخراج فيه معنى المئونة فان صاحب الأرض لا يتمكن من الزراعة من غير حماية السلطان والمقاتلة فكانه يعطى اجر مؤنتهم واما الرقيق فقد تعلق به ملك شخص معين بخلاف الجزية فانه لم يتعلق بها ملك شخص معين بل فيه استحقاق للعامة والحق الخاص فضلا عن العام ليس كالملك الخاص - (مسئلة) الجزية يجب باول الحول عند أبى حنيفة وهى رواية عن مالك فيجوز مطالبة جزية سنة
(1/2855)
فورا بعد عقد الذمة وقال الشافعي واحمد يجب ما جزه وهو المشهور عن مالك فلا يملك المطالبة حتى يمضى السنة فان مات في أثناء السنة أو بعد تمامها ولم يؤد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 189
الجزية سقطت بموته عند أبى حنيفة واحمد وقال مالك والشافعي لا تسقط والوجه لهما ما ذكرنا انه بدل للسكنى أو لحقن الدم وقد استوفى المعوض فصار البدل دينا يوخذ من تركته ولنا انه عقوبة دنيوية والعقوبات الدنيوية تسقط بالموت كالحدود - (مسئلة) إذا لم يؤد الذمي الجزية سنتين أو اكثر يتداخل ويوخذ منه جزية واحدة عند أبى حنيفة واحمد وقال الشافعي يوخذ لكل سنة جزية له ما ذكرنا انه استوفى المعوض فصار العوض دينا ولنا انها عقوبة محضة وليس الغرض منها المال بل الاذلال ولذالك لا يوخذ من يد نائبه كما ذكرنا من قبل وكفارات الفطر مع انها عبادة فيه معنى العقوبة تتداخل فكيف الجزية فانها عقوبة محضة والاذلال يحصل يأخذها مرة واللّه اعلم - (مسئلة) ولا جزية على الصبيان والمجانين اتفاقا فانهم ليسوا أهلا لعقوبة ولا على النساء أيضا اجماعا قال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثنا عبيد اللّه عن نافع عن اسلم مولى عمر قال كتب عمر ان اقبلوا الجزية ممن جرت عليه المواشي ولا تأخذوا من امرأة ولا صبى ولا تأخذوا الجزية الا اربعة دنانير أو أربعين درهما يعنى لا تأخذوا اكثر منه وروى البيهقي من طريق زيد بن اسلم عن أبيه ان عمر كتب إلى أمراء الأجناد لا تضربوا الجزية الا على من جرت عليه المواشي وكان لا يضرب على النساء والصبيان وروى من طريق آخر بلفظ لا تضعوا الجزية على النساء والصبيان - (مسئلة) ولا جزية على المملوك قنا كان أو مكاتبا أو مدبرا أو ابنا لام الولد إذ لا مال لهم ولا يتحمل عنهم مواليهم لانهم تحملوا الزيادة لاجلهم يعنى وجب عليهم جزية الاعتباء بسبيهم وما روى أبو عبيدة في كتاب الأموال عن عروة قال كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه
(1/2856)
و سلم إلى أهل اليمن انه من كان على يهودية ونصرانية فانه لا ينتزع عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكرا أو أنثى عبدا أو أمة دينارا وقيمته وروى ابن زنجوبة عن الحسن فذكر نحوه مرسلان ضعيفان يقوى
أحدهما الآخر لكن الامة ترك العمل بهما اجماعا فلا عبرة بهما وكذا ما روى أبو عبيد عن عمر قال لا تشتر رقيق أهل الذمة فانهم أهل خراج يؤدى بعضهم عن بعض -
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 190
(
(1/2857)
مسئلة) إذا امتنع الذمي من أداء الجزية أو امتنع من اجراء حكم من احكام الإسلام أو قتل مسلما أو اجمع على القتال أو زنى بمسلمة وأصابها باسم نكاح أو افتن مسلما عن دينه أو قطع عليهم الطريق أو صار للمشركين جاسوسا أو أعان على المسلمين بدلالة أو كتب إلى المشركين اخبار المسلمين وأطلعهم على عوراتهم ينقض عهده عند احمد في اظهر الروايتين لما روى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرت ان أبا عبيدة بن الجراح وأبا هريرة قتلا كتابيين أرادا امراة على نفسها مسلمة وروى البيهقي من طريق الشعبي عن سويد بن غفلة قال كنا عند عمر وهو امير المؤمنين بالشام إذا نبطى مضروب مسح يستعدى فغضب وقال لصهيب انظر من صاحب هذا فذكر القصة فجاء به وهو عوف بن مالك فقال رايته يسوق بامراة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم يصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار فغشيها ففعلت به ما ترى قال عمر واللّه ما على هذا عاهدناكم فامر به فصلت ثم قال أيها الناس فوا بذمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له وفي رواية عن احمد لا ينتقض الا بالامتناع من بذل الجزية واجراء أحكامنا عليه وقال الشافعي ينتقض بمنع الجزية وامتناع اجراء احكام الإسلام وبالإجماع على قتال المسلمين لا غير الا إذا شرط عند عقد الذمة هذه الأمور المذكورة فح ينتقض عهده بإتيانها وقال مالك لا ينتقض بالزنا بمسلمة ولا باصابتها باسم النكاح ويقطع الطريق وينتقض بما سوى ذلك وقال القاسم من أصحابه بقطع الطريق أيضا وقال أبو حنيفة ينتقض عهده بان يلتحق بدار الحرب أو كان له منعة وغلب على موضع وأراد المحاربة لانهم صاروا حربا علينا فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وفيما سوى ذلك لا ينتقض عهده لان الغاية التي ينتهى به القتال التزام الجزية لا أدائها والالتزام باق ومن لا منعة له لا عبرة بامتناعه فان الامام يقدر عليه بالحبس والضرب وغير ذلك - (مسئلة) وفي ذكر اللّه عز وجل بما لا
(1/2858)
يليق بجلاله أو ذكر كتابه المجيد أو ذكر دينه القويم أو ذكر رسوله الكريم بما لا ينبغى ينتقض عهده عند احمد سواء شرط منه ذلك اولا وكذا قال مالك انه إذا ذكر منهما بغير ما كفروا به ينتقض عهده وقال اكثر اصحاب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 191
الشافعي ان لم يشترط لا ينتقض عهده وان شرط ينتقض وذكر صاحب الهداية مذهب الشافعي انه ينتقض لان المؤمن ينتقض به إيمانه فالذمى ينتقض به امانه إذ عقد الذمة خلف عن الايمان وذكر صاحب الهداية مذهب أبى حنيفة ان بسب النبي صلى اللّه عليه وسلم لا ينتقض عهده لان سبه عليه السلام كفر والكفر المقارن لا يمنعه فالطارى لا يرفعه قال ابن همام يويده ما روى عن عايشة ان رهطا من اليهود دخلوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا السام عليك فقال وعليكم قالت ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال صلى اللّه وسلم مهلا يا عايشة فان اللّه رفيق يحب الرفق في الأمر كله قالت فقلت يا رسول اللّه الم تسمع ما قالوا قال عليه السلام قد قلت وعليكم وفي رواية عليكم بغير واو متفق عليه وفي رواية رددت عليهم فيستجاب لى فيهم ولا يستجاب لهم في قال ابن همام ولا شك ان هذا سب منهم له عليه الصلاة السلام ولو كان نقضا للعهد لقتلهم وفي الفتاوى من مذهب أبى حنيفة ان من سب النبي صلى اللّه عليه وسلم يقتل ولا يقبل توبته سواء كان مؤمنا أو كافرا وبهذا يظهر انه ينتقض عهده ويؤيده ما روى أبو يوسف عن حفص بن عبد اللّه بن عمر ان رجلا قال له سمعت راهبا سب النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له لو سمعته لقتلته انا لم نعطهم العهود على هذا وقال ابن همام والذي عندى ان سبه عليه السلام أو نسبته إلى ما ينبغى إلى اللّه تعالى ان كان مما لا يعتقدونه كنسبة الولد إلى اللّه تعالى الذي يعتقده النصارى واليهود إذا أظهروا يقتل به وينتقض عهده وان لم يظهروا ولكنه عثر عليه وهو يكتمه فلا
(1/2859)
لان دفع القتل والقتال عنهم بقبول الجزية الذي هو المراد بالإعطاء مقيد بكونهم صاغرين أذلاء بالنص ولا خلاف ان المراد استمرار ذلك لا عند مجرد القبول واظهار ذلك منه ينافى قبول الجزية الدافع لقتله لأنه الغاية في التمرد وعدم الالتفات والاستخفاف بالإسلام والمسلمين فلا يكون جاريا على العقد الذي يدفع عنه القتال وهو ان يكون صاغرا ذليلا واما اليهود المذكورون في حديث عايشة فلم يكونوا أهل ذمة بمعنى .... اعطائهم الجزية بل كانوا اصحاب موادعة بلا مال يوخذ منهم دفعا لشرهم إلى ان أمكن اللّه منهم لأنه لم يوضع قط جزية على اليهود المجاورين من قريظة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 192
و النضير قال ابن همام هذا البحث يوجب انه إذا استعلى ذمى على المسلمين على وجه صار مستمرا عليه حل للامام قتله أو يرجع إلى الذل والصغار واللّه اعلم أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن اوفى وأبو انس ومحمد بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الضيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وانك لا تزعم ان عزير ابن اللّه فانزل اللّه تعالى.
(1/2860)
وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين على انه عربى مصغر وقيل انه أعجمي لكنه اسم خفيف يشبه المصغر ولذلك صرف مثل نوح وهود ولوط وعزير مبتدأ ما بعده خبره وليس بصفة له وقرأ الباقون بلا تنوين اما لمنع الصرف للعجمة والتعريف أو لالتقاء الساكنين تشبيهما للنون بحرف اللين أو لان الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا قال البيضاوي هذا القول مزيف لأنه يودى إلى تسليم النسب وانكار الخبر المقدر قال عبيد بن عمير انما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال ان اللّه فقير ونحن اغنياء وقال البغوي روى عطية العوفى عن ابن عباس انما قالت اليهود عزير بن اللّه لاجل ان عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فاضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع اللّه عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا اللّه عزيز وابتهل إليه ان يرد الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلى مبتهلا إلى اللّه نزل نور من السماء فدخل فعاد إليه التوراة فاذن في قومه وقال يا قوم قد آتاني اللّه التوراة وردها فعلق الناس به يعلمهم فمكثوا ما شاء اللّه ثم ان التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله فقالوا وما اوتى عزير هذا الا انه ابن اللّه وقال الكلبي ان نجت نصر لما ظهر على بنى إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث اللّه عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون له آية بعد ما أماته مائة عام وقد ذكرنا القصة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى أو كالذى مر على قرية وهى خاوية
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 209
(1/2861)
راحلتى هاتين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالثمن لا اركب بعيرا ليس لى قال هو لك ولكن بالثمن الذي ابتعتهما به قال أخذتها بكذا وكذا قال أخذتها بذلك قال هى لك وعند البخاري في غزوة الرجيع انها الجدعاء وأفاد الواقدي ان الثمن ثمانمائة قالت عايشة فجهزناهما أحب الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب وأفاد الواقدي انه كان في السفرة « 1 » شاة مطبوخة فقطعت اسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين وفي رواية ذات النطاق « 2 » قال محمد بن يوسف الصالحي المحفوظ في هذا الحديث ان اسماء شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر ومن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين فالتثنية والافراد بهذين الاعتبارين وعند ابن سعد انها شقت نطاقها فاوكت بقطعة منه الجراب وشدت في القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين واستاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل وهو على دين كفار قريش واسلم بعد ذلك وكان هاديا خريتا يعنى ماهرا بالهداية فامناه فدفعا إليه راحليتهما وواعداه غار ثور بعد ثلث براحلتيهما واعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ....
(1/2862)
عليا بخروجه وامره ان يتخلف بعده حتى يودى عنه الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه الا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته قالت عائشة ثم لحق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر في غار في جبل ثور في حديث عمر عند البيهقي انها خرجا ليلا وذكر ابن إسحاق والواقدي انهما خرجا من خوخة « 3 » في ظهر بيت أبى بكر وروى أبو نعيم عن عايشة بنت قد أمته ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقينى أبو جهل فاعمى اللّه عز وجل بصره عنى وعن أبى بكر حتى مضينا قالت اسماء وخرج أبو بكر بماله كله خمسة آلاف درهم قال البلاذري كان مال أبى بكر يوم اسلم أربعين الف درهم فخرج إلى المدينة للهجرة وما ماله الا خمسة آلاف درهم أو اربعة
_________
(1) سفرة الطعام السفر.
(2) النطاق ما يشد به الوسط وكانت المرأة تلبس ثوبا ثم تشد وسطها بحبل ثم ترمل الأعلى على الأسفل فذلك الحبل النطاق 12.
(3) باب صغير 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 210
(1/2863)
فبعثه ابنه عبد اللّه فحملها إلى الغار قالت فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال واللّه انى لاراه قد ذهب بماله مع نفسه قالت قلت كلا يا أبت انه ترك لنا خيرا كثيرا قالت فاخذت احجارا فوضعتها في كوة البيت كان أبى يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت ضع يا أبت يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس ان كان ترك لكم هذا فقد احسن وفي هذا بلاغ لكم ولا واللّه ما ترك لنا شيئا ولكن أردت ان اسكن الشيخ روى البيهقي ان أبا بكر لما خرج هو ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغار جعل يمشى مرة امام النبي صلى اللّه عليه وسلم ومرة خلقه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول اللّه اذكر الرصد فاكون امامك واذكر الطلب فاكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا أمن عليك فلما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر والذي بعثك بالحق نبيا لا تدخله حتى ادخله قبلك ما كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى حجرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الحجر حتى فعل ذلك بثوبه اجمع فبقى حجر فوضع عقبه عليه ثم دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجعلت الحيات يلسعن أبا بكر وجعلت دموعه يتحدر وروى ابن أبى شيبة وابن المنذر عن أبى بكر رضى اللّه عنه انهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فالقمه أبو بكر رجليه فقال يا رسول اللّه إن كان لدغة أو لسعة كان بي وروى ابن مردوية عن جندب بن سفيان قال لما انطلق أبو بكر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغار قال أبو بكر يا رسول اللّه لا تدخل الغار حتى استبرئه « 1 » فدخل أبو بكر الغار فاصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن يده ويقول هل أنت الا إصبع دميت وفي سبيل اللّه ما لقيت وفي حديث انس عند أبى نعيم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أصبح قال لابى بكر اين ثوبك فاخبر بالذي صنع فرفع رسول
(1/2864)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم يديه وقال اللهم اجعل أبا بكر معى في درجتى في الجنة فاوحى اللّه إليه قد استجاب اللّه لك وروى زرين عن عمر انه ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال وددت ان عملى كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه
_________
(1) استبرأت الشيء طلبت آخره لقطع الشبهة عليه عنى 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 211
(1/2865)
اما ليلته فليلة سار مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغار فلما انتهيا إليه قال واللّه لا تدخله حتى ادخل قبلك فانكان فيه شيء أصابني دونك فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به فبقى فيها اثنان فالقمها رجليه ثم قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادخل فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك مخافة ان ينتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته واما يومه فلما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدى زكوة فقال لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول اللّه تالف الناس وارفق بهم فقال لى إجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام انه قد انقطع الوحى وتم الدين أ ينقص وانا حى روى ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن أبى مصعب المكي قال أدركت انس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما دخل الغار أنبت اللّه شجرة الراه فنبت في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسترته وبعث اللّه العنكبوت فنسجت ما بينها فسترت وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وامر اللّه حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار واقبل فتيان « 1 » قريش من كل بطن بعصيهم وهراوليهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر في الغار فلم ير الا حمامتين وحشيتين فعرف انه ليس فيه أحد فسمع النبي صلى اللّه عليه وسلم ما قال فعرف ان اللّه تعالى قد درأ عنه بهما فبارك عليهما النبي صلى اللّه عليه وسلم وفرض جزاء بهن والخدرتا في الحرم فافرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم وروى احمد بسند حسن عن ابن عباس ان المشركين قصوا « 2 » اثره رسول اللّه صلى اللّه
(1/2866)
عليه وسلم فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلث ليال وروى الحافظ احمد أبو بكر بن سعيد القاضي شيخ النسائي في مسند الصديق عن الحسن البصري قال جاءت قريش يطلب النبي
_________
(1) جمع كثرة للفتى وهو الشاب الحدث 12.
(2) أي طنبوا اثار اقدامه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 212
(1/2867)
صلى اللّه عليه وسلم وكانوا إذا أرادوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا لم يدخله أحد وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلى وأبو بكر يرتقب فقال أبو بكر يا رسول اللّه هؤلاء قومك يطلبونك اما واللّه ما على نفسى ابكى ولكن مخافة ان ارى فيك ما اكره فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر لا تخف ان اللّه معنا وفي الصحيحين عن أبى بكر الصديق قال قلت للنبى صلى اللّه عليه وسلم ونحن في الغار لو ان أحدهم نظر إلى قدمه لابصر ما تحت قدمه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما وروى أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة قال نسجت العنكبوت مرتين مرة على داؤد حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي صلى اللّه عليه وسلم في الغار وذكر البلاذري في تاريخه وأبو سعيد ان المشركين استاجروا رجلا يقال له علقمة بن كرز بن هلال الخزاعي واسلم عام الفتح فقفا لهم الأثر حتى انتهى إلى غار ثور وهو بأسفل مكة فقال هنا انقطع اثره ولا أدرى أخذ يمينا أو شمالا ثم صعد الجبل فلما انتهوا إلى فم الغار قال امية بن خلف ما أريكم في الغار ان عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد ثم جاء قبال وروى البيهقي عن عروة ان المشركين لما فقدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركبوا في كل وجه يطلبونه وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الجعل العظيم وأتوا على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى طلعوا فوقه وسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر أصواتهم فاشفق أبو بكر وبكى واقبل عليه الهم والحزن والخوف فعند ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لابى بكر لا تحزن ان اللّه معنا
أقسمت بالقمر المنشق ان له من قلبه نسبة مبرورة القسم
و ما حوى الغار من خير ومن كرم وكل طرف من الكفار عنه عمى
فالصدق في الغار والصديق لم يرما « 1 » وهم يقولون ما بالغار من ارم
(1/2868)
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية اللّه اغنت عن مضاعفة من الدروع وعن ال من الأطم
_________
(1) لم يبرحا 12.
.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 213
قال اللّه تعالى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أى على النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال لا تحزن ان اللّه معنا كذا ذكر البلاذري وروى ابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال فانزل اللّه سكينته على أبى بكر يعنى بقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تحزن فان النبي صلى اللّه عليه وسلم تنزل عليه السكينة من قبل وهذا اولى لان فاء فانزل يدل عليه وأيضا إرجاع الضمير إلى الأقرب اولى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملئكة يضربون وجوه الكفار وأبصارهم عن رئية روى أبو نعيم عن اسماء بنت أبى بكر ان أبا بكر رأى رجلا مواجه الغار فقال يا رسول اللّه انه يرانا قال كلا ان الملئكة يستره الآن بأجنحتها فلم ينشب ان قعد يبول مستقبلهما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر لو كان يراك ما فعل هذا وقيل القوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا وقال مجاهد والكلبي أعانه الملئكة يوم بدر اخبر انه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم اظهر نصره بالملائكة يوم بدر روى ابن عدى وابن عساكر عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لحسان هل قلت في أبى بكر شيئا قال نعم فقال قل وانا اسمع فقال وثانى اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو إذ صاعدوا الجبلا وكان حب رسول اللّه قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال يا حسان هو كما قلت قالت عايشة فكمنا « 1 » في الغار ثلث ليال وكان عبد اللّه بن أبى بكر يبيت عندهما وهو غلام شاب « 2 » ثقف لقف فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش كبائت لا يسمع امرا يكاد ان
(1/2869)
به الا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام وعند أبى استحق ان اسماء بنت أبى بكر كانت تأتيهما من الطعام إذا امست بما يصلحهما وكان عامر بن فهيرة يرعى غنما لابى بكر في رعيان أهل مكة فإذا امسى راح عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل « 3 » ورضيفهما يفعل ذلك كل ليلة من الليالى فلما مضت الثلث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استاجرا ببعيرهما فركبا وانطلق معهما عامر بن فهيرة غلاما لعبد اللّه ابن الطفيل
_________
(1) أى يطلب لهما من مكروه من الكيد 12.
(2) أى يخرج من السحر 12.
(3) رسل شير تازه رضيف شير گرم 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 214
(1/2870)
ابن سنجره أخو عايشة لامها ليخدمها في الطريق فاخذ بهما الدليل طريق الساحل أسفل من غسفان ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق على أمج روى احمد والشيخان عن البراء بن عازب انه قال لابى بكر كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال سرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد رفعت لنا صخرة طويلة بها ظل لم يأت عليه شمس بعد فنزلنا عندها فاتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ظلها ثم بسطت له فروة كانت معى ثم قلت يا رسول اللّه نم وانا « 1 » انفض لك ما حولك فنام وخرجت انفض له ما حوله فإذا انا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منه الذي أردنا فلقيته فقلت له لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت فاحتلب لى قال نعم فاخذ شاة فقلت انقض الضرع من التراب والقذى فحلب لى في تعب معه كثبة « 2 » من لبن وسعى اداوة ارتوى « 3 » فيها للنبى صلى اللّه عليه وسلم يشرب منها ويتوضأ وعلى فمها خرقة فاتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وكرهت ان أوقظه من نومه فوقفت حتى استيقظه فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول اللّه اشرب من هذا اللبن فشرب حتى رضيت ثم قال أ لم يأن الرحيل قلت بلى قال فارتحلنا بعد ما زالت الشمس روى الطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم وأبو بكر الشافعي عن سليط بن عمر والأنصاري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خرج مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم مروا على خيمة أم معبد الخزاعية وهى لا تعرفه وكانت برزة « 4 » جلدة تجلس بفناء القبة ثم تسقى وتطعم فسالوها لحما وتمرا يشتروا منها فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك وإذ القوم مرملو « 5 » مسنتون فقالت واللّه لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة
(1/2871)
_________
(1) أى أتجسس وتعرف ما فيه مما يخاف وفي النهاية أى احرس وأطوف هل ارى طلبا يقال نفضت المكان واستنفضة أو أ نظرت جميع والنفضة بفتح الفاء وسكونها قوم يبعثون متجسسين بل يرون غددا أو خوفا 12.
(2) كثبه أى قدر قدح وقيل جلته خفيفة 12. [.....]
(3) ارتوى فيها أى آب مى اوردم در ان 12.
(4) برزة امراة كهلة لا يحجب كالشواب وهى مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم 12.
(5) مرملون هم الذين نفد زادهم وأصله من الرمل كانهم لصقوا بالرمل 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 215
(1/2872)
فقال ما هذه الشاة يا أم معبد قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال هل بها لبن قالت هى اجهد من ذلك قال أ تأذنين لى ان احلبها قالت بابى أنت وأمي ان رايت بها حلبها فو اللّه ما ضربها من فحل قط فشانك « 1 » بها فدعا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى اللّه ودعا لها في شانها فتفاجت عليه ودرت ودعا باناء يربض « 2 » الرهط فحلب فيه ثجا « 3 » حتى علاه البهاء سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب صلى اللّه عليه وسلم وقال ساقى القوم آخرهم شربا ثم حلب فيه ثانيا بعد بداء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها ثم تابعها وارتحلوا عنها وروى ابن سعد وأبو نعيم عن أم معبد قالت بقيت الشاة التي لمس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عندها حتى كان زمان الرمادة وهى سنة ثمان عشرة من الهجرة زمن عمر بن الخطاب وكنا نحلبها صبوحا « 4 » وغبوقا وما في الأرض قليل ولا كثير وروى البيهقي من وجه آخر قصة أم معبد بزيادة ونقصان وفيه عند الماء جاء ابنها باعنز يسوقها فقالت له انطلق بهذه العنزة والشفرة « 5 » إلى هذين الرجلين فقل لهما يقول لكما أبى اذبحا هذه وكلا وأطعما فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم انطلق بالشفرة وجئنى بالقدح قال انها عنزة وليس بها لبن قال انطلق فانطلق فجاء بقدح فمسح النبي صلى اللّه عليه وسلم ضرعها ثم حلب ملأ القدح الحديث وفيه قال أبو بكر فلبثنا ليلتين ثم انطلقنا وكانت تسميه المبارك وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة فمر أبو بكر فرأه ابنها فعرفه فقال يا أمته ان هذا الرجل الذي كان مع المبارك فقامت إليه فقالت يا عبد اللّه من الرجل الذي كان معك قال هو نبى اللّه قالت فادخلنى عليه فاطعمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكساها وأسلمت قال هشام بن جيش فلما لثبت حتى جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حبالى عجافا « 6 » فلما راى اللبن عجب وقال من اين لك هذا اللبن يا أم
(1/2873)
معبد والشاء عازب ولا حلوب في البيت قال لا واللّه الا انه مر رجل
_________
(1) فشانك منصوب بفعل مقدر أى أصلح أو نحو ذلك 12.
(2) يربض أى يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض من ربض بالمكان إذا لصق به 12.
(3) أى لنا كثيرا حتى علا الإناء بهاء اللبن وهو وبيص رغوته 12.
(4) صبوح ما يشرب أول النهار غبوق ما يشرب اخر النهار 12.
(5) جمع حامل وهى التي لم تحمل فيدل على العي 12.
(6) أى بعيد المرعى لا تنود إلى المرج في الليل 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 216
(1/2874)
مبارك من حاله كذا وكذا قال صفية يا أم معبد قالت رايت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه نجلة ولم تزرئه صعلة وسيما قسيما في عينيه رعج وفي اشفاره وطف وفي صوبة صحل أو قالت صهل وفي عنقه سطح وفي لحيته كثافة أزج اقرن ان صمت فعليه الوقار وان تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب فصل لا نزر ولا هذر كان منطقه خرزات نظمن يتحدون ربعة لا يشناه طول ولا تفتحمه عين من قصر غضبا بين غصنين فهو انظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدر اله رفقاء يحفون به ان قال انصتوا لقوله وان امر ابتدروا إلى امره محفود محشود لا عابس ولا معتد فقال أبو معبد هذا واللّه صاحب قريش الذي ذكر لنا من امره بمكة ولقد همت ان اصحبه ولافعلن ان وجدت إلى ذلك سبيلا قالت اسماء رضى اللّه عنها لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر أتانا رجال من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبى بكر فخرجت إليهم فقالوا اين أبوك يا ابنة أبى بكر قلت لا أدرى واللّه اين أبى فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى قالت ثم انصرفوا فمكثنا ثلثة ايام ما ندرى اين توجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى اقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غنا العرب وتبعه الناس يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول جزا اللّه رب العرش خير جزائه رفيقين قالا « 1 » خيمتى أم معبدهما نزلاها بالهدى فاهتدى به وقد فاز من امسى رفيق محمد فيا لقصى مازوى « 2 » اللّه عنكم به من فقال لا تجارى وسود وليهن بنى كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمومنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وانائها فانكم ان تسالوا الشاة تشهدوا دعاه بشاة حائل فتحلبت إليه بصريح ضرة « 3 » الشاة مزيد فغادرها رهنا لديه لحالب « 4 » يردها في مصدر ثم مورد وفي رواية عند البيهقي بسند حسن في فضة أم معبد انه طلبت قريش رسول
(1/2875)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسالوها عنه فقالوا ارايت محمدا من خلقه كذا فوصفوه لها فقالت ما تقولون قد ضافنا حالب الحائل قالت قريش فذاك الذي أردنا قال البيهقي يحتمل انه صلى اللّه عليه وسلم راى الشاة التي
_________
(1) قال من القيلوة.
(2) زوى جمع وقبض صرع اللبن الخالص.
(3) ضرة اصل الفرع زيد أى علاه الزبد 12.
(4) يعنى يحلبها مرة بعد اخرى 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 217
(1/2876)
فى كسر الخيمة ثم رجع ابنها باعنز ثم جاء زوجها ووصفته له قلت ولعل ذلك جاءت قريش في طلبه صلى اللّه عليه وسلم (قصة سراقه) روى احمد والشيخان في الصحيحين عن سراقة بن مالك واحمد ويعقوب بن سفيان عن أبى بكر قال سراقة جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة من الإبل لمن قتله أو اسره فبينا انا جالس في مجلس من قومى بنى مدلج اقبل رجل منهم حتى قام علينا فقال يا سراقة انى رايت آنفا اسودة « 1 » بالساحل وفي لفظ ركبة ثلثة ولا أراها الا محمد أو أصحابه قال سراقة فعرفت انهم هم فاوميت إليه ان اسكت فسكت حتى قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتى ان تخرج فرسى إلى بطن الوادي وأخرجت سلاحى من وراء حجرتى فخططت برمحى وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسى فركبتها فدفعتها تقرب فرأيت اسودتهما فلما دنوت منهم عثرت بي فرسى فخررت منها فقمت فاهويت بيدي كنانتى فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم اولا أضرهم فخرج الذي اكره ان لا أضرهم وكنت ارجوا ان أرده فآخذ المائة ناقة فركبت فرسى وعصيت الأزلام فدفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قرأة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسى في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يداها فلما استوت قائمة إذ لا تريد بها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي اكره ان لا أضرهم فعرفت انه قد منع منى وانه ظاهر فناديتهما بالأمان « 2 » وقلت انظرونى فو اللّه لا اوذينكم ولا يأتيكم منى شيء تكرهونه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لابى بكر رضى اللّه عنه قل له ماذا تبغى قلت ان قومك قد جعلوا فيك الدية واخبرتهما اخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزانى ولم يسالنى الا ان قال أخف عنا فسالته ان يكتب لى كتاب أمن قال اكتب له يا أبا
(1/2877)
بكر وفي رواية فامر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من آدم ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) اسودة جمع سواد وهو الشخص 12. [.....]
(2) أى لم ينقصاتى مما معى شيئا 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 218
عليه وسلم فلما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة وفرغ من أهل حنين خرجت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لالقاه ومعى الكتاب الذي كتب لى فبينا انا عامد له دخلت بين ظهرى كثيبة من كثايب الأنصار قال فطففوا يقرعوننى بالرماح ويقول إليك حتى دنوت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على ناقته انظر إلى ساقه في غرزه كانها جمادة فرفعت يدى بالكتاب فقلت يا رسول اللّه هذا كتابك وانا سراقة بن مالك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟؟؟ رم وفاء وبر أدنه فدنوت منه فاسلمت ثم ذكرت شيئا أسأل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم اذكره الا ان قلت يا رسول اللّه الضالة من الإبل تغشى حياضى وقد ملأتها من الإبل هل لى من اجر قال نعم في كل ذات كبد حرا اجر قال فرجعت إلى قومى فسقت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقتى وقال أبو بكر وتبعنا سراقة بن مالك فنحن في جدد الأرض فقلت يا رسول اللّه هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال وما يبكيك قلت اما واللّه ما على نفسى ابكى ولكن ابكى عليك قال فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال اللهم اكفناه بما شئت قال فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها ثم قال يا محمد قد علمت ان هذا علمك فادع اللّه ان يبحينى مما انا فيه فو اللّه لا عمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتى فخذ منها سهما فانك ستمر بإبلي وغنمى بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا حاجة لنا في إبلك وغنمك ودعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانطلق راجعا إلى أصحابه لا يلقى الا قال قد كفيتم ولا يلقى أحدا
(1/2878)
إلا رده ووفى لنا وعند ابن سعد ان سراقة لما رجع قال لقريش قد عرفتم بصرى بطريق وقد سرت فلم ار شيئا فرجعوا قال ابن سعد والبلاذري عارضهم السراقة بقديد يوم الثلاثاء وروى عروة والحاكم عنه عن أبيه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لقى الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء وروى البيهقي عن موسى بن عقبة انه صلى اللّه عليه وسلم لما دنا المدينة قدم طلحة بن عبيد اللّه من الشام عامدا إلى مكة فلما لقيه أعطاه الثياب فلبس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر روى البيهقي عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 219
(1/2879)
قال لابى بكر مدخله المدينة الاغنى؟ الناس فانه لا ينبغى لبنى ان يكذب فكان أبو بكر إذا سئل من أنت قال باغي حاجة وإذا قيل من الذي معك قال هاد يهدينى ولما شارف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة لقيه أبو بردة الأسلمي في سبعين من قومه بنى سهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أنت قال بريدة قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح ثم قال ممن قال من اسلم قال لابى بكر سلمنا ثم قال ممن قال من سهم قال خرج سهمك فلما أصبح قال بريدة للنبى صلى اللّه عليه وسلم لا تدخل المدينة الا ومعك لواء فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مضى بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الحاكم تواترت الاخبار ان خروجه من مكة كان يوم الاثنين ودخول المدينة يوم الاثنين الا ان محمد بن موسى الخوارزمي قال خرج من مكة يوم الخميس قال الحافظ يجمع بينهما بان خروجه من مكة يوم الخميس وخروجه من الغار ليلة الاثنين لأنه اقام فيه ثلث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين قلت ولعل ليلة الخميس هى الليلة التي أراد قريش قتله صلى اللّه عليه وسلم بعد ما مكروا به في دار الندوة فخرج صلى اللّه عليه وسلم من بيته إلى بيت أبى بكر واستصحبه ثم خرج من خوخة ظهر بيته واللّه اعلم - وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كلمة الشرك أو دعوتهم إلى الكفر السُّفْلى ط وذلك بتخليص الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن إيذاء الكفار إلى المدينة أو بتأييده
(1/2880)
إياه بالملائكة في المواطن أو بحفظه ونصره حيث حصروا وَكَلِمَةُ اللَّهِ يعنى كلمة التوحيد ودعوة الإسلام قرأ يعقوب بالنصب عطفا على كلمة الذين كفروا والباقون بالرفع على انه مبتداء خبره هِيَ الْعُلْيا ط وفيه اشعار بان كلمة اللّه عالية في نفسها وان فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولذلك وسط الفصل وقيل كلمة الذين كفروا ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه وكلمة اللّه وعده انه ناصره وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) فى امره وتدبيره.
قال اللّه تعالى انْفِرُوا خِفافاً يعنى حين يخف ويسهل لكم الخروج إلى الجهاد بصحة البدن والشباب والقوة والنشاط ووجود الزاد والراحلة والأعوان والاسلحة وَثِقالًا يعنى حين يثقل عليكم لاجل المرض أو الشيب أو الضعف أو عدم النشاط أو شاغل من الأهل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 220
(1/2881)
و المال والضيعات وقلة الزاد والسلاح والكراع والمتاع والى ما ذكرنا يرجع ما قال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة شبابا وشيوخا وما قال ابن عباس نشاط وغير نشاط أو أهل اليسر والعسر أو مقلين من السلاح ومكثرين منه وما قال عطية العوفى ركبانا ومشاة وابن زيد ان الثقيل الذي له الضيعة يكره ان يدع ضيعته والحكيم بن عتبة مشاغيل وغير مشاغيل والهمداني أصحاء ومرضى ويمان غرابا ومتاهلين أو مقلين الاتباع والحواشي ومستكثرين وقال أبو صالح خفافا من المال أى فقراء وثقالا أى اغنياء وقيل خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له قال الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت احدى عينيه فقيل له انك عليل صاحب ضر فقال استنفر اللّه الخفيف والثقيل وان لم يمكننى الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس نسخت هذه الآية قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال السدى لما نزلت هذه الآية اشتد شانها على الناس فنسخها اللّه تعالى وانزل ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية قلت لعل المراد بالنسخ في قول ابن عباس والسدى التخصيص لكون نزول الآيتين جميعا بلا فصل في غزوة تبوك فخرج من هذا الحكم من لا يستطيع الخروج من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون أو ما يركبون عليه ولا يستطيعون الشيء وبقي من يستطيع الخروج ولو بنوع مشقة وذلك لاجل النفير العام ويمكن ان يكون نزول قوله تعالى ليس على الضعفاء للآية بفصل يوم أو يومين ولو في غزوة تبوك بعد ما اشتد شانها على الناس فيكون نسخا واللّه اعلم - وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أى بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من الاستمتاعات الدنيوية وترك الجهاد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) الخير من الشر علمتهم انه خير لكم او
(1/2882)
ان كنتم تعلمون انه خير واخبار اللّه به صدق فبادروا إليه قال محمد بن عمر حث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الصدقة يعنى لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك وكان أول من جاء بماله أبو بكر الصديق باربعة آلاف درهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل أبقيت لاهلك شيئا قال أبقيت لهم اللّه ورسوله وجاء عمر بنصف ماله فقال رسول اللّه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 221
عليه وسلم هل أبقيت لاهلك شيئا قال نعم مثل ما جئت به وحمل العباس طلحة بن عبيد اللّه وسعد بن عبادة وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتى اوقية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتصدق عاصم بن عدى تسعين وسقا من تمر وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش حتى كان يقال ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم قال محمد بن يوسف الصالحي كان ذلك الجيش زيادة على ثلثين الفا فيكون رضى اللّه عنه جهز عشرة آلاف وذكر أبو عمرو في الدرر وتبعه في الاشارة ان عثمان حمل على تسعمائة بعير ومائة فرس بجهازها وقال ابن إسحاق أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها وفقل ابن هشام عمن يثق به ان عثمان أنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم قال محمد بن يوسف الصالحي يعنى غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك قال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم ارض عن عثمان فانى راض عنه وروى احمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى اللّه عليه وسلم فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقلبها بيده ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم يرددها مرارا قال ابن عقبة وتخلف المنافقون عن غزوة تبوك وحدثوا أنفسهم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يرجع إليهم ابدا
(1/2883)
فاعتذروا وقال محمد بن عمر وجاء ناس من المنافقين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستاذنوه في القعود من غير علة فاذن لهم وكانوا بضعة وثمانين رجلا فانزل اللّه تعالى فيهم.
لَوْ كانَ اسم كان مضمر أى لو كان ما دعوا إليه عَرَضاً قَرِيباً أى متاعا دنيويا أو المعنى غنيمة قريبته المتناول وَسَفَراً قاصِداً أى متوسطا لَاتَّبَعُوكَ لوافقوك في الخروج طلبا للغنيمته وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ يعنى المسافة فانها تقطع بمشقة وقيل الشقة الغاية التي يقصدونها وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد في الوجهين يعنى سيحلفون باللّه قائلين لو استطعنا لخرجنا أو سيحلفون المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين يقولون باللّه لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ساد مسد جواب القسم والشرط
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 222
و معنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كانهم تمارضوا وهذه معجزة لكونه اخبارا عما وقع قبل وقوعه يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بدل من سيحلفون يعنى انهم يهلكونها بايقاعها في العذاب بترك امتثال امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والكذب واليمين الفاجرة وجاز ان يكون حالا من فاعل خرجنا يعنى لخرجنا معكم وان أهلكنا أنفسنا بالمسير في الحر والقياها في التهلكة وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم الا ترى انه لو قال سيحلفون باللّه لو استطاعوا لخرجوا لكان أيضا سديدا يقال حلف باللّه ليفعلن ولا فعلن فالغيبة على حكم الاخبار والتكلم على الحكاية وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (46) في ذلك لانهم كانوا مستطيعين للخروج.
(1/2884)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ « 1 » قال سفيان بن عيينه بدأ بالعفو قبل ان يعيره بالذنب لطفا به وإكراما له قلت أو لأنه تعالى ذكر العفو قبل المعاتبة تحرزا من ان يهلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكمال خوفه وخشيته من اللّه تعالى وقيل افتتح الكلام بالدعاء كما يقول الرجل لمن خاطبه إذا كان كريما عنده عفا اللّه عنك ما صنعت في حاجتى ورضى اللّه عنك الا زرتنى وقيل معناه ادام اللّه لك العفو لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فى القعود حين استأذنوك وهلا توقفت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى الاعتذار وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) فيها يعنى من لا عذر له قال ابن عباس لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ أخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون قال اثنان فعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يومر بهما اذنه المنافقين في القعود واخذه الفدية من أسارى يدر فعاتبه اللّه كما تسمعون.
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فى التخلف كراهة أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ والمعنى لا يستاذنونك في ان يجاهدوا بل يبادرون إليه ولا ينتظرون الاذن فضلا ان يستاذنوا في التخلف
_________
(1) قال القاضي عياض في الشفاء ليس عفا هاهنا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق ولم تجب عليهم قطاى لم يلزمكم ذلك ونحو للقشيرى وقال انما يقول العفو لا يكون الا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب وقال معنى عفا اللّه عنك لم يلزمك ذنبا قال القاضي لم يتقدم للنبى صلى اللّه عليه وسلم فيه من الله نهى فيعد معصية ولاعد اللّه عليه معصية بل لم يعده أهل العلم معاتبه وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه وقد حاشا الله من ذلك بل كان مخيرا بين أمرين 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 223
(1/2885)
وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) شهادة لهم بالتقوى ووعدوا بثوابه.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذكر الايمان باللّه واليوم الآخر في الموضعين اشارة إلى ان الايمان يقتضى محبة الجهاد طمعا في الثواب بحيث لا يستاذن في إتيانه وعدم الايمان يقتضى تركه لعدم رجاء الثواب وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فشكت في الدين ونافقت فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) يتحيرون فتارة يريدون الخروج كيلا يردا من المسلمين أذى لو ظفروا وتارة عدم الخروج لزعمهم ان الرسول لا يرجع إليهم ابدا.
(1/2886)
وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معك لَأَعَدُّوا لَهُ ليهيؤا للخروج أو للجهاد عُدَّةً ما يعد للسفر والجهاد من المتاع والسلاح والكراع وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ استدراك عن مفهوم قوله ولو أراد والخروج كأنَّه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره ولم يرد نهوضهم للخروج فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم بالجبن والكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا فى بيوتكم مَعَ الْقاعِدِينَ (46) يعنى مع المرضى والزمنا وقيل مع النساء والصبيان تمثيل لا لقاء اللّه كراهة الخروج في قلوبهم أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود أو حكاية قول بعضهم لبعض أو اذن الرسول لهم قصة خروجه صلى اللّه عليه وسلم وتخلف اكثر المنافقين خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رجب سنة تسع فعسكر بثنية الوداع ومعه زيادة من ثلثين الفا قاله محمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو ابن سعد وكذا روى الحاكم في الإكليل عن معاذ بن جبل ونقل الحاكم في الإكليل عن أبى ذرعة الرازي قال كانوا بتبوك سبعين الفا وجمع بين الكلامين ان سبعين التابع والمتبوع وكانت الخيل عشرة آلاف فرس روى عبد الرزاق وابن سعد انه خرج إلى تبوك يوم الخميس وكان يستحب ان يخرج يوم الخميس قال ابن هشام واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وذكر الدراوردي انه استخلف عام تبوك سباع بن عرفظة زاد محمد بن عمر بعد حكاية ما تقدم ويقال ابن أم مكتوم قال والثابت عندنا محمد بن مسلمة الأنصاري ولم يتخلف عنه في غزوة غيرها وقيل على ابن أبى طالب قال أبو عمر وتبعه ابن دحية وهو الا ثبت روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 224
(1/2887)
بن أبى وقاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة على بن أبى طالب قال ابن إسحاق وخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بن أبى طالب على اهله وامره بالإقامة فيهم فاوجف به المنافقون وقالوا ما خلفه الا استثقالا له وتحققا منه فلما قالوا ذلك أخذ على سلاحه وخرج حتى لحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو نازل بالجرف فاخبره بما قالوا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفنى في أهلي وأهلك فلا ترضى يا على ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدي فرجع على رضى اللّه عنه وهذا الحديث متفق عليه وعسكر عبد اللّه بن أبى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حدة عسكرة أسفل منه نحوذ باب « 1 » فاقام إلى ما اقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحو تبوك تخلف ابن أبى راجعا إلى المدينة فيمن تخلف من المنافقين وقال يغز ومحمد بنى الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به يحسب محمد ان قتال بنى الأصفر معه اللعب واللّه لكانى انظر إلى أصحابه مقرنين في الجبال ارجافا « 2 » برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبأصحابه فانزل اللّه ... تعالى في ابن أبى ومن معه قوله تعالى.
(1/2888)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ بخروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا أى شرا وفسادا بايقاع الجبن في المؤمنين بتهويل الأمر أو باعانة الكفار في حالة الجهاد والغرة بالمؤمنين ونحو ذلك ولا يستلزم الآية وجود الفساد الآن وزيادة الفساد عند خروجهم لان الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ولاجل هذا التوهم جعل بعضهم الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون حينئذ مفرغا وَلَأَوْضَعُوا أى اسرعوا ركائبهم بالنميمة أو الهزيمة أو التخذيل من وضع البعير وضعا إذا اسرع خِلالَكُمْ أى وسطكم وقيل اوضعوا خلالكم أى اسرعوا فيما يخل بكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أى يريدون ان يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب من العدو في قلوبكم والجملة حال من فاعل اوضعوا وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أى ضعفة يسمعون قولهم ويطيعون
_________
(1) ذباب جبل بقرب المدينة 12.
(2) رجافا يعنى قالوا ذلك حتى يضطرب المسلمون 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 225
كذا قال قتادة أو الجواسيس يسمعون حديثكم للنقل إليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) أى يعلمه ضمايرهم وما يتأتى منهم فيجازيهم عنه.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ أى طلبوا تشتت أمرك وتفرق أصحابك وتخذيل المؤمنين مِنْ قَبْلُ هذا اليوم يوم أحد حين انصرفوا عنك ابن أبى بأصحابه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أى دبروا لك المكايد والحيل ودور والآراء فى ابطال أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أى جاء نصر اللّه وتائيده للدين الحق وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أعلا دينه على زعم منهم وَهُمْ كارِهُونَ (48) ظهور الدين وعلوه.
(1/2889)
وَ مِنْهُمْ أى من المنافقين الذين استأذنوا فى التخلف مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي فى التخلف وَلا تَفْتِنِّي وذلك جد بن قيس المنافق روى ابن المنذر والطبراني وابن مردوية وأبو نعيم فى المعرفة عن ابن عباس وابن أبى حاتم وابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمر وابن عقبة عن شيوخهم ان جد بن قيس اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فى المسجد معه نفر فقال يا رسول اللّه ائذن فى القعود فانى ذو ضيعة وعلة فيها عذر لى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تجهز فانك موسر لعلك تحقب من بنات بنى الأصفر قال الجد أو تأذن لى ولا تقتنى فو اللّه لقد عرف قومى ما أحد أشد عجبا بالنساء منى وانى لاخشى ان رايت بنات بنى الأصفر لا اصبر عنهن فاعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال قد اذنا لك زاد محمد بن عمر فجاءه ابنه عبد اللّه بن جد وكان بدر يا وهو أخو معاذ بن جبل لامه فقال لابيه لم ترد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوله فو اللّه ما فى بنى سلمة أحد اكثر مالا منك فلا تخرج ولا تحمل فقال يا بنى مالى وللخروج فى الحر الشديد والريح والعسرة إلى بنى الأصفر واللّه ما أمن خوفا من بنى الأصفر وانا فى منزلى ا فاذهب إليهم اغزوهم انى والله يا بنى عالم بالدوائر فاغلظ له ابنه فقال لا واللّه ولكنه النفاق واللّه لينزلن على رسوله قران يقرأ به فرفع نعلم؟؟ فضرب بها وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فانزل اللّه هذه الآية للطبرانى وابن مردوية وأبو نعيم انه قال عليه السلام لجد بن قيس ما تقول فى مجاهدة بنى الأصفر فقال يا رسول اللّه انى امرأ صاحب النساء ومتى ارى نساء بنى الأصفر افتتن فأذن لى ولا تفتنى فنزلت وذكر البغوي انه صلى اللّه عليه وسلم قال يا أبا وهب هل لك فى جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 226
(1/2890)
سرارى ووصيفا فقال جد يا رسول اللّه لقد عرف قومى انى رجل مغرم بالنساء وانى أخشى ان رايت بنات الأصفر ان لا اصبر عنهن ائذن لى فى القعود ولا تفتنى بهن وأعينكم بمالى واخرج الطبراني بوجه اخر عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اغزوا تغتنموا بنات بنى الأصفر فقال ناس من المنافقين انه ليفتنكم بالنساء فانزل اللّه تعالى هذه الآية ومعنى قوله لا تفتنى على ما تقتضيه الروايات المذكورة ان لا تفتنى ببنات نبى الأصفر يعنى أقع فى الإثم والفتنة لاجل حبهن وعدم المصابرة عنهن وقيل معناه لا تفتنى بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لها بعدي وقيل معناه ائذن لى فى القعود ولا توقعنى فى الفتنة يعنى العصيان لمخالفة أمرك بان لا تأذن لى واقعد وفيه اشعار بانه لا محالة متخلف اذن به أو لا يأذن أَلا فِي الْفِتْنَةِ أى الشرك والعصيان سَقَطُوا وقعوا يعنى الفتنة هى التي سقطوا فيها وهى فتنة التخلف وظهور النفاق وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) مطبقة بهم جامعة لهم يوم القيمة أو الان لاحاطة أسبابها.
إِنْ تُصِبْكَ يا محمد فى بعض غزواتك حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ لفرط حدهم وَإِنْ تُصِبْكَ فى بعضها مُصِيبَةٌ كسرة أو شدة كما أصاب يوم أحد فرحوا بتخلفهم واستحمدوا آرائهم يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أى ما كان أصلح لنا يعنى القعود من الغزو مِنْ قَبْلُ وقوع هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم أو عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم وَهُمْ فَرِحُونَ (50) مسرورون بمصيبة المؤمنين بعداوتهم.
(1/2891)
قُلْ يا محمد لهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فى اللوح المحفوظ من النصرة أو الشهادة ولم يقل ما كتب اللّه لنا أو علينا للاشعار يكون كلا التقديرين خيرا لنا هُوَ يعنى اللّه الذي كتب مَوْلانا ناصرنا ومتولى أمرنا فكيف يكون تقديره شرا لنا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خير اله وان أصابته ضراء صبر فكان خير اله رواه احمد ومسلم عن صهيب وروى البيهقي عن سعد نحوه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) متعلق بمحذوف أى ليتوكل المؤمنون على اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 227
فليتوكلوا عليه وفيه تأكيد وبالفاء اشعار بانه لا ينبغى لهم ان يتوكلوا على غيره وهو وليهم والقدير على كل شىء.
(1/2892)
قُلْ لهم يا محمد هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا فيه حذف أحد التاءين أصله تتربصون يعنى ما تنتظرون بنا أيها الكفار أو المنافقون إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أى احدى العاقبتين كل منهما حسنى العواقب وذلك القتل فى سبيل اللّه وذلك وإن كان قبيحا على زعمكم لكنه احدى العاقبتين الحسنين فى حقنا أحدهما هذه وهى شهادة مورثة للجنة والحيوة المؤبدة وثانيهما النصر والغنيمة عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتدب اللّه لمن خرج فى سبيله لا يخرجه الا ايمان لى وتصديق برسلى ان ارجعه بما نال من اجر وغنيمة أو ادخله الجنة متفق عليه والترديد مانعة الخلو دون الجمع وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ احدى السوئتين ان لا تتوبوا أحد لهما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ يوم القيامة ان ظفرتم فى الدنيا وثانيهما ما قال أَوْ بِأَيْدِينا أى أو بعذاب بايدينا وهو القتل على الكفر المفضى إلى عذاب النار وهذا على تقدير كون الخطاب لمطلق الكفار وعلى تقدير كونه للمنافقين خاصة فاحدى السوئتين ان يصيبكم اللّه بعذاب من عنده أى يهلككم كما أهلك الأمم الخالية فيعذبكم فى النار ان متم على النفاق وثانيهما القتل على الكفر ان أظهرتم ما فى قلوبكم فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) ما هو عاقبتكم وقال الحسن تربصوا مواعيد الشيطان انا متربصون مواعيد الرحمن من اظهار دينه.
(1/2893)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نصب على الحال أى طائعين من غير الزام من اللّه ورسوله أو مكرهين أى ملزمين سمى الإلزام اكراها لانهم كانوا منافقين فكان إلزامهم الانفاق شاقا عليهم كالاكراه وهذا صيغة امر بمعنى الخبر تقديره لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ نفقاتكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها وفائدته المبالغة فى الحكم بتساوي الانفاقين فى عدم القبول كانهم أمروا ان يمتحنوا فينفقوا مرة طوعا ومرة كرها وينظروا هل يتقبل منهم شىء منها وهو جواب لجد بن قيس حيث قال ائذن لى ولا تفتنى وأعينك بمال ونفى التقبل بوجهين أحدهما انه لا يقبل منهم رسول اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 228
صلى اللّه عليه وسلم وكذا الائمة بعده لا يقبلون الصدقة ممن يعلمون انه منافق وثانيهما انه تعالى لا يتقبل منهم ولا يثيب عليه إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) أى خارجين من زمرة المسلمين تعليل لعدم التقبل على سبيل الاستيناف وما بعده بيان وتقرير له.
(1/2894)
وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لان الفاعل مونث غير حقيقى اعنى نَفَقاتُهُمْ ان يقبل مفعول لمنع وفاعلا إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا يعنى ما منع من قبول نفقاتهم الا كفرهم بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى يعنى متثاقلين لمراة الناس عطف على كفروا وَلا يُنْفِقُونَ نفقة فى سبيل اللّه إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) لانهم لا يرجون بها ثوابا ولا يخافون على تركها عفا بايعدون الزكوة مغرما وتركها مغنما فان قيل وصفهم بالطوع فى قوله أنفقوا طوعا أو كرها وسلبه هنا بالكلية فكيف التوفيق قلنا المراد بالطوع هناك بذلهم من غير الزام الرسول كما ذكرنا وليس ذلك البزل إلا رياء فليس ذلك الا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختيار أو يقال وصفه بالطوع هناك على سبيل الفرض وسلبه هاهنا على التحقيق.
(1/2895)
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ الاعجاب هو السرور بما يستحسن يعنى لا يستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد فان ذلك استدراج ووبال لهم كما قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ باعطائهم الأموال والأولاد لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يتكايدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب وفى إنفاقها من المكاره وفى تخليفها عند من لا يحمده من الحسرات وقال مجاهد وقتادة فى الآية تقديم وتأخير تقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فى الحيوة الدنيا انما يريد اللّه ان يعذبهم بها فى الآخرة على كسبها وجمعها وحفظها وإنفاقها على وجه غير مشروح وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) واصل الزهوق الخروج بصعوبة يعنى تخرج أنفسهم متحسرا متاسفا على تركها مشتغلون بالتمتعات عن النظر فى المبدأ والمعاد فيكون ذلك استدراجا والآية دلت على بطلان القول بوجوب الأصلح لأنه تعالى اخبر انه اعطى الأموال
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 229
و الأولاد للتعذيب والاماتة على الكفر.
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أى من المسلمين وَما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) يخافون منكم ان تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أى حصنا يلجئون إليه أو قوما يأمنون فيهم أَوْ مَغاراتٍ فى الجبال جمع مغارة وهى الغار يعنى الموضع الذي يغور فيه أى يستتر وقال عطاء سراديب أَوْ مُدَّخَلًا أصله مدتخل مفتعل من الدخول أى موضع يدخلون فيه بصعوبته كنفق اليربوع لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لادبروا إليه هربا منكم وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) أى يسرعون فى اباء نفور لا يردهم شىء كالفرس الجموح ومعنى الآية انهم كارهون من مصاحبتكم أشد الكراهة لو يجدون مخلصا منكم لفارقوكم.
(1/2896)
وَ مِنْهُمْ أى من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ أى يعيبك يقال لمزه وهمزه إذا عابه قرأ يعقوب بضم الميم حيث كان فِي الصَّدَقاتِ أى قسمتها يعنى يقولون لا تعدل فى القسمة روى الشيخان والبيهقي عن ابن مسعود قال لما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غنائم هوازن يوم حنين آثر ناسا من اشراف العرب فقال رجل من الأنصار يعنى من قومهم ان هذه لقسمة ما عدل فيها أو ما أريد فيها وجه اللّه فقلت واللّه لاخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخبرته فتغير وجهه حتى صار كالصرف « 1 » وقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم اللّه موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر قال محمد بن عمر الرجل المبهم هو معتب بن قشير المنافق وروى ابن إسحاق عن ابن عمر والشيخان واحمد عن جابر والبيهقي عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنهم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينما هو يقسم غنائم هوازن إذ قام إليه رجل قال ابن عمر وأبو سعيد من تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف عليه صلى اللّه عليه وسلم قال فكيف رايت قال لم أرك عدلت اعدل وفى رواية فقال الرجل يا رسول الله اعدل فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ويلك من يعدل إذا لم اعدل قد خبت وخسرت ان لم أكن اعدل وفى رواية إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون فقال عمر بن الخطاب يا رسول اللّه وعنى اقتل هذا المنافق فقال رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) الصرف صيغ يصبغ به الأديم 12 منه.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 230
(1/2897)
عليه وسلم معاذ اللّه ان يتحدث الناس اقتل أصحابي دعه فان له أصحابا يحتضر أحدكم صلوته مع صلوتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر إلى ارصافه فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر إلى نضيه ... « 1 » فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر إلى قدده فلا يوجد فيه شىء وقد سبق الفرث والدم آيتهم رجل اسود احدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدرور ويخرجون على خير فرقة من الناس قال أبو سعيد فاشهد انى سمعت هذا الحديث من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واشهد ان على ابن أبى طالب قاتلهم وانا معه فامر بذلك الرجل فالتمس فاتى به فنظرت إليه على لعت النبي صلى اللّه عليه وسلم قال البغوي وصاحب اسباب النزول نزلت الآية فى ذى الخويصرة التميمي يعنى المذكور فى هذا الحديث واسمه خرقوص بن زهير اصل الخوارج فظاهر الآية يابى عن هذا القول لان المذكور فى الآية لمن الصدقات وقصتها ذى الخويصرة التميمي ومعتب بن قشير المذكورين فى الحديثين الصحيحين المذكورين فى قسمة غنائم حنين وهذه الآية نزلت فى غزوة تبوك بعد غزوة حنين وعندى الآية نزلت فى قسمة صدقات جاء بها المسلمون لتجهيز جيش العسرة واللّه اعلم وقال الكلبي نزلت الآية فى رجل من المنافقين يقال له أبو الحواص قال لم يقسم بالسوية قال اللّه تعالى فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) إذا للمفاجات نائب مناب الفاء الجزائية قيل معناه وان اعطوا كثيرا رضوا وفرحوا وان اعطوا قليلا سخطوا نظرا إلى قوله تعالى.
(1/2898)
وَ لَوْ ثبت أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يعنى بما أعطاهم الرسول من الصدقة والغنيمة وذكر اللّه تعالى للتعظيم والتنبيه على ان فعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان بامره تعالى وعلى انه يجب الرضا والتسليم بما فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم كما يجب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا من فضله سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من وجه آخر ما يحتاج إليه وَرَسُولُهُ من صدقة أو غنيمة اخرى إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) فى ان يغنينا من فضله والآية بأسرها
_________
(1) وهو قدحيه.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 231
فى حيز الشرط والجواب محذوف تقديره لكان خيرا لهم ثم بين مصارف الصدقات قطعا لاطماع رجال كانوا يطمعون فيها ولم يكونوا من أهلها وتصويبا لما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال.
(1/2899)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قال البيضاوي وهو دليل على ان المراد باللمز لمزهم فى قسمة الزكوة دون الغنائم قلت المراد بالآية واللّه اعلم ان مصرف الصدقات هم الفقراء فقط دون الأغنياء فالفقير هو المحتاج ضد الغنى سواء كان له قليل من المال أو لم يكن وهو أعم من المسكين وغيره من الأصناف وقال اكثر الحنفية الفقير من له مال دون النصاب وما قلت أوفق لمذهب أبى حنيفة رحمه اللّه حيث يعتبر الفقر فى الغارم والغازي وغيرهما والدليل على ما قلت من عموم الفقر وشموله للاصناف قصة معاذ روى الشيخان واصحاب السنن من حديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال انك ستاتى قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه فان هم أطاعوا لذلك فاعلمهم ان اللّه قد افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة فان هم أطاعوا لذلك فاعلمهم ان اللّه قد افترض عليهم صدقة توخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فان هم أطاعوا لذلك فاياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين اللّه حجاب وبهذا الحديث اعتبر صفة الايمان فى الزكوة المفروضة فلا يجوز دفع الزكوة إلى فقير كافر ذميا كان أو حربيا لاجماع وأجاز الزهري وابن شرمة الدفع إلى أهل الذمة ويؤيد قول الزهري وابن شبرمة ما روى عن عمر فى قوله تعالى انما الصدقات للفقراء قال هم زمنا أهل الكتاب وقد اضمحل خلافهما بإجماع من بعدهما فان قيل هذا حديث احاد كيف يجوز على اصل أبى حنيفة زيادة الايمان فى الفقراء المنصوصين بنص الكتاب قلنا خص من ذلك الآية الحربي بالإجماع مستندا إلى قوله تعالى انما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم فى الدين فجاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد وجاز دفع الصدقة النافلة إلى الذمي اجماعا لقوله تعالى لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين الآية وحديث معاذ فى الزكوة المفروضة خاصة دون النافلة
(1/2900)
و اما إلى الحربي فلا يجوز
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 232
دفع النافلة أيضا لقوله تعالى انما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم واما الصدقات الواجبة كالفطرة والكفارات والنذور فحكمها حكم المفروضة عند الائمة الثلاثة فانهم لا يفرقون بين الفرض والواجب وعند أبى حنيفة يجوز دفعها إلى الذمي لانحطاط درجة الواجب عن الفريضة عنده وعدم شمول حديث معاذ إياها فان معاذا كان عاملا لاخذ الزكوة فحسب واللّه اعلم وإذا كان الفقير أعم من المسكين وغيره من الأصناف فحينئذ عطف قوله تعالى وَالْمَساكِينِ وما بعده على الفقراء من قبيل عطف الخاص على العام كما فى قوله تعالى حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى فهو لزيادة الاهتمام فلنذكر معانى الألفاظ من المساكين وغيرها حتى يظهر منها وجه الاهتمام بذكرها اما المساكين فالمراد به الفقير الذي لا يسال الناس إلحافا مشتق من السكون والسكينة أى لا يتحرك لاجل السؤال والدليل عليه ما رواه الشيخان فى الصحيحين من حديث أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ليس المسكين الذي يطوف على الناس يرده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسال الناس فظهر ان المسكين نوع من الفقير وإعطاءه اولى من إعطاء غيره من الفقراء فهو أهم قال اللّه تعالى للفقراء الذين أحصروا فى سبيل اللّه لا يستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا والحاف الإلحاح فان قيل قد يطلق المسكين على الفقير السائل أيضا كما فى حديث متفق عليه عن أبى هريرة فى قصة ثلثة من بنى إسرائيل أبرص واقرع وأعمى الحديث بطوله وفيه رجل مسكين قد انقطعت بي الجبال فى سفرى فلا بلاغ لى اليوم الا باللّه ثم بك أسألك بالذي اعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا يبلغ وفى سفرى قلنا اما ان يكون فى الحديث
(1/2901)
السابق بيان المراد من الآية لا بيان الغنى اللغوي واما ان يكون فى الحديث الثاني لفظ المسكين مجاز أو ليس المأخوذ فى مفهوم المسكين ان يكون له قليل من المال كما قال به بعض الشافعية ان الفقير من ليس له مال أصلا والمسكين من له قليل من الأعمال لان قوله تعالى فاطعام عشرة مساكين واطعام ستين
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 233
مسكينا فى الكفارات المراد به اجماعا الفقير مطلقا سواء كان
(1/2902)
له قليل من المال أو لم يكن له مال أصلا وأيضا قوله تعالى أو مسكينا ذا متربته يعنى من لصق بالتراث من فقره يرد قول من قال ان المسكين من له قليل من المال وكذا ليس المأخوذ فى مفهوم المسكين ان لا يكون له مال أصلا كما قال به بعض الحنفية لان قوله تعالى اما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر تدل على ان السفينة كانت لهم ملكا ومع ذلك سماهم اللّه تعالى مساكين والقول بانها كانت لهم بالاجارة أو العارية أو اطلق عليهم لفظ المساكين ترحما صرف للنص عن الظاهر بلا دليل وقد يستدل على ان المسكين احسن حالا من الفقير بان النبي صلى اللّه عليه وسلم استعاذ من الفقر وذلك متفق عليه من حديث عايشة وفى الباب عن أبى هريرة عند أبى داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وعندهما من حديث أبى بكرة وابى سعيد وانس وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا رواه الترمذي من حديث انس وابن ماجة عن أبى سعيد والجواب ان الفقر المستعاذ منه هو فقر النفس وفى الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما الغنى غنى النفس أو المستعاذ منه فتنة الفقر لا حاله وكذا المسئول ليس نفس المسكنة بل بعض صفاته من الصبر والتوكل والرضا أو يقال اسناد حديث انس وابى سعيد ضعيفان كذا قال الحافظ ابن حجر وذكره ابن الجوزي فى الموضوعات لما رأه مباينا للحال الذي مات عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه كان مكفيا وقد قال اللّه تعالى ووجدك عائلا فاغنى واللّه اعلم - وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أى على الصدقات عد اللّه سبحانه من اصناف الفقراء عاملى الصدقة وأعوانهم مجازا سواء كانوا اغنياء أو فقراء لانهم وكلاء للفقراء فى أخذ الصدقات وتقسيمها مشغولون بامورهم فيجب عليهم مؤنتهم فهم فقراء حكما واختلفوا فى قدر ما يعطى للعامل من الزكوة فقال الشافعي يعطى له ولاعوانه الثمن من الصدقات قل عمله أو كثر بناء على انه
(1/2903)
يجب عنده صرف الزكوة إلى الأصناف الثمانية على السوية وسنذكر الرد عليه وقال أبو حنيفة واكثر الأئمة يعطى له كفاية بقدر عمله فان عمل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 234
يوما يعطى له كفاية يومه وان عمل سنة يعطى له كفاية سنة لأنه ليس للغنى حق فى الزكوة وانما يعطى العامل اجر عمله الذي وجب على الفقراء فيعطى ذلك القدر من مال الزكوة الذي هو حقهم ولا يجوز دفع جميع مال الزكوة إلى العامل اجماعا وان استغرقت كفاية جميع مال الصدقة بل حينئذ يعطى له النصف لا يزاد عليه إذ لو يعطى اكثر من النصف وللاكثر حكم الكل يكون هو عاملا لنفسه لا للفقراء فيفوت المقصود ولا يجب عليه مؤنته قال اللّه تعالى وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قال البغوي وهم قسمان قسم مسلمون وقسم كفار فاما المسلمون فقسمان قسم دخلوا فى الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم تألفا كما اعطى عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس أو اسلموا ونيتهم قوية فى الإسلام وهم شرفاء فى قومهم مثل عدى بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لامثالهم فى الإسلام فهولاء يجوز للامام ان يعطيهم من خمس خمس الغنيمة والفى سهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الزكوة والقسم الثاني من المؤلفة المسلمين ان يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار فى موضع لا يبلغه جيوش المسلمين الا بمؤنته كثيرة وهم لا يجاهدون اما لضعف نيّتهم أو لضعف حالهم فيجوز للامام ان يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم المؤلفة من الصدقات روى ان عدى بن حاتم جاء أبا بكر بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فاعطاه أبا بكر منها ثلثين بعيرا اما الكفار من المؤلفة فهو من يخشى شره منهم أو يرجى إسلامه فالامام يعطى هذا حذرا من شره ويعطى ذلك ترغيبا له فى الإسلام فقد كان النبي صلى
(1/2904)
اللّه عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما اعطى صفوان ابن امية لما راى ميله إلى الإسلام واما اليوم فقد أعز اللّه تعالى الإسلام وله الحمد وأغناه عن ان يتالف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفا
بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ان المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط روى ذلك عن عكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وإسحاق بن راهويه واصحاب الرأي وقال قوم سهمهم ثابت يروى ذلك عن الحسن وهو
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 235
(1/2905)
قول الزهري وابى جعفر محمد بن على بن الحسين عليهم السلام وابى ثور وقال احمد يعطون ان احتاج المسلمون إلى ذلك انتهى كلامه وفى اكثر الكتب انهم اختلفوا فى حكم المؤلفة قال أبو حنيفة قد سقط منهم المؤلفة قلوبهم لأنه تعالى أعز الإسلام واغنى وبه قال مالك وهى رواية عن الشافعي وعن مالك رواية اخرى ان احتيج إليهم فى بلد أو ثغر استأنف الامام لوجود العلة وهى رواية عن احمد وقال الشافعي واحمد فى أصح المختار عند اكثر اصحاب الشافعي ما فى المنهاج ان المؤلفة من المصرف قال وهو من اسلم ونيته ضعيفة اوله شرف يتوقع بإعطائه اسلام غيره وقلت وبهذا ظهر ان الشافعي أيضا لا يجوز إعطاء الزكوة للكافر من المؤلفة كما لا يجوز للكافر من الفقراء والمساكين وغيرهم وأبو حنيفة ومن معه لا ينكرون إعطاء مسلم فقير من المؤلفة وانما الكلام فى المسلم الغنى من المؤلفة فعند الشافعي يعطى له من الزكوة بناء على زعمه ان الفقر غير معتبر فى سائر الأصناف وعند أبى حنيفة لا يعطى له الزكوة بناء على اعتبار الفقر فى سائر الأصناف فظهر انه لا خلاف بينهم فى ان حكم جواز إعطاء الزكوة للمؤلفة باق غير منسوخ وكيف يحكم بالنسخ مع عدم الناسخ ولو حمل قول أبى حنيفة على إعطاء الكافر من المؤلفة منسوخ لكان له وجه لكن لم يثبت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اعطى أحدا من الكفار للايلاف شيئا من الزكوة فان قيل روى مسلم والترمذي عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن امية فى قصة فقال أعطاني النبي صلى اللّه عليه وسلم ولانه ابغض الناس إلى فما برح يعطينى انه لاحب الناس إلى وهذا صريح فى انه كان يعطيهم فى حالة الكفر وقد جزم ابن اثير فى الصحابة انه أعطاه قبل إسلامه قلت قال النووي إعطاء النبي صلى اللّه عليه وسلم صفوان بن امية كان من غنائم حنين وصفوان يومئذ كافر قال الحافظ ابن حجر ودعوى الرافعي انه اعطى صفوان ذلك من الزكوة وهم والصواب انه من
(1/2906)
الغنائم من خمس خمس التي كان للنبى صلى اللّه عليه وسلم وبذلك جزم البيهقي وابن سيد الناس وابن كثير وغيرهم وقال ابن الهمام فى بيان النسخ أسند الطبراني قول عمر بن الخطاب حين جائه عيينة بن حصين الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 236
شاء فليكفر يعنى ليس اليوم مؤلفة واخرج ابن أبى شيبة عن الشعبي انما كانت المؤلفة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولما ولى أبو بكر انقطعت وقال ابن الهمام جاء عيينه والأقرع يطلبان أرضا إلى أبى بكر فكتب له الخط فمزقه عمر وقال هذا شىء كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم على الإسلام واللآن فقد أعز اللّه الإسلام واغنى عنكم فان ثبتهم على الإسلام والا فبينا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبى بكر فقالوا الخليفة أنت أم عمر فقال هو ان شاء ووافقه ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة قلت لا يخفى ان قول عمر لا يحتمل ان يكون ناسخا وليس فى قوله تعالى فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر دلالة على نسخ سهم المؤلفة كيف وهو اقدم نزولا من آية سهم المؤلفة فان سورة التوبة آخر القرآن نزولا وسورة الكهف مكية وليست القصة فى الزكوة بل فى أقطاع الأرض فكيف يحكم بنسخ سهم المؤلفة وإذا ثبت ان حكمه باق غير منسوخ لكن الكافر من المؤلفة ليس بمراد بل الحكم مخصوص بالمسلمين منهم ولذا لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم إعطائه من الزكوة كافرا من المؤلفة فنقول إذا خص الكافر من المؤلفة فلا بد ان يخص الغنى أيضا بالأحاديث الواردة فى عدم حل الزكوة للغنى وبما ذكر فى حديث معاذ قوله صلى اللّه عليه وسلم توخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإذا خص المسلم الغنى من المؤلفة بقي الحكم فى المؤلفة الفقراء فظهر ان المؤلفة أيضا صنف من الفقراء عطف عليه
(1/2907)
عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام قوله تعالى وَفِي الرِّقابِ عدل عن اللام إلى فى للايذان بان الاربعة اللاحقة ارسخ فى استحقاق التصدق عليهم من المساكين والعاملين والمؤلفة لان فى للوعاء فنبه على انهم أحقاء بان يوضع فيهم الصدقات والمراد بهم المكاتبين عند أبى حنيفة والشافعي واحمد وهى رواية ابن وهب عن مالك وهم فقراء البتة وانكانت عندهم نصاب لا يكفى لاداء كتابتهم فيعان فى فك رقابهم قال اللّه فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال اللّه الذي أتاكم وقال مالك الرقاب العبيد الأرقاء فعنده يشترى من الزكوة رقبة كاملة فيعتق وهى رواية عن احمد لكنه رجع احمد عنها واحتج مالك بأثر ابن عباس روى أبو عبيدة فى كتاب الأموال من طريق أبى الأشرس
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 237
(1/2908)
عن مجاهد عنه انه كان لا يرى بأسا ان يعطى الرجل من زكوة ماله فى الحج وان يعتق منه الرقبة أخرجه عن أبى معوية عن الأعمش عنه واخرج عن أبى بكر بن أبى عياش عن الأعمش عن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال أعتق من زكوة مالك قال وتابع أبا معوية عبدة بن سليمان رويناه فى فوايد يحيى بن معين رواية أبى بكر بن على المروزي عن عبده عن الأعمش عن أبى الأشرس ولفظه كان يخرج زكوة ثم يقول جهزونا منها إلى الحج وقال الميموني قلت لابى عبد اللّه يشترى الرجل من زكوة ماله الرقاب فيعتق ويجعل فى ابن السبيل قال نعم ابن عباس يقول ذلك ولا اعلم شيئا يدفعه قال الجلالي أخبرنا احمد بن هاشم قال قال احمد كنت ارى ان يعتق من الزكوة ثم رجعت عن ذلك فاحتج عليه بحديث ابن عباس فقال هو مضطرب ثم عند مالك الولاء للمسلمين وفى رواية عنه الولاء للمعتق قال الحافظ انما وصف احمد اثر ابن عباس بالاضطراب لاختلاف فى اسناده عن الأعمش قال الحافظ وفى تفسير الرقاب قول ثالث ان سهم الرقاب يجعل نصفين نصف لكل مكاتب يدعى الإسلام ونصف يشترى بها رقاب من صلى وصام أخرجه ابن أبى حاتم وأبو عبيدة فى الأموال بإسناد صحيح عن الزهري انه كتب ذلك لعمر بن عبد العزيز واللّه اعلم قلت قوله صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم يابى قول مالك فان فى شراء الرقيق لم يوجد الرد ...
(1/2909)
على الفقراء وقول ابن عباس مضطرب كما قال احمد ولو صح فهو رأى ليس برواية فليس بحجة وما ذكرنا فى تفسير الرقاب بالمكاتبين يدل عليه ما أخرجه الطبراني فى تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن البصري ان مكاتبا قال لابى موسى الأشعري وهو يخطب يوم الجمعة فقال له أيها الأمير حث الناس علىّ فحث عليه أبو موسى فالقى الناس عليه هذا يلقى عمامة وهذا يلقى قلادة وهذا يلقى خاتما حتى القى الناس عليه سوادا كثيرا فلما راى أبو موسى ما القى عليه قال اجمعوه ثم امر به فبيع فاعطى المكاتب مكاتبة ثم اعطى الفضل فى الرقاب ولم يرده على الناس وقال ان هذا أعطوه فى الرقاب فان قيل روى احمد وغيره ان رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال دلنى على عمل يقربنى إلى ... الجنة ويباعدنى من النار فقال أعتق
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 238
النسمة وفك الرقبة فقال ا وليسا سواء قال لا عتق الرقبة ان تنفرد بعتقها وفك الرقبة ان تعين فى ثمنها قلت هذا لا يدل على ان فى الرقاب المذكور فى الآية ما قاله مالك واللّه اعلم وَالْغارِمِينَ وهم المديونون بالاتفاق لكن الشافعي واكثر الائمة جعل المديون على ثلثة اقسام قسم أدانوا أنفسهم من غير معصية فانهم يعطون من الصدقة إذا لم يكن مالهم مال يفى بدينهم فانكان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا فى المعروف وإصلاح ذات البين فانهم يعطون من الصدقة ويقضى ديونهم وإن كانوا اغنياء وقسم أدانوا فى معصية اللّه والإسراف فلا يدفع إليه شىء وقال أبو حنيفة رحمه اللّه يدفع إلى كل مديون لم يكن مالكا لنصاب فاضل عن وفاء دينه لعموم اللفظ ولا شك انه فقير فان ماله مشغول بدينه والخلاف فيه كالخلاف فى رخص السفر وكل مديون كان له نصاب فاضل عن وفاء دينه لا يجوز دفع الزكوة إليه عند أبى حنيفة ومالك واحمد خلافا للشافعى فى مديون ادان فى الطاعة قوله تعالى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ كرر
(1/2910)
كلمة فى لترجيح الصنفين للاحقين على الرقاب والغارمين قال الشافعي وأبو يوسف وجمهور العلماء المراد به منقطع الغزاة وقال احمد ومحمد بن الحسن منقطع الحاج والحجة لاحمد ما رواه احمد وأبو داود من حديث أم معقل قالت كان أبو معقل حاجا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قدم قالت أم معقل قد علمت ان علىّ حجة فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه علىّ حجة وان لابى معقل بكرا فقال أبو معقل صدقة جعلته فى سبيل اللّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطها فلتحج عليه فان الحج فى سبيل اللّه وفيه ابراهيم بن مهاجر يتكلم فيه وفى بعض الروايات انه كان بعد وفات أبى معقل رواه أبو داود واحمد بسند آخر عن أم معقل قالت لما حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعل أبو معقل فى سبيل اللّه وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما فرغ من حجته جئته فقال يا أم معقل ما منعك ان تخرجى معنا قالت لقد تهيانا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي يحج عليه فاوصى به أبو معقل فى سبيل اللّه قال فهلا خرجت عليه فان الحج فى سبيل اللّه واحتج الشافعي بحديث
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 239
(1/2911)
ابى هريرة المتفق عليه وفيه واما خالد فانكم تظلمون خالدا فانه قد احتبس ادراعه واعتده قلت ولما كان الفقر ماخوذا فى جميع الأصناف فالاولى ان لا يخص فى سبيل اللّه بالحج ولا بالغزو بل يترك أعم منهما ومن ساير أبواب الخير فمن أنفق ماله فى طلبة العلم صدق انه أنفق فى سبيل اللّه قوله تعالى وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر فاعلم ان المسافر اما ان يكون مالكا لنصاب يمنع أخذ الزكاة اولا وعلى الثاني يعطى له الزكوة اتفاقا سواء كان فى أثناء السفر أو مريدا للسافر كمن لم يكن مسافرا لكونه فقيرا وعلى التقدير الأول إن كان له مال فى يده بقدر النصاب وبقدر ما يبلغ بلدا يريد دخوله لا يعطى له الزكوة اتفاقا سواء كان فى أثناء السفر اولا وإن كان له مال كثير فى وطنه لا معه وهو فى أثناء السفر فقير يدا ليس عنده ما يبلغ نصابا ولا ما يبلغ به وطنه الذي فيه ماله يعطى له الزكوة اتفاقا وهو المراد بابن السبيل فى هذه الآية عند أبى حنيفة رحمه اللّه فالفقر المعتبر لاباحة أخذ الزكوة هو الفقر يدا فمالكية المال لا ينافى جواز أخذ الزكوة ان لم يكن المال فى يده فالمقيم فى الوطن الذي له مال فى وطنه بمنزلة ابن السبيل والدائن الذي مديونه مقر مفلس كابن السبيل كذا فى المحيط وإن كان له مال كثير فى وطنه وعنده مال قليل لا يبلغ نصابا لكن يمكن ان يبلغ به مكانه الذي فيه ماله لا يجوز له أخذ الزكوة اتفاقا لأنه قادر على الوصول إلى ماله فكانه فى يده وإن كان له مال فى يده يبلغ نصابا لكن ليس بقدر ما يقطع به المسافة المقصورة سواء هو فى أثناء السفر أو هو مريد للسفر وسواء كان له مال بعيد منه أو لا يكون لا يجوز له أخذ الزكوة عند أبى حنيفة وقال الشافعي يجوز لابى حنيفة ان المبيح لاخذ الزكوة انما هو الفقر وهو ليس بفقير وقال الشافعي ارادة السفر أيضا مبيح لاخذ الزكوة ان لم يكن عنده ما يقطع به السفر لان ابن السبيل صنف آخر غير
(1/2912)
الفقير لا يعتبر فيه الفقر واللّه اعلم قلت الأصناف السبعة انواع للفقراء والمصرف هم الفقراء ولا يجوز دفع الزكوة إلى هؤلاء الأصناف الا بشرط الفقر الا العاملين فانه يجوز اعطائهم وإن كانوا اغنياء فان المعطى لهم حينئذ فى الحقيقة هم الفقراء وهم يأخذون من مال الفقراء ما يجب لهم مؤنتهم عليهم اجرة عملهم لهم ولا تنحصر الفقراء فى هذه الأصناف وانما ذكر اللّه تعالى هذه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 240
الأصناف اهتماما بها فان لهذا الأصناف مزية على غيرهم من الفقراء فالمراد من الآية واللّه سبحانه اعلم ان المصرف هم الفقراء لكن الاولى ان يلتمس لاعطاء الزكوة سببا يترجح به المعطى له على غيره من الفقراء فالمسكين الذي لا يسأل الناس اولى من السائلين لكونه أفقر والمسافر الفقير أفقر وأشد حاجة من المقيم والغازي والحاج و
(1/2913)
الكاتب والمؤلف للاسلام أحرى لان يعطوا من غيرهم لان فى اعطائهم اعانة على الحج الذي هو أحد اركان الإسلام والجهاد الذي هو ذروة سنامه وعلى فك الرقبة الذي هو مفرغ لكثير من الخيرات ولا دلالة فى الآية على ان اسباب المزية منحصرة فى هذه الأمور بل للمزية اسباب غيره أيضا وانما ذكرت هذه الأمور تمثيلا فان منها القرابة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول رواه البخاري من حديث أبى هريرة ومسلم من حديث حكيم بن حزام وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دينارا نفقته فى سبيل اللّه ودينار تصدقته به على رقبة ودينار تصدقته به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها اجرا الذي أنفقته على أهلك رواه مسلم من حديث أبى هريرة وعن ميمونة بنت الحارث انها اعتقت وليدة فى زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لاجرك متفق عليه وعن سليمان بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وعن انس قال قال أبو طلحة ان أحب مالى إلى بيرحاء وانه صدقة للّه تعالى ارجوا برها ذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارى ان تجعلها فى الأقربين فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه متفق عليه غير انه لا يجوز دفع الزكوة إلى من بينها ولادا وزوجية عند أبى حنيفة رحمه اللّه لان منافع املاكهم متصلة شرعا وعرفا فلا يتحقق التمليك على الكمال قال اللّه تعالى ووجدك عائلا فاغنى يعنى بمال خديجة وقال عليه السلام أنت ومالك لابيك قال ابن همام وسائر القرابات غير الولاد يجوز الدفع معه بل اولى لما فيه من
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 241
(1/2914)
الصلة مع الصدقة فالاخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ولو كان بعضهم فى عياله ولم يفرض القاضي نفقته عليه فدفعها إليه ينوى الزكوة جاز عن الزكوة وان فرضها فدفعها ينوى الزكوة لا يجوز عن الزكوة لأنه أداء واجب فى واجب اخر فلا يجوز الا إذا لم يحتسبها فى النفقة لوجود التمليك على الكمال وقال الشافعي ومالك واحمد لا يجوز دفع الزكوة إلى من يجب نفقته عليه وعلة المنع عندهم لزوم المئونة ووجوب النفقة على المعطى وقد ذكرنا مسئلة وجوب نفقة الأقارب فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وعلى الوارث مثل ذلك وقال أبو يوسف ومحمد مثل ما قال أبو حنيفة ان علة المنع اتصال الاملاك وذلك فى الولاد والزوجية غير انه يجوز عندهما للزوجة دفع زكوتها إلى زوجها على خلاف القياس اتباعا لحديث زينب امراة ابن مسعود قالت كنت فى المسجد فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم قال تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد اللّه وأيتام فى حجرها فقالت لعبد اللّه سل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ يجزئ عنى ان أنفق عليك وعلى أيتام فى حجرى من الصدقة قال سلى أنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانطلقت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار حاجتها مثل حاجتى فمر علينا بلال فقلنا سل النبي صلى اللّه عليه وسلم أ يجزئ عنى ان أتصدق على زوجى وأيتام لى فى حجرى وقلنا لا تخبرنا فدخل فساله فقال من هما قال زينب قال أى الزيانب قال امراة عبد اللّه قال نعم لها أجران اجر القرابة واجر الصدقة رواه البخاري ومسلم والنسائي والطحاوي وغيرهم وفى رواية النسائي على أزواجنا وأيتام فى حجورنا وفى رواية للطيالسى انهم بنو أخيها وبنو أختها وللنساى من طريق علقمة لاحدهما فضل مال وفى حجرها بنو أخ لها أيتام وللاخرى فضل مال ولها زوج خفيف « 1 » ذات اليد قالا
(1/2915)
قولها أ يجزي عنى يدل على ان الصدقة كانت واجبة لان الاجزاء انما يستعمل فى الواجبة وأجاب الحنفية بان ذلك كان فى الصدقة النافلة لانها هى التي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتخول
« 2 » بالموعظة والحث عليها وقولها يجزى وإن كان فى عرف الفقهاء الحادث
_________
(1) أى فقير قليل المال والحظ من الدنيا 12.
(2) أى يتعهد من قولهم فلان خائل مال وهو الذي يصلحه ويقوم 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 242
(1/2916)
لا يستعمل غالبا الا فى الواجب لكن فى ألفاظهم لما هو أعم من الفضل لأنه بمعنى الكفاية فالمعنى هل يكفى التصدق عليه فى تحقق مسمى الصدقة وتحقيق مقصودها من التقرب إلى اللّه فسلم القياس من المعارضة واحتج الطحاوي على هذا التأويل يعنى ان الصدقة فى الحديث صدقة التطوع بروايات اخرى روى الطحاوي بسنده عن رابطة بنت عبد اللّه امرأة عبد اللّه بن مسعود وكانت امراة صنعاء وليس لعبد اللّه بن مسعود مال وكانت تنفق عليه وعلى ولده منها فقالت لقد شغلتنى واللّه أنت وولدك عن الصدقة فما أستطيع معكم بشئ فقال ما أحب ان لم يكن لك فى ذلك اجر ان تفعلى فسالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هى وهو فقالت يا رسول اللّه اننى امراة ذات صنعة أبيع منها وليس لولدى ولا لزوجى شىء فيشغلونى ولا أتصدق فهل فيهم اجر فقال فى ذلك اجر ما أنفقت عليهم فانفقى عليهم قال الطحاوي رابطة هذه هى زينب امراة عبد اللّه إذ لا يعلم ان عبد اللّه كانت له امرأة غيرها فى زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروى الطحاوي بطريقين عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انصرف من الصبح يوما فاتى على النساء فى المسجد فقال يا معشر النساء ما رايت من ناقصات عقل ودين اذهب لعقول ذوى الألباب منكن وانى قد رايت انكن اكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى اللّه عز وجل بما استطعتن وكانت فى النساء امرأة ابن مسعود فانقليت إلى ابن مسعود فاخبرته بما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخذت جلبابها فقال ابن مسعود اين تذهبين بهذا الحلي فقالت أتقرب به إلى اللّه عز وجل والى رسوله صلى اللّه عليه وسلم لعل اللّه لا يجعلنى من أهل النار قال هلمى ويلك تصدقى به علىّ وعلى ولدىّ فقالت لا واللّه حتى اذهب به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحديث فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصدقى به عليه وعلى بنيه فانهم له موضع وروى البخاري من
(1/2917)
حديث أبى سعيد الخدري قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى اضحى أو فطر إلى المصلى ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال أيها الناس تصدقوا فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن فانى اريتكن اكثر أهل النار قلن وبم يا رسول اللّه قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير الحديث إلى ان
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 243
(1/2918)
قالت امراة ابن مسعود عندى حلى فاردت ان أتصدق به فزعم ابن مسعود انه وولده أحق من تصدقت به عليهم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم قال الطحاوي هذه الروايات تدل على كون الصدقة نافلة لان فى الحديث الأول كنت امراة صنعاء اصنع بيدي فابيع من ذلك وذلك صريح انها لم تكن مالكة نصاب يجب فيه الزكوة والحديث الثاني يدل على انها تصدقت بكل الحلي وذلك من التطوع دون الزكوة ولان الأحاديث الثلاثة تدل على جواز دفع صدقتها على ولدها وقد اجمعوا على انه لا يجوز للمرأة ان ينفق على ولدها من زكوتها وأجاب الحافظ ابن حجر عن الاستدلال الطحاوي بان إجماعهم على انه لا يجوز للمرأة ان ينفق على ولدها من زكوتها ممنوع لان المانع من إعطاء الزكوة عند الجمهور وجوب نفقة المعطى له على المعطى والا لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه وعن الاستدلال يتصدق كل الحلي ان كل الحلي يمكن ان يكون قدر الواجب الذي وجب إخراجه عليها قلت حمل أحاديث امراة ابن مسعود على قصة واحدة تكلف والظاهر انها قصتان بل قصص كذا قال الحافظ لان قصة خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المصلى فى اضحى أو فطر غير قصة وعظه صلى اللّه عليه وسلم بعد الانصراف من صلوة الصبح فى المسجد وقصة الانفاق على أيتام هم بنو أخيها وأختها غير قصة إنفاقها على أولادها وفى بعض الطرق قال ابن مسعود تصدقى علىّ وعلى أولادي وفى بعضها ما أحب ان لم يكن لك فى ذلك اجر ان تفعلى وإذا فرضناها قصتان فالظاهر ان السؤال فى أحدها عن الصدقة الواجبة إذ بعد العلم بالحكم فى الصدقة التطوع لا يحتمل ان تسأل زينب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الصدقة التطوع مرة ثانية
(1/2919)
و أيضا اطلاق قوله صلى اللّه عليه وسلم نعم لها أجران فى جواب قولها أ يجزئ عنى ان أتصدق على زوجى من غير فصل يدل على عموم اجزاء الصدقة واللّه اعلم - ومن اسباب المزية الجوار عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت انه سيورثه رواه احمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وكذا روى احمد والشيخان واصحاب السنن عن عايشة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا طبخت مرقة فاكثر مائها وتعاهد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 244
(1/2920)
جيرانك رواه مسلم عن أبى ذر ومنها شدة الحاجة لاجل العيال أو نحوها عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل الصدقة ان تشيع كبدا جايعا رواه البيهقي فى شغب الايمان ومنها سوال السائل قال اللّه تعالى واما السائل فلا تنهر وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للسائل حق وان جاء على فرس رواه احمد وأبو داود وأيضا بسند صحيح عن الحسين وأبو داود عن على والطبراني عن الهرماس بن زياد وعن أم بجيد قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ردوا السائل ولو بظلف محرق رواه مالك والنسائي ورواه الترمذي وأبو داود مرسلا وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أخبركم بشر الناس رجل يسال باللّه ولا يعطى به ومنها اليتم والاسر قال اللّه تعالى يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وغيرها من اسباب المزية يعرف بالآيات والأحاديث وما رويت ان الأصناف كلها اصناف للفقراء يوافق رأى أبى حنيفة واكثر الائمة حيث شرطوا الفقر فى جميع الأصناف وقال الشافعي الأصناف الثمانية المذكورة كل منها مستحق للزكوة برأسها ولا يعتبر فى جميعها الفقر بل يجوز ان يعطى للمولف والمكاتب والمديون والغازي وابن السبيل مع كونهم اغنياء واحتج على ذلك بحديث عطاء بن يسار مرسلا قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى الا لخمسة لغازى فى سبيل اللّه أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فاهدى المسكين للغنى رواه مالك وأبو داود قلت فى هذا الحديث اضطراب فى السند والمتن اما السند فاختلف على زيد بن اسلم فقيل عنه عن عطاء مرسلا كما قال مالك فى الموطإ وروى عنه أبو داود وقيل عن زيد قال حدثنى الليث وقيل عن زيد عن عطاء عن أبى سعيد ذكر الروايات أبو داود وأماني المتن ففى الرواية المذكورة كما ذكرنا وفى رواية لابى داود عن عمران
(1/2921)
البارقي عن عطية عن أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى الا فى سبيل اللّه عز وجل أو ابن السبيل أو جاز فقير تصدق عليه فهدى لك أو يدعوك قال ابن همام هذا الحديث قيل لم يثبت ولو ثبت لم يقوقوة حديث معاذ فانه رواه اصحاب الكتب الستة ولو قوى قوته ترجح حديث معاذ بانه مانع وهذا مبيح مع انه دخله التأويل عندهم حيث قيدوا اباحة الاخذ للغازى بان لا يكون له
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 245
شىء فى الديوان ولا أخذ من الفيء وهو أعم من ذلك وذلك يضعّف الدلالة بالنسبة إلى ما لا يدخله التأويل وحديث زياد بن الحارث الصدائ قال أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فبايعته فذكر حديثا طويلا وفيه فاتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تعالى لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها فجزاها ثمانية اجزاء فان كنت من تلك الاجزاء أعطيتك رواه أبو داود قلت الحديث ضعيف لأنه من رواية عبد اللّه بن عمر بن غانم الافريقى قال الذهبي مجهول الحال واتهمه ابن حبان وشيخه عبد الرحمن بن زياد ضعفه ابن معين والنسائي وقال الدار قطنى ليس بالقوى دوهاه احمد بن حنبل وإذا كان المصرف الفقراء والأصناف الباقية انواع منه فعلى هذا لا شبهة فى جواز دفع جميع مال الزكوة إلى صنف واحد منها أو إلى شخص واحد وكذا لو فرضناها أصنافا مغايرة للفقراء وقال الشافعي لا يجوز صرفها إلى بعضهم مع وجود ساير الأصناف فعنده يجب استيعاب الأصناف ان
(1/2922)
قسم الامام وهناك عامل والا فالقسمة على سبعة سوى العامل وذكر البغوي انه يقسم على ستة اصناف لاجل سقوط سهم المؤلفة فان فقد بعضهم فعلى الموجودين ويجب التسوية بين الأصناف فى حصة كل صنف فإذا قسم الامام استوعب من الزكوة الحاصلة عنده احاد كل صنف وكذا يستوعب المالك ان انحصر المستحقون فى البلد ووفى بهم المال والا فيجب إعطاء ثلثة ان وجد منهم ثلثا أو اكثر فان لم يجد من بعض الأصناف الا واحد اصرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق فإذا انتهت حاجته وفضل شىء رده إلى الباقين ويجب التسوية بين الأصناف لا بين احاد الصنف الا ان يقسم الامام فيحرم عليه التفصيل مع تساوى الحاجات قال الشافعي فى الام اللام فى قوله تعالى للفقراء للاستحقاق فقد ذكر اللّه سبحانه الاستحقاق لثمانية اصناف فوجب إعطاء كل صنف وذكر كل صنف بلفظ الجمع المحلى بلام الاستغراق فيجب استيعاب افراد كل صنف ان أمكن ذلك بان كان افراد كل صنف منحصرة فى البلد وكان المال يفى بهم وان لم يمكن الاستيعاب يصرف إلى ثلثة لبقاء الجمعية على حالها قلنا لام التعريف فى الآية ليست للاستغراق للاجماع على انه لا يجب صرف كل صدقة على فقراء العالم وتخصيص الاستغراق بفقراء بلده امر اختراعى وأيضا إذا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 246
(1/2923)
لم يمكن حصر فقراء البلد ولا يجب صرف الزكوة إلى جماعة اكثر من الثلاثة اجماعا ولو كان اللام للاستغراق لوجب استيعاب الكل أو استيعاب ما أمكن منهم مثلا لو كان مائة درهم حصة كل صنف ولا يمكن حصر فقراء البلد فلا بد ان يجب الصرف إلى مائة فقير مثلا لا الاقتصار على ثلثة فظهر ان اللام للجنش ولام الجنس ينافى الجمعية فالمعنى يستحقها جنس الفقير أى فرد كان ولو سلمنا ان الجمعية باق فمقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد على الآحاد وأيضا كون لام الجر للاستحقاق ممنوع بل حقيقة اللام للاختصاص والاختصاص أعم من الملك والاستحقاق وكونهم مصر فادون غيرهم ويدل على ما ذهبنا إليه الأحاديث والآثار منها ما رواه البيهقي والطبراني عن ابن عباس وابن أبى شيبة عن عمر فى أى صنف وضعته أجزأك وروى الطبراني عن عمر انه كان يأخذ الفرض من الصدقة فيجعله فى صنف واحد قال أبو عبيدة فى كتاب الأموال ومما يدل على صحة ذلك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاه بعد ذلك مال فجعله فى صنف واحد وهم المؤلفة قلوبهم اقرع بن حابس وعيينة بن حصين وعلقمة بن علاثه وزيد بن الجبل قسم فيهم الذهيبة التي بعثها معاذ من اليمن وانما يوخذ من أهل اليمن الصدقة ثم أتاه مال آخر فجعله فى صنف آخروهم الغارمون فقال لقبيصة بن المخارق حين أتاه وقد تحمل حمالة يا قبيصة أقم حتى يأتينا الصدقة فنامر لك بها قال ابن همام ولم يرو عن غيرهم ما يخالفهم قولا ولا فعلا قال البيضاوي وعن عمرو حذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضى اللّه عنهم جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الائمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا يعنى الشافعية وبه كان يفتى شيخى ووالدي رحمه اللّه على ان الآية بيان ان الصدقة لا يخرج منهم لا إيجاب قسمتها عليهم - (مسئلة) لا يجوز دفع الزكوة إلى غنى ليس من الأصناف المذكورة اجماعا واما الغنى من الأصناف المذكورة فقد مر الخلاف فيه و
(1/2924)
اختلفوا فى حد الغنى الذي لا يجوز له أخذ الزكوة فقال أبو حنيفة هو الذي يملك نصابا من أى مال كان وقال بعض العلماء من وجد ما يغد به ويغشيه لا يحل له الزكوة لقوله صلى اللّه عليه وسلم من سال وعنده ما يغنيه فانما يستكثر من النار وفى رواية من نار جهنم فقالوا يا رسول اللّه وما يغنيه وفى رواية وما الغناء الذي
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 247
لا ينبغى معه المسألة قال قدر ما يغديه ويعشيه رواه أبو داود من حديث سهيل بن حنظله وصححه ابن حبان وقال بعضهم من ملك أربعين درهما لا يحل له الزكوة لحديث أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سال وله قيمة اوقية فقد الحف فقلت ناقتى الياقوتة هى خير من اوقية فرجعت فلم اساله زاد هشام وكانت الاوقية على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعين درهما رواه ابو
(1/2925)
داود والنسائي وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سال وله أربعون درهما فهو الملحف وقال بعضهم من ملك خمسين درهما لم يحل له الصدقة وهى رواية عن احمد وبه قال إسحاق وأبو ثور لحديث ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سال وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وخموش « 1 » أو خدوش أو كدوح فى وجهه فقيل يا رسول اللّه ما الغنى قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب رواه أبو داود والنسائي وغيرهما والحديث ضعيف والجواب ان ما ذكرتم من الأحاديث يدل على حرمة السؤال لمن يجد ما يغديه ويعشيه أو أربعين درهما أو خمسين لا عدم جواز أخذ الزكوة بغير سوال ونحن نقول بان من يجد ما يكفيه فى وقته لا يحل له السؤال لكن لو أعطاه أحد صدقة بلا سوال جاز له أخذها لما فى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطينى العطاء فاقول أعطه من هو أفقر منى فقال خذه إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف « 2 » ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك فان هذا الحديث يدل على ان عمر كان يجد ما يغديه وما يعشيه والا لكان هو أفقر الناس وقد امره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأخذ الصدقة من غير سوال وقال مالك والشافعي واحمد الاعتبار فى حرمة الزكوة بالكفاية فله ان يأخذ مع عدمها وإن كان له قنطار وليس له ان يأخذها مع وجودها وان قل ماله فيكون الرجل غنيا بدرهم مع الكسب وقد لا يغنيه الف مع ضعفه وكثرة عياله وذكر البغوي مذهب مالك والشافعي ان يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة لحديث فبيصة بن مخارق عن رسول
_________
(1) خموش خدوش كدوح بمعنى خراشها با اندك تفاوت 12.
(2) يقال أشرفت الشيء وأشرفت عليه أى اطلعت عليه من فوق أراد ما جاءك منه وأنت غير متطلع لا طامع فيه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 248
(1/2926)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال المسألة لا يحل الا لثلثة رجل تحمل حمالة قوم فسأل فيها حتى يوديها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة « 1 » اجتاحت ماله فسأل فيها حتى يصيب قواما من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلثة من ذى الحجى من قومه لقد أصابت فلان فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا رواه مسلم وحديث حسين بن على بن أبى طالب عليهما السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للسائل حق وان جاء على الفرس رواه احمد وأبو داود وغيرهما وجه الاحتجاج ان الحديث الأول يدل على ان اباحة السؤال ينتهى بان يصيب قواما من عيش وهو الكفاية فمن كان له نكاية ولو لم يكن له أربعون درهما لا يحل له الصدقة والحديث الثاني يدل على ان السائل وان كان على فرس فله حق ولا شك ان ذلك مع الحاجة فظهر ان من كان له حاجة وكان له ما كان الف درهم مثلا جاز الا عطاء له والجواب ان هذين الحديثين لا مساس لهما بالمدعى لان الحديث الأول فى اباحة السؤال وحرمته وحاصلة ان السؤال بلا حاجة حرام ومع الحاجة جايز فمن أصابته فاقة يسأل حتى يصيب قواما من عيش قلت وذا بكفاية يوم وليلة كما فى حديث سهيل بن حنظلة فإذا أصاب قواما من عيش لا يحل له المسألة ويحل له الصدقة ان اعطى بلا سوال لعموم قوله تعالى الصدقات للفقراء واما الحديث الثاني ففى بيان حق السائل وقوله ولو جاء على الفرس محمول على المبالغة وأيضا الفرس قد يكون من حوائجه الاصلية إذا كان الرجل غازيا وقد يكون صاحب الفرس مديونا وقد لا يبلغه فرسه نصابا وبمثل هذه الدلالة مع ما ذكرنا من الاحتمالات لا يمكن ان يقال لجواز الإعطاء من الزكوة الغنى مع النصوص القاطعة على منعه وقال أبو حنيفة الغنى من لا يكون له نصابا فاضلا عن حوائجه الاصلية لحديث معاذ تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم فانه يدل على ان من يردّ
(1/2927)
عليه غير من يوخذ منه فثبت انه من يجب عليه الزكوة لا يجوز الدفع إليه غير انه لا فرق فى المال النامي وغير النامي فى المنع عن دفع الزكوة إليه لما ثبت فى حديث أبى سعيد وغيره ان الاوقية وما يكون على قيمته حكمهما سواء وانما الفرق بينهما فى وجوب الزكوة لقوله عليه السلام
_________
(1) جائحة آونة التي يهلك الثمار 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 249
(1/2928)
ليس فى العوامل ولا فى الحوامل ولا فى العلوفة صدقة فظهر ان اللّه سبحانه جعل القدرة الميسرة شرط الوجوب الزكوة وانما شرطنا فى المنع من إعطاء الزكوة إليه كون النصاب فارغا عن حوائجه الاصلية لان النصاب المشغول بالحاجة كالمعدوم نظيره جواز التيمم مع وجود الماء المعد للعطش فجاز للمديون المالك للنصاب أخذ الزكوة إذا لم يكن نصابه فاضلا عن دينه وكذا الغازي وابن السبيل وفرس يركبه يبلغ نصابا أو عالم له كتب يحتاج إليها فى المطالعة والتدريس أو رجل له بيت يبلغ نصابا يسكنه وهذا محمل قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى الا لخمسة الغازي فى سبيل اللّه والغارم وابن السبيل واللّه اعلم - (مسئلة) الفقير إذا كان قادرا على الكفاية بالكسب يجوز دفع الزكوة إليه لعموم قوله تعالى انما الصدقات للفقراء وقال الشافعي واحمد لا يجوز لحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى رواه احمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم ورواه أبو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد اللّه بن عمر بن العاص بسند حسن ورواه الدار قطنى فى العلل وأبو يعلى عن طلحة وحديث جابر قال جاءت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقة فركبه الناس فقال أيها الناس لا يصلح لغنى ولا لصحيح سوى ولا نعامل قوى رواه احمد والدار قطنى وحديث عبيد اللّه بن عدى ان رجلين أخبراه انهما أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورأهما جلدين فقال ان شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب رواه احمد وأبو داود ونسائى وقال صاحب التنقيح حديث صحيح وقال احمد ما أجوده من حديث هو أحسنها اسنادا وفى الباب عن ابن عمر فى كامل ابن عدى وعن حبشى بن جنادة فى سنن الترمذي ورواه احمد من طريق أبى زميل عن رجل من بنى هلال به وعن عبد الرحمن فى الطبراني قلنا قوله
(1/2929)
صلى اللّه عليه وسلم ان شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغنى صريح فى انه يجوز دفع الزكوة إلى فقير قوى والا لم يقل ان شيئتما اعطيتكما ولنا أيضا حديث عمر بن الخطاب قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطينى العطاء فاقول أعطه من هو أفقر إليه منى قال خذه إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 250
(1/2930)
نفسك متفق عليه من حديث سالم عن ابن عمر عنه وفى رواية لمسلم خذه فتموله وتصدق به قال سالم فمن ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه فان قيل ان عطية النبي صلى اللّه عليه وسلم لعمر كان بسبب العمالة لا لاجل الفقر ولذا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم خذه فتموله وتصدق به لما روى مسلم عن أبى حميد الساعدي انه قال استعملني عمر بن الخطاب على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمرني بعمالة فقلت انما عملت للّه اجرى على اللّه فقال خذ ما أعطيت فانى عملت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعملنى فقلت مثل قولك فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أعطيت شيئا من غير ان تسأل فكل وتصدق قلت العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص الحادثة واللفظ عام إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومن تتبع الأحاديث ظهر له صراحة أو دلالة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اعطى من سأل الصدقة وهو صحيح سوى روى مسلم من حديث انس قال كنت امشى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليه رداء نجرانى غليظ الحاشية فادركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد اثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لى من مال اللّه الذي عندك فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضحك ثم امر له بعطاء قال الحافظ ابن حجر واكثر أحاديث الباب شاهدة لذلك وقلت وما ذكرنا من الأحاديث جملتها تدل على ان دفع الصدقة إلى فقير قوى يجوز سواء سأل الفقير أو لا
(1/2931)
يجوز له ان لم يكن بسوال لكن يكره له السؤال والاخذ بالسؤال فنفى حل الصدقة فى قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يحل الصدقة لذى مرة سوى يرجع إلى نفى حل السؤال ونفى حل الصدقة التي تعطى بالسؤال والظاهر ان الأحاديث التي ينفى الحل وردت فى حادثة السؤال واللّه اعلم - (مسئلة) لم يكن الصدقة حلالا للنبى صلى اللّه عليه وسلم لا واجبة ولا نافلة عند اكثر الأئمة وحكى عن الشافعي فى التطوع قولان وكذا فى رواية احمد والحجة للجمهور حديث انس قال مر النبي صلى اللّه عليه وسلم بتمرة فى الطريق فقال لو لا انى أخاف ان يكون من الصدقة لاكلتها متفق عليه وحديث أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اتى به بطعام
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 251
(1/2932)
سأل عنه أ هدية أم صدقة فان قيل صدقة قال لاصحابه كلوا ولم يأكل وان قيل هدية ضرب بيده فاكله معهم متفق عليه وروى الطحاوي عن بهز بن حكيم عن أبيه عنجده نحوه وكذا لآل محمد صلى اللّه عليه وسلم لم يكن الصدقة حلال لحديث أبى هريرة قال أخذ الحسن بن على تمرة من تمر الصدقة فجعلها فى فيه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم كخ كخ ليطرحها ثم قال اما شعرت انا لا ناكل الصدقة متفق عليه - (مسئلة) اختلفوا فى تحريم الصدقة على أقارب النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلم على اربعة اقوال الأول الجواز مطلقا فريضة كانت أو نافلة وهى رواية عن أبى حنيفة ورواية عن مالك وهذا قول لا يصاعده دليل شرعى غير انهم يقولون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل خمس الخمس من الغنيمة لاقاربه عوضا عن الصدقة فلما سقط خمس الخمس بعد وفات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سقط حرمة الصدقة الثاني المنع مطلقا فريضة كانت أو نافلة وبه قال أبو يوسف ومحمد واختاره الطحاوي وابن همام لعموم قوله صلى اللّه عليه وسلم انا آل محمد لا ناكل الصدقة وفى رواية لا يحل لنا الصدقة رواه مسلم والطبراني والطحاوي من حديث عبد الرحمن بن أبى ليلى ومن حديث رشد بن مالك وكذا عند احمد والطحاوي فى قصة الحسن بن على من حديث الحسن نفسه الثالث جواز الفريضة دون النافلة ولم يذهب إليه غير مالك يقول ان الواجب حق لازم لا يلحق بأخذه ذلة بخلاف التطوع وهذا القول مردود بما ذكرنا من الأحاديث الرابع جواز النافلة دون الفريضة وهو المشهور من مذهب أبى حنيفة والمصحح عند الشافعي والحنابلة ورواية عن مالك فعن مالك اربعة اقوال كلها مشهور وجه هذا لقول ان الأحاديث المذكورة محمولة على الصدقة المفروضة وكذا حديث المطلب بن ربيعة بن الحارث قال اجتمع ربيعة والعباس بن عبد المطلب فقالا لو بعثنا هذين الغلامين لى وللفضل بن عباس إلى رسول اللّه صلى
(1/2933)
اللّه عليه وسلم يأمرهما على هذه الصدقة فاصابا مما يصيب الناس فقال على لا ترسلوهما فانطلقنا حتى دخلنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت حجش فقلنا يا رسول اللّه قد بلغنا النكاح وأنت ابر الناس وأوصل الناس جئناك لتامرنا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 252
على هذه الصدقة فنؤدى إليك كما يؤدى الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا ثم قال ان الصدقة لا ينبغي لال محمد انما هى أوساخ الناس ادعو إلى محمية بن جزء رجلا من بنى اسد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستعمله على الأخماس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب فقال لمحمية انكح هذا الغلام ابنتك للفضل « 1 » ابن العباس فانكحه وقال لنوفل بن الحارث انكح هذا الغلام ابنتك فانكحنى فقال لمحمية اصدق عنهما من الخمس كذا وكذا رواه مسلم وهذا الحديث يدل على انه لا يحل الصدقة للهاشمى وإن كان عاملا على الصدقات على طريق العمالة أيضا فكيف إذا لم يكن عاملا لكن الحديث فى الصدقة المفروضة لانها هى التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبعث الناس لاخذها والدليل على جواز الصدقة ما رواه الطحاوي من حديث ابن عباس قال قدمت عير المدينة فاشترى منه النبي صلى اللّه عليه وسلم متاعا فباعه بربح أواق فضة فتصدق بها على أرامل بنى عبد المطلب ثم قال لا أعود ان اشترى بعدها شيئا وليس ثمنه عندى وما رواه
(1/2934)
الشافعي عن ابراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام انه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقال أ تشرب من الصدقة قال انما حرم علينا الصدقة المفروضة والقول بان حكم صدقات الأوقاف خلاف حكم سائر الصدقات امر لا دليل عليه وأيضا لو كان كذلك لقال الامام حكم صدقات الأوقاف خلاف حكم سائر الصدقات ولم يقل كذلك بل قال انما حرم علينا الصدقة المفروضة وما روى البخاري وغيره قوله صلى اللّه عليه وسلم لا تورث ما تركناه صدقة وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطى أهل بيته فى حياته نفقة سنتهم وما بقي يجعله مجعل مال اللّه وكذلك كان أبو بكر وعمرو على وعباس بعد وفات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعملون بما عمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وظهر انه ليس كل صدقة على بنى هاشم حراما - (مسئلة) لا يجوز للهاشمى ان يأخذ الزكوة من الهاشمي عند اكثر الائمة وقال أبو يوسف جاز ذلك لان الصدقة انما حرم عليهم لانها من أوساخ الناس والمراد بالناس غيرهم فلا بأس لو أكلوا صدقات أنفسهم قلنا شرفهم يقتضى حرمة أوساخ الناس عليهم كلهم هاشميا كان أو غيرهم مسئلة الذين يحرم عليهم الصدقة هم بنو هاشم خمسة بطون ال على وعباس
_________
(1) للفضل ابن العباس فانكحه وقال لنوفل بن الحارث انكح هذا الغلام ابنتك 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 253
(1/2935)
و جعفر وعقيل والحارث بن عبد المطلب عند أبى حنيفة ومالك وقال الشافعي بنو المطلب أيضا معهم حيث اشركهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سهم ذوى القربى من الخمس كما ذكرنا من حديث جبير بن مطعم فى مسائل الخمس - (مسئلة) ويحرم الزكوة على مواليهم عند أبى حنيفة ومحمد وهو الأصح من مذهب الشافعي ومالك وقال بعضهم لا يحرم على مواليهم وقال أبو يوسف لا يصرف غير بنى هاشم إلى مواليهم لنا حديث أبى رافع ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث رجلا من بنى مخزوم على الصدقة فقال لابى رافع الا تصحبنى فتصيب منها قال فقلت حتى اذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال انا آل محمد لا يحل لنا الصدقة وان مولى القوم منهم رواه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم ورواه الطبراني من حديث ابن عباس واسم إلى رافع أرقم بن أبى الأرقم واللّه اعلم - (مسئلة) يكره نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر لقوله صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ توخذ من أغنيائهم وترد على فقرأهم وحكى عن عمر بن عبد العزيز انه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان قوله تعالى فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لما دل عليه الآية أى فرض لهم الصدقات فريضة أو حال من الضمير المستكن فى الفقراء وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمصلحة حَكِيمٌ (60) فى القسمة يضع الأشياء فى مواضعها واللّه اعلم - أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد واخرج ابن أبى حاتم عن السدى قال اجتمع ناس من المنافقين فيهم خلاس بن سويد بن الصامت ومخشى بن حمير ووديعة بن ثابت فارادوا ان يقعوا فى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا انا نخاف ان يبلغ محمدا فيقع لكم فقال بعضهم انما محمد اذن نحلف فيصدقنا قال الخلاس بل نقول ما شئنا ثم ناتيه وننكو ما قلنا وتحلف فيصدقنا بما نقول فانما محمد اذن فانزل اللّه تعالى.
(1/2936)
وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ أى يغتابونه ويتقولون حديثه ويقولون فيه ما لا ينبغى وَيَقُولُونَ إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه صلى اللّه عليه وسلم هُوَ يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم أُذُنٌ أى يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمى بالجارحة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 254
للمبالغة كأنَّه من فرط استماعه صار جملته فمعز الدولة للسماع كما يسمى الجاسوس عينا أو تقديره ذو اذن سامعة أو يقال اذن مشتق فعل من اذن اذنا إذا استمع واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس انه قال كان نبتل بن الحارث يأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيجلس إليه يسمع وينقل حديثه إلى المنافقين فانزل اللّه هذه الآية وقال محمد بن إسحاق كان نبتل رجلا ادلم ثائر « 1 » الراس احمر العينين اسفع الخدين مشوه الخلق وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من أحب ان ينظر إلى الشيطان فينظر إلى هذا وكان يتم حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال انما محمد اذن فمن حدثه شيئا صدقه فنقول ما شئنا ثم ناتية ونحلف له فيصدقنا فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال اللّه تعالى فى جوابهم قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ قرأ العامة بالاضافة وهو كقولك رجل صدق يريد الجودة والصلاح كأنَّه قيل نعم هو اذن ولكن نعم الاذن هو أو المعنى انه مستمع خير لكم وصلاح لا مستمع شر وفساد فيسمع عذر من اعتذر ولا يسمع الغيبة والنميمة ونحو ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن عز كريم والفاجر خبث ليئم رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبى هريرة ويجوز ان يريد هو اذن فى الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن فى غير ذلك وقرأ الأعمش والبرجمي عن أبى بكر اذن خير مرفوعين مئوفين على ان خير صفة اذن أو خبر ثان يعنى ان يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من ان يكذب قولكم ثم مدحه بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ أى يصدق
(1/2937)
لِلْمُؤْمِنِينَ أى لن يظهر الايمان بناء على حسن الظن أو المعنى يصدق المؤمنين المخلصين دون المنافقين لكن يقبل اعذارهم إعراضا عنهم عدى فعل الايمان بالباء إلى اللّه لأنه قصد ضد الكفر وباللام إلى المؤمنين لأنه قصد به التصديق لهم ضد تكذيبهم وَرَحْمَةٌ قرأ حمزة بالجر عطفا على خير يعنى اذن خير ورحمة والباقون بالرفع عطفا على اذن لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعنى لمن اظهر الايمان حيث يقبله ولا يكشف سره وفيه تنبيه على انه ليس يقبل قولكم
_________
(1) ثائر الراس أى منتشر شعر الراس من ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع ومشوه الخلق قبيحة ومنه شاهت الوجود أى قيمت السفع نوع السواد وليس بالكثير 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 255
جهلا يحالكم بل ترفقا وترحما عليكم أو المعنى رحمة للذين أمنوا منكم مخلصين حيث استنقذهم من الكفر إلى الايمان ويشفع لهم فى الآخرة ويستنقذ من النار إلى الجنة.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) لا يفيد لهم تسليم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولهم واعتذارهم قال مقاتل والكلبي نزلت فى رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون فانزل اللّه تعالى.
(1/2938)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ على معاذيرهم فيما قالوا وتخلفوا لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ عنهم والخطاب للمومنين وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بالطاعة والإخلاص والضمير راجع إلى اللّه تعالى لان إرضاء اللّه تعالى لا يتحقق بالايمان الكاذبة بل بالطاعة والإخلاص فالتقدير واللّه أحق ان يرضوه والرسول كذلك وقيل الضمير راجع إلى كل منهما وانما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضاء اللّه ورضاء رسوله فكانهما فى حكم شىء واحد وقيل الضمير راجع إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم لان الكلام فى إيذاء الرسول وارضائه إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (22) صدقا شرط حذف جزائه لما يدل عليه السياق يعنى إن كانوا مومنين صدقا فليرضوا اللّه ورسوله بالطاعة والإخلاص لكنهم لم يرضوا اللّه ورسوله ولم يخلصوا ايمانهم.
أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ الضمير للشان مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى يخالف اللّه ورسوله بالمعصية والتخلف عن الغز وبعد الاستنفار مفاعلة من الحد بمعنى الجانب فان المخالف لاحد يكون فى جانب مغاير لجانبه فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها « 1 » على حذف الخبر أى الحق ان له نار جهنم أو على تكرير ان للتاكيد ويحتمل ان يكون معطوفا على انه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد اللّه ورسوله يهلك ذلِكَ أى دخول النار والهلاك الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) هذه الآية فى مقام التعليل لقوله اللّه ورسوله
_________
(
(1/2939)
1) عن يزيد بن هارون انه خطب أبو بكر الصديق فقال فى خطبته يوتى بعيد قد أنعم اللّه عليه وبسط له فى رزقه وأصح بدنه وقد كفر نعم ربه فوقف بين يدى اللّه فيقال له ماذا عملت ليومك هذا ما قدمت لنفسك فلا يجده قدم خيرا فيبكى حتى ينفذ الدموع ثم يعيرو يجزى ما ضيع من طاعة اللّه فينتجب حتى يسقط صدقاته على وجنتيه وكل واحد منهما فرسخ ثم يعير ويجزى حتى يقول يا رب ابعثني إلى النار وارخى من مقامى هذا وذلك قوله تعالى ومن يحادد اللّه ورسوله فان له نار جهنم إلى الآية 12. [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 256
أحق ان يرضوه فان عدم إرضاء اللّه ومخالفته يفضى إلى النار دون عدم إرضاء غيره وما احسن قول الشاعر -
ليتك تحلوا والحيوة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
ليت الذي بينى وبينك عامر وبينى وبين العالمين خراب
و ذكر البغوي قول قتادة والسدى ان قوله تعالى يحلفون باللّه لكم ليرضوكم نزلت فى جماعة من المنافقين فيهم خلاس بن سويد وقعوا فى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا ان كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير وذكر عامر بن قيس رضى اللّه عنه هذه المقالة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسنذكر القصة فيما بعد إنشاء اللّه.
(1/2940)
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ يعنى المؤمنين بِما فِي قُلُوبِهِمْ أى قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين ويهتك عليهم استارهم ويجوز ان يكون الضمائر للمنافقين فان النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث انه مقرو ومحتج به عليهم قال البغوي كانوا يقولون فيما بينهم ويستترون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن فى شانهم وذلك يدل على انهم كانوا مترددين فى امر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويحذرون الفضيحة على تقدير صدقه عليه السلام وقيل انه خبر بمعنى الأمر والمعنى ليحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة وقيل كانوا يقولون ذلك فيما بينهم استهزاء لقوله تعالى قُلِ اسْتَهْزِؤُا امر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ أى مظهر ما تَحْذَرُونَ (64) أى ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم أو تحذرون إظهاره من مساويكم قال ابن عباس رضى اللّه عنهما انزل اللّه تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم واسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضا لان أولادهم كانوا مومنين قال البغوي نزلت هذه الآية فى اثنى عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها فاخبر جبرئيل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (قصّة) ذلك ما روى احمد عن أبى الطفيل والبيهقي عن حذيفه وابن سعد
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 257
(1/2941)
عن جبير بن مطعم رضى اللّه عنهم وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة وعن ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعض الطريق مكر به ناس من المنافقين وائتمروا بينهم ان يطرحوه من عقبة فى الطريق وفى رواية اجمعوا ان يقتلوه فجعلوا يلتمسون غرته فلما أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يسلك العقبة أرادوا ان يسلكوها معه قالوا إذا أخذ فى العقبة رفعناه عن راحلته فى الوادي فاخبر اللّه تعالى رسوله بمكرهم فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك العقبة نادى مناديه للناس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ للعقبة فلا يأخذها واحد واسلكوا بطن الوادي فانه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي الا النفر الذين مكروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا « 1 » وسلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العقبة وامر عمار بن ياسر ان يأخذ بزمام الناقة ويقودها وامر حذيفة بن اليمان ان يسوق من خلفه فبينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسير فى العقبة إذ سمع حس القوم فدعسوه « 2 » فنفروا ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سقط بعض متاعه وكان حمزة بن عمرو الأسلمي لحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعقبة وكانت ليلة مظلمة قال حمزة فتور لى فى أصابعي الخمس وأضاءت حتى كنا نجمع ما سقط السوط والحبل واشباههما وامر حذيفة ان يردهم فرجع حذيفة إليهم وقد رأى غضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه محجن فجعل يضرب وجوه رواحلهم وقال إليكم إليكم يا اعداء اللّه فعلم القوم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس واقبل حذيفة حتى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار فاسرعوا حتى استويا بأعلاها وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و
(1/2942)
سلم من العقبة ينتظر الناس وقال لحذيفة هل عرفت أحدا من أولئك الذين رددتهم قال يا رسول اللّه قد عرفت رواحلهم كان القوم متلثمين فلم ابصرهم من أجل ظلمة الليل قال هل علمتم ما كان من شانهم وما أرادوا قالوا لا واللّه يا رسول اللّه قال فانهم مكروا ليسيروا معى فإذا طلعت العقبة
_________
(1) تلثموا أى شد الفم باللثام للغبار 12.
(2) الداعسه المطاعنة بالرماح 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 258
(1/2943)
رهونى فطرحونى منها ان اللّه تعالى قد أخبرني بأسمائهم واسماء آبائهم ومما خبركم بهم إنشاء اللّه تعالى قال أ فلا تأمرهم يا رسول اللّه إذا جاءك الناس ان تضرب أعناقهم قال اكره ان يتحدث الناس ويقولوا ان محمدا قد وضع يده فى أصحابه وذكر البغوي بلفظ اكره ان يقول العرب لما ظفر بأصحابه اقبل يقتلهم بل يكفينا اللّه بالدبيلة « 1 » فسماهم لهما ثم قال اكتماهم فلما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له أسيد بن الحضير يا رسول اللّه ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من العقبة فقال يا أبا يحى أ تدري ما أراد بي المنافقون وما هموا به قالوا لتبعه فى العقبة فإذا اظلم الليل عليه قطعوا الشاع راحلتى وتحسوها حتى كادوا يطرحونى عن راحلتى قال أسيد يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد اجتمع الناس ونزلوا فمر كل بطن ان يقتل الرجل الذي هم بهذا فيكون الرجل فى عشيرته هو الذي يقتله وان أحببت والذي بعثك بالحق فنبئنى فلا أبرح حتى آتيك برؤسهم قال يا أسيد انى اكره ان يقول الناس ان محمدا لما انقطعت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده فى قتل أصحابه فقال يا رسول اللّه ليسوا باصحاب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ ليس يظهرون شهادة ان لا اله الا اللّه قال بلى ولا شهادة لهم قال فعديت عن قتل أولئك قال ابن إسحاق فلما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لحذيفة ادع عبد اللّه بن سعد بن أبى السرج وأبا حاضر الاعرابى وعامر أبا عامر والحلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال لا ننتهى حتى نرمى محمدا من العقبة الليلة ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا انّا إذا الغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل وامره ان يدعوا مجمع بن حارثة ومليح التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام فانطلق هاربا فى الأرض فلا يدرى اين ذهب وامره ان يدعوا حيصر بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه فقال له رسول
(1/2944)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويحك ما حملك على هذا قال حملنى عليه انى أظن ان اللّه لا يطلعك عليه فاما إذا اطلعك اللّه عليه فانى اشهد اليوم انك لرسول اللّه صلى اللّه وانى لم أو من بك قبل الساعة فعفا عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله الذي قال وامر
_________
(1) هى دمل كبير يظهر فى الجوف تقتل صاحبها غالبا 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 259
(1/2945)
حذيفة ان يأتيه بطعمة ابن أبيرق وعبد اللّه بن عيينة وهو الذي قال لاصحابه اسهروا هذه اللية تسلموا الدهر كله فو اللّه مالكم امر دون ان يقتلوا هذا الرجل فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ويحك ما كان ينفعك من قتلى لوانى قتلت فقال عدو اللّه يا نبى اللّه واللّه ما نزال بخير ما اعطاك اللّه النصر على عدوك انما نحن باللّه وبك فتركه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال لحذيفة ادع مرة بن الربيع وهو الذي ضرب بيده على عاتق عبد اللّه بن أبى ثم قال تمطى أو قال تميطى والنعيم لنا من بعده كائن تقتل الواحد المفرد فيكون الناس عامة عامة بقتله مطمئنين فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ويحك ما حملك ان تقول الذي قلت فقال يا رسول اللّه ان كنت قلت شيئا من ذلك انك العالم به وو ما قلت شيئا من ذلك فجمعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم اثنى عشر رجلا الذين حاربو اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم وأرادوا قتله فاخبرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم واطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك بعلمه وذلك قوله تعالى وهموا بما لم ينالوا ومات الاثنا عشر منافقين محاربين اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم قال حذيفة فيما رواه البيهقي ودعا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اللهم ارمهم بالدبيلة قال شهاب من نار يقع على نياط « 1 » قلب أحدهم فيهلك وروى مسلم عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فى أصحابي اثنا عشر رجلا منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سلم الخياط ثمانية تكفيهم الدبيلة سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم قال البيهقي وروينا عن حذيفة انهم كانوا اربعة عشر أو خمسة عشر وهذه القصة وقعت فى مرجعه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قال اللّه تعالى.
(1/2946)
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لام قسم أى واللّه لئن سالتهم عن استهزائهم بك وبالقرآن وهم سائرون معك فى غزوة تبوك لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) يعنى قل ذلك توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به وإلزاما للحجة عليهم ولا تعبا باعتذارهم
_________
(1) نياط القلب هو عرق به علق القلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 260
(1/2947)
الكاذب فجعلوا كانهم معترفون باستهزائهم حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلى حرف التقرير وذلك يكون بعد ثبوت الاستهزاء كذا قالوا قلت قولهم انما كنا نخوض ونلعب اعتراف منهم بالاستهزاء ومعناه كنا نقول ما يفهم منه الاستهزاء لقطع مسافة الطريق على سبيل اللعب لا على قصد الاستهزاء أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عمر قال قال رجل فى غزوة تبوك فى مجلس ما راينا مثل قراينا هؤلاء لا ارغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا اجبن عند اللقاء فقال له رجل كذبت ولكنك منافق لا خبرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزل القرآن قال ابن عمرو انا رأيته متعلقا بحقب نافة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول انما « 1 » كنا نخوض ونلعب ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ا باللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ثم أخرجه من وجه آخر عن ابن عمر نحوه وسمى الرجل عبد اللّه بن أبى كذا ذكر البغوي عن عمر رضى اللّه عنه واخرج ابن جرير عن قتادة ان ناسا من المنافقين قالوا فى غزوة تبوك يرجوا هذا الرجل ان يفتح قصور الشام وحصونها هيهات فاطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك فاتاهم فقال قلتم كذا وكذا قالوا انما كنا نخوض ونلعب فنزلت قال البغوي سبب نزول هذه الآية على ما قال الكلبي ومقاتل وقتادة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يسير فى غزوة تبوك وبين يديه ثلثة نفر من المنافقين اثنان يستهزءان بالقرآن والرسول صلى اللّه عليه وسلم والثالث يضحك قيل كانوا يقولون ان محمدا يزعم انه يغلب الروم ويفتح مداينهم وما أبعده من ذلك وقيل كانوا يقولون ان محمدا يزعم انه نزل فى أصحابنا المقيمين فى المدينة قرآن وانما هو قوله وكلامه فاطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك فقال احبسوا علىّ الركب فدعاهم فقال لهم قلتم كذا وكذا فقالوا انما كنا نخوض و
(1/2948)
نلعب أى كنا نتحدث ونخوض فى الكلام كما يفعل الركب يقطع
_________
(1) عن شريح بن عبيد ان رجلا قال لابى الدرداء يا معشر القراء ما بالكم اجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقما إذا أكلتم فاعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد شيئا فاخبر بذلك عمر بن الخطاب فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك فقال بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الرجل انما كنا نخوض ونلعب فاوحى اللّه إلى نبيه صلى اللّه عليه وسلم ولين سالتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 261
(1/2949)
الطريق بالحديث واللعب وهذه القصة وقعت فى رواحه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى تبوك وقال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر كان رهط من المنافقين يسيرون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك لم يخرجوا الا رجاء الغنيمة منهم وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف والجلاس بن الصامت ومخشى بن حمير من أشجع حليف لبنى سلمة زاد محمد بن عمرو ثعلبة بن حاطب فقال بعضهم بعضا مكانى بكم غدا مقرنين فى الجبال ارجافا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وترصيبا للمومنين وقال الجلاس بن عمرو كان زوج أم عمير وكان ابنها عمير فى حجره واللّه لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فقال عمير وأنت شر من الحمير ورسول اللّه الصادق وأنت الكاذب فقال مخشى بن حمير واللّه لوددت انى اقاضى على ان يضرب كل رجل منا « 1 » مائة جلدة واننا ننقلب من ان ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمار بن ياسر أدرك القوم فانهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فان أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا فانطلق عمار إليهم فقال لهم ذلك فاتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت وقد أخذ حقب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ناقته وهو يقول يا رسول اللّه انما كنا نخوض ونلعب فانزل اللّه فيهم ولئن سالتهم ليقولون انما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون.
(1/2950)
لا تَعْتَذِرُوا أى لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فانها معلومة الكذب قَدْ كَفَرْتُمْ أى أظهرتم الكفر بايذاء الرسول والطعن فيه بَعْدَ إِيمانِكُمْ أى اظهاركم الايمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم وإخلاصهم قال محمد بن إسحاق الذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشى بن حمير الأشجعي فقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشى مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع فلما نزلت هذه الآيات تاب من نفاقه قال اللهم لا أزال اسمع آية تقربها عينى وتقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا فى سبيلك لا يقول أحد انا غسلت انا دفنت فاصيب يوم اليمامة فما أحد من
_________
(1) يعنى جلد كل منا مأته ولا ينزل فينا قرآن يفضحنا 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 262
المسلمين الا عرف مصرعه غيره وقال مخشى يا رسول اللّه فعدلى اسمى واسم أبى فسماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد الرحمن أو عبد اللّه نُعَذِّبْ طائِفَةً قرأ عاصم نعف بفتح النون وضم الفاء وتعذب بضم النون وكسر الذال على صيغة المتكلم المبنى للفاعل وطائفة بالنصب والباقون بالياء المضمومة وفتح الفاء فى الأول وبالتاء الفوقانية وفتح الذال فى الثاني على صيغة الغائب المبنى للمفعول وطائفة بالرفع بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) بالإصرار على النفاق وإيذاء الرسول والاستهزاء.
(1/2951)
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ جنس بَعْضٍ فى الشرك والنفاق والبعد عن الايمان وفيه تكذيب لحلفهم باللّه انهم لمنكم وتقرير لقوله وما هم منكم وما بعده كالدليل عليه فانه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وتشابه حال بعضهم لبعض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أى بالشرك والمعصية وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أى عن الايمان والطاعة يقولون لا تنفروا فى الحر وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الانفاق فى سبيل اللّه وقبض اليد كناية عن الشح نَسُوا اللَّهَ كانهم لا يعلمون لهم خالقا يسألهم عما يفعلون وغفلوا عن ذكره وتركوا طاعته فَنَسِيَهُمْ فتركهم اللّه من توفيقه وهداية فى الدنيا ورحمته فى الآخرة وتركهم فى عذابه إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) الخارجون عن دائرة الايمان والطاعة بالكلية.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أى مقدرة الخلود هِيَ أى النار حَسْبُهُمْ عقابا وجزاء على كفرهم ونفاقهم ان يعذبوا فى الدنيا فيه دليل على عظم عذابها وانه بحيث لا يزاد عليه وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وابعدهم من رحمة وأهانهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) دائم لا يقطع والمراد به ما وعدهم فى الآخرة أو ما معهم فى الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين وما يحذرونه ابدا من الفضيحة ونزول العذاب ان اطلع على أسرارهم.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الكاف محلها رفع خير لمبتدأ محذوف أى أنتم أيها المنافقون مثل الذين كانوا من قبلكم من كفار الأمم الماضية أو نصب على المصدرية تقديره
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 263
(1/2952)
نعلتم أيها المنافقون فعلا مثل فعل الذين كانوا من قبلكم من العدول عن امر اللّه فلعنتم كما لعنوا كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بطشا ومنعة وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً بيان لتشبههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم فَاسْتَمْتَعُوا يعنى فتمتعوا وانتفعوا بِخَلاقِهِمْ أى بنصيبهم من الدنيا ولذاتها واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فان الخلاق ما قدر لصاحبه فَاسْتَمْتَعْتُمْ أيها المنافقون بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذم الأولين باستمتاعهم بالحظوظ الدنية الفانية الغير المرضية للّه تعالى معرضين عن تحصيل لذائر الباقية القوية المرضية تمهيدا الذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم وَخُضْتُمْ أى دخلتم فى الباطل واللهو كَالَّذِي خاضُوا يعنى كالخوض الذي خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لم يستحقوا عليها ثوابا فى الدارين وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) الذين خسروا الدنيا والآخرة يعنى كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول اللّه اليهود والنصارى قال فمن وفى رواية أبى هريرة فهل الناس الا هم رواه البخاري وروى الحاكم عن ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وسلم لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر ذراعا بذراع حتى لو ان أحدهم دخل حجر ضب لدخلتم ولو ان أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه قال البغوي قال ابن مسعود أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القدة بالقدة غير انى لا أدرى أ تعبدون العجل أم لا قوله تعالى.
(1/2953)
أَ لَمْ يَأْتِهِمْ يعنى المنافقين التفات من الخطاب إلى الغيبة نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ انهم عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا فعذبناهم وأهلكناهم ثم ذكرهم فقال قَوْمِ نُوحٍ مع ما عطف عليه بدل من الموصول يعنى اهلكوا بالطوفان لكفرهم وَعادٍ اهلكوا بالريح وَثَمُودَ اهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ بسلب النعمة وإهلاك نمرود بنملة وإهلاك أصحابه وَأَصْحابِ مَدْيَنَ
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 264
قوم شعيب اهلكوا بالنار يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قريات قوم لوط ايتفكت بهم أى انقلبت فصار عاليها سافلها وامطروا حجارة من سجيل أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة فكذبوهم فاهلكوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أى لم يكن عادة اللّه ان يعذبهم بلا جرم منهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) حيث كذبوا الرسل وعصوهم كما فعلتم فاخذناهم بالعذاب فاحذروا ان ينزل بكم مثل ما نزل بهم.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يؤيد بعضهم بعضا فى طاعة اللّه وإعلاء دينه يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالايمان والطاعة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك والنفاق ومعصية الرسول واتباع الشهوات وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى كل ما أمروا به أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة فان السين موكدة للوقوع إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كل شىء لا يمتنع عنه امر حَكِيمٌ (71) يضع الأشياء مواضعها.
(1/2954)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يطيب فيها العيش أو يستطيبها النفس فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل معناه اقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا قام به قال صاحب المدارك عدن علم بدليل قوله تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن وقد عرفت ان كلمة الذي والتي وضعتا لوصفت المعارف بالجمل فهى مدينة فى الجنة قلت يؤيد كونه علما ما أخرج ابن المبارك والطبراني وأبو الشيخ عن عمران بن حصين وابى هريرة رضى اللّه عنهما قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية ومساكن طيبة فى جنات عدن قال قصر من لؤلؤ فى ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء فى كل دار سبعون بيتا من زمرد خضراء فى كل بيت سرير على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين فى كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام فى كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ويعطى المؤمن كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك كله اجمع واخرج أبو الشيخ فى كتاب العظمة عن ابن عمر قال خلق اللّه تبارك وتعالى أربعا بيده العرش وعدن والقلم وآدم ثم قال لكل شىء كن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 265
(1/2955)
فكان واخرج البراز وابن جرير والدار قطنى فى الموتلف والمختلف وابن مردوية من حديث أبى الدرداء قوله صلى اللّه عليه وسلم عدن دار اللّه التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلثة النبيين والصديقين والشهداء يقول اللّه طوبى لمن دخلك وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين ان ينظروا إلى ربهم الا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن واخرج احمد والطيالسي والبيهقي هذا الحديث بلفظ جنات الفردوس اربع جنتان من ذهب الحديث قال البيهقي فى قوله رداء الكبرياء استتاره بصفة الكبرياء والعظمة لأنه لكبريائه وعظمته لا يراه أحد من خلقه الا باذنه قال البغوي قال ابن مسعود هى يعنى جنات عدن بطنان الجنة أى وسطها وقال عبد اللّه بن عمرو بن عمرو بن العاص ان فى الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج « 1 » له خمسة آلاف باب لا يدخله الا نبى أو صديق أو شهيد وقال الحسن قصر من ذهب لا يدخله الا نبى أو صديق أو شهيد أو حكم عدل وقال عطاء ابن السائب عدن نهر فى الجنة جنانه على حافيته وقال مقاتل والكلبي عدن أعلى درجة فى الجنة وفيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهى مغطاه من حين خلقها اللّه تعالى حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء اللّه تعالى وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فيدخل عليهم كثائب « 2 » المسك الأبيض قال القرطبي قيل الجنان سبع دار الخلد ودار الجلال ودار السلام وجنة عدن وجنة المأوى وجنة نعيم والفردوس وقيل اربع فقط لحديث أبى موسى فانه لم يذكر فيه سوى اربع كلها يوصف بالمأوى وخلد وعدن والسلام وهذا ما اختاره الحكيم فقال ان الجنتين للمقربين والجنتين الأخريين لاصحاب اليمين وفى كل جنة
(1/2956)
درجات ومنازل وأبواب ومرجع العطف فى الآية يحتمل ان يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع أو إلى تغائر وصفه كأنَّه وصفه اولا بانه من جنس ما هو ابهى الأماكن يعرفونها ليميل
_________
(1) المرج الأرض الواسعة إنبات كثير تمرج فيها الدواب أى تخلى ويشرح مختلطه كيف شاءت واصل ...
المرج الخلطة 12.
(2) كثائب جمع كثيب وهو الرمل المستطيل المحدودب 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 266
اليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بانه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا يخلوا عن شىء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهى الا نفس وتلذ الأعين ثم وصفه بانه دار اقامة وثبات فى جوار العليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ثم وعدهم بما هو اكبر من ذلك فقال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أى شىء من رضوان اللّه أَكْبَرُ نعمة من سائر النعم فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تعالى يقول لاهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا ترضى وقد أعطيتنا ما لم ... تعط أحدا من خلقك « 1 » فقال انا أعطيتكم أفضل من ذلك قالوا وما أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم ابدا واخرج الطبراني فى الأوسط ... وصححه عن جابر يرفعه إذا دخل أهل الجنة الجنة قال اللّه تعالى هل تسألون شيئا فازيدكم قالوا يا ربنا فما خير مما أعطيتنا قال رضوان من اللّه اكبر ذلِكَ الرضوان أو جميع ما تقدم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) الذي يستحقر دونه ما سواه.
(1/2957)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ قال ابن عباس والضحاك يعنى باللسان وترك الرفق وتغليظ الكلام وقال الحسن وقتادة بإقامته الحدود وقال ابن مسعود يجاهدهم بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وقال لا يلقى المنافق الا بوجه مكفهر وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ فى الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) هى قال عطاء نسخت هذه الآية كل شىء من العفو والصفح واللّه تعالى أعلم - أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة فقال انه سياتيكم انسان ينظر بعينين شيطان فطلع رجل ازرق فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال علام تشتمنى أنت وأصحابك فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما قالوا حتى تجاوز عنهم فانزل اللّه تعالى.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا واخرج ابن أبى حاتم عن ابن
_________
(1) الظاهر ان المراد من الخلق فى قوله أعطيتنا ما لم يعط أحدا من خلقك الملائكة إذ لا يجوز ان ير أحد التفصيل على أهل النار من الانس والجن ولا على ما لا يعقل واللّه اعلم منه.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 267
(1/2958)
عباس قال كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك وقال لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فرفع عمير بن سعد ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحلف باللّه ما قلت فانزل هذه الآية فزعموا انه تاب وحسنت توبته ثم أخرج عن كعب بن مالك نحوه وكذا أخرج ابن إسحاق عنه واخرج ابن سعد فى الطبقات نحوه عن عروة وكذا ذكر البغوي قول الكلبي قال نزلت فى جلاس بن سويد وذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم فقال جلاس لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال أجل ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم لصادق وأنتم شر من الحمير فلما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فاخبره بما قال الجلاس فقال الجلاس كذب يا رسول اللّه علىّ فامرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف باللّه الذي لا اله الا هو ما قاله ولقد كذب علىّ عامر ثم قام عامر فحلف باللّه الذي لا اله الا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يديه إلى السماء وقال اللهم انزل على نبيك الصادق منا الصدق فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون أمين فنزل جبرئيل عليه السلام قبل ان يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فان يتوبوا يك خيرا لهم فقام الجلاس فقال يا رسول اللّه اسمع اللّه قد عرض علىّ التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وانا استغفر اللّه وأتوب إليه فقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته واخرج ابن أبى حاتم عن انس بن مالك قال سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب ان كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فجحد القائل فانزل اللّه هذه الآية و
(1/2959)
اخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا ان رجلين أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار وظهر الغفاري على الجهني فقال عبد اللّه بن أبى الأوس انصروا أخاكم فو اللّه ما مثلنا ومثل محمد الا كما قال القائل سمن كلبك يا ذلك لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى رجل من المسلمين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فارسل إليه فسأله فجعل
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 268
(1/2960)
يحلف باللّه ما قال فانزل اللّه تعالى يحلفون باللّه ما قالوا الآية وهذه قصة غزوة بنى المصطلق وقد ذكرنا القصة فى سورة المنافقين وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ قيل هى سب النبي صلى اللّه عليه وسلم وقيل هى قول الجلاس لان كان محمد صادقا لنحن شر الحمير وقيل قولهم لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أى أظهروا الكفر بعد ما أظهروا الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة فى طريق تبوك ليفتكوا « 1 » برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء جبرئيل وامره ان يرسل إليهم من يضرب رواحلهم فارسل حذيفة لذلك وقد مر القصة واخرج الطبراني عن ابن عباس قال همّ رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية وقال مجاهد همّ المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم لنحن شر من الحمير كيلا يفشيه وقيل هموا بإخراج الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين من المدينة فى قصة غزوة بنى المصطلق وقال السدى قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على راس عبد اللّه بن أبى تاجا فلم يصلوا إليه وَما نَقَمُوا أى ما كرهوا وما وجدوا ما يورث نقمتهم ويقتضى انتقامهم شيئا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ يعنى الا الإحسان بهم وذلك شىء محبوب عند القلوب يوجب المحبة والانقياد دون العداوة والانتقام والجملة حال من فاعل هموا بيان لكمال شرهم وخبثهم حيث أساءوا فى مقابلة الإحسان أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة ان مولى بن عدى بن كعب قتل رجلا من الأنصار فقضى النبي صلى اللّه عليه وسلم بالدية اثنى عشر
(1/2961)
الفا قال البغوي مولى الجلاس قتل فامر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدية اثنى عشر الفا فاستغنى وفيه نزلت هذه الآية وقال الكلبي كان أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة فى ضنك من العيش فلما قدم عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم استغنوا بالغنائم فَإِنْ يَتُوبُوا من نفاقهم وكفرهم يَكُ ذلك التوب خَيْراً لَهُمْ قد مر ان هذه الآية حمل الجلاس على التوبة وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أى يعرضوا عن التوبة والإخلاص يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً
_________
(1) الفتك ان يأتي الرجل حاجته وهو غافل فيقتله 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 269
(1/2962)
أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالخزي والفضيحة أو القتل وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) حتى ينجيهم من القتل والخزي روى البغوي بسنده وكذا ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردوية والطبراني والبيهقي فى شعب الايمان عن أبى امامة الباهلي قال جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ادع اللّه ان يرزقنى مالا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ا ما لك فى رسول اللّه أسوة حسنة والذي نفسى بيده لو أردت ان تسير الجبال معى ذهبا لساوت ثم أتاه بعد ذلك فقال يا رسول اللّه ادع اللّه ان يرزقنى مالا والذي بعثك بالحق نبيا لان رزقنى اللّه مالا لاعطين كل ذى حق حقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالا قال فاتخذ غنما فنمت كما ينموا الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزلت واديا من أوديتها وهى تنموا كما ينموا الدود وكان يصلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر والعصر ويصلى فى غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد الا الجمعة ثم كثرت ونمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة يخرج يتلقى الناس يسألهم عن الاخبار فذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم فقال ما فعل ثعلبة قالوا يا رسول اللّه اتخذ ثعلبة غنما يسعها واد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا ويح « 1 » ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة فانزل اللّه تعالى آية الصدقات فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا من بنى سليم رجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما مرا بثعلبة بن حاطب وبرجل من بنى سليم فخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسالاه الصدقة وأقرأه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية انطلقا حتى تفرغا
(1/2963)
ثم عودا إلى فانطلقا وسمع بهما السلمى فنظر إلى خيار أسنان ابله فعزها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما راؤها قالوا ما هذا عليك قال خذاه فان نفسى بذاك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية اذهبا حتى ارى رأيى قال فاقبلا فلما راهما رسول اللّه
_________
(1) هى كلمة ترحم وترجع يقال لمن وقع فى هلكته لا يستحقها 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 270
صلى اللّه عليه وسلم قبل ان يكلماه قال يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للسلمى بخير فاخبراه بالذي صنع ثعلبة فانزل اللّه فيه.
وَمِنْهُمْ أى من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ فيه ادغام التاء فى الصاد وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) واخرج ابن جرير وابن مردوية من طريق العوفى عن ابن عباس نحوه يعنى يعمل عمل أهل الصلاح من صلة الرحم وأداء الزكوة والنفقات الواجبة والمستحبة فى سبيل اللّه.
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أى بالمال ومنعوا حق اللّه وَتَوَلَّوْا عن طاعة اللّه ورسوله وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) أى هم قوم عادتهم الاعراض عنها.
(1/2964)
فَأَعْقَبَهُمْ اللّه أو البخل أى جعل عاقبة أمرهم نِفاقاً أى سوء اعتقاد فِي قُلُوبِهِمْ حيث لم يروا امتثال امر اللّه تعالى فى أداء الزكوة واجبا وأنكروا وجوب الزكوة وزعموها اخت الجزية إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أى يلقون اللّه بالموت أو يلقون عملهم أى جزائه وهو يوم القيامة أو فى القبر يعنى حرمهم اللّه التوبة إلى ان ماتوا على النفاق بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ أى بسبب اخلافهم ما وَعَدُوهُ من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أى بكونهم كاذبين فان خلف الوعد متضمن لكذب مستقبح من الوجهين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية المنافق ثلث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان متفق عليه من حديث أبى هريرة زاد مسلم بعد قوله ثلث وان صام وصلى وزعم انه مسلم ثم اتفقا وروى البغوي وابن جرير وغيره فى حديث أبى امامة المذكور فيما قبل انه نزلت الآية وعند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة لقد انزل اللّه عز وجل فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله ان يقبل صدقته فقال ان اللّه منعنى ان اقبل منك صدقتك فجعل يحثوا على راسه التراب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا عملك قد امرتك لم تطعنى فلما أبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يقبض صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم اتى أبا بكر رضى اللّه عنه فقال اقبل صدقتى فقال أبو بكر لم يقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا اقبلها فقبض أبو بكر
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 271
(1/2965)
و لم يقبلها فلما ولى عمر أتاه فقال اقبل صدقتى فقال لم يقبلها منك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أبو بكر انا اقبلها منك فلم يقبلها ثم ولى عثمان فاتاه فلم يقبلها وهلك ثعلبة فى خلافة عثمان وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ... اتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فاشهدهم لان أتاني اللّه من فضله أتيت منه كل ذى حق حقه وتصدقت منه وصلت منه القرابة فمات ابن عمر له فورثه مالا فلم يف بما قال فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال الحسن ومجاهد نزلت فى ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما من بنى عمرو بن عوف خرجا على ملاء قعود وقالا واللّه لان رزقنا اللّه من فضله لنصدقن فلما رزقهما اللّه بخلا به.
أَ لَمْ يَعْلَمُوا أى المنافقون أو من عاهد اللّه حين أظهروا خلاف ما اضمروا والاستفهام للتوبيخ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ يعنى ما يسرون من النفاق أو العزم على الأخلاف وَنَجْواهُمْ أى يتناجون فيما بينهم من المطاعن أو تسمية الزكوة جزية وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) فلا يخفى عليه شىء روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن مسعود قال لما نزلت اية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشئ كثير فقالوا يعنى المنافقين مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا ان اللّه لغنى عن صدقة هذا فنزل.
(1/2966)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أى يعيبون الموصول مرفوع على الذم أو منصوب أو بدل من الضمير فى سرهم أو مبتدأ خبره سخر اللّه منهم الْمُطَّوِّعِينَ أصله المتطوعين أى الراغبين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إكثار الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يتصدقون به إِلَّا جُهْدَهُمْ أى طاقتهم أى ما يطيقون ويقدرون عليه من المال القليل وقال البغوي قال أهل التفسير حث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف باربعة آلاف درهم وقال يا رسول اللّه مالى ثمانية آلاف جئتك باربعة آلاف فاجعلها فى سبيل اللّه وأمسكت اربعة آلاف لعيالى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك اللّه ما فى ماله حتى انه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين الف درهما وفى رواية صولحت احدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين الف درهم وكان حقها اكثر مما صولحت عليه وتصدق يومئذ
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 272
(1/2967)
عاصم بن عدى العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحجاب بصاع من تمر فقال يا رسول اللّه بت ليلتى اجر بجرير « 1 » الماء حتى نلت صاعين من تمر فامسكت أحدهما لاهلى وأتيتك بالاخر فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ينثره فى الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا ما اعطى عبد الرحمن وعاصم الا رياء وان كان اللّه ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل ولكنه أحب ان يذكر بنفسه ليعطى من الصدقة فانزل اللّه هذه الآية وعنى بالمطوعين عبد الرحمن وعاصم وبالذين لا يجدون الا جهدهم أبا عقيل قلت روى القصة احمد وابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس وقصة مصالحة احدى امرأتيه الطبراني واسمه تماضر من حديث أبى عقيل وورد نحو هذه القصة من حديث أبى هريرة وابى سعيد الخدري وابى عقيل نفسه وعميرة بنت سهل بن رافع أخرجها كلها ابن مردويه قال اللّه تعالى عز شانه فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزؤن بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أى جازا هم على السخرية واخرج البيهقي عن الحسن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان المستهزئين بالناس يفتح لاحدهم باب من الجنة فيقال لاحدهم فيجئى بكر به وغمه فإذا جاء غلق دونه فما زال كذلك حتى ان أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال لهم هلم فما يأتيه من الإياس وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) بكفرهم واستهزائهم قال البيضاوي روى عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبى المنافق كان من المخلصين سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى مرض موت أبيه المنافق ان يستغفر له ففعل فنزلت.
(1/2968)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ امر بمعنى الاخبار بالتسوية بين استغفار الرسول صلى اللّه عليه وسلم للمنافقين وعدمه فى عدم الافادة كما نص عليه بقوله إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لازيدن على السبعين فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم كذا أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر معناه واخرج ابن المنذر عن عروة ومجاهد وقتادة واخرج ابن المنذر من طريق العوفى عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) الجرير الحبلى والمعنى استقى للناس على اجرة صاعين 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 273
(1/2969)
اسمع ربى وقد رخص لى فيهم فو اللّه لاستغفرن اكثر من سبعين مرة لعل اللّه ان يغفر لهم فنزلت استغفرت لهم أم تستغفر لهم قال البيضاوي فهم النبي صلى اللّه عليه وسلم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجوز ان يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما ورائه فبين له ان المراد به التكثير دون التحديد وقد شاع استعمال السبعة والسبعين وسبعمأة ونحوها فى التكثير لاشتمال السبعة على جملة اقسام العدد فان العدد قليل وكثير فالقليل ما دون الثلث والكثير الثلث فما فوقه وادنى الكثير ثلثه ولا غاية لا قصاه وأيضا العدد نوعان شفع ووتر وأول الاشفاع اثنان وأول الأوتار ثلثة وواحد ليس بعدد والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لان فيها أوتارا ثلثة واشفاعا ثلثة والعشرة كمال الحساب لان ما جاوز العشرة فهو اضافة الآحاد إلى العشرة كقولك اثنا عشر ثلثة عشر إلى عشرين والعشرون تكرير العشرة مرتين والثلاثون تكريرها ثلث مراة وهكذا إلى ماءة فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه وكمال الحساب والكثرة منه فصار السبعون ادنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لاقصاه فجاز تخصيص السبعين بهذا المعنى فكانه العدد باسره ذلِكَ الياس عن المغفرة بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعنى ليس ذلك لبخل منا ولا لقصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) المتمردين فى كفرهم وهو كالدليل على الحكم السابق فان مغفرة الكافر انما هو بالإقلاع عن الكفر والإرشاد إلى الحق والمنهمك فى كفره المطبوع عليه لا ينقطع ولا يهتدى.
(1/2970)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ عن غزوة تبوك والمخلف المتروك بِمَقْعَدِهِمْ أى بعقودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ قال أبو عبيدة أى بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقيل خلاف بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال يعنى فرحوا لاجل مخالفة الرسول وحال كونهم مخالفين له وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيه تعريض بالمؤمنين الذين حصلوا رضائه تعالى ببذل الأموال والأنفس واثروا رضاه على الأموال والأنفس وَقالُوا أى قال بعضهم لبعض وللمؤمنين تثبيطا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 274
(1/2971)
ينبعثوا معه وذلك فى الصيف فقال رجل يا رسول اللّه الحر الشديد ولا تستطيع الخروج فلا تنفر فى الحر فانزل اللّه تعالى قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا وقد اثرتموها بهذه المخالفة فيه استجهال لهم لأنه من يصون نفسه من مشقة ساعة ووقع بسبب ذلك فى مشقة أشد واغلظ الموبد كان أجهل من كل جاهل لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) أى يعلمون قال البغوي كذلك هو فى مصحف ابن مسعود يعنى لو كانوا يعلمون ان ما بهم إليها أو انها كيف هى ما اختاروها بايثار الدعة على الطاعة قال محمد بن يوسف الصالحي جعل جد بن قيس وغيره من المنافقين يثبطون المسلمين عن الخروج وقال الجد لجبار بن منحر ومن معه من بنى سلمة لا تنفروا فى الحر رهادة فى الجهاد وشكافى الحق وارجافا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى قل نار جهنم أشد حرا واخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حر شديد إلى تبوك فقال رجل من بنى سلمة لا تنفروا فى الحر فانزل اللّه قل نار جهنم أشد حرا الآية واخرج البيهقي فى الدلايل من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمر أبو قتادة وعبد اللّه بن أبى بكر بن حزم قال رجل من المنافقين لا تنفروا فى الحر فنزلت هذه الآية واللّه اعلم - قال اللّه تعالى.
(1/2972)
فَلْيَضْحَكُوا أى المنافقون حين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه قَلِيلًا يعنى ضحكا قليلا أو فى زمان قليل يعنى فى الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فى الآخرة اخبار عما يؤل إليه حالهم فى الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على انه حتم واجب والضحك والبكاء اما محمولان على الحقيقة أو هما كنايتين عن السرور والغم وجاز ان يكون المراد بيان حالهم فى الآخرة والمراد من القلة العدم جَزاءً مصدر فعل محذوف أى يجزون جزاء بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فى الدنيا أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى فليضحكوا قليلا قال الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤا فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى اللّه فليستانفوا البكاء بكاء لا ينقطع ابدا واخرج ابن ماجة وأبو يعلى والبيهقي وهناد عن انس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يرسل البكاء على أهل النار فيكون حتى ينقطع الدموع ثم يكون الدم ثم توتى فى وجوههم كهيئة الأخدود ولو أرسلت فيها السفن لجرت واخرج الحاكم وصححه عن عبد اللّه بن قيس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان أهل النار ليبكون
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 275
(1/2973)
حتى لو أجريت السفن فى دموعهم لجرت وانهم يسكبون الدم واخرج ابن أبى الدنيا والضياء كلاهما فى صفة النار عن زيد بن رفيع رفعه ان أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم يكون القيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء فى الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيرفعون أصواتهم يا أهل يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فافيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم انكم ماكثون فيئسوا من كل خير قلت وجاز ان يكون معنى الآية فليضحكوا أى الناس أجمعين فى دنياهم قليلا امر اباحة يشعر كراهة كثرة الضحك فان كثرة الضحك يميت القلب وليبكوا فى الدنيا كثيرا من خشية اللّه حتى يكون البكاء جزاء وعوضا بما كانوا يكسبون يتهافت به سياتهم عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا رواه احمد والشيخان فى الصحيحين والترمذي والنسائي وابن ماجة ورواه البخاري أيضا عن أبى هريرة ورواه الحاكم وصححه عن أبى ذر وزاد ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب وروى الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبى الدرداء مرفوعا بلفظ لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ولخرجتم إلى الصعدات تجارون « 1 » إلى اللّه تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون وروى الحاكم عن أبى هريرة وصححه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا يظهر النفاق ويرتفع الأمانة ويقبض الرحمة ويتهم الامين ويؤتمن غير الامين أناخ بكم الشرف الجون الفتن كامثال الليل المظلم وروى البغوي بسنده عن انس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يا أيها الناس ابكوا فان لم تستطيعوا فتباكوا فان أهل النار يبكون فى النار حتى يسيل دموعهم فى وجوههم كانها جداول
(1/2974)
حتى ينقطع الدموع فيسيل الدماء ويفرج العيون فلو ان سفنا أجريت فيها لجرت وروى احمد والترمذي وابن ماجة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجارون إلى اللّه وروى ابن ماجة عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من عبد مومن يخرج من
_________
(1) جار إلى اللّه أى تضرع 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 276
عينيه دموع وان كان مثل راس الذباب من خشية اللّه ثم يصيب من خروجه الا حرمه اللّه على النار.
(1/2975)
فَإِنْ رَجَعَكَ أى ردك اللَّهُ إِلى المدينة وفيها طائِفَةٍ مِنْهُمْ أى من المخلفين يعنى منافقيهم فان كلهم لم يكونوا منافقين أو من بقي منهم بعد ما تاب بعضهم وهلك بعضهم فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة اخرى بعد تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بفتحها أَبَداً فى سفر وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بسكونها عَدُوًّا اخبار فى معى النهى للمبالغة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعنى فى غزوه تبوك والجملة تعليل للنهي وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى لعدم لياقتهم للجهاد وقال ابن عباس مع الذين تخلفوا بغير عذر وقيل مع المخالفين قال القراء يقال صاحت خالف إذا كان مخالفا روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر قال لما توفى عبد اللّه بن أبى جاء ابنه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فاعطاه ثم سأله فقام ليصلى عليه فقام عمر فاخذ بثوبه فقال يا رسول اللّه اتصلي عليه وقد نهاك ربك ان تصلى على المنافقين فقال انما خيرنى الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة وسازيده على السبعين فقال انه منافق فصلى عليه فانزل اللّه تعالى.
(1/2976)
وَ لا تُصَلِّ المراد بالصلوة الدعاء والاستغفار للميت فيشتمل صلوة الجنازة أيضا لانها مشتملة على الدعاء والاستغفار عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ظرف لتصل وقيل ظرف لمات يعنى مات موتا موبدا على الكفر فان احياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكانه لم يحيى وبهذا المعنى قال اللّه لا يموت فيها ولا يحيى وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ للدفن أو للزيارة قيل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ولذا ورد النهى عن القيام على قبره إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) تعليل للنهى أو لتائيد الموت وروى البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب انه قال لما مات عبد اللّه بن أبى ابن سلول دعى له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا اعدد عليه قال انى خيرت
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 277
(1/2977)
فاخترت لو اعلم انى لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث الا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة وروى البخاري عن جابر بن عبد اللّه قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبى بعد ما ادخل حفرته فامر به فاخرج فوضعه على ركبته ونفث فيه ريقه والبسه قميصه وفى الصحيحين عن ابن عمر ان عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبى كان من المصلحين سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى مرض أبيه ان يستغفر له ففعل فنزلت وروى الحاكم وصححه والبيهقي فى الدلائل عن اسامة بن زيد ان ابن أبى دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى مرضه فسأله ان يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذي يلى جسده ويصلى عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلى فنزلت هذه هذه الآية واخرج البخاري من حديث جابر انه قال لما كان يوم بدر واتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد اللّه بن أبى يقدر عليه فكساه النبي صلى اللّه عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى اللّه عليه وسلم قميصه الذي البسه يعنى كان ذلك مكافاة له قال البغوي روى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد اللّه بن أبى فقال صلى اللّه عليه وسلم وما يغنى عنه قميصى وصلاتى من اللّه واللّه انى كنت ارجوا ان يسلم به الف من قومه قال وروى انه اسلم الف من قومه لما راؤه يتبرك بقميص النبي صلى اللّه عليه وسلم قال البغوي فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية على منافق ولا قام على قبره حتى قبض.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) تكرير للتاكيد والأمر حقيق به فان الابصار طامحة إلى الأموال والأولاد والنفوس مغطبتة عليها ويجوز ان يكون هذا فى فريق غير الاول.
(1/2978)
وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ويجوز ان يراد بها بعضها أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ أى بان أمنوا ويجوز ان يكون ان مفسرة والظاهر ان المراد بالايمان هاهنا امتثال امره صلى اللّه عليه وسلم فى الجهاد وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ فى القعود أُولُوا الطَّوْلِ أى ذووا الغنا والسعة مِنْهُمْ أى من المنافقين وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) فى رحالهم بعذر.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أى النساء اللاتي يخلفن فى البيوت جمع خالفة وقد يقال
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 278
الخالفة الذي لا خير فيه فلان خالفة قومه إذا كان دونهم يعنى مع ارزال الناس الذين لا خير فيهم وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ طبع اللّه عليها فلا يدركون حسن الخيرات وسؤالسيات فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) ما فى الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما فى المخالفة عنه من الشقاوة.
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مخلصين جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ يعنى ان تخلف الخوالف ولم يجاهدوا فلا منقصة فى الدين فقد جاهد من هو خير منهم وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ ز أى منافع الدارين وقيل الخيرات الحور العين قال اللّه تعالى فيهن خيرات حسان جمع خيرة وحكى عن ابن عباس ان الخير لا يعلم معناه الا اللّه عز وجل كما قال جل ذكره فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين قلت مراد ابن عباس انه يعم جميع المنافع وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) بيان لما لهم فى الاخرة من الخيرات.
(1/2979)
وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ أى المعتذرون بالجهد وكثرة العيال ادغم التاء فى الذال ونقل حركتها إلى العين كذا قال الفراء أو المعنى المقصرون فيه الموهمون ان لهم عذر ولا عذر لهم عذر من التفعيل أى قصر وقرأ يعقوب ومجاهد المعذرون بالتخفيف من اعذر إذا اجتهد وبالغ فى العذر مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فى القعود قال محمد بن عمر جاء ناس من المنافقين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستأذنونه فى القعود من غير علة فاذن لهم وروى ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه استاذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجال من المنافقين حين اذن لجد بن قيس يستاذنونه يقولون يا رسول اللّه ايذن لنا فانا لا نستطيع ان ننفر فى الحر فاذن لهم واعرض عنهم ونزل هذه الآية فلم يعذرهم اللّه تعالى قال ابن إسحاق هم نفر من بنى غفار وقال محمد بن عمر كانوا اثنين وثمانين رجلا منهم خفاف بن أيما انزل اللّه فيهم وإذا أنزلت سورة ان أمنوا إلى قوله وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون قال الضحاك المعذرون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم وقالوا يا نبى اللّه ان نحن غزونا معك تغير اعراب طى على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نبأني اللّه من اخباركم وسيغنى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 279
(1/2980)
اللّه عنكم وقال ابن عباس هم الذين تخلفوا العذر بإذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى ارعاء الايمان يعنى المنافقين فعلى هذا التأويل الفريق الأول غير مسيئين والظاهر ان المراد بهؤلاء هم الأولون كذب الله المنافقين المعذرين بالباطل أو يقال المعذرون أعم من هؤلاء فان منهم من اعتذر بكسله لا لكفره قال أبو عمرو بن العلاء كلا الفريقين مسيئين قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم اللّه عز وجل بقوله وجاء المعذرون وقوم تخلفوا من غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على اللّه وهم المنافقون فاوعدهم اللّه تعالى بقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أى من الاعراب أو من المعذرين فان منهم من اعتذر بكسله لا لكفره عَذابٌ أَلِيمٌ (90) أخرج ابن أبى حاتم عن زيد بن ثابت رضى اللّه عنه قال كنت اكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكنت اكتب براءة وانى لواضع القلم على اذنى إذ امر بالقتال فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال كيف بي يا رسول اللّه وانا أعمى فنزلت.
(1/2981)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ قال ابن عباس يعنى الزمنى والمشايخ والعجزة وقيل الصبيان وقيل النسوان وَلا عَلَى الْمَرْضى العميان وغيرهم وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ لفقرهم حَرَجٌ أى ضيق فى القعود عن الغزو وما ثم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالايمان والطاعة فى السر والعلانية كما يفعل الموالي والناصح أو بما يقدروا عليه فعلا وقولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على انهم منخرطون فى سلك المحسنين غير معاتبين مِنْ سَبِيلٍ إلى معاتبتهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) لهم أو للمسى فكيف للمحسن قال البغوي قال قتادة نزلت فى عابد بن عمر وأصحابه وقال الضحاك نزلت فى عبد اللّه بن أم مكتون وكان ضرير البصر روى البخاري وابن سعد عن انس وابن سعد عن جابر رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا المدينة قال ان بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم قالوا يا رسول اللّه وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر.
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ
عطف على الضعفاء أو على المحسنين قال ابن عباس سالوه ان يحملهم على الدواب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 280
(1/2982)
و قيل سالوه ان يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المحضوفة ليفروا معه قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من الكاف فى أتوك بإضمار قد تَوَلَّوْا جواب إذا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ أى تسيل مِنَ الدَّمْعِ أى دمعها ومن للبيان وهى مع مجرورها فى محل النصب على التميز وهو ابلغ من تفيض دمعها لأنه يدل على ان العين صارت دمعا فياضا حَزَناً نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله أَلَّا يَجِدُوا أى لئلا يجدوا متعلق بحزنا أو يتقيض ما يُنْفِقُونَ (92) فى غزوتهم روى ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وابن إسحاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد اللّه بن بكر وعاصم بن محمد بن عمر وقتادة وغيرهم رحمهم اللّه ان عصابة من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاؤه يستحملونه وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ان لا يجدوا ما ينفقون قال محمد بن يوسف الصالحي اختلفوا فى اسمائهم فالذى اتفقوا عليه سالم بن عمير من بنى عمرو بن عوف الأوسي وعلية بن زيد وأبو ليلى بن عبد الرحمن بن كعب وهرمى بن عبد اللّه والذي اتفق عليه القرضى وابن إسحاق والواقدي وتبعهم ابن سعد وابن حزم وأبو عمرو السهيلي ولم يذكر الأخير عرباض بن سارية جزم بذلك ابن حزم وأبو عمرو ورواه أبو نعيم عن ابن عباس والدي اتفق عليه القرظي وابن إسحاق عمرو بن حمام بن الجموح والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة وابن إسحاق عبد اللّه بن مغفل روى ابن سعد ويعقوب بن سفيان وابن أبى حاتم عن ابن مغفل قال انى لاجد الرهط الذين ذكر اللّه تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وفى حديث ابن عباس أخرجه ابن أبى حاتم من طريق العوفى قال امر رسول
(1/2983)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس ان ينبعثوا غازين معه فجاءت عصابة من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم عبد اللّه بن مغفل المزني قالوا يا رسول اللّه احملنا فقال واللّه ما أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم بكاء وعزّ عليهم ان يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فانزل اللّه تعالى عذرهم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم الآية والذي اتفق عليه القرظي وابن عمر سلمة بن صخر ولفظ القرظي سلمان والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة عمرو بن عنمة بن عدى وعبد اللّه بن عمرو المزني حكاه ابن إسحاق قولا بدلا
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 281
عن ابن مغفل وانفرد القرظي يذكر عبد الرحمن بن زيد أبو علية من بنى حارثة وبذكر حرمى بن عمرو من بنى مازن وقال محمد بن عمرو يقال ان عمرو بن عوف منهم قال ابن سعد وفى بعض الروايات من يقول فيهم معقل بن يسار وذكر فيهم الحاكم حرمى بن مبارك بن النجار وذكر ابن عابد فيهم مهدى بن عبد الرحمن وذكر فيهم محمد بن كعب سالم بن عمرو الواقفي قال ابن سعد وبعضهم يقول البكاءون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة انتهى وهم النعمان وسويد ومغفل وعقبل وسنان ذكر ابن إسحاق فى رواية يونس وابن عمران علية بن زيد لما فقد ما يحمله ولم يجد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يحمله خرج من الليل فصلى من ليلة ما شاء اللّه تعالى ثم بكى وقال اللهم انك أمرت بالجهاد ورغبت فيه وانى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسدا وعرض ثم أصبح مع الناس فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اين المتصدق هذه الليلة فلم يقم إليه أحد فقام إليه ناخبره فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابشر فو الذي نفسى بيده لقد كتبت فى الزكوة المتقبلة قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر لما خرج البكاءون من عند رسول الله
(1/2984)
صلى اللّه عليه وسلم وقد أعلمهم انه لا يجد ما يحملهم عليه بقي يامين بن عمرو النضري أبا ليلى وعبد اللّه بن مغفل وهما يبكيان فقال ما يبكيكما قالا جئنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نقوى به على الخروج ونحن نكره ان يفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاعطاهما ناضحا له وزود كلواحد منهما صاعين من تمر زاد محمد بن عمرو حمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين وحمل عثمان بن عفان منهم ثلثة نفر بعد الذي كان جهز من الجيش قلت لعله لما سقط السبعة من الستة العشر المذكورين وسقط اثنان منهم لاجل شك الراوي فبقى من لم يخرج إلى الغزو لفقد ما يحمله سبعة وهم الذين قال اللّه تعالى فيهم انه لا سبيل عليهم بالمعاتبة واللّه اعلم روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نفر من الأشعريين ليحملنا وفى رواية أرسلني أصحابي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اساله لهم الحملان فقلت يا رسول اللّه ان أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم فقال واللّه لا أحملكم على شىء وما عندى ما أحملكم عليه ووافقته وهو غضبان
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 282
(1/2985)
و لا أشعر فرجعت حزينا من منع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن محافة ان يكرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجد فى نفسه علىّ فرجعت إلى أصحابي فاخبرتهم بالذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم جئ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنهب ابل فلم البث الا سويعة إذ سمعت بلالا ينادى اين عبد اللّه بن قيس فاجبته فقال أجب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوك فلما أتيته قال هذين القرينين « 1 » وهذين القرينين لستة ابعرة اتباعهن حينئذ من سعد فانطلق بهن إلى أصحابك فقل ان اللّه أو قال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن قال أبو موسى فانطلقت إلى أصحابي فقلت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحملكم على هولاء ولكن واللّه لا أودعكم حتى ينطلق معى بعضكم إلى من سمع مقالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سالته لكم ومنعه فى أول مرة ثم إعطائه إياي بعد ذلك لا تظنوا انى حدثتكم شيئا لم يقله فقالوا لى واللّه انك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت قال فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطائه بعد ذلك فحدثوهم بمثل ما حدثهم أبو موسى ثم قلنا واللّه لا يبارك لنا فرجعنا فقلنا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انا ما حملتكم ولكن اللّه حملكم ثم قال واللّه انى إنشاء اللّه لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منهما الا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمينى.
(1/2986)
إِنَّمَا السَّبِيلُ بالعقاب والمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون الاهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استيناف ببيان ما هو السبب لاستيذانهم من غير عذرهم وهو رضاهم بالدناة والانتظام فى جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) سوى ما اختاروه من القعود على الجهاد وموافقة الرسول.
يَعْتَذِرُونَ يعنى المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وقد ذكرنا انهم كانوا بضعة وثمانين نفرا إِلَيْكُمْ أيها الرسول والمؤمنون إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوة تبوك إلى المدينة وفى الآية معجزة فانهم جاؤا بعد ذلك يعتذرون بالباطل قال اللّه تعالى قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم
_________
(1) القرينين الجملان المشدود ان أحدهما إلى الآخر 12. [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 283
علة للنهى لان غرض المعتذر ان يصدق فيما يعتذر به ثم بين علة عدم التصديق وقال قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أعلمنا بالوحى إلى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بعض اخباركم وهو ما فى ضمايركم من الشر والفساد وما زورتم من الاعتذارات الكاذبة وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فى المستقبل من الزمان هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه فيه استتابة وامهال للتوبة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بعد الموت وضع الوصف موضع الضمير للدلالة على انه مطلع على سرهم وعلتهم لا يفوت شىء من ضمائرهم وأعمالهم من علمه فَيُنَبِّئُكُمْ بالتعذيب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا تعاتبوهم.
(1/2987)
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا تعاتبوهم ولا تصاحبوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ أى لانهم أرجاس لخبث باطنهم فلا يجوز معهم المؤانسة والمصاحبة ولا ينفعهم المعاتبة لعدم صلاحيتهم للتطهر والمقصود عن المعاتبة انما هو التطهير بالحمل على الانابة وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل كأنَّه قال انهم أرجاس من أهل النار فلا تصاحبوهم ولا تعاتبوهم جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يجوز ان يكون مصدر الفعل محذوف أى يجزون جزاء أو يكون علة لكون ماواهم جهنم قال البغوي قال ابن عباس نزلت فى جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقال مقاتل نزلت فى عبد اللّه بن أبى حلف للنبى صلى اللّه عليه وسلم باللّه الذي لا اله الا هو ان لا يتحلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يرضى عنه فانزل اللّه هذه الآية .
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ يحلفهم فتستديموا على ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) أى عنهم وضع المظهر موضع المضمر ليدل على موجب عدم الرضا يعنى ان لبسوا عليكم ورضيتم بهم لا يمكنهم ان يلبسوا على اللّه ويرضوه مع كفرهم ولا ينفعهم رضائكم مع سخط اللّه تعالى فانه ينزل بهم الهوان فى الدنيا والعذاب فى الآخرة والمقصود من الآية النهى عن الرضاء عنهم والاغترار بمعاذيرهم.
الْأَعْرابُ يعنى أهل البادية
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 284
(1/2988)
أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل البلد لتوحشهم وقساوتهم وعدم اختلاطهم باهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا أى أحق بان لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع فرائضها وسنتها ومباحاتها ومحرماتها ومكروهاتها لا يميزون بعضها من بعض لجهلهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم حال جميع خلقه حَكِيمٌ (97) فيما يفعل بهم فى الدنيا والآخرة.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ أى يزعم ما يُنْفِقُ فى سبيل اللّه مَغْرَماً أى غرامة وخسرانا قال عطاء لا يرجون لاعطائه ثوابا ولا على إمساكه عقابا انما ينفقون خوفا ورياء وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أى ينتظرون بكم تقلب الزمان بان يموت الرسول ويظهر المشركون حتى يتخلصوا عن الانفاق الذي ينفقونها رياء وخوفا عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون بالمؤمنين أو اخبار بما يقع بهم نحو ما يتربصون بالمؤمنين والدائرة فى الأصل مصدر أو اسم فاعل من داريد ورسمى عقبة الزمان التي يأتي بالخير مرة وبالشر اخرى قرأ ابن كثير وأبو عمرو السوء هنا وفى سورة الفتح بالضم السين ومعناه الضر والمكروه والباقون بفتح السين وهو مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون عند النفاق فيما بين شياطينهم عَلِيمٌ (98) بما يضمرون قال البغوي نزلت الآية المذكورة فى اعراب اسد وغطفان وبنى تميم وكذا أخرج أبو الشيخ عن الكلبي الا انه لم يذكر فيه بنى تميم ثم استثنى اللّه سبحانه من الاعراب المذكورين حال بعضهم فقال.
(1/2989)
وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وقال البغوي أخرج ابن جرير عن مجاهد انها نزلت فى بنى مقرن من مزينته الذين نزلت فيهم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم واخرج عن عبد الرحمن بن معقل قال كنا عشرة ولد مقرن وقال الكلبي اسلم وغفار وجهينة من تميم واسد بن خزيمة وهوازن وغطفان وفى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غفار غفر اللّه لها واسلم سالمها الله وعصية عصمت الله ورسوله وفيهما عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريش والأنصار وجهينة ومزينته واسلم وغفار أشجع موالى ليس لهم مولى دون
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 285
(1/2990)
الله ورسوله وفيهما عن أبى بكرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسلم وغفار ومزينة وجهينة خير من تميم ومن بنى عامر والحليفين اسد وغطفان وروى البغوي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسلم وغفار وشىء من جهينه ومزينة خير عند اللّه يوم القيامة من تميم واسد بن خزيمة وهوازن وغطفان وَيَتَّخِذُ أى يزعم ما يُنْفِقُ فى سبيل اللّه سبب قُرُباتٍ وهى ثانى مفعولى يتخذ عِنْدَ اللَّهِ صفة لقربات أو ظرف ليتخذ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أى سبب دعائه صلى اللّه عليه وسلم واستغفاره أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن عباس قال صلوات الرسول استغفاره صلى اللّه عليه وسلم وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم صل على ال أبى اوفى حين جاء عبد اللّه بن أبى اوفى بصدقته كذا أخرج الجماعة الا الترمذي من حديث عبد اللّه بن أبى اوفى أَلا إِنَّها أى النفقة قُرْبَةٌ لَهُمْ ط عند الله تعالى قرأ نافع برواية ورش قربة بضم الراء والباقون بسكونها وهذه شهادة من اللّه تعالى بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستيناف مع حر فى التنبيه والتأكيد سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ السين لتحقيق الوعد فِي رَحْمَتِهِ أى جنته.
(1/2991)
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين هجروا قومهم وعشائرهم وفارقوا أوطانهم وأموالهم يعنى من قريش مكة وَالْأَنْصارِ الذين نصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأووه وأصحابه حين أخرجه قومه يعنى من أهل المدينة واختلفوا فى السابقين من الفريقين قال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة هم الذين صلوا إلى القبلتين وقال عطاء بن أبى رباح هم أهل بدر وقال الشعبي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان بالحديبية وقيل هم من المهاجرين ثمانية ففر الذين سبقوا إلى الإسلام ثم تتابع الناس فى الدخول فى الإسلام بعدهم وهم أبو بكر وعلى وزبير بن الحارثة وعثمان بن عفان وزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وطلحة بن عبيد الله قال البغوي واختلفوا فى أول من أمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على انها أول من أمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال بعضهم على ابن أبى طالب وهو قول جابر بن عبد اللّه ويؤيده قول على
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 286
رضى اللّه عنه (شعر)
سبقتكم إلى الإسلام طرا غلاما ما بلغت أو ان حلم
(1/2992)
قال مجاهد وابن إسحاق اسلم على وهو ابن عشر سنين وقال بعضهم أول من أمن به بعد خديجة أبو بكر الصديق وهو قول ابن عباس وابراهيم النخعي والشعبي ويشهده قول حسان بن ثابت فى اشعاره فى مدح أبى بكر وتسليم النبي صلى اللّه عليه وسلم إياه وقال بعضهم أول من أمن به زيد بن حارثة وهو قول الزهري وعروة ابن الزبير وكان إسحاق بن ابراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول أول من اسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان على ومن العبيد زيد بن الحارثة رضى اللّه عنهم أجمعين قال ابن إسحاق فلما اسلم أبو بكر اظهر إسلامه ودعا إلى اللّه والى رسوله وكان رجلا محببا سهلا وكان انسب قريش وأعلمها بما كان فيها وكان تاجر إذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير
(1/2993)
واحد من الأمر لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعوا إلى الإسلام من وثق به من قومه فاسلم على يديه فيما بلغني عثمان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وطلحة بن عبيد اللّه فجاء بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اسلموا وصلوا ثم اسلم غيرهم حتى بلغ المسلمون من الرجال والنساء إلى تسع وثلثين فى سبع سنين ثم اسلم عمر بن الخطاب فهو منهم أربعين فإذا اسلم عمر قال المشركون اليوم انتصف منا ثم شاع الإسلام وتقوى بإسلام عمر بعد سبع سنين ومن هاهنا قال على رضى اللّه عنه صليت قبل الناس بسبع سنين والسابقون من الأنصار هم الذين بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا ستة فى العقبة الاولى وقيل سبعة واثنى عشر فى العقبة الثانية والسبعون فى العقبة الثالثة كما سنذكر والذين أمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة ومصعب بن عمير يعلمهم القرآن فاسلم خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان قرأ يعقوب والأنصار بالرفع عطفا على قوله والسابقون وهى قرأة أبى أخرجها ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي والحاكم وأبو الشيخ عن اسامة ومحمد بن ابراهيم التيمي
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 287
(1/2994)
وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قيل هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وقيل هم الذين سلكوا سبيلهم فى الايمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة قلت ويمكن ان يكون المراد من السابقين المقربين الذين قال اللّه تعالى فيهم والسابقون السابقون أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين يعنى من الصحابة والتابعين واتباعهم فانهم الأولون من هذه الامة وقليل من الآخرين أى آخري هذه الامة يعنى بعد الالف وهم ارباب كمالات النبوة فانهم كثيرون فى الصدر الأول قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه الصحابة كلهم كانوا من ارباب كمالات النبوة واكثر التابعين وبعض من اتباع التابعين وقيل بعد الالف من الهجرة قلت فعلى هذا قوله تعالى من المهاجرين والأنصار بيان للسابقين الأولين وليست كلمة من للتبعيض والذين اتبعوهم بإحسان يشتمل السابقين الآخرين واصحاب اليمين الذين هم ثلة من الأولين من الصدر الأول ومن بعدهم وثلة من الآخرين إلى ما بعد الالف إلى يوم القيامة وقال عطاء الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين يذكرون الصحابة بالترحم والدعاء قال أبو صخر حميد بن زياد أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له ما قولك فى اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال جميع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الجنة محسنهم وسيئهم فقلت له من اين تقول هذا قال أقرأ قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار « 1 » إلى ان قال رضى اللّه عنهم ورضوا عنه قال والذين اتبعوهم بإحسان شرط فى التابعين شريطة وهو ان يتبعوهم فى أفعالهم الحسنة دون السيئة قال أبو صخر فكانى لم يقرأ هذه الآية قط وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علىّ محمد بن كعب قلت واولى بالاحتجاج على كون جميع الصحابة فى الجنة قوله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد
(1/2995)
_________
(1) وعن حبيب الشهيد عن عمر بن عامر الأنصاري ان عمر بن الخطاب قرأ أو السابقون الأولون من المهاجرين والأنصاري الذين اتبعوهم بإحسان فرفع الأنصار ولم يلحق الواو فى الذين فقال له زيد بن ثابت والذين فقال الذين فقال زيد امير المؤمنين اعلم فقال ايتوني بالى بن كعب فاتاه فسأله عن ذلك فقال والذين فقال فنعم إذا فتابع أبيا 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 288
(1/2996)
و قاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فانه صريح فى ان جميع الصحابة أولهم وآخرهم وعدهم اللّه تعالى الحسنى يعنى الجنة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسى بيده لو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدري وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تمس النار مسلما رأنى أو راى من رأنى رواه الترمذي عن جابر وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من أحد من أصحابي يموت بأرض الا بعث قائدا ونور الهم يوم القيامة رواه الترمذي من حديث بريدة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابي كالنجوم فبايهم اقتديتم اهتديتم رواه رزين من حديث عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ ربا وعن الإسلام دينا ومحمد رسولا ونبيا بما القى اللّه حبه فى قلوبهم وبما نالوا من نعم الدنيوية والدينية وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ قرأ ابن كثير من تحتها كما هو فى ساير المواضع وكذلك فى مصاحف أهل مكة والباقون بحذف من خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وهم من مزينة وجهينة وأشجع واسلم وغفار أخرجه ابن المنذر عن عكرمة كان منازلهم حول المدينة وكون بعضهم منافقين كما يدل عليه من التبعيضية لا ينافى ما مر من الأحاديث فى مناقب غفار واسلم وأشجع وغيرها.
(1/2997)
وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يعنى من الأوس والخزرج عطف على ممن حولكم وقوله تعالى مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ بيان لتمرنهم فى النفاق وجاز ان يكون الظرف خبر المحذوف وجملة مردوا صفة لمبتدأ محذوف تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق أى مرنوا وثبتوا عليه يقال تمرد فلان على ربه أى عتى ومرد على معصية أى مرن وثبت عليها واعتادها ومنه المريد والمارد قال ابن إسحاق أى لجوا فيه وأبوا غيره وقال ابن زيدا قاموا عليه ولم يتوبوا فى القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرادة فهو مريد ومارد ومتمرد اقدم وعتا أو هو يبلغ الغاية التي يخرج إليها من جملة ما عليها ذلك الصنف
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 305
أجنحتها رضى لطالب العلم وان العالم يستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض والحيتان فى جوف الماء وان فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بخظ وافر رواه احمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة.
(1/2998)
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هم المصلون ذكرهم باللفظين كأنَّه كرر ذكره للدلالة على فضل الصلاة على سائر العبادات عن ابن مسعود قال سالت النبي صلى اللّه عليه وسلم ايّ الأعمال أحب إلى اللّه قال الصلاة لوقتها قلت ثم أى قال بر الوالدين قلت ثم أى قال الجهاد فى سبيل اللّه متفق عليه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلاة عماد الدين رواه أبو نعيم عن الفضل بن دكين وقال الصلاة نور المؤمن رواه ابن عساكر عن انس وقال الصلاة قربان كل تقى رواه القضاعي عن على وقال عليه السلام اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبى هريرة الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالايمان والطاعة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك والمعصية وقيل المعروف السنة والمنكر البدعة ذكر العاطف بينهما للدلالة على ان مجموعهما خصلة واحدة وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أى فيما بينه وبين اللّه تعالى من الحقائق والشرائع قيل أورد العاطف هاهنا للتنبيه على ان ما قبله تفصيل الفضائل وهذا اجمالها قلت لعل اللّه سبحانه أورد العاطف هاهنا لان اللّه سبحانه ذكر اولا إتيان الحسنات المذكورات ثم ذكر محافظة حد كل منها بلا زيادة من قبل نفسه رهبانيته ابتدعوها وبلا نقصان صورة ولا معنى فكان الأشياء المذكورة قبلها مجموعها شىء واحد يعبر عنها بإتيان الشرائع وهذا شىء اخر كناية عن الإخلاص والحضور التام المستفاد من صحبة ارباب القلوب فان محافظة الحدود لا يتصور الا بحضور تام دائم واللّه اعلم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) يعنى الموصوفين بتلك الفضائل وضع المؤمنين موضع ضميرهم للدلالة على ان ايمانهم دعاهم إلى ذلك وان المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنَّه قيل بشرهم بما لا يدركه الافهام ولا يحيط الكلام ولم يسمعه الاذان واللّه اعلم روى الشيخان فى الصحيحين عن سعيد التفسير
(1/2999)
المظهري ، ج 4 ، ص : 306
بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد اللّه بن أبى امية بن المغيرة فقال أى عم قل لا اله الا اللّه كلمة أحاجّ لك بها عند اللّه فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أبى امية أ ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد انه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب اخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب وزاد فى رواية وابى ان يقول لا اله الا اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لاستغفرن لك ما لم انه عنك فنزلت.
(1/3000)
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) بان ماتوا على الكفر فيه دليل على جواز الاستغفار لاحيائهم فانه طلب لتوفيقهم للايمان وروى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمه قل لا اله الا اللّه اشهد لك يوم القيامة قال لو لا ان يعير قريش يقولون انما حمله على ذلك الجزع لاقررت بها عينك فانزل اللّه تعالى انك لا تهدى من أحببت ولكن اللّه يهدى من يشاء وروى البخاري عن أبى سعيد الخدري انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال لعله ينفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح « 1 » من نار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه هذا الحديث المذكور يدل على ان الآية نزلت بمكة فى أبى طالب واخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن على قال سمعت رجلا يستغفر لابويه وهما مشركان فقلت له ا تستغفر لك لابويك وهما مشركان فقال استغفر ابراهيم لابيه وهو مشرك فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية ولعل هذه القصة قارنت قصة موت أبى طالب فنزلت الآية فيهما وما يدل على ان الآية نزلت فى امنة أم النبي صلى اللّه عليه وسلم وعبد اللّه أبيه فلا يصلح منها شيء وليس شيء منها ما يصلح ان يعارض ما ذكرنا فى القوة فيجب ردها منها ما رواه الحاكم والبيهقي فى الدلائل من طريق أيوب بن هانى عن مسروق عن ابن مسعود قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما إلى المقابر وخرجنا معه فامرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلا
_________
(1) الضحضاح ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 307
(1/3001)
ثم ارتفع باكيا فبكينا لبكائه ثم اقبل علينا فتلقاه عمر فقال يا رسول اللّه ما الذي أبكاك فقد ابكاناها وأفزعنا فجاء فجلس إلينا فقال افزعكم بكائي قلنا نعم قال ان القبر الذي رايتمونى اناجى فيه قبر امنة بنت وهب وانى استأذنت ربى فى زيارتها فاذن لى فاستاذنته فى الاستغفار لها فلم يأذن لى ونزل علىّ ما كان للنبى والذين أمنوا معه ان يستغفر وللمشركين الآيتين فاخذنى ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني قال الحاكم هذا حديث صحيح ونعقبه الذهبي فى شرح المستدرك وقال أيوب بن هانى ضعفه ابن معين ومنها ما أخرج الطبراني وابن مردوية من حديث ابن عباس قال لما اقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك واعتمر هبط من ثنية عسفان فنزل على قبر امه فذكر نحو حديث ابن مسعود وفيه ذكر نزول الآية قال السيوطي اسناده ضعيف لا تعويل عليه وقال البغوي قال أبو هريرة وبريدة لما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة اتى قبر امه امنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء ان يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبى الآية هذه وكذا أخرج ابن سعد وابن شاهين من حديث بريدة بلفظ لما فتح رسول اللّه مكة اتى قبر امه فجلس فذكر نحوه وفى لفظ عند ابن جرير عن بريدة كما ذكر البغوي قال ابن سعد فى الطبقات بعد تخريجه هذا غلط وليس قبرها بمكة وقبرها بالأبواء واخرج احمد وابن مردوية واللفظ له من حديث بريدة قال كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ وقفت على عسفان فابصر قبر امه فتوضأ وصلى وبكى ثم قال انى استأذنت ربى ان اشفعه لها فنهيت فانزل اللّه تعالى ما كان للنبى الآية هذه قال السيوطي طرق الحديث كلها معلولة وقال الحافظ ابن حجر فى شرح البخاري من حكم بصحة حديث ابن مسعود ليس لكونه صحيحا لذاته بل لوروده من هذه الطرق وقد تاملت فوجدتها كلها معلولة وفى الحديث علة اخرى انها مخالف لما فى الصحيحين ان هذه الآية نزلت بمكة عقب
(1/3002)
موت أبى طالب وكذا ما ذكر البغوي قول قتادة انه صلى اللّه عليه وسلم قال لاستغفرن لابى كما استغفر ابراهيم لابيه فانزل اللّه ما كان للنبى الآية هذه مرسل ليس بصحيح بل ضعيف ومخالف لما فى الصحيحين كما ذكرنا فلا يجوز القول بكون أبوي النبي صلى اللّه عليه وسلم مشركين مسندى بهذه الآية وقد صنف الشيخ الاجل جلال الدين السيوطي رضى اللّه عنه رسائل فى اثبات ايمان أبوي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 308
و جميع ابائه وأمهاته إلى آدم عليه السلام وخلصت منها رسالة سميتها بتقديس اباء النبي صلى اللّه عليه وسلم فمن شاء فليرجع إليه وهذا المقام لا يسع زيادة التطويل فى الكلام فان قيل ما ورد من حديث الصحيحين فى قصة موت أبى طالب قال أبو جهل أ ترغب عن ملة عبد المطلب وقول أبى طالب انا على ملة عبد المطلب يدل على كون عبد المطلب مشركا قلنا لا نسلم ذلك بل كان مؤمنا موحد أو قد ذكر ابن سعد فى الطبقات بأسانيده ان عبد المطلب قال لام ايمن وكانت تحضن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا بركة لا تغفلى عن ابني فانى وجدته مع غلمان قريبا من السدرة وان أهل الكتاب يقولون ان ابني هذا نبى هذه الامة لكن لما كان هو فى زمن الجاهلية جاهلا بالشرائع وبما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان التوحيد كافيا له فى زمن الفترة زعم أبو جهل وأبو طالب ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم جاء بشيء منكر وحكما يكون ملة عبد المطلب مخالفا لما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله تعالى.
(1/3003)
وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يعنى آزر وكان عما لابراهيم عليه السلام وكان ابراهيم ابن تارخ وقد ذكرنا الكلام فيه فى سورة الانعام وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري فلا يمكن ان يكون كافر فى سلسلة ابائه صلى اللّه عليه وسلم إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ قال بعض المفسرين الضمير المرفوع عايد إلى أبيه والمنصوب إلى ابراهيم يعنى ان أباه وعده ان يسلم فقال له ابراهيم ساستغفر لك يعنى إذا أسلمت والأكثر على ان المرفوع راجع إلى ابراهيم والمنصوب إلى أبيه وذلك ان ابراهيم وعد إياه ان يستغفر له رجاء إسلامه وهو قوله ساستغفر لك ربى يدل على ذلك قراءة من قرأ وعدها أباه بالباء الموحدة والدليل على ان الوعد كان من ابراهيم وكان الاستغفار فى حال كون أبيه مشركا قوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة فى ابراهيم إلى ان قال الا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك فانه صريح فى ان ابراهيم عليه السلام ليس بقدوة فى هذا الاستغفار فهو انما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء ان يسلم فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أى لابراهيم بموت أبيه على الكفر أو بما اوحى إليه بانه لن يؤمن أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ فقطع عن استغفاره وقيل فلما تبين له فى الاخرة انه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 309
(1/3004)
عدو اللّه تبرأ منه روى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزنى يوم يبعثون ناى خزى اخزى من أبى الا بعد فيقول اللّه تعالى انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيوخذ بقوائمه فيلقى فى النار وفى رواية فتبرأ منه يومئذ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ الذي يكثر التأوه لكمال خشيته من اللّه تعالى كذا قال كعب الأحبار وكان ابراهيم عليه السلام يكثر ان يقول آه من النار قبل ان لا ينفع آه وقيل هو الذي يتاوه من الذنوب ومالهما واحد وكذا ما قال البغوي انه جاء فى الحديث الأواه الخاشع المتضرع فان الخشوع يستلزم التأوه من الذنوب والنار وكذا ما قال عطاء الراجع عن كل ما يكره اللّه الخائف من النار وقال ابن مسعود الأواه الدعّاء وعن ابن عباس قال المؤمن التواب وقال الحسن وقتادة الأواه الرحيم بعباد اللّه وقال مجاهد الأواه الموقن وقال عكرمة هو المستيقن بلغة الحبشة وقال عقبة بن عامر الأواه كثير الذكر للّه تعالى وعن سعيد بن جبير قال الأواه المسيح وروى عنه الأواه المعلم للخير وقال النخعي هو الفقيه وفى القاموس ذكر المعاني المذكورة فقال الأواه الموقن أو الداعي أو الرحيم أو الفقيه أو المؤمن بالحبشية وقال أبو عبيدة هو المتاوه شفقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة قال الزجاج انتظم قول أبى عبيدة جميع ما قيل فى الأواه حَلِيمٌ (113) أى صفوح عمن ناله بمكروه ومن ثم قال لابيه عند وعيده بقوله لان لم تنته لارجمنك قال سلام عليك ساستغفر لك ربى وقال ابن عباس الحليم السيد وفى القاموس الحلم بالكسر الاناءة والعقل فهو حليم والجملة لبيان ما حمل ابراهيم على الاستغفار واللّه
(1/3005)
اعلم - قال مقاتل والكلبي ان قوما قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم واسلموا ولم يكن الخمر حراما ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت فقالوا يا رسول اللّه قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال فانزل اللّه
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 310
تعالى.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أى يحكم عليهم بالضلال ويسميهم الضالة ويواخذهم على فعل بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للاسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أى ما يجب اتقائه من الأعمال فلم يتقوه ويستحقون الإضلال وقيل فيه بيان عذر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى قوله لعمه لاستغفرن لك ما لم انه عنه أو لمن استغفر لاسلافه المشركين قبل النهى قال مجاهد بيان اللّه للمؤمنين فى الاستغفار للمشركين خاصة وبيان لهم فى مغصية وطاعة عامة يعنى ان الآية نزلت فى الاستغفار للمشركين لكن حكمها عام لعموم الصيغة إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (114) يعنى يعلم حال من فعل جهلا ومن فعل تمرد أو من يستحق الإضلال ومن لا يستحقه.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ أيها الناس مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره مِنْ وَلِيٍّ يحفظكم منه وَلا نَصِيرٍ (115) يمنع عنكم ضررا يريد بكم فلا ينبغى لكم ان توالوا بالمشركين وتستغفروا لهم وإن كانوا اولى قربى حسبكم ولاية اللّه ونصرته.
(1/3006)
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ من اذن المنافقين فى التخلف أو المعنى برأهم عن تعلق الذنوب لقوله تعالى ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقيل المراد بعث على التوبة والمعنى ما من أحد الا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وخاصة أصحابه لقوله تعالى توبوا إلى اللّه جميعا إذ ما من أحد الا له مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وفيه اظهار تفضل التوبة بانها مقام الأنبياء والصالحين من عباده وقيل افتتح الكلام بالنبي لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كما ذكر كلمة لله فى قوله تعالى للّه خمسه وللرسول ولذى القربى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ حين استغفرهم لغزوة تبوك فِي ساعَةِ أى وقت الْعُسْرَةِ قال البغوي كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش جيش العسرة أى الشدة لما كانت عليهم عسرة من الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد منهم يعنقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون ما معهم الا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 311
(1/3007)
عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة الا النواة فمضوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم على صدقهم ويقينهم روى احمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عمر بن الخطاب قال خرجنا إلى تبوك فى يوم قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا ان رقابنا سينقطع حتى إذا كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن ان رقبته سينقطع وحتى ان كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه « 1 » فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر يا رسول اللّه ان الله عز وجل قد عود لك فى الدعاء خيرا فادع اللّه لنا قال أ تحب ذلك قال نعم فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعها حتى جالت « 2 » السماء فاظلت ثم سكبت فملاؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر وروى ابن أبى حاتم عن أبى حرزة الأنصاري قال نزلوا الحجر فامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لا يحملوا من مائها شيئا ثم ارتحل ثم نزل منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى ركعتين ثم دعا فارسل اللّه سحابة فامطرت عليهم حتى استقوا منها فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه متهم بالنفاق ويحك قد ترى ما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فامطر اللّه علينا السماء قال انما مطرنا بنوء كذا وكذا فانزل اللّه تعالى وتجعلون رزقكم انكم تكذبون مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قرأ حفص وحمزة بالياء التحتية والباقون بالتاء الفوقية لان الفاعل مونث غير حقيقى قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أى قلوب بعضهم ولم يرد الميل عن الدين بل أراد الميل إلى التخلف والانصراف لاجل الشدة التي كانت عليهم قال الكلبي همّ ناس بالتخلف ثم لحقوه وقال ابن إسحاق ومحمد عمر كان نقر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك وهلال بن امية ومرارة ابن الربيع وأبو حيثمة وابو
(1/3008)
ذر الغفاري وكانوا نفر صدق لا يتهمون فى إسلامهم روى ابن إسحاق عن ابن مسعود قال لما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك جعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول اللّه تخلف فلان فيقول دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم وان يك غير ذلك فقد ارى حكم اللّه فيه حتى قيل يا رسول اللّه تخلف أبو ذر و
_________
(1) الفرث الرجين فى الكرش 12.
(2) أى دارت السحاب يعنى برخاست ابر پس سايه كرد پس ريخت آب 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 312
(1/3009)
ابطأ بعيره فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحو ذلك وتلوّم أبو ذر بعيره فلما ابطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع اثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماشيا قال محمد بن عمر كان أبو ذر يقول ابطأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك من أجل بعيري وكان نضوا « 1 » أعجف فقلت اعلفه أياما ثم الحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعلفته أياما ثم خرجت فلما كنت بذي المودة إذ مر بي فتلومت عليه يوما فلم ار به حركة فاخذت متاعى فحملته وتطلعت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نصف النهار فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول اللّه ان هذا الرجل يمشى على الطريق وحده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كن أبا ذر فلما تأمله القوم قالوا يا رسول اللّه هو واللّه أبو ذر فقال رحم اللّه أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده قال محمد بن يوسف الصالحي فكان كذلك فلما قدم أبو ذر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبره خبره فقال لقد غفر اللّه تعالى لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى ان بلغتني وروى الطبراني عن أبى خيثمة وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخهما قال لما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما دخل أبو خيثمة على اهله فى يوم حار فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائط وقد رشت كلواحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماء وهيات له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال سبحان اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حرفى انصح والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وأبو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيا وامرأة حسناء فى ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال واللّه لا ادخل عريش واحدة منكما حتى الحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تهيا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى
(1/3010)
أدركه حتى نزل تبوك وقد أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي فى الطريق لطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب ان لى ذنبا فلا عليك ان تخلف عنى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الناس هذا راكب مقبل فقال رسول اللّه
_________
(1) نضوا الدابة التي هزلته الاسفار وأذهبت لحمها 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 313
صلى اللّه عليه وسلم كن أبا خيثمة فقالوا واللّه هو أبو خيثمة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اولى « 1 » لك يا أبا خيثمة ثم اخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتاكيد أو أراد بالتوبة فى صدر الآية التوبة من اذن المنافقين فى التخلف وهاهنا من كيدودتهم زيغ القلوب أو المراد فى صدر الآية التوفيق للتوبة والانابة وهاهنا قبول التوبة أو للتبيه على انه تاب عليهم لاجل ما كابدوا من العسرة إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (116) قال البغوي قال ابن عباس من تاب اللّه عليه لم يعذبه ابدا يعنى على ذلك الذنب.
(1/3011)
وَ عَلَى الثَّلاثَةِ عطف على عليهم الَّذِينَ خُلِّفُوا أى تخلفوا عن غزوة تبوك وقيل خلفوا أى أرجى أمرهم عن توبة أبى لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر ومرارة ابن الربيع وهلال ابن امية كلهم من الأنصار روى الشيخان فى الصحيحين واحمد وابن أبى شيبة وابن إسحاق وعبد الرزاق عن كعب بن مالك قال لم أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة غزاها الا فى غزوة تبوك غير انى كنت تخلفت فى غزوة بدر ولم يعاقب اللّه أحدا تخلف عنها انما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة قلت يعنى ليلة العقبة الثالثة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب ان لى بها مشهد بدر وانكانت البدر اكثر ذكرا فى الناس منها كان من خبرى انى لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه فى تلك الغزوة واللّه ما اجتمعت عندى قبله راحلتان قط حتى جمعتها فى تلك الغزوة ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها وكان يقول الحرب خدعة حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حر شديد واستقبل سفرا بعيدا وصفاوز وعدوّا كثيرا فجلّا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا اهبة غزوهم فاخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثير وعند مسلم يزيدون على عشرة آلاف وروى الحاكم فى اكليل عن معاذ قال
_________
(1) اولى لك كلمة تهديه من دنا إلى الهلاك 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 314
(1/3012)
خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة عن ثلثين الفا وقال أبو ذرعة لا يجمعهم كتاب حافظ قال الزهري يريد الديوان فما رجل يريد ان يتغيب الا ظن انه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من اللّه تعالى وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الظلال والثمار وتجهز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتجهز المسلمون معه فخرج يوم الخميس وكان يحب إذا كان سفر جهاد أو غيره ان يخرج يوم الخميس فطفقت اعدوا لكى أتجهز معهم فارجع ولم اقض شيئا فاقول فى نفسى انا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي الحال حتى اشتد بالناس الحر فاصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم اقض من جهازى شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد ان فصلوا لاتجهز فرجعت ولم اقض شيئا ثم غدوت ولم اقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم واسرعوا وتفارط الغزو وهممت ان ارتحل فادركهم وليتنى فعلت ولم يقدر لى ذلك فكنت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني ان لا ارى الا رجلا مغموصا « 1 » عليه بالنفاق أو رجلا ممن عذر اللّه من الضعفاء ولم يذكر لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس فى القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بنى سلمة وفى رواية من قومى قال محمد بن عمر هو عبد اللّه بن أنيس السلمى يا رسول اللّه حبسه برداه « 2 » ونظره فى عطفيه فقال معاذ بن جبل ويقال أبو قتادة بئسما قلت واللّه يا رسول اللّه ما علمت عليه الا خيرا فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال كعب فلما بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توجه قافلا حضرنى همى وطفقت أعد عذرا لرسول اللّه صلى اللّه عليه واهيّئ الكلام وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من أهلي فلما قيل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/3013)
قد أظل قادما زاح عنى الباطل وعرفت ان لن أخرج منه ابدا بشيء فيه كذب فاجمعت صدقه وعرفت انه لن ينجينى الا الصدق وأصبح رسول اللّه عليه وسلم قادما قال ابن سعد فى رمضان قال كعب وكان إذا قدم من سفر
_________
(1) أى مطعونا فى دينه 12.
(2) أى جانبيه كناية من كونه معجبا متكبرا 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 315
(1/3014)
لا يقدم الا فى الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين فيقعد فيه ثم يدخل على فاطمة ثم على أزواجه فبدأ بالمسجد فركعهما ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جأه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى اللّه فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب فقال تعال فجئت امشى حتى جلست بين يديه وعند ابن عابد فاعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه لم تعرض عنى فو اللّه ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت فقال لى ما خلفك الم تكن قد اتبعت ظهرا فقلت بلى انى واللّه يا رسول اللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت انى ساخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكنى واللّه لقد علمت لان حدثتك حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن اللّه تعالى ان يسخطك ولان حدثتك حديث صدق تجد على فيه انى لارجوا فيه عفو اللّه لا واللّه ما كان لى من عذر واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما هذا فقد صدق فقم حتى يفضى اللّه فيك بما يشاء فمضيت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى فقالوا لى ما علمناك كنت إذ نبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ان لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فو الله ما زالوا يؤنّبوننى حتى أردت ان ارجع فاكذب نفسى فقلت ما كنت اجمع أمرين أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وكذبه ثم قلت لهم هل بقي هذا معى أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن امية الواقفي وعند ابن أبى حاتم من مرسل الحسن ان سبب تخلف الأول انه كان حائط حين زهى فقال فى نفسه قد غزوت قبلها فلو أقمت عامى هذا فلما تذكر ذنبه قال
(1/3015)
اللهم انى أشهدك انى قد تصدقت به فى سبيلك وان الثاني كان له أهل تفرقوا ثم رجعوا فقالوا قمت هذا العام عندهم فلما تذكر قال اللهم لك على ان لا ارجع إلى أهلي ولا مالى قال كعب فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 316
ذكرهما ونهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن كلامنا « 1 » أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجبنا الناس وتغيروا لنا وعند ابن أبى شيبة فطفقنا تغدوا فى الناس لا يكلمنا أحد ولا يسلم علينا أحد ولا يرد علينا أحد سلاما وعند عبد الرزاق وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هى بالتي نعرف انتهى ومن شى أهم إلى من ان أموت فلا يصلى علىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أو يموت فاكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمنى أحد ولا يصلى علىّ حتى تنكرت فى نفسى الأرض حتى ما هى بالتي اعرف فلبثنا ذلك خمسين ليلة فاما صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان واما انا فكنت أشب القوم واجلدهم فكنت أخرج فاشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمنى أحد ولا يرد على سلاما وآتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة فاقول فى نفسى هل حرك شفتيه برد السلام علىّ أم لا ثم أصلي قريبا منه فاسارقه النظر فإذا أقبلت على صلوتى اقبل على ذلك فإذا التفت نحوه اعرض عنى حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى يعنى انه من بنى سلمة وليس هو ابن أخو أبيه الأقرب قال كعب وهو أحب الناس الىّفسلمت عليه فوالله ما رد علىّ السلام فقلت يا أبا قتادة هل تعلمنى أحب اللّه ورسوله فسكت فعدت له فسكت فلم يكلمنى حتى إذا كان فى الثالثة أو الرابعة قال اللّه ورسوله اعلم ففاضت عيناى وتوليت حتى تسورت من الجدار قال فبينا انا امشى بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم
(1/3016)
بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس
يشيرون له حتى جاءنى ودفع إلى كتابا من ملك غسان وعند ابن أبى شيبة من بعض قومى بالشام كتب إلى كتابا فى سرقة « 2 » من حرير فإذا فيه اما بعد فانه قد بلغني ان صاحبك قد جفاك وأقصاك ولم يجعلك اللّه بدار الهوان ولا مضيعة « 3 » فان كنت متجولا فالحق بنا نواسيك « 4 » فقلت لما قراتها وهذا أيضا من البلاء قد طمع فى أهل الكفر فتيممت
_________
(1) بالرفع ومحله النصب على الاختصاص أى خصوصا الثلاثة الذين كقولهم اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وقال أبو سعيد السيرافي انه مفعول فعل محذوف أى أريد الثلاثة وخالفوا الجمهور وقالوا انه مناوى والثلاثة صفة له وانما أوجبوا ذلك لأنه فى الأصل كان كذلك قبل الاختصاص وكل ما نقل من باب إلى باب فاعرابه بحسب أصله كافعل التعجب عنه.
(2) الأبيض من الحرير أو الحرير عامه 12.
(3) حيث يضيع حقك 12.
(4) مواساة غمخوارى كردن 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 317
(1/3017)
بها التنور فسجرته بها وعند ابن عابد انه شكى حاله إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال ما زال اعراضك عنى حتى رغب فىّ أهل الشرك قال كعب حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأتينى قال محمد بن عمر هو خزيمة بن ثابت وهو الرسول إلى مرارة وهلال بذلك فقال كعب فقال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرك ان تعزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا افعل قال لابل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك فقلت لامراتى الحقي باهلك فتكونى عندهم حتى يقضى اللّه فى هذا الأمر قال كعب بن مالك فجاءت امراة هلال بن امية أى خولة بنت عاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه ان هلال بن امية شيخ ضايع ليس له خادم وعند ابن أبى شيبة انه شيخ قد ضعف بصره انتهى فهل تكره ان اخدمه قال لا ولكن لا يقر بك قالت انه واللّه ما به حركة إلى شىء واللّه ما زال يبكى منذ كان من امره ما كان إلى يومه هذا قال كعب فقال لى بعض أهلي لو استأذنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى امرأتك كما اذن لامراة هلال بن امية ان يخدمه فقلت واللّه لا استاذن فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وما يدرينى ما يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استاذنه فيها وانا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن كلامنا وعند عبد الرزاق وكانت توبتنا نزلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثلث الليل فقالت أم سلمة يا نبى اللّه الا نبشر كعب بن مالك قال إذا يحطمنكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليل فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وافا على ظهر بيت من بيننا فبينا انا جالس على الحال التي ذكر اللّه تعالى قد ضاقت على نفسى وضاقت على الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أو فى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك البشر وعند محمد بن عمر و
(1/3018)
كان الذي اوفى على جبل سلع أبا بكر الصديق فصاح قد تاب اللّه على كعب يا كعب البشر وعند عقبة ان رجلين سعيا كعبا يبشرانه فسبق أحدهما فارتقى المسبوق على سلع فصاح يا كعب البشر بتوبة اللّه وقد انزل اللّه عز وجل فيكم القرآن وزعموا ان الذين سبقا أبو بكر وعمر قال كعب نخررت ساجدا ابكى فرحا بالتوبة وعرفت انه قد جاء فرج وآذن « 1 » رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم
_________
(1) بالمد اعلم 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 318
(1/3019)
بتوبة اللّه علينا حين صلى صلوة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبى مبشرون وركض الىّ رجل على فرس وعند محمد بن عمر هو زبير بن العوام وسعى ساع من اسلم قال وكان الصوت اسرع من الفرس فلما جاءنى الذي سمعت صوته وهو حمزة الأسلمي يبشرنى نزعت له ثوبىّ فكسوته إياه يبشراه وو اللّه ما املك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين من أبى قتادة كما عند محمد بن عمر فلبسته مما قال وكان الذي بشر هلال بن امية بتوبة سعيد بن زيد فما ظننت انه يرفع راسه حتى تخرج نفسه أى الجهد فقد كان امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر من البكاء وكان الذي بشر مرارة ابن الربيع بتوبة سلكان بن سلامة أبو سلامة بن وقش قال كعب وانطلقت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيتلقانى الناس فوجا فوجا يهنؤنى بالتوبة يقولون لتهنئك توبة اللّه عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس حوله الناس فقام الىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنأنى واللّه ما قام الىّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ا من عندك أم من عند اللّه قال لا بل من عند اللّه انكم صدقتم اللّه فصدقكم اللّه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنَّه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول اللّه ان من توبتى ان انخلع من مالى كله صدقة إلى اللّه تعالى والى رسوله صلى اللّه عليه وسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت نصفه قال لا قلت فثلثه قال نعم قال فانى امسك سهمى الذي بخيبر وقلت يا رسول اللّه انما نجانى اللّه بالصدق وان من توبتى ان لا أحدث الا صدقا
(1/3020)
ما بقيت فو اللّه ما اعلم أحدا من المسلمين أبلاه « 1 » اللّه فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احسن مما ابتلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى يومى هذا كذبا وانى لارجو ان يحفظنى اللّه تعالى فيما بقيت وانزل اللّه تعالى لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله
_________
(1) أى أنعم الله عليه 12. [.....]
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 319
(1/3021)
و كونوا مع الصادقين فو اللّه ما أنعم اللّه تعالى علىّ من نعمة بعد ان هدانى للاسلام أعظم من نفسى من صدقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان لا أكون كذبة فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين انزل الوحى شر « 1 » ما قال لاحد فقال تبارك وتعالى سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم إلى قوله فان اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن امر أولئك الذين قبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وارجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمرنا حتى قضى اللّه سبحانه فيه بذلك قال اللّه تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر اللّه تعالى ممن خلفنا عن الغزو وانما هو تخليفه إيانا وارجاؤه أمرنا عمن خلف واعتذر إليه فقبل منه قال فى النور لعل الحكمة فى هجران كعب وصاحبيه خمسين ليلة انها كانت هذه مدة غيبته صلى اللّه عليه وسلم فى سفر تلك الغزوة قال اللّه تعالى حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ لاعراض الناس عنهم بِما رَحُبَتْ أى مع رحبها وسعتها وهذا مثل لشدة الحيرة فى أمرهم كانهم لا يجدون فيها مكانا ليقرون فيه قلقا واضطرابا وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أى قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعتها انس ولا سرور وَظَنُّوا أى علموا أَنْ لا مَلْجَأَ أى لا مفزع مِنَ اللَّهِ من سخطه إِلَّا إِلَيْهِ أى الا إلى استغفاره ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أى قبل توبتهم لِيَتُوبُوا أى ليستقيموا على التوبة فان توبتهم قد سبقت أو المعنى ليعدوا من جملة التوابين عن أبى بكر الوراق انه قال التوبة النصوح ان يضيق على التائب إذا أذنب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ عن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع
(1/3022)
الشمس من مغربها رواه مسلم وعن انس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اللّه أشد فرحا يتوب عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فايس منها فاتى شجرة فاضطجع فى ظلها قد ايس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده
_________
(1) شر ما قال لاحد بالاضافة به أى قال قولا شر القول الكائن لاحد من الناس 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 320
فاخذ بخطامها ثم قال لشدة الفرح اللهم أنت عبدى وانا ربك اخطأ من شدة الفرح رواه مسلم وفى الباب أحاديث كثيرة الرَّحِيمُ (117) المتفضل عليهم بالنعم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (118) فى ايمانهم وعهودهم أو فى دين اللّه نية وقولا وعملا يعنى الزموا الصدق فى كل شىء قال ابن عباس وكذا روى عن ابن عمر أى كونوا مع محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية دون المنافقين المتخلفين عنه وقال سعيد بن جبير مع أبى بكر وعمر وقال الضحاك أمروا ان يكونوا مع أبى بكر وعمر وأصحابهما وروى انه قال ابن عباس مع على ابن أبى طالب عن سفيان قال تفسير اختلاف انما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا وقال ابن جريج مع المهاجرين لقوله تعالى للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون وقيل من الذين صدقوا فى الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالاعذار الكاذبة قال ابن مسعود ان الكذب لا يصلح فى جد ولا هزل ولا ان يعد أحدكم صبية شيئا ثم لا ينجز له اقرأ ان شنم وقرأ هذه الآية .
(1/3023)
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ظاهره خبر ومعناه نهى كقوله تعالى وما لكم ان توذوا رسول اللّه وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ سكان البوادي مزينة وجهينة وأشجع واسلم وغفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى اللّه عليه وسلم إذا غزا بنفسه الشريفة وَلا يَرْغَبُوا ولا ان يرغبوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أى لا يضنوا أنفسهم عمالا يضن نفسه عنه ذلِكَ اشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهى عن التخلف يعنى ذلك النهى بِأَنَّهُمْ أى بسبب انهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أى شىء من العطش وَلا نَصَبٌ تعب وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى معاونة رسوله والجهاد لاعلاء دينه وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً مصدر أو ظرف أى يدوسون دوسا أو يذهبون أرضا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وطئهم إياها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا قتلا أو اسرا أو نهبا أو غنيمة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أى استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة والانتهاء عن التخلف إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (119)
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 321
(1/3024)
على إحسانهم وهو تعليل لكتب وتنبيه على ان الجهاد احسان اما فى حق الكفار فلانه سعى فى تكميلهم وإنقاذهم من النار بأقصى ما يمكن كالضرب للمجنون وتأديب الصبى واما فى حق المؤمنين فلانه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم عن أبى عبس قال سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه فى سبيل الله حرمه الله تعالى على النار رواه البخاري فى الصحيح واحمد والترمذي والنسائي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل المجاهد فى سبيل اللّه كمثل الصائم القائم القانت بايات اللّه لا يفتر من صيام ولا صلوة حتى يرجع المجاهد فى سبيل اللّه متفق عليه قال البغوي اختلفوا فى حكم هذه الآية قال قتادة هذه خاصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لاحد ان يتخلف عنه الا بعذر فاما غيره من الائمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة وقال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعد بن عبد العزيز يقولون هذه الآية لاول هذه الامة وآخرها وقال ابن زيد هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها اللّه تعالى وأباح التخلف لمن شاء وقال وما كان المؤمنون لينفروا كافة قلت اتفق الائمة على ان الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة من المسلمين وحصل بهم الكفاية سقط عن الباقين وعن سعيد بن المسيب انه فرض عين للعمومات الواردة فى الجهاد وما ورد التغليظ فى المتخلفين عن غزوة تبوك قلنا عند النفير العام يكون فرضا على الأعيان بالإجماع كما فى غزوة تبوك والا فهو فرض كفاية لقوله تعالى لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون فى سبيل اللّه إلى قوله وكلا وعد اللّه الحسنى وقوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة قوله تعالى.
(1/3025)
وَ لا يُنْفِقُونَ فى سبيل اللّه نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً كما فعل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما فى جيش العسرة (وَ لا يَقْطَعُونَ) فى مسيرهم مقبلين ومدبرين وادِياً وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودى إذا سال فشاع بمعنى الأرض (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك الكتابة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 322
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (120) يعنى جزاء احسن أعمالهم يعنى الجهاد فى سبيل اللّه أو احسن جزاء أعمالهم عن أبى مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه فى سبيل اللّه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة رواه مسلم وعن زيد بن خالد ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من جهز غازيا فى سبيل اللّه فقد غزا ومن خلف غازيا فى اهله فقد غزا متفق عليه واللّه اعلم قال الكلبي ان احياء بنى اسد بن خزيمة أصابتهم سنة شديدة فاقبلوا بالذراري حتى نزلوا بالمدينة فافسدوا طرقها بالعذرات واغلوا أسعارها فانزل اللّه تعالى.
(1/3026)
وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً نفى بمعنى النهى واللام لتأكيد النفي والمعنى لا ينفروا كافة عن أوطانهم لطلب العلم فانه مخل بالمعاش ومفضى إلى المفسدة فَلَوْ لا فهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ أى من كل جماعة كثيرة كقبيلة واهل بلدة أو قرية طائِفَةٌ جماعة قليلة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أى ليتكلفوا الطلب الفقاهة فى الدين ويتجشموا المشاق فى تحصيلها قال صاحب النهاية الفقه فى الأصل الفهم واشتقاقه من الشق والفتح وفى القاموس الفقه بالكسر المعلم بالشيء والفهم له والفطنة وغلب على علم الدين لشرفه وقال بعض المحققين الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم يعنى العلم الاستدلالي قال اللّه تعالى فما لهولاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولا يستنبطون مضمونه قال أبو حنيفة رحمه اللّه هو معرفة النفس مالها وما عليها والتخصيص بالعلم بفروع الدين اصطلاح جديد والظاهر انه يشتمل علم المقلد أيضا فالمقلد إذا أخذ العلم من المجتهد ومن كتابه فقد ادى ما وجب عليه بهذه الآية واللّه اعلم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الذين لم ينفروا إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فى أوطانهم بعد تحصيل العلم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (121) بانذارهم ما يجب عليهم اجتنابها وقال مجاهد نزلت فى ناس خرجوا فى البوادي فأصابوا منهم معروفا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نريك الا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا فى أنفسهم من ذلك حرجا فاقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 323
(1/3027)
فانزل اللّه تعالى هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا رواه الشافعي وكذا روى الشيخان فى الصحيحين واحمد عن أبى هريرة وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الناس رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما رواه الطبراني عن ابن مسعود واللّه اعلم وهذه الآية دليل على ان اخبار الآحاد حجة لان عموم كل فرقة يقتضى ان ينفر من كل ثلثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لينذر فرقتها كى يتذكروا فيحذروا فلو لم يعتبر الاخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك اعلم ان الفقه فى الدين ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية فالفرض العين هو العلم بالعقائد الصحيحة ومن الفروع ما يحتاج إليه كل أحد كالطهارة والصلاة والصوم وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على الآدمي يجب عليه معرفة أحكامها مثل علم الزكوة إن كان له مال وعلم الحج ان وجب عليه وكذلك من المعاملات يجب معرفة احكام ما يتعاطى بها ويمارسها فيجب معرفة احكام البيع من الصحيح والفاسد والربوا للتجار والإجارات لمن يتاتى بها ونحو ذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم رواه ابن عدى والبيهقي بسند صحيح عن انس والطبراني فى الصغير والخطيب عن الحسن بن على والطبراني فى الأوسط عن ابن عباس وفى الكبير عن ابن مسعود وعند الخطيب عن على وفى الطبراني فى الأوسط والبيهقي عن أبى سعيد وزاد ابن عبد البر عن انس وان طالب العلم يستغفر له كل شىء حتى الحيتان فى البحر وفى رواية واللّه يحب إغاثة اللهفان والفرض الكفاية وهو ان يتعلم الرجل كل باب من العلم حتى يبلغ درجة الفتوى فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث وهو أفضل من كل عبادة نافلة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
(1/3028)
سلم طلب العلم أفضل عند اللّه من الصلاة والصيام والحج والجهاد فى سبيل اللّه عز وجل رواه صاحب سند الفردوس عن ابن عباس وروى أيضا عنه طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة وطلب العلم يوما خير من صيام ثلثة ايام وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 324
أدناكم ان اللّه وملئكة واهل السموات والأرضين حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت فى الماء ليصلون على معلم الناس الخير رواه الترمذي بسند صحيح عن أبى امامة وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقيه واحد أشد على الشيطان من الف عابد رواه الترمذي وابن ماجة
(1/3029)
عن ابن عباس وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلثة الا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له واما لعلم اللدني فى الذي يسمون أهلها بالصوفية الكرام فهو فرض عين لان ثمراتها تصفيه القلب عن الاشتغال بغير اللّه تعالى واتصافه بدوام الحضور وتزكية النفس عن رذائل الأخلاق من العجب والكبر والحسد وحب الدنيا والكسل فى الطاعات وإيثار الشهوات والرياء والسمعة وغير ذلك وتجليتها بكرام الأخلاق من التوبة والرضا بالقضاء والشكر على النعماء والصبر على البلاء وغير ذلك ولا شك ان هذه الأمور محرمات وفرايض على كل بشر أشد تحريما من معاصى الجوارح وأهم افتراضا من فرائضها فالصلوة والصوم وشىء من العبادات لا يعبأ بشئ منها ما لم تقترن بالإخلاص والنية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان اللّه لا يقبل من العمل الا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه رواه النسائي عن أبى امامة وقال عليه السلام ان الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم - رواه مسلم عن أبى هريرة وكل ما يترتب عليه من الفروض الأعيان فهو فرض عين واللّه اعلم وفى سبب نزول الآية وجه آخر وذلك ما قال البغوي انه قال ابن عباس فى رواية الكلبي وكذا أخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة ونحوه عن عبد اللّه بن عمير انه لما انزل اللّه تعالى عيوب المنافقين فى غزوة تبوك ونزلت ان لا تنفروا يعذبكم عذابا أليما كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلّى اللّه عليه وسلم وخده وفى رواية عكرمة تخلف عن الغزو أناس من أهل البوادي فقالت المنافقون هلك أصحاب البوادي فانزل اللّه تعالى هذه الآية يعنى ما كان المؤمنون لينفروا إلى الغزو كافة فهلا نفر من كل فرقة عظيمة
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 325
(1/3030)
طايفة إلى الغزو وبقي طائفة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ليتفقه القاعدون فى الدين ويتعلمون القرآن والسنن والفرائض والاحكام فإذا رجعت السرايا اخبروهم بما نزل بعدهم فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم وينفر سرايا اخر حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لان الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة ولذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء فيكون الضمير فى ليتفقهوا ولينذروا لبواقى الفرق بعد الطائفة النافرة للغزوة وفى رجعوا للطائفة النافرة قال السيوطي قال ابن عباس فهذه مخصوصة بالسرايا والتي من قبلها بالنهى عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال الحسن هذه التفقه والانذار راجع إلى الفرقة النافرة معناه هلا نفر فرقة ليتفقهوا أى ليبصروا بما يريهم من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا من الجهاد فيخبروهم بنصر اللّه رسوله والمؤمنين لعلهم يحذرون قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنزل بهم ما نزل باصحابهم من الكفار وهذا يدل على ان الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة سقطه عن الباقين الا عند النفير العام حتى يصير فرضا على الأعيان قوله تعالى.
(1/3031)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ امر بقتال الأقرب منهم فالاقرب إليهم فى الدور والنسب فان الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح ولذلك امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اولا بانذار عشيرته الأقربين ولما هاجر إلى المدينة امر بقتال قريظة والنضير وخيبر ونحوها وإذا فرغ من قتال العرب امر بقتال الروم وهم المراد بهذه الآية لانهم كانوا سكان الشام وكان الشام اقرب إلى المدينة من العراق فإذا نزلت هذه الآية عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على قتال الروم عام تبوك كما ذكرنا فيما سبق فى رواية ابن مردوية عن ابن عباس وابن أبى شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير وعلى مقتضى هذه الآية قالت الفقهاء يجب على من يكون فى الثغر الجهاد بمن يليهم من الكفار فان لم يكن بهم كفاية أو تكاسلوا وعصوا يجب على من يقرب منهم وكذا من يقرب ممن
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 326
يقرب ان لم يكن بهم كفاية أو تكاسلوا وهكذا إلى ان يجب على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا كذا جهاز الميت والصلاة عليه وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وحمية قال الحسن صبرا على الجهاد وظاهر الآية امر للكفار والمراد منه الأمر للمؤمنين بالتغليظ يعنى اغلطوا عليهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (122) دون الكفار بالعون والنصر فلا تبالوا بقتالهم قوله تعالى.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ما صلة مؤكدة فَمِنْهُمْ يعنى من المنافقين مَنْ يَقُولُ لاخوانه استهزاء أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً يقينا وتعديقا قال اللّه تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بزيادة العلم الحاصل من تدبير السورة بما فيها من الاعجاز وبانضمام الايمان بها وبما فيها إلى ايمانهم وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (123) بنزولها لأنه سبب لزيادة علمهم وكما لهم وارتفاع ورجاتهم.
(1/3032)
وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق فَزادَتْهُمْ السورة رِجْساً كفرا بها مضموما إِلَى رِجْسِهِمْ كفرهم بغيرها وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (124) فان الايمان امر وهبى لا يفيد النذر والآيات مالم يشاء اللّه قال مجاهد فى هذه الآية دلالة على ان الايمان يزيد وينقص وكان عمر رضى اللّه عنه يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول تعالوا حتى نزداد ايمانا وقال على رضى اللّه عنه ان الايمان يبدوا لمظة « 1 » بيضاء فى القلب كلما ازاد الايمان عظما ازداد ذلك البياض من حتى يبيض القلب كله وان النفاق يبدو لمظة سوداء فى القلب فكلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد حتى يسود القلب وايم اللّه لو شققتم عن قلب مومن لوجدتموه ابيض لو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسودا.
أَ وَلا يَرَوْنَ قراءة حمزة ويعقوب بالتاء الفوقانية على خطاب المؤمنين والباقون بالياء التحتانية حكاية عن المنافقين المذكورين أَنَّهُمْ أى المنافقون يُفْتَنُونَ أى يبتلون بأصناف البليات من الأمراض والشدائد وقال مجاهد بالقحط والشدة وقال قتادة بالغزو والجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيعاينون ما يظهر من الآيات وقال مقاتل بن حبان يفضحون بإظهار نفاقهم وقال عكرمة
_________
(1) المظة النكتة من البياض 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 327
ينافقون ثم يومنون ثم ينافقون وقال يمان ينقضون عهودهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نقض العهد ومن المعاصي والنفاق الجالب إليهم تلك البليات والفضائح وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (125) أصله يتذكرون أى لا يتعظون بما يرون من تصديق وعد اللّه بالنصر والظفر للمسلمين.
(1/3033)
وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلّى اللّه عليه وسلم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أى تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية أو غيظا لما فيها من عيوبهم وتفضيحهم ويريدون الهرب قائلا بعضهم لبعض اشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من زائدة يعنى هل يراكم أحد من المؤمنين ان قمتم من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فان لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وان علموا ان أحدهم يريهم أقاموا وثبتوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عن الايمان بها وقيل انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها يعنى حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مخافة الفضيحة صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الايمان قال أبو إسحاق أضلهم اللّه مجازاة على فعلهم ذلك ويحتمل الدعا بِأَنَّهُمْ أى بسبب انهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (126) أى لا يفقهون الحق سوء فهمهم وعدم تدبرهم.
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أى من جنسكم عربى مثلكم من بنى اسمعيل عليه السلام تعرفون نسبه وحسبه قال ابن عباس ليس من العرب قبيلة الا وقد ولدت النبي صلّى اللّه عليه وسلم وله فيهم نسب قال جعفر بن محمد الصادق لم يصبه شىء من ولاد الجاهلية من زمان آدم عليه السلام روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما ولدني من سفاح الجاهلية شىء ما ولدني الانكاح كنكاح الإسلام وقرأ ابن عباس والزهري وابن محيصن من أنفسكم بفتح الفاء أى أى من أشرفكم وأفضلكم عَزِيزٌ شديد شاق عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ قيل ما زايدة معناه عنتكم أى دخول المشقة والمضرة عليكم وقال القتيبي ما اعنتكم وضركم وقال ابن عباس ما ضللتم وقال الضحاك والكلبي أثمتم فما موصولة حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أى على ايمانكم وصلاح شانكم بِالْمُؤْمِنِينَ منكم و
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 328
(1/3034)
من غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ (127) الرأفة شدة الرحمة قدم الأبلغ منها لرعاية الفواصل قبل رؤف بالمطيعين رحيم بالمذنبين.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الايمان بك وناصبوك للحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فانه يكفيك مؤنتهم ويعينك عليهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كالدليل عليه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا ارجوا ولا أخاف الا منه وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (128) خصه بالذكر لأنه أعظم المخلوقات أخرج عبد اللّه بن احمد عن أبى بن كعب قال اخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى اخر السورة وقال « 1 » هما أحدث الآيات باللّه عهدا واللّه اعلم.
(فصل) ولما كان نزول اكثر هذه السورة فى غزوة تبوك وقد ذكرنا بعض قصصها فى ضمن تفسير السورة فلنذكر بقية قصص تلك الغزوة والمعجزات التي ظهرت فيها تتميما للمقال روى الطبراني عن عبد اللّه بن سلام ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما مر بالخليجة فى سفره إلى تبوك قال له أصحابه المبرك يا رسول اللّه الظل والماء وإن كان فيها دوم « 2 » وماء فقال انها ارض زرع دعوها فانها مامورة يعنى ناقته فاقبلت حتى بركت عند الدومة التي كانت فى مسجد ذى المروة قال محمد بن عمر ولما نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وادي القرى اهدى له بنى عريض اليهودي هريسا فاكلها وأطعمهم أربعين وسقا فهى جارية عليهم إلى يوم القيامة وفى رواية فهى جارية عليهم إلى الساعة روى مالك واحمد والشيخان فى
_________
(
(1/3035)
1) عن يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب انه قال أراد عمر بن الخطاب ان يجمع القرآن فقام فى الناس فقال من كان تلقى فى زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شيئا من القرآن فلياتنا به وكانوا كتبوا ذلك فى الصحف والألواح والعسب وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد به شاهدان فقتل وهو يجمع ذلك إليه فقام عثمان بن عفان فقال من كان عنده شىء من كتاب اللّه فلياتنا به وكان لا يقبل من ذلك حتى يشهد به شاهدان فجاء خزيمة بن ثابت فقال انى رايتكم تركتم به ايتين لم تكتبوهما فقال اما هما قال تلقيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم الآيتين فقال عثمان وانا اشهد انهما من اللّه فاين نرى ان تجعلهما قال اختم بهما آخر ما نزل من القرآن فتحتمت بها براة الحمد للّه رب العلمين صلى اللّه على رسوله روف الرحيم.
(2) الودم جمع ودمة وهى ضخام الشجري شجر المقل 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 329
(1/3036)
الصحيحين عن ابن عمرو احمد عن جابر وابى كبشة الأنماري وابى حميد الساعدي ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما مر بالحجر تقنع بردائه وهو على الرحل فاوضع راحلته حتى خلف أبيات ثمود ولما نزل هناك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم واستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا ونصبوا القدور باللحم فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنودى فى الناس الصلاة جامعة فلما اجتمعوا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم الا ان تكونوا باكين ان يصيبكم ما أصابهم ولا تشربوا من مائها ولا تتوضاوا منه للصلاة واهريقوا القدور واعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل على البير التي كانت تشرب منها الناقة وقال لا تسألوا الآيات فقد سالها قوم صالح سألوا نبيهم ان يبعث لهم آية فبعث اللّه تبارك وتعالى لهم الناقة فكانت ترد هذا الفج وتصدر « 1 » من هذا الفج « 2 » فعتوا عن امر ربهم فعقروها وكانت تشرب مياههم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فاخذتهم صيحة اخمد اللّه تعالى من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان فى حرم اللّه قيل من هو يا رسول اللّه قال أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ما تدخلون على قوم غضب اللّه عليهم فناداه رجل منهم تعجب منهم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الا أنبئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فان اللّه لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتى اللّه بقوم لا يدفعون عن أنفسهم بشئ تهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد ومن كان له بعير فليوثق عقاله ولا يخرجن أحد منكم الا ومعه صاحب له ففعل الناس ما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلا رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعير له فاما الذي خرج لحاجته فانه خنق على مذهبه واما الذي ذهب فى
(1/3037)
طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته على جبل طى فاخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بذلك فقال الم أنهكم ان يخرج أحد الا ومعه صاحب له ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى واما لاخر فان طيا أهدته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم
_________
(1) تصدر أى ترجع بعد ورود 12.
(2) أى الموضع الذي ينغوط فيه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 330
(1/3038)
حين رجع إلى المدينة وقد مر قصة استسقائه صلّى اللّه عليه وسلم وروى محمد بن عمر ومحمد بن إسحاق انه ضلت ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وخرج الناس فى طلبها فقال زيد بن اللّصيب أحد بنى قينقاع كان يهوديا فاسلم ونافق وكان فى رجل عمارة بن حزم محمد يزعم انه نبى وهو يخيركم خبر السماء وهو لا يدرى اين ناقته فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وكان عمارة بن حزم عنده ان منافقا قال كذا واللّه انى لا اعلم الا ما علمنى اللّه وقد اطلعنى اللّه عليها وهى فى الوادي فى شعب كذا فذهبوا فجاؤا بها فاقبل عمارة على زيد يجافى عنقه ويقول أخرج يا عدو اللّه من رحلى فلا تصاحبنى قال ابن إسحاق فزعم بعض الناس ان زيدا تاب وقال بعض الناس لم يزل منافقا حتى هلك وفى تلك الغزوة ما روى مسلم عن المغيرة بن شعبة ذهاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل الفجر لحاجته فاسفر الناس حتى خافوا الشمس فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم وتوضأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وضاق كم جبته فاخرج يديه من تحت الجبة ومسح على خفيه وأدرك ركعة فصلى ركعة اخرى وسلم وقال أحسنتم صلوا الصلاة لوقتها وانه لم يتوف نبى حتى يؤمه رجل صالح من أمته وروى احمد والطبراني انه صلّى اللّه عليه وسلم اردف سهيل بن بيضاء على رحله ورفع صوته يا سهيل ثلث مرات كل ذلك يقول سهيل لبيك حتى عرف الناس انه يريدهم فلما اجتمع الناس قال من شهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له حرمه اللّه على النار روى محمد بن عمرو أبو نعيم فى الدلائل انه عارض الناس حية عظيمة ذكر من عظمها وخلقها فاقبلت حتى واقفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليه فقامت قائمة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفد والىّ يسمعون القرآن وهاهو ذا يقرأكم السلام فقال الناس جميعا وعليه السلام و
(1/3039)
رحمة اللّه وبركاته روى احمد برجال الصحيح عن حذيفة عن معاذ قال عليه السلام لكم ستاتون غدا إنشاء اللّه عين تبوك وانكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاء فلا يمس من ماءها شيئا حتى اتى فجئناها وسبق إليه رجلان والعين مثل الشراك بتض « 1 » بشئ من ماء فسالهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا
_________
(1) أى تسيل 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 331
(1/3040)
قالا نعم فسبهما وقال لهما ما شاء اللّه ان يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع فى شن ثم غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيه وجهه ويديه وتمضمض ثم إعادة فجرت العين بماء كثير ولفظ ابن إسحاق فانخرق الماء حتى كان يقول من سمعه ان له حساكحس الصواعق وذلك الماء فوارة بتبوك ثم قال يا معاذ يوشك ان طالت بك حيوة ان ترى ما هاهنا يلى جنانا وفيما روى البيهقي وأبو نعيم عن عروة ففارت عينها حتى امتلأت فهى كذلك حتى الساعة روى احمد والنسائي عن أبى سعيد الخدري خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام تبوك وهو مسند ظهره إلى نخلة فنادى الا أخبركم بخير الناس وشر الناس ان من خير الناس رجل محمل فى سبيل اللّه على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت وان من شر الناس رجلا يقرأ كتاب اللّه لا يرعوى « 1 » إلى شىء منه وروى أبو داود عن ابن عمر قال اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بجنبة فى تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع روى احمد وأبو داود انه مر غلام بينه صلّى اللّه عليه وسلم وبين القبلة على حمار وهو يصلى فقال اللهم اقطع اثره فصار مقعدا ورمى محمد بن عمر عن رجل من بنى سعد قال جئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو جالس بتبوك فى نفر فقال يا بلال أطعمنا فاخرج بلال خرجات بيده من تمر معجون بسمن وإقط فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كلوا فاكلنا حتى شبعنا فقلت يا رسول اللّه ان كنت لا كل هذه وحدي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الكافر يأكل فى سبعة أمعاء والمؤمن يأكل فى معاء واحد ثم جئته من الغد فإذا عشرة نفر حوله فقال هات أطعمنا يا بلال فجعل يخرج من جراب تمرا بكفه قبضة قبضة فقال أخرج ولا تخش من ذى العرش إقتارا فجاء بجراب فنشره فخرزته مدين فوضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يده على التمر وقال كلوا بسم اللّه فاكلوا وأكلت معهم حتى ما أجد له مسلكا قال و
(1/3041)
بقي على النطع مثل الذي جاء به بلال كانّا لم ناكل منه تمرة واحدة ثم قال غدوت من الغد وعاد نفر فكانوا عشرة أو يزيد رجلا أو رجلين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا بلال أطعمنا فجاء بلال بذلك الجراب بعينه أعرفه فنشره ووضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يده عليه وقال كلوا بسم اللّه فاكلنا حتى نهلنا
_________
(1) لا يرعوى أى لا ينكف ولا ينزجر من رعى يرعوا إذا انكف عن الأمر وقد ارعوى عن القبيح ارعواء وقيل الارعواء الندم على الشيء والانصراف عنه 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 332
(1/3042)
ثم رجع مثل الذي صب ففعل ذلك ثلثة ايام وفى قصة اخرى روى محمد بن عمر وأبو نعيم وابن عساكر عن عرباض بن سارية فذكر قصة انه قال كنا ثلثة انا وجعال بن سراقة وعبد اللّه بن مغفل المزني كلنا جياع انما نعيش بباب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبة ومعه زوجته أم سلمة فطلب شيئا فلم يجد فخرج فنادى بلا لاهل من عشاء لهولاء النفر فاخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا فتقع التمرة والثمرتان حتى رايت فى يده سبع تمرات ثم دعا بصفحة فوضع التمر فيها ثم وضع يده على التمرات وسمى اللّه تعالى فقال كلوا بسم اللّه فاكلنا فأحصيت أربعا وخمسين تمرة اكلتها أعدها عدا ونواها فى يدى الاخرى وصاحباى يصنعان مثل ما اصنع وشبعنا وأكل كل واحد منا خمسين تمرة ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هى فقال يا بلال ارفعها فانه لا يأكل منها أحد الا نسهل شبعا فلما أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وصلّى صلوة الصبح انصرف إلى فناء قبته فجلس وجلسنا حوله وفقراء من المسلمين عشرة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هل لكم من الغداء فدعا بلالا بالتمرات فوضع يده عليهن فى الصفحة ثم قال كلوا بسم اللّه فاكلنا فوالذى بعثه بالحق حتى أشبعنا وانا لعشرة ثم رفعوا منها أيديهم شبعا وإذا التمرات كما هى فقال لو لا انى استحيى من ربى لاكلنا من هذه التمر حتى نرد المدينة من آخرنا وطلع غليم من أهل البلد فاخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم التمرات بيده فدفعها إليه فولّى الغلام يلوكهن روى محمد بن عمر انه هاجت ريح شديد بتبوك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لموت منافق عظيم النفاق فقدموا المدينة فوجدوا منافقا عظيم النفاق قد مات روى محمد بن عمر انه قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نفر من سعد هزيم فقالوا يا رسول اللّه انا قدمنا إليك وتركنا أهلنا على بير قليل مائها وهذا القيظ ونحن نخاف
(1/3043)
ان تفرقنا ان نقتطع لان الإسلام لم يغش حولنا بعد فادع اللّه لنا فى مائنا فانا ان روينا به فلا قوم اغرمنا لا يقربنا أحد مخالف لديننا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ابغوني حصيات فتناول بعضهم ثلث حصيات فدفعهن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فعركهن بيده ثم قال اذهبوا بهذه الحصيات إلى بيركم فاطرحوا واحدة واحدة وسموا اللّه تعالى فانصرف القوم من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ففعلوا ذلك فجاشت بيرهم بالرواء ونفوا من حاربهم من أهل الشرك ووطئوهم فما انصرف
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 333
(1/3044)
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى المدينة حتى اوطئوا « 1 » من حولهم عليه ودانوا عليه بالإسلام روى الطبراني عن ابن عمرو معاوية بن أبى سفيان والبيهقي وابن سعد عن انس قال طلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أدرها طلعت فيما مضى فاتى جبرئيل فسأل عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال ذاك معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة اليوم فبعث اللّه سبعين الف ملك يصلون عليه فهل لك فى الصلاة عليه قال نعم فصلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وصف الملئكة خلفه صفين فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لجبرئيل بم بلغ هذه المنزلة قال يحبه قل هو اللّه أحد يقرأها قائما وقاعدا وراكبا وماشيا وعلى كل حال قال الحافظ هذا لحديث له طرق يقوى بعضها بعضا روى الطبراني وأبو نعيم عن محمد بن حمزة عن عمرو الأسلمي عن أبيه عن جده قال خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى غزوة تبوك وكنت على خدمته ذلك السفر فنظرت إلى نحى السمن قد قل ما فيه وهيات للنبى صلّى اللّه عليه وسلم طعاما فوضعت النحى فى الشمس ونمت فانتبهت بخذير « 2 » النحى فقمت فاخذت راسه بيدي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ورآني لو تركته لسال الوادي سمنا روى الحارث بن اسامة عن بكر بن عبد اللّه المزني قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من يذهب بهذا الكتاب إلى قيصر وله الجنة فقال رجل وان لم يقبل فانطلق الرجل فاتاه بالكتاب فقرأ فقال اذهب إلى نبيكم فاخبره انى متبعه ولكن لا أريد ان ادع ملكى وبعث
(1/3045)
معه بدنانير إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرجع فاخبره فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كذب وقسم الدنانير روى احمد وأبو يعلى بسند حسن عن سعيد بن أبى راشد عن التنوخي رسول هرقل قال قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تبوك فبعث دحية الكلبي إلى هرقل فلما ان جاء كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دعا قسيسى أى علماء النصارى الروم وبطارقتهما ثم اغلق عليه وعليهم الدار فقال قد نزل هذا الرجل حيث رايتم وقد أرسل يدعونى إلى ثلث خصال ان اتبعه على دينه أو ان أعطيه مالنا على ارضنا والأرض ارضنا أو نلقى إليه الحرب واللّه لقد عرفتم فيما تقرءون من الكتاب فهلم فلنتبعه على دينه أو نعطيه مالنا على ارضنا فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا وقالوا تدعونا إلى ان نذر النصرانية أو تكون عبيد الاعرابى من الحجاز فلما ظن انهم ان يخرجوا من عنده فسدوا عليه
_________
(1) أى كلموا مع الغصب 12.
(2) هو صوت الماء فاستعير للسمن 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 334
(1/3046)
الروم رناهم « 1 » ولم يكد وقال انما قلت ذلك لاعلم صلابتكم على دينكم وأمركم ثم دعا رجلا من عرب تجيّب كان على نصارى العرب قال ادع لى رجلا حافظا للحديث عربى اللسان ابعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه فجاءنى فدفع الىّ هرقل كتابا فقال اذهب بكتابي هذا إلى هذا الرجل فما سمعته من حديثه فاحفظ لى منه ثلث خصال هل يذكر صحيفته التي كتب بشئ وانظر إذا قرأ كتابى فهل يذكر الليل وانظر إلى ظهره هل فيه شيء يريبك قال فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبيا على الماء فقلت اين صاحبكم قيل هوذا فاقبلت امشى حتى جلست بين يديه فناولته كتابى فوضعه فى حجره ثم قال ممن أنت قلت انا من تنوخ قال هل لك فى الإسلام الحنيفة ملة أبيك ابراهيم قلت انى رسول قوم وعلى دين قوم حتى ارجع إليهم فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال انك لا تهدى من أحببت ولكن اللّه يهدى من يشاء وهو اعلم بالمهتدين يا أخا تنوخ انى كتبت كتابا إلى كسرى فمزقه وممزق ملكه وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فمزقها واللّه ممزقه وممزق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فامسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام فى العيش خير قلت هذه احدى الثلث التي أوصاني صاحبى بها فاخذت سهما من جعبتى فكتبتها فى جفن سيفى ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره قلت من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم قالوا معاوية فإذا فى كتاب صاحبى تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فاين النار فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه اين النهار إذا جاء الليل فاخذت سهما من جعبتى فكتبته فى جنب سيفى فلما فرغ من قراءة كتابى قال ان لك حقا وانك رسول اللّه فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها انا سفر « 2 » مرملون قال فناداه رجل من طائفة الناس انا أجوزه ففتح رحله فإذا هو بحلة صفراء فوضعها فى حجرى قلت من صاحب الجائزة قيل لى عثمان ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
(1/3047)
سلم أيكم ينزل هذا الرجل فقال فتى من الأنصار انا فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس نادانى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال تعال يا أخا تنوخ فاقبلت أهوى حتى كنت فى مجلسى الذي كنت بين يديه فحل حبوته عن ظهره وقال هنا
_________
(1) من الرنى بضم الراء بمعنى الصعود 12.
(2) سفر جمع سافر كركب وراكب 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 335
(1/3048)
امض لما أمرت له فجلست فى ظهره فإذا انا بخاتم النبوة فى موضع مصرف الكتف مثل المحجمة الضخمة قال محمد بن عمر فانصرف الرجل إلى هرقل فذكر ذلك له فدعا قومه إلى التصديق بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم فابوا حتى خافهم على ملكه وهو فى موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف « 1 » وكان الذي خير النبي صلّى اللّه عليه وسلم من تعبية أصحابه ودنوه إلى وادي الشام باطلا لم يرد ذلك ولا همّ به وذكر السهيلي ان هرقل اهدى هديا فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وفرقها على المسلمين وان هرقل امر مناد يا ينادى الا ان هرقل آمن بمحمد واتبعه فدخلت الأجناد فى سلاحها وطافت بقصره تريد قتله فارسل إليهم انى أردت ان اختبر صلابتكم فى دينكم فقد رضيت عنكم فرضوا عنه ثم كتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كتابا مع دحية رضى اللّه عنه يقول فيه انى مسلم ولكن مغلوب على امرى فلما قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كتابه قال كذب عدو اللّه واللّه ليس بمسلم بل هو على نصرانية وروى البيهقي عن ابن إسحاق قال حدثنى يزيد بن رومان وعبد اللّه بن بكر والبيهقي عن عروة بن الزبير قال لما توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قافلا إلى المدينة من تبوك بعث خالد بن الوليد بأربعمائة وعشرين فارسا فى رجب سنة تسع إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل وكان أكيدر من كندة وكان نصرانيا فقال خالد كيف لى به وسط بلاد كلب وانما انا فى أناس يسيرون فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ستجده يصيد البقر فتاخذه فيفتح الله لك دومة فان ظفرت به فلا تقتله وايت به الىّ فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين فى ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له مع امرأته الرباب بنت انيف بن عامر الكندية فصعد أكيدر على ظهر الحصن من الحر وقينة تغينه ثم دعى بشراب فشرب فاقبلت البقرة الوحشية تحك بقرونها باب الحصن الحديث فنزل أكيدر وركب فرسه وركب معه
(1/3049)
نفر من أهل بيته معه اخوه حسان ومملوكان له فخرجوا من حصنهم بمطاردهم « 2 » فلما فصلوا من الحصن أخذته خيل خالد فاستاسر أكيدر وامتنع حسان وقاتل حتى قتل وهرب المملوكان ومن كان معه فدخلوا الحصن وكان على حسان قباء ديباج مخوص « 3 » بالذهب
_________
(1) الزحفان يتحرك حركة ضعيفة كالصبى على استه 12.
(2) مطروا مح قصير يطعن به 12. [.....]
(3) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وفتح الواو المشددة والضاد المهملة المنسوج بالذهب 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 336
(1/3050)
فاستلبه وقال خالد لاكيدر هل لك ان اجبرك من القتل حتى اتى بك رسول اللّه صلّى اللّه على ان تفتح لى دومة فقال أكيدر نعم فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن فنادى أكيدر اهله ان افتحوا باب الحصن فارادوا ذلك فابى عليهم فصاد أخو أكيدر فقال أكيدر لخالد تعلم والله انهم لا يفتحون لى رأونى فى وثاقك فخل عنى فلك اللّه والامانة ان افتح لك الحصن ان أنت صالحتنى على أهلي قال خالد فانى أصالحك فقال أكيدر ان شئت حكمتك وان شئت حكمتنى قال خالد بل نقبل منك ما أعطيت فصالحه على الفى بعير وثمانمأة راس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح على ان ينطلق به وبأخيه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه فلما قضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح باب الحصن فدخل خالد وأوثق مصادا أخا كيدر وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح ولما ظفر خالد بأكيدر وبأخيه حسان أرسل خالد عمر بن امية الضميري إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بشيرا وأرسل معه قباء حسان قال انس وجابر رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسون بايديهم ويتعجبون من هذا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ا تعجبون من هذا والذي نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة احسن من هذا ثم لما قبض خالد ما صالحه عزل للنبى صلّى اللّه عليه وسلم الصفي ثم خمس الغنائم ثم قسم الغنائم بين أصحابه قال أبو سعيد الخدري أصابني درع وبيضة وعشر من الإبل وقال واثلة أصابني ست فرايض « 1 » وقال عبد اللّه بن عمرو بن عوف كنا أربعين رجلا من بنى مزينة أصاب كل رجل خمس فرائض مع سلاخ ودرع ورماح قلت وتفاوت السهم بتفاوت القيمة ثم ان خالدا توجه إلى المدينة ومعه أكيدر ومصاد روى محمد بن عمر عن جابر قال رايت أكيدر حين قدم به خالد عليه صليب ذهب وعليه الديباج فلما رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلم سجد له فاومى
(1/3051)
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بيده لا لامرتين واهدى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هدية فيها كسوة قال ابن الأثير وبغلته وصالحه
_________
(1) فرائض جمع فريضة سمى به لأنه يوخذ فى فريضة الزكوة ثم اتسع حتى قيل فى غير الزكوة.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 337
(1/3052)
على الجزية وبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما وكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كتابا فيه أمانهم ولما بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة اشفق ملك ايلة بجنّة بن رؤبة ان يبعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كما بعث إلى أكيدر فقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقدم معه أهل جربا واذرح قال أبو حميد الساعدي قدم ملك ايلة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فاهدى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بردا وكتب له كتابا رواه ابن أبى شيبة والبخاري وروى محمد بن عمر عن جابر قال رايت يحنة بن روبة يوم اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية فاومى برأسه فاومى إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان ارفع راسك وصالحه يومئذ وكساه بردا يمنية فاشتراه بعد ذلك أبو العباس عبد اللّه بن محمد بثلاثمائة دينار وامر له بمنزله عند بلال انتهى قالوا وقطع الجزية جزية معلومة ثلاثمائة دينار كل سنة وكانوا ثلاثمائة رجل وكتب لهم بذلك كتابا وكتب صلّى اللّه عليه وسلم لاهل اذرح كتابا وصالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه أهل مقنا على ربع ثمارهم وربع عربهم وروى ابن أبى شيبة واحمد ومسلم عن أبى حميد الساعدي قال جاء ابن العلماء صاحب ايله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب واهدى له بغلة بيضاء فكتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم واهدى له بردا روى احمد عن جابر بن عبد اللّه وابن سعد عن يحيى بن كثير انه صلّى اللّه عليه وسلم اقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وعلى ذلك جرى محمد بن عمرو ابن سعد وابن حزم وغيرهم وقال ابن عقبة وابن إسحاق بضع عشرة ليلة قال محمد بن عمر شاور
(1/3053)
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه فى التقدم يعنى من تبوك إلى الشام فقال عمر بن الخطاب يا رسول اللّه ان كنت مامورا فسر والا فللزوم جمعا كثيرا وليس بها أحد من أهل الإسلام وقد دنونا منهم وقد أفزعهم دنوك فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى أو يحدث اللّه تعالى لك امرا روى احمد والطبراني والطحاوي من طريق ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال فى غزوة تبوك إذا دفع الطاعون بأرض
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 338
(1/3054)
و أنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها قال الحافظ فى بذل الماعون لعله بلغه صلّى اللّه عليه وسلم ان الطاعون فى الجهة التي كان يقصدها وكان ذلك من اسباب رجوعه من غير قتال واخرج ابن أبى حاتم والبيهقي فى الدلايل بسند ضعيف من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم ان اليهود آتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا ان كنت نبينا فالحق بالشام فان الشام ارض المحشر وارض الأنبياء فصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قولهم فغزا غزوة تبوك فلما بلغ تبوك انزل اللّه تعالى آيات من بنى إسرائيل وان كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها فامره بالرجوع إلى المدينة روى إسحاق بن راهويه عن أبى هريرة وأبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر عن عمر بن الخطاب ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا يا رسول اللّه لو أذنت فننحر من نواضحنا « 1 » فاكلنا فلقيهم عمر بن الخطاب فامرهم ان يمسكوا عن نحرها فقال يا رسول اللّه أذنت الناس فى نحر حمولتهم يأكلونها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شكوا الىّ ما بلغ من الجوع فاذنت لهم بنحر الرفقة البعير والبعيرين ويتعاقبون فيما فضل فهم قافلون إلى أهلهم فقال عمر يا رسول اللّه انك ان فعلت قل الظهر ولكن ادع بفضل أزوادهم جميعا وادع اللّه لهم فيها بالبركة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نعم فدعا بنطع فبسط ونادى منادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من كان عنده فضل من زاد فليأت به فجعل الرجل يأتي بكف ذرة ويجئى الاخر بكسرة وجعل الرجل بالمد
(1/3055)
الدقيق أو السويق أو التمر وكان جميع ما جاؤا به سبعا وعشرين صاعا ثم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فتوضأ وصلّى ركعتين ثم دعا اللّه ان يبارك فيه قال أبو هريرة فما تركوا فى العسكر وعاء الا ملؤه وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة وقال عمر فاخذوا حتى صدروا وانه نحو ما كانوا يحرزون فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه لا يأتي بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة وفى حديث أبى قتادة عند أبى نعيم ومحمد بن عمر ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عرش ليلة
_________
(1) نواضح جمع ناضح وهو البعير الذي يستقى عليها الماء ثم استعمل فى كل بعير 12.
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 339
(1/3056)
قافلا من تبوك فتمنا فما انتبهنا الا بحر الشمس فقلنا انا للّه فاتنا الصبح فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لنغيظن الشيطان كما غاظنا فتوضأ من ماء اداوة معى ففضل فضلة فقال يا أبا قتادة احفظ بماء فى الاداوة فصلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة فلما انصرف من الصلاة قال اما انهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا وذلك ان أبا بكر وعمر أرادا ان ينزلا بالجيش على الماء فابوا ذلك عليهما فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض فركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه وقد كادت أعناق الخيل والرجال والركاب تقطع عطاشا فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالركوة فافرغ ماء من الاداوة فيها ووضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه واقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى روّوا وروّوا خيلهم وركابهم وكان فى العسكر اثنا عشر الف بعير والناس ثلثون الفا والخيل اثنى عشر الف وروى ابن إسحاق ومحمد بن عمر قالوا اقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة كان فيه وشل يخرج منه فى أسفله قدر ما يروى الراكبين أو ثلثة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه فسبق إليه اربعة من المنافقين معتب بن قثير والحارث بن يزيد ووديعة بن ثابت وزيد بن اللصيب فلما أتاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقف عليه فلم يرقيه شيئا فقال من سبقنا إلى هذا الماء فقيل فلان وفلان فقال الم أنهكم لا فلعنهم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده تحت الوشل ثم مسحه بإصبعيه ثم اجتمع منه فى كفه ماء قليل ثم نضحه به ثم مسحه بيده ثم دعا بما شاء اللّه ان يدعوا فانخرق من الماء قال معاذ بن جبل والذي نفسى بيده لقد سمعت له من شدة انخراقه سيل الصواعق فشرب الناس ما شاؤا واستقوا ما شاؤا ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه
(1/3057)
عليه وسلم للناس لئن بقيتم لتسمعن بهذا الوادي وهو اخضب مما بين يديه ومما خلفه وروى محمد بن عمر وأبو نعيم عن جماعة من أهل المغازي قال بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يسير منحدرا للشنة وهو فى قيظ شديد عطش العسكر حتى لا يوجد للشنته ماء قليل ولا كثير فشكوا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فارسل أسيد بن حضير وقال عسى
التفسير المظهري ج 4 ، ص : 340
ان تجد لنا ماء فادرك أسيد راوية من ماء مع امرأة فجاء أسيد بالماء ودعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالبركة وقال هلم أسقيتكم فلم يبق معه سقاء الا ملاؤه ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها ويقال انه صلّى اللّه عليه وسلم امر بما جاء به فصبه فى تعب عظيم فادخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيه يده وغسل وجهه ويديه ورجليه ثم صلّى ركعتين ثم رفع يديه مدا ثم انصرف وان القعب ليفور فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم للناس رووا واتسع الماء وانبسط الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان فارتوا وان القعب ليجيش بالرواء وروى الطبراني بسند صحيح عن فضالة عن عبيد ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غزا غزوة تبوك فجهد الظهر جهدا شديدا فشكوا ذلك إليه ورآهم يزحون « 1 » ظهورهم فوقف فى مضيق والناس يمرون فيه فنفخ فيها وقال اللهم احمل عليها فى سبيلك فانك تحمل على القوى والضعيف والرطب واليابس والبر والبحر فاستمرت فما دخلنا المدينة الا وهى تنازعنا أزمتها ولما اشرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة قال هذه طابت رواه الشيخان فى الصحيحين وغيرهما عن جابر وابى حميد الساعد وغيرهم فلما راى أحد قال هذا أحد جبل يحبنا ونحبه روى البيهقي عن عايشة لما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن - شعر
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا الله داع
(1/3058)
قال ابن سعد وجعل الناس يبيعون اسلحتهم يقولون قد انقطع الجهاد فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنهاهم وقال لا يزال عصابة من
أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال وكان قدومه صلّى اللّه عليه وسلم بالمدينة فى رمضان وقد خرج من المدينة إلى تبوك فى رجب سنة تسع وكان بين المدينة وتبوك نحو اربعة عشر مرحلة قال فى النور كذا قالوا وقد سرناها مع الحجيح فى اثنى عشرة مرحلة وبينها وبين دمشق احدى عشر مرحلة والحمد للّه والصلاة والسلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد وقع الفراغ من هذا التفسير المظهرى وقت العصر يوم الشنبة فى التاريخ الهفتم الشهر لذى الحجة السنة 1243 بعد الهجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلم واله وأصحابه أجمعين
_________
(1) يرجون أى يسوقون 12.
.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 1
الجزء الخامس
(1/3059)
انّ فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السّمع وهو شهيد هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتفسير المظهرى منه سورة هود عليه السّلام تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمّد ثناء اللّه العثماني الحنفي بالمظهري النقشبندي الفاني فتى رضى اللّه عنه وعن ابائه ومشائخه ولد رحمه اللّه فى سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة أو قبله بسنة أو سنتين بفانى فت ونشأ بها فحفظ القرآن وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتبحر فيها ثم ارتحل إلى الدهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا أنشأه ولىّ اللّه المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمّد عابد السنامى ثم انسلك بخدمت الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع إلى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف فى نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عديدة فى التفسير والفقه وغيرها تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها إلى اللّه وازديادا مجتهدا فى الخيرات إلى ان أدركته المنبه فتوفى فى غرة الرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة على صاحب التحية مكتبة رشيديّة سركى رود - كوئته
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرس سورة يونس عليه السّلام من التفسير المظهرى
(1/3060)
مضمون صفحه مسئلة الاستواء على العرش 7 ما ورد فى تسليم أهل الجنة بعضهم على بعض وتسليم الملائكة وتسليم الرب الرحيم عليهم - 11 حديث ان الدنيا حلوة خضرة - 14 فائدة ما ورد فى قدر عمره صلى اللّه عليه وسلم وإقامته بمكة وبالمدينة - 15 حديث دعائه صلى اللّه عليه وسلم على أهل مكة فقحطوا ثم دعا لهم بالكشف فكشف اللّه عنهم - 18 ما ورد فى البغي وقطيعة الرحم والمكر والنكث - 19 حديث جاءت الملائكة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو نائم فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا الحديث - 21 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه 21 ما ورد فى تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الزيادة النظر إلى اللّه تعالى - 221 حديث انما مثلى ومثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش وانا النذير العريان الحديث - 29 ما ورد فى اختلاف استعدادات الناس - 30 رد مذهب الجبرية - 30 تحقيق معنى الولي لغة وفى اصطلاح القرآن والصوفية وما ورد فى فضل اولياء اللّه - 38 فصل فى اسباب حصول الولاية - 39 ذكر المرادين - 40 فصل فى علامة اولياء الله - 40 فائدة ليست الخوارق والعلم بالمغيبات من لوازم الولاية - 41 بيان البشارات لاولياء اللّه فى الدنيا - 42 بشارات الصحابة بالوحى وغيرهم بالرؤيا يعنى الكشف - 43 حديث يا رسول اللّه الرجل يعمل لنفسه ويحبّه الناس قال تلك وعاجل بشرى المؤمن 43
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 3
(1/3061)
حديث من أحب لقاء اللّه أحب الله لقاءه - 44 حديث ليس على أهل لا اله الا اللّه وحشة الحديث 44 قصة نوح عليه السلام 46 قصة موسى عليه السلام 47 قيل كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام 50 مسئلة من خالجه شبهة فى الدين ينبغى ان يتسارع إلى حلها بالرجوع إلى العلماء - 54 حديث قال اللّه خلقت هؤلاء للجنة ولهؤلاء للنار - 55 ما ورد فى قبول التوبة ما لم يغرغر 56 قصة يونس عليه السلام 56 رد مذهب القدرية حيث قالوا ان اللّه يشاء ايمان الكافر - 59 حديث اوحى إلى نبي قل لاهل طاعتى ان لا يتكلوا ولاهل معصيتى ان لا يئسوا - 61 تمت.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 4
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشكرك - ونسئلك الخير فى الدّنيا والآخرة - الحقنا بعبادك الصّالحين الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - ونشهد أنّك أنت ربّنا وربّ السّماوات والأرضين ومن فيهنّ ومن عليهنّ - انّك على كلّ شىء قدير ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّد الخلائق سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى من تبعهم إلى يوم الدّين برحمتك يا ارحم الرّاحمين.
سورة يونس
مائة وتسع آية مكّيّة الّا ثلث آيات فان كنت فى شكّ ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/3062)
الر مر الكلام عليه فى أوائل سورة البقرة - قرأ ابن كثير وقالون « 1 » وحفص الر والمر بالفتح وورش بين اللفظين والباقون بالامالة تِلْكَ اشارة إلى ما تضمنته « 2 » السورة أو القرآن من الآيات - وقيل المراد بها الآيات التي نزلت قبل هذه السورة آياتُ الْكِتابِ أى القرآن والاضافة بمعنى من الْحَكِيمِ (1) وصفه به لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم - أو المعنى انه محكم آياته لم ينسخ منها شيء ان كان المراد آيات هذه السورة - أو محكم عن الكذب والاختلاف - قال الحسن حكم فيها بالعدل والإحسان وايتائ ذى القربى والانتهاء عن الفحشاء والمنكر والبغي وو حكم فيها بالجنة لمن أطاعه والنار لمن عصاه - أخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عبّاس قال لمّا بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر ذلك منهم فقالوا الله أعظم من ان يكون رسوله بشرا فانزل اللّه تعالى.
أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام انكار للتعجب - وعجبا خبر كان واسمه أَنْ أَوْحَيْنا واللام فى للناس متعلق بمحذوف حال من قوله عجبا - وفى اللام دلالة على انهم جعلوه عجوبة لهم يوجهون نحوه انكارهم واستهزاءهم - والعجب حالة يعترى للانسان من رؤية شيء على
_________
(1) الخطة من العاشر
(2) فى الأصل ما تضمنه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 5
(1/3063)
خلاف العادة ووجه الإنكار على استعجابهم ان عادة الله تعالى جارية من بدء خلق آدم عليه السلام على بعث الرسل من البشر ومن ثمّ انزل اللّه تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا - وأيضا عادة الملوك جارية بان الكتاب والخطاب يكون بلسان المخاطبين والرسول من جنس من أرسل إليهم فانه لا بد للافادة والاستفادة من المناسبة بينهما - قال الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ...
(1/3064)
إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ يعنى من احاد رجالهم دون عظيم من عظمائهم - قالوا وان كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة لَوْ لا « 1 » نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أحد اشرف من محمد صلى اللّه عليه وسلم يعنون الوليد بن مغيرة من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف فانزل الله تعالى ردا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الآية - وكان هذا من فرط حماقتهم وجهلهم بحقيقة الوحى - وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعظم وأتم وأكمل فى كرائم الأوصاف وفى كل شيء الا فى المال وخفة الحال أعون شيء فى هذا الباب ولذلك كان اكثر الأنبياء قبله كذلك أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ان هى المفسرة أو المخففة من الثقيلة فى موضع مفعول أَوْحَيْنا وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عم الانذار إذ قلّ من أحد ليس فيه ما ينبغى منه الانذار - وخص البشارة بالمؤمنين لعدم استحقاق الكفار به أَنْ أى بانّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال عطاء أى مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه - يعنى منزلة رفيعة يسبقون إليها ويقيمون فيها - سمّيت قدما لان السبق والقيام يكون بالقدم كما سميت النعمة يدا لانها تعطى باليد - واضافتها إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على انهم انما ينالونها بصدق القول والنية - واصدق القول شهادة ان لا اله الا اللّه - ويعود إلى ما قلنا ما قال ابن عباس فى تفسير القدم أى اجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم - وما قال الضحاك واى ثواب صدق فان المنزلة عند اللّه يعبر بالأجر والثواب - وقال الحسن يعنى به عملا صالحا اسلفوه يقدمون عليه - فهو بشارة بانهم يجدون عند ربهم ما قدموا من الأعمال فالقدم بمعنى التقدم - وقال أبو عبيدة كل سابق فى خير أو شر فهو عند العرب قدم يقال لفلان قدم فى الإسلام - وله عندى قدم صدق أو قدم سوء - وروى على بن أبى طلحة
_________
(
(1/3065)
1) فى الأصل لو لا انزل
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 6
عن ابن عباس هو السعادة فى الذكر الأول - وقال زيد بن اسلم هو شفاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم - قال البخاري قال زيد بن اسلم انّ لهم قدم صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم قالَ الْكافِرُونَ تعنتا وعنادا لما راوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم أمورا خارقة للعادة وسمعوا كلاما معجزا عن المعارضة إِنَّ هذا يعنى الرسول صلى اللّه عليه وسلم لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) على وزن فاعل كذا قرأ ابن كثير والكوفيون وقرا الباقون لسحر بغير الف - والاشارة حينئذ إلى القرآن - يعنى ان هذا الكلام لكونه سحرا يمنعنا عن المعارضة وجاز ان يكون الاشارة إلى كل معجزة رأوها - .
(1/3066)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الّتى هى اصول الممكنات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من ايام الدنيا أى فى قدرها ولو شاء لخلقهن فى لمحة وانما فعل ذلك لتعليم خلقه التثبت ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اجمع أهل السنة من الخلف والسلف على « 1 » ان الله تعالى منزه عن صفات الأجسام وصفات الحدوث - فلهم فى هذه الآية وأمثالها سبيلان - أحدهما تأويلها بما يليق به تعالى بناء على عطف قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على اسم اللّه فى قوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ - وقد مر البحث عليه فى سورة ال عمران - فقالوا معنى استوى استولى على العرش الذي هو أعظم المخلوقات ومحدد الجهات - وذا يستلزم استيلاءه تعالى على جميع الخلائق - وأسند البغوي تأويل الاستواء بالاستيلاء إلى المعتزلة وكلام السلف الصالح يأبى عن سبيل التأويل بل المختار عندهم الايمان بتلك الآيات وتفويض علمه إلى الله تعالى والتحاشى عن البحث عنه - قال محمد بن الحسن اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الايمان بالقران والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا شبه - فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وفارق الجماعة وقال مالك بن انس الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والسؤال عنه بدعة - فبناء على هذا السبيل نقل عن السلف القول باستوائه تعالى على العرش مع قولهم بالتنزيه الصرف قال أبو حنيفة ان الله فى السماء دون الأرض رواه البيهقي - وروى عنه من قال لا اعرف
_________
(1) فى الأصل ان الله -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 7
(1/3067)
ربّى فى اسماء أو فى الأرض فقد كفر - لان الله يقول الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وعرشه فوق سمواته - وروى عنه انه قال من أنكر اللّه فى السماء فقد كفر - وقال الشافعي ان الله على عرشه فى سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل كيف شاء - ومثل ذلك قال احمد بن حنبل - وقال إسحاق بن راهويه انه اجمع أهل العلم انه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء وهو قول المزني والذهبي والبخاري وأبو داؤد والترمذي وابن ماجة وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبيهقي وغيرهم من ائمة الحديث - وقال أبو زرعة الرازي ما ينبئ عن اجماع أهل السنة على ذلك - وقال عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ اتفقت الكلمة بين المسلمين ان الله فوق عرشه فوق سمواته - وقال سهل بن عبد اللّه التستري لا يجوز لمؤمن ان يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء ولنا عليه الرضاء والتسليم لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم انه تعالى على العرش - وقال محمد بن جرير حسب امرئ ان يعلم ان ربه الذي على العرش استوى فمن يجاوز ذلك فقد خاب وخسر وقال ابن خزيمة من لم يقر ان الله على عرشه استوى فوق سبع سمواته بائن من خلقه فقد كفر فيستتاب - فان تاب والا ضربت عنقه - وقال الطحاوي العرش والكرسي كما بيّن فى كتابه - وهو مستغن عن العرش وما دونه - محيط بكل شيء وفوقه - وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري المتكلم فى كتاب اختلاف المضلين ومقالات الاسلاميين مقالة أهل السنة واصحاب الحديث جملته قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن اللّه وما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئا - وان اللّه على عرشه كما قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وله يدان بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - وقال أبو نعيم فى الحلية طريقتنا طريقة السلف المتبعين الكتاب والسنة واجماع الامة ومما اعتقدوه ان اللّه لم يزل كاملا بجميع صفاته إلى ان
(1/3068)
قال وان الأحاديث التي ثبتت فى العرش والاستواء عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكيف ولا تمثيل - وانه بائن من خلقه - وقال ابن عبد البر ان اللّه فى السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة - وقال الخطيب مذهب السلف إثباتها واجراؤها على ظواهرها ونفى الكيفية والتشبيه عنها - وقال امام الحرمين والذي ترضيه دينا - وتدين اللّه به عقيدة اتباع سلف الائمة وذهب ائمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل واجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 8
(1/3069)
الى اللّه - وقال البغوي اما أهل السنة فيقولون الاستواء على العرش صفة اللّه بلا كيف يجب الايمان به - قال البيضاوي معناه ان له استواء على الوجه الذي عناه منزعا عن الاستقرار والتمكن - وقال أبو بكر على بن عيسى الشبلي اعلم الصوفية فى زمانه الرب فى السماء يقضى ويمضى - وقال شيخ الإسلام عبد اللّه الأنصاري فى اخبار شتى ان اللّه فى السماء السابعة على العرش - وللشيخ عبد القادر الجيلاني فى الباب كلام كثير فى الغنية هذه الأقوال كلها ذكرها الذهبي فى كتاب العلو - وذكر هذا المذهب عن جماعة كثيرة من أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن دونهم من الفقهاء والمحدثين والصوفية يطول الكلام بذكرهم وقد ذكرت هذه المسألة مختصرا فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وقد ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ما قال اصحاب القلوب من تجليات اللّه تعالى فى بعض مخلوقاته برقيات ودائميات غير مستدعيات حدوث امر فى ذاته تعالى وكونه محلا للحوادث - ولا تنزلا له سبحانه عن مرتبة التنزيه الصرف بل مبنيات على حدوث امر فى الممكن حتى يصير صالحا لذلك التجلّى - وأيضا ذكرنا مسئلة التجلّى على قلب المؤمن والكعبة الحسناء والعرش العظيم فى تلك السورة فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فليرجع إليهما من غفل عنهما يُدَبِّرُ الْأَمْرَ التدبير النظر فى ادبار الأمور حتى يأتى محمودة العاقبة - يعنى يقدر امر الكائنات على ما يقتضيه الحكمة ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع لاحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته وعز جلاله - ورد على النضر بن الحارث حيث
(1/3070)
قال إذا كان يوم القيامة يشفعنى اللات والعزى - وفيه اشارة إلى ثبوت الشفاعة لمن اذن له ذلِكُمُ أى الموصوف بتلك الصفات المقتضية للالوهية اللَّهُ مبتدأ وخبر رَبَّكُمُ خبر ثان أو خبر مبتدا محذوف والجملة بدل مما سبق يعنى هو ربكم لا غير - أو لا يشركه أحد فى شيء من ذلك فَاعْبُدُوهُ دون غيره من انسان أو ملك فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) تتفكرون ادنى تفكر فيظهر لكم انه المستحق للعبادة دون غيره مما تعبدون - .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر أو ظرف جَمِيعاً بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 9
(1/3071)
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه فان قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد من اللّه تعالى حَقًّا مصدر مؤكد لغيره وهو ما يدل عليه وَعْدَ اللَّهِ ... إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالحياة الدنيا - قرأ العامة إِنَّهُ بالكسر على الاستيناف - وقرا أبو جعفر بالفتح على معنى لأنه وهو تعليل لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً - فانه لما كان المقصود من الإبداء والاعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة - ويجوز ان يكون منصوبا بما نصب وعد اللّه أو مرفوعا بما نصب حقّا ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إهلاكه بالحياة الاخرى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أى بعدله - أو بعدالتهم وقيامهم على العدل فى أمورهم - أو بايمانهم لان الايمان عدل قويم كما ان الشرك ظلم عظيم - وهو أوجه لمقابلة قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ نهاية الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ أى مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (3) معناه وليجزى الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب اليم بسبب كفرهم - لكنه غير النظم للمبالغة فى استحقاقهم العذاب والتنبيه على ان المقصود بالذات من الإبداء والاعادة انما هو الاثابة وانه تعالى يتولى اثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه - واما تعذيب الكفار فهو واقع بالعرض كأنَّه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشوم أفعالهم - .
(1/3072)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً قرأ قنبل ضئاء وبضئآء هاهنا وفى الأنبياء والقصص على القلب - بتقديم اللام على العين - والباقون بياء منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها وهمزة متطرفة - وهو مصدر كقيام - أو جمع ضوء كسياط جمع سوط والمضاف محذوف أى ذات ضياء وَالْقَمَرَ نُوراً أى ذات نور - والنور أعم من الضوء فانه أقوى افراد النور - وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ والضمير لكل واحد أى قدر مسير كل واحد منهما منازل - أو قدر كل واحد منهما ذا منازل - أو للقمر وتخصيصه بالذكر لمعائنة منازله واناطة احكام الشرع من الصوم والزكوة والحج به - ولذلك علله بقوله لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ يعدّ الأشهر المنوطة بسير القمر وَالْحِسابَ أى حساب الأوقات من الأشهر والأيام فى معاملاتكم وتصرفاتكم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 10
الخلق إِلَّا متلبسا « 1 » بِالْحَقِّ أى لاظهار صنعته ودلالة قدرته مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة يُفَصِّلُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء على الغيبة لقوله تعالى ما خَلَقَ اللَّهُ والباقون بالنون على التكلم والتعظيم الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) أى يتدبرون.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أى فى مجيء كل منهما خلف الاخر أو فى اختلاف لونهما وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى من انواع الكائنات لَآياتٍ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته وتنزهه عن المناقص لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) العواقب فانه يحملهم على التفكر والتدبر.
(1/3073)
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أى ثوابنا فان أعظم المثوبات لقاء اللّه سبحانه ورؤيته وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا اختاروها على الاخرة وَاطْمَأَنُّوا بِها أى سكنوا إليها واقتصروا على لذائذها وزخارفها وتركوا ما يفيدهم للاخرة وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا أى عن الادلة الدالة على وجود الصانع غافِلُونَ (7) فعلى هذا المراد بالأولين أهل الكتاب من الكفار الذين يعتقدون الصانع ويعلمون البعث والنشور ومع ذلك اختاروا الدنيا على الاخرة ويئسوا من ثواب الاخرة واقتصروا على لذائذ الدنيا - وبالآخرين الذين لم يوحدوا اللّه تعالى ولا يعرفون البعث والجزاء - وقال البيضاوي المراد بالأولين من أنكر البعث ولا يرجون أى لا يتوقعون الجزاء ولم يروا الا الحيوة الدنيا - وبالآخرين من الهاهم حب العاجل عن التأمل فى الاجل والاعداد له - وقيل العطف لتغائر الوصفين والتنبيه على ان الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك فى الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم أصلا - وقال البغوي الرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع فمعنى لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا - وقال ابن عباس عَنْ آياتِنا غافِلُونَ يعنى عن محمد صلى اللّه عليه وسلم والقران غافلون معرضون.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا أولئك مبتدا مأويهم مبتدا ثان والنار خبره والجملة خبر أولئك وجملة أولئك خبر انّ يَكْسِبُونَ (8) من الكفر والمعاصي أى بما واظبوا عليه وتمرّنوا بالمعاصي - الباء فى بما كانوا متعلق بمحذوف دل عليه الكلام أى جوزوا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ يرشدهم رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ
_________
(1) في الأصل ملتبسا.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 11
(1/3074)
اى يرشدهم بسبب ايمانهم إلى سلوك سبيل يؤدى إلى الجنة - قال مجاهد يهديهم على الصراط إلى الجنة - يجعل لهم نورا يمشون به - وقيل معنى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يهديهم ربهم لدينه يعنى لادراك حقائق الدين - عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم رواه أبو نعيم فى الحلية - وقيل معناه يثيبهم ويجزيهم - أو يهديهم لما يريدونه فى الجنة - قال البيضاوي مفهوم الترتيب وان دل على ان سبب الهداية الايمان والعمل الصالح - لكن دل منطوق قوله بايمانهم على استقلال الايمان بالسببية فان العمل الصالح كالتتمة والرديف له تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أى بين أيديهم كقوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا لم يرد به انه تحتها وهى قاعدة عليه وجملة تجرى مستأنفة أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على معنى يهديهم لادراك الحقائق أو لما يريدونه فى الجنة حال كونهم كذلك وقال البغوي فيه إضمار تقديره يهديهم أى يرشد ربهم بايمانهم إلى جنات تجرى من تحتهم الأنهار فعلى هذا جملة تجرى صفة لجنات لكن يجب حينئذ تقدير ضمير فى تلك الجملة الا ان يقال فى قوله تعالى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) وضع المظهر موضع الضمير مغن عنه يعنى فيها وقال البيضاوي هذا خبرا وحال اخر منه أو من الأنهار أو متعلق بتجرى أو بيهديهم.
(1/3075)
دَعْواهُمْ أى دعاؤهم فِيها أى فى الجنات سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أى اللهم نسبحك تسبيحا أى ننزهك من كل سوء قال البغوي قال أهل التفسير هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم فى الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا سبحانك اللهم فاتوهم فى الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل فى ميل على كل مائدة سبعون الف صحفة فى كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا وإذا فرغوا من الطعام حمدوا اللّه عز وجل فذلك قوله تعالى وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقيل دعواهم أى قولهم وكلامهم فيها تلذذا سبحانك اللهم روى مسلم واحمد وأبو داود عن جابر فى حديث مرفوع ان أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها أى فى الجنّة سلام أى يحيى بعضهم بعضا بالسلام وتدخل « 1 » عليهم الملائكة من كل باب يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام ويقرأ اللّه تعالى
_________
(1) في الأصل ويدخلون.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 12
(1/3076)
عليهم السلام روى ابن ماجة وابن أبى الدنيا والدار قطنى والآجري عن جابر قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم بينا أهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فاذ الرب تبارك وتعالى اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول اللّه تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ الحديث - وروى احمد والبزار وابن حيان عن ابن عمر انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أول من يدخل الجنة من خلق اللّه فقراء المهاجرين الذين تسير بهم الثعور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول اللّه تعالى لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء ونسلم عليهم قال انهم كانوا عبادى يعبدوننى ولا يشركون بي شيئا وتسير بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ... وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
لعل المعنى انهم إذا دخلوا الجنة وماينوا عظمة اللّه تعالى مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة واللّه سبحانه بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات فحمدوا اللّه تعالى واثنوا عليه بصفات الإكرام وان هى المخففة من الثقيلة قلت وجاز ان يكون مفسرة لانّ فى الدعاء معنى القول قال البغوي يفتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد ويتكلمون بينهما بما أرادوا - .
(1/3077)
وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ أى يسرعه إليهم اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ قال ابن عباس هذا فى قول الرجل عند الغضب لاهله وولده لعنكم اللّه ولا بارك فيكم كذا قال قتادة ومعنى الآية لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الذي دعوه واستعجلوه تعجيلا كتعجيله لهم الخير حين دعوه واستعجلوه فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه ووضع استعجالهم موضع تعجيله لهم للاشعار بسرعة اجابة لهم فى الخير حتى كانّ استعجالهم به تعجيل لهم وبان المراد بالشر الشر الذي استعجلوه - قيل نزلت الآية فى النضر بن الحارث حين قال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أى لأميتوا وأهلكوا قرأ ابن عامر ويعقوب لقضى بفتح القاف والضاد على البناء
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 13
للفاعل وأجلهم بالنصب على المفعولية والباقون بضم القاف وكسر الضاد على البناء للمفعول ورفع أجلهم فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أى لا يخافون البعث والعذاب فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) جملة فنذر معطوف على فعل محذوف دل عليه الشرطية تقديره ولكن لا تعجل ولا نقضى فنذرهم امهالا واستدراجا - .
(1/3078)
وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ الشدة والبلاء دَعانا لازالته مخلصا فيه لِجَنْبِهِ ملقيا بجنبه أى مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال يعنى يدعو لازالته كائنا على أى حال كان سواء كان قائما أو قاعدا أو راقدا يعنى يدعو فورا ويستمر عليه فى جميع الأحوال فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ أى مضى على طريقه واستمر على كفره ولم يشكر كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أصله كانّه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن يعنى كان لم يكن فى ضر وبلاء ولم يدعنا قط إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ أى مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) من الانهماك فى الشهوات والاعراض عن الذكر والعبادات.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة لَمَّا ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر واستعمال القوى والجوارح فيما لا ينبغى لمّا ظرف لاهلكنا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحة عطف على ظلموا أو حال من فاعله بتقدير قد فالاهلاك ترتب على الكفر بعد تمام الحجة بمجيء الرسل كما يدل عليه قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ... وَما كانُوا أى القرون الظالمة عطف على وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ... لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي أى ما استقام لهم ان يؤمنوا لفساد استعدادهم حيث كان مبادى تعيناتهم ظلال اسم المضل فخذ لهم الله تعالى أو ما كانوا مؤمنين فى علم الله الأزلي بل كان اللّه يعلم انهم يموتون على الكفر وقيل ما كانوا معطوف على ظلموا كَذلِكَ أى مثل ذلك الجزاء وهو الإهلاك بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر بعد ما تحقق انه لا فائدة فى إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) أى نجزى كل مجرم أو نجزيكم فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وانهم هم المستحقون لهذا الاسم.
(1/3079)
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا كفار مكة خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ أى بعد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 14
القرون التي أهلكناهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) خيرا أو شرّا فيعاملكم على مقتضى أعمالكم وهل تعتبرون بهم فتصدقوا رسلنا - وكيف منصوب بتعملون لا بننظر لان معنى الاستفهام يقتضى صدر الكلام وفيه دلالة على ان المعتبر فى الجزاء جهات الافعال وكيفياتها لا هى من حيث ذواتها ولذلك يحسن الافعال تارة ويقبح اخرى عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الدنيا حلوة خضرة وان اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون - .
(1/3080)
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قال قتادة يعنى على مشركى مكة وقال مقاتل وهم خمسة عبد اللّه بن أبيّ المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد اللّه بن أبى قبيس العامري والعاص بن عامر بن هشام بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على كونها من عند اللّه تعالى قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أى لا يخافون البعث وينكرون القيامة ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أى بكتاب اخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من الثواب والعقاب بعد الموت وما نكرهه من معائب الهتنا أَوْ بَدِّلْهُ بان تجعل مكان اية آية اخرى قال مقاتل قال النفر الخمسة المذكورة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان تريد ان نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وان لم ينزلها اللّه فقل أنت من عند « 1 » نفسك أو بدله فاجعل مكان اية عذاب اية رحمة أو مكان حرام حلالا وحلال حراما قُلْ لهم يا محمد ما يَكُونُ لِي قرأ الحرميان وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أى ما يصلح لى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أى من قبل نفسى تلقاء مصدر استعمل ظرفا اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن اخر أو لان التبديل مقدور للانسان بان يقرا اية الرحمة مكان اية العذاب بخلاف إتيان قران اخر معجز مثله أو لان المراد بالتبديل هاهنا أعم من تبديل القرآن بقرآن اخر أو اية مكان اية إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ تعليل لقوله ما يَكُونُ لِي فان المتبع لغيره فى امر لا يستبد بالتصرف فيه بوجه - وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرّضوا له بهذا السؤال من ان القرآن كلامه واختراعه ولذلك
_________
(1) فى الأصل من عندك نفسك
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 15
(1/3081)
قيد التبديل فى الجواب بقوله مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي وسماه عصيانا حيث قال إِنِّي قرأ الحرميان وأبو محمد وأبو جعفر أبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتبديل عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) أى يوم القيامة وفيه ايماء بانهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح - .
(1/3082)
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك أو عدم تلاوتى عليكم لم ينزل القرآن علىّ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ أى لا أعلمكم اللّه على لسانى بِهِ قرأ البزي عن ابن كثير لادريكم بالقصر على الإيجاب ولام التأكيد يعنى لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولعلمكم به من غير قراءتى على لسان غيرى وفيه اشارة إلى انه الحق الذي لا محيص عليه لو لم أرسل به لارسل به غيرى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أى زمانا وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ أى قبل نزول القرآن ولم اتكم بشيء ما لم يوح الىّ وفيه اشارة إلى كون القرآن معجزا خارقا للعادة فان من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ولم يشاهد عالما ولم ينشأ شعرا ولا خطبة ثم قرأ عليهم كتابا بدت فصاحته فصاحة كل منطيق وعلا كل منظوم ومنثور واحتوى على قواعد الأصول والفروع واغرب عن قصص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هى عليه علم انه معلم به من اللّه تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) أى أ فلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا انه ليس من قبل نفسى بل من عند اللّه - (فائدة) لبث النبي صلى اللّه عليه وسلم فيهم قبل الوحى أربعين سنة ثم اوحى إليه فاقام بمكة بعد الوحى ثلاث عشرة سنة ثم هاجر فاقام بالمدينة عشر سنين وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة كذا روى مسلم عن ابن عباس قال محمد بن يوسف الصالحي اتفق العلماء على انه صلى اللّه عليه وسلم اقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة وانما الخلاف فى قدر إقامته بمكة بعد النبوة قبل الهجرة والصحيح انه ثلاث عشرة سنة وذكر البغوي برواية انس انه صلى اللّه عليه وسلم اقام بمكة بعد الوحى عشر سنين وتوفى وهو ابن ستين سنة وكذا روى ابن اسعد وعمرو بن شيبة والحاكم فى الإكليل عن ابن عباس قال البغوي والاول أشهر واظهر وقد روى مسلم عن انس انه قبض رسول اللّه صلى اللّه
(1/3083)
عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وكذا أبو بكر وعمر وروى أبو داؤد الطيالسي ومسلم عن معاوية بن أبى سفيان
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 16
قال قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وكذا أبو بكر وعمر وروى الشيخان عن عائشة قالت توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة قال النووي وهو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء - وروى احمد ومسلم عن عمار بن أبى عمار قال قلت لابن عباس كم اتى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم مات قال أ تحسب قلت « 1 » نعم قال امسك أربعين بعث بها وخمس عشرة اقام بمكة يأمن ويخاف وعشرة مهاجرة بالمدينة وروى الحاكم فى الإكليل عن على بن أبى زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة قال الحاكم فى الإكليل والنووي اتفق العلماء على ان أصح الروايات ثلاث وستين سنة وتأولوا الباقي على ذلك فرواية الستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسور ورواية الخمس والستين متأوّلة عليها أو حصل فيها شك وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله خمس وستون سنة ونسبه إلى الغلط وانه لم يدرك أول النبوة بخلاف الباقين - قال محمد بن يوسف الصالحي اكثر الرواة عن ابن عباس حكوا عنه رواية ثلاث وستين فالظاهر انه كان قال ذلك ثم رجع إلى ما عليه الأكثر واللّه اعلم وحكى القاضي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية شاذة انه بعث على رأس ثلث وأربعين والصواب أربعون - .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم ان له شريكا أو ولدا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها إِنَّهُ أى الشأن لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) أى لا ينجوا المشركون.
(1/3084)
وَ يَعْبُدُونَ أى كفار مكة مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ان تركوا عبادته وَلا يَنْفَعُهُمْ ان عبدوه يعنى الأصنام فانها جمادات لا تقدر على نفع ولا ضر والمعبود ينبغى ان يكون مثيبا ومعاقبا حتى يعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ الأصنام شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ يشفع لنا فيما يهمنا من امور الدنيا وفى الاخرة ان يكن بعث قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ أ تخبرونه بِما لا يَعْلَمُ وهو ان له شريكا وفيه تقريع وتهكم بهم إذ هؤلاء شفعاء وما لا يعلم اللّه لا تحقق له أصلا فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف مؤكد لنفيه وفيه اشارة إلى ان ما يزعمونه الها فهو اما سماوى كالملائكة أو ارضى كالاصنام
_________
(1) فى الأصل قال -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 17
و ليس شيء من الموجودات فيهما الا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق ان يشرك به سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) أى عن اشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركون به قرأ حمزة والكسائي تشركون بالتاء على الخطاب للكفار هاهنا وفى سورة النحل فى موضعين وفى سورة الروم والباقون بالياء على الغيبة.
(1/3085)
وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدين على الفطرة أو متفقين على الإسلام وذلك فى عهد آدم عليه السلام إلى قبيل بعثة نوح أو بعد الطوفان أو من عهد ابراهيم إلى عمر بن لحى أو على الضلال فى زمن فترة الرسل فَاخْتَلَفُوا باتباع الهوى والأباطيل أو ببعثة الرسل حين تبعهم طائفة وأصرت على الكفر اخرى وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بان جعل لكل أمة أجلا وقال الكلبي هى امهال هذه الامة وان لا يهلكهم بالعذاب فى الدنيا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بنزول العذاب فى الدنيا وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فضلا بينهم فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) قال الحسن لو لا كلمة سبقت من ربك مضت فى حكمه انه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضى فى الدنيا فادخل المؤمن الجنة والكافر النار ولكنه سبق من اللّه الاجل فجعل موعدهم يوم القيامة.
وَيَقُولُونَ يعنى كفار مكة لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أى على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ من الآيات التي اقترحوها فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير أو المعنى الغيب يعنى ما غاب عن الناس أى امره تعالى عنده فَانْتَظِرُوا نزول الآيات المقترحة أو فانتظروا بقضاء اللّه بيننا وبينكم بإظهار المحق على المبطل إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) لما يفعل اللّه بكم بجحودكم على ما نزل علىّ من الآيات العظام واقتراحكم غيرها - .
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ أهل مكة رَحْمَةً خصبا وسعة وصحة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ قحط وشدة ومرض مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال مجاهد تكذيب واستهزاء قلت المكر عبارة عن ارادة الشر بغيره على وجه الإخفاء وانما سمى تكذيب الآيات والاستهزاء بها مكرا لان الظاهر فيه تكذيب الرسول وارادة الشرّ به
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 18
(1/3086)
عليه السلام دون تكذيب اللّه سبحانه لكن الشر والتكذيب يعود إلى اللّه فانها فى الحقيقة كلامه تعالى - وقال مقاتل بن حيان مكرهم انهم لا يقولون هذا رزقنا اللّه بل يقولون سقينا بنوء كذا وقيل مكرهم احتيالهم فى دفعها والطعن فيها قيل قحط أهل مكة فلما كشف اللّه عنهم ورحمهم اسرعوا إلى الكفر والاستهزاء بايات اللّه تعالى قبل ان يؤدوا شكر النعمة روى البخاري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما راى من الناس إدبارا قال اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فاخذتهم سنة حصب كل شيء حتى أكلوا الجلود والميّت والجيف فاتى أبو سفيان فقال يا محمد انك تأمر بطاعة اللّه وصلة الرحم وان قومك قد هلكوا فادع اللّه لهم ان يكشف عنهم فدعا - وفى رواية قالوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فقيل له ان كشفت عنهم عادوا فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ربه فكشف اللّه عنهم فعادوا فانتقم اللّه منهم يوم بدر ولمّا كان كلمة إذا للمفاجاة دالة على سرعة مكرهم قال اللّه تعالى قُلِ يا محمد اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم والمكر من اللّه تعالى اما الاستدراج كما يدل عليه قول على رضى اللّه عنه من وسع اللّه عليه دنياه ولم يعلم انه مكر به فهو مخدوع عن عقله قلت يعنى من وسع اللّه عليه الدنيا وهو غير شاكر - واما الجزاء على المكر وكونه تعالى اسرع مكرا من الناس انه دبر عقابهم أو استدراجهم قيل ان يدبروا كيدهم وقيل معناه ان عذابه فى إهلاككم اسرع إليكم مما يأتى منكم فى دفع الحق فان ما أراد اللّه بكم ات لا محالة وهو قادر على ما يريد وأنتم لا تقدرون على دفع الحق إِنَّ رُسُلَنا أى حفظتنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) قرأ يعقوب يمكرون بالياء على الغيبة موافقا لما سبق والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب تحقيق للانتقام وتنبيه على ان ما دبروا فى اخفائه لم يخف عن الحفظة فضلا من ان يخفى على خالق الأشياء كلها من
(1/3087)
الاعراض والجواهر - .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أى يحملكم على السير ويمكنكم منه كذا قرأ الجمهور وقرا ابن عامر وأبو جعفر ينشركم بالنون والشين من النشر فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أى السفن الفلك لفظ مشترك بين الواحد والجمع والمراد هاهنا الجمع بدليل قوله تعالى وَجَرَيْنَ بِهِمْ أى بمن فيها عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 19
فانه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أى لينة الهبوب الموصلة إلى المقصود وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقاها رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف أى شدة الهبوب وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما علا من الماء لشدة الريح مِنْ كُلِّ مَكانٍ يجيء منه وَظَنُّوا لم يقل أيقنوا لان اليقين لا يتصور فيما يكون فى المستقبل بمجرد القرائن أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ يعنى أحاط بهم الموج والمهلكات بحيث لا سبيل إلى الخلاص كمن أحاط به العدو دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ 5 أى أخلصوا فى الدعاء لله ولم يدعوا أحدا سوى اللّه وكانت العرب لا يدعون فى الشدائد الا اللّه تعالى وقوله دَعَوُا اللَّهَ بدل اشتمال من ظنوا لان دعاءهم من لوازم ظنهم لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) هذه الجملة الشرطية اما على ارادة القول أو مفعول دعوا لأنه من جملة القول وليس الكون فى الفلك غاية للتسيير بل مضمون الجملة الشرطية بعد حتى بما فى حيزها كانّه قيل حتى إذا كان كيت وكيت مجيء الريح وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالانجاء.
(1/3088)
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ يعنى فاجئوا وسارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي أى الظلم على الناس والتجاوز عن حدود الإباحة إلى الفساد فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى مبطلين فيه تأكيد لقوله يبغون فان البغي لا يكون متلبسا « 1 » بالحق وفيه دفع لتوهم تخريب المسلمين ديار الكفار وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فانها بإذن اللّه تعالى ليجزى الفاسقين ويهديهم إلى الصلاح يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فان وباله راجع عليكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم واسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عائشة وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث من كن فيه فهى راجعة على صاحبها البغي والمكر والنكث رواه أبو الشيخ وابن مردوية فى التفسير والخطيب عن انس وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما رواه ابن لال عن أبى هريرة مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
_________
(1) في الأصل ملتبسا.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 20
اى منفعة غير باقية قرأ حفص بالنصب مصدر مؤكد أى تمتعون متاع الحيوة الدنيا أو مفعول للبغى لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار والمجرور من صلته والخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحيوة الدّنيا محذور أو ضلال - أو مفعول فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبر وقرا الباقون بالرفع على انه خبر بغيكم بعد خبر أو هو خبر وعلى أنفسكم صلة أو خبر محذوف تقديره ذاك متاع الحيوة الدّنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ بالموت أو يوم القيامة فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) بالجزاء عليه - .
(1/3089)
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أى حالها العجيبة فى سرعة زوالها واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ أى اشتبك وخالط بعضه بعضا بِهِ أى بسبب الماء نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب والثمار والبقول وَالْأَنْعامُ من الحشيش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها وبهجتها بألوان النبات والازهار وَازَّيَّنَتْ أصله تزينت كذا قرأ ابن مسعود وَظَنَّ أَهْلُها أى أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أى على الأرض بمعنى انهم متمكنون من تحصيل ثمرتها بالجزاز والقطاف والحصاد ورفع غلتها والانتفاع بها أَتاها أَمْرُنا أى قضاؤنا بضرب زرعها ببعض العاهات بعد استيقانهم انه قد سلم لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها أى زرعها حَصِيداً أى شبيها بالمحصود من أصله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أى كان لم تلبث زرعها فحذف المضاف فى الموضعين مبالغة وأقيم المضاف إليه مقامه مشتق من غنى بالمكان إذا اقام به بِالْأَمْسِ أى قبيل ذلك الزمان وهو مثل فى الوقت القريب الماضي والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات وبهجتها فجاءة وذهابها حطاما بعد ما كان غصنا وزين الأرض حين طمع فيه اهله وظنوا انه قد سلم من الجوائح لا الماء وان كان متصلا بحرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب قال قتادة معناة المتشبث بالدنيا يأتيه امر اللّه وعذابه اغفل ما يكون كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) فانهم هم المنتفعون به.
وَاللَّهُ يَدْعُوا جميع الناس إِلى دارِ السَّلامِ أى دار السلامة
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 21
(1/3090)
عن الهلاك والآفات وهى الجنة وقال قتادة السلام هو اللّه تعالى وداره الجنة وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك عن جابر قال جاءت ملائكة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو نائم فقالوا ان لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا قال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة - فقالوا اوّلوها له يفقهها قال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدا فقد أطاع اللّه ومن عصى محمدا فقد عصى اللّه محمد فرق بين الناس رواه البخاري ورواه الدارمي عن ربيعة الجرشى نحوه بلفظ قيل لى سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال فالله السيد ومحمد الداعي والدار السلام والمأدبة الجنة - وقيل المراد بالسلام التحية سميت الجنة دار السلام لان أهلها يحيّى بعضهم بعضا بالسلام والملئكة يدخلون عليهم من كلّ باب يقولون سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار ويَهْدِي من الناس مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) وهو دين الإسلام وطريق السنة وطريق الوصول إليه تعالى وفى تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشية دليل على ان الأمر غير الارادة وان الكافر لم يرد اللّه هدايته - .
(1/3091)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا العمل فى الدنيا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك فى الصحيحين من حديث عمر فى قصة سوال جبرئيل الْحُسْنى يعنى المثوبة الحسنى أى الجنة أخرج ابن مردوية عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا شهادة ان لا اله الا اللّه الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى اللّه وَزِيادَةٌ وهو النظر إلى وجه اللّه الكريم كذا روى ابن جرير وابن مردوية عن أبى موسى الأشعري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يبعث اللّه تعالى يوم القيامة مناديا ينادى بصوت يسمعه أولهم وآخرهم يا أهل الجنة ان اللّه وعدكم الحسنى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 22
(1/3092)
و زيادة الحسنى الجنة وزيادة النظر إلى وجه الرحمن وكذا روى ابن جرير وابن مردوية واللالكاني وابن أبى حاتم من طرق عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ونحوه روى ابن مردوية وأبو الشيخ واللالكاني من طريقين عن انس مرفوعا وأبو الشيخ عن أبى هريرة مرفوعا نحوه وابن جرير وابن مردوية وابن المنذر وأبو الشيخ فى تفاسيرهم واللالكاني والآجري فى كتاب الرؤية عن أبى بكر الصديق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ واللالكاني والآجري عن حذيفة ابن اليمان فى الآية نحوه واخرج هناد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ واللالكاني عن أبى موسى الأشعري نحوه وابن مردوية من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه واخرج ابن أبى حاتم واللالكاني من طريق عن عكرمة عن ابن عباس نحوه واخرج ابن أبى حاتم واللالكاني من طريق السدىّ عن أبى مالك وعن أبى صالح عن ابن عباس وعن عروة عن ابن مسعود نحوه واخرج اللالكاني هذا التفسير بأسانيده عن سعيد بن المسيب وحسن البصري وعبد الرحمن بن أبى ليلى وعامر بن سعيد البجلي وابن أبى إسحاق السبيعي وعبد الرحمن بن سابط وعكرمة ومجاهد وقتادة قال القرطبي فى كتاب الرؤية هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ومثله لا يقال الا بتوقيف روى مسلم وابن ماجة عن صهيب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول اللّه تريدون شيئا أزيدكم فيقولون الم تبيض وجوهنا الم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية وروى البغوي بسنده هذا الحديث بلفظ قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقال إذا دخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار نادى مناديا أهل الجنة انّ لكم عند اللّه موعدا يريد ان ينجزكموه فقالوا ما هذا الموعد الم تثقل موازيننا و
(1/3093)
تبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيرفع الحجاب فينظرون إلى اللّه عز وجل قال فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إليه قال القرطبي قوله فيكشف الحجاب معناه يرفع الموانع عن الرؤية عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نور العظمة والجلال فذكر الحجاب انما هو فى حق الخلق لا الخالق تعالى وتقدس وَلا يَرْهَقُ أى لا يغشى وُجُوهَهُمْ
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 23
قَتَرٌ أى غبرة فيها سواد كذا روى ابن أبى حاتم وغيره عن ابن عباس وابن مسعود وَلا ذِلَّةٌ أى هو ان كما يرهق أهل النار أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) دائمون فيها لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها - .
(1/3094)
وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوز فى الدار زيد والحجرة عمرو أو هو مبتدا خبره جزاء سيّئة تقديره جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أى نجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها وجاز ان يكون خبره كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وما بينهما اعتراض وقوله جزاء سيئة مبتدا خبره محذوف أى جزاء سيئة واقع أو مقدر بمثلها أو الخبر بمثلها على زيادة الباء وَتَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ هو ان ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ من زائدة يعنى مالهم أحد يعصمهم من سخط اللّه أو مالهم أحد من جهة اللّه أو من عنده من يعصمهم من عذاب اللّه كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً جمع قطعة مفعول ثان لاغشيت مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا مُظْلِماً حال من الليل والعامل فيه أغشيت لان العامل فى موصوفه عامل فيه أو معنى الفعل فى من الليل وقرا ابن كثير والكسائي ويعقوب قطعا ساكن الطاء أى بعضا كقوله تعالى بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وعلى هذا يصح ان يكون مظلما صفة لقطعا أو حال منه أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) احتجت المعتزلة بهذه الآية على خلود اصحاب الكبائر فى النار وردّ قولهم بان السيئات يعم الصغائر والكبائر والكفر فلو كانت الآية على عمومها لزم خلود اصحاب الصغائر أيضا ولم يقل به أحد وأيضا يأبى عنه قوله تعالى جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها فانه يقتضى ان يكون جزاء الكبائر دون الكفر فوق الصغائر فلا يتصور الحكم بالخلود على العموم فمرجع الاشارة ليس الذين كسبوا السيئات على العموم بل بعضهم وهم الكفار كما فى قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ بعد قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ وجاز ان يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الكفار لان الذين أحسنوا يتناول التفسير
(1/3095)
المظهري ، ج 5 ، ص : 24
اصحاب الكبائر من أهل القبلة فان الايمان رأس الحسنات فلا يتناولهم قسيمه ويمكن ان يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الموجودون « 1 » فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم - والمؤمنون الموجودون فى ذلك الزمان كانوا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عدول كلهم بالإجماع ما كسب أحد منهم سيّئة إلا تاب وغفر والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فالمسئ فى ذلك الزمان لم يكن الا كافرا واللّه اعلم - .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعنى الفريقين ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أى الزموا مكانكم حتّى تنظروا ما نفعل بكم أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل إلى قوله مكانكم من عامله المحذوف اعنى الزموا وَشُرَكاؤُكُمْ عطف على الضمير المذكور يعنى الأوثان فَزَيَّلْنا أى فرقنا بَيْنَهُمْ يعنى قطّعنا الوصل الّتي كانت بينهم فى الدنيا حتّى تبرّا كل معبود من دون اللّه ممن عبده وقيل معناه ميّزنا بينهم وبين المؤمنين كما فى قوله تعالى وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ... وَقالَ لهم شُرَكاؤُهُمْ يعنى الأصنام ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) بطلبنا منكم العبادة ينطق اللّه بذلك الأصنام فيشافههم بالتبرّى مكان الشفاعة الّتي كانوا يرجون منها وقيل المراد بالشركاء الملائكة والمسيح فانهم ما أمروا بها ولا رضوا بها فإذا قالت المعبودون بالباطل ذلك - قالت الكفار بلى كنا نعبدكم فيقول الأوثان.
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فانه هو العالم بكنه الأشياء إِنْ كُنَّا مخففة من الثقيلة يعنى انّا كنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ إيانا لَغافِلِينَ (29) اللام هى الفارقة وجاز ان يكون ان نافية واللام بمعنى الا يعنى ما كنا الا غافلين عن عبادتكم لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل.
(1/3096)
هُنالِكَ أى فى ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أى تختبر وتعلم ما قدمت من عمل فيعائن نفعها « 2 » وضررها قرأ حمزة والكسائي تتلوا بالتائين الفوقانيتين من التلاوة أى تقرأ صحيفتها أو من العلو أى تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو إلى النار وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ أى إلى حكمه أو إلى جزائه إياهم بما اسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أى ربهم ومتولى أمورهم على الحقيقة لا ما اتخذوه اولياء فان
_________
(1) فى الأصل الموجود [.....]
(2) فى الأصل نفعه وضرره -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 25
قيل أ ليس اللّه قد قال وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ قلنا المولى هنالك بمعنى الناصر وهاهنا بمعنى الرب والمالك وَضَلَّ عَنْهُمْ أى زال وبطل عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) من ان الهتهم يشفع لهم - أو ما كانوا يدعون انها الهة - .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بانزال المطر والبركة وَالْأَرْضِ بالانبات وقيل من لبيان من الموصولة على حذف المضاف أى من أهل السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فيسمعكم ويبصركم ما شاء إسماعه وابصاره وجرى به عادته أو من اعطاكم السمع والابصار ومن يستطيع خلقهما وتسويتهما أو من يحملهما عن الآفات مع كثرتها فى المدد الطوال وسرعة انفعالهما عن ادنى شيء وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ الحيوان مِنَ الْمَيِّتِ من النطفة والبيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ أى النطفة والبيضة مِنَ الْحَيِّ من الحيوان وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أى يقضى الأمور ويعلم عواقبها فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ خبر مبتدا محذوف أى هو اللّه يعنى لا يقدرون على اسناد هذه الأمور إلى ما يدعونه الهة لظهور بطلانه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) أنفسكم عقابه باشراككم إياه ما لا يقدر على شيء مما ذكر.
(1/3097)
فَذلِكُمُ أى من يفعل هذه الأشياء اللَّهُ المستحق للعبادة رَبُّكُمُ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان حيث خلقكم ورزقكم ودبر أموركم الْحَقُّ الثابت المتحقق الّذي لا شبهة فى وجوده ولا فى ألوهيته فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام انكار أى ليس شيء غير الحق الا الضّلال فمن يخطى الحق الّذي هو عبادة اللّه تعالى وقع فى الضلالة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) عن الحق إلى الضلال مع قيام البرهان.
كَذلِكَ يعنى كما تحققت الربوبية لله تعالى وان ليس بعد الحق الا الضلال أو كما صرف هؤلاء عن الايمان حَقَّتْ ثبتت ووجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ أى حكمه السابق لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر كلمات ربّك على الجمع والباقون بالإفراد عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا خرجوا عن حد الاستصلاح وتمردوا فى كفرهم أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 26
بدل من الكلمة أو تعليل لحقيقتها والمراد بها العدة بالعذاب - .
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الاعادة كالابداء فى الإلزام بها لظهور برهانها وان كانوا منكرين لها ولذلك امر اللّه سبحانه رسوله صلى اللّه عليه وسلم ان ينوب عنهم فى الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد اعدامه كما كان فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع قيام البرهان.
(1/3098)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بنصب الدلائل وإرسال الرسل والتوفيق إلى النظر الصحيح وخلق الهداية - والهدى كما يعدى بالى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام أيضا للدلالة على ان المنتهى هو المقصود بالهداية فقال قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ لا يستطيع ذلك غيره أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يعنى اللّه سبحانه تعالى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ممّن لا يهدى أَمَّنْ لا يَهِدِّي قرأ ابن كثير وورش وابن عامر بفتح الياء والهاء وتشديد الدال وقالون وأبو عمرو كذلك الا انهما يخفيان حركة الهاء والنص عن قالون الإسكان وقرا اليزيدي عن أبى عمرو كانّ يشم الهاء شيئا من الفتح وأبو بكر بكسر الياء والهاء وحفص ويعقوب بفتح الياء وكسر الهاء والأصل فى هذه القراءات يهتدى فادغمت التاء فى الدال وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين وكسرت الياء على قراءة أبى بكر باتباع الهاء ولم يبال « 1 » أبو عمرو بالتقاء الساكنين لان المدغم فى حكم المتحرك وقرا حمزة والكسائي بفتح الياء واسكان الهاء وتخفيف الدال من المجرد من قولهم هدى بنفسه إذا اهتدى أو بمعنى لا يهدى غيره والمعنى ا من لا يهدى غيره أو لا يهتدى بنفسه فضلا من ان يهدى غيره أحق بالاتباع ممن يهدى غيره إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء مفرغ منصوب على الظرفية يعنى لا يهدى فى شيء من الأوقات الا ان يهديه اللّه أى الا وقت هداية اللّه إياه فحينئذ يهتدى بنفسه ويهدى غيره وهذا حال اشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعزير وقيل معنى الهداية الانتقال من مكان إلى مكان اخر فيشتمل الأصنام أيضا يعنى الا ان
_________
(1) هذا التوضيح متفرع على قراءة الإسكان لا على قراءة الاختلاس أبو محمّد.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 27
(1/3099)
تحمل وتنقل يبين به عجز الأصنام فَما لَكُمْ أيها الكفار كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) بما هو باطل بالبداهة.
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه إِلَّا ظَنًّا غير مستند إلى برهان عقلى أو نقلى بل إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة والمراد بالأكثر المجموع أو من ينتمى منهم إلى تميز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي أى لا يفيد مِنَ الْحَقِّ من العلم والاعتقاد الحق شَيْئاً من الإغناء أو لا يفيد شيئا كائنا من الحق وفيه دليل على انه لا يجوز فى الاعتقاديات الاكتفاء بالظن والتقليد بل لا بد فيه من تحصيل العلم بالبرهان النقلى أو العقلي إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وعيد على الاعراض عن الحجج العقلية والنقلية اتباعا للظن والتقليد - .
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ المعجز أَنْ يُفْتَرى مصدر بمعنى المفعول خبر كان مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ أى مصدق منصوب على انه خبر لكان مقدرا أو علة لفعل محذوف تقديره ولكن أنزله اللّه لتصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعنى محمّدا صلى اللّه عليه وسلم أو الكتب المنزلة المتقدمة أو القيامة أو البعث الّذي اخبر بها الكتب المتقدمة فلا يكون كذبا وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أى تبيين لما فى اللوح المحفوظ من الحلال والحرام والفرائض والاحكام لا رَيْبَ فِيهِ منتفيا عنه صلاحية الريب لكونه معجزا مطابقا للكتب المتقدمة خبر ثالث داخل فى حكم الاستدراك أو استيناف مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) خبر اخر تقديره كائنا من ربّ العالمين أو متعلق بتصديق أو بتفصيل ولا ريب فيه اعتراض أو بالفعل المعلل بهما أو حال من الكتاب أو من ضمير فيه وفى الآية تنبيه على ما يجب اتباعه بعد المنع عن اتباع الظن.
(1/3100)
أَمْ يَقُولُونَ بل أ يقولون ومعنى الهمزة فيه للانكار افْتَراهُ اختلقه محمّد صلى اللّه عليه وسلم قُلْ يا محمّد ردّا لقولهم فَأْتُوا بِسُورَةٍ
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 28
الفاء جزاء لمقدر يعنى ان افتريته فأتوا أنتم أيضا بسورة مِثْلِهِ أى شبيها للقران فى البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فانكم مثلى فى العربية والفصاحة وأشد تمرّنا فى النظم والعبارة وَادْعُوا مع ذلك مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعوته ممّن يعينكم عليه مِنْ دُونِ اللَّهِ أى غيره تعالى فان غيره تعالى لا يقدر على إتيان مثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) فى ان محمّدا افتراه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى فأتوا فلم يقدروا على ذلك - ولمّا كان فى هذه الآية دعوتهم إلى المناظرة وطلب الحق بالتفكر فى نظم القرآن ومعانيه قال اللّه تعالى.
(1/3101)
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعنى ان كلامهم وانكارهم للقران ليس مبتنيا على التحقيق والتفكر بل كذبوا به أول ما سمعوه قبل ان يتفكروا فيه ويحيطوا بالعلم بشأنه وادراك انه ليس من جنس ان يمكن إتيانه من البشر وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أى لم يأتهم بعد العلم بعاقبة ما فى القرآن من الوعد والوعيد والاخبار بالغيوب من المبدأ والمعاد وكان يمكنهم تحصيل ذلك العلم من علماء الكتب المنزلة المتقدمة حتّى يتبين لهم صدق هذا الحديث - والمعنى ان القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ظاهر صدقه على من يتامل فيه ادنى تأمل ويتفكر ويبحث عن علومه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل سارعوا فى تكذيبه قبل ان يتدبروا فى نظمه ويتفحصوا عن معناه ومعنى التوقع فى لمّا انه قد ظهر لهم بالاخر اعجازه لما كرد عليهم التحدي وجرّبوا أقواهم فى معارضته فتضالت دونها وشاهدوا وقوع بعض ما اخبر به مطابقا لما أخبره مرارا كما فى قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا وقوله غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ وقوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ وغير ذلك فمنهم من أمن بعد ذلك ومنهم من لم يؤمن تمردا وعنادا قال اللّه تعالى يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وقال وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ... كَذلِكَ أى كما فعل هؤلاء بالقران كذلك كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى كذب
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 29
كفار الأمم الخالية كتبهم وأنبياءهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) فيه وعيد لهم ان لم يؤمنوا بمثل ما عوقب به من قبلهم.
(1/3102)
وَ مِنْهُمْ أى من المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أى يصدق به فى نفسه ويستيقن بعد التفكر فى القرآن أو المعنى ومنهم من يؤمن به فى الاستقبال بعد ما يتضح عليه حقيّة القرآن فيتوب عن كفره هذا ما دلت عليه كلمة لمّا من التوقع وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لفرط غباوته وسبق قضاء اللّه تعالى بموته على الكفر وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) بالمعاندين أو المصرين - .
وَإِنْ كَذَّبُوكَ يعنى ان أصروا على تكذيبك بعد الزام الحجة يا محمّد فَقُلْ يعنى فتبرّأ عنهم وقل لِي عَمَلِي أى جزاؤه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أى جزاؤه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ يعنى لا تؤاخذون على عملى ولا يضركم فعلى فلا تؤذوني ولا تهتموا بما فعلت وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) لا أؤاخذ بأعمالكم انما أقول لكم ما أقول نصحا لكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما مثلى ومثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش بعيني وانى انا النذير العريان فالنجا النجا فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذّبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فاهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعري قال الكلبي ومقاتل هذه الآية منسوخة باية الجهاد كقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ....
(1/3103)
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أى يلقون إليك أسماعهم الظاهرة إذا قرات القرآن وتكلمت بالحكم والشرائع لكن لا يسمعون بقلوبهم فلا يدركون حقائقها ولطائفها لفساد استعدادهم كالاصم الّذي يريد ان يسمع فلا يسمع لعدم القوة السامعة فى صماخه أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أى تقدر على اسماع الصم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) أى ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم فان الأصم العاقل ربما تفرس بالقرائن فكما لا تقدر أنت
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 30
على اسماع الصم المسلوب عنه العقل لا تقدر على استماع من سلب عن قلبه صلاحبة سماع التفكر والتدبر.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ بأبصارهم ويعائنون ادلة الصدق واعلام النبوة لكنهم لا يصدقون لعدم بصيرة فى قلوبهم أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) أى ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فانه لا يهتدى بالطريق الاولى - فيه تسلّية من اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم يقول انك لا تقدر ان تسمع من سلبت عنه السمع ولا تهدى من سلبت عنه البصر ولا ان توفق للايمان من حكمت عليه انه لا يؤمن - وتعليل للامر بالتبرّى والاعراض عنهم.
(1/3104)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) فانهم لسوء استعدادهم وفساد اختيارهم لا يقبلون هداية اللّه ورسوله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة اخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء فذلك من فقه فى دين ونفعه ما بعثني اللّه به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه الّذي أرسلت به متفق عليه من حديث أبى موسى وقيل معناه انّ اللّه لا يظلم النّاس شيئا بسلب آلات الاستدلال من العقول والحواس ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون بافسادها وتفويت منافعها وترك الاستدلال فالاية دليل على ان العبد له كسب وانه ليس مسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت الجبرية ويجوز ان يكون وعيدا لهم بمعنى ان ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من اللّه تعالى لا يظلمهم اللّه به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابها قرأ حمزة والكسائي بتخفيف لكن ورفع الناس والباقون بتشديدها والنصب - .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرأ حفص باليا على الغيبة والضمير عائد إلى اللّه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 31
(1/3105)
و الباقون بالنون على التكلم والتعظيم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قال ابن عباس فى قبورهم وقال الضحاك فى الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا والقبور لهول ما يرون والجملة التشبيهية فى موقع الحال من الضمير المنصوب فى يحشرهم أى يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث الا ساعة أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره كان لم يلبثوا قبله أو صفة لمصدر محذوف أى حشرا كان لم يلبثوا قبله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أى يعرف بعضهم بعضا كما يتعارفون فى الدنيا كان لم يتفارقوا الا قليلا وهذا حال اخر مقدرة أو بيان لقوله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون بينهم يوم يحشرهم قال البغوي هذه المعرفة حين بعثوا من القبور ثم ينقطع المعرفة إذا عاينوا اهوال القيامة - وفى بعض الآثار ان الإنسان يعرف من بجنبه ولا يكلمه هيبة وخشية قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ بالبعث على ارادة القول أى يتعارفون بينهم قائلين ذلك أو هى شهادة من اللّه تعالى على خسرانهم حيث استبدلوا الكفر بالايمان والنار بالجنة وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) بطرق استعمال ما اعطوا من اسباب تحصيل المعارف وكسب السعادة استيناف فيه معنى التعجب كأنَّه قيل ما اخسرهم.
(1/3106)
وَ إِمَّا مركبة من ان شرطية وما زائدة يعنى وان نُرِيَنَّكَ أى نبصرنك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب فى الدنيا كما أراه « 1 » يوم بدر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ان نريك عذابهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أى فنريكه فى الاخرة فهو جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف نحو فذاك ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها مجازا ولذلك رتبها على الرجوع بثم والمعنى ثم اللّه يفعل بهم على مقتضى ما شهد منهم من أفعالهم وقيل ثم هاهنا بمعنى الواو قال مجاهد كان البعض الّذي أراه قتلهم يوم بدر وسائر انواع العذاب بعد الموت.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ خلت رَسُولٌ أرسل إليهم
_________
(1) فى الأصل راه.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 32
ليدعوهم إلى الإسلام فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ وبين الرسول بِالْقِسْطِ بالعدل فاهلك المكذبون وبحي الرسول والمؤمنون بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) يعنى ما ظلمناهم فى تعذيبهم بل استحقوا ذلك وقال مجاهد ومقاتل معناه لكل أمة من الأمم رسول أرسل إليهم فإذا كان يوم القيامة وجاء رسولهم ليشهد عليهم بالكفر أو الايمان قضى بينهم بانجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين كما قال اللّه تعالى وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وقال فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً - .
وَيَقُولُونَ أى كفار مكة مَتى هذَا الْوَعْدُ الّذي تعدنا يا محمّد من العذاب إِنْ كُنْتُمْ أيها الرسول واتباعه صادِقِينَ (48) فيما وعدتم به شرط حذف جزاؤه يعنى فأتوا به قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء.
(1/3107)
قُلْ يا محمّد لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أى دفع ضر أو جلب نفع فكيف املك فى جلب العذاب إليكم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ان يقدرنى فاملكه أو المعنى لكن ما شاء اللّه كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة مضروبة فى علم اللّه تعالى لهلاكهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أى الوقت المقدر لتعذيبهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً أى لا يتاخرون منه ادنى زمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) معطوف على جملة إذا جاء أجلهم يعنى لا تستعجلوا عذابكم فسيجيء وقته وينجز وعدكم.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ يعنى أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ تعالى الّذي تستعجلونه بَياتاً وقت اشتغالكم بالنوم أَوْ نَهاراً وقت اشتغالكم بامور معاشكم - وجواب الشرط محذوف يعنى ندمتم على استعجالكم وعرفتم ما اخطأتم ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) استفهام تعجب من استعجالهم شيئا من المكروه - إذ لا شيء من المكروه ما يلائم الاستعجال - وهو متعلق بارايتم وما بينهما اعتراض - والمجرمون مظهر موضع الضمير - وضع للدلالة على ان جرمهم يقتضى ان يفزعوا - لا ان يستعجلوا جزاءه قال البغوي انهم كانوا يستعجلون العذاب ويقول
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 33
أحدهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب اليم فيقول اللّه ماذا يستعجلون أى اىّ شيء من العذاب يستعجلونه وكله مكروه - قلت وجاز ان يكون قوله ما ذا يَسْتَعْجِلُ إلخ جزاء للشرط كقولك ان أتيتك ماذا تعطينى - والمعنى ان أتاكم عذاب اللّه اىّ شيء تستعجلون حينئذ هل تستعجلون مثل ذلك العذاب وتختارون بقاءكم فيه أو تستعجلون التفصى عنه يعنى لا يستعجلون العذاب حينئذ البته.
(1/3108)
أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ العذاب الّذي يستعجلونه الظرف متعلق بقوله آمَنْتُمْ بِهِ وهذا معطوف على جزاء الشرط محذوفا كان أو مذكورا - تقديره ان أتاكم عذابه ندمتم ثم أمنتم به أى بالعذاب أو بمن اخبر به إذا ما وقع يعنى بعد وقوعه والهمزة لانكار تأخير الايمان إلى وقت لا يفيد الايمان حينئذ - أو تقديره ان أتاكم عذابه اىّ شيء تستعجلون حينئذ يعنى لا تستعجلون حينئذ بالعذاب ثم تؤمنون بالعذاب أو بمن اخبر به حين لا ينفعهم وجاز ان يكون هذا جملة شرطية معطوفة على شرطية سابقة وقوله ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ معترضة أو جزاء شرطية سابقة والمراد بالعذاب هاهنا عذاب الاخرة وبالعذاب السابق عذاب الدنيا والمعنى ارايتم ان أتاكم عذاب اللّه فى الدنيا ليلا أو نهارا تندموا أو اىّ شيء تستعجلوا حينئذ ثم إذا وقع بكم عذاب الاخرة هل تؤمنوا به حين لا ينفعكم الايمان هلا تؤمنوا حين ينفعكم وذلك فى الدنيا قبل الغرغرة آلْآنَ على إضمار القول يعنى يقال لكم حين تؤمنوا بعد رؤية العذاب فى الاخرة أو عند غرغرة الموت على وجه الإنكار الان أمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم - قرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام - والباقون بإسكان اللام وهمزة بعدها - وكلهم سهل همزة الوصل الّتي بعد همزة الاستفهام - أو قلّبها مدّة فى ذلك وشبهه - نحو قوله تعالى آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ وَالذَّاكِرِينَ - وَاللَّهُ خَيْرُ - ولم يحققها أحد منهم - ولم يجعل أحد فصلا بينها وبين الّتي قبلها بألف لضعفها وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) تكذيبا واستهزاء حال من فاعل أمنتم المقدر.
ثُمَّ قِيلَ عطف على قيل المقدر لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أى أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ أى ما تجزون إِلَّا بِما « 1 » كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) من الكفر والمعاصي.
(1/3109)
وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أى يستخبرونك يا محمّد أَحَقٌّ هُوَ يعنى ما تدعيه من التوحيد والنبوة والقران وقيام الساعة والعذاب والثواب - أم باطل تهزل به - قوله
_________
(1) فى الأصل الا ما.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 34
حق مبتدا من القسم الثاني والضمير مرتفع به على الفاعلية ساد مسد الخبر أو الضمير مبتدا وحق خبر مقدم عليه والجملة فى موضع النصب بيستنبئونك قُلْ يا محمّد إِي أى نعم وَرَبِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنَّهُ لَحَقٌّ لا شك فيه وَما أَنْتُمْ يا كفار مكة بِمُعْجِزِينَ (53) بفائتين من الذاب لان من عجز عن شيء فقد فاته - .
وَلَوْ ثبت أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ على اللّه سبحانه بالشرك أو على غيره بالتعدي ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها وما يحبّه مما هو عليها لَافْتَدَتْ بِهِ أى لجعلته فدية من العذاب من قولهم افتداه بمعنى فداه وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ قال أبو عبيدة معناه أظهروا الندامة لأنه ليس ذلك اليوم يوم تصبّر وتصنّع وقيل معناه اخفوا الندامة أى أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء وهم الاتباع خوفا من ملامتهم وتعييرهم - وقيل انهم لمّا بهتوا من رؤية عذاب لم يكونوا يحتسبوه لم يقدروا ان ينطقوا - وقيل أسروا الندامة يعنى أخلصوها لان اخفاؤها إخلاصها أو لأنه يقال سر الشيء لخلاصته من حيث انها تخفى ويضين بها وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الظالمين والمظلومين دل عليهم ذكر الظلم يعنى حكم للمظلومين على الظالمين بالعذاب بِالْقِسْطِ أى بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) بالتعذيب بلا ذنب وليس هذا تكريرا لان الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم وهذا مجازات المشركين على شركهم والحكومة بين الظالمين والمظلومين.
(1/3110)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الاثابة والتعذيب أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أى ما وعده من الثواب والعذاب كائن لا خلف فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) به لانهم لقصور عقلهم لا يعلمون الا ظاهرا من الحيوة الدنيا.
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فى الدنيا فهو يقدر عليهما فى العقبى لان القادر لذاته لا يزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحيوة والموت قابلة لهما ابدا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) بالموت والبعث.
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى القرآن على لسان محمّد صلى اللّه عليه وسلم - فانها موعظة يعنى تنبيه وتذكير يدعو إلى كل مرغوب ويزجر عن كل مرهوب - وذلك بالأوامر والنواهي فان الأمر من الحكيم العليم الجواد يقتضى حسن المأمور به
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 35
(1/3111)
فيكون مرغوبا ويترتب عليه اجر مرغوب والنهى يقتضى قبحه فهو مرهوب يترتب عليه اجر مرهوب وَشِفاءٌ أى دواء موجب للشفاء لِما فِي الصُّدُورِ أى فى صدوركم من الأمراض القلبية يعنى العقائد الفاسدة وتعلقات القلوب بما سوى اللّه تعالى - أخرج ابن مردوية عن أبى سعيد الخدري قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال انى اشتكى صدرى قال اقرأ القرآن يقول اللّه تعالى وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وله شاهد من حديث واثلة بن الأسقع أخرجه البيهقي فى شعب الايمان وَهُدىً أى اراءه طريق إلى العقائد « 1 » الحقة وسبيل الجنة ومراتب القرب من اللّه سبحانه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند اخر اية تقراها رواه احمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد اللّه بن عمرو وَرَحْمَةٌ من اللّه تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ (57) أى لمن أمن به منكم فانهم هم المنتفعون به كاسبون رحمة اللّه بتلاوته واتباعه - قال البغوي الرحمة النعمة على المحتاج فانه لو اهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال قد رحمه وان كان ذلك نعمة لأنه لم يضعها فى محتاج - .
(1/3112)
قُلْ يا محمّد شكرا له تعالى فى جواب ما قال منة عليكم بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ يعنى جاءنا الموعظة والشفاء والهداية والرحمة بفضل اللّه تعالى ورحمة منه دون استحقاق منا فَبِذلِكَ الفضل من اللّه والرحمة أو بمجيء القرآن فَلْيَفْرَحُوا تقديره فبذلك ليفرحوا فليفرحوا - والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص مجيء الكتاب أو الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أجد الفعلين لدلالة المذكور عليه - والفاء فى قوله فبذلك داخلة لمعنى الشرط كأنَّه قيل ان فرحوا بشيء فليفرحوا بذلك - أو للربط بما قبلها والدلالة على ان مجيء الكتاب الموصوف بما ذكر موجب للفرح - وقيل المراد بفضل اللّه ورحمته إنزال القرآن - وقال مجاهد وقتادة فضل اللّه الايمان ورحمته القرآن - وقال أبو سعيد الخدري فضل اللّه القرآن ورحمته ان جعلنا من اهله - أخرج أبو الشيخ وغيره عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفضل اللّه أى القرآن وبرحمته ان جعلكم من اهله - وقال ابن عمر فضل اللّه الإسلام ورحمته تزيينه فى القلوب - وقال خالد بن معدان فضل اللّه الإسلام
_________
(1) في الأصل إلى عقائد.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 36
(1/3113)
و رحمته السنن - وقيل فضل اللّه الايمان ورحمته الجنة - والباء على هذه الأقوال متعلقة بفعل يفسره ما بعده تقديره بفضل اللّه وبرحمته فليعتنوا أو ليفرحوا - وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال - وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح - قرأ يعقوب باختلاف عنه فلتفرحوا بالتاء الفوقانية على الأصل المرفوض لصيغة الخطاب فى الأمر - أخرج أبو داود عن أبيّ بن كعب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فلتفرحوا بالتاء الفوقانية هُوَ الضمير راجع إلى ذلك - أى مجيء القرآن أو فضل اللّه ورحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) من حطام الدنيا قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة - .
(1/3114)
قُلْ يا محمّد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ أى خلق لكم عبر عن الخلق بالانزال لما نيط خلقها بسبب منزل من السماء يعنى المطر - أو لأنه لما قدّر وكتب اولا فى اللوح المحفوظ ثم خلق على وفقه فكانّه انزل من اللوح - وما منصوب بانزل أو ا رايتم فانه بمعنى أخبروني مِنْ رِزْقٍ بيان لما يعنى من زرع أو ضرع - وكلمة لكم دلت على ان المراد منه ما حلّ ولذلك وبّخ على تشقيصه فقال فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ أى بعضه حَراماً وَبعضه حَلالًا ... قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ... وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا - وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فى هذا التحليل والتحريم فتقولون ذلك بحكمه أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) فى نسبة ذلك الأمور - والجملة متعلق بارايتم وقل تكرير للتؤكيد - وجاز ان يكون الاستفهام للانكار وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير افترائهم على اللّه - والمعنى ان اللّه لم يأذن لكم بل على اللّه تفترون حيث تقولون وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها ....
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اىّ شيء ظنهم يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب بالظن - يعنى ا يحسبون انهم لا يجازون عليه - لا بل كائن لا محالة وفى إبهام الوعيد تهديد عظيم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل - وهداهم بانزال الكتب وإرسال الرسل وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) هذه النعمة - ولو شكروها
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 37
اتبعوا العقل والنقل ولم يفتروا على اللّه - وجاز ان يكون معنى الآية ان اللّه لذو فضل على الناس حيث لم يستعجل بعقوبتهم فى الدنيا - .
(1/3115)
وَ ما تَكُونُ يا محمّد فِي شَأْنٍ أى امر وحال قال بعض المحققين لا يقال الشأن الا فيما يعظم من الأحوال والأمور قال البيضاوي أصله من شأنت شأنه أى قصدت قصده وَما تَتْلُوا مِنْهُ أى من الشأن لان تلاوة القرآن كان معظم شأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم - ولان القراءة يكون لشأن عظيم فيكون التقدير من اجله أو من القرآن وإضماره قبل الذكر - ثم قوله مِنْ قُرْآنٍ بيانا له تفخيم له أو المعنى ما تتلوا من اللّه - ومن فى من قرءان تبعيضية - أو مزيدة لتأكيد النفي وَلا تَعْمَلُونَ أيها الناس مِنْ عَمَلٍ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم - ولذلك ذكر من اعماله اولا ما فيه فخامة ثم عمم ما يتناول الجليل والحقير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً أى رقباء مطلعين عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أى تدخلون وتندفعون فيه أى فى العمل وقيل معناه تكثرون فيه والافاضة الدفع بكثرة وَما يَعْزُبُ قرأ الكسائي بكسر الزاء والآخرون بضمها وهما لغتان معناه لا يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ مصدر ميمى بمعنى الثقل يعنى الوزن ومن زائدة ذَرَّةٍ أى نملة صغيرة أو هباء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أى فى الوجود والإمكان واقتصر على ذكر الأرض والسماء لان أبصار العوام قاصرة عليهما وقدم الأرض لان الكلام فى حال أهلها والمقصود بيان احاطة علمه تعالى بالأشياء كلها وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) كلام برأسه مقرر لما قبله - ولا لنفى الجنس - وأصغر واكبر اسمها - وفى كتاب خبرها - قرأ حمزة ويعقوب برفع أصغر واكبر على الابتداء والخبر بابطال عمل لا لاجل التكرير والباقون بالنصب على اعمال لا - وقيل لا ولا زائدتان وأصغر واكبر معطوفان على مثقال ذرة - أو على ذرة والفتح بدل الكسر لامتناع الصرف - أو للحمل على مثقال ذرة مع الجار - والرفع للعطف على مثقال ذرة حملا على محله البعيد قبل دخول
(1/3116)
من والاستثناء « 1 » حينئذ منقطع -
_________
(1) هذا التوجيه ضعيف لان الاستثناء المنقطع والاستدراك بعد النفي اثبات فيكون المعنى ولكن يعزب فى كتاب مبين وهذا فاسد وسيجيء فى سورة سبا مثله 12 منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 38
و المراد بالكتاب اللوح المحفوظ - أو صحائف الأعمال للحفظة - .
(1/3117)
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الناس يوم القيامة من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) حينئذ بفوات مأمول - اعلم ان الولاء والتوالي فى اللغة ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما - ويستعار للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد - وفى القاموس الولي القرب والدّنو والولىّ اسم « 1 » منه بمعنى القريب والمحبّ والصديق والنصير فاعلم ان لله سبحانه بعباده بل بجميع خلقه قربا « 2 » غير متكيف كما يدل عليه قوله تعالى نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وذلك القرب هو الموجب لوجود الممكنات فما لم يحصل للممكن ذلك القرب بالواجب تعالى لم يشم رائحة الوجود فان له فى نفسه ليس - وله سبحانه بخواص عباده قرب اخر غير متكيف أيضا وذلك قرب المحبة ويتمثل هذا القرب فى عالم المثال بنظر الكشف بصورة القرب الجسماني - وهذان القربان لا اشتراك بينهما الا من حيث الاسم - وهذا القرب الثاني له درجات ومراتب غير متناهية كما يدل عليه الحديث القدسىّ - لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتّى أحببته فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به الحديث رواه البخاري عن أبى هريرة - وادنى درجات هذا القرب يحصل بمجرد الايمان قال اللّه تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا - وأعلى درجاته نصيب الأنبياء ونصيب سيدنا محمّد صلى اللّه عليه وسلم - وله صلى اللّه عليه وسلم ترقيات لا تتناهى إلى ابد الآبدين - وادنى ما يعتد به ويطلق عليه اسم الولي فى اصطلاح الصوفية والمراد بهذه الآية ان شاء اللّه تعالى من كان قلبه مستغرقا فى ذكر اللّه يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ممتليا بحب اللّه تعالى لا يسع فيه غيره وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ - فلا يحبّ أحدا
(1/3118)
الا للّه - ولا يبغض الا للّه - ولا يعطى الا لله - ولا يمنع الا لله - فهم المتحابون فى اللّه والصوفية العلية « 3 » يسمون هذه الصفة بفناء القلب - فكان ظاهره وباطنه متحليا بتقوى يقى نفسه عما يكرهه اللّه تعالى من الأعمال والأخلاق - فكان نفسه منزها عن الرذائل من الشرك الجلى
_________
(1) فى الأصل الاسم
(2) فى الأصل قرب
(3) وصّفنا الصوفية بالعلية لعلوهم درجة لاستنادهم إلى على رضى اللّه عنه فانه قطب هذا المقام 12 منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 39
و الخفي والأخفى من دبيب النمل ومن الحسد والحقد والكبر والهوى والهلع وغير ذلك متصفا بمحاسن الأعمال والأخلاق - والصوفية العلية يسمون هذه الصفة بفناء النفس ويقولون حينئذ اسلم شيطانه أشار اللّه سبحانه إلى الوصف الأول بقوله.
(1/3119)
الَّذِينَ آمَنُوا أى حقيقة الايمان فان الايمان محله القلب وكمال الايمان ان يطمئن قلبه بذكر اللّه لا يغفل عنه ساعة ولا يلتفت إلى غيره - « 1 » والى الوصف الثاني بقوله وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) اللّه تعالى بإتيان أوامره وانتهاء نواهيه « 2 » الظاهرة والباطنة - روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان من عباد اللّه لا ناسا ما هم بانبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللّه - قالوا يا رسول اللّه تخبرنا من هم - قال هم قوم تحابون بروح اللّه على غير أرحام بينهم - ولا اموال يتعاطونها - فو اللّه ان وجوههم لنور وانهم على نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرا أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - وروى البغوي بسنده عن أبى مالك الأشعري نحو ذلك وكذا روى البيهقي فى شعب الايمان - أخرج ابن مردوية عن أبى هريرة قال سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قال الذين يتحابون فى اللّه وورد مثله من حديث جابر بن عبد اللّه أخرجه ابن مردوية - (فصل) فى اسباب حصول الولاية - وهذه المرتبة اعنى ولاية اللّه تعالى انما يستفاد بالانعكاس من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط ولا بد فيه من كثرة المجالسة مع المحبة والانقياد بالنبي صلى اللّه عليه وسلم - أو بمن ينوبه - فانهما يثمران محبة اللّه تعالى وانصباغ قلبه وقالبه ونفسه بصبغ قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالبه ونفسه الّذي هو صبغة اللّه ومن احسن من اللّه صبغة وكثرة الذكر على وجه مسنون يؤيد ذلك الانعكاس لكونه موجبا لصقالة القلب المستوجب للانعكاس - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكل شيء صقالة وصقالة القلب
(1/3120)
ذكر اللّه - رواه البيهقي
_________
(1)
هر كس كه ترا شناخت جان را چه كند فرزند وعيال وخان ومان را چه كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى ديوانه تو هر دو جهان را چه كند
- منه برد اللّه مضجعه
(2) قال ابن عمر التقوى ان لا ترى نفسك خيرا من أحد - وقال المجدد للالف الثاني معرفة اللّه تعالى حرام على من يرى نفسه خيرا عن كافر الفرنج 12 منه برد اللّه مضجعه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 40
(1/3121)
عن عبد اللّه بن عمرو اللّه اعلم عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تعالى وجبت محبتى للمتحابين فىّ والمتجالسين فىّ والمتزاودين فىّ والمتباذلين فىّ - رواه مالك واحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وروى احمد والطبراني والحاكم نحوه عن عبادة بن الصامت - وعن ابن مسعود قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه كيف تقول فى رجل أحب قوما ولم يلحق بهم قال المرء مع من احبّ متفق عليه - ومعنى قوله لم يلحق بهم أى لم يعمل مثل عملهم - وفى الصحيحين عن انس نحوه وعن أبى رزين انه قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا ادلك على ملاك هذا الأمر الّذي تصيب منه خير الدنيا والاخرة - عليك بمجالس أهل الذكر وإذا خلوت فحرك لسانك ما استطعت بذكر اللّه وأحب فى اللّه وابغض فى اللّه - الحديث رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحب الأعمال إلى اللّه الحب فى اللّه والبغض فى اللّه رواه احمد وأبو داود ذكر المرادين ثم اعلم ان ما ذكرنا حال المريدين من اولياء اللّه تعالى - ومن أوليائه تعالى جماعة مرادون يدل عليه ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه إذا أحب عبدا دعا جبرئيل فقال انى أحب فلانا فاحبه قال فيحبّه جبرئيل ثم ينادى فى السماء فيقول ان اللّه يحب فلانا فاحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول فى الأرض وإذا ابغض عبدا دعا جبرئيل فيقول انى ابغض فلانا فابغضه قال فيبغضه جبرئيل ثم ينادى فى أهل السماء ان اللّه يبغض فلانا فابغضوه قال فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء فى الأرض (فصل) فى علامة اولياء اللّه - ذكر البغوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه سئل من اولياء اللّه قال الذين إذا رأوا ذكر اللّه عز وجل - وقال البغوي يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال قال اللّه
(1/3122)
تعالى ان أوليائي من عبادى الذين يذكرون بذكرى واذكر بذكرهم - وروى ابن ماجة عن اسماء بنت يزيد انها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول الا أنبئكم بخياركم قالوا بلى يا رسول اللّه قال الذين إذا راوا ذكر اللّه فائدة والسر فى ذلك ان اولياء اللّه تعالى لهم قرب ومعية بالله تعالى غير متكيفة - يقتضى ذلك ان يكون
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 41
(1/3123)
مجالستهم كالمجالسة بالله تعالى - ورؤيتهم مذكرا للّه تعالى - وذكرهم جالبا إلى ذكره تعالى - كالمرءاة إذا قوبلت بالشمس وامتلأت بنورها حصلت لها حالة إذا قوبل شيء بذلك المرآة يستضيء بها كما يستضيء بمقابلة الشمس - بل يحترق القطنة بمقابلة المرآة دون مقابلة الشمس لقرب القطنة بالمرءاة دون الشمس - وأيضا ان اللّه سبحانه أودع فى ذوات أوليائه استعداد تأثر من اللّه تعالى لقرب ومناسبة خفية غير متكيفة به تعالى - واستعداد تأثير فى الناس لاجل مناسبة جنسية ونوعية وشخصية - فذلك التأثر والتأثير يقتضى حصول حضور بالله تعالى - وذكره تعالى فيمن راهم وجالسهم بشرط عدم الإنكار نعوذ بالله منه وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أى الخارجين عن الايمان والانقياد - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى من عادى لى وليّا فقد اذنته بالحرب رواه البخاري عن أبى هريرة - وفى الباب حديث حنظلة يا رسول اللّه نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والّذي نفسى بيده لو تدومون كما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات رواه مسلم (فائدة) وليست علامة الأولياء ما زعمت العوام من خرق العادات ولا العلم بالمغيبات - فانها لا توجد فى كثير من اولياء اللّه - وقد يوجد فى غيرهم على سبيل الاستدراج وكونه فى بعضهم نادرا لا يستلزم كون ذلك علامة للولاية كيف وقد قال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ - وقال قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ - وقال قل إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ونحو ذلك - وقد قالت الصوفية
(1/3124)
العلية الكرامة حيض الرجال لا بد استتارها - ولا مزية لاحد على أحد بها - ومن ثم ندم بعض الرجال عن كثرة ظهور خرق العادات بايديهم واللّه اعلم - ومحل الّذين أمنوا النصب على المدح أو على كونه وصفا للاولياء - أو الرفع على انه خبر مبتدا محذوف يعنى هم والجملة مادحة أو على انه مبتدا خبره.
ُمُ الْبُشْرى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 42
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
(1/3125)
و ذلك ما بشر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه بالوحى عموما وخصوصا - فقال أبو بكر فى الجنة وعمر فى الجنة وعثمان فى الجنة وعلى فى الجنة وطلحة فى الجنة والزبير فى الجنة وعبد الرّحمن بن عوف فى الجنة وسعد بن أبى وقاص فى الجنة وسعيد بن زيد فى الجنة وأبو عبيدة « 1 » بن الجراح فى الجنة رواه الترمذي عن عبد الرّحمن بن عوف وابن ماجة عن سعيد بن زيد - وقال اما انك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي رواه أبو داؤد عن أبى هريرة - وقال انا أول من ينشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر رواه الترمذي عن أبى هريرة وقال لكل نبى رفيق ورفيقى فى الجنة عثمان رواه الترمذي عن طلحة بن عبيد اللّه - وقال لعلى أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدي متفق عليه عن سعد بن أبى وقاص - وقال من كنت مولاه فعلىّ مولاه رواه احمد والترمذي عن زيد بن أرقم - وقال فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبني متفق عليه عن مسور بن مخرمة - وقال الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة رواه الترمذي عن أبى سعيد وقال خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد وقال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام وقال ان عبد اللّه يعنى ابن عمر رجل صالح متفق عليه عن ابن عمر - وقال لعبد اللّه بن سلام انه من أهل الجنة متفق عليه عن سعد بن أبى وقاص - وقال الأنصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق فمن أحبهم أحبه اللّه ومن ابغضهم أبغضه اللّه - وقال نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح - وقال ان الجنة تشتاق إلى ثلاثة على وعمار وسلمان هكذا بشر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيرا من الصحابة مفصلا - وبشر اللّه سبحانه كلهم أجمعين بقوله كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وبقوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية - وبقوله صلى اللّه عليه و
(1/3126)
سلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه عن أبى سعيد الخدري - وقال أصحابي كالنجوم فبايهم اقتديتم اهتديتم رواه رزين عن عمر - وقال خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الحديث متفق عليه عن عمران بن حصين - ثم إذا مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالبشرى فى الدنيا ما بشر اللّه سبحانه
_________
(1) فى الأصل عبيدة
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 43
أولياءه بالكشف يعنى أراه فى عالم المثال فى المنام أو اليقظة وهو المراد بالرؤيا الصالحة حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يبق من النبوة الا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة رواه البخاري عن أبى هريرة - وقال البغوي روى عن عبادة بن الصامت قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال هى الرؤيا الصالحة يراها المرء أو ترى له - أخرج احمد وسعيد بن منصور والترمذي وغيرهم عن أبى الدرداء انه سئل عن هذه الآية هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
(1/3127)
قال ما سالنى عنها أحد منذ سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ما سالنى عنها غيرك منذ أنزلت هذه الآية الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له فهى بشراه فى الحيوة الدنيا وبشراه فى الاخرة الجنة له طرق كثيرة - والمراد بالرؤيا رؤيا الأولياء والصلحاء لا رؤيا العوام - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا ثلاث فبشرى من اللّه وحديث النفس وتخويف الشيطان رواه الترمذي وصححه وابن ماجة عن أبى هريرة - فان قيل الرؤيا وان كان من الأولياء والصلحاء لا يفيد القطع قلنا وان كان لا يفيد القطع لكنه يفيد غلبة الظن وذلك كاف للبشارة - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة رواه البخاري عن أبى سعيد ومسلم عن ابن عمرو عن أبى هرير واحمد وابن ماجة عن أبى رزين والطبراني عن ابن مسعود ونحوه ابن ماجة عن عوف بن مالك - وروى احمد عن ابن عمرو ابن عباس وابن ماجة عن ابن عمر الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة - وروى ابن النجار عن ابن عمر جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة - وليس المراد بالبشرى هاهنا ما بشر اللّه تعالى المؤمنين به عموما فى كتابه من جنته وكريم ثوابه كقوله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا لان البشارة بمثل هذه الآيات لا يتصور الا بعد القطع بالتوفى على الايمان وذلك غير متصور - وقيل البشرى فى الدنيا هى الثناء الحسن لما روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن الصامت قال قال أبو ذر يا رسول اللّه الرجل يعمل لنفسه ويحبّه الناس قال تلك عاجل بشرى المؤمن - واخرج مسلم نحوه بلفظ ويحمده الناس - وقال الزهري وقتادة هى نزول الملائكة بالبشارة من اللّه عند الموت قال اللّه تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وكذا قال عطاء عن ابن عباس فِي الْآخِرَةِ
(1/3128)
يعنى عند خروج نفس المؤمن
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 44
يعرج بها إلى اللّه ويبشر برضوان اللّه وعند الخروج من القبر يوم القيامة عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه انّا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان اللّه ورحمته فاحب لقاء اللّه وأحب اللّه لقاءه وان الكافر إذا حضر بشر بعذاب اللّه وعقوبته فليس شيء اكره إليه مما امامه فكره لقاء اللّه وكره اللّه لقاءه متفق عليه - وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس على أهل لا اله الا اللّه وحشة فى الموت ولا فى القبور ولا فى النشور كانّى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ رواه الطبراني - وكذا أخرج الختلي فى الديباج عن ابن عباس مرفوعا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
يعنى لا خلف لمواعيده ومن هاهنا يمكن استنباط قول الصوفية الفاني لا يردلِكَ
اشارة إلى كونهم مبشرين فى الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(64) هذه الجملة والّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه وليس من شرط الاعتراض ان يقع بعده كلام متصل بما قبله - .
وَلا يَحْزُنْكَ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاء من الافعال والباقون بفتح الياء وضم الزاء من المجرد وكلاهما بمعنى قَوْلُهُمْ أى اشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً استيناف بمعنى التعليل وبدل عليه ما قرئ بالفتح كأنَّه قيل لا تحزن ولا تبال بهم لان الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (65) بنياتهم فيجازيهم عليها.
(1/3129)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين وإذا كان هؤلاء الذين هم اشراف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد للربوبية فما لا يعقل منها أحق ان لا يكون له ند ولا شريك فهو كالدليل على قوله وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أى شركاء على الحقيقة وان كانوا يسمونها شركاء فان الشركة فى الربوبية محال ويجوز ان يكون شركاء مفعول يدعون ومفعول يتبع محذوف دل عليه قوله إِنْ يَتَّبِعُونَ
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 45
إِلَّا الظَّنَ
اى ما يتبعون يقينا انما يتبعون ظنهم أى خيالهم انها شركاء - ويجوز ان يكون ما موصولة معطوفة على من أى لله ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أو استفهامية منصوبة بيتبع والمعنى أى شيء يتّبع الّذين يدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين يعنى انهم لا يتبعون الا اللّه ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشا رأيهم وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) أى يكذبون فيما ينسبون أو يحزرون ويعتدون انها شركاء تقديرا باطلا.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وتستريحوا من تعب التردد وَالنَّهارَ مُبْصِراً أى مضيئا سببا لابصار الأشياء إِنَّ فِي ذلِكَ أى فى خلق هذه الأشياء العظام على وفق الحكمة لَآياتٍ دالة على كمال قدرة اللّه وعظيم نعمته وحكمته المتوحد بها المستحق للعبادة المختصة به لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) كلام اللّه تعالى وكلام المذكّرين سماع تدبر واعتبار.
(1/3130)
قالُوا يعنى المشركين اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وهو قولهم الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيه له عن التبني وتعجب من كلام الحمقاء حيث حكموا بامر مستحيل لا يمكن ولا يتصور هُوَ الْغَنِيُّ عما سواه لا يحتاج فى شيء من الأمور إلى شيء من الأشياء وما سواه ممكن محتاج فى وجوده وبقائه وفى كل صفة من صفاته إليه - فاى مناسبة بينه وبين ما يزعمونه ولدا فان الولد يكون من جنس الوالد أو يقال انما يطلب الولد ضعيف يتقوى به أو فقير ليستعين به أو ذليل ليتشرف به أو من يموت لبقاء جنسه والكل امارة الحاجة واللّه غنى قديم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا فكيف يتصور كون شيء ممّا فيهما ولدا له إِنْ عِنْدَكُمْ ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ أى برهان بِهذا متعلق بسلطان أو نعت له أو بعندكم كأنَّه قيل ليس عندكم فى هذا سلطان نفى لدليل معارض لما اقام من البرهان على نفى الولد أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) توبيخ على جهلهم وتنبيه على انه لا يجوز ان يقول أحد قولا لا دليل عليه وان العقائد لا بد لها من دليل قاطع يوجب العلم ولا يجوز التقليد فيها.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 46
قُلْ يا محمّد إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة الولد والشريك إليه لا يُفْلِحُونَ (69) لا يبحون من النار ولا يفوزون بالجنة.
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدا محذوف يعنى افتراءهم سبب تمتعهم فى الدنيا يقيمون به رياستهم فى الكفر أو حياتهم أو تقلبهم مناع - أو مبتدا خبره محذوف أى لهم تمنع فى الدنيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) أى بسبب كفرهم - .
(1/3131)
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ أى اقرأ يا محمّد على أهل مكة نَبَأَ نُوحٍ أى خبره مع قومه إِذْ قالَ متعلق با ذكر لِقَوْمِهِ قال البغوي هم ولد قابيل وهذا لا يتصور لان نوحا عليه السلام كان من ولد شيث عليه السلام لا من ولد قابيل - فاضافة القوم إليه يدل على كونهم من أولاد شيث عليه السلام يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أى شق عَلَيْكُمْ مَقامِي أى قيامى بينكم مدة مديدة - أو قيامى على الدعوة وَتَذْكِيرِي ايّاكم بِآياتِ اللَّهِ أى بحججه وبيناته أو آياته المنزلة فَعَلَى اللَّهِ لا على غيره تَوَكَّلْتُ أى وثقت به فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ من اجمع الأمر إذا نواه أو عزم عليه وَشُرَكاءَكُمْ قرأ يعقوب بالرفع عطفا على الضمير المرفوع المستتر فى اجمعوا وجاز للفصل يعنى اعزموا أنتم وشركاؤكم على قتلى أو إصابة مكروه بي - والباقون بالنصب اما على انه مفعول معه والواو بمعنى مع والمعنى ما مر كذا قال الزجاج - واما على انه معطوف على أمركم بحذف المضاف أى اقصدوا أمركم وامر شركائكم - واما انه منصوب بفعل مقدر أى وادعوا شركاءكم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ أى لا يكن شيء مما تقصدون بي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا من غمه إذا ستره - أو المعنى لا يكن حالكم عليكم غمّا إذا اهلكتمونى وتخلصتم عن ثقل مقامى وتذكيرى ثُمَّ اقْضُوا أى أدوا إِلَيَّ ما أردتم وَلا تُنْظِرُونِ (71) ولا تمهلونى هذا امر على سبيل التعجيز اخبر اللّه تعالى عن نوح انه كان واثقا بنصر اللّه غير خائف من كيد قومه علما منه بانهم والهتهم لا يملكون نفعا ولا ضرا الا ما شاء اللّه.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 47
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
(1/3132)
حذف جزاء الشرط وأقيم علته مقامه - تقديره فان توليتم عن تذكيرى وأعرضتم عن قولى وقبول نصحى بعد ظهور صدقه هلكتم - أو يعذبكم اللّه لكون ذلك التولي عن الحق بلا مانع عن قبوله - إذ ما سالتكم من اجر يوجب توليكم ويمنع عن قبول الحق لثقه عليكم - أو اتهامكم إياي لاجله - أو المعنى ان توليتم ظلمتم أنفسكم وما اضررتمونى بشيء - إذ ما سالتكم من اجر يفوتنى بتوليتكم بل انما يفوت عليكم الهداية إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء وكذلك حيث وقع والباقون بإسكانها أى ليس ثوابى على الدعوة والتذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلق له بكم فهو يثيبنى أمنتم أو توليتم - فيه اشارة إلى ان أخذ الاجر على تعليم القرآن ونحو ذلك لا يصلح وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) المنقادين لحكم اللّه تعالى فى الايمان والأعمال ودعوة الناس إليه وقد فعلت.
فَكَذَّبُوهُ أى أصروا على تكذيبه بعد وضوح الحق عنادا وتمردا فَنَجَّيْناهُ يعنى نوحا من الغرق وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِِ
و كانوا ثمانين وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ من الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) أى اخر امر من انذرهم الرسل فلم يؤمنوا - فيه تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذّب الرسل وتسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم.
ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ أى بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ أى كل رسول إلى قومه فَجاؤُهُمْ أى الرسل بِالْبَيِّناتِ أى بالدلائل الواضحة فَما كانُوا أى أقوام الرسل لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أى بما كذب به قوم نوح قبل مجيئهم كَذلِكَ أى كما طبعنا على قلوب قوم نوح وأقوام الرسل بعده نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) من أمتك بخذلانهم لانهماكهم فى الضلال واتباع المألوف.
(1/3133)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أى بعد تلك الرسل مُوسى بن عمران وَأخاه هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أى اشراف قومه خص الملأ بالذكر تمهيدا لبيان استكبارهم بِآياتِنا « 1 » فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباع موسى وهارون وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)
_________
(1) ليست فى الأصل بايتنا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 48
اى معتادين بالاجرام ولذلك تهاونوا برسالة اللّه سبحانه واجترءوا على ردها.
فَلَمَّا جاءَهُمُ أى فرعون وقومه الْحَقُّ أى الدين الحق مِنْ عِنْدِنا وعرفوا حقيقته بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك قالُوا أى فرعون وملاؤه من فرط تمردهم إِنَّ هذا ما جاء به موسى من المعجزات لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ظاهر انه سحر أو فائق فى قنه واضح فيما بين أشباهه.
قالَ مُوسى على سبيل التعجب والإنكار أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ للامر الثابت المتحقق من عند اللّه لَمَّا جاءَكُمْ انه سحر والسحر ثمويه لا حقيقة له - فحذف محكى القول لدلالة ما قبله عليه - ولا يجوز ان يكون المحكي أَسِحْرٌ هذا لانهم بتّوا القول بل هو استيناف بانكار ما قالوه الا ان يكون الاستفهام فيه للتقرير ويجوز ان يكون معنى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ أ تعنونه - من قولهم فلان يخاف القالة فيستغنى عن المفعول كقوله تعالى سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ... وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) أى لا يظفر - من تمام كلام موسى للدلالة على انه ليس بسحر - فانه لو كان سحرا لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة - ولان العالم به لا يسحر أو تمام قولهم ان جعل اسحر هذا محكيا - كانهم قالوا ا جئتنا بالسحر تطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون.
(1/3134)
قالُوا يعنى فرعون وقومه لموسى أَجِئْتَنا يا موسى لِتَلْفِتَنا أى لتصرفنا وقال قتادة لتلوينا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون وَتَكُونَ قرأ أبو بكر بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لَكُمَا الْكِبْرِياءُ الملك والسلطان سمى بها لا تصاف الملوك بالتكبر على الناس باستتباعهم فِي الْأَرْضِ ارض مصر وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) مصدقين فيما تدّعونه.
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ قرأ حمزة والكسائي سَحَّارٍ عَلِيمٍ (79) حاذق فيه فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ قرأ أبو عمرو وأبو جعفر السّحر بالمد على ان ما استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها والسّحر خبر مبتدا محذوف أو مبتدا خبره محذوف والجملة بدل من قوله ما جئتم به تقديره اهو السحر أو السحر هو - وقرا الجمهور بلا مد على الخبر يعنى الّذي جئتم به السحر - لا ما سماه فرعون وقومه سحرا من آيات اللّه - ويؤيده قراءة ابن مسعود
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 49
ما جئتم به سحر إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أى سيمحقه أو سيظهر بطلانه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ أى لا يثبت ولا يقوى عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) فيه دليل على ان السحر إفساد وتمويه لا حقيقة.
له وَيُحِقُّ اللَّهُ أى يثبت ويقوى الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ باياته وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82).
(1/3135)
فَما آمَنَ لِمُوسى أى لم يصدق موسى مع ما جاء به من الآيات وأبطل سحر السحرة إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ قيل ضمير قومه راجع إلى موسى يعنى مومنى بنى إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه - قال مجاهد كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بنى إسرائيل هلك الآباء وبقي الأبناء ولذا سموا ذرية - وقيل هم قوم نجوا من قتل فرعون لمّا امر بقتل أبناء بنى إسرائيل كانت المرأة من بنى إسرائيل إذا ولدت ولدا وهبته للقبطية خوفا من القتل فنشئوا عند القبط واسلموا فى اليوم الّذي غلب موسى السحرة - وقال آخرون الضمير راجع إلى فرعون روى عطية عن ابن عباس قال هم أناس يسيرون من قوم فرعون أمنوا منهم امراة فرعون ومؤمن ال فرعون وخازن فرعون وامراة خازنه وما شطته - كذا أخرج ابن جرير عنه وعن ابن عباس رواية اخرى انهم سبعون أهل بيت من القبط من ال فرعون أمهاتهم من بنى إسرائيل فجعل الرجل يتبع امه وأخواله - قال الفراء سموا ذرية لان آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بنى إسرائيل كما يقال لاولاد أهل الفرس الذين سقطوا إلى اليمن الأبناء لان أمهاتهم من غير جنس ابائهم عَلى خَوْفٍ أى مع خوف مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد من ضمير العظماء - أو على ان المراد بفرعون اله كما يقال ربيعة ومضر والمعنى مع خوف من ال فرعون واشراف قومهم أو للذرية أو للقوم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أى يعذبهم فرعون وهو بدل من فرعون أو مفعول خوف وافراده بالضمير للدلالة على ان الخوف من الملأ كان بسببه وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ غالب متكبر فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) المجاوزين الحد حتّى ادعى الربوبية مع كونه عبدا مخلوقا محتاجا - واسترقّ أبناء الأنبياء.
(1/3136)
وَ قالَ مُوسى لما راى خوف المؤمنين من فرعون يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أى ثقوا به واعتمدوا عليه ولا تخافوا من فرعون وملائه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) جزاؤه محذوف
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 50
دل عليه السياق يعنى ان كنتم مستسلمين لقضاء اللّه مخلصين له توكلتم عليه - وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالايمان وجوب التوكل فانه المقتضى له - والمشروط بالإسلام حصوله فان التوكل على اللّه لا يحصل ما لم يسلموا نفوسهم لله أى يجعلوها له سالمة خالصة بحيث لا يكون حظ للهوى ولا للشيطان فيها - لان التوكل لا يحصل مع التخليط وهو من مقامات الصوفية.
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فانهم كانوا مخلصين أصحابا لرسول رب العالمين على نبينا وعليه الصلاة والسلام - ثم دعوا ربهم وقالوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أى موضع فتنة وعذاب لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) أى لا تسلطهم علينا فيفتنوننا ويعذبوننا - أو المعنى لا تجعلنا سببا لزيادة طغيانهم وكفرهم بان تعذبنا بعذاب من عندك أو بايدى قوم فرعون فيقول قوم فرعون لو كان هؤلاء على الحق ما عذبوا وظنوا انهم خير منا.
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) من كيدهم وشوم مشاهدتهم وفى تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على ان الداعي ينبغى ان يتوكل اولا ليجاب دعوته قلت بل على ان التوكل من صفات اللازمة للصوفى والدعاء من عوارضه - .
(1/3137)
وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ هارون أَنْ تَبُوءَ أى تتخذا مباة ومرجعا من غيرها من الأماكن إليها للسكنى والعبادة لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً قال البغوي قال اكثر المفسرين كانت بنوا إسرائيل لا يصلون الا فى كنائسهم وبيعهم وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى امر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فيها فامرهم اللّه ان يتخذوا مساجد فى بيوتهم ويصلّوا فيها خوفا من ال فرعون هذا قول ابراهيم النخعي وعكرمة عن ابن عباس - وقال مجاهد خاف موسى ومن معه من فرعون فى الكنائس الجامعة فامروا ان يجعلوا فى بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما بُيُوتَكُمْ الّتي تبوأتما لهم قِبْلَةً يعنى مصلّى متوجهة نحو القبلة يعنى الكعبة - روى ابن جريج عن ابن عباس قال كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيوذوهم وَبَشِّرِ يا موسى الْمُؤْمِنِينَ (87) ان يهلك اللّه عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فى الدنيا - ويورثكم الجنة فى العقبى - شنّى الضمير اولا لان التبوء
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 51
القوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رءوس القوم بتشاورهم - ثم جمع لان جعل البيوت مساجد واقامة الصلاة يجب على كل أحد - ثم وحّد لان البشارة وظيفة صاحب الشريعة وقال البغوي بشّر المؤمنين خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم.
(1/3138)
وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً أى ما يتزين به الناس من اللباس والحلي والفرش والأثاث والمراكب والخدم والحشم وغيرها وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ اللام فى ليضلوا للعاقبة متعلقة باتيت يعنى حتّى صار عاقبة أمرهم الضلال والطغيان كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً - وقيل هى لام كى أى أتيتهم استدراجا ليثبتوا على الضلال - أو لانهم لما جعلوها سببا للضلال فكانما اوتوها « 1 » ليضلوا - فيكون كلمة ربنا تكريرا للاول تأكيدا للالحاح فى التضرع - قال الشيخ أبو منصورا لما تريدى إذا علم منهم انهم يضلون الناس عن سبيله أتاهم ما أتاهم ما أتاهم ليضلوا عن سبيله - وهو كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فيكون الآية حجة على المعتزلة فى القول بوجوب الأصلح واللطف على اللّه تعالى - وقال البيضاوي قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء عليهم بلفظ الأمر رَبَّنَا اطْمِسْ أى امحق عَلى أَمْوالِهِمْ باهلاكها كذا قال مجاهد - وقال اكثر أهل التفسير امسخها وغيّرها عن هيئتها - قال قتادة صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا - ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا ال فرعون فاخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة وانها لحجر - وقال السدى مسخ اللّه تعالى أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والاطعمة وكانت احدى الآيات التسع وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يعنى اقسها واطبع عليها حتّى لا تلين ولا تنشرح للايمان - انما دعا عليهم لمّا ايئس من ايمانهم وعلم بالوحى انهم لا يؤمنون - فاما قبل ان يعلم بانهم لا يؤمنون فلا يجوز له ان يدعو بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم ليدعوهم بالايمان فان قيل بعد ما علم انهم لا يؤمنون
(1/3139)
اىّ فائدة فى الدعاء عليهم قلنا لعل ذلك للبغض بأعداء اللّه فى اللّه وذلك مقتضى طبيعة الايمان - أو يكون ذلك امتثالا لامر اللّه تعالى ونظير ذلك قولك لعن اللّه إبليس مع ان ذلك معلوم انه ملعون امتثالا لقوله تعالى إِنَّ الشَّيْطانَ
_________
(1) فى الأصل أتوها [.....]
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 52
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ... فَلا يُؤْمِنُوا منصوب على انه جواب للدعاء - أو على انه معطوف على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض وقال الفراء مجزوم على انه دعاء بلفظ النهى كأنَّه قال اللهم فلا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) بعد الموت كذا قال السدى.
قالَ اللّه تعالى لموسى وهارون قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما نسبت الدعوة إليهما لأنه روى ان موسى كان يدعو وهارون يؤمّن والتأمين دعاء - قال البغوي وفى بعض القصص كان بين دعاء موسى والاجابة أربعين سنة فَاسْتَقِيما على الرسالة والدعوة وامضيا لامرى إلى ان يأتيهم العذاب وَلا تَتَّبِعانِّ نهى بالنون الثقيلة ومحله جزم - وقرا ابن ذكوان بالنون الخفيفة - وكسر النون لالتقاء الساكنين سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) أى طريق الجهلة فى الاستعجال أو عدم الوثوق وعدم الاطمينان بما وعد اللّه سبحانه - .
(1/3140)
وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أى جوّزناهم وعبرناهم حتّى بلغوا الشطّ وفاعل هاهنا بمعنى فعل نحو عاقب امير اللص - وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه فَأَتْبَعَهُمْ أى لحقهم وأدركهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ يقال اتبعه وتبعه إذا أدركه ولحقه واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به وقيل هما واحد بَغْياً وَعَدْواً أى باغين وعادين أو للبغى والعدو - وقيل بغيا فى القول وعدوا فى الفعل فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبرئيل عليه السلام على فرس أنثى وخاض البحر فاقتحمت الخيول خلفه حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وانطبق عليهم الماء لمّا دخل آخرهم وهمّ أولهم ان يخرج قالَ فرعون آمَنْتُ أَنَّهُ أى بانه وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على إضمار القول أو الاستيناف بدلا وتفسيرا لآمنت لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) فدسّ جبرئيل عليه السلام فى فيه من حماة البحر فمات قبل ان تقبل توبته - نكب الشقي عن الايمان أو ان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل فقال اللّه تعالى على سبيل الإنكار.
آلْآنَ يعنى ا تؤمن الان حين أيست من الحيوة ولم يبق لك اختيار وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ذلك مدة عمرك وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) الضالين المضلين عن الايمان - قال البغوي روى عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لمّا أغرق اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 53
(1/3141)
فرعون قال امنت انّه لا اله الّا الّذي امنت به بنوا اسراءيل فقال جبرئيل يا محمّد فلو رايتنى وانا أخذ من حال البحر فادسّه فى فيه مخافة ان تدركه الرحمة فائدة زعم جلال الدين الدواني ان فرعون مات مسلما حيث اتى بكلمة التوحيد حال حياته - وقد اتبع هو فى هذا القول الشيخ الاجل محى الدين ابن « 1 » العربي قدس اللّه سره حيث قال مات فرعون طاهرا - والحق ان قول الشيخ هذا مصروف عن الظاهر وكثير من كلماته السكرية لا تطابق الشرع وهذا القول خارق للاجماع - ومخالف للصحاح من الأحاديث قال الدواني كل ما فى القرآن من الوعيد بالنار انما جاء فى حق ال فرعون دون نفسه - قال اللّه تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ - وقال اللّه تعالى فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ - وقال وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ - واما فرعون فلا يعذب على كفره فانه قد أمن من بل على عصيانه وظلمه فى حق العباد فان حقوق العباد لا يغفرها اللّه - قلت وهذا ليس بشيء فان اللّه سبحانه قال فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فانه صريح فى كونه معذبا فى الاخرة لاجل كفره وما قال اللّه تعالى حكاية عن موسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا إلى قوله اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا - وقوله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما صريح فى ان موسى دعا على فرعون ان يموت على الكفر وقد أجيبت دعوته - فانكار موته على الكفر انكار لهذه الآية نعوذ بالله منه.
(1/3142)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أى نلقيك بنجوة من الأرض وهى المكان المرتفع - أو المعنى نبعدك مما وقع قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا - وقرا يعقوب ننجيك بالتخفيف من الافعال بِبَدَنِكَ أى ببدنك عاريا من الروح أو كاملا سويّا أو عريانا عن اللباس أو بدرعك - وكانت له درع مشهور من ذهب مرصع بالجواهر - قال البغوي لما اخبر موسى قومه بهلاك فرعون قال بنوا إسرائيل مامان فرعون - فامر اللّه البحر فالقى فرعون على الساحل احمر قصيرا كأنَّه ثور فراه بنوا إسرائيل وعرفوه بدرعه فصدقوا لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ أى من ورائك آيَةً أي عبرة وعظة - أو اية دالة على طريقة التوحيد مظهرا لعجز البشر وان كان ملكا فانه كان فى نفوس بنى إسرائيل متخيّلا متمكنا انه لا يهلك حتّى شكّوا فى موته حين أخبرهم موسى عليه السلام إلى ان عاينوه مطروحا على ممرهم من الساحل أو لمن يأتى بعدك من القرون إذا سمعوا مال أمرك ممن شاهدك ونكالا عن الطغيان وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى الكفار عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (54) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها -
_________
(1) فى الأصل محى الدين العربي -
.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 54
.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 54
(1/3143)
وَ لَقَدْ بَوَّأْنا أى أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أى منزلا صالحا يعنى مصر وقيل الأردن وفلسطين وهى الأرض المقدسة الّتي كتب اللّه ميراثا لابراهيم وذريته وقال الضحاك هى مصر والشام وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا أى بنوا إسرائيل الذين كانوا فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى امر محمّد صلى اللّه عليه وسلم قبل مجيئه بل كان كلهم متفقين على انه رسول اللّه منعوت بصفات مكتوبة فى التورية مبشرين الناس بقرب ظهوره مستفتحين به على الذين كفروا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أى معلومهم وهو محمّد صلى اللّه عليه وسلم كالخلق بمعنى المخلوق فى قوله تعالى هذا خَلْقُ اللَّهِ أو المعنى حتّى جاءهم العلم بانه هو بمطابقة صفاته بما ذكرت فى التورية وظهور معجزاته فحينئذ اختلفوا فامنت طائفة منهم وكفرت طائفة عنادا وحسدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فيميّز المحق من المبطل بالانجاء والإهلاك.
(1/3144)
فَإِنْ كُنْتَ أيها الإنسان فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القرآن والهدى على لسان رسولنا محمّد صلى اللّه عليه وسلم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك يعنى من أمن من أهل الكتب كعبد اللّه بن سلام وأصحابه يشهدون لك انه موعود فى التورية والإنجيل مطابق فى قصصه واصول أحكامه بالكتب المتقدمة - فهذا خطاب مع أهل الشك من الناس - وكان الناس فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين مصدق ومكذب وشاك - وفيه تنبيه على انه من خالجه شبهة فى الدين ينبغى ان يتسارع إلى حلها بالرجوع إلى الصالحين من أهل العلم - وقيل هذا خطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على سبيل الفرض والتقدير أو لزيادة تثبيته يدل عليه ما أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال بلغنا انه صلى اللّه عليه وسلم قال لا أشك ولا اسئل - وقيل خطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به غيره على عادة العرب فانهم قد يخاطبون الرجل ويريدون به غيره كقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ خاطب به النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به المؤمنون بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً حيث لم يقل بما تعمل - وقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ - وقال الفراء علم اللّه سبحانه ان رسوله صلى اللّه عليه وسلم غير شاكّ لكنه ذكره على عادة العرب يقول أحدهم لعبده ان كنت عبدى فاطعنى ويقول لولده ان كنت ولدي فافعل كذا ولا يكون ذلك على وجه الشك لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ يعنى ما أنزلنا إليك امر ثابت متحقق مِنْ رَبِّكَ ثبت ذلك عندك بالآيات الواضحة والبراهين القاطعة
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 55
بحيث لا مدخل للمرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.
(1/3145)
وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) الخطاب فى هذا كالخطاب فى ما سبق اما للشاكين من الناس أو للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمراد به غيره أو للرسول على سبيل الفرض - أو الفرض منه التثبيت وقطع الاطماع عنه كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ - .
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ أى وجبت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يعنى قوله حين أخذ الميثاق ان هؤلاء للنار - روى مالك والترمذي وأبو داؤد عن مسلم بن يسار قال سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الآية قال عمر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسئل عنها فقال ان اللّه خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون الحديث - وروى احمد عن أبى نصرة عن رجل من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يقال له أبو عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اللّه عز وجل قبض بيمينه قبضة واخرى باليد الاخرى وقال هذه لهذه يعنى للجنة وهذه لهذه يعنى للنار ولا أبالي. لا يُؤْمِنُونَ (97) إذ لا نقض لقضاء اللّه تعالى.
وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ دالة على الصدق موجبة للايمان فان السبب الأصلي لايمانهم انما هو تعلق ارادة اللّه تعالى به ولم يوجد - وجملة لو جاءتهم مع معطوفة عليها مقدرة فى محل الحال من فاعل لا يؤمنون - تقديره لا يؤمنون لو لم يجئهم ولو جاءتهم كل اية يعنى لا يؤمنون فى حال من الأحوال حذف ما حذف لدلالة المذكور عليه حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فى القبر أو فى النار أو حالة الغرغرة وحينئذ لا ينفعهم الايمان كما لم ينفع ايمان فرعون حالة الغرغرة.
(1/3146)
فَلَوْ لا أى فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ أى أهل قرية من القرى الّتي أهلكناها آمَنَتْ قبل معاينة العذاب ولم يؤخر إلى حالة الغرغرة كما اخر فرعون فَنَفَعَها إِيمانُها أى قبلها اللّه منها - عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي - وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قالوا يا رسول اللّه وما الحجاب قال ان تموت النفس وهى مشركة رواه احمد والبيهقي فى كتاب البعث والنشور إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع يعنى لكن قوم يونس أمنوا فنفعهم ايمانهم وجاز ان تكون الجملة فى معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 56
(1/3147)
فيكون الاستثناء متصلا - والمعنى ما أمن « 1 » أحد من أهل قرية عاصية قبل معائنة العذاب الأخروي حالة الغرغرة الا قوم يونس فانهم أمنوا قبل حالة الغرغرة وقبل رؤية العذاب الأخروي لَمَّا آمَنُوا فى حالة الاختيار قبلنا منهم الايمان أخرج ابن مردوية عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى هذه الآية قال لما أمنوا دعوا وكَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ فى الدنيا إِلى حِينٍ (98) أى وقت معين معلوم عند اللّه تعالى وهو وقت اجالهم - وقال البغوي تأويل هذه الآية انه لم يكن قرية امنت عند معائنة العذاب فنفعها إيمانها فى حالة البأس الا قوم يونس - فانهم نفعهم ايمانهم فى ذلك الوقت - ثم قال واختلفوا فى انهم هل رأوا العذاب عيانا اولا - فقال بعضهم راوا دليل العذاب والأكثرون على انهم راوا العذاب عيانا - بدليل قوله تعالى كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ - والكشف يكون بعد الوقوع - وكلام البغوي هذا يفيد ان الايمان فى حالة العذاب الدنيوي لا يقبل ولم يقبل الا من قوم يونس وتسمى تلك الحالة حالة البأس - والصحيح ان المراد برؤية العذاب الأليم المانع من قبول الايمان رؤية العذاب الأخروي عند حضور الموت حين يرى ملائكة الموت - الا ترى ان الكفار عذبوا يوم بدر بالعذاب الدنيوي من القتل والاسر وغير ذلك ثم أمن بعض من بقي منهم حيّا - وكذا كان حال قوم يونس انهم أمنوا قبل رؤية العذاب الأخروي فقبل اللّه تعالى ايمانهم بعد ما رأوا العذاب فى الدنيا - ثم لما أمنوا كشف اللّه عنهم عذاب الخزي فى الحيوة الدنيا واما ايمان فرعون فلم يقبل اما لكونه عند الغرغرة واما لعدم خلوصه إلى قلبه بسبب دعاء موسى اشدد على قلوبهم - وقد كان من عادة فرعون وقومه انهم كلّما وقع عليهم الرجز قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ
(1/3148)
لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ وكان كلّما كشف اللّه عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فلعله أمن فرعون حينئذ أيضا بلسانه دون قلبه فلم يقبل منه - وقد ذكرنا مسئلة قبول التوبة قبل خالة الغرغرة فى سورة النساء فى قوله تعالى إِنَّمَا « 2 » التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ الآية وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الآية (قصة يونس عليه السلام) على ما ذكره البغوي عن ابن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم ان قوم يونس كانوا بنينوى من ارض الموصل - فارسل اللّه تعالى إليهم
_________
(1) فى الأصل ما امنت -
(2) وفى الأصل انّما التوبة على الذين إلخ -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 57
(1/3149)
يونس عليه السلام يدعوهم إلى الايمان - فدعاهم فابوا فقيل له أخبرهم ان العذاب مصبّحهم إلى ثلاث فاخبرهم بذلك - فقالوا انا لم نجرّب عليه كذبا - فانظروا فان بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء - وان لم يبت فاعلموا ان العذاب مصبّحكم - فلما كان جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم - فلما أصبحوا تغشّاهم العذاب فكان فوق رءوسهم قدر ميل - وقال وهب غامت السماء غيما اسود هائلا - يدخن دخانا شديدا - فهبط حتّى غشّى مدينتهم واسودت سطوحهم - فلما راوا ذلك أيقنوا بالهلاك - فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه - فقذف اللّه فى قلوبهم التوبة - فخرجوا إلى الصعيد بانفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم - ولبسوا المسوح وأظهروا الايمان والتوبة - وأخلصوا النية وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والانعام - فحنّ بعضها إلى بعض وعلت أصواتها واختلطت أصواتها بأصواتهم وعجّوا وتضرّعوا إلى اللّه عز وجل وقالوا أمنا بما جاء به يونس - فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم وذلك يوم عاشوراء - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان قوم يونس كانوا بنينوى من ارض الموصل فذكر نحوه - وفيه فلما عرف اللّه الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى كشف اللّه عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم ولم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل - واخرج ابن أبى حاتم عن على رضى اللّه عنه قال تيب على قوم يونس يوم عاشوراء وكان يونس قد خرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا - وكان من كذب ولم يكن له بينة قتل فقال يونس كيف ارجع إلى قومى وقد كذبتهم - فانطلق عاتبا على ربه مغاضبا لقومه - فاق البحر فإذا قوم يركبون سفينة فعرفوه فحملوه بغير اجر - فلما دخلها وتوسطت بهم ولججت وقفت السفينة لا ترجع ولا تتقدم فقال أهل السفينة ان لسفينتنا لشأنا قال يونس قد عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة - قالوا « 1 » ومن
(1/3150)
هو - قال انا اقذفونى فى البحر - قالوا ما كنا لنطرحك من بيننا حتّى نعذر فى شأنك - فاستهموا فاقرعوا ثلاث مرات فادحض سهمه - والحوت عند رجل السفينة فاغرقاه ينتظر امر ربه فيه - فقال يونس انكم واللّه لتهلكن جميعا أو لتطرحونى فيه - فقذفوه فيه فانطلقوا وأخذت الحوت - وروى ان اللّه تعالى اوحى إلى حوت عظيم
_________
(1) فى الأصل قال -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 58
(1/3151)
حتّى قصد السفينة فلما راه أهل السفينة مثل الجبل العظيم وقد فغرفاه ينظر إلى من فى السفينة كانّه يطلب شيئا خافوا فلما راه يونس عليه السلام زخ نفسه فى الماء - وعن ابن عباس رضى اللّه عنه انه خرج مغاضبا لقومه - فاتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها - فلما لججت السفينة تكافت حتّى كادوا ان يغرقوا - فقال الملاحون هاهنا رجل عاص أو عبد ابق وهذا رسم السفينة إذا كان فيها ابق لا تجرى - ومن رسمنا ان نقترع فى مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه فى البحر - ولان يغرق واحد خير من ان تغرق السفينة بما فيها - فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فى كلها على يونس - فقام يونس فقال انا الرجل العاصي والعبد الآبق فالقى نفسه فى الماء - فابتلعه حوت ثم جاء حوت اخر اكبر منه وابتلع هذا الحوت - واوحى اللّه إلى الحوت لا تؤذى منه شعرة فانى جعلت بطنك سبحنه ولم نجعله طعاما لك - وروى عن ابن عباس قال نودى الحوت انا لم نجعل يونس لك قوتا وانما جعلنا بطنك له حرزا ومسجدا - وروى انه قام قبل القرعة قال انا العبد العاصي الآبق - قالوا من أنت - قال يونس بن متّى - فعرفوا فقالوا لا نلقينك يا رسول اللّه ولكن نساهم - فخرجت القرعة عليه فالقى نفسه فى الماء - قال ابن مسعود ابتلعه الحوت فاهوى به إلى قرار الأرض السابعة وكان فى بطنه أربعين ليلة - فسمع تسبيح الحصى فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ - فاجاب اللّه له فامر الحوت فنبذه على ساحل البحر كالفرخ الممعط - فانبت اللّه عليه شجرة من يقطين وهو الدباء فجعل يستظل تحتها ووكّل اللّه به وعلة يشرب من لبنها - فيبست الشجرة فبكى عليها - فاوحى اللّه تعالى إليه تبكى على شجرة يبست ولا تبكى على مائة الف أو يزيدون وأردت ان اهلكهم - فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى فقال من أنت يا غلام - قال من قوم يونس - قال إذا رجعت إليهم فاخبرهم انى لقيت
(1/3152)
يونس - فقال الغلام قد تعلم انه ان لم يكن بينة قتلت قال يونس تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة - فقال له الغلام فمرهما - قال يونس إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا « 1 » له قالتا نعم - فرجع الغلام فقال للملك انى لقيت يونس فامر الملك بقتله - فقال ان لى بينة فارسلوا معى فاتى البقعة والشجرة فقال أنشدكما بالله هل اشهد كما يونس قالتا نعم فرجع القوم مذعورين وقالوا للملك شهد له الشجرة
_________
(1) فى الأصل فاشهدوا -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 59
و الأرض فاخذ الملك بيد الغلام فاجلسه فى مجلسه وقال أنت أحق بهذا المكان منى فاقام لهم أمرهم ذلك أربعين سنة - .
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمّد ان يؤمن من فى الأرض كلهم لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ عنهم أحد جَمِيعاً مجتمعين على الايمان غير مختلفين فيه - وفيه رد لمذهب القدرية الذين قالوا ان اللّه سبحانه يشاء ايمان جميع الناس لكنهم لا يؤمنون باختيارهم - فانها تدل انه لم يشأ ايمانهم وانّ من شاء إيمانه يؤمن لا محالة لاستحالة تخلف مشية اللّه عما شاء والتقييد بمشية الإلجاء خلاف الظاهر أَفَأَنْتَ يا محمّد تُكْرِهُ النَّاسَ يعنى الكفار حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) ولم يشا اللّه ذلك منهم ترتب الإكراه على عدم المشية بالفاء وإدخال حرف الاستفهام للانكار وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على ان ما لم يشأ اللّه مستحيل وجوده لا يمكن تحصيله بالإكراه فضلا عن الحث والتحريض عليه - وذلك انه صلى اللّه عليه وسلم كان حريصا على ان يؤمن جميع الناس فاخبره اللّه تعالى بانه لا يؤمن منهم الا من سبق علم اللّه فيه بالسعادة دون من سبق عليه بالشقاوة فلا تهتم فى ذلك فالاية تسلّية للنبى صلى اللّه عليه وسلم
(1/3153)
وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ بالله تعالى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعنى الا بإرادته وتوفيقه وَيَجْعَلُ قرأ أبو بكر بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة أى يجعل اللّه الرِّجْسَ أى العذاب أو الخذلان فانه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) الحق من الباطل يعنى الكفار لما على قلوبهم من الطبع ولعدم تعلق مشية اللّه تعالى بتعقّلهم
قُلِ يا محمّد انْظُرُوا أيها الناس وتفكروا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من عجائب الممكنات كالشمس والقمر والنجوم وحركاتها المنتسقة والجبال والبحار والأنهار والأشجار والمواليد الدالات على وجود صانع قديم قادر عليم متوحد بجلال ذاته وكمال صفاته - وكلمة ماذا ان جعلت استفهامية علقت انظروا عن العمد وَما تُغْنِي ما نافية أو استفهامية للانكار فى موضع النصب يعنى لا تفيد الْآياتُ الموجبة للعلم واليقين وَالنُّذُرُ جمع نذير يعنى الرسل وغيرهم
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 60
كالشيب وموت الاقران عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فى علم اللّه وحكمه فان الايمان امر وهبى
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أى مشركوا مكة إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ أى مثل وقائع الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم السّابقة - قال قتادة يعنى وقائع اللّه تعالى فى قوم نوح وعاد وثمود - والعرب يسمى العذاب أياما - والنعم أيضا أياما قال اللّه تعالى وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فكلّما مضى عليك من خير أو شر فهو ايام قُلْ يا محمّد فَانْتَظِرُوا يا أهل مكة هلاكى إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) هلاككم
(1/3154)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على محذوف دل عليه قوله إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا كأنَّه قيل نهلك الأمم ثم ننجّى رسلنا ومن أمن معهم على حكاية الحال الماضية كَذلِكَ يعنى كما ننجى رسلنا من الأمم السابقة كذلك حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) أى إنجاء مثل ذلك الانجاء ننجى محمّدا صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حين يهلك المشركون - وحقّا علينا اعتراض يعنى وجب علينا وجوبا قرأ حفص والكسائي ننج مخففا من الافعال والباقون مشددا من التفعيل -
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لاهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي من صحته فانهم كانوا فى استبعاد من امر النبوة - وكانوا إذا رأوا الآيات اضطروا إلى الايمان فكانوا فى شك وتزدد لشقاوتهم الجبلية فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الحجارة المنحوتة بايديكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ يعنى الّذي يحييكم ويميتكم ويخلق ما يشاء ويختار - وانما خص التوفى بالذكر للتهديد - جملة فلا اعبد إلى آخره وضع موضع الجزاء اقامة للسبب مقام المسبب - تقديره ان كنتم فى شك من دينى فازيلوا ذلك الشك بالتأمل والتفكر فى دينى وهو هذا لا اعبد الحجارة المخلوقة الّتي لا تضر ولا تنفع واعبد اللّه الخالق القادر النافع الضار وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أى بان أكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) بما دل عليه العقل وثبت بالنقل من الكتب السماوية
وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ عطف على ان أكون ذكر الصلة فى المعطوف عليه بصيغة المضارع وفى المعطوف بصيغة الأمر لعدم
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 61
(1/3155)
الفرق بينهما إذ المقصود وصلها بما يتضمنه من المعنى المصدري وصيغ الافعال كلها لذلك سواء - والمعنى أمرت بكونى على الايمان والاستقامة فى الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح - أو فى الصلاة باستقبال القبلة لِلدِّينِ حَنِيفاً حال من الدين أو الوجه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) عطف على أقم يعنى أمرت بان لا تكونن من المشركين ومعناه نهيت عن كونى على الشرك
وَ لا تَدْعُ عطف تفسيرى على قوله لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعنى لا تعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ ان دعوته وَلا يَضُرُّكَ ان خذلته ولا شك ان من تفكر ونظر بعين الانصاف فى هذا الدين المؤيد بالعقل والنقل حصل له اليقين بصحة الدين وزال عنه الشك ان شاء اللّه تعالى فَإِنْ فَعَلْتَ عبادة ما لا ينفعك ولا يضرك فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) حيث وضعت العبادة فى غير موضعه جزاء للشرط وجواب لسوال مقدر عن تبعة عبادة غير اللّه -
(1/3156)
وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ أى يصيبك بِضُرٍّ أى بمرض أو شدة أو بلاء فَلا كاشِفَ لَهُ أى لا دافع له أحد إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ اللّه بِخَيْرٍ من خيرات الدنيا والاخرة فَلا رَادَّ أى لا دافع لِفَضْلِهِ أحد لعله ذكر الارادة مع الخير - والمس مع الضر مع تلازم الامرين للتنبيه على ان الخير مراد بالذات والضر انما مسّهم لا بالقصد الأول - ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على انه متفضل بما يريدهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه - ولم يستثن لان مراد اللّه لا يمكن رده يُصِيبُ بِهِ أى بكل واحد من الخير والشر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فتتعرضوا الرحمة بالطاعة ولا تتكلوا عليها ولا تيئسوا من غفرانه بالمعصية ولكن خافوا عذابه - روى أبو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه اوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم انى لا اناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء ان أعذّبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي - قطع اللّه سبحانه بهذه الآية طريق الرغبة والرهبة الا إليه وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 62
سبقت رحمته على غضبه.
(1/3157)
قُلْ يا محمّد يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة قَدْ جاءَكُمُ العلم الْحَقُّ الثابت المطابق للواقع يعنى العلم بالتوحيد والصفات واحوال المبدأ والمعاد فى القرآن وعلى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم مِنْ رَبِّكُمْ ولم يبق لكم عذر بالجهل - أو المراد بالحق ما ظهر تحققه وصدقه بالاعجاز يعنى القرآن أو الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولم يبق لكم عذر فَمَنِ اهْتَدى بإذعان ذلك العلم والسلوك على مقتضاه وبقبول القرآن ومتابعة الرسول فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان نفعه عائد إليها وَمَنْ ضَلَّ عن طريق الحق بالإنكار والعناد فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لان وباله عائد عليها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) بحفيظ موكول الىّ أمركم حتّى اؤاخذ بضلالكم
وَ اتَّبِعْ يا محمّد ما يُوحى إِلَيْكَ بامتثال الأوامر وترك المناهي وَاصْبِرْ على الطاعة وتحمل اذيتهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بقتال الكفار وضرب الجزية عليهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) لا يمكن الخطاء فى حكمه لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر - والحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين تمت تفسير سورة يونس من التفسير المظهرى التاسع والعشرين من رمضان السنة الاولى من المائة الثالثة عشر بعد الهجرة شوال « 1 » سنة 1201 هجرى
_________
(1) هكذا فى الأصل لعل المصنف رحمة اللّه عليه فرغ من تسويده فى رمضان وكتب هذه التاريخ بالحمرة فى شوال - أبو محمّد عفى عنه
.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 63
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرس سورة هود عليه السلام من التفسير المظهرى
(1/3158)
مضمون صفحة ما ورد فى كتابة مقادير الخلائق والاجل والعمل والرزق ونحو ذلك - 7 ما ورد فى العرش على الماء - 7 مسئلة السموات والأرض وما بينهما خلقت لمحمّد صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين 7 حديث عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير 9 حديث تواضعوا لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى - 9 ما ورد فى ان الكفار يعطون ثواب حسناتهم فى الدنيا - 12 حديث من أشرك فى عمله يعنى يرائى 12 حديث من كانت نيته طلب الاخرة ومن كانت نيته طلب الدنيا - 12 ما ورد فى كون علىّ رضى اللّه عنه باب العلم وذكر قطبيته - 14 حديث والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد ولم يؤمن الا كان من أهل النار - 15 حديث ان اللّه يدنى المؤمن فيضع كتفه عليه ويستره فيقول أ تعرف ذنب كذا الحديث 15 ما ورد فى شهادة الأعضاء والازمنة والامكنة وغير ذلك - 16 قصة نوح عليه السلام 18 صفة السفينة - فى التنور 22 قصة هود عليه السلام 31 حديث الإسلام يهدم ما كان قبله 31 قصة صالح عليه السلام 34 قصة مجيء الملائكة لاهلاك قوم لوط اولا عند ابراهيم بالبشارة بإسحاق ويعقوب عليهم السلام 36 قصة مجيئهم لوطا عليه السلام 40 حديث رحم اللّه أخي لوطا كان يأوى إلى ركن شديد 42 قصة شعيب عليه السلام 46 مسئلة من اشترى مكيلا أو موزونا لا يجوز للمشترى ان يبيعه أو يأكله حتّى يعيد الكيل والوزن - 47 حديث نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى يجرى فيه الصاعان - 47
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 64
(1/3159)
مضمون صفحه مضمون صفحه حديث زن وأرجح 47 ذكر موسى عليه السلام وفرعون - 52 حديث ان اللّه ليملى الظالم حتّى إذا اخذه لم يفلته - 53 حديث ما من نفس منفوسة الا قد كتب مكانها من الجنة أو النار 54 قول ابن مسعود ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وتأويله والإجماع على ان الكفار مخلدون فى النار وما ورد فى الباب من الأحاديث - اقوال المفسرين فى تأويل قوله تعالى فى أهل النار والجنة خلدين فيها الّا ما شاء ربّك - 55 حديث اشتكت النار إلى ربها فاذن لها بنفسين - 56 ما ورد فى دخول الفساق فى النار وخروجهم منها - 56 أهل الجنة ينعمون فى بعض احيانهم بما هو أعلى من الجنة وهو الاستغراق فى رؤية اللّه تعالى - 58 حديث قل امنت بالله ثم استقم 60 الاستقامة فوق الكرامة - 60 حديث ان الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد الا غلبه 61 فائدة الميل إلى الظالمين ادنى ميل يوجب العذاب فكيف بالميل كله ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه وما ورد فى مصاحبة الظالم وتقويته - 61 ما ورد فى الجمع بين الظهرين والعشاءين وتأويلها وقول الفقهاء فيها - 62 ما ورد فى ان الحسنات والصلوات الخمس ورمضان مكفرات للخطايا - 65 الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم - 66 مسئلة الأمر غير الارادة وان ما أراد اللّه يجب وقوعه - 66 حديث خط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطوطا - 67 حديث شيبتنى سورة هود وأخواتها - 68 تمّت
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 66
سورة هود عليه السّلام
مائة وثلاث وعشرون اية مكية الا قوله أقم الصّلوة طرفى النّهار الآية ربّ يسّر وتمّم بالخير « 1 »
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/3160)
الر كِتابٌ مبتدا وخبر - أو كتاب خبر مبتدا محذوف أُحْكِمَتْ آياتُهُ أى نظمت آياته نظما محكما لا يقع فيه نقص من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى - أو منعت من النسخ ان كان المراد آيات السورة فانه ليس شيء منها منسوخا - أو أحكمت بالحجج والدلائل - أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لاشتمالها على أمهات الحكم العلمية والعملية ثُمَّ فُصِّلَتْ أى بينت بالفوائد من العقائد والاحكام والمواعظ والاخبار كما يفصل القلائد بالفرائد - أو فصلت بجعلها سورا - أو بانزالها نجما نجما - أو فصل أى بين فيها ولخص ما يحتاج إليه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة للكتاب أو خبر بعد خبر أو صلة لاحكمت أو لفصلت يعنى فصلت من عنده أحكامها وهو تقرير لاحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغى باعتبار ما ظهر من امره وما خفى
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أى لان لا تعبدوا - أو بان لا تعبدوا - أو فى ذلك الكتاب ان لا تعبدوا - وقيل ان مفسرة لانّ فى تفصيل الآيات معنى القول - ويجوز ان يكون كلاما مبتدا للاغراء كأنَّه قيل الزموا ان لا تعبدوا الا اللّه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أى من اللّه تعالى نَذِيرٌ بالعقاب على الشرك وَبَشِيرٌ (2) بالثواب على التوحيد
وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا
_________
(1) الخطبة من الناشر
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 67
(1/3161)
عطف على ان لا تعبدوا يعنى استغفروا رَبَّكُمْ على ما سلف منكم من المعاصي ثُمَّ تُوبُوا ثم ارجعوا بالطاعة إِلَيْهِ وقال الفراء ثم هاهنا بمعنى الواو والاستغفار هو التوبة يعنى يلزم أحدهما الاخر يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً أى يعيشكم عيشا حسنا فى أمن وسعة فان المعاصي جالبة للمصائب والبليات قال اللّه تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وقيل العيش الحسن الرضاء بالمقسوم والصبر على المقدور إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى حين موت كل واحد منكم فانها مدة معلومة عند اللّه تعالى بحيث لا يتغير وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فى دينه وعمله فَضْلَهُ أى جزاء فضله فى الدنيا بكثرة التوفيق وطمانية القلب والالتذاذ والراحة بذكر اللّه والبشرى وفى الاخرة بكثرة الثواب ومدارج القرب وَإِنْ تَوَلَّوْا حذفت احدى التاءين أى تتولوا وتعرضوا عن عبادة اللّه والتوحيد فَإِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) يعنى يوم القيامة فان مقداره خمسين الف سنة بل ما لا نهاية لها
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أى رجوع أموركم كلها فى الدنيا والاخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الاثابة والتعذيب فى الدارين قَدِيرٌ (4) فهو تقرير لما مر من الآيات -
(1/3162)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أى من اللّه تعالى روى البخاري عن ابن عباس قال كان ناس يعنى من المسلمين يستحيون ان يتخلوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء وان يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم - وكذا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية من طريق محمّد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس - واخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر من طريق ابن أبى مليكة قال سمعت ابن عباس يقرا أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط الا وقد تغشوا ثيابهم كراهة ان يفضوا بفروجهم إلى السماء - وقال البغوي قال عبد اللّه بن شداد نزلت هذه الآية فى بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبي صلى اللّه عليه وسلم - وكذا أخرج ابن جرير وغيره عن عبد اللّه ابن شداد بن الهاد - وفى لفظ المنافقين نظر فان الآية مكية والنفاق حدث بالمدينة وضمير منه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 68
(1/3163)
على هذا راجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم - وقال البغوي قال ابن عباس نزلت فى الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما يحب وينطوى بقلبه على ما يكره ومعنى قوله يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يغطون صدورهم على الكفر والشحناء وعداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وقال قتادة كانوا يحنون صدورهم لكى لا يسمعوا كتاب اللّه ولا ذكره - وقال السدى معنى يثنون يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنّيت عنانى - وقرا ابن عباس فيما روى عنه البخاري تثنونى صدورهم بالتاء والياء بالإسناد إلى الصدور من اثنونى يثنونى - وهو بناء للمبالغة - وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخى ستره ويحنى ظهره ويتغشى بثوبه وهو يقول هل يعلم اللّه ما فى قلبى فنزلت هذه الآية أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أى يغطون رءوسهم بثيابهم يَعْلَمُ اللّه ما يُسِرُّونَ فى قلوبهم وفيما عداها وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) أى باسرار ذات الصدور أو بالقلوب وأحوالها وإذا لم يخف شيء من اللّه تعالى فسيظهر ما يشاء على رسوله وعلى المؤمنين -
(1/3164)
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ وهى كل حيوان يدب على الأرض فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها لتكفله إياها تفضلا ورحمة - وانما اتى بلفظ الوجوب تحقيقا لوصوله وحملا على التوكل فيه - ومن هاهنا قيل انّ على بمعنى من والاضافة فى رزقها للعهد يعنى ان الرزق المعهود المعلوم عند اللّه تعالى للعبد فالله تعالى متكفله إياه يأتى منه دون من غيره - قال مجاهد هو ما جاء من رزق فمن اللّه وربما لم يرزقها حتّى يموت جوعا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها قال البغوي قال ابن مقسم وروى ذلك عن ابن عباس مستقرها المكان الّذي تأوى إليه وتستقر فيه ليلا ونهارا - ومستودعها الموضع الّذي تدفن فيه إذا مات - وقال ابن مسعود المستقر أرحام الأمهات والمستودع أصلاب الآباء - ورواه سعيد بن جبير وعلى بن طلحة وعكرمة عن ابن عباس - وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر لقوله تعالى فى صفة الجنة والنار حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا - وساءَتْ مُسْتَقَرًّا كُلٌّ أى كل واحد من الدواب وأحوالها وأرزاقها فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) أى مثبت فى اللوح المحفوظ أو فى كتب الحفظة - عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب اللّه مقادير الخلائق قبل ان يخلق السموات والأرض
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 69
(1/3165)
بخمسين الف سنة قال وعرشه على الماء رواه مسلم وعن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة - ثم تكون علقة مثل ذلك - ثم تكون مضغة مثل ذلك - ثم يبعث اللّه إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى أو سعيد الحديث متفق عليه - وعن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه عز وجل فرغ إلى كل عبد من خلقه من خمس من اجله وعمله ومضجعه واثره ورزقه رواه احمد - كانّه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها وبما بعدها ببيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد
(1/3166)
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أى خلقهما وما فيهما - أو المراد بالسماوات ما هو فى جهة العلو - وبالأرض ما هو فى جهة السفل - وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلق السموات والأرض عَلَى الْماءِ قال البغوي وكان ذلك الماء على متن الريح - وقال كعب الأحبار خلق اللّه عز وجل ياقوتة خضراء - ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد - ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها - ثم وضع العرش على الماء - وقال ضمرة ان اللّه عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه وما هو خالق من خلقه ثم ان ذلك سبح اللّه ومجّده الف عام قبل ان يخلق شيئا من خلقه وروى البخاري عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان اللّه ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء - ثم خلق السموات والأرض وكتب فى الذكر كل شيء الحديث - وقد ذكرنا بعض ما ورد من الاخبار فى العرش فى تفسير اية الكرسي فى سورة البقرة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أى ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لاحوالكم وهو اعلم بكم حتّى يظهر فيكم استحقاق الثواب والعقاب فان السموات والأرض وما فيها اسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما يحتاج إليه أعمالكم يستدعى ان تشكروا ربكم - ودلائل وامارات تستدلون بها على صانعكم وتستنبطون منها معرفة ربكم - فقوله ليبلوكم متعلق بخلق وفيه اشارة إلى ان السموات والأرض وما بينهما لم تخلق لانفسها بل توطية وتمهيدا لخلق المكلفين بل لخلق المؤمنين بل لخلق أحسنهم عملا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 70
(1/3167)
و هو محمّد صلى اللّه عليه وسلم ومن يشبهه والمراد بالعمل ما يعم عمل الجوارح والقلب - أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية والحاكم فى التاريخ بسند رواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يعنى فى تفسير هذه الآية أيكم احسن عقلا وأورع من محارم اللّه واسرع فى طاعته فان احسن الأعمال اعمال القلوب وأحسنها حب اللّه والاشتغال بذكره والاستغراق فيه - فالمقصود من خلق السموات والأرض وجود أهل اللّه وفيه تحضيض على الترقي دائما فى مراتب العلم والعمل كما يدل عليه صيغة التفضيل وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أى البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أى كالسحر فى الخديعة والبطلان وقرا حمزة والكسائي الّا ساحر على ان الاشارة إلى القائل والساحر كاذب مبطل - أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة قال لما نزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ قال أناس ان الساعة قد اقتربت فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم السوء فانزل اللّه أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فقال أناس هذا امر اللّه قد اتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم السوء فانزل اللّه
(1/3168)
وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الآية - واخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله يعنى لان أخرنا عنهم العذاب الموعود إِلى أُمَّةٍ أى إلى حين مَعْدُودَةٍ ساعاته - ذكر فى القاموس فى معانى أمة الحين - وقال البغوي أى إلى أجل معدود - واصل الامة الجماعة فكانّه قال إلى انقراض أمة ومجيء اخرى - وقال البيضاوي إلى جماعة من الأوقات معدودة أى قليلة لَيَقُولُنَّ أى الكفار استهزاء ما يَحْبِسُهُ أى ما يمنعه من الوقوع أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب فى علم اللّه كيوم بدر لَيْسَ ذلك العذاب مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أى مدفوعا عنهم ويوم منصوب بمصروفا يعنى ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم وَحاقَ بِهِمْ أى أحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة فى التهديد ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) أى العذاب الّذي كانوا يستعجلونه ويقولون استهزاء ما يحبسه فوضع يستهزءون موضع يستعجلون -
وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ يعنى الجنس مِنَّا رَحْمَةً أى من نعمة صحة وأمن وجدة واللام فى لئن لتوطية القسم ثُمَّ نَزَعْناها أى سلبنا تلك النعمة مِنْهُ وجواب
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 71
القسم وجزاء الشرط إِنَّهُ لَيَؤُسٌ أى شديد اليأس من ان يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل اللّه لقلة صبره وعدم ثقته به وعدم تسليم لقضائه كَفُورٌ (9) عظيم الكفر ان لما سلف له من نعمة اللّه نسّاء له ولما معه من نعمائه لان الإنسان لا يخلو من نعماء اللّه تعالى من الوجود وتوابعه
(1/3169)
وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم مَسَّتْهُ صفة لضراء لَيَقُولَنَّ جواب قسم وجزاء شرط ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي « 1 » أى المصائب الّتي ساءتنى يعنى لا ينسب ذهاب السيئات إلى اللّه تعالى ولا يشكره بل ينسبه إلى عادة الدهر إِنَّهُ لَفَرِحٌ اشر بطر بالنعمة مغتربها والفرح لذة فى القلب بنيل المشتهى فَخُورٌ (10) على الناس يزعم نفسه مستحقّا لذلك النعمة متعاليا على الناس يشغله الفرح والفخر عن الشكر
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء من الإنسان يعنى الا المؤمنين فانهم ليسوا بيؤس ولا كفور عند سلب النعمة بل يرجون فضل اللّه ويشكرون نعماءه السابقة والباقية ولا فرحين بطرا وأشرا غير مفتخرين على الناس عند انعامه بل يشكرون اللّه تعالى - وضع اللّه سبحانه الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ موضع المؤمنين اشعارا بانهم يصبرون فى الضراء ويعملون شكرا فى السراء - عن صهيب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم - وقال الفراء هذه استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فانهم ان نالهم شدة صبروا وان نالوا نعمة شكروا - وعلى قول الفراء اللام فى الإنسان للعهد يعنى إذا أذقنا الإنسان الكافر الّذي مر ذكره منا رحمة إلخ حتّى ينقطع الاستثناء أُولئِكَ أى الصابرون الشاكرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) يعنى رضوان اللّه وجنته - عن عياض بن حمار المجاشعي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه اوحى الىّ ان تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد رواه مسلم -
(1/3170)
فَلَعَلَّكَ يا محمّد تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ يعنى ما فيه سبّ الهتهم وذلك حين قالوا ايت بقرآن غير هذا ليس فيه سبّ الهتنا كذا قال البغوي - قال البيضاوي
_________
(1) لبس فى الأصل عنّى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 72
و لا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه - لجواز ان يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسول عن الخيانة فى الوحى والتقية فى التبليغ هاهنا - قلت وبهذا يندفع ما قيل ان لعل من اللّه واجبة الوقوع وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ الضمير فى به مبهم تفسيره أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ « 1 » على محمّد كَنْزٌ ينفقه فى الاستتباع كالملوك أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه قاله عبد اللّه بن امية المخزومي - يعنى يضيق صدرك وتغتم بقولهم هذا - وجاز ان يكون المعنى لعلّك تارك بعض ما يوحى إليك أى تترك تبليغه إياهم لتهاونهم به وضائق به أى يضيق بذلك الترك صدرك فان ترك ما امر اللّه به يوجب ضيق الصدر كما ان إتيان ما امر اللّه به يوجب انشراح الصدر - ان يقولوا أى تترك التبليغ مخافة ردهم واستهزائهم بان يقولوا وضائق صدرك لاجل أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ان كان رسولا فقال اللّه تعالى إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ يعنى ليس عليك الا الانذار بما يوحى إليك ولا عليك شيء ان ردوا أو اقترحوا أو قالوا ايت بقرآن غير هذا - فما بالك تترك بقولهم أو بمخافة ردهم أو يضيق صدرك بقولهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12) يحفظ ما يقولون فيجازيهم عليه -
(1/3171)
أَمْ يَقُولُونَ أم منقطعة والاستفهام فيه للانكار يعنى بل أ يقولون افْتَراهُ أى اختلقه من عند نفسه الضمير المنصوب عائد إلى ما يوحى قُلْ يا محمّد فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فان قيل قد قال فى سورة يونس فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وقد عجزوا عنه فكيف قال فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ فهو كرجل يقول لاخر أعطني درهما فيعجز فيقول أعطني عشرة - أجيب بان سورة هود نزلت اولا فلما عجزوا عن إتيان العشرة انزل بعد ذلك فاتوا بسورة - وأنكر المبرد هذا الجواب وقال بل نزلت سورة يونس اولا وأجاب بان معنى قوله فى سورة يونس فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فى الاخبار عن الغيب والاحكام والوعد والوعيد على طبق الكتب المنزلة المتقدمة فعجزوا عن ذلك فقال لهم فى سورة هود فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فى مجرد البلاغة وحسن النظم - قلت ثم قال فى سورة البقرة فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ - وتوحيد المثل باعتبار كل واحد مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم ان صح انى اختلقته فانكم عرب فصحاء مثلى تقدرون على ما اقدر عليه بل
_________
(1) فى الأصل إلى محمّد -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 73
أنتم اقدر لتعلمكم وكثرة مما رستكم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ليعينكم على إتيان سور مثله إِنْ كُنْتُمْ أيها الكافرون صادِقِينَ (13) فى قولكم انه مفترى وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى
(1/3172)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بإتيان ما دعوتم إليه وجمع الضمير فى لكم اما لتعظيم الرسول - أو لان المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم - وكان امر الرسول متناولا لهم من حيث انه يجب اتباعه عليهم فى كل امر الا ما خصه الدليل - أو للتنبيه على ان التحدي مما يوجب قوة يقينهم ورسوخ ايمانهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أى متلبسا « 1 » بما لا يعلمه الا اللّه ولا يقدر عليه سواه وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأنه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره ولظهور عجز الهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقه باعجازه عليه - وفيه تهديد واقناط من ان يجيرهم من بأس اللّه الهتهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذا تحقق عندكم اعجازه مطلقا ويجوز ان يكون الكل خطابا للمشركين والضمير المرفوع فى لم يستجيبوا لمن استطعتم والمعنى فان لم يستجب لكم أيها الكفار من استطعتم دعوتهم إلى المعاونة على المعارضة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا انه نظم لا يعلمه الا اللّه وانه منزل من عنده وان ما دعاكم إليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون فى الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة وفى هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر -
مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله وإحسانه الْحَياةَ الدُّنْيا أى طول البقاء فى الدار الدنيا والصحة وَزِينَتَها من الأموال والأولاد والأزواج والخدم والحشم نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أى نوصل إليهم جزاء أعمالهم الحسنة وافيا فِيها أى فى الدنيا وَهُمْ فِيها فى الدنيا لا يُبْخَسُونَ (15) أى لا ينقصون شيئا من أجورهم
(1/3173)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ شيء من الجزاء إِلَّا النَّارُ لانهم استوفوا جزاء أعمالهم الحسنة فى الدنيا وبقيت لهم أوزار الأعمال السيئة وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من الحسنات يعنى لم يبق لهم ثواب فى الاخرة - ا ولم يكن لانهم لم يريدوا بها وجه اللّه تعالى حتّى يكون اجره على اللّه - والظرف اما متعلق بحبط والضمير يعود إلى الاخرة - واما بصنعوا والضمير يعود إلى الدنيا وَباطِلٌ فى نفسه
_________
(1) فى الأصل ملبسا -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 74
(1/3174)
ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) من الحسنات فى الدنيا لأنه لم يعمل على ما ينبغى وكانّ كلّ واحدة من الجملتين علة لما قبلها - والظاهر ان هذه الآية فى حق الكفار - روى البخاري عن عمر بن الخطاب فى حديث طويل انه قال رفعت بصرى فى بيته صلى اللّه عليه وسلم فو اللّه ما رايت فيه شيئا يرد البصر غير اهبة ثلاثة فقلت يا رسول اللّه ادع اللّه فليوسع على أمتك فان فارس والروم قد وسع عليهم واعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون اللّه فجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان متكيا فقال أو فى هذا أنت يا ابن الخطاب ان أولئك قوم عجلوا طيباتهم فى الحيوة الدنيا واما المؤمن فيريد الدنيا والاخرة - وإرادته الاخرة غالبة فيجازى بحسناته فى الدنيا ويثاب عليها فى الاخرة - عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يعطى عليها فى الدنيا ويثاب عليها فى الاخرة واما الكافر فيطعم بحسناته فى الدنيا حتّى إذا افضى إلى الاخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا رواه مسلم واحمد - قلت وقوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ قرينة دلت على ان الآية فى حق الكفار للاجماع على ان مال المؤمن إلى الجنة البتة - وقيل هذه الآية فى حق أهل الرياء عن أبى سعيد بن فضالة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا جمع اللّه الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك فى عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير اللّه فان اللّه اغنى الشركاء عن الشرك رواه احمد وعن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من كانت نيته طلب الاخرة جعل اللّه غناه فى قلبه وجمع اللّه شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل اللّه الفقر بين عينيه وشتت عليه امره ولا يأتيه منها الا ما كتب له رواه الترمذي ورواه احمد والدارمي عن ابان عن زيد بن ثابت - وقوله تعالى نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ « 1 »
(1/3175)
فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينافى قوله عليه السلام لا يأتيه منها الا ما كتب له لان إيفاء أعمالهم فى الدنيا بحيث لا يبخسون مكتوب لهم ويأتيهم البتة ولا يأتيه ما يزيد عليه وان كان طالب الدنيا يطلب ما لا نهاية له فانه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا - قلت وان كانت هذه الآية فى أهل الرياء فمعنى قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ انه ليس لهم جزاء ما يراءون فيه الا النار -
أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ برهان مِنْ رَبِّهِ يدله على الحق والصواب فيختار عبادة اللّه على عبادة الأوثان والدار الاخرة الباقية ونعيمها على الدار الدنيا الفانية ولذاتها - الموصول
_________
(1) فى الأصل أعمالهم وهم فيها -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 75
(1/3176)
مبتدا حذف خبره والفاء للتعقيب والهمزة لانكار الحكم بمشابهة من هذا شأنه بهؤلاء المقصرين هممهم وافكارهم على الدنيا بعد العلم بان المقصرين ليس لهم فى الاخرة الّا النّار وهو الّذي اغنى عن ذكر الخبر - والتقدير أ فمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحيوة الدنيا - والمراد بالموصول المؤمنون المخلصون ومن قال المراد به النبي صلى اللّه عليه وسلم عنى به الرسول صلى اللّه عليه وسلم واتباعه للعموم وجمعية اسم الاشارة إليه فى قوله أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ - أخرج أبو الشيخ عن أبى العالية وابراهيم النخعي فى قوله أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ قال ذلك محمّد صلى اللّه عليه وسلم وكذا أخرج ابن أبى حاتم وابن مردوية وأبو نعيم فى المعرفة عن على بن أبى طالب - والمراد بالبينة القرآن وَيَتْلُوهُ أى يقرأ ذلك البرهان شاهِدٌ مِنْهُ أى من اللّه تعالى وَمِنْ قَبْلِهِ أى من قبل نزوله كِتابُ مُوسى يعنى التورية شاهد من اللّه يصدق القرآن إِماماً كتابا مؤتما به فى الدين وَرَحْمَةً على المنزل عليهم وهما حالان من كتاب موسى - والمراد بالشاهد جبرئيل عليه السلام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية من طرق عن ابن عباس أ فمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه قال جبرئيل - فهو شاهد من اللّه يتلو من كتاب اللّه الّذي انزل على محمّد صلى اللّه عليه وسلم - ومن قبله تلا التورية على موسى كما تلا القرآن على محمّد صلى اللّه عليه وسلم - وكذا ذكر البغوي قول ابن عباس وعلقمة وابراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك واكثر أهل التفسير انه جبرئيل عليه السلام - وقال الحسن وقتادة هو لسان محمّد صلى اللّه عليه وسلم - يعنى يقرا ذلك البرهان الّذي عليه المؤمنون شاهد من اللّه وهو محمّد صلى اللّه عليه وسلم - ومن قبله كتاب موسى شاهد له - أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى
(1/3177)
حاتم والطبراني فى الأوسط وأبو الشيخ عن محمّد بن على بن أبى طالب قال قلت لابى ان الناس يزعمون فى قول اللّه تعالى وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ انك أنت الشاهد - فقال وددت انى انا هو ولكنه لسان محمّد صلى اللّه عليه وسلم - وأخرجه أبو الشيخ من طريق أبى نجيح عن مجاهد - وقيل يتلو من التلو بمعنى التبعية والشاهد ملك يحفظه والضمير فى يتلوه اما لمن أو للبينة باعتبار المعنى - ومن قبله كتاب موسى جملة مبتدئة - أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد أ فمن كان على بيّنة من ربّه قال هو محمّد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 76
(1/3178)
صلى اللّه عليه وسلم والشاهد منه قال ملك يحفظه - وقيل الشاهد هو على بن أبى طالب قال البغوي قال على رضى اللّه عنه ما من رجل من قريش الا وقد نزلت فيه اية من القرآن فقال له رجل وأنت اىّ شيء نزل فيك - قال وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ - فان قيل فما وجه تسمية على بالشاهد - قلت لعل وجه ذلك انه أول من اسلم من الناس فهو أول من شهد بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم - والاوجه عندى ان يقال ان عليّا رضى اللّه عنه كان قطب كمالات الولاية وسائر الأولياء حتّى الصحابة رضوان اللّه عليهم اتباع له فى مقام الولاية - وافضلية الخلفاء الثلاثة بوجه اخر كذا حقق المجدد رضى اللّه عنه فى مكتوب من اواخر مكتوباته فكانّ معنى الآية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنى على حجة واضحة وبرهان قاطع وهو محمّد صلى اللّه عليه وسلم - فانه كان على حجة واضحة من ربه وبرهان قاطع يفيد العلم بالقطع انه رسول اللّه - وذلك معجزاته وأفضلها القرآن وعلومه المستندة إلى الوحى - ويتلوه أى يتبعه شاهد من اللّه على صدقه وهو علىّ ومن شاكله من الأولياء - فان كرامات الأولياء معجزات للنبى صلى اللّه عليه وسلم وعلومهم المستندة إلى الإلهام والكشف ظلال لعلوم النبي صلى اللّه عليه وسلم - المستندة إلى الوحى فتلك الكرامات والعلوم شاهدة على صدق النبي صلى اللّه عليه وسلم - فقوله صلى اللّه عليه وسلم انا دار الحكمة وعلىّ بابها رواه الترمذي بسند صحيح عن على - وانا مدينة العلم وعلىّ بابها فمن أراد
(1/3179)
العلم فليأت الباب رواه ابن عدى فى الكامل والعقيلي فى الضعفاء والطبراني والحاكم عن ابن عباس وابن عدى والحاكم عن جابر - اشارة إلى علوم الأولياء دون علوم الفقهاء فان أخذ علوم الفقهاء لم ينحصر على علىّ رضى اللّه عنه بل قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم - وقيل شاهد منه هو الإنجيل - وقبله كتاب موسى التورية شاهد له - وقيل البينة البرهان العقلي والشاهد القرآن - قال الحسين بن الفضل الشاهد هو القرآن ونظمه واعجازه - والمعنى أ فمن كان قائما على وفق البرهان العقلي ويتبع ذلك البرهان شاهد من اللّه يعنى القرآن يشهد بصحة البرهان ومن قبل القرآن كتاب موسى يعنى التورية أيضا يشهد للبرهان والمراد بالموصول المسلم المخلص أُولئِكَ اشارة إلى من كان على بينة بناء على ان المراد به جماعة المسلمين وجاز ان يكون اشارة إلى شاهد من حيث المعنى ان كان المراد به علىّ رضى اللّه عنه ومن
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 77
شاكله من الأولياء يُؤْمِنُونَ بِهِ حقيقة الايمان وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أى محمّد صلى اللّه عليه وسلم أو بالقران مِنَ الْأَحْزابِ من أهل الملل كلها فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الامة ولا يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من اصحاب النار رواه مسلم فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْهُ أى من الموعد أو من القرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) لقلة نظرهم واختلال فكرهم -
(1/3180)
وَ مَنْ أَظْلَمُ يعنى لا أحد « 1 » اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان زعم ان له ولدا أو شريكا - أو أسند إليه ما لم ينزله ونفى عنه ما أنزله - وأسند إليه تحريم ما لم يحرّم وتحليل ما حرم أُولئِكَ المفترون يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة فيسئلهم عن أعمالهم وَيَقُولُ الْأَشْهادُ يعنى الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم كذا أخرج أبو الشيخ عن مجاهد وعن ابن عباس انهم الأنبياء والرسل وهو قول الضحاك ويؤيده قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً - واخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال ليس من يوم الا وتعرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم - وقال قتادة الخلائق كلهم - روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه ويستره فيقول أ تعرف ذنب كذا فيقول نعم أى رب حتّى قرره بذنوبه وراى فى نفسه انه قد هلك قال سترتها عليك فى الدنيا وانا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته واما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) فيه تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ بظلمهم على اللّه بكذبهم عليه - قلت وليست الاشهاد منحصرة فى من ذكر بل من الاشهاد أعضاء المكلف قال اللّه تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ - وقال اللّه تعالى قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا الآية - وقال اللّه تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ الآية وسنذكر - وفى حديث انس عند مسلم يقول اللّه كفى بنفسك اليوم عليك
(1/3181)
_________
(1) فى الأصل لا اظلم -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 78
شهيدا - وبالكرام الكاتبين شهيدا فتحتم على فيه ويقال لاركانه انطقى الحديث - وسنذكر أحاديث الباب فى تفسير الآيات المذكورة ان شاء اللّه تعالى - ومن الاشهاد الامكنة والازمنة وغير ذلك وقد ذكرنا بعض ما ورد فيها فى سورة العاديات فى تفسير قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها - قوله عليه السلام اخبارها ان تشهد يعنى الأرض على كل عبد وامة بما عمل على ظهرها - وروى البخاري عن أبى سعيد الخدري انه قال لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا انس الا شهد له يوم القيامة ورواه ابن خزيمة بلفظ لا يسمع صوته حجر ولا مدر ولا شجر ولا جن ولا انس الا شهد له - وفى حديث أبى هريرة مرفوعا عند أبى داود وابن خزيمة للمؤذن يغفر له مدى صوته وشهد له كل رطب ويابس - واخرج ابن المبارك عن عمر من سجد عند موضع عند شجر أو حجر شهد له يوم القيامة - وعن عطاء الخراسانى نحوه - واخرج أبو نعيم عن معقل بن يسار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليس من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه يا ابن آدم انا خلق جديد وانا فيما تعمل عليك غدا شهيد - فاعمل فىّ خيرا شهد لك به غدا - فانى لو قد مضيت لم ترنى ابدا - ويقول الليل مثل ذلك - واخرج مسلم عن أبى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان هذا المال خضر حلو ونعم صاحب لمسلم وهو لمن اعطى منه الأسير واليتيم وابن السبيل شهيد - وانه من يأخذ بغير حق كالذى يأكل ولا يشبع فيكون عليه شهيدا يوم القيامة واخرج أبو نعيم عن طاءوس قال يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان الحديث -
(1/3182)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى يمنعون الناس عن دينه وَيَبْغُونَها عِوَجاً أى يصفونها بالانصراف عن الحق والصواب - أو يبغون أهلها ان يعوجوا بالردة وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) يعنى والحال انهم كافرون بالاخرة وتكرير كلمة هم لتأكيد كفرهم واختصاصهم
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس سابقين - وقال قتادة هاربين - وقال مقاتل فائتين - والمعنى واحد يعنى ما كانوا يعجزون اللّه فى الدنيا ان يعاقبهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يعنى أنصارا يحفظهم من عذاب اللّه ولكن اللّه اخر عذابهم إلى يوم القيامة ليكون أشد ودوم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ استيناف قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر - أبو محمّد ويعقوب يضعّف بالتشديد من التفعيل
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 79
و الباقون من المفاعلة - قيل تضعيف العذاب لاضلالهم الغير واقتداء الاتباع بهم ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يعنى استماع الحق فان اللّه تعالى لم يخلق « 1 » فيهم استعداد سماع للحق فهم صم لا يسمعونه وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) الهدى لتعاميهم عن آيات اللّه لعدم خلق اللّه تعالى البصيرة فى قلوبهم
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
حيث اشتروا عبادة الحجارة بعبادة اللّه تعالى واشتروا النار بالجنة وَضَلَ
اى فات عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
(21) ان الأصنام يشفع لهم عند اللّه
(1/3183)
لا جَرَمَ فيه اقوال أحدها انّ لا - ردّ لكلام سابق يعنى ليس الأمر كما زعموا افتراء - وجرم كلام مبتدا معناه كسب وفاعله مضمر وقوله تعالى أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) فى محل النصب على المفعولية يعنى كسب الحكم بخسرانهم - وقيل معنى جرم وجب وحق فعلى هذا انهم فى الاخرة فى محل الرفع على الفاعلية - ثانيها ان لا جرم كلمتان ركبتا فصار معناهما حقا وانهم فى الاخرة فى محل الرفع على انه فاعل يعنى حق حقا انهم خاسرون - ثالثها ان معناه لا محالة - وفى القاموس لا جرم ولا ذا جرم ولا ان جرم ولا ان ذا جرم ولا جرم ككرم بالضم أى لا بد أو حقا أو لا محالة - وهذا أصله ثم تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام يقال لا جرم لاتينّك - وكونهم من الأخسرين لان خسران غيرهم بالكفر أو المعاصي وخسرانهم بالكفر وصد غيرهم عن الايمان
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال ابن عباس خافوا - وقال قتادة انابوا وقال مجاهد اطمأنوا - وفى القاموس اخبت خشع وتواضع والخبيت الشيء الحقير أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) دائمون
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين والكافرين كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ فانه مثل الكافر فان الكفار لا يستطيعون السمع يعنى سماع الحق سماع قبول وما كانوا يبصرون الهدى وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وذلك مثل المؤمن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ويبصرون بنور اللّه فى قلوبهم - فالكافر مشبه بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما - والعاطف لعطف الصفة على الصفة ولذلك قال هَلْ يَسْتَوِيانِ ولم يقل هل يستوون كذا قال الفراء مَثَلًا أى تمثيلا أو صفة أو حالا
_________
(1) فى الأصل لم يخلق استعداد سماع -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 80
(1/3184)
أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24) أى تتعظون بضرب الأمثال والتأمل فيها - فيه أدغمت التاء فى الذال -
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة أى بانّى والمعنى أرسلناه متلبسا « 1 » بهذا الكلام وهو قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح كانّى والمعنى على الكسر - والباقون بالكسر أى فقال انّى لان فى الإرسال معنى القول مُبِينٌ (25) ابيّن لكم موجبات العذاب والثواب
أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من انّى لكم أو مفعول مبين ويجوز ان يكون مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) ان تشركوا به شيئا - واليم بمعنى مؤلم فى الحقيقة صفة للمعذب يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جدّ جدّه ونهارك صائم للمبالغة
(1/3185)
فَقالَ الْمَلَأُ يعنى الاشراف والرؤساء لانهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس ابهة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً آدميّا مِثْلَنا لا مزية لك علينا حتّى تكون نبيّا واجب الطاعة - كانهم أرادوا ان يكون ملكا أو ملكا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أى سفلتنا والرذل الدون من كل شيء وجمعه أرذل ثم جمع على اراذل مثل كلب وأكلب وأكالب لأنه بالغلبة صار مثل الاسم قال عكرمة يعنى الحاكة والاساكفة بادِيَ الرَّأْيِ الرأى النظر بالعين والقلب. وأيضا الرأى الاعتقاد كذا فى القاموس - وبادى الرأى معناه ظاهر النظر من غير تعمق من البدو - أو أول الرأى من البدء - والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها - وقرا أبو عمرو بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بالياء - وانتصابه بالظرف على حذف المضاف أى وقت حدوث بادى الرأى - والعامل فيه اتّبعك وانما استرذلوه لذلك أو لفقرهم فانهم لمّا لم يعلموا الا ظاهرا من الحيوة الدنيا كان ذا حظ بها اشرف عندهم والمحروم فيها أرذل وَما نَرى لَكُمْ يا نوح مع من تبعك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فى مال أو غير ذلك يوهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) أنت فى دعوى النبوة واتباعك فى دعوى العلم بصدقك فغلّب المخاطبين على الغائبين
قالَ نوح يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي حجة واضحة شاهدة بصحة دعوى وَآتانِي رَحْمَةً أى بينة أو هدى ونبوة مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
_________
(1) فى الأصل ملتبسا - [.....]
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 81
(1/3186)
قرا حمزة والكسائي وحفص بضم العين وتشديد الميم من التفعيل بمعنى أخفيت والباقون بفتح العين وتخفيف الميم من المجرد بمعنى خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها « 1 » بالحجة - يقال بصيرة ومبصرة إذا يهتدى بها - ويقال عمياء إذا لا يهتدى بها - وتوحيد الضمير لان البينة فى نفسها هى الرحمة - أو لان خفاءها يوجب خفاء النبوة أو على تقدير فعميت به النبوة وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحد منهما أَنُلْزِمُكُمُوها أى نلزمكم على الاهتداء بها أى بالبينة أو الرحمة ونجبركم على قبولها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) لا تريدونها قال قتادة لو قدر الأنبياء ان يلزموا قومهم الايمان لالزموا ولكن لم يقدروا -
وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على التبليغ فهو وان لم يذكر لكنه معلوم مما ذكر مالًا أى جعلا يثقل عليكم ان أديتم أو علىّ ان لم تؤدوا إِنْ أَجرِيَ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها - يعنى ليس ثوابى إِلَّا عَلَى اللَّهِ بناء على وعده تفضلا وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سالوا طردهم ليؤمنوا به انفة من المجالسة معهم إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمون طاردهم عنده - أو انهم يلاقونه ويفوزون بقربه - فكيف اطرد اولياء اللّه ومقربيه وَلكِنِّي قرأ نافع والبزي وأبو عمر بفتح الياء والباقون بإسكانها أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) بلقائهم ربهم أو بمراتب قربهم من اللّه أو فى التماس طردهم أو تتسفهون عليهم بان تدعوهم اراذل أو تجهلون عاقبة أمركم
وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ يدفع انتقامه منى إِنْ طَرَدْتُهُمْ وهم بتلك الصفة والمثابة أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) بإدغام التاء فى الذال يعنى أ فلا تتعظون وتعقلون لتعرفوا ان التماس طردهم ليس بصواب
(1/3187)
وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أى خزائن رزقه وأمواله يعنى لست مدعيا فضلى عليكم بالمال حتّى تنكرونه وتقولون ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ولا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عندى خزائن اللّه ولا أقول انا اعلم الغيب حتّى تكذبونى استبعادا - أو حتّى اعلم ان هؤلاء الذين اتبعونى بادى الرأى من غير بصيرة وعقد قلب - وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول وَلا أَقُولُ لَكُمْ « 2 » إِنِّي مَلَكٌ حتّى تنكرونه وتقولون ما أنت الا بشر مثلنا وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ _________
(1) فى الأصل إليه الحجة -
(2) فى الأصل كلمة لكم داخا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 82
اى تحتقره وتستصغره أعينكم يعنى الذين قلتم فيهم أراذلنا لاجل فقرهم - افتعال من زرا عليه إذا عابه - قلبت تاؤه دالّا لتجانس الراء فى الجهر - واسناده إلى العين للمبالغة والتنبيه على انهم استرذلوهم بادى الرأي من غير رؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة مالهم دون تأمل فى معانيهم وكمالاتهم وخصالهم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً بل ما أعطاهم فى الدنيا من الايمان والهداية - وفى الاخرة من الجنة والدرجات خير مما اعطاكم اللّه فى الدنيا من المال اللَّهُ أَعْلَمُ منى ومنكم بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من محبة اللّه ومحاسن الأخلاق والعقائد إِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِذاً أى إذا طردتهم وقلت فيهم لن يؤتيهم اللّه خيرا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31).
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فاطلته إذ أتيت بانواعه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) فى دعوى النبوة والوعيد على ترك الايمان فان مناظرتك لا تؤثر فينا.
(1/3188)
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ ليس ذلك فى وسعى لا إتيانه ولا تعجيله إِنْ شاءَ عاجلا أو أجلا وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) اللّه بدفع العذاب أو الهرب منه إذا جاء عذابه.
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي قرأ نافع بفتح الياء وكذا أبو عمرو والباقون بإسكانها إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط ودليل جواب والجملة دليل جواب لقوله إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وتقدير الكلام ان كان اللّه يريد ان يغويكم فاردت ان انصح لكم لا ينفعكم نصحى فيه دليل على ان ارادة اللّه يصح تعلقها بالإغواء وان خلاف مراده تعالى محال وقيل معنى ان يغويكم ان يهلككم من غوى الفصيل إذا هلك هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم والمتصرف فيكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) فيجازيكم بأعمالكم.
أَمْ يَقُولُونَ يعنى بل أ يقولون افْتَراهُ قال ابن عباس يعنى يقولون افترى نوح وقال مقاتل معناه تقولون افترى محمّد صلى اللّه عليه وسلم قُلْ يا نوح أو يا محمّد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي أى وبال اجرامى والاجرام كسب الذنب وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) من اجرامكم فى اسناد الافتراء الىّ - قال البغوي روى الضحاك عن ابن عباس ان قوم نوح كانوا يضربون نوحا عليه السلام
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 83
حتّى يسقط فيلقونه فى لبدو يبقونه فى بيت يزعمون انه قد مات فيخرج فى اليوم الثاني ويدعوهم إلى اللّه سبحانه وتعالى - وروى ان شيخا منهم كان يتوكا على عصا ومعه ابنه فقال يا بنى لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكنني من العصا فاخذ العصا من أبيه حتّى شج شجة منكرة فاوحى اللّه تعالى إليه ما ذكر فى كتابه.
(1/3189)
وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ افتعال من البؤس وهو الحزن ومعناه لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) من التكذيب والإيذاء - اقنطه اللّه من ايمانهم حتّى لا يتعب نفسه فى دعوتهم ونهاه ان يغتم حيث وعده بانى مهلكهم ومنقذك منهم - فحينئذ دعا نوح عليهم بقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً - وحكى محمّد بن إسحاق عن عبيد ابن عمير الليثي انه بلغه انهم كانوا يبطشون بنوح فيخنقونه حتّى يغشى عليه وإذا أفاق قال رب اغفر لقومى فانهم لا يعلمون - حتّى إذا عادوا فى المعصية واشتد عليه منهم البلاء انتظر النجل بعد النجل - فلا يأتى قرن الا أخبث من الّذي قبله - حتّى كان الاخر منهم ليقولون قد كان هذا مع ابائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا - فشكى إلى اللّه عز وجل وقال رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً حتّى قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فاوحى اللّه اليه.
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا حال أى متلبسا بأعيننا - قال ابن عباس بمراء منا - وقال مقاتل بعلمنا - وقيل بحفظنا - عبر عن المبالغة فى الحفظ بالأعين لكونها اكثر آلات الحفظ والمراعات عن الاختلال من سائر الحواس وَوَحْيِنا إليك كيف تصنع أو بامرنا بصنعه وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى لا تدعنى باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) بالطوفان حكمت عليهم فى الأزل بالاغراق فلا سبيل إلى كفّه - قال البغوي فى القصة ان جبرئيل عليه السلام اتى نوحا - فقال ان ربك يأمرك ان تصنع الفلك - قال كيف اصنع ولست بنجار - فقال ان ربك يقول اصنع فانك بعيني فاخذ القدوم وجعل يصنع ولا يخطئ - وقيل اوحى إليه ان يصنعها مثل جوء جوء الطائر.
(1/3190)
وَ يَصْنَعُ نوح الْفُلْكَ حكاية حال ماضية - قال البغوي اقبل نوح على عمل الفلك ولهى عن قومه - واعقم اللّه أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد - وجعل نوح يقطع الخشب ويضرب الحديد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 84
و يهيئ عدة الفلك من القار وغيره - وجعل قومه يمرون عليه وهو فى عمله وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به بعمله السفينة - فانه كان يعملها فى برية لم يكن بقربها ماء أو ان عزّته - وكانوا يضحكون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجارا بعد ما كنت نبيّا - وروى انهم كانوا يقولون له يا نوح ماذا تصنع فيقول اصنع بيتا يمشى على الماء فيضحكون منه قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا عاينتم عذاب اللّه فى الدنيا بالغرق وفى الاخرة بالحرق - قيل هذا على سبيل المشاكلة - والمعنى ان تستجهلونى فانى استجهلكم إذا نزل العذاب - وقيل معناه ان تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم كَما تَسْخَرُونَ (38) يعنى سخرية مثل سخريتكم منا عند رؤية الفلك.
(1/3191)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ الموصول فى محل النصب بتعلمون أى فسوف تعلمون الّذي يأتيه عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه وَيَحِلُّ عَلَيْهِ أى ينزل عليه أو يحل حلول الدين الّذي لا انفكاك عنه عَذابٌ مُقِيمٌ (39) دائم فحل بهم عذاب الغرق حتّى ماتوا وصاروا معذّبين فى البرزخ إلى يوم القيامة ثم مردّهم إلى عذاب النار وبئس المصير - قال البغوي زعم أهل التورية ان اللّه امره ان يصنع الفلك من خشب الساج وان يصنعه اعوج ازور وان يطليه القار من داخله وخارجه - وان يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله فى السماء ثلاثين ذراعا - والذراع إلى المنكب - وان يجعله ثلاث أطباق سفلا ووسطا وعلوا ويجعل فيه كوى - ففعله نوح كما امره اللّه تعالى - واخرج إسحاق ابن بشر وابن عساكر عن ابن عباس بلفظ ان نوحا لمّا امر ان يصنع الفلك - قال يا رب واين الخشب قال اغرس الشجر فغرس الساج عشرين سنة - وكف عن الدعاء وكفوا عن الاستهزاء - فلما أدرك الشجر امره ربه فقطعها وجفّها - وقال يا رب كيف اجعل هذا البيت - قال اجعله على ثلاث صور راسه كرأس الديك وجؤجؤه كجؤجؤ الطير وذنبه كذنب الديك - واجعلها مطبقة - واجعل لها أبوابا فى جنبها وشدها بدسر يعنى مسامير الحديد وبعث اللّه جبرئيل فعلمه صنعة السفينة وكذا أخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص وكعب - وقال البغوي قال ابن عباس اتخذ نوح السفينة فى سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 85
(1/3192)
خمسين ذراعا وطولها فى السماء ثلاثين ذراعا وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون - فحمل فى البطن الأسفل الوحوش والسباع والبهائم - وفى البطن الأوسط الدواب والانعام وركب هو ومن معه البطن الا على مع ما يحتاج إليه من الزاد - واخرج ابن مردوية عن سمرة بن جندب قال طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وسمكها ثلاثين ذراعا - وأخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن عباس من غير ذكر العرض - واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها فى السماء ثلاثون ذراعا - وزاد انّ بابها فى عرضها - واخرج ابن جرير عن ابن عباس بلفظ كانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحش وطبقة فيها الطير وفى شرح خلاصة السير ان الطبقة السفلى للطيور والبهائم والوحوش وغيرهم من الحيوانات والوسطى للطعام والشراب والثياب والعليا للناس - وقال الشامي كان طول السفينة ثمانين ذراعا وعرضها خمسين وسمكها إلى السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب - وعن ابن عباس ان طولها ستمائة ذراع - قال البغوي وروى عن الحسن قال كان طولها الفا ومائتى ذراع وعرضها ستمائة ذراع والمعروف هو الأول ان طولها ثلاثمائة ذراع - وعن زيد بن اسلم قال مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يعمل الفلك - وقيل غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة وعن كعب الأحبار ان نوحا عمل السفينة ثلاثين سنة وروى انها كانت ثلاث طبقات الطبقة السفلى للدواب والوحوش والطبقة الوسطى فيها الانس. الطبقة العليا فيها الطير فلما كثرت أرواث الدواب اوحى إلى نوح ان اغمر ذنب الفيل - فوقع منه خنزير وخنزيرة فاقبلا على الروث - فلما وقع الفار تخرب السفينة تقرضها وحبالها فاوحى اللّه إليه ان اضرب بين عينى الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فاقبلا على الفار - .
(1/3193)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب غاية لقوله ويصنع وما بينهما حال من الضمير فيه - أو حتّى هى الّتي يبتدا بعدها الكلام وَفارَ التَّنُّورُ واختلفوا فى التنور - أخرج أبو الشيخ عن عكرمة والزهري هو وجه الأرض كذا ذكر البغوي عنه - وكذا أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس - وذلك انه قيل لنوح عليه السلام إذا رايت الماء -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 86
(1/3194)
فار على وجه الأرض فاركب السفينة - واخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة فى قوله تعالى وَفارَ التَّنُّورُ قال أعلى الأرض وأشرفها - واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى وفار التّنّور قال العين الّتي بالجزيرة عين الوردة - وروى عن علىّ قال فار التّنّور يعنى طلع الفجر ونور الصبح - وقال الحسن ومجاهد والشعبي انه التنور الّذي تخبز فيه - وهو قول اكثر المفسرين ورواية عطية عن ابن عباس أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس بلفظ إذا رايت تنور أهلك تخرج منه الماء فانه هلاك قومك - قال الحسن كان تنورا من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصارت إلى نوح فقيل لنوح إذا رايت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا فى موضعه قال مجاهد والشعبي كان فى ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور الا من ناحية الكوفة - وقال اتخذ نوح السفينة فى جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلى باب كندة - وكان فوران الماء منه علما لنوح - أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن علىّ بن أبى طالب قال فار التنور من مسجد الكوفة من قبل باب كندة - وأخرجه عنه أيضا أبو الشيخ من طريق الشعبي بلفظ والّذي فلق الحبة وبرئ النسمة ان مسجدكم هذا الرابع من اربعة مساجد المسلمين والركعتان فيه أحب الىّ من عشرهما سواها الا المسجد الحرام ومسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وان من جانبه الايمن مستقبل القبلة فار التنور - وقال مقاتل كان ذلك تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة - وروى عن ابن عباس انه كان بالهند - أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه - والفور ان الغليان قُلْنَا احْمِلْ فِيها أى فى السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ الزوجان كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الاخر فيقال لواحد من خف أو نعل زوج خف وزوج نعل والمراد بالزوجين
(1/3195)
هاهنا الذكر والأنثى - يعنى من كل ذكر وأنثى اثْنَيْنِ منصوب على المفعولية لاحمل يعنى احمل اثنين من كل ذكر وأنثى أى من مجموعهما من كل واحد منهما واحدا - هذا على قراءة الجمهور باضافة كل إلى زوجين - وقرأ حفص هاهنا وفى سورة المؤمنين من كلّ بالتنوين يعنى من كل نوع من الحيوان زوجين يعنى ذكرا وأنثى - فهو منصوب على المفعولية واثنين على هذا تأكيد - قال البغوي وفى القصة ان نوحا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 87
عليه السلام قال يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين فحشر اللّه إليه السباع والطير فجعل يضرب بيديه فى كل جنس فيقع الذكر فى يده اليمنى والأنثى فى يده اليسرى فيحملهما فى السفينة وَأَهْلَكَ عطف على المفعول به اعنى اثنين أو زوجين والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من اللّه تعالى فى الأزل بالهلاك يعنى امرأته واعلة وابنه منها كنعان فانهما كانا كافرين وَمَنْ آمَنَ من الناس غيرهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) واختلفوا فى عددهم فقال قتادة وابن جريج ومحمّد بن كعب القرظي لم يكن فى السفينة إلا ثمانية نفر - نوح وامرأته وثلاثة بنين له سام وحام ويافث ونساؤهم - أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج قال حدثت ان نوحا حمل معه بنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه - وأصاب حام زوجته فى السفينة فدعا ان يغير نطفته - فجاءت بالسّودان وقال الأعمش كانوا سبعة نوح وثلاث بنين له وثلاث كنائن - وهذان القولان يأباهما القرآن فان عطف قوله ومن أمن على أهلك يدل على المغائرة والسبعة المذكورون كانوا من اهله وقال ابن إسحاق كانوا عشرة نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة أناس ممن كان أمن
(1/3196)
به سواهم وأزواجهم جميعا يعنى كانوا عشرة من الرجال وعشرا من النساء - وقال مقاتل كانوا اثنين وسبعين نفرا رجلا وامراة - وبنيه الثلاثة ونساءهم - فجميعهم ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء - وعن ابن عباس قال كان فى سفينة نوح ثمانين رجلا أحدهم جرهم - أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال حمل نوح معه فى السفينة ثمانين إنسانا وكان لسانه عربيّا - قال ابن عباس أول ما حمل نوح الدرة واخر ما حمل الحمار - فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح عليه السلام يقول ويحك ادخل فنهض فلا يستطيع حتّى قال ويحك ادخل وان كان الشيطان معك - كلمة زلت عن لسانه فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان فقال نوح ما أدخلك علىّ يا عدو اللّه - قال الم تقل ادخل وان كان الشيطان معك - قال أخرج عنى يا عدو اللّه - قال مالك بد من ان تحملني معك وكان فيما يزعمون فى ظهر الفلك - وروى عن بعضهم ان الحيّة والعقرب أتيا نوحا فقالتا احملنا - فقال انكما سبب الضر والبلاء فلا احملكما
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 88
قالتا احملنا فنحن نضمن لك ان نضر أحد أذكرك - فمن قال حين خاف مضرتهما سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ما ضرتاه - قال الحسن لم يحمل نوح فى السفينة الا ما يلد ويبيض فاما ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا - .
(1/3197)
وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها أى صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لانها فى الماء كالمركوب فى الأرض بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها حال من الضمير المرفوع فى اركبوا يعنى اركبوا فيها مسمين اللّه أو قائلين بسم اللّه وقت إجرائها وارسائها - أو مكانهما على ان المجرى والمرسى للوقت أو للمكان أو للمصدر والمضاف محذوف كقولهم اتيك خفوق النجم وانتصابهما بما قدرنا حالا ويجوز رفعهما ببسم اللّه على ان المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدا وخبر أى اجراؤها بسم اللّه فبسم اللّه خبره أو صلته والخبر محذوف وهى اما جملة لا تعلق لها بما قبلها كانّ نوحا أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بان مجرها ومرسها بذكر اسم اللّه أى باسم اللّه اجراؤها وارساؤها ولفظ الاسم مقحم - واما حال مقدرة من الضمير المرفوع فى اركبوا أو من الضمير المجرور فى فيها قرأ حمزة والكسائي وحفص مجرها بفتح الميم من جرى - وقرا محمّد بن محيصن مجرها ومرسها بفتح الميمين من جرت ورست وكلّا يحتمل الثلاثة الزمان والمكان والمصدر - والباقون بضم الميمين من أجريت وأرسيت وامال حفص مجرها خاصة فى القرآن لا غير إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) أى لو لا مغفرته لسيئاتكم ورحمته إياكم لما نجيتم - قال البغوي قال الضحاك كان نوح إذا أراد ان تجرى السفينة فقال بسم اللّه جرت - وإذا أراد ان ترسو قال بسم اللّه رست - .
(1/3198)
وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه اركبوا يعنى فركبوا مسمين وهى تجرى بهم وهم فيها فِي مَوْجٍ جمع موجة كتمر وتمرة وهى ما ارتفع من الماء عند اضطرابه إذا اشتدت الريح كَالْجِبالِ يعنى كل موجة منها كجبل فى ترالمها وارتفاعها وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وقال عبيد بن عمير يام وكان كافرا وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا بعده يا بُنَيَّ قرأ عاصم بفتح الياء اقتصارا عليه بالألف المبدلة من ياء الاضافة من قولك يا بنيا والباقون بكسرها اقتصارا عليه من ياء الاضافة ارْكَبْ مَعَنا فى السفينة -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 89
قرأ « 1 » ابن عامر وحمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بإظهار الباء والآخرون يدغمونها فى الميم وفى التيسير اظهر ورش وابن عامر وحمزة واختلف عن قالون وعن اليزيدي وعن خلاد - والتقدير يا بنى اسلم واركب معنا - فان الركوب يدل على الإسلام لتوقفه عليه وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) فى الدين والانعزال فتهلك.
(1/3199)
قالَ له ابنه كنعان لا اسلم ولا اركب معك ولكن سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ يمنعنى من الغرق قالَ له نوح لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أى من عذابه المأمور به إِلَّا مَنْ رَحِمَ قيل من فى محل الرفع يعنى لا مانع من عذاب اللّه الا اللّه الراحم - أو الإمكان من رحمهم اللّه وهم المؤمنون - رد بذلك ان يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به الا معتصم المؤمنين وهو السفينة - وقيل من فى محل النصب معناه لا معصوم الا من رحمه اللّه كقوله تعالى عِيشَةٍ راضِيَةٍ وقيل الاستثناء منقطع يعنى ولكن من رحمه اللّه يعصمه وَحالَ بَيْنَهُمَا أى بين نوح وابنه أو بينه وبين الجبل الْمَوْجُ فَكانَ أى فصار أو كان فى علم اللّه مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) يروى ان الماء علا على رءوس الجبال أربعين ذراعا وقيل خمسة عشر ذراعا - قال البغوي ويروى انه لما كثر الماء فى السكك وخشيت أم صبى عليه كانت تحبه حبّا شديدا - فخرجت إلى الجبل حتّى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتّى بلغت ثلثيه فلمّا بلغها ذهبت حتّى استوت على رأس الجبل - فلمّا بلغ الماء رقبتها رفعت الصبى بيديها حتّى ذهب بها الماء فلو رحم اللّه منهم أحد الرحم أم الصبى - قلت لكن هذه القصة ينافى ما روى ان اللّه سبحانه اعقم أرحام نساء قوم نوح قبل غرقهم سنين حتّى لم يكن فيهم صبى حين اغرقوا - .
وَقِيلَ يعنى قال اللّه تعالى بعد ما تناهى امر الطوفان يا أَرْضُ ابْلَعِي اشربى ماءَكِ أى الماء الّذي نبع منك فشربته دون ما نزل من السماء فصار أنهارا وبحارا
_________
(
(1/3200)
1) والصحيح من طرق النشر قرأ ورش وابن عامر وخلف عن حمزة فى اختياره وأبو جعفر بإظهار الباء واختلف ابن كثير وعاصم وقالون وخلاد والوجهان صحيحان عن كل منهم والباقون أى أبو عمرو والكسائي ويعقوب بالإدغام فعداد يعقوب فى المظهرين وعداد أبو بكر وخلاد بوجه واحد منهم وإخراج ابن كثير وقالون منهم تسامح ومن طرق التيسير والشاطبية اظهر قالون والبزي وخلاد بخلاف عنهم وورش وابن عامر وخلف وادغم الباقون - روى ابن مجاهد عن قنبل ويحيى عن أبى بكر وعبيد عن حفص الإدغام - وأبو جعفر وخلف مع ورش ومن معه ويعقوب مع أبو عمرو - واللّه اعلم - أبو محمّد عفا اللّه عنه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 90
(1/3201)
وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أمسكي عن المطر يعنى لا تمطرى فامسكت وَغِيضَ الْماءُ يعنى غاضه اللّه أى انقصه اللّه وهو لازم ومتعد وَقُضِيَ الْأَمْرُ أى أنجز ما وعد اللّه من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين وَاسْتَوَتْ أى استقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل وقيل بالشام وَقِيلَ يعنى قال اللّه تعالى بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) أى بعد القوم الظالمون بعدا من رحمة اللّه وهلكوا هلاكا ثم حذف الفعل وجعل للقوم الظّالمين وصفا للمصدر - قال البغوي روى ان نوحا عليه السلام بعث الغراب « 1 » ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع - فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون فى منقارها ولطخت رجلها بالطين فعلم نوح ان الماء قد نضب - فقيل انه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت - وطوق الحمامة الخضرة الّتي فى عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم يألف بالبيوت - واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال وذكر لنا انها استقلت بهم فى عشر خلون من رجب وكانت فى الماء خمسين ومائة يوما ثم استقرت بهم على الجودي واهبطوا إلى الأرض فى عشر ليال خلون من المحرم - واخرج ابن عساكر عن خالد الزيات بزيادة قال فى آخره فارست السفينة يوم عاشوراء فقال نوح لمن معه من الجن والانس صوموا هذا اليوم - وكذا قال البغوي انه روى ان نوحا ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت فطافت به سبعا وقد رفعه اللّه من الغرق وبقي موضعه - وهبطوا يوم عاشوراء فصام نوح وامر من معه بالصوم شكرا للّه عز وجل - وقيل ما نجى من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان فى الماء إلى حجرته - وكان سبب نجاته ان نوحا احتاج إلى خشب الساج للسفينة فلم يمكنه نقلها فحملها عوج إليه من الشام - فنجاه اللّه من الغرق لذلك قلت وقصة عوج ذلك يخالف ظاهر النصوص حيث قال اللّه تعالى قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ
(1/3202)
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً - وقال قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وقال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ
_________
(1) وعن عمر بن الخطاب انه قال لما استقرت السفينة على الجودي لبث ما شاء اللّه ثم انه اذن له فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال ايتني بخبر الأرض فانحدر الغراب على الأرض وفيه الغرقى من قوم نوح فابطأ عليه فلعنه - فدعا الحمامة فوقف على كف نوح فقال اهبطى فتأتى الخبر فلم يلبث الا قليلا حتّى جاءت بنقص ريشة فى منقارها فقالت اهبط فقد أثبتت الماء الأرض قال نوح بارك اللّه فيك وفى بيت يؤويك وحبّبك إلى الناس لو لا ان يغلبك الناس على نفسك لدعوت اللّه ان يجعل رأسك من ذهب 12 ازالة الخفا - منه رحمه اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 91
فتخصيص عوج من العمومات القاطعة لا يجوز الا بقاطع ولم يوجد والقصة يأبى عنه العقل والنقل - .
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ الفاء لتفسير النداء رَبِّ إِنَّ ابْنِي يعنى كنعان مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ لا خلف فيه وعدت ان تنجى أهلي فماله لم ينج - ويجوز ان يكون هذا النداء قبل الغرق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) لانك أعلمهم واعدلهم ولا يجوز خلف فى حكمك وقد حكمت بهلاك قوم ونجاة أهلي - أو المعنى انك اكثر حكمة من ذوى الحكم والحكمة.
(1/3203)
قالَ اللّه تعالى يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لقطع الولاية بين المؤمنين والكفار إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تعليل لنفى كونه من اهله - قرأ الكسائي ويعقوب عمل بكسر الميم على الفعل الماضي وغير بالنصب على المفعولية أى عمل الشرك والتكذيب - والباقون بفتح الميم والتنوين على انه مصدر مرفوع وهو خبران على حذف المضاف ونقل إعرابه إلى المضاف إليه - تقديره انه ذو عمل غير صالح وفيه مبالغة حيث جعل ذاته ذات العمل - أو المعنى ان سوالك إياي بانجائه عمل غير صالح فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح - قرأ نافع وابن عامر بفتح اللام وكسر النون المشددة على ان أصله تسئلنّنى بالنون المشددة ونون الوقاية فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت المشددة الياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة - وقرا ابن كثير كذلك الا انه يفتح النون المشددة وليس فى هذه القراءة نون الوقاية ولا ياء المتكلم الضمير المنصوب - وقرا الباقون بإسكان اللام وكسر نون الوقاية وتخفيفها وحذف الياء واثبت أبو جعفر وأبو عمرو وورش ويعقوب الياء فى الوصل فقط ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اصواب هو أم خطاء سمى نداءه سوالا لتضمنه ذكر الموعد بنجاة اهله المشعر باستنجازه فى شأن ابنه أو استفسارا لمانع للانجاز فى حقه وسماه جهلا وزجر عنه بقوله إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر - أبو محمّد أبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) لان استثناء من سبق عليه القول من اهله قد دل على الحال وأغناه عن السؤال - قال البغوي اختلفوا فى هذا الابن - قال مجاهد والحسن كان ولد خبث من غير نوح ولم يعلم بذلك نوح ولذلك قال ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - وقرا الحسن فخانتاهما - وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام كان ابن امرأته ولذلك قال من أهلي ولم يقل منى - وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون التفسير
(1/3204)
المظهري ، ج 5 ، ص : 92
انه كان ابن نوح من صلبه - قال ابن عباس ما بغت امراة نبى قط وقوله إِنَّهُ ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أى من أهل دينك لأنه كان كافرا - وقوله فَخانَتاهُما أى فى الدين والعمل لا فى الفراش - وقوله إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يعنى ان تدعو بهلاك الكفار ثم تسئل نجاة كافر - وقال الشيخ أبو منصور كان ابن نوح منافقا لا يعلم نوح بكفره والا لا يحتمل ان يقول نوح إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ويسئل نجاته وقد سبق من اللّه النهى عن سوال مثله - بقوله. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ - فاعلمه اللّه تعالى إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ - وفى قول أبى منصور هذا نظر فان قوله تعالى يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ صريح فى كونه مجاهرا بالكفر واللّه اعلم.
قالَ نوح رَبِّ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أى ما لا علم لى بصحته وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي سوالى بنجاة الكافر بعد النهى عنه بخطاء فى الاجتهاد وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والعصمة والتفضل علىّ أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) أعمالا - .
(1/3205)
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أى انزل من السفينة بِسَلامٍ مِنَّا أى مسلّما من المكاره من جهتنا - أو مسلّما عليك وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ البركة الخير النامي - والمراد بالبركات مراتب قرب اللّه تعالى ورحمته وفضله وكثرة ذريته وبقاؤهم إلى يوم القيامة وكون الأنبياء منهم والصالحين وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ من للبيان والمراد بالأمم الذين كانوا معه فى السفينة لانهم كانوا جماعات أو لتشعّب الأمم منهم - أو لابتداء الغاية أى على امم ناشية من معك قال محمّد بن كعب دخل فيه كل مؤمن إلى قيام الساعة - فان قيل قوله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يدل على حصر البقاء فى ذرية نوح دون من معه فى الفلك - قلنا كان معه فى الفلك بنوه « 1 » الثلاثة فالمعنى على امم تنشا ممّن معك من ابنائك وَأُمَمٌ مبتدا حذف خبره يعنى وممّن معك امم لا بركة عليهم بل سَنُمَتِّعُهُمْ فى الدنيا بما كتبنا لهم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) فى الاخرة لاجل كفرهم وقيل المراد بهم قوم هود وصالح ولوط وشعيب والعذاب عذاب الدنيا.
تِلْكَ يعنى قصة نوح مرفوع على الابتداء خبره مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أى ما غاب عنك يعنى بعضها
_________
(1) فى الأصل بنيه -
فسير المظهري ، ج 5 ، ص : 93
(1/3206)
نُوحِيها الضمير للانباء خبر ثان أو حال من الانباء أو هو الخبر ومن انباء متعلق به أو حال من الضمير المنصوب فيه إِلَيْكَ يا محمّد ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا هذا خبر اخر أى مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك أو حال من الضمير المنصوب فى نوحيها - أو من الضمير المجرور فى إليك أى جاهلا أنت وقومك بها - تنبيه على كونه معجزة فانه لم يتعلمه الا من اللّه تعالى - فانه لم يخالط غير قومه وقومه مع كثرتهم لما لم يسمعوه فكيف بواحد منهم فمطابقة هذا النبا بالكتب المنزلة المتقدمة دليل واضح على نبوته صلى اللّه عليه وسلم فَاصْبِرْ بعد ظهور أمرك على تبليغ الرسالة وما يلقاك أذى من الكفار كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ فى الدنيا بالظفر وفى الاخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ (49) عن الشرك والمعاصي الجملة تعليل للصبر وعدم الجزع والاستعجال - .
وَإِلى عادٍ عطف على قوله إلى نوح يعنى وأرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ فى النسب هُوداً عطف بيان قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) على اللّه باتخاذ الأوثان شركاء له فى العبادة وجعلها شفعاء.
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على تبليغ الرسالة أَجْراً يمنعكم ثقل ادائه عن قبول الرسالة - أو يبعثنى طمعه على الكذب إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها - يعنى ما ثوابى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أى خلقنى قرأ نافع والبزىّ بفتح الياء والباقون بإسكانها أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) أى أ فلا تستعملون عقولكم فتعرفوا ان من هذا شأنه يجب تصديقه.
(1/3207)
وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ يعنى اطلبوا منه تعالى مغفرة ما سلف منكم من الشرك والمعاصي. وذلك بالإسلام فان الإسلام يهدم ما كان قبله - رواه مسلم عن عمرو بن العاص فى حديث مرفوع ثُمَّ تُوبُوا أى ارجعوا إِلَيْهِ أى إلى ربكم بطاعته وترك عبادة غيره يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر أي السيلان وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أى يضاعف قوتكم وذلك ان اللّه حبس عنهم المطر ثلاث سنين - واعقم أرحام نسائهم كما ذكرنا القصة فى سورة الأعراف - فقال لهم هو دان تستغفروا ربكم وتوبوا إليه يرسل « 1 » اللّه
_________
(1) فى الأصل أرسل -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 94
عليكم المطر فتزدادون مالا - ويعيد أرحام النساء فيلدن أولادا فتزدادون قوة بالأموال والأولاد - وقيل تزدادون قوة إلى قوة بدنكم وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) عطف على استغفروا - يعنى لا تعرضوا عما دعوتكم إليه مصرين على جرائمكم - .
قالُوا يعنى قومه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أى بحجة تدل على صحة دعواك - وذلك لفرط عنادهم بعد ما جاءهم به من المعجزات وَما نَحْنُ بِتارِكِي عبادة آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ أى بقولك فهو صلة - أو صادرين عن قولك فهو حال من الضمير فى تاركي وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) أى بمصدقين اقناط من الاجابة والتصديق.
(1/3208)
إِنْ نَقُولُ أى ما نقول قولا إِلَّا قولنا هذا اعْتَراكَ من عراه يعروه إذا أصابه يعنى أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أى بجنون وخبل حتّى تتكلم بالخرافات - وذلك انك تسبّ الهتنا وتمنع عن عبادتهم فانتقم بعضهم منك بالتخبيل - وجاز ان يكون معناه ما نقول فى حقك قولا الا قولنا اعتراك يعنى سيعتريك بعض الهتنا لاجل سبك إياهم بسوء أى باضرار وإهلاك - عبر عن المستقبل بالماضي مبالغة فى التحقيق والتهديد يعنى انه واقع لا محالة كأنَّه وقع - وهذا التأويل يناسب قول هود فى الجواب حيث قالَ إِنِّي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُشْهِدُ اللَّهَ على وَاشْهَدُوا أنتم يا قوم أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) به.
مِنْ دُونِهِ يعنى من الأوثان لا أعبدهم ولا أخاف منهم أصلا فَكِيدُونِي فاحتالوا فى اضرارى وإهلاكي أنتم وشركاؤكم جَمِيعاً مجتمعين يعين بعضكم بعضا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) أى لا تمهلونى - فيه استهانة لهم وثقة بالله تعالى واظهار لعجز الهتهم - فانها حجارة لا تضرو لا تنفع وفيه معجزة فانهم بعد هذه المقالة عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء الجبابرة العطّاش إلى اراقة دمه من ان يضروه.
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ أى اعتمدت عليه ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ يعنى اللّه سبحانه آخِذٌ بِناصِيَتِها الاخذ بالناصية تمثيل لقهر القاهر على المقهور وذل المقهور بين يديه يتصرف فيه كيف يشاء - قال البغوي خص الناصية بالذكر لان العرب يستعمل ذلك إذا وصف
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 95
(1/3209)
إنسانا بالذلة فيقول ناصية فلان بيد فلان - قال الضحاك يعنى يميتها ويحييها - وقال الفراء مالكها والقادر عليها وقال القتيبي يقهرها لان من أخذت بناصية فقد قهّرته إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) يعنى انه على الحق والعدل فيجازى المحسن على إحسانه والمسيء على عصيانه ولا يضيع عنده معتصم به ولا يفوته.
فَإِنْ تَوَلَّوْا حذفت احدى التاءين يعنى ان تعرضوا عمّا دعوتكم إليه فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يعنى ان أعرضتم يهلككم اللّه - ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه - حيث لم يبق لكم عذر بعد ما أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ولا بأس به علىّ فانى قد ادّيت ما علىّ من البلاغ وَلا تَضُرُّونَهُ تعالى باعراضكم شَيْئاً من الضرر انما تضرون أنفسكم - وقيل معناه لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لان وجودكم وعدمكم عنده سواء إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) رقيب لا يخفى عليه ما تصنعون ولا يغفل عن مجازاتكم أو حافظ مستول على كل شيء فلا يمكن ان يضره شيء - .
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب أو عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا اربعة آلاف بِرَحْمَةٍ بنعمة مِنَّا أى بفضل منا لا بعملهم أو بالايمان الّذي أنعمنا عليهم وَنَجَّيْناهُمْ كرر نجينا للتأكيد والتعظيم والتهويل مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وهو الريح الّتي أهلك بها عادا - وقد مر قصتها فى سورة الأعراف.
وَتِلْكَ عادٌ
(1/3210)
انث اسم الاشارة باعتبار القبيلة - وقيل اشارة إلى اثار عاد يعنى فسيحوا فى الأرض وانظروا إليها ثم وصف إليها أحوالهم فقال جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كفروا بها وَعَصَوْا رُسُلَهُ يعنى هودا وغيره من المرسلين فان كلهم يدعون إلى التوحيد ويصدق بعضهم بعضا فعصيان واحد منهم عصيان بجميعهم وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ متكبر عَنِيدٍ (59) لا يقبل الحق يقال عند الرجل يعنه عنودا إذا أبى ان يقبل الشيء وان عرفه - وقال أبو عبيد العنيد والعنود والمعاند المعارض لك بالخلاف - يعنى اتبعوا كبراءهم الطاغين يعنى عصوا من دعاهم إلى الايمان وتركوا ما
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 96
ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وأتوا بما يهلكهم.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أى دعاء باللعنة من الناس والملائكة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا يتبعون باللعن من اللّه تعالى أى جعلت اللعنة تابعة لهم فى الدارين واللعنة هى الابعاد والطرد عن الرحمة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أى جحدوه أو كفروا نعمه فحذف الجار أَلا بُعْداً لِعادٍ قيل بعدا من رحمة اللّه وقيل هلاكا - قال البغوي للبعد معنيان أحدهما ضد القرب والاخر بمعنى الهلاك - وكذا فى القاموس والجملة دعاء عليهم باللعن والهلاك والمراد به الدلالة على انهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم - وانما كرر الا وأعاد ذكرهم تفظيعا لامرهم وحثّا على الاعتبار بحالهم قَوْمِ هُودٍ (60) عطف بيان وفائدته الإيماء إلى ان استحقاقهم البعد بما جرى بينهم وبين هود عليه السلام - .
(1/3211)
وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ أى بدا خلقكم مِنَ الْأَرْضِ يعنى خلقكم من آدم وآدم من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ يعنى عمّركم واستبقاكم من العمر - وقال الضحاك أطال عمركم حتّى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى الف سنة - وكذلك قوم عاد فِيها أى فى الأرض - وقيل معناه قدركم على عمارتها وجعلكم عمّارها وسكانها وقال مجاهد استعمركم من العمرى أى جعلها لكم ما عشتم ويرثها منكم بعد انصرام اعماركم - أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ من عباده قربا لا كيف له حتّى أفاض عليهم الوجود - أو قريب بالذات بلا كيف أو بالرحمة لاوليائه مُجِيبٌ (61) لدعائهم.
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا أى كنا نرجوا ان تكون سيدا فينا - وقيل أى كنا نرجوا ان توافقنا فى الدين وتعود إلى ديننا قَبْلَ هذا القول يعنى دعائك ايّانا إلى ترك عبادة الأوثان - فلمّا سمعنا منك هذا القول انقطع رجاءنا عنك أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على حكاية الحال الماضية وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد والتبرّى عن الأوثان مُرِيبٍ (62) أى ذى ريبة على الاسناد المجازى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 97
من اراب فى الأمور - أو موقع فى الريبة من ارابه إذا أوقعه فى الريبة وهى قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.
(1/3212)
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ أى بيان وبصيرة مِنْ رَبِّي ادخل حرف الشك باعتبار المخاطبين - وجاز ان يكون ان مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشان أو ضمير المتكلم محذوفا يعنى انّى كنت أو انّه أى الشأن كنت على بيّنة من ربّى وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أى نبوة وحكمة فَمَنْ يَنْصُرُنِي يمنعنى مِنْ عذاب اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فى تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) أى غير ان تخسرونى بابطال ما منحنى اللّه به والتعريض لعذابه - وقال الحسين بن الفضل لم يكن صالح فى خسارة حتّى قال فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ - وانما المعنى ما تزيدوننى بما تقولون الا نسبتى ايّاكم إلى الخسارة فان التفسيق والتفجير فى اللغة النسبة إلى الفسق والفجور فكذلك التخسير النسبة إلى الخسران - وقال ابن عباس معناه ما تزيدوننى غير بصارة فى خسارتكم - .
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً انتصبت اية على الحال وعاملها معنى الاشارة ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها - وذلك ان قومه طلبوا منه ان يخرج من صخرة معينة ناقة عشراء اية لنبوته - فدعا صالح فخرجت منها ناقة وولدت فى الحال مثلها وقد مرت القصة فى سورة الأعراف فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ترع نباتها وتشرب ماءها ليس عليكم مؤنتها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ ان مسّستموها بسوء عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فى ثلاثة ايام.
(1/3213)
فَعَقَرُوها يعنى عقر بامرهم قذار بن سالف فَقالَ لهم صالح تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ أى فى الدنيا أو فى بلدكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة تصبحون اليوم الأول ووجوهكم مصفرة وفى اليوم الثاني محمرة وفى الثالث مسودة ثم تهلكون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) أى غير مكذوب فيه - اجرى الظرف مجرى المفعول به مجازا - أو وعد غير كذب على انه مصدر كالمجلود والمعقول - أو غير مكذوب على المجاز على ان الواعد كانّه قال له أفي بك فان وفى به صدقه والا كذبه - فكان كما وعد - وأتاهم العذاب فى اليوم الرابع.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 98
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ
يعنى ونجيناهم من خزى يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة بغضب اللّه - قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي هاهنا وفى المعارج من عذاب يومئذ بفتح يوم على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه والباقون بالكسر جرّا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) القادر على كل شيء والقاهر عليه.
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أى كفروا الصَّيْحَةُ وذلك ان جبرئيل صاح صيحة واحدة - وقيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء فى الأرض - فتقطعت قلوبهم فى صدورهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) صرعى هلكى.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أى لم يقيموا فِيها أى فى ديارهم أَلا إِنَّ ثَمُودَ قرأ حفص ويعقوب وحمزة هنا والفرقان والنجم بفتح الدال من غير تنوين ووقفوا بغير الف والباقون بالتنوين ووقفوا بالألف عوضا عنه كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) قرأ الكسائي ثمود بكسر الدال مع التنوين والباقون بفتح الدال من غير تنوين - .
(1/3214)
وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا من الملائكة قال ابن عباس وعطاء كانوا ثلاثة جبرئيل وميكائيل واسرافيل - وقال محمّد بن كعب كان جبرئيل ومعه سبعة - وقال الضحاك كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا - وقال السدى كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أى بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل باهلاك قوم لوط قالُوا سَلاماً أى نسلم عليك سلاما - ويجوز نصبه بقالوا على معنى ذكروا سلاما قالَ سَلامٌ أى « 1 » أمركم أو جوابى سلام - أو عليكم سلام رفعه اجابة بأحسن من تحيتهم - فانه جملة اسمية يدل على الدوام والاستمرار بخلاف الفعلية - قرأ حمزة والكسائي هاهنا وفى الذاريات سلم بكسر السين بلا الف وهما لغتان نحو حلّ وحلال وحرم وحرام - وقيل المراد به الصلح أى نحن صلح لكم غير حرب فَما لَبِثَ أى فما ابطا ابراهيم أَنْ جاءَ أى فى ان - أو ما تأخر عن المجيء والجار مقدر أو محذوف - وجاز ان يكون ان جاء فى محل الرفع على الفاعلية يعنى فما ابطا مجيء ابراهيم بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) أى مشوى على الحجارة - فى القاموس الشاة يحنذها حنذا أو تحناذا شواها وجعل فوقها حجارة محماة لتنضجها فهى حنيذ - وقيل الحنيذ ما تقطر ودكا من حنذت الفرس إذ عرقته بالجلال - وفى القاموس الفرس إذا ركضه وأعداه شوطا او
_________
(1) فى الأصل أمرك -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 99
شوطين ثم ظاهر عليه الجلال فى الشمس ليعرق فهو حنيذ - فعلى هذا معناه السمين مجازا فيوافق قوله تعالى فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قال قتادة كان عامة مال ابراهيم البقر.
(1/3215)
فَلَمَّا رَأى ابراهيم أَيْدِيَهُمْ أى الرسل لا تَصِلُ إِلَيْهِ يعنى لا يمدون إليه أيديهم ولا يأكلون نَكِرَهُمْ يعنى انكرهم قال البيضاوي نكر وأنكر واستنكر بمعنى - وفى القاموس التّنكّر التّغيّر عن حال تسرك إلى حال تكرهها وَأَوْجَسَ يعنى أحس وأضمر كذا فى القاموس - وقال مقاتل وقع فى قلبه وقال البغوي اصل الوجوس الدخول كانّ الخوف دخل قلبه مِنْهُمْ أى من الأضياف حين لم يأكلوا خِيفَةً خوفا قال قتادة وذلك انهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا انه لم يأت بخير وانما جاء بشر - قيل وذلك لأنه كان عادتهم انه إذا مس من يطرقهم طعامهم امنوه والا خافوه - فخاف ان يريدوا به مكروها وظنهم لصوصا - والظاهر انه أحس بانهم ملائكة وخاف ان يكون نزولهم لامر أنكره اللّه عليه - أو لتعذيب قومه قالُوا يا ابراهيم لا تَخَفْ إِنَّا ملائكة اللّه أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) بالعذاب.
(1/3216)
وَ امْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناخور وهى ابنة عم ابراهيم عليه السلام قائِمَةٌ من وراء الستر تسمع كلامهم وقيل كانت قائمة تخدم الأضياف وابراهيم جالس معهم فَضَحِكَتْ قال مجاهد وعكرمة أى حاضت فى الوقت - تقول العرب ضحكت الأرنب أى حاضت وكذا فى القاموس ويقال ضحكت السمرة إذا سال صمغها - والأكثرون على ان المراد منه الضحك المعروف واختلفوا فى سبب ضحكها - قيل ضحكت سرورا بزوال الخوف عنها وعن ابراهيم حين قالوا لا تخف - وقال السدى لمّا قرب ابراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا فخاف ابراهيم وظنهم لصوصا - فقال أَلا تَأْكُلُونَ - قالوا انا لا نأكل الطعام الا بثمن - قال ابراهيم فان له ثمنا - قالوا وما ثمنه - قال تذكرون اسم اللّه على اوله وتحمدونه على آخره - فنظر جبرئيل إلى ميكائيل عليهما السلام وقال حق لهذا ان يتخذه ربه خليلا - فلما راى ابراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة - وقالت يا عجبا لاضيافنا انا نخدمهم بانفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا - وقال قتادة ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم - وقيل ضحكت لاصابة رأيها فانها كانت تقول لابراهيم اضمم إليك لوطا فانى اعلم
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 100
(1/3217)
ان العذاب ينزل بهذا القوم - وقال مقاتل والكلبي ضحكت من خوف ابراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه - وقيل ضحكت سرورا بالبشارة بالولد وولد الولد أو بهلاك أهل الفساد وقال ابن عباس ووهب ضحكت تعجبا من ان يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها - وعلى هذا القول يكون فى الآية تقديم وتأخير تقديره وامرأته قائمة فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) فضحكت - قرأ ابن عامر وحمزة وحفص يعقوب « 1 » بالنصب بفعل مضمر يفسره ما دل عليه الكلام - وتقديره ووهبناها من وراء اسحق يعقوب - وقيل انه معطوف على موضع بإسحاق أو على لفظ إسحاق وفتحته للجر فانه غير منصرف - ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف - والباقون بالرفع على انه مبتدا خبره الظرف أى ويعقوب مولود من بعد إسحاق - وقيل تقديره ومن بعد إسحاق يولد يعقوب - وقيل الوراء ولد المولد ولعله سمى به لأنه بعد الولد - وعلى هذا إضافته إلى إسحاق ليس من حيث ان يعقوب وراءه بل وراء ابراهيم من جهته - قال البيضاوي فيه نظر والاسمان يحتمل وقوعهما فى البشارة كيحيى - ويحتمل وقوعهما فى الحكاية بعد ان ولدا فسميا به - وتوجيه البشارة إليها وتخصيصها بها للدلالة على ان الولد المبشر به يكون منها - ولان النساء تكون أعظم سرورا بالولد من الرجال - ولانها كانت عقيمة حريصة على الولد فبشرت بالولد وولد الولد « 2 » وعلى انها يعيش ولدها حتّى يولد له وتعيش هى حتّى ترى ولد ولدها - فلما بشرت بالولد صكت وجهها أى ضربت تعجبا و.
(1/3218)
قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا أصله كلمة ندبة يقال فى الشر - فاطلق فى امر فظيع وعند رؤية ما يتعجب منه والالف مبدلة من ياء الاضافة يدل عليه قراءة الحسن يويلتى بالياء على الأصل - وقيل الالف الف الندبة أصله يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ كانت ابنة تسعين سنة فى قول ابن إسحاق وتسع وتسعين سنة فى قول مجاهد وَهذا بَعْلِي زوجى وأصله القائم بالأمر شَيْخاً ابن مائة وعشرين سنة فى قول ابن إسحاق ومائة سنة فى قول مجاهد - وكان بين البشارة والولادة سنة - ونصبه على الحال والعامل فيها معنى الاشارة إِنَّ هذا يعنى الولد من الهرمين لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) يعنى خلاف العادة.
قالُوا يعنى الملائكة منكرين عليها فى الاستعجاب
_________
(1) فى الأصل ويعقوب
(2) فى الأصل على لغير واو
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 101
(1/3219)
أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أى من قضائه وقدرته - فان اللّه إذا أراد شيئا كان - فان قيل العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر بديع مخالف للعادة والأمر كذلك - وكونه مقدورا اللّه تعالى لا ينافى الاستعجاب - إذ كل شيء مقدور لله تعالى وان كان بديعا مخالفا للعادة فما وجه انكارهم عليها فى الاستعجاب - قلنا خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات وتخصيصهم لمزيد النعم والكرامات ليس ببديع - ولا حقيق بان يستغربه عاقل فضلا عن من نشأت وشابّت فى ملاحظة الآيات رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ قيل هذا على معنى الدعاء من الملائكة - وقيل على معنى الخبر - والرحمة النعمة أو المحبة من اللّه عز وجل - والبركة النماء والزيادة فى كل خير - وقيل الرحمة النبوة - والبركات الأسباط من بنى إسرائيل لان أنبياء بنى إسرائيل منهم وكلهم من أولاد سارة - وجملة رحمة اللّه وبركاته مستأنفة فى مقام التعليل للانكار على التعجب - كأنَّه قيل إياك والتعجب فان أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من اللّه تعالى عليكم - هذا على تقدير كونه خبرا أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقوله اللهم اغفر لنا أيتها العصابة - وفى الآية رد على الروافض حيث لا يزعمون ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم من أهل البيت مع ان أهل البيت من حيث اللغة هى الأزواج وغيرهن اتباع لهن إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد مَجِيدٌ (73) فى الصحاح المجد السعة فى الكرم والجلالة - والكرم يوصف به اللّه تعالى لاحسانه وانعامه المتظاهرة - ويوصف به الإنسان للاخلاق والافعال المحمودة الّتي تظهر منه - ولا يقال هو كريم حتّى يظهر ذلك منه - قال البغوي واصل المجد الرفعة - وقال البيضاوي كثير الخير والإحسان وفى القاموس المجيد الرفيع العالي والكريم والشريف الفعّال - .
(1/3220)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أى الخوف والفزع وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بإسحاق ويعقوب بدل الروع يُجادِلُنا جواب للماجئ به مضارعا على حكاية الحال - أو لأنه فى سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو - أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترى على خطابنا أو شرع فى جدالنا - أو متعلق بجواب محذوف أقيم مقامه مثل أخذ أو ظل أو اقبل
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 102
يجادلنا - قيل معناه يكلمنا لان ابراهيم لا يجادل ربه وانما يسئله ويطلب - وقال عامة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) وكان مجادلته انه قال للملائكة ارايتم لو كان فى مدائن لوط خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم قالوا لا قال أو أربعون قالوا لا قال أو ثلاثون قالوا لا حتّى بلغ خمسة قالوا لا قال ارايتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أ تهلكونها قالوا لا قال ابراهيم عليه السلام عند ذلك ان فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجّينّه وأهله الّا امرأته كانت من الغابرين.
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسيء أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس - وفى القاموس الموقن أو الدّعاء أو الرّحيم الرقيق أو الفقيه أو المؤمن بالحبشية مُنِيبٌ (75) راجع إلى اللّه والمقصود من بيان صفاته ذلك بيان الحامل على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه وعدم ارادة الانتقام من المسيء فقالت الرسل عند ذلك المجادلة.
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال. إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أى حكمه بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو اعلم بحالهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) غير مصروف بجدال ولا بدعاء ولا غير ذلك.
(1/3221)
وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا يعنى تلك الملائكة لُوطاً على صورة غلمان مرد حسان الوجوه سِي ءَ بِهِمْ أى ساء مجيئهم لوطا - وحزن لوط بظنه ايّاهم أناسا - فخاف عليهم ان يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم - قرأ نافع وابن عامر والكسائي سيء بهم وسيئت وجوه بإشمام السين الضم هنا وفى العنكبوت والملك - والباقون بإخلاص كسرة السين وَضاقَ لوط بِهِمْ أى بسببهم ذَرْعاً تميز من النسبة يعنى ضاق ذرعه قال البغوي قلبه - وقال البيضاوي ضاق بمكانهم صدره - قلت والذرع فى الأصل اليد إلى المرفق أو الساعد - ويطلق على القوة كاليد - والمعنى هاهنا ضاقت أى ضعفت بهم طاقته ولم يجد من المكروه مخلصا كذا فى القاموس - قال البيضاوي هو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) شديد قال قتادة والسدى خرجت الملائكة من عند ابراهيم نحو قرية لوط - فاتوا لوطا نصف النهار وهو فى ارض
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 103
له يعمل فيها - وقيل انه يحتطب - وقد قال اللّه عز وجل لهم لا تهلكوهم حتّى يشهد عليهم لوط اربع شهادات - فاستضافوه فانطلق بهم - فلما مشى ساعة قال لهم ما بلغكم امر هذه القرية قالوا وما أمرهم - قال اشهد بالله انها لشر قرية فى الأرض عملا - يقول ذلك اربع مرات فدخلوا معه منزله - وروى انه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمر على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم - فقال لوط ان قومى شر خلق اللّه - ثم مر على قوم آخرين فغمزوا فقال مثله - ثم مر بقوم آخرين ففعل مثله - فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبرئيل عليه السلام للملائكة اشهدوا حتّى اتى قومه - وروى ان الملائكة جاءوا إلى بيت لوط عليه السلام ولقوه فى داره ولم يعلم بذلك أحد الا أهل بيت لوط - فخرجت امرأته فاخبرت قومها وقالت ان فى بيت لوط رجالا ما رايت مثل وجوههم قط - .
(1/3222)
وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس وقتادة يسرعون - وقال مجاهد يهرولون وقال الحسن مشيء بين مشيئين - وقال شمر بن عطية بين الهرولة والجفر - وفى القاموس مشيء فى اضطراب وسرعة - وبناء الفعل للمفعول للدلالة على كمال الاسراع والاضطراب - فالمعنى يسرعون إليه كمال اسراع كانهم يدفعون إلى الاسراع وذلك لكمال طلبهم للفاحشة وَمِنْ قَبْلُ ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ كانوا يأتون الرجال فى ادبارهم ويعملون الفواحش فتمرّنوا بها ولم يستحيوا منها حتّى جاءوا يهرعون لها مجاهرين قالَ لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا انهم غلمان يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي يعنى فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفائتهم - لا لحرمة المسلمات على الكفار فانه شرع طار - وكان فى ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا - كما زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ابنتيه من عتبه بن أبى لهب وابى العاص بن الربيع قبل الوحى وكانا كافرين - وقال الحسين بن الفضل عرض بناته عليهم بشرط الإسلام - وقال مجاهد وسعيد بن جبير قوله هؤلاء بناتي أراد به « 1 » نساءهم وأضاف إلى نفسه لان كل نبى أبو أمته - وفى قراءة أبيّ بن كعب النّبىّ اولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امّهاتهم وهو اب لّهم - وهذا القول يرجح من حيث المعنى بان ابنتيه لا تصلحان
_________
(1) وفى الأصل أراد نساءهم
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 104
(1/3223)
لنكاح جماعة من الرجال - وقيل فى جواب هذا الترجيح انه كان لقوم لوط سيدان مطاعان - فاراد لوط ان يزوجهما ابنتيه - وقيل انما قال لوط هؤلاء بناتي على سبيل الدفع مبالغة فى تناهى خبث ما يقصدونه - يعنى ان ذلك أهون عليه منه لا على التحقيق هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يعنى أنظف لكم فعلا أو اقل فاحشة كقولك الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه - وقوله هؤلاء مبتدا وبناتي عطف بيان وهن فصل واطهر خبر المبتدا أو بناتي خبر هؤلاء وهنّ اطهر مبتدا وخبر فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش وَلا تُخْزُونِ قرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلا فقط أى لا تفضحونى من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء فِي ضَيْفِي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان يعنى لا تخزونى فى شأن أضيافي فان إخزاء ضيف الرجل اخزاؤه أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) يهتدى إلى الحق ويجتنب عن القبيح وقال ابن إسحاق رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ يعنى لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح - وقيل معناه مالنا فيهن من حاجة وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) وهو إتيان الذكران.
(1/3224)
قالَ لهم لوط حينئذ لَوْ ثبت أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً فى البدن على دفعكم لوقيت بنفسي أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) أى انضم إلى عشيرة مانعة قوية امتنع به عنكم لامتنعت به عنكم حذف جواب لو - شبه العشيرة بركن الجبل فى شدته أى جانبه القوى قال فى القاموس الرّكن بالضم الجانب الأقوى وما تقوى به من ملك أو جند وغيره والعز والمنعة - روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال رحم اللّه أخي لوطا كان يأوى إلى ركن شديد - وفى لفظ يغفر اللّه للوط ان كان ليأوى إلى ركن شديد - أخرج إسحاق وابن عساكر من طريق جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس وكذا ذكر البغوي عنه انه قال اغلق لوط بابه وأضيافه يعنى الملائكة فى الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسوّر الجدار فلما رات الملائكة ما يلقى لوط منهم.
قالُوا يا لُوطُ ان ركنك لشديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 105
فافتح الباب ودعنا وإياهم - ففتح الباب ودخلوا فاستأذن جبرئيل عليه السلام ربه فى عقوبتهم فاذن له - فقام فى الصورة الّتي يكون فيها فنشر جناحه - وعليه وشاح « 1 » من در منظوم وهو براق الثنايا اجلى الجبين ورأسه حبك « 2 » حبك مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة - فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم - فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم - فانصرفوا وهم يقولون النجا »
(1/3225)
النجا - فان فى بيت لوط اسحر قوم فى الأرض سحرونا - وجعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتّى تصبح ونصبح وسترى ما تلقى منا غدا - يوعّدونه فقال لهم لوط متى موعد هلاكهم - قالوا الصبح - قال أريد اسرع من ذلك فلو اهلكتموهم الان فقالوا ا ليس الصبح بقريب ثم قالوا فَأَسْرِ يا لوط بِأَهْلِكَ قرأ الحرميان فاسر وان اسر بوصل الالف حيث وقع من المجرد والباء حينئذ للتعدية - والباقون بقطعها من الافعال والباء زائدة ومعناه السّير فى الليل بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس بطائفة من الليل - وقال الضحاك ببقيته - وقال قتادة بعد ما مضى اوله - وقيل انه السحر الأول وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أى لا ينصرف منكم أحد من السير فيتخلف عنك - فى القاموس لفته يلفته لواه وصرفه عن « 4 » رأيه ومنه الالتفات والتلفّت - قلت فالمجرد منه متعد - والالتفات لازم بمعنى الانصراف - وقيل معنى لا يلتفت لا ينظر من ورائه - فالامر بالاسراء متوجه إلى لوط والنهى عن الانصراف أو النظر إلى الوراء متوجه إلى من تبعه إِلَّا امْرَأَتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع على انه يدل من أحد - فهى مستثناة من النهى عن الانصراف والتخلف أو من النظر إلى الوراء - قال البغوي معنى الآية على هذه القراءة لا يلتفت أحد الا امرأتك فانها تلتفت فتهلك - وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه ممن اسرى بهم ان يلتفت سوى زوجته - فانها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت يا قوماه فادركها حجر وقتلها - وقرا اكثر القراء بالنصب على الاستثناء فاختلفوا فقال البغوي وغيره استثناء من الاسراء
_________
(1) الوشاح شيء ينسج عريضا من أديم وربما يرصع بالجواهر والخرز وشدته المرأة على عاتقها وكشحيها 12 نهايه منه رح
(
(1/3226)
2) ورأسه حبك أى شعر رأسه منكسر من الجعودة مثل الماء الساكن والرمل إذا هبّت عليهما الريح فتجعدان ويطيران طرائق واصل حبك جمع حباك ومعناه الطريق ومنه قوله تعالى وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أى طريق النجوم 17 منه رحمه اللّه
(3) النجا شدة النظر يقال للرجل الشديد الاصابة بالعين انه لنجو ونجى 12 نهايه منه رح
(4) ليس فى الأصل عن رأيه - [.....]
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 106
(1/3227)
اى فاسر باهلك الا امرأتك فلا تسربها وخلفها مع قومها - فان هواها إليهم وتصدقه « 1 » قراءة ابن مسعود فاسر باهلك بقطع من اللّيل الّا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد - ومقتضى هذا الكلام ان فى إخراجها مع اهله روايتان - إحداهما انه أخرجها معهم - وأمروا ان لا يلتفت منهم أحد الا هى فالتفتت وقالت يا قوماه - وثانيهما انه امر باسراء غيرها من اهله - فان هواها إليهم فلم يسربها - واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين كذا قال صاحب المدارك وهذا القول غير سديد فان الروايتين متناقضتان لا يمكن جمعهما فان خروجها وعدم خروجها نقيضان - فاحداهما باطل بيقين والقراءتان قطعيتان ولا يصح حمل القواطع على المعاني المتناقضة - ولهذا قال البيضاوي الاولى جعل الاستثناء فى القراءتين عن قوله لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ - ومثله قوله تعالى ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ والّا قليلا على القرائتين - ويرد عليه ان مختار النحويين فى كلام غير موجب البدل وان كان الجائز النصب أيضا - فحمل قراءة اكثر القراء على غير الأفصح غير ملائم - وأجاب عنه البيضاوي بانه لا بعد ان يكون اكثر القراء على غير الأفصح لكونه فصيحا أيضا - ولا يلزم من ذلك يعنى من الاستثناء من النهى عن الالتفات أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا - ولذلك علله على طريقة الاستيناف بقوله إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ قلت وعلى ما ذكر البيضاوي محمل قراءة ابن مسعود انه من كلام ابن مسعود قاله تفسيرا للقران على رأيه - يعنى جعل الاستثناء من الأهل كما هو راى اكثر المفسرين واللّه اعلم - قلت وجاز ان يكون الاستثناء على قراءة النصب منقطعا - فان امراة لوط لم تكن من اهله لانها كانت كافرة على غير عمل صالح - وقد قال اللّه تعالى لنوح فى ابنه الكافر إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ - فلم تكن من اهله فى المخاطبين بقوله لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ - واما على قراءة الرفع فاعتبرت من
(1/3228)
اهله من زمرة المخاطبين نظرا على وصلة النكاح - ولا منافاة بين الاعتبارين - قلت ويمكن ان يقال قراءة النصب على الاستثناء من الأهل وقراءة الرفع على الاستثناء من أحد ولا منافاة بينهما - وليس بناء القراءتين على روايتى خروج امراة لوط وعدم خروجها بل يصح معنى القراءتين على كل من الروايتين فانه على تقدير الاستثناء من الأهل معنى الآية اسر باهلك الا بامراتك ومقتضاه كون لوط مأمورا
_________
(1) فى الأصل وتصديقه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 107
بحملهم جميعا على السير غير امرأته وذالا يستلزم خروجهم ولا عدم خروجهم - فكيف يقتضى خروجها وهى لم تكن مؤتمرة بلوط - ولم يكن لوط مأمورا بإخراجها - ولا يقتضى أيضا عدم خروجها وان كان لوط لم يأمرها بالخروج - وعلى تقدير الاستثناء من الالتفات النهى من الالتفات متوجه إلى لوط ومن معه غير امرأته وذا أيضا لا يستدعى خروجها ولا عدم خروجها - فان المستثنى فى حكم المسكوت عنه فلعلها « 1 » خرجت والتفتت كما روى ولعلها « 2 » لم تخرج أصلا - وان كان لوط أمرها بالخروج فانها لم تكن مؤتمرة له ولعل البيضاوي نظر إلى ما قلت حتّى قال والاولى جعل الاستثناء فى القراءتين عن قوله لا يلتفت ولم يقل فالواجب ذلك واللّه اعلم إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنَّه علة للامر بالاسراء أى موعد هلاكهم وقت الصبح فقال لوط أريد اسرع من ذلك فقال أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81).
(1/3229)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أى عذابنا أو أمرنا به ويؤيده جعل التعذيب مسببا عنه بقوله جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها كان حقه جعلوا عاليها أى الملائكة المأمورون به - فاسند إلى نفسه من حيث انه المسبب تعظيما للامر - قال البغوي وذلك ان جبرئيل عليه السلام ادخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات وهى خمس مدن - وفيها اربعة مائة الف وقيل اربعة آلاف الف - فرفع المدائن كلها حتّى سمع أهل السماء صياح الديكة ونياح الكلاب ولم يكفأ لهم اناء ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها - وكذا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أى على المدن يعنى على شواذها ومسافريها وقيل بعد قلبها أمطر عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (5) قال ابن عباس وسعيد بن جبير معربة - سنگ گل - وقال قتادة وعكرمة السجيل الطين دليله قوله عز وجل لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ - وقال مجاهد أولها حجارة وآخرها طين - وقال الحسن كان اصل الحجارة طينا فشددت - وقال الضحاك يعنى الاجر - وقيل انه من اسجله إذا أرسله وإذا أعطيته - والمعنى من مثل شيء المرسل أو من مثل العطية فى الادراد - أو من السجلّ أى مما كتب اللّه ان
_________
(1) فى الأصل فلعله -
(2) ولعله
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 108
يعذبهم به - وقيل أصله من سجين أى من جهنم فابدلت نونه لاما - وقيل السجيل اسم للسماء الدنيا - وقيل هو جبال فى السماء - قال اللّه تعالى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ... مَنْضُودٍ (82) قال ابن عباس متتابع مفعول من نضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
(1/3230)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ منصوب على الحال من حجارة ومعناه معلمة - قال ابن جريج عليها سيما لا يشاكل حجارة الأرض - وقال قتادة وعكرمة عليها خطوط حمر على هيئة الجرع - وقال الحسن والسدى كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم ومكتوب على كل حجر اسم من رمى به وَما هِيَ أى الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ أى من مشركى مكة - وقال البغوي قال قتادة وعكرمة يعنى من ظالمى هذه الامة - وكذا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة بِبَعِيدٍ (83) فانهم بظلمهم حقيق بان يمطروا حجارة - قال قتادة وعكرمة واللّه ما أجار اللّه منها ظالما بعد - قال البغوي وفى بعض الآثار ما من ظالم الا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة - وفى البيضاوي انه صلى اللّه عليه وسلم سال جبرئيل فقال يعنى ظالمى أمتك ما من ظالم الا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة - قال السيوطي ذكره الثعلبي بغير اسناد ولم اقف له على اسناد - وفى الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الربيع فى الآية قال كل ظالم فيما سمعنا قد جعل بحذائه حجر ينتظر متى يؤمر ان يقع به - وقيل الضمير للقرى أى هى قريبة من ظالمى مكة يمرون عليها فى أسفارهم إلى الشام فليعتبروا بها - وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان - .
(1/3231)
وَ إِلى مَدْيَنَ أراد أولاد مدين بن ابراهيم عليه السلام أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمى باسمه أَخاهُمْ فى النسب شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أمرهم اولا بالتوحيد فانه ملاك الأمر - ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافى للعدل المخل بحكمة المعاوضة إِنِّي قرأ نافع والبزي وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس يعنى مؤسرين فى نعمة وسعة ليست بكم حاجة فى ان تبخسوا حقوق الناس - أو المعنى أنتم فى نعمة حقها ان تشكروا اللّه وتتفضّلوا على الناس لا ان تنقصوا حقوقهم - وقال
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 109
مجاهد حذرهم زوال النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة ان لم يتوبوا وَإِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) يحيط بكم ويهلككم جميعا لا يشذ منه أحد منكم - وقيل عذاب مهلك من قوله واحيط بثمره - والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستيصال وصف اليوم بالاحاطة وهى صفة العذاب لاشتماله عليه.
(1/3232)
وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ صرح الأمر بالإيفاء بعد النهى عن ضده مبالغة وتنبيها على انه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف بل يلزمهم السعى بالإيفاء ولو بزيادة لا يتاتى دونها - ولذلك قال أبو حنيفة من اشترى مكيلا مكائلة أو موزونا موازنة لم يجز للمشترى منه ان يبيعه ولا ان يأكله حتّى يعيد الكيل والوزن - لما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع الطعام حتّى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى رواه ابن ماجة وإسحاق بن أبى شيبة من حديث جابر - وأعل بعبد الرّحمن بن أبى ليلى - ورواه البزار من حديث أبى هريرة نحوه ومن حديث انس وابن عباس من طريقين ضعيفين - قال ابن همام هذا الحديث حجة لكثرة تعدد طرقه وقبول الائمة إياه - فانه قد قال بقولنا هذا مالك والشافعي واحمد - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زن وأرجح فانا معاشر الأنبياء هكذا نزن رواه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان من حديث سويد بن قيس بِالْقِسْطِ أى بالعدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ تعميم بعد تخصيص - فانه أعم من ان يكون فى المقدار أو فى غيره وكذا قوله وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ فان العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من انواع الفساد - وقيل المراد بالبخس المكس كاخذ العشور من المعاملات ومن العثو السرقة وقطع الطريق والغارة مُفْسِدِينَ (85) قيل فائدته إخراج ما يقصد به الصلاح كما فعله الخضر عليه السلام وقيل معناه لا تعثوا فى الأرض مفسدين امر دينكم ومصالح آخرتكم - والظاهر انه حال مؤكدة لمعنى عاملها لان عثى بمعنى أفسد.
(1/3233)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قال ابن عباس يعنى ما أبقى اللّه لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف وقال مجاهد بقية اللّه طاعة اللّه خير لكم - نظيره قوله تعالى وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ ...
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 110
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5) يعنى خيريتها مشروطة بالايمان - إذ لا اجر على الخيرات الا للمؤمنين ويحبط اللّه اعمال الكافرين - وقيل معناه ان كنتم مصدقين لى فى قولى لكم فافعلوا ما أمرتكم من إيفاء الكيل والوزن وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) احفظكم عن القبائح أو احفظ عليكم أعمالكم فاجازيكم عليها انما انا ناصح مبلّغ وقد أعذرت حين أنذرت - أو لست بحافظ عليكم نعمة اللّه لو لم تتركوا سوء صنيعكم - .
(1/3234)
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ قرأ حمزة والكسائي وحفص على الافراد والباقون صلوتك على الجمع - قال ابن عباس كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة لذلك قالوا هذا القول وقال الأعمش يعنى اقراءتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ عبادة ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان والمعنى أ صلاتك تأمرك تكليفك إيانا ان نترك فحذف المضاف - ووجه هذا التقدير ان الرجل لا يؤمر بفعل غيره أجابوا أمرهم بالتوحيد بالاستهزاء والتهكم بصلاته والاشعار بان مثله لا يدعوا إليه داع عقلى وانما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه - وكان كثير الصلاة كذا قال ابن عباس ولذلك جمعوا لفظ الصلاة وخصوها بالذكر أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على الموصول يعنى أو نترك ان نفعل ما نشآء وهو جواب النهى عن التطفيف والأمر بالإيفاء إِنَّكَ يا شعيب لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قال ابن عباس أرادوا السفيه الغاوي كما ان العرب يصف الشيء بضده فيقول للديغ سليم وللفلاة مفازة - وقيل قالوه على وجه الاستهزاء وقصدوا وصفه بضده والفرق بين التأويلين ان اللفظ على التأويل الأول مجاز وعلى الثاني حقيقة كناية عن الذم - وقيل معناه أنت الحليم الرّشيد بزعمك - وقيل هو على الحقيقة من غير كناية والمعنى انك أنت الحليم الرشيد فى زعمنا ما كنا نزعم بك ان تقول مثل ما قلت كما قال قوم صالح قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قبل هذا - .
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ بصيرة وبيان واضح مِنْ رَبِّي بالوحى والنبوة وَرَزَقَنِي مِنْهُ أى من اللّه بلا كد منى فى تحصيله حال من رزقا قدم عليه لكونه نكرة رِزْقاً حَسَناً حلالا قيل كان شعيب عليه السلام كثير المال -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 111
(1/3235)
و جواب الشرط محذوف تقديره فهل يجوز لى ان أخون فى وحيه وأخالفه فى امره ونهيه - وهو اعتذار عما أنكروا عليه من مخالفة دين القوم وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعنى ما أريد ان ارتكب ما أنهاكم عنه فلو كان ثوابا ما تركته ولكنى أحب لكم ما أحب لنفسى واكره لكم ما كرهت لنفسى - يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدت شيئا وهو تاركه - وخالفته عنه إذا تركت ما هو فاعله إِنْ أُرِيدُ بالنهى عن الإشراك والتطفيف والأمر بالتوحيد والإيفاء إِلَّا الْإِصْلاحَ يعنى إصلاحكم واخلاء العالم من الفساد مَا اسْتَطَعْتُ ما مصدرية واقعة موضع الظرف أى مدة استطاعتي للاصلاح وما دمت متمكنا منه لا آلو جهدا - أو موصولة بدل من الإصلاح أى المقدار الّذي استطعته أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف وَما تَوْفِيقِي قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها والتوفيق جعل الأسباب موافقا للمطلوب الخير - يعنى ما يتيسر لى إصابة الحق والصواب إِلَّا بِاللَّهِ أى بهدايته ومعونته عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فانه القادر المتمكن على كل شيء وما عداه عاجز فى حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار - وفيه اشارة إلى محض التوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ - والتوكل من مقامات الصوفية العلية رحمهم اللّه وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) أى ارجع فيما ينزل بي من النوائب - وقيل فى المعاد وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل - والانابة طلب التوفيق لاصابة الحق فيما يأتى ويذر من اللّه والاستعانة فى مجامع الأمور والإقبال عليه بشر أشره - وفيه قطع لاطماع الكفار واظهار لعدم المبالاة بهم وتهديد لهم بالرجوع إلى اللّه للجزاء.
(1/3236)
وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أى يكسبنكم شِقاقِي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى خلافى وعداوتى أَنْ يُصِيبَكُمْ من العذاب مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة والصيحة - وان يصيبكم ثانى مفعولى يجرم فانه يتعدى إلى واحد والى اثنين ككسب وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) بالزمان فانهم اقرب الهالكين منكم زمانا حتّى تعلمون ما حاق بهم - أو المعنى ما ديار قوم لوط منكم ببعيد بالمكان فانهم كانوا جيرانهم - أو المعنى ما قوم لوط منكم ببعيد فيما تستحقون به العذاب من الكفر والمعاصي - وافراد البعيد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 112
لان المراد وما إهلاكهم أو ما هم بشيء بعيد أو ما مكانهم ببعيد - وقيل القريب والبعيد والقليل والكثير يستوى فيها المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر الّتي هى الصّهيل والنهيق ونحوهما.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ لما صدر منكم فى الماضي بالايمان والندامة على المعاصي وطلب المغفرة ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أى ارجعوا إليه والى امتثال أوامره الانتهاء عن مناهيه فى المستقبل إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للمؤمنين التائبين وَدُودٌ (90) فعول من الود يجيء بمعنى الفاعل والمفعول يعنى محب للمؤمنين ومحبوبهم وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار - .
(1/3237)
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ أى لانفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلا عليهما - وذلك لقصور عقلهم وعدم تفكرهم - وقيل قالوا ذلك استهانة لكلامه أو لانهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم - قلت بل لما طبع اللّه على قلوبهم فان القلوب بين إصبعين من أصابع الرّحمن يطلعها على ما يشاء ويصرفها عما يشاء وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك فتمنع منا ان أردنا بك سوءا أو مهينا لاعز لك فينا - قال البغوي وذلك انه كان ضرير البصر فارادوا ضعف البصر - وقيل الضعيف بلغة حمير هو الأعمى والتقييد بالظرف يابى عن هذا المعنى فائدة منع بعض المعتزلة كون الأعمى نبيّا قياسا على القضاء والشهادة - والفرق بين - وذهاب بصر يعقوب عليه السلام ثابت بالنص قال اللّه تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ وقال فَارْتَدَّ بَصِيراً ... وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ يعنى لو لا قومك لقتلناك برمى الحجارة - قال البغوي كان شعيب فى منعة من قومه - وقال البيضاوي معناه لو لا عزة قومك عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم فان الرهط من الثلاثة إلى العشرة - وقيل إلى السبغة قلت ويؤيد الأول قوله تعالى تِسْعَةُ رَهْطٍ - وفى الصحاح الرهط العصابة دون العشرة وقيل بل إلى الأربعين وقال الجزري فى النهاية الرهط من الرجال ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة - وفى القاموس الرهط قوم الرجل وقبيلته ومن ثلاثة إلى سبعة أو إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه - قلت وكلام البغوي يشعر انه قوم الرجل مطلقا كما فسره صاحب القاموس اولا واللّه اعلم وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91)
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 113
(1/3238)
فيمنعنا عزتك عن الرجم وهذا دأب السفيه المحجوج يقابل الحجج والبينات بالسبّ والتهديد وفى إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على ان الكلام فيه لا فى ثبوت العزة - وان المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.
قالَ شعيب يا قَوْمِ أَرَهْطِي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يعنى تركتم قتلى لاجل رهطى وما باليتم بنسبتى من اللّه بالرسالة وجعلتم اللّه كالمنسى المنبوذ وراء الظهر باشراككم به واهانة رسوله - والاستفهام يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب والظّهرىّ المنسوب إلى الظهر والكسر من تغيرات النسب إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) لا يخفى عليه شيء منها فيجازى عليها - .
(1/3239)
وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على تمكنكم من عداوتى مطيعين لها إِنِّي عامِلٌ على تمكنى سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ من استفهامية معلقة لفعل العلم عن عمله فيها كانّه قيل سوف تعلمون ايّنا يأتيه عذاب يخزيه انا أو إياكم أى يفضحه وايّنا هو كاذب - أو موصولة قد عمل فيها كانّه قيل سوف تعلمون الشقي الّذي يأتيه العذاب - وقد سبق مثل هذه الآية فى الانعام - لكن أورد الفاء هناك للتصريح بان الإصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك - وحذفها هاهنا فقال سوف تعلمون لأنه جواب سائل كأنَّه قال فما ذا يكون بعد ذلك وهذا ابلغ فى التهويل وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له بل لانهم اوعدوه وكذبوه فقال سوف تعلمون من المعذب والكاذب انا أو أنتم - وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه - لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال ومن هو كاذب على زعمهم - وقيل محل من الرفع تقديره ومن هو كاذب يعلم سوء عاقبته وَارْتَقِبُوا وانتظروا العاقبة وما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم - أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ذكر هاهنا بالواو كما فى قصة عاد - إذ لم يسبقه ذكر وعد يجرى مجرى السبب له - بخلاف قصتى صالح ولوط فانه ذكر بعد الوعد وذلك قوله وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ولذلك جاء بفاء السببية نَجَّيْنا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 114
شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
قيل ان جبرئيل عليه السلام صاح صيحة فخرجت أرواحهم - وقيل أتاهم صيحة من السماء فاهلكتهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) ميتين واصل الجثوم اللزوم فى المكان.
(1/3240)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كان لم يقيموا فيها احياء متصرفين مترددين أَلا بُعْداً هلاكا ولعنا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) شبّههم بهم لان عذابهم كان أيضا بالصيحة غير ان صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم - أصله بعدت بضم العين والكسر لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك - والبعد بضم الباء مصدر لهما وبفتح الباء والعين مصدر المكسور - .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أى بالمعجزات وليس المراد بها آيات التورية لنزولها بعد هلاك فرعون وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) أى غلبة ظاهرة غلب بها مع كونه رجلا واحدا على فرعون وجنوده - ولم يقدر فرعون على إهلاكه مع حرصه على ذلك - قيل المراد به العصا وأفردها بالذكر لكونه ابهرها - ويجوز ان يراد بهما واحد - يعنى ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوته واضحا فى نفسه أو موضحا إياه - فان ابان جاء لازما ومتعديا - والفرق بين الآية والسلطان ان الآية يعم الامارة والدليل القاطع - والسلطان يخص القاطع والمبين يخص بما فيه جلاء.
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فى الكفر والطغيان والانهماك فى الضلال وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) أى ذى رشد وانما هو غىّ وضلال والرشد يستعمل فى كل ما يحمد ويرتضى - ضد الغىّ فانه يستعمل فى كل ما يذم - وفيه تجهيل لمتبعيه حيث اتبعوه على امره مع كونه بديهي البطلان - حيث ادعى الالوهية مع كونه بشرا مثلهم - وجاهر بالظلم والكفر والشرك - وترك متابعة موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالعقل والنقل والمعجزات الظاهرة.
(1/3241)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ أى يتقدمهم يقال قدم بمعنى تقدم يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار كما كان يقدمهم فى الدنيا إلى الضلال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة فى تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء حتّى سمى إتيانها ورودا وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) أى بئس الورد الّذي وردوه فانه يراد لتبريد الكبد وتسكين العطش - والنار بالضد والآية
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 115
كالدليل على قوله وما امر فرعون برشيد فان من هذا عاقبته لا يكون فى امره رشد أو تفسير له على ان المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً يعنى لعنوا على السنة الأنبياء والمؤمنين فى الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يلعنون أيضا بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) اللعنة أى بئس العون المعان أو العطاء المعطى - واصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده وفى القاموس الإرفاد الاعانة والإعطاء -
ذلِكَ مبتدا وما بعده خبره يعنى هذا النبا الّذي انبأناك مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أى بعض اخبار القرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص نباه عليك خبر بعد خبر مِنْها أى بعض ذلك قائِمٌ أى باق اثارها وَحَصِيدٌ (100) ومنها عافى الآثار كالزرع المحصود - قال مقاتل قائم يرى له اثر - وحصيد لا يرى له اثر - وقيل منها قائم يعنى عامر وحصيد يعنى خراب - والجملة مستأنفة وليس بحال من ضمير نقصّه لعدم الواو والضمير
(1/3242)
وَ ما ظَلَمْناهُمْ الضمير عائد إلى القرى والمراد بها أهلها يعنى ما ظلمناهم باهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بان عرّضوها له بارتكاب ما يوجبه من الكفر والمعاصي فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ يعنى ما نفعتهم ولا قدرت على ان يدفع عنهم العذاب آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أى عذابه وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) غير تدمير وتخسير
وَ كَذلِكَ أى مثل هذا الاخذ الّذي ذكرنا فى القصص المذكورة أَخْذُ رَبِّكَ مبتدا كذلك خبره مقدم عليه إِذا أَخَذَ الْقُرى أى أهلها وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى وهى فى الحقيقة لاهلها لكنها لما أقيمت مقامهم أجريت عليها - وفائدتها الاشعار بانهم انما أخذوا بظلمهم إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) وجيع لا يرجى الخلاص منه - عن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه ليملى الظالم حتّى إذا اخذه لم يفلته - قال ثم قرأ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية رواه الشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة -
إِنَّ فِي ذلِكَ أى فيما نزل بالقرى الهالكة وما قصه اللّه عليك لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فانه يعتبر به عظمته ويعلم « 1 » بان ما حاق بهم أنموذج مما أعد اللّه للمجرمين أو المعنى ينزجر به عن المعاصي لعلمه بانها من اله مختار يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء
_________
(1) فى الأصل يعلم بغير واو
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 116
(1/3243)
و اما من أنكر الاخرة فهو كالانعام لا بصر له ولا بصيرة فلا يعتبر بل يحيلها إلى الاتفاق ذلِكَ اشارة إلى يوم القيامة دل عليه عذاب الاخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أى يجمع له الناس أى لما فيه من المحاسبة والمجازة والتغير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم - وانه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) أى مشهود فيه يشهد فيه الشهداء على الناس - أو مشهود فيه الخلائق الموقف لا يغيب منهم أحد - واتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول
وَ ما نُؤَخِّرُهُ أى ذلك اليوم قرأ يعقوب بالياء « 1 » على الغيبة أى ما يؤخر اللّه إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) أى الا لانتهاء مدة معدودة معلومة عند اللّه على حذف المضاف وأراد مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فانه لا « 2 » تعدد فيه
(1/3244)
يَوْمَ يَأْتِ أى الجزاء أو اليوم على ان اليوم بمعنى حين أو اللّه عز وجل كقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ - وجاء ربّك قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة يأت بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ونافع وأبو عمرو والكسائي بالياء أصلا فقط وابن كثير فى الحالين - والظرف متعلق باذكر أو بانتهاء المحذوف أو بقوله لا تَكَلَّمُ بحذف احدى التاءين أى لا تتكلم نَفْسٌ ما ينفع وينجى من جواب أو شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ أى الا اذن اللّه نظيره لا يتكلّمون الّا من اذن له الرّحمن فَمِنْهُمْ الضمير لاهل الموقف دل عليهم قوله لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو للناس فى قوله تعالى يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ... شَقِيٌّ كتب عليه الشقاوة وَسَعِيدٌ (105) كتب له السعادة عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه قال خرجنا على جنازة - فبينا نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبيده مخصرة - فجاء ثم جلس فنكت بها الأرض ساعة ثم قال ما من نفس منفوسة الا قد كتب مكانها من الجنة أو النار والا قد كتب شقى وسعيد - قال فقال رجل أ لا نتكل على كتابنا يا رسول اللّه وندع العمل - قال لا ولكن اعملوا فكل ميسر فاما أهل الشقاء فيسروا لعمل أهل الشقاوة واما أهل السعادة فيسروا لعمل أهل السعادة قال ثم تلا فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى الآية رواه البغوي وفى الصحيحين نحوه -
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) قال ابن عباس الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف - وقال الضحاك ومقاتل الزفير
_________
(1) والصحيح ان يعقوب مع الجمهور فى نون العظمة - أبو محمّد عفا اللّه عنه
(2) فى الأصل ان لا تعدد فيه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 117
(1/3245)
أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردّده فى جوفه - وكذا فى القاموس - وقال أبو العالية الزفير فى الحلق والشهيق فى الصدر - وقال البيضاوي الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالهما فى أول النهيق وآخره - وفى القاموس أيضا زفر يزفر زفرا وزفيرا أخرج نفسه بعد مده إياه والجملة فى موضع الحال والعامل فيها الظرف المستقر
(1/3246)
خالِدِينَ « 1 » فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال الضحاك أى ما دامت سموات الجنة والنار وارضهما - وكلما علاك سماء وكلما استقر عليه قدمك ارض - ولا شك ان اجتماع الناس المذكور فيما سبق يدل على ان لهم مظل ومقل - وقال أهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون لا يأتيك ما دامت السموات والأرض يعنون ابدا إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ظاهر هذه الآية يقتضى انقطاع استقرارهم فى النار - ويؤيده ما روى عن ابن مسعود قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا - وعن أبى هريرة مثله وبه قال من الصوفية الشيخ محى الدين « 2 » ابن العربي - لكن هذا القول مردود بالإجماع والنصوص قال اللّه تعالى فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ - أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردوية عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو قيل لاهل النار انكم ماكثون عدد كل حصاة لفرحوا بها - ولو قيل لاهل الجنة انكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الابد - واخرج الطبراني فى الكبير والحاكم وصححه عن معاذ ابن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه إلى اليمن فلما قدم عليهم قال يا أيها الناس انى رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليكم يخبركم ان المردّ إلى اللّه إلى جنة أو نار خلود بلا موت واقامة بلا ظعن فى أجساد لا تموت - واخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد فيما هو فيه - واخرج البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت - وحديث ذبح الموت والنداء بقوله يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت - أخرجه الشيخان عن ابن عمرو أبى سعيد والحاكم وصححه عن أبى هريرة - قال
(1/3247)
البغوي معنى قول ابن مسعود وابى هريرة ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد عند أهل السنة ان ثبت ان لا يبقى فيها أحد من أهل الايمان - واما مواضع الكفار فممتلية
_________
(1) ليس فى الأصل خالدين فيها -
(2) فى الأصل محى الدين العربي -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 118
(1/3248)
ابدا وقد ذكرت فى تفسير قوله تعالى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً انها فى حق أهل الأهواء من أهل القبلة وعند اكثر المفسّرين المراد بالاحقاب احقاب « 1 » غير متناهية - ولما كان الإجماع على خلود الكفار فى النار اختلفوا فى تفسير هذه الآية وتأويل هذين الاستثنائين - والمختار عندى ان الاستثناء فى هذه الآية محمول على انهم يخرجون من الجحيم إلى الحميم ف يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ وهكذا ابدا - قال البغوي فى تفسير قوله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ انهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم - فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الانى الّذي صار كالمهل قال اللّه تعالى وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ أو من النار إلى الزمهرير روى الشيخان عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضى بعضا فاذن لها بنفسين نفس فى الشتاء ونفس فى الصيف - فاشد ما يجدون من الحر من حرها وأشد ما يجدون من الزمهرير من زمهريرها وكذا أخرج البزار عن أبى سعيد واخرج أبو سعيد مثله من حديث انس - وقال بعض المحققين الاستثناء فى أهل الشقاء يرجع إلى قوم مؤمنين يدخلهم اللّه النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها - عن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليصيبن أقواما سفع « 2 » من النار بذنوب أصابوها عقوبة - ثم يدخلهم اللّه الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون رواه البخاري - وعن عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد صلى اللّه عليه وسلم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميون رواه البخاري ونحوه عن المغيرة بن شعبة عند الطبراني وزاد فيدعون اللّه ان يمحو عنهم الاسم فيمحو اللّه عنهم - وعن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون فى النار ما شاء
(1/3249)
اللّه ان يكونوا - ثم يعيرهم أهل الشرك ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم - فلا يبقى موحد الا أخرجه اللّه - ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ - وقد روى معناه فى حديث طويل عن أبى موسى الطبراني والبيهقي وابن أبى حاتم - وعن أبى سعيد الطبراني - وفى دخول المؤمنين المذنبين النار وخروجهم منها أحاديث بلغت حد التواتر - قال البيضاوي فساق المؤمنين يخرجون من النار وذلك كاف
_________
(1) فى الأصل أحقابا -
(2) سفع من النار أى علامة تغير ألوانهم يعنى اثرا من النار 12 نهاية منه رح
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 119
(1/3250)
فى صحة الاستثناء لان زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فانهم يفارقون عن الجنة ايام عذابهم فان التأبيد من مبدا معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء وهؤلاء وان شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بايمانهم - ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى فمنهم شقى وسعيد تقسيما صحيحا لان من شرطه ان يكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه - لان ذلك الشرط انما يكون فى الانفصال الحقيقي أو مانع الجمع والمراد هاهنا منع الخلوّ - والمعنى ان أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ولا يخرج حالهم عن الشقاوة والسعادة وذلك لا يمنع اجتماع الامرين فى شخص باعتبارين انتهى - وقيل ما شاء هاهنا بمعنى من شاء والمراد بهم أيضا عصاة المؤمنين فى الاستثنائين - ومرجع هذا القول إلى القول الثاني وقيل المستثنى فى الفريقين زمان توقفهم فى الموقف للحساب لان الظاهر يقتضى ان يكونوا فى النار أو فى الجنة حين يأتى اليوم - أو مدة لبثهم فى الدنيا والبرزخ ان كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم - وعلى هذا التأويل يحتمل ان يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت فى كلام البيضاوي المذكور سابقا - وقيل هو استثناء من قوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - وقال السيوطي فى البدور السافرة أشبه الأقوال بالصواب انه ليس باستثناء وانما الا بمعنى سوى كما تقول لك علىّ الف درهم الا الألفان القديمان أى سوى الألفين - والمعنى خالدين فيها مدة دوام السموات والأرض فى الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها مما لا منتهى له - وذلك عبارة عن الخلود - والنكتة فى تقديم ذكر مدة السموات والأرض التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود اولا - ثم اردافه بما لا احاطة للذهن به - وقيل الا بمعنى الواو يعنى ما دامت السموات والأرض فى الدنيا وما شاء ربك من الخلود كقوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ
(1/3251)
ظَلَمُوا يعنى ولا للذين ظلموا - وقال الفراء هذا استثناء استثناه ولا يفعله كقولك واللّه اضربنك الا ان ارى غير ذلك وعزيمتك ان تضربه - فالمعنى الا ما شاء ربك يعنى لو شاء ربك لاخرجهم منها ولكنه لم يشأ - وقال قتادة اللّه اعلم بثنياه إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا قرأ حفص وحمزة وخلف - أبو محمّد والكسائي بضم السين على البناء
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 120
(1/3252)
للمفعول من سعد اللّه بمعنى أسعده - والباقون بالفتح على البناء للفاعل فهو لازم ومتعد فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قد ذكرت الأقوال فى هذا الاستثناء فيما سبق - والمختار عندى ان أهل الجنة ينعمون فى بعض احيانهم بما هو أعلى من الجنة - وذلك هو الاستغراق فى رؤية اللّه تعالى - وكمال الاتصال بجنابه بلا كيف قال المفسرون فى تفسير قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ان تقديم الجار والمجرور يقتضى الحصر ويفيد انهم إذا راوا ربهم يستغرقون فى رؤيته تعالى لا ينظرون حينئذ إلى غيره - وعن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة - وذلك قوله تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ - قال فينظر إليهم وينظرون إليه - فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته فى ديارهم - رواه ابن ماجة وابن أبى الدنيا والدار قطنى - وقال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه فى المكتوب المائة من المجلد الثالث فى تحقيق سر اشتغال قلب يعقوب بمحبة يوسف عليهما السلام ان جنة كل رجل عبارة عن ظهور اسم من اسماء اللّه تعالى الّذي هو مبدا لتعيّن ذلك الرجل - وان ذلك الاسم يتجلى بصورة الأشجار والأنهار والقصور والحور والغلمان - واستحكم هذا المكشوف بقوله صلى اللّه عليه وسلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها هذه يعنى سبحان اللّه والحمد لله ولا اله الا اللّه واللّه اكبر - ثم قال المجدد رضى اللّه عنه ان تلك الأشجار والأنهار قد تصير فى حين من الأحيان على هيئة الاجرام الزجاجية - فتصير وسيلة إلى رؤية اللّه سبحانه غير متكيفة ثم تعود إلى حالها الّذي كانت
(1/3253)
عليه - فيشغل المؤمن بنفسها وهكذا إلى ابد الآبدين - وقد ذكرنا زيادة الكلام فى المقام فى تفسير سورة القيامة فى شرح اية الرؤية عَطاءً منصوب على انه مصدر مؤكّد يعنى اعطوا عطاء - أو على الحال من الجنة - قلت ويمكن ان يكون منصوبا على انه مفعول به لقوله تعالى إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ - يعنى هم فى الجنة الا وقت مشية ربك عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) أى غير مقطوع يعنى الوصال والرؤية بلا حجاب - ووجه تعبير ذلك بعطاء غير مجذوذ مع ان كل نعيم فى الجنة عطاء غير مجذوذ - ان ذاته تعالى موجود متاصل بنفسه وغيره
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 121
موجود بوجود ظل وجوده - فالموجود بنفسه هو اللّه وحده وكُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ - كالمستعير ثوب غيره عار بالنسبة إلى المالك - فعطاؤه تعالى اتصالا بذاته كانّه هو المتأصل الغير المنقطع وما عداه من النعيم مجذوذ وجوده فى نفسه بالنسبة إليه واللّه اعلم - قال ابن زيد أخبرنا اللّه بالذي يشاء لاهل الجنة فقال عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ولم يخبرنا بالذي يشأ لاهل النار بل قال هناك إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ -
(1/3254)
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك بعد ما أخبرناك من مال الناس مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من عبادة هؤلاء المشركين فى انها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصته عليك سوء عبادتهم - أو من حال ما يعبدونه فى انه لا يضر ولا ينفع ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما كان يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ حذف كان لدلالة قبل عليه - والجملة مستأنفة معناه تعليل النهى عن المرية فى انهم واباؤهم سواء فى الشرك أى ما يعبدون عبادة الا كعبادة ابائهم - أو ما يعبدون شيئا الا مثل ما عبدوه من الأوثان - وقد بلغك ما لحق آباءهم فسيلحقهم مثله - لان التماثل فى الأسباب يقتضى التماثل فى المسببات وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ من العذاب كابائهم أو من الرزق فيكون عذر التأخير العذاب عنهم مع قيام موجبه غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) من النصيب تأكيد للتوفية - فانك قد تقول وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا -
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية فَاخْتُلِفَ فِيهِ فامن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء فى القرآن تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم وَلَوْ لا كَلِمَةٌ الانظار إلى يوم القيامة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين المحق والمبطل بانزال العذاب على المبطل ليميز به عن المحق وَإِنَّهُمْ يعنى كفار مكة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أى من القرآن أو من العذاب مُرِيبٍ (110) موقع فى الريب
وَ إِنَّ قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر مخففة من الثقيلة عاملة اعتبارا للاصل والباقون مشددة كُلًّا التنوين بدل من المضاف إليه يعنى ان كل واحد من المختلفين المؤمنين منهم والكافرين لَمَّا قرأ عاصم وابن عامر وحمزة هاهنا وفى يس لّمّا جميع لّدينا - وفى الطارق لّمّا عليها حافظ بتشديد الميم - والباقون بتخفيفها - فمن قراها بالتخفيف فلام الاولى موطية للقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس - وما مزيدة
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 122
(1/3255)
بينهما للفصل - وقيل ما بمعنى من كما فى قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ أى من طاب لكم - والمعنى واللّه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ أو واللّه لمن ليوفينهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أى جزاء أعمالهم - ومن قراها بالتشديد فاصله لمن ما - فقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت اولا عن - والمعنى لمن ليوفيهم وما مزيدة - وقيل انه من لممت لمّا أى جمعته - ثم وقف على الالف عوض التنوين فصار لمّا - ثم اجرى الوصل مجرى الوقف - وجاز ان يكون مثل الدعوى والبشرى وغيرها من المصادر الّتي فيها الف التأنيث - وقرا الزهري وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بالتنوين وهو يؤيد هذا القول - والمعنى وان كلا جميعا - وقال صاحب الإيجاز لما فيه معنى الظرف وفى الكلام اختصار تقديره وان كلا لما بعثوا ليوفينهم إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ من خير أو شر خَبِيرٌ (111) فلا يفوت منه شيء وان خفى -
(1/3256)
فَاسْتَقِمْ استقامة كَما أُمِرْتَ أى مثل استقامة أمرت بها وَمَنْ تابَ مَعَكَ من الشرك وأمن عطف على المستكن فى استقم وان لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه - لمّا بين اللّه سبحانه امر المختلفين فى التوحيد والنبوة - واطنب فى شرح الوعد والوعيد - امر رسوله ومن تبعه بالاستقامة مثل ما امر بها - وهى شاملة للاستقامة فى العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل - والجبر والاختيار وغير ذلك - والأعمال من تبليغ الوحى وبيان الشرائع كما انزل - والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وافراط مفوت للحقوق ونحوها - عن سفيان ابن عبد اللّه الثقفي قال قلت يا رسول اللّه قل لى فى الإسلام قولا لا اسئل عنه أحدا بعدك وفى رواية غيرك قال قل امنت بالله ثم استقم رواه مسلم - فالاستقامة لفظ جامع قال عمر بن الخطاب الاستقامة ان تستقيم على الأمر والنهى ولا تروغ روغان الثعلب يعنى لا تميل عن الطريق المستقيم ميلا أصلا - وهى فى غاية العسر ولذلك قالت الصوفية الاستقامة فوق الكرامة قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ما نزلت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اية هى أشد عليه من هذه الآية ولذلك قال شيّبتنى سورة هود - قلت قول ابن عباس يدل على ان اشتداد هذه السورة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى شيّبته - انما كان لاجل هذه الآية الآمرة بالاستقامة - فانه صلى اللّه عليه وسلم وان كان نفسه الشريفة مجبولة على الاستقامة مخلوقة على خلق عظيم - لكنها شاقة على من تبعه فلذلك شيّبته شفقة على أمته - والظاهر عندى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 123
(1/3257)
ان قوله صلى اللّه عليه وسلم شيّبتنى سورة هود مبنى على اشتمالها على قصص هلاك الأمم المشعر بالوعيد بالهلاك للظالمين من أمته - وذكر يوم القيامة كما سنذكر فى اخر السورة ان شاء اللّه تعالى وَلا تَطْغَوْا يعنى لا تجاوزوا عن حدود الشرع - وقيل معناه لا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيته عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان الدين يسرو لن يشاد الدين أحد الا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة رواه البخاري والنسائي قلت وهذا الحديث أيضا يدل على ان تشييب السورة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كان لثقل الاستقامة واللّه اعلم - إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس أى لا تميلوا والركون المحبة والميل بالقلب - وقال أبو العالية لا ترضوا بأعمالهم - وقال السدى لا تداهنوا الظلمة - وقال عكرمة لا تطيعوهم - وقيل لا تسكنوا إلى الذين ظلموا قال البيضاوي لا تميلوا إليهم ادنى ميل فان الركون هو الميل اليسير كالتزين بزيّهم وتعظيم ذكرهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم - قال البيضاوي وإذا كان الركون إلى الظالمين كذلك فما ظنك بالميل كل الميل إليهم - ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه - ولعل الآية ابلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم - روى ان رجلا صلى خلف الامام فلما قرأ هذه الآية غشى عليه فلما أفاق قيل له فقال هذا فيمن ركن إلى الظلم فكيف بالظالم - وعن الحسن جعل اللّه الدين بين لائين لا تطغوا ولا تركنوا - وعن الأوزاعي ما من شيء ابغض إلى اللّه من عالم يزور ظالما - وعن أوس انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من مشى مع ظالم ليقويه وهو يعلم انه ظالم فقد خرج من الإسلام - وعن أبى هريرة انه سمع رجلا يقول ان الظالم لا يضر الا نفسه - فقال أبو هريرة بلى واللّه حتّى الحبارى لتموت فى وكرها هزلا بظلم
(1/3258)
الظالم - روى الحديثين فى شعب الايمان قال البيضاوي خطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذه الآية للتثبيت على الاستقامة الّتي هى العدل فان الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفى افراط أو تفريط ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم فى نفسه وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أى من أنصار يمنعون عنكم العذاب والواو للحال من مفعول فتمسكم النّار ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) أى ثم لا ينصركم اللّه إذ سبق فى حكمه ان يعذبكم فيه وثم لاستبعاد النصر من اللّه تعالى - أو لاستبعاد النصر مطلقا فانه لما ذكر
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 124
انهم يعذبهم اللّه وكل من يعذبه اللّه لا يقدر على نصره أحد غيره انتج انهم لا ينصرون أصلا واللّه اعلم
- أخرج الترمذي والنسائي عن أبى اليسر قال البغوي هو عمرو بن غزية الأنصاري - قال أتتني امراة تبتاع تمرا فقلت ان فى البيت تمرا أطيب منه فدخلت معى البيت فاهويت إليها فقبلتها ثم ندمت فاتيت أبا بكر رضى اللّه عنه فذكرت ذلك فقال استر على نفسك وتب - قال فاتيت عمر فقال استر على نفسك وتب - فلم اصبر فاتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له - فقال أ خلفت غازيا فى سبيل اللّه فى اهله بمثل هذا - حتّى ظن انه من أهل النار فاطرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى اوحى اليه
(1/3259)
وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الآية فقال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ لهذا خاصة أم للناس عامة - قال بل للناس عامة - قال صاحب لباب النقول - وورد نحو حديث أبى اليسر من حديث أبى امامة وابن عباس وبريدة وغيرهم - وانتصاب طرفى على الظرف لأنه مضاف إليه ومعناه غدوة وعشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أى طائفة من الليل أو ساعات منه قريبة من النهار - فانه من ازلفه إذا قربه وهو جمع زلفة - قرأ أبو جعفر بضم اللام - قال ابن عباس طرفا النهار يعنى صلوة الصبح والمغرب - وزلفا من الليل حينئذ العشاء - وقال الحسن طرفا النهار الصبح والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء - وقال مجاهد طرفا النهار الصبح والظهر والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء - وهذا القول يشعر ان وقت الظهر والعصر واحد ولو عند الضرورة وكذا وقت المغرب والعشاء - ومن هاهنا قال مالك واحمد والشافعي إذا اسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبى اخر وقت العصر وجبت عليه الظهر والعصر - وإذا اسلم أو طهرت أو بلغ اخر وقت العشاء وجبت عليه المغرب والعشاء - خلافا لابى حنيفة رحمه اللّه فانه لا يجب عنده الا العصر والعشاء - لنا الأحاديث الواردة فى اوقات الصلوات الّتي ذكرتها فى سوره النساء فى تفسير قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً - فانها تدل على ان وقت كل صلوة مبائن للاخرى - ولاجل ذلك لا يجوز عند أبى حنيفة رحمه اللّه جمع صلوة الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء بعلة سفر أو مرض أو مطر كما لا يجوز جمعهما بغير علة اجماعا - وقال الشافعي ومالك واحمد يجوز الجمع فى السفر - وعند مالك واحمد يجوز الجمع لاجل المطر فى العشاءين خاصة وعند الشافعي بين الظهرين أيضا - وجاز عند احمد الجمع
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 125
(1/3260)
لاجل المرض - احتجوا بان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر لحمنة بنت جحش حين استحاضت بالجمع وقال تؤخرين الظهر وتعجلين العصر ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين رواه احمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح - وانه صلى اللّه عليه وسلم جمع فى السفر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فى الصحيحين عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجمع بين الصلاتين فى السفر المغرب والعشاء والظهر والعصر - وفيهما عن انس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ارتحل قبل ان تزيغ الشمس اخر الظهر إلى وقت العصر ثم ينزل فيجمع بينهما - وإذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر ثم ركب - وروى مسلم من حديث معاذ بن جبل قال جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء - قال فقلت له ما حمله على ذلك قال أراد ان لا يحرج أمته - وأجاب أبو حنيفة عن هذه الأحاديث ان المراد من هذه الأحاديث الجمع الصوري - يعنى كان يصلى الظهر فى اخر وقتها والعصر فى أول وقتها وكذا العشاءين - فيجمع بينهما صورة وكان يصلى كل صلوة فى وقتها كما هو مصرح فى حديث حمنة - ويدل عليه ما فى الصحيحين عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا سفر - وفى بعض ألفاظ مسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر - قيل لابن عباس ما أراد إلى ذلك قال أراد ان لا يحرج أمته - وفى رواية للطبرانى جمع بالمدينة من غير علة - قيل ما أراد بذلك قال التوسع على أمته - فان هذا الحديث محمول على الجمع الصوري البتة للاجماع على عدم جواز الجمع من غير علة - وقد جاء صريحا فى الصحيح عن عمرو بن دينار قال قلت يا أبا الشعثا أظنه اخّر الظهر وعجّل العصر واخّر المغرب وعجّل العشاء - قال وانا أظن ذلك - فان قيل يمكن حمل ما يدل على جمع التأخير على الجمع الصوري ولكن من الروايات ما يدل على
(1/3261)
جميع التقديم ولا يمكن حملها على الجمع الصوري اما حديث ابن عباس فرواه احمد والبيهقي والدار قطنى من طريق حسين بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عباس عن عكرمة وكريب عن ابن عباس قال كان إذا زاغت الشمس
فى منزله جمع بين الظهر والعصر قبل ان يركب - وإذا لم تزغ له فى منزله سار حتّى إذا جاء العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر - وإذا جاءت فى منزله جمع بينها وبين العشاء - و
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 126
(1/3262)
إذا لم يجيء فى منزله ركب حتّى إذا جاءت العشاء نزل فجمع بينهما - واما حديث انس فرواه الإسماعيلي والبيهقي من حديث إسحاق بن راهويه بلفظ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان فى السفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل قال النووي اسناده صحيح - واما حديث معاذ فرواه احمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والدار قطنى والبيهقي من حديث قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطفيل عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل جمع بين الظهر والعصر فان ارتحل قبل ان تزيغ اخر الظهر حتّى ينزل للعصر - وفى المغرب مثل ذلك الحديث - قلنا اما ما ذكرتم من حديث ابن عباس فحسين ضعيف كذا قال ابن معين وقال النسائي متروك واما ما ذكرتم من حديث انس فانه وان قال النووي اسناده صحيح لكن قال الذهبي ان أبا داود أنكر على إسحاق لكن له متابع رواه الحاكم فى الأربعين وفيه إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب وهذه زيادة غريبة صحيحة الاسناد رواه الطبراني فى الأوسط ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا كان فى سفر فزاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر والعصر جميعا - وان ارتحل قبل ان تزيغ الشمس جمع بينهما فى أول العصر - وكان يفعل ذلك فى المغرب والعشاء - وقال تفرد به يعقوب بن محمّد الزهري واما حديث معاذ قال الترمذي تفرد به قتيبة والمعروف ما رواه مسلم - وقال أبو داود هذا حديث منكر وليس فى جمع التقديم حديث قائم - وقال أبو سعيد بن يونس لم يحدث بهذا الحديث الا قتيبة - ويقال انه غلط وعلله أبو حاتم واطنب الحاكم فى بيان علته وأعله البخاري وابن حزم - وفى الجمع فى السفر حديث علىّ رواه الدار قطنى بسند له من حديث أهل البيت وفى اسناده من لا يعرف - وفيه أيضا المنذر القابوسي وهو ضعيف - واحتج أبو حنيفة بحديث ابن مسعود فى الصحيحين قال
(1/3263)
ما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى صلوة لغير وقتها الا بجمع فانه جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى صلوة الصبح من الغد قبل وقتها يعنى غلس بها فكانّه أراد قبل وقتها المعتاد - وكانّه ترك ذكر جمع عرفة لشهرته - وبما روى مسلم فى حديث ليلة التعريس قوله صلى اللّه عليه وسلم ليس فى النوم تفريط انما التفريط فى اليقظة ان يؤخر الصلاة حتّى يدخل
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 127
وقت صلوة اخرى واللّه اعلم - إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أى يكفرنها أخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لم أر شيئا احسن طلبا ولا اسرع إدراكا من حسنة حديثة لسيئة قديمة - انّ الحسنات يذهبن السّيّئات - واخرج احمد عن أبى ذر قال قلت يا رسول اللّه أوصيني - قال إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها - قال قلت يا رسول اللّه من الحسنات لا اله الا اللّه - قال هى أفضل الحسنات - عن ابن مسعود ان رجلا أصاب من امراة قبلة - فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فانزل اللّه تعالى وأقم الصلاة طرفى النهار الآية - فقال الرجل إلى هذا قال لجميع أمتي كلهم - وفى آدابه لمن عمل بها من أمتي متفق عليه - وفى رواية لمسلم نحوه وفيه قال له عمر لقد سترك اللّه لو سترت على نفسك الحديث - واخرج الحاكم والبيهقي من حديث معاذ بن جبل نحوه - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنب الكبائر - رواه مسلم - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو ان نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من دونه شيء - قالوا لا يبقى من درنه شيء - قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهن الخطايا - متفق عليه ذلِكَ اشارة إلى قوله فاستقم فما بعده وقيل إلى القرآن ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) اى
عظة للمتعظين
(1/3264)
وَ اصْبِرْ يا محمّد على الطاعات وعن المعاصي وعلى ما أصابك من الأذى - وقيل على الصلاة نظيره وامر أهلك بالصّلوة واصطبر عليها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) عدل من المضمر ليكون كالبرهان على المقصود وفيه دليل على ان الصلاة والصبر اختان - وايماء بانه لا يعتدّ بهما بدون الإخلاص -
فَلَوْ لا فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الّتي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أى أولوا رأى وعقل وفضل - وانما سمى بقية لان الرجل يستبقى أفضل ما عنده - يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير - ومنه ما يقال فلان من بقية القوم أى من خيارهم - ومنه قولهم فى الزوايا خبايا وفى الرجال بقايا - وقيل معناه أولوا طاعة كما ذكرنا فى
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 128
بقيّت اللّه خير لّكم - والبقيت الصّلحت خير - وقيل معناه أولوا بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة - ويجوز ان يكون مصدرا كالتقية - فى القاموس بقي يبقى بقاء وبقأ وبقيا يعنى ذو ابقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب يَنْهَوْنَ الناس عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ويأمرون بالمعروف إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلا منهم أنجيناهم - وهم اتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد - ويجوز ان يكون الاستثناء متصلا إذا جعل من النفي اللازم للتحضيض - ومن فى ممّن أنجينا للبيان لا للتبعيض وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أى التاركون للنهى عن المنكر ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما انعموا فيه من الشهوات - فاهتموا بتحصيل أسبابها واعرضوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - وقال مقاتل بن حبان ما حولوا - وقال الفراء ما عودوا وجملة واتبع معطوف على فعل مقدر أى الا قليلا - ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) كافرين
(1/3265)
وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اللام لتأكيد النفي وان المصدرية مقدرة يعنى ما كان صفة ربك إهلاك الْقُرى أو ما كان ربك مهلكها بِظُلْمٍ حال من ضمير الفاعل فى يهلك أى ما كان اللّه مهلكهم ظالما لهم وَأَهْلُها قوم مُصْلِحُونَ (117) مسلمون تنزيه لذاته تعالى عن الظلم - وقيل الظلم الشرك والمعنى وما كان اللّه مهلك القرى بسبب شركهم فى حال يكون أهلها مصلحون فيما بينهم يتعاطون الانصاف ولا يظلم بعضهم بعضا - أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن جرير بن عبد اللّه قال لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهلها ينصف بعضهم بعضا - وذلك لفرط رحمة ومسامحة فى حقوقه ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد - ومن هاهنا قيل الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم -
وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ كلهم أُمَّةً واحِدَةً مسلمين صالحين وهو دليل ظاهر على ان الأمر غير الارادة - وانه تعالى لم يرد الايمان من كل واحد وان ما أراد يجب وقوعه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) عن الحق تاركيه « 1 » إلى الباطل على أنحاء شتى - فمنهم يهودى ونصرانى ومجوسى ووثنى - ومنهم جبرى
_________
(1) فى الأصل تاركوه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 129
و قدرى وروافض وخوارج وغير ذلك
(1/3266)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ هداهم اللّه من فضله إلى صراط مستقيم - فهم متفقون على اصول العقائد الصحيحة وامتثال أوامر اللّه والانتهاء عن المناهي - عن ابن مسعود قال خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا مستقيما - ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه عن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه - وقرا وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ رواه احمد والنسائي والدارمي وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يعنى للرحمة خلقهم - فالضمير راجع إلى من رحمهم والاشارة إلى الرحمة - وقال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم - قال اشهب سالت مالكا عن هذه الآية - فقال خلقهم ليكون فريق فى الجنة وفريق فى السعير - وقال أبو عبيدة الّذي اختاره قول من قال خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه وقال الفراء خلق أهل الرحمة للرحمة واهل الاختلاف للاختلاف - فالضمير راجع إلى الناس والاشارة إلى الاختلاف والرحمة جميعا - واللام للمعاقبة ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أى حكم ربك القديم أو قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أى عصاتهما أَجْمَعِينَ (119) أو المعنى منهما جميعا لا من أحدهما -
(1/3267)
وَ كُلًّا أى كل نبا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ أى من اخبارهم ومن اخبار أممهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لكلّا أو بدل منه - وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص - وهو زيادة يقينه وتقوية قلبه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار - أو مفعول وكلّا منصوب على المصدر أو الظرف - أى كل نوع من انواع الاقتصاص أو كل وقت من الأوقات نقص عليك ما نثبت به فؤادك من انباء الرسل والأمم وَجاءَكَ فِي هذِهِ قال الحسن وقتادة فى هذه الدنيا - وقال غيرهما فى هذه السورة والظاهر ان الاشارة إلى الانباء - يعنى جاءك فى هذه الانباء المقتصة عليك الْحَقُّ أى ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 130
وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ
(120) اشارة إلى سائر فوائده التامة العامة
وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أى حالكم وجهتكم الّتي أنتم عليها وعلى قدرتكم فيه تهديد ووعيد إِنَّا عامِلُونَ (121) على حالنا وقوتنا
وَ انْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) ان ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم ان لم تؤمنوا
وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى له تعالى خاصة علم ما غاب عن العباد فيهما - لا يخفى عليه خافية مما بينهما فلا يخفى عليه أعمالكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ قرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول - والباقون بفتح الياء وكسر الجيم على البناء للفاعل الْأَمْرُ كُلُّهُ
(1/3268)
فى العباد يعنى يرجع إليه تعالى لا محالة أمرك وأمرهم فينتقم لك منهم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وفى تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على انه انما ينفع التوكل مع العبادة وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) قرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب هنا وفى اخر النمل بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالياء التحتانية على الغيبة فيهما - قال البغوي قال كعب خاتمة التورية خاتمة سورة هود - عن ابن عباس قال قال أبو بكر يا رسول اللّه قد شبت - قال صلى اللّه عليه وسلم شيّبتنى هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت - رواه الترمذي والحاكم وصححه والبغوي - ورواه الحاكم عن أبى بكر وابن مردوية عن سعد ورواه ابن مردوية عن أبى بكر بلفظ شيّبتنى هود وأخواتها قبل المشيب « 1 » - ورواه أبو يعلى بسند ضعيف عن انس وابن مردوية عن عمران بلفظ شيّبتنى هود وأخواتها من المفصل - ورواه ابن مردوية عن انس بلفظ شيّبتنى سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسال سائل - وروى الطبراني
_________
(1) وعن أبى سعيد الخدري قال عمر بن الخطاب يا رسول اللّه اسرع إليك الشيب قال شيّبتنى هود وأخواتها الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت فقط ازالة الخفا 12 منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 131
(1/3269)
فى الكبير عن عقبة بن عامر وابى جحيفة بلفظ شيّبتنى سورة هود وأخواتها وفى الطبراني عن سهل بن سعد بسند ضعيف بزيادة الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت وروى ابن عساكر عن محمّد بن على مرسلا بلفظ شيّبتنى هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلى - وروى عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد وأبو الشيخ فى تفسيره عن أبى عمران الجوني مرسلا شيّبتنى هود وأخواتها وذكر يوم القيامة وقصص الأمم - وألفاظ الأحاديث المذكورة صريحة فى ان التشييب مبنى على ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم السابقة لا على الأمر بالاستقامة له ولمن تاب معه والا لاقتصر على سورة هود ولم يذكر معها أخواتها - واللّه اعلم تمت تفسير سورة هود من التفسير المظهرى (و يتلوه تفسير سورة يوسف عليه السلام ان شاء اللّه تعالى) سادس عشر ذى القعدة من السنة الاولى بعد المائتين والف سنة 1201 ه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 132
فهرس تفسير سورة يوسف عليه السّلام من التّفسير المظهرى
(1/3270)
مضمون صفحه حديث الكريم بن الكريم 4 بحث تحقيق الرؤيا وأقسامها وما ورد فيه من الأحاديث - 5 تأويل همّت به وهمّ بها - 21 الهمّ قسمان - 21 مسئلة جاز للعالم ان يصف نفسه حتّى يعرف الناس قدره إذ جهلت منزلته من العلم فاراد ان ينشر علمه وليس هذا من تزكية النفس فويل الذين يطعنون على اولياء اللّه فى اظهار فضائلهم 31 حديث رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث فى السجن طول ما لبث 33 مسئلة ينبغى للرجل ان يجتهد فى نفى التهمة عن نفسه لا سيما من كان ممن يقتدى به 37 ما ورد فى مدح يوسف عليه السلام على صبره - 37 وما دل على كمال نزول نبينا صلى اللّه عليه وسلم 37 مسئلة جاز طلب الولاية والقضاء واظهاراته أهل لها ان كان أمنا على نفسه فان كان أحد لا يقوم مقامه فقد يستحب وقد يجب ان تعين لامضاء احكام اللّه تعالى - 42 وجاز ان يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر أو كافر إذا علم انه لا سبيل إلى اقامة الحق الا به - 42 حديث العين حق 47 حديث لا يغنى حذر عن قدر - 47 ما أشكل من تعلق قلب يعقوب بيوسف عليهما السلام وحله - 57 حديث الدنيا ملعونة - 57 حديث سيد بنى دارا ووضع مأدبة 57 وأرسل داعيا - حديث الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها تيعان وان غراسها سبحان اللّه إلخ - 58 بيان حسن خاتم الأنبياء صلى اللّه عليه وسلم وحسن يوسف عليه السلام - 60 حديث لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب إليه من والده وولده - 60 حديث ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان 60 مسئلة جواز التأسف والبكاء عند المصيبة - 61 حديث بكائه صلى اللّه عليه وسلم على ابنه ابراهيم وابن بنته - 61 حديث ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا - 68 قوله صلى اللّه عليه وسلم عند الوفاة مع الذين أنعم اللّه عليهم الآية - 71 حديث لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا فلا يتبايعانه ولا يطويانه - 74 تمت.
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 134
(1/3271)
سورة يوسف عليه السّلام
مكيّة مائة واحدى عشرة اية ربّ يسّر وتمّم بالخير « 1 »
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) اشارة إلى آيات القرآن والاضافة بمعنى من وهو المراد بالكتاب - أى تلك آيات من القرآن الظاهر فى الاعجاز - أو الواضح معانيه بين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه - قال قتادة مبين واللّه بركته وهداه ورشده وقال الزجاج مبين الحق من الباطل والحرام من الحلال وقيل اشارة إلى آيات السورة - وهى المراد بالكتاب - أى تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها لمن تدبّر انها من عند اللّه - أو مبين لليهود - قال البيضاوي روى ان علماءهم قالوا للمشركين سلوا محمّدا لم انتقل ال يعقوب من الشام إلى مصر - وعن قصة يوسف - فنزلت السورة - ولم يذكر هذا صاحب لباب النقول فى اسباب النزول.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ أى الكتاب قُرْآناً القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علما للكل بالغلبة - فيمكن حمله على الكتاب وان أريد به السورة - ونصبه على الحال وهو فى نفسه اما توطية للحال الّتي هى عَرَبِيًّا أو هو حال لكونه مصدرا بمعنى المفعول وعربيا صفة له - أو حال من الضمير فيه أو حال بعد حال والغرض من إيراد قوله
_________
(1) الخط من الناشر -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 135
(1/3272)
عربيا انا أنزلناه بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ « 1 » (2) لكى تعلموا معانيه وتستعملوا فيه عقولكم فتدركوا لطائفه واعجازه لفظا ومعنى روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه قال انزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم القرآن فتلا عليهم زمانا فقالوا يا رسول اللّه لو حدثتنا فنزل اللَّهُ نَزَّلَ « 2 » أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية - زاد ابن أبى حاتم فقالوا يا رسول اللّه لو ذكرتنا فانزل اللّه تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية - واخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما وابن مردوية عن ابن مسعود رضى اللّه عنه مثله قال قالوا يا رسول اللّه لو قصصت علينا فنزل.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وذكر البغوي عن سعد بن أبى وقاص الفصول الثلاثة لكنه قدم الفصل الثالث على الثاني أَحْسَنَ الْقَصَصِ منصوب على المصدر يعنى احسن الاقتصاص لأنه اقتص على أبدع الاساليب ومعناه نبين لك اخبار الأمم السالفة والقرون الماضية احسن البيان أو على المفعولية يعنى احسن ما نقص والمراد قصة يوسف عليه السلام سماها احسن القصص لاشتماله على العجائب والعبر والحكم والنكت والفوائد الّتي تصلح امر الدين والدنيا من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد التمكن من الانتقام وغير ذلك من الفوائد - والقصص على هذا فعل بمعنى مقعول كالنقض والسلب مشتق من قص اثره إذا اتبعه والقاص يتبع الآثار ويأتى بالأخبار على وجهها - قال خالد بن معدان سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة فى الجنة وقال ابن عطاء لا يسمع سوره يوسف محزون الاستراح « 3 » إليها بِما أَوْحَيْنا أى بايحائنا
_________
(
(1/3273)
1) عن خالد بن عرفظة قال كنت جالسا عند عمر إذ اتى برجل من عبد القيس قال عمر أنت فلان العبدى قال نعم فضربه بقناة معه فقال الرجل ما لى يا امير المؤمنين قال اجلس فجلس فقرا عليه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فقراها ثلاثا وضربه ثلاثا فقال الرجل ما لى يا امير المؤمنين قال أنت الّذي تستحبّ كتاب دانيال قال مرنى بامرك اتبعه قال انطلق فامحه بالحميم والصوف ثم لا تقراه ولا تقرئه أحدا من الناس - فقال انطلقت انا فنسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت به فى أديم فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما هذا فى يدك يا عمر قلت يا رسول اللّه كتاب نسخته لنزداد علما انى علمنا فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى احمرت وجنتاه ثم نودى بالصلوة جامعة فقالت الأنصار اغضب نبيكم السلاح السلاح حتّى احدقوا بمنبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يايها الناس انى قد أوتيت جوامعا لكم وخواتيمه واختصرنى اختصارا ولقد اتيتكم بها بيضاء فقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهكون قال عمر فقمت فقلت رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا ثم نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وروى عن ابراهيم النخعي عن عمر نحوه - 12 ازالة الخفا - منه نور اللّه مرقده [.....]
(2) فى الأصل اللّه الّذي نزّل إلخ -
(3) فى الأصل استروح -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 136
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يعنى السورة ويجوز ان يجعل هذا مفعول نقصّ على ان يكون احسن منصوبا على المصدر وَإِنْ كُنْتَ مخففة أى انه كنت مِنْ قَبْلِهِ أى قبل ايحاءنا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) عن هذه القصة أو عن كلّما اوحى إليك من القصص والشرائع والاحكام - .
(1/3274)
إِذْ قالَ يُوسُفُ بدل اشتمال من احسن القصص ان جعل مفعولا به وأريد قصة يوسف عليه السلام - لان الوقت مشتمل عليها - أو منصوب بتقدير اذكر ويوسف اسم عبرى ولذا لم ينصرف وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام روى احمد والبخاري عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم لِأَبِيهِ يعقوب عليه السلام يا أَبَتِ قرأ ابن عامر وأبو جعفر بفتح التاء فى جميع القرآن والباقون بكسر التاء - وابن كثير وابن عامر يقفان يابه بالهاء والباقون بالتاء إِنِّي رَأَيْتُ فى المنام من الرؤيا لا من الرؤية بدليل قوله تعالى. لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ وهذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ...
(1/3275)
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ روى سعيد بن منصور فى سننه والبزار وأبو يعلى فى مسنديهما وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية فى تفاسيرهم - والعقيلي وابن حبان فى الضعفاء - والحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم - وأبو نعيم والبيهقي كلامهما فى دلائل النبوة عن جابر رضى اللّه عنه واسم « 1 » اليهودي عند البيهقي بستان وقال يا محمّد أخبرني عن النجوم الّتي راهن يوسف - فسكت فنزل جبرئيل عليه السلام فاخبره بذلك - فقال عليه السلام ان أخبرك هل تسلم - قال نعم قال جرثان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين - راها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له - فقال اليهودي أى واللّه انها لاسماؤها رَأَيْتُهُمْ تأكيد لِي ساجِدِينَ (4) أو استيناف ببيان حالها الّتي راها عليها - وأورد صيغة جمع العقلاء وضميرهم لوصفها بصفاتهم - وكان النجوم فى التأويل اخوته وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما استضاء بالنجوم - والشمس أبوه والقمر امه - وقال السدىّ القمر خالته لان امه راحيل كانت قد ماتت - وقال ابن جريج القمر أبوه والشمس امه لكونها مؤنثة والقمر مذكر -
_________
(1) فى الأصل سمى اليهود عند البيهقي بستان -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 137
قلت تأنيث الشمس لفظى مختص بلغة العرب فلا وجه لجعلها كناية عن امه مع كونها أضوء من القمر - قيل راها ليلة الجمعة ليلة القدر - فلما قصّها على أبيه.
(1/3276)
قالَ يا بُنَيَّ تصغير ابن صغّره للشفقة أو لصغر السن قال البغوي كان يوسف ابن اثنى عشر سنة - قرأ حفص هاهنا وفى الصافات بفتح الياء والباقون بكسرها لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ الرؤيا مختص بما يكون فى النوم أو نحو ذلك من الاستغراق فرق بينها وبين الرؤية بحر فى التأنيث كالقرية والقرى - قال البيضاوي الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك - والصادقة منها انما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب - عند فراغها من تدبير البدن ادنى فراغ فيتصور بما فيها مما لا يليق من المعاني الحاصلة هناك - ثم ان المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة - ثم ان كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت الا بالكلية والجزئية - استغنت الرؤيا عن التعبير والا احتاجت إليه - قلت الرؤيا هى مطالعة النفس فى الصور المنطبعة فى الحس المشترك من أفق المتخيلة عند غفلتها وفراغها عن مطالعة المحسوسات فى النوم أو الإغماء أو نحو ذلك - وهى على ثلاثة اقسام قسمان منها باطلان والقسم الثالث منها صحيحة صالحة من حيث الأصل - لكنها قد تفسد بالعوارض ويقع فيها الخطاء بها وقد يقع الخطاء فى تأويلها - اما القسمان الباطلان فالاول منهما ما تراه النفس من صور الأشياء الّتي راتها فى اليقظة - أو تفكر واخترعها المتخيلة من غير اصل لها فى الواقع - وتسمى تلك الرؤيا حديث النفس والثاني منهما ما ألقاه الشيطان فى خياله وتمثل له تخويفا أو ملاعبة - فان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم - وتسمى تلك الرؤيا الرؤيا السوء وتخويف الشيطان والحلم - واما الّتي هى صحيحة فهى الهام واعلام من اللّه تعالى لعبده على شيء مما فى خزائن الغيب - أو على شيء من مكنونات صفاته وأحواله ودرجات القرب له من اللّه تعالى حتّى تكون له بشارة - عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤيا المؤمن
(1/3277)
كلام يكلم العبد ربه فى المنام رواه الطبراني بسند صحيح والضياء - وحقيقة تلك الرؤيا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 138
الصالحة عند الصوفية ان العالم الكبير شخص له نفس وروح وقوى على هيئة الإنسان ولذلك يسمى إنسانا كبيرا - ولمشابهته يسمى الإنسان عالما صغيرا - فكما ان فى العالم الصغير اعنى الإنسان قوة متخيلة فكذلك فى العالم الكبير متخيلة - يتخيل بها المحسوسات والمعقولات والاعراض والجواهر والمجردات والمعاني - فصور الأشياء كلها حتّى الواجب تعالى وصفاته - والممكنات بأسرها المجردات منها والماديات - وما لا صورة لها فى الخارج كالموت والحياة والأيام والسنين والأمراض موجودة فى تلك المتخيلة - بايجاد اللّه تعالى - ومن أجل ذلك راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحمى على صورة امراة سوداء - وعبر يوسف عليه السلام البقرات والسنابل بالسنين - ومن هاهنا يظهر انه لا يشترط فى الصورة كونها من حبس المحكي عنه أو مشتملا على جميع خصائصه - بل يكفى فى ذلك نوع من المناسبة - فلاجل تلك المناسبة الظاهرة أو الخفية يتمثل فى متخيلة العالم الكبير ذلك الشيء بتلك الصورة ولاجل لك المناسبة الخفية راى يوسف عليه السلام أبويه واخوته فى صورة الشمس والقمر والكواكب - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا ستة المرأة خير والبعير حرب واللبن فطرة والخضرة جنة والسفينة نجاة والتمر رزق - رواه أبو يعلى فى معجمه عن رجل من الصحابة بسند ضعيف - وتلك المتخيلة من العالم الكبير تسمى فى اصطلاح الصوفية بعالم المثال ثم تلك الصورة تنطبع لاجل المناسبة والمحاذات من متخيلة العالم الكبير فى متخيلة العالم الصغير أى الإنسان - وتراه النفس حين فراغها « 1 » عن مطالعة المحسوسات - فالانبياء عليهم الصلوات والتسليمات (لاجل عصمتهم عن الشيطان وعن معارضة الأوهام - ولاجل كون مناماتهم مقتصرة على العيون تنام عيونهم وقلوبهم يقظان - فيميزون
(1/3278)
مخترعات الخيال عن حقائق الإلهام) انحصرت رؤياهم فى القسم الثالث - ثم عدم العوارض المفسدة للمنامات الموجبة لوقوع الخطاء فيها متيقن فيهم عليهم السلام فرؤيا الأنبياء يكون وحيا قطعيا حتّى تصدى خليل اللّه عليه السلام لذبح ابنه وقال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى - قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ - ورؤيا الصلحاء اعنى الأولياء الذين زكوا أنفسهم بالرياضات - وأزالوا عنها الكدورات الجبلية -
_________
(1) فى الأصل فراعه -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 139
(1/3279)
و تنزهوا عن ظلمات الذنوب والآثام - وتجلى بواطنهم باقتباس أنوار النبوة صالحة صادقة الا نادرا - وذلك عند عروض كدورة بأكل شيء من المشتبهات - أو زائدا على الحاجة بحيث تولدت منه كدورة ما - أو لاجل لمم من المعصية فانهم غير معصومين - أو لانعكاس من صحبة العوام - فرؤيا الأولياء شبيهة بالوحى - ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة - متفق عليه من حديث انس وابى هريرة وعبادة بن الصامت ورواه احمد عنهم وأبو داؤد والترمذي عن عبادة وروى البخاري عن أبى سعيد ومسلم عن ابن عمرو أبى هريرة واحمد وابن ماجة عن أبى رزين والطبراني عن ابن مسعود بلفظ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة - وروى ابن ماجة بسند صحيح عن أبى سعيد رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة - وابن ماجة واحمد بسند صحيح عن ابن عمرو احمد عن ابن عباس الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة - وفى حديث أبى رزين عند الترمذي رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة - وفى حديث العباس بن عبد المطلب عند الطبراني رؤيا المؤمن الصالح بشرى من اللّه وهى جزء من خمسين جزءا من النبوة - وفى حديث ابن عمر عند ابن النجار جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة - فان قيل ما معنى كونها جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة - وما وجه التطبيق بين الأحاديث فى عدد الاجزاء - قلنا كان مدة الوحى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة - وكان نصف سنة منها الوحى بالرؤيا الصالحة لا يرى شيئا فى المنام الا وجده مثل فلق الصبح - فلذلك قال جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة - واما روايتا الأربعين والخمسين فمبنيتان على جبر الكسر أو طرح الكسر وأخذ العقد تقريبا - واما رواية السبعين فالمراد منها الكثرة فانه يطلق السبعين ويراد به الكثرة قال اللّه تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
(1/3280)
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ - فالمعنى انها جزء من اجزاء كثيرة من الوحى واما رواية خمسة وعشرين فشاذ - واما رؤيا العوام - فمنا ماتهم وان كانت مستفادة من عالم المثال - لكنها تفسد وتكذب غالبا - لاجل انكدار خيالاتهم بالكدورات الجبلية النفسانية - والكدورات
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 140
(1/3281)
المكتسبة بالذنوب والآثام - ثم قد يقع الخطاء فى تعبير الرؤيا إذا كانت بين الصورة والمحكي عنها من عالم المثال مناسبة خفية - وصحة التعبير اما بالإلهام من اللّه تعالى وهو المراد فى الآية وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أى يلهمك تعبير المنامات وذا لا يتصور غالبا الا إذا كان المعبر رجلا صالحا أهلا للالهام - واما بالعقل السليم - روى الترمذي بسند صحيح عن أبى رزين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة - وهى على رجل طائر ما لم يحدث بها - فإذا حدث بها سقطت ولا تحدث بها الا لبيبا أو حبيبا - وفى بعض الروايات الا من تحب - ورواه أبو داؤد وابن ماجة بسند صحيح عنه بلفظ الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر - فإذا عبرت وقعت ولا تقصّها الا على وادّا وذى رأى - والمراد بالطائر عندى ما قضى اللّه وقدر له نظيره قوله تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أى عمله وما قدر له - فمعنى هذا الحديث عندى واللّه تعالى أعلم - ان رؤيا المؤمن مبنى على قضاء اللّه تعالى - وقدر قدّر له لا يعلم هو ما قدر له ما لم يحدث بها ويعبر عنها معبر فإذا حدث بها وعبر عنها معبر بالهام من اللّه تعالى أو بقوة الرأى والاستنباط الموهوبة منه تعالى - وقعت أى ظهرت واتضح ما هو مقضى له - ولا تحدث بها الا لبيبا ذا رأى أو حبيبا وادّ أى رجلا صالحا يحب اللّه والمؤمنين ويحبه اللّه والمؤمنون - وهو المعنى بقوله الا من تحب فان المؤمن لا يحب الا مؤمنا صالحا - فاللبيب يعبر بالرأى السليم - والحبيب لله تعالى يعبر بالإلهام - فلا يقع الخطاء فى تأويلهما - وما ذكرت من اقسام الرؤيا مستفاد من الأحاديث - روى ابن ماجة بسند صحيح عن عوف بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا ثلاثة منها تهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم - ومنها ما يهم به
(1/3282)
الرجل فى يقظته فيراه فى منامه - ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة - وروى الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا ثلاث فبشرى من اللّه وحديث النفس وتخويف الشيطان - فإذا راى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصّها ان شاء - وان راى شيئا يكرهه فلا يقصّها على أحد وليقم يصلى - واكره الغل واحبّ القيد القيد ثبات فى الدين -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 141
(1/3283)
و روى مسلم عن أبى قتادة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصالحة من اللّه والرؤيا السوء من الشيطان - فمن راى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان فانها لا تضره ولا يخبر بها أحدا - وان راى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها الا من يحب - وعنه فى الصحيحين وعند أبى داؤد والترمذي بلفظ الرؤيا الصالحة من اللّه والحلم من الشيطان فإذا راى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله منها فانها لا تضره - فان قيل ما معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم من راى رؤيا فكره فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله منها - قلنا معناه واللّه اعلم ان الرؤيا ان كانت من تخويفات الشيطان وتسويلاته فيذهب وسوسته بالتعوذ - وان كان من عالم المثال فقد يكون حكاية عن قضاء معلق فالتعوذ بالله منها أى من الرؤيا يردّ القضاء المعلق ان شاء اللّه تعالى فلا تضرّه - ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم فلا يقصّها على أحد وليقم يصلى انه ان قصّها على أحد يحزنه تعبيرها - فالاولى ان يرجع إلى اللّه تعالى بالصلوة والدعاء حتّى يدفع القضاء المعلق المحكي عنه بالرؤيا - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يردّ القضاء الا الدعاء الحديث - رواه الشيخان فى الصحيحين عن سلمان وابن حبان والحاكم عن ثوبان - وليس النهى عن التحديث على التحريم أو التنزيه الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لاصحابه يوم أحد انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر وهى مصيبة - ورايت بقرا تذبح وهى مصيبة - وقد مر الحديث فى تفسير قوله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فى سورة ال عمران - وانه صلى اللّه عليه وسلم ارى بنى امية على منبره فساءه ذلك - وقد حدث به وذكرنا الحديث فى تفسير سورة القدر - وراى ابن عباس قتل الحسين عليه السلام فى رؤياه يوم قتل فحدث به - وفى الباب أحاديث كثيرة - قلت وجاز ان يكون النهى عن
(1/3284)
تحديث الرؤيا المكروهة كيلا يظهر الأعداء الشماتة والفرح - وعن تحديث المبشرات الا عند اللبيب أو الحبيب كيلا يحسدوه ولذلك امر يعقوب يوسف عليهما السلام بكتمان رؤياه على اخوته فقال لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أى فيحتالوا لاهلاكك حيلة حسدا - عدى الكيد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 142
باللام وهو متعد بنفسه لتضمينه معنى فعل يعدى به تأكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعلل بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) ظاهر العداوة فيزيّن له الكيد ويحمله عليه.
وَكَذلِكَ أى كما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على الفضل والكمال يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة والملك والأمور العظام - والاجتباء من جببت الشيء إذا حصّته وأخلصته لنفسك - وجبت الماء فى الحوض إذا جمعته وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أى تعبير الرؤيا لان الرؤيا حديث الملك ان كانت صادقة - وحديث الشيطان ان كانت كاذبة - عبر التعبير بالتأويل لأنه ما يؤل إليه عاقبة الأمر ويؤل امره إلى ما يرى فى منامه - أو من تأويل غوامض كتب اللّه وسنن الأنبياء - قيل هذا كلام مبتدا خارج عن التشبيه كأنَّه قيل وهو يعلمك - والظاهر انه معطوف على ما سبق فان تعليم التأويلات وإتمام النعمة من انواع الاجتباء فهو من قبيل عطف الخاص على العام وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ قيل المراد بهم ابناؤه وكان ابناؤه كلهم أنبياء - علم ذلك استدلالا بضوء الكواكب وقيل المراد بهم أنبياء بنى إسرائيل كَما أَتَمَّها أى النعمة عَلى أَبَوَيْكَ يعنى الجد وأبا الجد مِنْ قَبْلُ إتمامها عليك إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لابويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء حَكِيمٌ (6) يفعل الأشياء على ما ينبغى - .
(1/3285)
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أى قصة يوسف واخوته العلات - وكانوا عشرة ستة من بطن ليا بنت ليان وهى ابنة خال يعقوب عليه السلام - روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولادى ويهودا وريان ويشحر وكانت من بطنها بنتا اسمها دينة - واربعة من بطن سريتين له عليه السلام - إحداهما زلفة واخرى يلهمة دان وتفتالى وجاد واشر كذا قال البغوي - وقال لما توفيت ليّا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين - فكان أبناء يعقوب عليه السلام اثنا عشر رجلا - قال البيضاوي قيل جمع « 1 » يعقوب بين الأختين - ولم يكن الجمع محرما حينئذ آياتٌ قرأ ابن كثير اية على التوحيد والباقون على الجمع يعنى عبر ودلائل على قدرة اللّه تعالى وحكمته أو علامات لنبوتك لِلسَّائِلِينَ (7) عن خبرهم
_________
(1) وكذا فى التورية - أبو محمّد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 143
قال البغوي وذلك ان اليهود سالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قصة يوسف - وقيل سالوا عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان إلى مصر - فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما فى التورية - وقيل آيات لمن سال ولمن لم يسئل كقوله تعالى سَواءً لِلسَّائِلِينَ - وقيل عبرا للمعتبرين فانها تشتمل على حسد اخوة يوسف وما ال إليه أمرهم من الذل - وعلى رؤياه وما حقق اللّه منها - وعلى صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة - وعلى الرق وفى السجن وما ال إليه امره من الملك ورضوان اللّه - وعلى حزن يعقوب وما ال إليه امره من الوصول إلى المراد وغير ذلك من الآيات - اذكر.
(1/3286)
إِذْ قالُوا يعنى قال بعضهم لبعض لَيُوسُفُ اللام فيه جواب للقسم تقديره واللّه ليوسف وَأَخُوهُ من أبيه وامه ولذا خصّوه بالاضافة أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وحّده لأنه افعل من يستوى فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث - بخلاف أخويه فان الفرق بين المحلى باللام واجب - وفى المضاف جائز وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أى والحال انّا جماعة عشرة - قال الفراء العصبة هى العشرة فما زاد - وقيل العصبة ما بين الواحد إلى العشرة - وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة - وقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر - وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين - كذا فى القاموس حيث قال العصبة من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين كالعصابة بالكسر - وكذا قال الجزري فى النهاية ان العصابة الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين - والعصب جمع عصبة كالعصابة - ولا واحد لها من لفظه كالنفر والرهط - وقيل العصبة جماعة متعصبة أى متعاضدة - ومعنى نحن عصبة أى جماعة مجتمعة الكلام متعاضدة إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) ليس المراد من الضلال الضلال عن الدين ولو أرادوا ذلك لكفروا به - بل المراد منه الخطاء فى التدبير يعنون به انا انفع له فى امر الدنيا وإصلاح معاشه ورعى مواشيه - فنحن اولى بالمحبة منهما فهو مخطئ خطاء بيّنا فى إيثاره يوسف وأخاه علينا فى صرف محبته إليهما.
اقْتُلُوا يُوسُفَ قال وهب قاله شمعون وقال كعب دان وقال مقاتل روبيل - هذه الجملة المحكي بعد قوله إذ قالوا - وانما أسند هذا القول إلى جميعهم مع ان القائل به كان واحدا منهم - لان الباقون رضوا به الا من قال لا تقتلوا فاسند الفعل إلى الكل مجاز الصحة اسناده إلى أكثرهم لاجل
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 144
(1/3287)
رضائهم به أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أى بأرض منكورة بعيدة من العمران - بحيث يبعد عن أبيه - وهو معنى تنكيرها وابهامها - ولذلك نصب كالظروف المبهمة يَخْلُ لَكُمْ جواب الأمر والمعنى يصف لكم وَجْهُ أَبِيكُمْ أى توجهه إليكم عن شغله بيوسف حتّى لا يلتفت عنكم إلى غيركم - ولا ينازعكم فى محبته أحد وَتَكُونُوا جزم بالعطف على يخل مِنْ بَعْدِهِ أى بعد يوسف أو بعد الفراغ من امره بالقتل أو الطرح - أو قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ (9) تائبين إلى اللّه عمّا جنيتم فيعف اللّه عنكم - أو صالحين مع أبيكم يصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه كذا قال مقاتل - أو صالحين امر دنياكم فانه ينتظم لكم بعده لخلو وجه أبيكم - .
(1/3288)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو يهودا وقال قتادة روبيل - قال البغوي والاول أصح لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فان القتل كبيرة عظيمة وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أى فى قعره والغيابة كل موضع ستر عنك الشيء وغيّبه - سمى القعر بها لستره ما فيه عن عين الناظر - كذا قرأ الجمهور - وقرا أبو جعفر ونافع فى غيبت الجبّ على الجمع كأنَّه كان لذلك الجب غيابات - قال البغوي والجب البئر الغير المطوية لأنه جب أى قطع ولم يطو - وفى القاموس الجب بالضم البئر أو الكثيرة الماء البعيدة القعر أو الجيّدة الموضع من الكلاء أو الّتي لم تطوا ومما وجد لا مما حفره الناس يَلْتَقِطْهُ أى يأخذه والالتقاط أخذ الشيء من حيث لا يحس به بَعْضُ السَّيَّارَةِ الذين يسيرون فى الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) بمشورتى فافعلوا هذا - أو ان كنتم على ان تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه فاكتفوا به - قال محمّد بن إسحاق اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الّذي لا ذنب له والغدر بالامانة وترك العهد والكذب مع أبيهم - وعفا اللّه عنهم ذلك كله حتّى لا ييئس من رحمة اللّه أحد - قلت لعل وجه مغفرة اللّه إياهم تلك الجرائم كلها لشدة حبهم بأبيهم يعقوب عليه السلام - فانه انما أوقعهم فى تلك الجرائم ذلك الحب - حيث أرادوا ان يخلوا لهم وجه أبيهم ويندفع ما يخلّ بهم فى محبتهم - وقال بعض أهل العلم انهم عزموا على قتله وعصمهم اللّه رحمة لهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعون -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 145
و كان ذلك قبل ان صاروا أنبياء كذا قال أبو عمرو بن العلاء - فمن قال بكونهم أنبياء جوز صدور المعصية من النبي قبل النبوة - وقال أكثرهم انهم ما كانوا أنبياء والمراد بالأسباط الوارد فى القرآن فى عد الأنبياء أنبياء بنى إسرائيل من نسلهم واللّه اعلم - فلما اجمعوا على التفريق بينه وبين والده عليهما السلام بضرب من الحيل.
(1/3289)
قالُوا ليعقوب عليه السلام يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ أبو جعفر بترك الإشمام والروم والباقون اما بالاشمام اعنى بالاشارة بالشفتين إلى الضمة نحو قبلة المحبوب - أو بالروم أى بحركة النون الأول بعض الحركة - أى لا تسكن رأسا بل تضعف الصوت بها فيفصل فيه بين المدغم والمدغم فيه - يعنون لم تخافنا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أرادوا به استنزاله عن رأيه فى حفظه منهم لما أحس منهم الحسد - قال مقاتل فى الكلام تقديم وتأخير وذلك انهم قالوا.
أَرْسِلْهُ مَعَنا الآية - فقال أبوهم إِنِّي لَيَحْزُنُنِي الآية فحينئذ قالوا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا - والنصح القيام بالمصلحة وارادة الخير - وقيل البرّ والعطف يعنى نحن قائمون بمصلحته نريد له الخير نحفظه حتّى نرده إليك.
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون فيهما على التكلم وجزم العين فى نرتع من رتع يرتع رتعا - وهو الخصب يعنون نتسع فى أكل الفواكه ونلعب بالسباق والصيد والرمي مما يباح إتيانه - وقرا ابن كثير بالنون فيهما وكسر العين أصله نرتعى وهو نفتعل من الرعي - فروى أبو ربيعة وابن الصباح عن قنبل بإثبات الباء وصلا ووقفا - وروى غيرهما عنه حذفها فى الحالين - والبزي بحذفها فى الحالين - والمعنى نتحارس ونحفظ أنفسنا يعنى يحفظ بعضنا بعضا - وقرا نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر بالياء فيهما على الغيبة على اسناد الفعلين إلى يوسف - « 1 » غير ان نافعا وأبا جعفر يكسران العين من يرتع ويحذفان الياء لام الكلمة من ارتعى يرتعى يعنون يرعى يوسف الماشية كما نرعى نحن - والباقون يجزمون العين من يرتع ومعناه يأكل ويلهو وقرا يعقوب « 2 » نرتع بالنون وجزم العين مثل أبى عمرو ويلعب بالياء مثل الكوفيين وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) ان يناله مكروه.
(1/3290)
قالَ لهم يعقوب إِنِّي لَيَحْزُنُنِي فتح الياء نافع وابن كثير وأسكنها الباقون أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ
_________
(1) هذا ليس بشيء لان يعقوب فى كلتا الكلمتين مع الكوفين - أبو محمّد
(2) فى الأصل غير ان نافع وأبو جعفر
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 146
اى ذهابكم به - والحزن هاهنا الم القلب بفراق المحبوب وعدم الصبر عنه - واللام لام الابتداء وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لان الأرض كانت مذابة - وقال البغوي وذلك ان يعقوب راى فى المنام ان ذئبا شد على يوسف فكان يخاف من ذلك - وهذا عندى ليس بشيء فان رؤيا الأنبياء وحي قطعى الوجود - ولو كان قد راى ذاك لتحقق البتة ولا ينفعه الحذر لكنه لم يتحقق - قرأ ورش والكسائي وأبو عمرو الذيب بغير همز بالياء إذا وقف « 1 » والباقون بالهمزة فى الحالين وحمزة على أصله إذا وقف فان الهمزة المتوسطة عنده تبدل حرفا خالصا فى الوقف وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) يعنى لا أخاف كيدكم ولكن أخاف ان يناله مكروه عند غفلتكم لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ المراد به الجنس وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أى عشرة متعاضدة لا يتصور الغفلة من جميعنا واللام موطئة للقسم وجوابه إِنَّا إِذاً أى إذا أكله الذئب ونحن عصبة لَخاسِرُونَ (14) هو مجزى عن جزاء الشرط - يعنون ان لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وكنا ضعفاء مغبونون - أو مستحقون ان تدعى علينا بالخسارة - والواو فى ونحن للحال - اعتذر يعقوب فى عدم الإرسال بامرين الحزن بفراقه والخوف عليه بأكل الذئب - وأجابوا عن عذره الثاني دون الأول - لعدم قدرتهم على دفع الحزن ولان ذلك كان يغيظهم - .
(1/3291)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أى عزموا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وجواب لما محذوف يعنى فعلوا به ما أرادوا - وقال البغوي جوابه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ الآية على ان الواو زائدة كما فى قوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ - أى لمّا أسلما ناديناه قال البغوي قال وهب وغيره أخذوا يوسف بغاية الإكرام - وجعلوا يحملونه فلما برزوا إلى البرية القوه - وجعلوا يضربونه فإذا ضربه أحد استغاث باخر فضربه الاخر - فجعل لا يرى منهم أحدا رحيما - فضربوه حتّى كادوا يقتلونه - وهو يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنوا الإماء - فلما كادوا ان يقتلوه قال لهم يهودا أ ليس قد أعطيتموني موثقا ان لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه وكان ابن اثنى عشر سنة وقيل ثمان عشر سنة - فجاءوا به على غير طريق إلى بئر واسع الأسفل ضيّق الرأس - قال مقاتل على ثلاث فراسخ من منزل
_________
(1) هكذا فى الأصل لكن لا فائدة لهذا القيد لورش ولمن معه لان مذهبهم فى الوصل والوقف سواء - أبو محمّد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 147
(1/3292)
يعقوب - وقال كعب بين مدين ومصر - وقال وهب بأرض الأردن - وقال قتادة هى بئر بيت المقدس - فجعلوا يدلونه فى البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه - فقال يا إخوتاه ردوا علىّ القميص اتوارى به فى الجب - فقالوا ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك فقال انى لم أر شيئا فالقوه فيها - وقيل جعلوه فى دلو وأرسلوه فيها حتّى إذا بلغ نصفها القوه ارادة ان يموت فكان فى البئر ماء فسقط فيه - ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها - وقيل انهم لما القوه فيها جعل يبكى فنادوه فظن انها رحمة أدركتهم فاجابهم - فارادوا ان يرضحوا بصخرة فيقتلوه فمنعهم يهودا - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى مطولا ان ال يعقوب كانوا نازلين بالشام - وكان ليس له هم الا يوسف واخوه بنيامين - فحسده اخوته إلى ان قال فلما برزوا إلى البرية فذكر نحوه - قيل جعلوه فى دلو وأرسلوه فيها حتّى إذا بلغ نصفها القوه ارادة ان يموت - فكان فى البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها يبكى - فجاءه جبرئيل بالوحى كما قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لاطمينان قلبه والظاهر ان هذا الوحى ليس للاستنباء والإرسال والتبليغ بل هو كما اوحى إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية وما هو للتبليغ فهو بعد ذلك حيث قال اللّه تعالى وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً - واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد فى قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قال اوحى إلى يوسف يعنى وحي الاستنباء وهو فى الجب لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا يعنى لتخبرن إخوتك بما صنعوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) بذلك الوحى والإيناس واعلام اللّه إياه ذلك - وقيل معناه وهم لا يشعرون يوم تخبرهم انك يوسف لعلو شأنك وبعده عن اوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات - وذلك حين دخلوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ - قال
(1/3293)
البغوي كان يهودا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال واوحى إليه هذه الآية - وبعث إليه جبرئيل ليؤنسه ويبشره بالخروج - ويخبره انه ينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه وهم لا يشعرون - أخرج ابن أبى شيبة واحمد فى الزهد وابن عبد الحكم فى فتوح مصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردوية عن الحسن ان يوسف عليه السلام كان حينئذ ابن سبع عشره سنة - وقيل كان مراهقا اوحى إليه فى صغره كما اوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام - وفى القصص ان ابراهيم
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 148
حين القى فى النار جرد عن ثيابه - فاتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فالبسه إياه فدفعه ابراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله فى تميمة علقها بيوسف فاخرجه جبرئيل والبسه إياه - قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ثم انهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف.
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قال أهل المعاني جاءوا فى ظلمة العشاء لتكون اجرا على الاعتذار بالكذب - فروى ان يعقوب عليه السلام سمع صياحهم - فخرج فقال ما لكم يا بنى هل أصابكم فى غنمكم شيء - قالوا لا قال فما أصابكم واين يوسف.
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أى نتسابق فى العدو كذا قال السدى أو نترامى وننتصل ويشترك الافتعال والتفاعل كالانتصال والتناصل وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ثيابنا فمضينا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ أى بمصدق لَنا لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) عندك لاتّهمتنا فى هذه القصة لمحبة يوسف فكيف وأنت سىء الظن بنا - وقيل معناه لست بمصدق لسوء ظنك بنا - أو لأنه لا دليل لنا على صدقنا وان كنا صادقين عند اللّه.
(1/3294)
وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أى ذى كذب أو مكذوب فيه - ويجوز ان يكون وصفا بالمصدر للمبالغة - وعلى قميصه فى موضع النصب على الظرف أى فوق قميصه - أو على الحال من الدم ان جوز تقديمها على المجرور - أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن انه لما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح وسال قميصه - فلما جيء بقميص يوسف جعل يقلّبه فراى اثر الدم ولا يرى فيه شقا ولا خرقا - فقال يا بنى واللّه ما اعهد الذئب حليما إذا كل ابني وأبقى قميصه فلمّا علم كذبهم بذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أى سهّلت لكم وهوّنت فى أعينكم أنفسكم امرا عظيما - ماخوذ من السول وهو الاسترخاء - فى القاموس الاسول من فى أسفله استرخاء والسولة استرخاء البطن وغيره - وقيل معناه زيّنت كذا فى القاموس وسوّل له الشيطان اغواه وقيل السول الحاجة الّتي تحرص عليها النفس - والتسويل تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أى فامرى صبر جميل - وقيل فصبر جميل
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 149
اختاره - قال البغوي الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه أى إلى الخلق ولا جزع - أخرج ابن جرير عن حبان ابن حمية مرسلا الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) أى على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف والصبر على تلك المصيبة - قال البغوي وفى القصة انهم جاءوا بذئب وقالوا هذا الّذي أكله - فقال له يعقوب يا ذئب ءانت أكلت ولدي وثمرة فوادى - فانطقه اللّه عز وجل فقال تالله ما رايت وجه ابنك قط - قال كيف وقعت بأرض كنعان - قال جئت لصلة قرابة فصادنى هؤلاء - فمكث يوسف فى البئر ثلاثة ايام - .
(1/3295)
وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر أخطئوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب - وكان الجب فى قفر بعيد من العمران للرعاة والمارة - وكان ماؤه ملحا فعذب حين القى يوسف فيه فَأَرْسَلُوا حين نزلوا هناك وارِدَهُمْ رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن وعر لطلب الماء - والوارد الّذي يتقدم الرفقة إلى الماء ليستقى لهم فَأَدْلى دَلْوَهُ يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها فيه - ودلوتها أخرجتها - فتعلق يوسف عليه السلام بالحبل - فلما خرج إذا هو بغلام احسن ما يكون - قال النبي صلى اللّه عليه وسلم اعطى يوسف شطر الحسن رواه ابن أبى شيبة واحمد وأبو يعلى والحاكم عن انس - قال البغوي يقال انه ورث ذلك الجمال من جدته سارة - وكانت قد أعطيت سدس الحسن - قال ابن إسحاق ذهب يوسف وامه بثلثي الحسن - فلما راه مالك بن وعر قالَ يا بُشْرى قرأ الكوفيون بالألف المقصورة على وزن فعلى وامال حمزة والكسائي - نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنَّه قال يا بشرى تعالى فهذا أو انك - وقيل هو اسم لصاحبه ناداه باسمه ليعينه على إخراجه - وقرا الباقون يبشرى بالألف بعد الراء وبعدها ياء المتكلم مفتوحة بالاضافة - قرأ ورش الراء بين بين والباقون بإخلاص فتحها هذا غُلامٌ روى مجاهد عن أبيه ان البئر كانت تبكى على يوسف حين أخرج منها وَأَسَرُّوهُ يعنى أخفاه الوارد وأصحابه من سائر الرفقة مخافة ان يطلبوا منهم فيه المشاركة - وقيل اخفوا امره وقالوا دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر - وقيل الضمير لاخوة يوسف - وذلك ان يهودا كان يأتيه كل يوم بالطعام وأتاه يومئذ فلم يجده فيها - فاخبر اخوته فطلبوه فاذاهم
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 150
(1/3296)
بمالك وأصحابه نزول - فاتوهم فاذاهم بيوسف - فاسروا شأن يوسف وقالوا هو عبد لنا ابق ويقال انهم هددوا يوسف حتّى لم يعرّف حاله فسكت يوسف مخافة ان يقتلوه بِضاعَةً نصب على الحال أى اخفوه متاعا للتجارة - اشتقاقه من البضع فانه « 1 » هو ما يضع من المال للتجارة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) لم يخف عليه أسرارهم - أو صنيع اخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
(1/3297)
وَ شَرَوْهُ يعنى باع « 2 » اخوة يوسف إياه بعد ما قالوا انه عبد لنا ابق - وقيل شروه بمعنى اشتروه يعنى اشترى الوارد وأصحابه يوسف من اخوته بِثَمَنٍ بَخْسٍ قال الضحاك ومقاتل والسدى أى حرام - لان ثمن الحر حرام - وسمى الحرام بخسا لأنه مبخوس من البركة أى منقوص - وعن ابن عباس وابن مسعود رضى اللّه عنهما أى زيوف وقال عكرمة والشعبي قليل دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ قليلة فانهم كانوا يزنون ما بلغ الاوقية ويعدون ما دونها - قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة رضى اللّه عنهم كان عشرين درهما فاقتسموا درهمين درهمين - وقال مجاهد اثنين وعشرين درهما وقال عكرمة كان أربعين درهما وَكانُوا أى اخوة يوسف أو الذين اشتروه فِيهِ أى فى يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الراغبين عنه لانهم لم يعلموا منزلته عند اللّه عز وجل - وقيل كانوا فى الثمن من الزاهدين لأنه لم يكن قصدهم تحصيل الثمن انما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه - قال البيضاوي ان كان ضمير كانوا للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم لانهم التقطوه - والملتقط للشيء متهاون به خائف عن انتزاعه مستعجل فى بيعه - وان كانوا مبتاعين فلانهم اعتقدوا انه ابق - وفيه متعلق بالزاهدين إذا جعل اللام للتعريف - وان جعل بمعنى الّذي فهو متعلق بمحذوف يبينه الزاهدين - لان متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول - ثم انطلق مالك بن وعر وأصحابه بيوسف وتبعهم اخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق - فذهبوا به حتّى قدموا مصر - وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس - وقيل اطفير صاحب امر الملك - وكان على خزائن مصر يسمى العزيز - وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها ديان بن الوليد بن ثروان من العمالقة - وقيل ان هذا الملك لم يمت حتّى أمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف حى - قال ابن عباس رضى اللّه
_________
(1) فى الأصل فانه ما يضع
(2) فى الأصل باعوا -
(1/3298)
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 151
عنهما لما دخل مصر تلقى قطفير مالك بن وعر - فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين - وقال وهب بن منبه قدمت « 1 » السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع - فترافع الناس فى ثمنه حتّى بلغ ثمنه وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا - وكان وزنه اربعمائة رطل وهو ابن ثلاث عشر سنة فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن - .
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ يعنى قطفير لِامْرَأَتِهِ اسمها راعيل وقيل زليخا أَكْرِمِي مَثْواهُ المثوى موضع الاقامة - والمراد به منزلته كذا قال قتادة وابن جريج - وقيل معناه أكرميه فى المطعم والملبس والمقام عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أى نبيعه بالربح ان أردنا البيع أو يكفينا فى ضياعنا وأموالنا ونستظهر به فى مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ان تبنّيناه لما تفرس به من الرشد وكان عقيما وَكَذلِكَ أى كما انجيناه من القتل وأخرجناه من الجب وعطفنا عليه العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أى فى ارض مصر فجعلناه على خزائنها وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على مضمر تقديره ليحكم بالعدل ولنعلمه - أى كان القصد من انجائه وتمكينه إلى ان يقيم العدل ويدبر امور الناس - ويعلّم معانى كتب اللّه وأحكامه فينفذها - أو تعبير المنامات المنبهة عن الحوادث الكائنة ليستعد لها - ويشتغل بتدبيرها قبل ان يحل - وقيل الواو زائدة وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ الضمير راجع إلى اللّه تعالى أى يفعل ما يشاء لا يرد امره شيء - ولا ينازعه فيما يشاء أحد - وقيل الضمير راجع إلى يوسف أى أراد به اخوة يوسف شيئا - وأراد اللّه غيره فلم يكن الا ما أراد اللّه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) لطائف صنعه وخفايا لطفه - أو لا يعلمون ما اللّه يريد ويصنع.
(1/3299)
وَ لَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ أى منتهى شبابه وقوته قال مجاهد ثلاثا وثلاثين سنة - وقال السدى ثلاثين سنة وهو سن الوقوف - وقال الضحاك عشرين سنة - وقال الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة - وسئل مالك عن الأشد قال هو الحلم آتَيْناهُ حُكْماً أى نبوة وقيل إصابة القول وَعِلْماً أى فقها فى الدين أو علما بتأويل الرؤيا قيل الفرق بين الحكيم والعالم ان العالم هو الّذي يعلم الأشياء والحكيم هو الّذي يعمل
_________
(1) فى الأصل قدمت السيار
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 152
بما يوجب العلم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) قال ابن عباس رضى اللّه عنهما أى المؤمنين وعنه أيضا المهتدين - وقال الضحاك الصابرين على النوائب - قال البيضاوي فيه تنبيه على انه تعالى انما أتاه ذلك جزاء على إحسانه فى عمله واتقائه فى عنفوان امره - .
(1/3300)
وَ راوَدَتْهُ المراودة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد - وقيل طلب الشيء برفق ومنه رويد بمعنى أمهل لمعنى الرفق والمهلة فيه - والمراد هاهنا طلبته منه بالحيل الَّتِي هُوَ يعنى يوسف فِي بَيْتِها يعنى زليخا امراة العزيز عَنْ نَفْسِهِ أى احتالت ليواقعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أى اطقتها وكانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة فى الاستيناف وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قرأ نافع وابن « 1 » ذكوان بكسر الهاء من غير همز وفتح التاء - وهشام كذلك الا انه يهمز - وقد روى عنه ضم التاء - وابن كثير بفتح الهاء وضم التاء والباقون بفتحهما - وقرا قتادة والسلمى بكسر الهاء وضم التاء كما روى عن هشام - ومعناه تهيّئت لك نفسى واللام حينئذ للصلة - وأنكره أبو عمرو والكسائي قالا لم يحك هذا عن العرب والاول هو المعروف عند العرب - قال ابن مسعود رضى اللّه عنه أقرأني النبي صلى اللّه عليه وسلم هيت لك بفتح الهاء والتاء - قال أبو عبيدة كان الكسائي يقول هى لغة لاهل حوران وقعت إلى الحجاز ومعناه تعال - وقال عكرمة أيضا هى بالحورانية هلم - قال مجاهد وغيره هى لغة عربية وهى كلمة حث واقبال على الشيء - فهو اسم فعل مبنى على الفتح كاين - واللام للتبئين كالتى فى سقيا لك - ومن قراءه بضم التاء قراءه تشبيها له بحيث - وهى لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنث كذا قال أبو عبيدة - قال فى القاموس هيت مثلثة الاخر وقد يكسر اوله بمعنى هلم قالَ لها يوسف عند ذلك مَعاذَ اللَّهِ أى أعوذ بالله معاذا واعتصم به ممّا دعوتنى إليه إِنَّهُ رَبِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها أَحْسَنَ مَثْوايَ الضمير للشأن يعنى ان الشان ان سيدى قطفير احسن منزلى وتعهّدى - حيث قال لك أكرمي مثواه فما جزاؤه ان اخونه فى اهله - وجاز ان يكون الضمير راجعا إلى قطفير يعنى ان زوجك قطفير سيدى احسن مثواى - وقيل الضمير لله تعالى
(1/3301)
يعنى انه تعالى خالقى واحسن منزلتى حيث عطف علىّ قلب فطفير فلا أعصيه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) المحازون الحسن بالسيئ - وقيل يعنى الزناة فان الزنى ظلم على نفسه وعلى المزني باهله -
_________
(1) وفى الأصل نافع وابن كثير وهو سياق قلم أو تحريف من الناسخ كما يدل عليه سياق البيان - أبو محمّد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 153
قال السدى وابن إسحاق لما أرادت امراة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وشوّقته « 1 » إلى نفسها - فقالت يا يوسف ما احسن شعرك قال هى أول ما ينتثر من جسدى - قالت ما احسن عينك قال هما أول ما يسيل على وجهى - قالت ما احسن وجهك قال هو للتراب تأكله - وقيل انها قالت ان فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتى - قال إذا يذهب نصيبى من الجنة - فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة وهو شابّ يجد شبق الشباب ما يجد الرجل عند مراودة امراة حسناء جميلة فذلك قوله تعالى.
(1/3302)
وَ لَقَدْ هَمَّتْ زليخا بِهِ أى بيوسف يعنى قصدت ان يواقعها وَهَمَّ يوسف بِها أى مال طبعه إليها واشتهاها مع كفه نفسه عنها كما يدل عليه قوله مَعاذَ اللَّهِ إلخ وليس المراد القصد الاختياري وذلك الميلان الطبعي وشهوة النفس مما لا يدخل تحت التكليف - بل الحقيق بالمدح والاجر الجزيل فان السبب لا فضلية البشر على الملائكة كف النفس عن الفعل عند قيام هذا الهمّ - قال الشيخ أبو منصور الماتريدى همّ يوسف بها همّ خطرة ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه - ولو كان همّه كهمنا لما مدحه اللّه تعالى بانّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ - وقال بعض أهل الحقائق الهمّ همان همّ ثابت وهو ما إذا كان معه عزم وعقد ورضى مثل همّ امراة العزيز فالعبد مأخوذ به - وهمّ عارض مثل الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل همّ يوسف عليه السلام والعبد غير ماخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى إذا تحدث عبدى بان يعمل حسنة فانا اكتبها له حسنة ما لم يعملها - فإذا عملها فانا اكتبها له بعشرة أمثالها - وإذا تحدث بان يعمل سيئة فانا اغفرها ما لم يعملها فإذا عملها فانا اكتبها له بمثلها - رواه البغوي من حديث أبى هريرة وفى الصحيحين وجامع الترمذي عنه بلفظ إذا همّ عبدى بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة - فان عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف - وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم اكتبها عليه فان عملها كتبتها سيئة واحدة - وجاز ان يكون معنى هم بها شارف على الهم - وما قيل فى تفسير قوله تعالى همّ بها انه حل الهميان وجلس منها مقعد الرجل من المرأة وما قيل انه حل سراويله وجعل يعالج ثيابه - وأسند هذا القول إلى سعيد بن جبير وغيره
_________
(1) فى الأصل شوّقه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 154
(1/3303)
من المتقدمين يأبى عنه سياق كلام اللّه تعالى فانه تعالى قال لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ - لان السوء هو الصغيرة وما ذكر فهو من الصغائر البتة - ولو كان كذلك لذكرت توبته واستغفاره (كما ذكر لام ونوح وذى النون وداود عليهم السلام مع كون كل ما صدر منهم عليهم السلام من غير قصد منهم بالمعصية - كما ذكر كل ذلك فى موضعه) ولم يذكر بل ذكر تبرية نفسه حيث قال هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي - وقال ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وقال إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وقال اللّه تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ - لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب لو لا محذوف تقديره لجامعها - وقيل جواب لو لا مقدم عليه تقديره لو لا ان رّاى برهان ربّه لهمّ بها - لكنه راى البرهان فلم يهم وأنكره النحاة لان لو لا فى حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها - وجاز ان يكون همّ بها المذكور قبلها دليلا على جوابها يعنى لهمّ بها - ومعنى الهم المذكور على هذا شارف الهم - فهو كقوله قتلته لو لم أخف اللّه - تقديره شارفت على قتله لو لم أخف اللّه لقتلته - واختلفوا فى ذلك البرهان فقال جعفر بن محمّد الصادق رضى اللّه عنهما البرهان النبوة الّتي أودع اللّه فى صدره حالت بينه « 1 » وبين ما يسخط اللّه عز وجل - وهذا أصوب الأقوال عندى - وقال قتادة واكثر المفسرين انه راى صورة يعقوب وهو يقول له يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب فى الأنبياء - وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك انفرج له سقف البيت فراى يعقوب عليه السلام عاضّا على إصبعه - وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل يعقوب فضرب بيده فى صدره فخرجت شهوته من أنامله - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن محمّد بن سيرين قال مثل له يعقوب عاضّا على إصبعه يقول يوسف بن
(1/3304)
يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الرّحمن اسمك فى الأنبياء وتعمل عمل السفهاء - وقال السدى نودى يا يوسف تواقعها انما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير فى جو السماء لا يطاق - ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع فى الأرض لا يستطيع ان يدفع عن نفسه شيئا - ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الّذي لا يطاق - ومثلك ان واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل فى اصل قرنية لا يستطيع ان يدفع عن نفسه - واخرج ابن جرير عن القاسم بن أبى نزة قال نودى
_________
(1) فى الأصل بينه وما يسخط [.....]
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 155
(1/3305)
يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى فغدا ليس له ريش فلم يعرض للنداء - فرفع رأسه فراى وجه يعقوب عاضّا على إصبعه - فقام مرعوبا استحياء من أبيه - وفى رواية عن مجاهد عن ابن عباس انه انحط جبرئيل عاضّا على إصبعه يقول يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند اللّه فى الأنبياء - وروى انه مسحه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله - وقال محمّد بن كعب القرظي رفع يوسف عليه السلام راسه إلى سقف البيت حين همّ فراى كتابا فى حائط البيت لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا - وروى عطية عن ابن عباس رضى اللّه عنهما فى البرهان انه راى مثال الملك - وعن على بن الحسين رضى اللّه عنهما قال كان فى البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب - فقال لها يوسف لم فعلت هذا قالت استحييت منه ان يرانى على المعصية فقال أ تستحيين ممّن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه فانا أحق ان استحيى من ربى وهرب كَذلِكَ أى الأمر مثل ذلك أو فعلنا كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ أى عن يوسف السُّوءَ أى المعصية الصغيرة وَالْفَحْشاءَ أى الكبيرة يعنى الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) قرأ نافع والكوفيون بفتح اللام حيث وقع معرفا باللام يعنى مختارين للنبوة أخلصهم اللّه تعالى لنفسه والباقون بكسر اللام أى مخلصين لله الطاعة والعبادة - .
(1/3306)
وَ اسْتَبَقَا الْبابَ أى إلى الباب على حذف الجار وإيصال الفعل - أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا يعنى تسابق يوسف وزليخا إلى الباب - لما فرّ يوسف منها ليخرج من عندها أسرعت وراءه لتمنعه عن الخروج - فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها حتّى لا يخرج - ووحّد الباب وان كان جمعه فى قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لأنه أراد الباب الّذي هو المخرج من الدار - ولما هرب يوسف جعل فراش القفل تتناثر وتسقط وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أى شقّته من ورائه - والقد الشق طولا والقط الشنق عرضا وَلمّا خرجا أَلْفَيا صادفا سَيِّدَها أى زوجها قطفير لَدَى الْبابِ قال البغوي وجداه جالسا مع ابن عم لزليخا - وقيل صادفاه مقبلا يريد الدخول فلما راته هابته قالَتْ سابقة بالقول لزوجها تبرية لنفسها عند زوجها - وتعييرا على يوسف وإغراء به انتقاما
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 156
منه ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً تعنى الزنى وما نافية أو استفهامية بمعنى اىّ شيء جزاؤه ليس جزاؤه إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أى يحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) أى ضرب بالسياط - فلما سمع يوسف مقالتها.
(1/3307)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي أى طلبت منى الفاحشة انما قال ذلك دفعا لما عرض له من السجن والعذاب ولو لم تكذب عليه لما قاله وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل ابن عم وقيل ابن خال لها - فقال سعيد بن جبير والضحاك كان صبيّا فى المهد أنطقه اللّه - قال البغوي وهو رواية العوفى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال تكلم اربعة وهم صغار - ابن ماشطة ابنة فرعون - وشاهد يوسف - وصاحب جريح - وعيسى بن مريم - قال محمّد بن محمّد السعاف فى تخريج البيضاوي أخرج ذلك الحديث احمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى المستدرك وصححه - ورواه الحاكم أيضا من حديث أبى هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين - ولم يطلع عليه الطيبي فقال يردّه ما فى حديث الصحيحين عن أبى هريرة حيث قال لم يتكلم فى المهد الا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريح - وصبى كان ترضعه امه فمر راكب حسن الهيئة فقالت امه اللهم اجعل ابني مثل فلان فقال الصبى اللهم لا تجعلنى مثله - فصاروا باضافة الصبى المذكور إليهم خمسة - قال السيوطي وهم اكثر من ذلك ففى صحيح مسلم تكلم الطفل فى قصة اصحاب الأخدود - قال وقد جمعت من تكلم فى المهد فبلغوا أحد عشر تضمينا فقلت قطعة تكلم فى المهد النبي محمّد ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبرى جريح ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مبرّيا لامه الّتي يقال لها تزنى ولا تتكلم وماشطة فى عهد فرعون طفلها وفى زمن الهادي المبارك يختم فقال الشاهد إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ من قدام فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) لأنه يدل على انها قدت من قدامه لما أرادها بالدفع عن نفسها - أو انه اسرع عن خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.
(1/3308)
وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) لأنه يدل على انها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته من خلفه - والشرطية
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 157
محكية على ارادة القول أو على ان فعل الشهادة من القول وتسميتها شهادة لانها أدت موداها - وانما جمع بين ان الّذي هو للاستقبال وبين كان لان المعنى ان تعلم انه كان قميصه كذا - نظيره قولك ان أحسنت الىّ فقد أحسنت إليك من قبل فان معناه ان تمنّ علىّ بإحسانك امنّ عليك بإحساني السابق.
(1/3309)
فَلَمَّا رَأى قطفير قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه السلام قالَ لها إِنَّهُ أى ان السوء أو ان هذا الأمر أو ان قولك ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ... مِنْ كَيْدِكُنَّ من حيلتكن والخطاب لها ولامثالها أو لسائر النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ أى النساء عَظِيمٌ (28) فان ظاهرهن ضعيف يشهد لهن بالصدق وباطنهن خبيث اعوج - فانها خلقت من ضلع آدم وعقولهن قاصرة وديانتهن ناقصة لا تمنعهن عما يمنع العقول السليمة والدين القويم - ومعهن شيطان يواجهن الرجال بالكيد والشيطان يوسوس به مسارقة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النساء حبالة الشيطان وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما رايت من ناقصات عقل ودين اذهب للب الرجل الحازم من أحد أكن رواه « 1 » عن بعض العلماء انه قال انا أخاف من النساء اكثر مما أخاف من الشيطان لان اللّه تعالى قال إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال لهن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أى يا يوسف أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث فلا تذكره لاحد حتّى لا يشيع وَاسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) أى من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا - لم يقل من الخاطئات لأنه لم يقصد به الخبر عن النساء - بل قصد الخبر عن من فعل ذلك رجلا كان أو امراة - فذكر بصيغة المذكرين تغليبا ونظيره قوله تعالى وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ وانّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ - وكان العزيز رجلا حليما قليل الغيرة فاقتصر على هذا القول - .
(1/3310)
وَ قالَ نِسْوَةٌ اسم لجمع امراة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقى ولذلك جرد فعله فِي الْمَدِينَةِ ظرف لقال أو صفة لنسوة - أى لما شاع حديث يوسف ومراودة زليخا عن نفسه فى المصر قلن - وقال مقاتل كن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسبحان وصاحب الدواب امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها أى عبدها الكنعانى عَنْ نَفْسِهِ أى تطلب منه الفاحشة قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعنى شق يوسف شغاف قلبها فدخل فيه حبّا - وهو
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 158
تميز عن النسبة أى دخل حبه قلبها - قال السدى الشغاف جلدة رقيقة على القلب - وقال الكلبي حجب حبه قلبها حتّى لا تعقل سواه إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ عن الرشد وبعد من الصواب مُبِينٍ (30) ظاهر الضلال حيث تركت ما يكون على أمثالها من العفاف والستر.
(1/3311)
فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ أى باغتيابهن وانما سمى مكرا لانهن اخفين هذا القول كما يخفى الماكر مكره - وقال ابن إسحاق انما قلن لها ذلك مكرا بها لتريهن يوسف وكانت « 1 » توصف لهن حسنه وجماله وقيل انها أفشت إليهن سرها واستكتمهن فافشين ذلك فلذلك سماه مكرا أَرْسَلَتْ رسولا إِلَيْهِنَّ تدعوهن قال وهب اتخذت مأدبة ودعت أربعين امراة منهن هؤلاء اللاتي عيرنها وَأَعْتَدَتْ أى أعدت لَهُنَّ مُتَّكَأً قال ابن عباس رضى اللّه عنهما وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد متكأ أى طعاما - سماه متكأ لان أهل الطعام إذا جلسوا يتكؤن على الوسائد - فسمى الطعام معا على الاستعارة - يقال اتكأنا عند فلان أى طعمنا - ولما كان ذلك عادة المترفين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يأكل الرجل بشماله وان يأكل متكأ - رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه عن جابر - وقيل المتكأ الطعام الّذي يجزّ جزّا كانّ القاطع يتكى عليه بالسكين - قال ابن عباس هو الأترج وقد روى عن مجاهد مثله - وقيل هو الأترج بالحبشية - وقال عكرمة وأبو زيد الأنصاري كل ما يجزّ بالسكين فهو عند العرب متك - والمتك والبتك القطع بالميم والباء - قال البغوي زينت امراة العزيز بيتا بألوان الفواكه والاطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة وَآتَتْ أى اعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وهن يأكلن اللحم جزّا بالسكين وَقالَتِ قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر التاء وصلا وغيرهم بضمها وصلا اخْرُجْ يا يوسف عَلَيْهِنَّ وكانت أجلست يوسف فى مجلس اخر فخرج عليهن يوسف - قال عكرمة وكان فضل يوسف على الناس فى الحسن كفضل ليلة البدر على سائر الكواكب - واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردوية من حديث أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايت ليلة اسرى بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر - واخرج أبو الشيخ فى تفسيره عن إسحاق بن عبد اللّه أبى فروة قال كان
(1/3312)
إذا سار فى ازقة المصر يرى تلألأ وجهه على الجدران كما يرى تلألأ الماء والشمس على
_________
(1) فى الأصل كان -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 159
الجدران فَلَمَّا رَأَيْنَهُ نسوة مصر أَكْبَرْنَهُ عظّمته قال أبو العالية هالهن امره وبهتن - وقيل أكبرنه أى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت - لانها تدخل فى الكبر بالحيض والهاء ضمير المصدر أو ليوسف على حذف المضاف أى حضن لاجله من شدة الشبق وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالسكاكين الّتي كانت معهن وهن يحسبن انهن تقطعن الأترج ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف - قال مجاهد فما احسسن الا بالدم - قال قتادة أبنّ أيديهن حتّى القينها - والأصح انه كان قطعا بلا ابانة وقال وهب »
ماتت جماعة منهن وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له تعالى من صفات العجز وتعجبا على كمال قدرته على الخلق - أصله حاشا للّه كذا قرأ أبو عمرو فى الموضعين وصلا - وإذا وقف حذف الالف اتباعا للخط - روى ذلك عن اليزيدي منصوصا والباقون يحذفون الالف فى الحالين تخفيفا وهو حرف يفيد معنى التنزيه فى باب الاستثناء فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما فى قولك سقيا لك ما هذا بَشَراً وهو على لغة أهل الحجاز فى اعمال ما عمل ليس لمشاركتهما فى نفى الحال - وقال البغوي منصوب بنزع حرف الصفة أى ليس هذا ببشر إِنْ هذا أى ما هذا إِلَّا مَلَكٌ من الملائكة كَرِيمٌ (31) على اللّه تعالى لان هذا الجمال لم يعهد فى لبشر وليس فوق البشر الا الملك - أو لان الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة - .
(1/3313)
قالَتْ زليخا فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ تعنى هو ذلك العبد الكنعانى الّذي صورتنّ فى انفسكن ثم لمتننى فيه - تعنى انكن لم تتصورنّه حق تصوره والا لعذرتنّنى فى الافتتان به - أو فهذا اهو الّذي لمتننى فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فامتنع طالبا للعصمة - أقرّت لهن حين عرفت انهن يعذرنها كى يعاونّها على إلانة عريكته فقلن له أطع مولاتك وَقالت زليخا لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ به أو أمري إياه تعنى موجب امرى والضمير ليوسف أو المعنى ما امر به فحذف الجار والضمير للموصول لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً بنون التأكيد الخفيفة تنقلب الفا وقفا لشبهها بالتنوين نظيره لنسفعا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) أى من الأذلاء من صغر يصغر من باب سمع يسمع صغر أو صغارا.
قالَ يوسف رَبِّ أى يا رب السِّجْنُ قرأ يعقوب بفتح
_________
(1) فى الأصل مات -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 160
(1/3314)
السين والباقون بكسرها أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الزنى اختار السجن على المعصية حين توعّدته المرأة - أسند الدعاء إليهن وكان الدعاء من زليخا خاصة إلى نفسها خروجا من التصريح إلى التعريض - أو لانهن خوفنه عن مخالفتها وزيّنّ له مطاوعتها - وقيل انهن جميعا دعونه إلى انفسهن - قيل لو لم يسئل يوسف السجن ولم يقل السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ لم يبتل بالسجن - والاولى ان يسئل المرء العافية ولذلك رد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على من كان يسئل الصبر - روى الترمذي عن معاذ قال سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا وهو يقول اللهم انى أسئلك الصبر - قال سالت البلاء فاسئله العافية وروى الطبراني عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول اللّه علمنى شيئا ادع اللّه به فقال عليه السلام سل ربك العافية - فمكثت أياما ثم جئت فقلت يا رسول اللّه علمنى شيئا اسئله ربى عز وجل فقال يا عم سل اللّه العافية فى الدنيا والاخرة وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ فى تحسين الفاحشة الىّ بالتثبيت على العصمة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ امل إلى اجابتهن أو إلى انفسهن بطبعي ومقتضى شهوتى - والصبوة الميل إلى الهوى وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) من السفهاء بارتكاب الفاحشة فان الحكيم لا يفعل القبيح - أو من الذين لا يعلمون بما يعلمون فانهم من الجهال حكما - قال البغوي فيه دليل على ان المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فاجابه اللّه دعاءه الّذي تضمنه قوله وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي الآية فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فثبته بالعصمة حتّى اثر مشقة السجن على اللذة المتضمنة للمعصية إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه الْعَلِيمُ (34) بأحوالهم وما يصلحهم.
(1/3315)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ أى ظهر للعزيز وأصحابه فى الرأى مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف من كلام الطفل وفد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن - وفاعل بدا ضمير مبهم يفسره قوله لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) أى مدة يرون فيها رأيهم وذلك باستهزال المرأة لزوجها وكان زوجها مطواعا لها ذلولا ذمامه فى يدها - وقد طمعت ان يذلل السجن يوسف ويسخره لها - أو خافت عليه العيون وظنت منه الظنون فالجاها له الخجل من الناس والوجل من اليأس إلى ان رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب - لتشتفى بخبره إذا منعت من نظره وقضاء حاجتها
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 161
منه - وقالت لزوجها ان هذا العبد العبراني قد فضحنى فى الناس يخبرهم انى راودته عن نفسه فاما ان تأذن لى فى الخروج فاخرج فاعتذر إلى الناس - واما ان تحبسه إلى ان تنقطع مقالة الناس ويحسب الناس انه المجرم - قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما عثر يوسف ثلاث عثرات حين همّ بها فسجن - وحين قال اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ - وحين قال للاخوة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فقالوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ....
(1/3316)
وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ وهما غلامان كانا للوليد بن ثروان العمليقى ملك المصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه - والاخر ساقيه صاحب شرابه - غضب الملك عليهما فحبسهما - واتفق دخولهما فى السجن وقت دخول يوسف عليه السلام فيه كما يدل عليه كلمة مع - قال البغوي وكان السبب فى حبس الفتيين ان جماعة أرادوا المكر بالملك واغتياله - فضمنوا لهذين مالا ليسما الملك فى طعامه وشرابه - فاجاباهم ثم ان الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام - فلما حضروا الطعام قال الساقي لا تأكل أيها الملك فان الطعام مسموم - وقال الخباز لا تشرب فان الشراب مسموم - فقال الملك للساقى اشرب فشربه فلم يضره - وقال للخباز كل من طعامك فابى - فجرب ذلك الطعام على دابّة فاكلته فهلكت - فامر الملك بحبسهما - وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول انى أعبّر الأحلام - فقال أحد الفتيين لصاحبه هلم فلنجرب هذا العبد العبراني نترايا له - فسالاه من غير ان يكونا رايا شيئا - قال ابن مسعود رضى اللّه عنه ما رايا شيئا انما تحالما ليجربا يوسف - وقال قوم بل كانا رايا حقيقة - فراهما يوسف وهما مهمومان فسالهما عن شأنهما قذكرا انهما صاحبا الملك وقد رأيا رؤيا غمهما ذلك - فقال يوسف قصّا علىّ ما رايتما فقصّا عليه قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب الشراب إِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَرانِي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْصِرُ خَمْراً يعنى ارى نفسى فى المنام اعصر خمرا أى عنبا سماه خمرا باعتبار ما يؤل إليه - يقال فلان يطبخ الاجر أى يطبخ اللبن للاجر - وقيل الخمر العنب بلغة عمان - وهى حكاية حال ماضية وذلك انه قال - انى رايت كانى فى بستان فإذا انا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجئتها - وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقت الملك فشربه
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 162
(1/3317)
وَ قالَ الْآخَرُ أى الخباز إِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَرانِي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وذلك انه قال انى رايت كان فوق رأسى ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الاطعمة وسباع الطير تنهش منه نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أى أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤل إليه امر هذا الرؤيا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) أى من الذين يحسنون تأويل الرؤيا - أو من العالمين والإحسان بمعنى العلم - وانما قالا ذلك لانهما راياه فى السجن يذكّر الناس ويعبر رؤياهم - أو من المحسنين إلى أهل السجن فاحسن إلينا بتأويل ما راينا ان كنت تعرفه - روى ان الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ما كان إحسانه - قال كان إذا مرض انسان فى السجن عاده وقام عليه - وإذا ضاق عليه المجلس وسّع له - وإذا احتاج جمع له شيئا - وكان مع هذا يجتهد فى العبادة ويقوم الليل كله للصلوة - وقيل انه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم - فجعل يسلّيهم ويقول ابشروا واصبروا تؤجروا - فيقولون بارك اللّه فيك يا فتى ما احسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى - قال انا يوسف بن صفى اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه إسحاق بن ابراهيم خليل اللّه - فقال له عامل السجن بافتى واللّه لو استطعت لخليت سبيلك ولكن ساحسن جوارك تمكّن فى أى بيوت السجن شئت - وروى ان الفتيين « 1 » لما رايا يوسف قالا له لقد احببناك حين رايناك - فقال لهما يوسف أنشدكما بالله ان لا تحبانى - فو اللّه ما أحبني أحد قط الا دخل علىّ من حبه بلاء - فقد احبّتنى عمتى فدخل علىّ بلاء - ثم احبّنى أبى فالقيت فى الجب - واحبّتنى امراة العزيز فحبست - فلما قصّا عليه الرؤيا كره يوسف ان يعبر لهما ما سالاه لما علم فى ذلك من
(1/3318)
المكروه على أحدهما - فاعرض عن سوالهما وأخذ فى غيره من اظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد.
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ « 2 » قيل أراد به ترزقانه فى النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه فى نومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ فى اليقظة قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما تأويله - وقيل أراد انه لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه فى اليقظة أى تطعمانه
_________
(1) فى الأصل ان الفتيان
(2) فى الأصل فقال يكن الفاء ليست من القرآن بل هى من التفسير 12 أبو محمّد
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 163
(1/3319)
و تأكلانه - الا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الّذي يصل اليكما قبل ان يصل اليكما - واىّ طعام أكلتم ومتى أكلتم - وهذا معجزة مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ - فقالا هذا فعل العرافين والكهنة فمن اين لك هذا العلم فقال ما انا بكاهن وانما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها - يعنى علّمنى ربى بالوحى القطعي المنزل من السماء - وقيل معنى الآية لا يأتيكما طعام يعنى من منازلكما الا نبأتكما بتأويل ما قصصتما علىّ من الرؤيا ذلكما أى التأويل مما علمنى ربى بالإلهام والوحى - وليس من قبيل التكهن والتنجم قال البيضاوي أراد يوسف عليه السلام ان يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما الطريق القويم قبل ان يجيب ما سالا عنه - كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء فى الهداية والإرشاد - فقدّم ما يكون معجزة له من الاخبار بالغيب ليدلهما على صدقه فى الدعوة والتعبير إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) تعليل لما قبله أى علّمنى ذلك لانى تركت ملة المبطلين وتكرار كلمة هم للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالاخرة.
(1/3320)
وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وجاز ان يكون قوله إِنِّي تَرَكْتُ إلى آخره كلاما مبتدا - لتمهيد الدعوة واظهار انه من بيت النبوة ليقوى رغبتهما فى الاستماع إليه والوثوق عليه - ومن هاهنا يظهران العالم إذا جهلت منزلته فى العلم فاراد ان ينشر علمه جاز له ان بصف نفسه حتّى يعرف الناس قدره فيقتبسون منه - وليس هذا من باب تزكية النفس انما الأعمال بالنيات والأنبياء كانوا مأمورين بذلك - قال اللّه تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ - فويل للذين يطعنون على اولياء اللّه تعالى (مثل المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه حيث ذكروا ترقياتهم ومدارج قربهم من اللّه تعالى وما أفضل اللّه تعالى عليهم) حسدا وجهلا ما كانَ لَنا معشر الأنبياء أى ما صح ولا أمكن لنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ اىّ شيء كان فان اللّه تعالى قد خلقنا على جبلة التوحيد وعصمنا من الشرك ذلِكَ التوحيد والعلم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحى وَعَلَى سائر النَّاسِ ببعثتنا لارشادهم وتثبيتهم عليه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم لا يَشْكُرُونَ (38) على هذه النعمة
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 164
و يعرضون عنه ولا ينتبهون - أو من فضل اللّه علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها - فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها - ثم دعاهم إلى الإسلام فقال.
(1/3321)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أى ساكنى السجن أو صاحبىّ فيه فاضافتهما إليه مجاز مثل يا سارق الليلة أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ شتى متعددة متساوية الاقدام فى الإمكان والعجز سواء كانت أصناما من ذهب أو فضة أو حديد أو حجر - أو غيرها من الملائكة والبشر خَيْرٌ من اللّه أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتوحد فى جلال ذاته وكمال صفاته لا يماثله شيء فى الذات ولا فى الصفات ولا فى الافعال الْقَهَّارُ (39) الغالب الّذي لا يعاد له ولا يقاومه غيره خير من غيره ثم بين بطلان الأصنام وغيرها فقال.
(1/3322)
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أى من دون اللّه خاطب الاثنين بلفظ الجمع لأنه أراد كل من كان مثلهما فى الشرك إِلَّا أَسْماءً أى مسميات خالية عن معنى الالوهية سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الهة وأربابا - أو المعنى ما تعبدون شيئا الا اسماء سميتوها لا تحقق لها فى الواقع تزعمونها حالّة فى الأصنام أو مجردة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أى لم يجعل اللّه سبحانه دليلا على وجودها - أو حجة وبرهانا على استحقاقها للعبادة - كما نصب اللّه تعالى دلائل على وجود نفسه وبراهين على استحقاقه للعبادة وآيات انزل على رسله وأنبيائه إِنِ الْحُكْمُ فى العبادة إِلَّا لِلَّهِ لأنه المستحق لها بالذات من حيث انه الواجب لذاته الموجد لغيره المنعم على الإطلاق المالك القاهر الضار النافع فلو جاز عبادة غيره لجاز بامره وقد أَمَرَ على لسان أنبيائه أَلَّا تَعْبُدُوا شيئا إِلَّا إِيَّاهُ حيث دلت عليه الحجج والبينات ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أى الثابت الّذي دلت عليه البراهين وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) لا يميّزون الحق من الباطل فيخبطون فى جهالتهم - قال البيضاوي هذا من التدرج فى الدعوة والزام الحجة - بيّن لهم اولا رجحان التوحيد على اتخاذ الالهة على طريق الخطاب - ثم برهن على ان ما يسمونها الهة ويعبدونها لا تستحق العبادة فان استحقاق العبادة اما بالذات واما بالغير وكلا القسمين منتف عنها - ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الّذي لا يقتضى العقل غيره
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 165
و لا يرتضى العلم دونه - ثم فسر رؤياهما بقوله.
(1/3323)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو صاحب الشراب فَيَسْقِي رَبَّهُ يعنى الملك خَمْراً والعناقيد الثلاثة ثلاثة ايام يبقى فى السجن ثم يدعوه الملك بعد ثلاثة ايام ويرده إلى منزلته الّتي كان عليها وَأَمَّا الْآخَرُ يعنى الخباز فَيُصْلَبُ بعد ثلاثة ايام والسلال الثلاث ثلاثة ايام يبقى فى السجن ثم يخرجه فيصلبه فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قلت ولعل ذلك لاجل ما راى وجرب ان الخبّاز جعل الطعام مسموما دون الساقي كما مر فى القصة - قال ابن مسعود رضى اللّه عنه لما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا ما راينا شيئا انما كنا نلعب - فقال يوسف عليه السلام قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) يعنى جرى قضاء اللّه سبحانه فى الأمر الّذي تستفتيان فيه - يعنى فى ما يؤل إليه امر كما - كما قلت وأخبرتكما به رايتما أو لم تريا - وحد الضمير لانهما وان استفتيا فى أمرين لكنهما أرادا ظهور عاقبة ما ينزل بهما - .
(1/3324)
وَ قالَ يوسف عند ذلك لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا المراد بالظن اليقين ان كان الضمير راجعا إلى يوسف عليه السلام - لكونه على اليقين يدل عليه قوله قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ - وجاز ان يكون الضمير راجعا إلى الموصول وهو الساقي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعنى عند الملك وقل له ان فى السجن غلاما محبوسا ظلما وصفه كذا كى يخلصنى فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أى انسى الشيطان الساقىّ ان يذكر حال يوسف لربه أى للملك - أضاف إليه المصدر للملابسة له - أو على تقدير ذكر اخبار ربه - وقال ابن عباس واكثر المفسرين معنى الآية انسى الشيطان يوسف ذكر ربه - حتّى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق - وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ما لبث فى السجن طول ما لبث - رواه ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية فَلَبِثَ مكث يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) قال قتادة هو ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع - وقال مجاهد ما بين الثلاث إلى السبع - واكثر المفسرين على انه لبث فى السجن سبع سنين - قال وهب أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف فى السجن سبع سنين - قال الكلبي لبث
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 166
(1/3325)
خمس سنين قبل ذلك وسبعا بعد قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فكل ذلك اثنتا عشرة سنة - قلت قوله تعالى دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ تدل على معية دخولهما دخوله لما ذكرنا - وإذا كان لبث الفتيين فى السجن ثلاثة ايام فلا يتصور لبث يوسف خمس سنة قبل ذلك القول واللّه اعلم - قال مالك بن دينار لما قال يوسف للساقى اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ - قيل له يا يوسف اتخذت من دونى وكيلا لاطيلن حبسك - فبكى يوسف وقال يا رب انسى قلبى كثرة البلوى فقلت كلمة ولا أعود - وقال الحسن دخل جبرئيل على يوسف فى السجن فلما راه يوسف عرفه فقال له يا أخا المنذرين ما لى أراك بين الخاطئين - فقال له جبرئيل يا طاهر بن الطاهرين يقرا عليك السلام رب العالمين ويقول لك اما استحييت منى ان استشفعت بالآدميين فوعزتى لالبثنّك فى السجن بضع سنين - قال يوسف وهو فى ذلك عنى راض قال نعم قال إذا لا أبالي - وقال كعب قال جبرئيل ليوسف ان اللّه يقول من خلقك قال اللّه - قال فمن حببك إلى أبيك قال اللّه - قال فمن انجاك من كرب البئر قال اللّه - قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال اللّه - قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء قال اللّه - قال فكيف استشفعت بادمى مثلك انتهى - وسيأتى فى حديث ابن عباس عند الطبراني قوله صلى اللّه عليه وسلم ولو لا كلمة يعنى من يوسف لما لبث فى السجن حيث يبتغى الفرج من عند غير اللّه عز وجل - فلما انقضت سبع سنين ودنا فرج يوسف راى ملك مصر الأكبر وهو ديان بن وليد عجيبة هالته وذلك انه راى سبع بقرات خرجن من البحر ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف فى غاية الهزال فابتعلت العجاف السّمان - فدخلن فى بطونهن ولم ير منهن شيئا ولم يتبين على العجاف منها شيء - ثم راى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا اخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها ولم يبق من خضرتها شيء - فجمع السحرة والكهنة والحازة والمعبرين وقصّ عليهم رؤياه كما
(1/3326)
قال اللّه تعالى.
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي
قرا نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ استغنى عن بيان حالها بما ذكر من حال البقرات واجرى السمان على التميز دون
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 167
المميز لان التميز بها - ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التميز بها مجردا عن الموصوف - فانه لبيان الجنس وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على سمان لأنه نقيضه يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) أى ان كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهى الانتقال من الصور المثالية إلى المعاني النفسانية الّتي هى صورها فى عالم المثال - من العبور وهو المجاوزة - وعبرت الرؤيا عبارة اثبت من عبرتها تعبيرا - واللام للبيان أو لتقوية العامل فان الفعل لما اخر عن مفعوله ضعف عمله - فقوى باللام كاسم الفاعل أو لتضمين تعبرون معنى فعل تعدى باللام كأنَّه قيل ان كنتم تبذلون لعبارة الرؤيا - أو يكون للرؤيا خبر كنتم كقولك فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبر اخر أو حال - ومفعول تعبرون محذوف لدلالة ما قبله عليه.
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أى هذه أضغاث أحلام - وهى تخاليطها جمع ضغث وهو فى الأصل الخرمة من انواع حشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة - وانما جمعوا للمبالغة فى وصف الحلم بالبطلان كقولهم فلان يركب الخيل - أو لتضمنه أشياء مختلفة - والحلم الرؤيا والفعل منه بفتح العين فى الماضي وضمها فى الغابر من باب نصر وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) أراد بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أى ليس لها تأويل عندنا وانما التأويل للمنامات الصادقة كأنَّه مقدمة ثانية للعذر فى جهلهم بتأويله - .
(1/3327)
وَ قالَ الَّذِي نَجا من السجن والقتل مِنْهُما من صاحبى السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ أصله ادتكر أبدلت التاء دالا ثم أدغمت - يعنى تذكر الساقي يوسف وقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ بعد امّة أى بعد جماعة من الزمان أى مدة طويلة وهى سبع سنين والجملة معترضة ومفعول القول أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ قال البغوي ان الساقي جثى بين يدى الملك وقال ان فى السجن رجلا يعبر الرؤيا فَأَرْسِلُونِ (45) إليه فى السجن فارسله الملك إلى يوسف - فاتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن فى المدينة فلما اتى الساقي عند يوسف قال.
يُوسُفُ أى يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أى المبالغ فى الصدق وصفه به لما جرّب وعرف صدقه فى تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه أَفْتِنا
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 168
فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ
اى فى ذلك الرؤيا فان الملك راى هذه الرؤيا وأرسلني إليك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أى أعود إلى الملك ومن عنده بتأويل رؤيا الملك - وانما أورد كلمة لعل ولم يبتّ الكلام فيها لان الناس لما عجزوا عن تأويل الرؤيا (و كان الملك هائلا من تلك الرؤيا) استعظم شأن تأويله عنده ولم يقطع بحصول مقصوده لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) فضلك ومنزلتك فى العلم - أورد كلمة لعلّ لان الناس قد لا يتنبّهون بفضل أهل الفضل لكمال غفلتهم - كما لم يتنبه العزيز بفضل يوسف بعد ما راى من الآيات - .
(1/3328)
قالَ له يوسف اما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخاصيب والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات فالسنون المجدبة تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً والداب العادة ونصبه على الحال بمعنى دائبين أى على عادتكم - أو على المصدرية بإضمار فعله أى تدأبون دأبا - وتكون الجملة حالا وقيل معناه بجد واجتهاد قرأ حفص دابا بفتح الهمزة والباقون بإسكانها وهما لغتان - وقيل تزرعون امر أخرجه فى صورة الخبر مبالغة فى النصح لقوله تعالى فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا تأكله السوس وهذه الجملة على الأول نصيحة خارجة عن العبارة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) فى تلك السنين.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس يَأْكُلْنَ أى يأكل أهلهن أسند الاكل إليهن على المجاز تطبيقا للتعبير بالرؤيا ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أى ما ادخرتم لاجلهن إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) أى تحرزون لبذور الزراعة.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أى يمطرون من الغيث وهو المطر - أو يغاثون من القحط من الغوث وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) قرأ حمزة والكسائي بالتاء الفوقانية على الخطاب لان الكلام كله على الخطاب والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير راجع إلى الناس ومعناه يعصرون العنب والزيتون والسمسم ونحو ذلك أراد به خصب السنة وكثرة نعيمها - قال أبو عبيدة تعصرون أى تنجون من الكرب والجدب - والعصر المنجأ والملجا -
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 169
(1/3329)
و هذه بشارة بشّرهم بها بعد ان اوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة - وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع فى السنين المخصبة وانما علم ذلك بعدد السبع العجاف - فانه لو لا يأتى بعد ذلك سنة مخصبة لزاد عدد السنين المجدبة على السبع - وقال البيضاوي لعله علم ذلك بالوحى - أو بان السّنّة الالهية على ان يوسع على عباده بعد ما يضيق عليهم واللّه اعلم - .
(1/3330)
وَ قالَ الْمَلِكُ لما رجع إليه الساقي بتأويل رؤياه وأخبره بما أفتاه يوسف - وعلم الملك فضل يوسف وان الّذي قاله كائن ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ يعنى يوسف الرَّسُولُ للملك وقال له أجب الملك أبى يوسف ان يخرج معه حتّى يظهر براءته من تهمة الفسق وقالَ للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعنى إلى الملك فَسْئَلْهُ ان يسئل ما بالُ يعنى اىّ حال النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه دليل على انه ينبغى ان يجتهد الرجل فى نفى التهمة عن نفسه - لا سيما من كان ممن يقتدى به - ولم يصرح بذكر امراة العزيز أدبا واحتراما لها - أخرج إسحاق بن راهويه فى مسنده والطبراني فى معجمه وابن مردوية من حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه واللّه يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتى فى الرؤيا - ولو كنت انا لم افعل حتّى أخرج وعجبت لصبره وكرمه واللّه يغفر له اتى ليخرج فلم يخرج حتّى أخبرهم بعذره - ولو كنت انا لبادرت الباب - ولو لا الكلمة لما لبث فى السجن حيث يبتغى الفرج من عند غير اللّه عز وجل - ورواه عبد الرزاق وابن جرير فى تفسيرهما من حديث عكرمة مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره اللّه يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان - ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتّى اشترطت ان يخرجونّى - ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ - ولو كنت مكانه ولبثت فى السجن ما لبث لا سرعت الاجابة وبادرتهم الباب - ولما ابتغيت العذر إن كان لحليما ذا اناءة - واصل الحديث فى الصحيحين مختصرا فائدة تعجبه صلى اللّه عليه وسلم من حال يوسف وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا سرعت الاجابة - مبنى على كمال نزوله صلى اللّه عليه وسلم الّذي هو مدار
التفسير المظهري ج 5 ، ص : 170
(1/3331)
شيوع دينه وقوة تأثيره فى الناس وتكميله - وقد حقق ذلك المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه فى مكاتيبه - وهذا امر لا يدركه فهم اكثر أهل الكمال فضلا عن غيرهم إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) حين قلن لى أطع مولاتك أو أردن مراودتى عن نفسى لانفسهن - فيه تعظيم لكيدهن واستشهاد بعلم اللّه تعالى عليه - وعلى انه برئ مما اتهمنه ووعيد لهن فى كيدهن - فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة وامراة العزيز.
قالَ لهن ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن والخطب امر يحق ان يخاطب به صاحبه - اما خاطبهن جميعا لانهن راودنه جميعا عن نفسه لهن - أو لانهن قلن أطع مولاتك - واما خاطبهن والمراد امراة العزيز فحسب إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا إلى إحداكن قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مر اختلاف القراء فيه فيما سبق - أى تنزيه له تعالى وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ أى على يوسف مِنْ سُوءٍ من ذنب وخيانة - قيل ان النسوة اقبلن على امراة العزيز فعزرنها - وقيل خافت امراة العزيز ان يشهدن عليها فاقرت على نفسها وقالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أى ظهر وتبين من حصحص شعره إذا استأصله بحيث يظهر بشرة رأسه - أو ثبت واستقر من حصحص البعير إذا القى مباركه ليناخ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) فى قوله هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي - فلما سمع يوسف ذلك قال.
(1/3332)